فصل: سورة التكوير

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***


سورة التكوير

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 14‏]‏

‏{‏إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ‏(‏1‏)‏ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ ‏(‏2‏)‏ وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ ‏(‏3‏)‏ وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ ‏(‏4‏)‏ وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ ‏(‏5‏)‏ وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ ‏(‏6‏)‏ وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ ‏(‏7‏)‏ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ ‏(‏8‏)‏ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ‏(‏9‏)‏ وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ ‏(‏10‏)‏ وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ ‏(‏11‏)‏ وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ ‏(‏12‏)‏ وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ ‏(‏13‏)‏ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ ‏(‏14‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إِذا الشمسُ كُوِّرتْ‏}‏ أي‏:‏ ذُهب بضوئها، من كوَّرت العمامة‏:‏ إذا لففتها، أي‏:‏ يُلفّ ضوؤها لفًّا، فيذهب انبساطه وانتشاره، أو‏:‏ ألقيت عن فلكها، كما وصفت النجوم بالانكدار، من‏:‏ طعنَة فكوّره‏:‏ إذا ألقاه على الأرض‏.‏ وعن أبي صالح‏:‏ كُوِّرت‏:‏ نُكّست، وعن ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ تكويرها‏:‏ إدخالها في العرش‏.‏ ‏{‏وإِذا النجومُ انكَدرَتْ‏}‏ أي‏:‏ انقضّت وتساقطت، فلا يبقى يومئذٍ نجمٌ إلاّ سقط على الأرض‏.‏ قال ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ النجوم قناديل معلّقة بسلاسل من نور بين السماء والأرض بأيدي ملائكة من نور، فإذا مات مَن في السموات ومَن في الأرض قطعت من أيديهم، وقيل‏:‏ انكدارها‏:‏ انطماس نورها، ويُروى‏:‏ أن الشمس والنجوم تُطرح في جهنم، ليراها مَن عبدها، كما قال‏:‏ ‏{‏إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 98‏]‏‏.‏

‏{‏وإِذا الجبال سُيِّرتْ‏}‏ عن أماكنها بالرجعة الحاصلة، فتسير عن وجه الأرض حتى تبقى قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عِوجاً ولا أمتاً‏.‏ ‏{‏وإِذا العِشَار‏}‏ جمع‏:‏ عُشَرَاء، وهي الناقة التي مرّ على حملها عشرة أشهر، وهو اسمها إلى أن تضع لتمام سنة، وهي أنْفس ما يكون عند أهلها، وأعزّها عليهم، ‏{‏عُطِّلَتْ‏}‏؛ تُركت مهملة؛ لاشتغال أهلها بأنفسهم، وكانوا يحبسونها إذا بلغت هذا الحال، فتركوها أحبّ ما تكون إليهم، لشدة الهول، فيحتمل أن يكون ذلك حقيقة، تُبعث كذلك فيغيبون عنها لشدة الهول، ويحتمل‏:‏ إن يكون كناية عن شدة الأمر‏.‏ ‏{‏وإِذا الوحوشُ حُشِرت‏}‏ أي‏:‏ جُمعت من كل جانب، وقيل‏:‏ بُعثت للقصاص، قال قتادة‏:‏ يُحشر كلُّ شيءٍ حتى الذباب للقصاص، فإذا قضى بينها رُدّت تراباً، فلا يبقى منها إلاّ ما فيه سرور لبني آدم، كالطاووس ونحوه‏.‏ ‏{‏وإِذا البحار سُجّرتْ‏}‏ أي‏:‏ أُحميت، أو مُلئت وفُجر بعضها إلى بعض، حتى تصير بحراً واحداً، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا البحار فُجِّرَتْ‏}‏ ‏[‏الأنفطار‏:‏ 3‏]‏، من سَجر التنّور‏:‏ إذا ملأه بالحطب، وقيل‏:‏ يُقذف بالكواكب فيها، ثم تُضرم فتصير نيراناً، فمعنى «سُجِّرتْ» حينئذ‏:‏ قُذف بها في النار وقد ورد أنّ في النار بحاراً من نار‏.‏

‏{‏وإِذا النفوس زُوِّجتْ‏}‏ أي‏:‏ قُرنت بأجسادها، أو‏:‏ قرنت بشكلها، الصالح مع الصالح في الجنة، والطالح مع الطالح في النار، أو‏:‏ بكتابها، أو بعملها، أو‏:‏ نفوس المؤمنين بالحُور، ونفوس الكافرين بالشياطين‏.‏ ‏{‏وإِذا الموؤدةُ‏}‏ أي‏:‏ المدفونة حية، وكانت العرب تئد البنات مخافة الإملاق، أو لخوف العار بهم من أجلهن، وقيل‏:‏ كان الرجل إذا وُلد له بنت ألبسها جبة من صوف أو شعر، حتى إذا بلغت ست سنين ذهب بها إلى الصحراء، وقد حفر لها حفرة، فيلقيها فيها، ويهيل عليها التراب‏.‏ وقيل‏:‏ كانت الحامل إذا اقترتب، حفرت حفرة، فتمتخض عليها، فإذا ولدت بنتاً رمت بها، وإذا ولدت ابناً ضَمّته، فإذا كان يوم القيامة ‏{‏سُئِلَتْ بأيّ ذنبٍ قُتلتْ‏}‏، وتوجيه السؤال لها لتسليتها، وإظهار كمال الغيظ والسخط لوائدها، وإسقاطه عن درجة الخطاب، والمبالغة في تبكيته‏.‏

وفيه دليل على أنَّ أطفال المشركين لا يُعذّبون، وأنَّ التعذيب لا يكون بغير ذنب‏.‏

‏{‏وإِذا الصُحفُ نُشِرَتْ‏}‏ أي‏:‏ صُحف الأعمال، فإنها تُطوى عند الموت وتُنشر عند الحساب، قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «يُحشرُ الناس يوم القيامةِ حُفَاةً عراة» فقالت أمُ سلمة‏:‏ فكيف بالنساء‏؟‏‏!‏ فقال‏:‏ «شُغِل الناسُ يا أم سلمة» فقالت‏:‏ وما شغلهم‏؟‏ فقال‏:‏ «نَشْرُ الصُّحُفِ، فيها مثاقيلُ الذرِّ، ومثاقيلِ الخَرْدل» وقيل‏:‏ نُشرت‏:‏ فُرقت على أصحابها، وعن مرثد بن وَداعة‏:‏ إذا كان يوم القيامة تطايرت الصُحف من تحت العرش، فتقع صحيفة المؤمن في يده في جنة عالية، وتقع صحيفة الكافرين في يده في سموم وحميم، أي‏:‏ مكتوب فيها ذلك، وهذه صحف غير الأعمال‏.‏

‏{‏وإِذا السماءُ كُشِطَتْ‏}‏، قُطعت وأزيلت، كما يُكشط الجلد عن الذبيحة، والغطاء عن الشيء المستور، ‏{‏وإِذا الجحيمُ سُعِّرتْ‏}‏ أي‏:‏ أوقدت إيقاداً شديداً، غضباً على العصاة، ‏{‏وإِذا الجنة أُزْلِفَتْ‏}‏ أي‏:‏ قُربت من المتقين، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأُزْلِفَتِ الجنة لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ‏}‏ ‏[‏قَ‏:‏ 31‏]‏‏.‏

عن ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ إن هذه ثِنتا عشرة خصلة، ستٌّ في الدنيا، فيما بين النفختين، وهن من أول السورة إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا البحار سُجرتْ‏}‏ على أنَّ المراد بحشر الوحوش‏:‏ جمعها من كل ناحية، لا حشرها للقصاص، وستٌّ في الآخرة، أي‏:‏ بعد النفخة الثانية‏.‏ والمشهور من أخبار البعث‏:‏ أنَّ تلك الخصال كلها بعد البعث، فإنَّ الشمس تدنو من الناس في الحشر، فإذا فرغ من الحساب كُوِّرت، والنجوم إنما تسقط بعد انشقاق السماء وطيها، وأمّا الجبال ففيها اختلاف حسبما تقدّم، وأمّا العِشار فلا يتصور إهمالها إلاَّ بعد بعث أهلها‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏علمتْ نفس ما أحضرت‏}‏‏:‏ جواب «إذا»، على أنَّ المراد زمان واحد ممتد، يسع ما في سياقها وسياق ما عطف عليها من الخصال، مبدؤه، النفخة الأولى، ومنتهاه‏:‏ فصل القضاء بين الخلائق، أي‏:‏ تيقنت كلُّ نفس ما أحضرت من أعمال الخير والشر، والمراد بحضورها‏:‏ إمّا حضور صحائفها، كما يُعرب عنه نشرُها، وإمّا حضور أنفسها، على أنها تُشكّل بصورة مناسبة لها في الحُسن والقُبح، وعلى ذلك حمل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 49، العنكبوت‏:‏ 54‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 10‏]‏، الآية، وقوله عليه السلام في حق مَن يشرب في آنية الذهب‏:‏ «إنما يُجَرْجرُ في بطنه نار جهنم» ولا بُعد في ذلك، ألا ترى أنَّ العِلم يظهر في عالم الخيال على صورة اللبن، كما لا يخفى على مَن له خبرة بأحوال الحضرات الخمس، وقد رُوي عن عباس رضي الله عنه أنه قال‏:‏ «يُؤتى بالأعمال الصالحة على صورة حسنة، وبالأعمال السيئة على صورة قبيحة، فتوضع في الميزان»، وأيًّا ما كان فإسناد إحضارها إلى النفس مع أنها تحضر بأمر الله عزّ وجل، كما نطق به قوله تعالى‏:‏

‏{‏يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 30‏]‏ الآية؛ لأنها لمّا عملتها في الدنيا فكأنها أحضرتها في الموقف، ومعنى علمها بها حنيئذ‏:‏ أنها تُشاهد جزاءها، خيراً كان أو شرًّا‏.‏

الإشارة‏:‏ اعلم أنَّ النفس والروح والسر أسماء لمسمَّى واحد، وهو اللطيفة اللاهوتية السارية في الأبدان، فما دامت تميل إلى المخالفة والهوى سُميت نفساً، فإذا تطهرت بالتقوى الكاملة سُميت روحاً فإذا تزكّت وأشرقت عليها أسرار الذات سُميت سرًّا، فالإشارة في قوله‏:‏ ‏{‏إذا الشمس كُورت‏}‏ إلى تكوير النفس وطيها، حين انتقلت إلى مرتبة الروح، وإذا النجوم‏:‏ نجوم علم الرسوم، انكدرت حين أشرقت عليها شمس العرفان، فلم يبقَ منها للعارف إلاّ ما يحتاج إليه من إقامة رسم العبودية، يعني يقع الاستغناء عنها، فإذا تنزل إليها حققها أكثر من غيره، إذا الجبال؛ جبال العقل، سُيرت؛ لأنّ نوره ضعيف كنور القمر مع طلوع الشمس، وإذا العِشارُ عُطلتْ، أي‏:‏ النفوس الحاملة أثقال الأعمال والأحوال، وأعباء التدبير والاختيار، فيقع الغيبة عنها بأثقالها وإذا الوحوش، أي‏:‏ الخواطر الردية حُشرتْ وغرقتْ في بحر الأحدية، وإذا البحارُ بحار الأحدية سُجرتْ، أي‏:‏ فُجرت وانطبقت على الوجود، فصارت بحراً واحداً متصلاً أوله بآخره، وظاهره بباطنه، وإذا النفوس، أي‏:‏ الأرواح، زُوجتْ بعرائس المعرفة في البقاء بعد الفناء، على سُرر التقريب والاجتباء‏.‏ وقال سهل‏:‏ تآلفت نفس الطبع مع نفس الروح، ففرحت في نعيم الجنة، كما كانتا متآلفتين في الدنيا على إدامة الذكر‏.‏ ه‏.‏

وإذا الموؤودة سُئِلَتْ بأيّ ذنبٍ قُتلتْ، أي‏:‏ فكرة القلوب التي عطلت وأُميتت بحب الدنيا والفناء فيها، حتى انصرفت إلى التفكُّر في خوضها، وتدبير شؤونها، فتُسأل بأي ذنب قُتلت حتى تعطّلت فكرتها في أسرار التوحيد‏؟‏ وقال القشيري‏:‏ هي الأعمال المشوبة بالرياء، المخلوطة بالسمعة والهوى‏.‏ ه‏.‏ وإذا الصُحف؛ الواردات الإلهية نُشرتْ على القلوب القدسية، فظهرت أنوارُها على الألسنة بالعلوم اللدنية، وعلى الجوارح بالأخلاق السنية، وإذا السماءُ كُشطتْ، إي سماء الحس تكشطت عن أسرار المعاني، وإذا الجحيم، نار القطيعة، سُعّرتْ لأهل الفرق، وإذا الجنة جنة المعارف، أُزلفت لأهل الجمع والوصال، علمت نفس ما أحضرت من المجاهدة عند كشف أنوار المشاهدة‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 29‏]‏

‏{‏فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ ‏(‏15‏)‏ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ ‏(‏16‏)‏ وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ ‏(‏17‏)‏ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ ‏(‏18‏)‏ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ‏(‏19‏)‏ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ‏(‏20‏)‏ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ‏(‏21‏)‏ وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ ‏(‏22‏)‏ وَلَقَدْ رَآَهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ ‏(‏23‏)‏ وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ ‏(‏24‏)‏ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ ‏(‏25‏)‏ فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ ‏(‏26‏)‏ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ‏(‏27‏)‏ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ ‏(‏28‏)‏ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏فلا أُقسم‏}‏، «لا» صلة، أي‏:‏ أُقسم ‏{‏بالخُنَّس‏}‏ أي‏:‏ بالكواكب الرواجع، مِن‏:‏ خَنَس إذا تأخر، وهي ما عدا النيرين من الدراريّ الخمسة، وهي‏:‏ بهرام ‏[‏المريخ‏]‏، وزحل وعطارد، والزُّهرة، والمشتري، فترى النجم في آخر البرج إذا كرَّ راجعاً إلى أوله، ‏{‏الجَوَارِ‏}‏ أي‏:‏ السيّارة ‏{‏الكُنَّس‏}‏ أي‏:‏ المستترة، جمع كانس وكانسة، وذلك أنَّ هذه النجوم تجري مع الشمس والقمر، وترجع حتى تخفى تحت ضوء الشمس، فخنوسها‏:‏ رجوعها، وكنوسها‏:‏ اختفاؤها تحت ضوئها، من كُنس الوحش‏:‏ إذا دخل كناسه، أي‏:‏ بيته الذي يتخذه من أغصان الشجر، وقيل‏:‏ هي جميع الكواكب، تختنس بالنهار، فتغيب عن العيون، وتكنس بالليل، أي‏:‏ تطلع في أماكنها‏.‏

‏{‏والليلِ إِذا عسعس‏}‏؛ أقبل بظلامه، أو‏:‏ أدبر، فهو من الأضداد، وقال الفراء‏:‏ أجمع المفسرون على أن معنى عسعس‏:‏ أدبر، تقول العرب‏:‏ عسعس الليل وسَعْسع‏:‏ إذا أدبر ولم يبقَ منه إلاّ اليسير، قال الشاعر‏:‏

حَتَّى إذا الصُّبحُ لها تَنَفَّسَا *** وانجابَ عنها ليلُها وعَسْعسا

والحاصل‏:‏ أنهما يرجعان إلى شيء واحد، وهو ابتداء الظلام في أوله وإدباره في آخره، ‏{‏والصبح إّذا تنفس‏}‏؛ امتدّ ضوؤه وارتفع حتى يصير نهاراً، ولمّا كان إقبال النهار يلازمه الروح والنسيم جعل ذلك نفساً له مجازاً، فقيل‏:‏ تنفس الصبح‏.‏

وجواب القسم‏:‏ ‏{‏إِنه‏}‏ أي‏:‏ القرآن ‏{‏لقولُ رسولٍ كريم‏}‏ على ربه، وهو جبريل عليه السلام قاله عن الله عزّ وجل، وإنما أضيف القرآن إليه؛ لأنه هو الذي نزل به‏.‏

‏{‏ذي قوةٍ‏}‏؛ ذي قدرة على ما كلف به، لا يعجز عنه ولا يضعف، ‏{‏عند ذي العرش مكينٍ‏}‏ أي‏:‏ عند الله ذا مكانة رفيعة ورتبة عالية، ولمّا كانت المكانة على حسب حال الممكن قال‏:‏ ‏{‏عند ذي العرش‏}‏ ليدل على عظم منزلته ومكانته، والعندية‏:‏ عندية تشريف وإكرام، لا عندية مكان‏.‏ ‏{‏مطاعٍ ثَمَّ‏}‏ أي‏:‏ في السموات يُطيعه مَن فيها، أو عند ذي العرش تُطيعه ملائكتُه المقربون، يصدون عن أمره، ويرجعون إليه، وقال بعضهم‏:‏ ومن طاعتهم له‏:‏ فتحوا أبواب السموات ليلة المعراج باستفتاحه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفتح خزنةُ الجنة الجنةَ لمحمدٍ حتى دخلها، وكذا النار حتى نظر إليها‏.‏ ه‏.‏ ‏{‏أمين‏}‏ على الوحي‏.‏

‏{‏وما صاحِبُكم‏}‏ هو الرسول صلى الله عليه وسلم ‏{‏بمجنونٍ‏}‏ كما تزعم الكفرة، وهو عطف على جواب القسم، مدخول في المقسَم عليه، ‏{‏ولقد رآه‏}‏ أي‏:‏ رآى محمدٌ صلى الله عليه وسلم جبريلَ على صورته التي خلقه اللهُ عليها، ‏{‏بالأُفق المبين‏}‏ أي‏:‏ بمطلع الشمس الأعلى، وقال ابن عباس‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل‏:‏ «إني أُحب أن أراك في الصورة التي تكون عليها في السماء» قال‏:‏ أتقدر على ذلك‏؟‏ قال‏:‏ «بلى» قال‏:‏ فأين تشاء‏؟‏ قال‏:‏ «بالأبطح»، قال‏:‏ لا يسعني، قال‏:‏ «بمِنىً»، قال‏:‏ لا يسعني، قال‏:‏ «فبعرفات» قال‏:‏ ذلك بالحري أن يسعني، فواعده، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم للوقت، فإذا هو قد أقبل من جبال عرفات بخشخشة وكلكلة، قد ملأ ما بين المشرق والمغرب، ورأسه في السماء، ورجلاه في الأرض، فلما رآه النبيُّ صلى الله عليه وسلم خرّ مغشيًّا عليه، فتحوّل جبريلُ في صورته، فضمّه إلى صدره، وقال‏:‏ لا تخف، فكيف لو رأيت إسرافيل ورأسه من تحت العرش، ورجلاه في التخوم السابعة، وإنَّ العرش لعلى كاهله، وإنه ليتضاءل أحياناً من مخافة الله تعالى حتى يصير مثل الوصع أي‏:‏ العصفور حتى ما يحمل عرش ربك إلاّ عظمته‏.‏

ه‏.‏

أو‏:‏ ولقد رأى جبريلَ عليه السلام ليلة المعراج‏.‏ أو‏:‏ لقد رآى ربه، وكان محمد صلى الله عليه وسلم بالأُفق الأعلى‏.‏

‏{‏وما هو على الغيبِ‏}‏ أي‏:‏ وما محمد على الوحي، وما يخبر به من الغيوب ‏{‏بضنين‏}‏؛ ببخيل، على قراءة الضاد، من‏:‏ ضنَّ بكذا‏:‏ بخل به، أي‏:‏ لا يبخل بالوحي كما يبخل الكهان رغبة في الحُلْوان، بل يُعلّمه لكل مَن يطلبه ولا يكتم شيئاً منه، أو‏:‏ بمتهم على قراءة‏:‏ المشالة، من الظنة وهي التهمة، أي‏:‏ لا ينقص شيئاً مما أوحى إليه أو يزيد فيه، ‏{‏وماهو بقول شيطان رجيم‏}‏؛ طريد، وهو كقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشياطين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 210‏]‏ أي‏:‏ ليس هو بقول المسترقة للسمع، وهو نفي لقولهم‏:‏ إنه كهانة أو سحر‏.‏

‏{‏فأين تذهبون‏}‏ وتتركون الحقَّ الواضح‏؟‏ وهو استضلال لهم، كما يقال لتارك الجادة وذهب في التيه‏:‏ أين تذهب، مُثَّلت حالهم في تركهم الحقّ، وعدولهم عنه إلى الباطل، بمَن ترك طريق الجادة، وسلك في غير طريق‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ معناه‏:‏ فأيُّ طريق تسلكون أبين من هذه الطريقة التي بيَّنْتُ لكم‏؟‏ وقال الجنيد‏:‏ فأين تذهبون عنا، وإن من شيء إلاَّ عندنا‏:‏ ه‏.‏ والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي‏:‏ لظهور أنه وحي مبين، وليس مما يقولون في شيء فأين تذهبون عنه‏؟‏ ‏{‏إِن هو إِلاّ ذِكْرٌ للعالَمين‏}‏ أي‏:‏ موعظة وتذكير للخلق ‏{‏لمَن شاء منكم‏}‏‏:‏ بدل من العالمين بإعادة الجار، ‏{‏إن يستقيم‏}‏‏:‏ مفعول «شاء» أي‏:‏ القرآن تذكير وموعظة لمَن شاء الاستقامة، يعني‏:‏ إن الذي شاؤوا الاستقامة بالدخول في الإسلام هم المنتفعون بالذكر، فكأنه لم يوعظ به غيرهم، ‏{‏وما تشاؤون‏}‏ الاستقامة ‏{‏إِلاّ أن يشاء الله‏}‏‏.‏

ولمّا نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لمَن شاء منكم أن يستقيم‏}‏ قال أبو جهل‏:‏ الأمر إلينا، إن شئنا استقمنا، وإن شئنا لم نستقم، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏وما تشاؤون إِلاّ أن يشاء الله رب العالمين‏}‏ أي‏:‏ مالك الخلق ومربيهم أجمعين، قال ابن منبه‏:‏ قرأت بضعاً وثمانين كتاباً مما أنزل الله، فوجدتُ فيها‏:‏ مَن جعل لنفسه شيئاً من المشيئة فقد كفر‏.‏

وقال الواسطي‏:‏ أعجزك في جميع أوصافك، فلا تشاء إلاّ بمشيئته، ولا تعمل إلاّ بقوته، ولا تطيع إلاّ بفضله، ولا تعصي إلاّ بخذلانه، فماذا يبقى لك، وبماذا تفتخر من أفعالك، وليس لك منها شيء‏؟‏‏.‏ ه‏.‏

وقال الطيبي عن الإمام‏:‏ إنَّ مشيئة الاستقامة موقوفة على مشيئة الله؛ لأن مشيئة العبد محدثة، فلا بد لحدوثها من مشيئة أخرى، ثم قال‏:‏ وقول المعتزلة‏:‏ إن هذه المشيئة مخصوصة بمشيئة القهر والإلجاء ضغيف؛ لأنَّا بيَّنَّا أنّ المشيئة الاختيارية حادثة، ولا بد من محدث يحدثها‏.‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ فلا أُقسم بالخُنَّس؛ الحواس الخمس، وهي‏:‏ السمع والبصر والشم والذوق والوجدان الباطني، فإنها تخنس، أي‏:‏ تتأخر عند سطوع حلاوة الشهود، وهي الجوار الكُنَّس؛ لأنها تجري في تحصيل هواها عند الغفلة أو الفترة، وتستتر عند الذكر أو اليقظة، والليل إذا عسعس، أي‏:‏ ليل القطيعة إذا أظلم على العبد برؤية وجوده ووقوفه مع عوائده، والصُبح، أي‏:‏ صُبح الاستشراف على نهار المعرفة، إذا تنفَّس ثم تطلع شمسه شيئاً فشيئاً، إنه، أي‏:‏ الوحي الإلهامي لَقَولُ رسول كريم واراد رباني، ذي قوة؛ لأنه يأتي من حضرة قهّار قوي متين، فلا يُصادم شيئاً من المساوىء إلاّ دمغه، عند ذي العرش مكين، ولذلك تَمَكَّن صاحبه مع الحق، واكتسب مكانة عنده، حيث كان من المقرَّبين السابقين؛ مطاع ثَمَّ أمين؛ لأنّ الوارد الإلهي تجب طاعته؛ لأنه يتجلّى من حضرة الحق، وهو أمين على ما يأتي به من العلوم، وما صاحبكم بمجنون، يعني العارف صاحب الواردات الألهية، ولقد رآه، أي‏:‏ رأى ربه بعين البصيرة والبصر، بالأُفق المبين، وهو على الأسرار والمعاني، حيث عرج بروحه من عالم الحس إلى عالم المعنى، أو‏:‏ من عالم الأشباح إلى عالم الأرواح، وماه هو على الغيب بضنين، أي‏:‏ ليس العارف الذي يُخبر عن أسرار التوحيد الخاص بمُتَّهَم، ولا بخيل، بل يجود به على مَن يستحقه، وما هو بقول شيطان رجيم، إذ لم يبقَ لهم شيطان حتى يخلط وسوسته بواردات قلوبهم، فأين تذهبون عن اتباع طريقة الموصلة إلى حضرة الحق، إن هو إلا ذكر للعالمين أي‏:‏ ما جعله الله في كل زمان إلاّ ليُذَكِّر أهل زمانه، لمَن شاء أن يستقيم على طريق العبودية ويفضي إلى مشاهدة الربوبية، ولكن الأمر كله بيد الله، وما تشاؤون إلاّ أن يشاء الله رب العالمين‏.‏ اللهم شِئنا بفضلك، واقصدنا بعنايتك، وخصنا برعايتك، واجعلنا ممن سبقت لهم العناية الكبرى، آمين‏.‏

وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين‏.‏

سورة الانفطار

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ ‏(‏1‏)‏ وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ ‏(‏2‏)‏ وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ ‏(‏3‏)‏ وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ ‏(‏4‏)‏ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ‏(‏5‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إِذا السماءُ انفطرتْ‏}‏ أي‏:‏ انشقت لنزول الملائكة، كقوله‏:‏ ‏{‏وَفُتِحَتِ السمآء فَكَانَتْ أَبْوَاباً‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 19‏]‏، ‏{‏وإِذا الكواكبُ انتثرتْ‏}‏ أي‏:‏ تساقطت متفرقة، ‏{‏وإِذا البحار فُجِّرتْ‏}‏؛ فُتح بعضها إلى بعض، فاختلط العذب بالأُجاج، وزال ما بينها من البرزخ والحاجز، وصارت البحار بحراً واحداً‏.‏ رُوي‏:‏ أنَّ الأرض تنشق، فتغور تلك البحار، وتسقط في جهنم، فتصير نيراناً، وهو معنى التسجير المتقدم عند الحسن‏.‏ ‏{‏وإِذا القبورُ بُعْثرِتْ‏}‏ أي‏:‏ قُلب ترابها، وأُخرج موتاها، يقال‏:‏ بعثرت الحوض وبحثرته‏:‏ إذا جعلت أسفله أعلاه، وجواب «إذا»‏:‏ ‏{‏عَلِمَتْ نفسٌ ما قدَّمتْ وأخَّرَتْ‏}‏ أي‏:‏ إذا كانت هذه الأشياء قرأ كلُّ إنسان كتابه، وجُوزي بعمله، لأنَّ المراد بها زمان واحد، مبدأه‏:‏ النفخة الأولى، ومنتهاه‏:‏ الفصل بين الخلائق ونشر الصُحف، لا أزمنة متعددة حسب تعددها، وإنما كررت لتهويل ما في حيّزها من الدواهي، ومعنى «ما قَدَّم وأخَّر»‏:‏ ما سلف مِن عملٍ؛ خير أو شر، من سَنّ سُنة حسنة أو سيئة يُعمل بها بعده، قاله ابن عباس وابن مسعود‏.‏ وعن ابن عباس أيضاً‏:‏ ما قدّم من معصية وأخّر من طاعة، وقيل‏:‏ ما قدَّم من أمواله لنفسه، وما أخَّر لورثته، وقيل‏:‏ ما قدَّم من فرض، وأخّر منه عن وقته، وقيل‏:‏ ما قدمتْ من الأسقاط والأفراط، وأخّرت من الأولاد‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ إذا سماء المعاني انفطرت، أي‏:‏ تشققت وظهرت من أصداف الأواني، وإذا نجوم على الرسوم انتثرت عند طلوع شمس العيان، وإذا بحار الأحدية فُجِّرتْ وانطبقت على الكائنات فأفنتها وإذا القلوب الميتة بُعثت وحييت بالمعرفة، عَلِمَتْ نفسٌ ما قدّمت من المجاهدة وما أخَّرت منها؛ إذ بقدر المجاهدة في خرق العوائد تكون المشاهدة، وبقدر الشكر يكون الصحو، وبقدر الشُرب يكون الرّي، فعند النهاية يظهر قدر البداية، البدايات مجلاة النهايات «فمَن أشرقت بدايته، أشرقت نهايته»‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 12‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ‏(‏6‏)‏ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ‏(‏7‏)‏ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ ‏(‏8‏)‏ كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ ‏(‏9‏)‏ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ‏(‏10‏)‏ كِرَامًا كَاتِبِينَ ‏(‏11‏)‏ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يا أيها الإِنسانُ ما غرّكَ بربك الكريم‏}‏؛ أيّ شيءٍ خدعك وجرّأك على عصيانه، وقد علمتَ ما بين يديك من الدواهي التامة، والعواطب الطَامّة، وما سيكون حينئذ من مشاهدة ما قَدَّمتَ من أعمالِك، وما أخّرت‏؟‏ والتعرُّض لعنوان كرمه تعالى للإيذان بأنه مما لا يصلح أن يكون مداراً للاغترار، حسبما يغويه الشيطان، ويقول‏:‏ افعل ما شئتَ فإنَّ ربك كريم، قد تفضّل عليك في الدنيا، وسيفعل مثله في الآخرة، فإنه قياس عقيم، وتمنية باطلة، بل هو مما يُوجب الإقبال على الإيمان والطاعة، والاجتناب عن الكفر والعصيان، كأنه قيل‏:‏ ما حملك على عصيان ربك، الموصوف بالصفات الزاجرة عنه، الداعية إلى خلافه‏.‏

رُوي أنه صلى الله عليه وسلم لمّا قرأها قال‏:‏ «غرَّه جهلُه» وعن عمر رضي الله عنه‏:‏ غرّه حُمقه، وقال قتادة‏:‏ غرّه عدوه المسلّط عليه يعني الشيطان وقيل للفضيل‏:‏ لو أقامك اللهُ تعالى يوم القيامة بين يديه فقال لك‏:‏ ‏{‏ما غرَّك بربك الكريم‏}‏ ماذا كنتَ تقول‏؟‏ قال‏:‏ أقول‏:‏ ستُورك المرخاة، لأنَّ الكريم هو الستّار وأنشدوا‏:‏

يا كاتِمَ الذنْب أّمَا تَسْتَحِي *** واللّهُ في الخلوة رَائِيكَا

غَرَّكَ مِنْ رَبِّك إمْهَالُه *** وسترُه طولَ مسَاوِيكا

وقال مقاتل‏:‏ غرّه عفو الله حين لم يعجل عليه العقوبة، وقال السدي‏:‏ غرّه رفق الله به، وقال يحيى بن معاذ‏:‏ لو أقامني بين يديه، فقال لي‏:‏ ما غرّك بي‏؟‏ لقلتُ‏:‏ غرّني بك بِرّك سالفاً وآنفاً، وقال آخر‏:‏ أقول‏:‏ غرّني حلمك، وقال أبو بكر الورّاق‏:‏ لو قال لي‏:‏ ما غرَّك بي‏؟‏ لقلتُ‏:‏ غرّني بك كرم الكريم‏.‏ وهذا السر في التعبير بالكريم، دون سائر الصفات، كأنه لقَّنه الإجابة حتى يقول‏:‏ غرّني كرم الكريم، وهكذا قال أبو الفضل العابد‏:‏ غرّني تقييد تهديدك بالكريم، وقال منصور بن عمّار‏:‏ لو قيل لي‏:‏ ما غرّك‏؟‏ قلت‏:‏ ما غرّني إلا ما علمتُه من فضلك على عبادك، وصفحك عنهم‏.‏ ه‏.‏

‏{‏الذي خَلَقك فَسَوَّاكَ‏}‏ أي‏:‏ جعلك مستوي الخلْقِ، سالم الأعضاء مُعَدّة لمنافعها، ‏{‏فعدلك‏}‏؛ فصيّرك معتدلاً متناسب الخَلق غير متفاوت فيه، ولم يجعل إحدى اليدين أطول، ولا أحدى العينين أوسع، ولا بعض الأعضاء أبيض وبعضه أسود، أو‏:‏ جعلك معتدلاً تمشي قائماً، لا كالبهائم‏.‏ وقراءة التخفيف كالتشديد، وقيل‏:‏ معنى التخفيف‏:‏ صَرَفك إلى ما شاء من الهيئات والأشكال، فيكون من العدول‏.‏ ‏{‏في أيّ صورةٍ ما شاء رَكَّبَك‏}‏ أي‏:‏ رَكَّبك في أيّ صورة شاءها من الصور المختلفة، و«ما»‏:‏ مزيدة، و‏(‏شاء‏)‏‏:‏ صفة لصورة، أي‏:‏ ركَّبك في أيّ صورة شاءها واختارها من الصور العجيبة الحسنة، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ‏}‏ ‏[‏التين‏:‏ 4‏]‏ وإنما لم يعطف الجملة على ما قبلها؛ لأنها بيان ل «عدلك»‏.‏

‏{‏كلاَّ‏}‏، ردع عن الاغترار بكرم الله تعالى، وجعله ذريعة إلى الكفر المعاصي، مع كونه موجباً للشكر والطاعة‏.‏ والإضرابَ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بل تُكذِّبون بالدين‏}‏ عن جملة مقدّرة ينساق إليها الكلام، كأنه قيل بعد الردع بطريق الاعتراض‏:‏ وأنتم لا ترتدعون عن ذلك، بل تجترئون على أقبح من ذلك، وهو تكذيبكم بالجزاء والبعث، أو بدين الإسلام، الذي هو من جملة أحكامه، فلا تُصدقون به، ‏{‏وإِنَّ عليكم لَحافِظين‏}‏‏:‏ حال مفيدة لبطلان تكذيبهم، وتحقيق ما يُكذِّبون به، أي‏:‏ تُكذِّبون بالجزاء، والحال أنَّ عليكم مِن قِبلنا لحافظين لأعمالكم، ‏{‏كِراماً‏}‏ عندنا ‏{‏كاتبين‏}‏ لها، ‏{‏يعلمون ما تفعلون‏}‏ من الخير والشر، قليلاً أو كثيراً، ويضبطونه نقيراً أو قطميراً‏.‏ وفي تعظيم «الكاتبين»، بالثناء عليهم؛ تفخيم لأمر الجزاء، وأنه عند الله من جلائل الأمور، حيث يستعمل فيها هؤلاء الكِرام‏.‏

الإشارة‏:‏ يا أيها الأنسان، ما غرَّك بالله حتى لم تنهض إلى حضرة قدسه‏؟‏‏!‏ غرّه جهله ومتابعة هواه، أو قناعته من ربه والقناعة من الله حرمان، أو غلطه، ظن أنه كامل وهو ناقص من كل وجهٍ، أو ظنّ أنه واصل، وهو ما رحل عن نفسه قدماً واحداً، ظنّ أنه في أعلى عليين باق في أسفل سافلين، وهذا الغلط هو الذي غَرّ كثيراً من الصالحين، تراموا على مراتب الرجال، وهم في مقام الأطفال، سبب ذلك عدم صُحبتهم للعارفين، ولو صَحِبوا الرجالَ لرأوا أنفسهم في أول قدم مِن الإرادة، وهذا هو الجهل المركّب، جَهلوا، وجهلوا أنهم جاهلون‏.‏ ثم شوّقه إلى السير إليه بالنظر إلى صورة بشريته، فإنه عدلها في أحسن تقويم، ثم نفخ فيه روحاً قدسية سماوية من روحه القديم، ثم لمّا زجر عن الاغترار لم ينزجروا، بل تمادوا على الغرور، وفعلوا فعل المكذِّب بالبعث والحساب؛ مع أنّ عليهم من الله حفظة كِراماً، يعلمون ما يفعلون، فلم يُراقبوا الله جلّ جلاله، المُطَّلع على سرهم وعلانيتهم، ولم يحتشموا من ملائكته المُطَّلعين على أفعالهم‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 19‏]‏

‏{‏إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ‏(‏13‏)‏ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ‏(‏14‏)‏ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ ‏(‏15‏)‏ وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ ‏(‏16‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ‏(‏17‏)‏ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ‏(‏18‏)‏ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ‏(‏19‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الأبرارَ‏}‏ أي‏:‏ المؤمنين ‏{‏لَفِي نعيم‏}‏ عظيم، وهو نعيم الجنان ‏{‏وإِنَّ الفُجَّار‏}‏ أي‏:‏ الكفار ‏{‏لَفِي جحيم‏}‏ كذلك، وفي تنكيرهما من التفخيم والتهويل ما لا يخفى، ‏{‏يَصْلَونها يومَ الدِّين‏}‏ يُقاسون حرها يوم الجزاء، وهو استئناف بياني منبىء عن سؤال نشأ عن تهويلها، كأنه قيل‏:‏ ما حالهم فيها‏؟‏ فقال‏:‏ يحترقون فيها يوم الدين، الذي كانوا يُكذِّبون به، ‏{‏وما هم عنها بغائبين‏}‏ طرفة عين بعد دخولها، وقيل‏:‏ معناه‏:‏ وما كانوا عنها غائبين قبل ذلك، بل كانوا يجدون سمومها في قبورهم، حسبما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «القَبْر رَوْضَةٌ مِن رِيَاضِ الجَنَّة، أو حُفْرة مِنْ حُفَرِ النَّار»‏.‏

‏{‏وما أدراك ما يومُ الدين ثم ما أدراك ما يومُ الدين‏}‏، هو تهويل وتفخيم لشأن يوم الدين الذي يُكذِّبون به، ببيان أنه خارج عن دائرة دراية الخلق؛ فعلى أيّ صورة تصوروه، فهو فوقها، وكيفما تخيلوه فهو أهم من ذلك وأعظم، أي‏:‏ أيُّ شيء جعلك دارياً ما هو يوم الدين‏؟‏ على أنَّ «ما» الاستفهامية خبر «يوم»، كما هو رأي سيبويه، لما مَرّ من أنّ مدار الإفادة هو الخبر لا المبتدأ، ولا ريب أنّ مناط إفادة التهويل والفخامة هنا هو‏:‏ ما يوم الدين أيّ شيء عجيب هو في الهول والفضاعة‏؟‏ انظر أبا السعود‏.‏ قال ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ كل ما في القرآن من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أدراك‏}‏ فقد دراه، وكل ما فيه من قوله‏:‏ ‏{‏وما يدريك‏}‏ فقد طوي عنه‏.‏ ه‏.‏ وينتقض بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يزكى‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 3‏]‏‏.‏

ثم بيَّن شأن ذلك اليوم إجمالاً، فقال‏:‏ ‏{‏يومَ لا تملك نفسٌ لنفسٍ شيئاً‏}‏ أي‏:‏ لا تستطيع دفعاً عنها، ولا نفعاً لها بوجه، وإنما تملك الشفاعة به بالإذن، و‏(‏يوم‏)‏‏:‏ مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أو بدل من ‏(‏يوم الدين‏)‏، ومَن نصب؛ فبإضمار «اذكر»، كأنه قيل بعد تفخيم أمر يوم الدين وشويقه صلى الله عليه وسلم إلى معرفته‏:‏ اذكر يوم لا تملك نفس إلى آخره، فإنه يُدريك ماهو، ‏{‏والأمرُ يومئذ لله‏}‏ لا لغيره، فهو القاضي فيه وحده دون غيره، ولا شك أنَّ الأمر لله في الدارين، لكن لمّا كان في الدنيا خفياً، لا يعرفه إلاَّ العلماء بالله، وأمّا في الآخرة فيظهر المُلك لله لكل أحدٍ، خصّه به هناك‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ قال القشيري‏:‏ إنَّ الأبرار لفي نعيم الشهود والحضور، وإنَّ الفجار لفي جحيم الحجاب والغيبة، يَصْلونها يومَ الدين، يحترقون بنار الحجاب، ونيران الاحتجاب يوم الجزاء والثواب، وما أدراك ما يوم الدين، ثم ما أدراك ما يومُ الدين، يُشير إلى التعجُّب من كُنه أمره، وشأن شأنه، يوم لا تملك نفسٌ لنفس شيئاً، لفناء الكل، ذاتاً وصفاتاً وأفعالاً‏.‏

ه‏.‏ ‏{‏والأمر يومئذ للّه‏}‏، قال الواسطي‏:‏ الأمر اليوم ويومئذ ولم يزل ولا يزال لله، لكن الغيب بحقيقته لا يُشاهده إلاّ الأكابر من الأولياء، وهذا خطاب للعموم، إذا شاهدوا الغيب تيقّنوا أنَّ الأمر كله لله‏.‏ فأما أهل المعرفة فمُشَاهَد لهم الأمر كمشاهدتهم يومئذٍ، لا تزيدهم مشاهدة الغيب عياناً على مشاهدته لهم تصديقاً، كعامر بن عبد القيس، حين يقول‏:‏ لو كُشف الغطاء ما ازددت يقيناً‏.‏ ه‏.‏ وقاله أيضاً عليّ رضي الله عنه‏.‏ وقال القشيري‏:‏ الأمر يومئذ لله وقبله وبعده، ولكن تنقطع الدعاوى ذلك اليوم، ويتضح الأمر، وتصير المعارف ضرورية‏.‏ ه‏.‏ وقال الشيخ ابن عبّاد رضي الله عنه في رسائله الكبرى، بعد كلام‏:‏ وليت شعري، أيّ وقت كان المُلك لسواه حتى يقع التقييد بقوله‏:‏ ‏{‏الملك يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 56‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏والأمر يومئذ لله‏}‏ لولا الدعاوى العريضة من القلوب المريضة‏.‏ ه‏.‏ وقال الورتجبي‏:‏ دعا بهذه الآية العبادَ إلى الإقبال عليه بالكلية بنعت ترك ما سواه، فإنَّ المُلك كله لله في الدنيا والآخرة، يُضل مَن يشاء، ويهدي مَن يشاء‏.‏ ه‏.‏ وصلّى الله على سيدنا محمد وآله‏.‏

سورة المطففين

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 17‏]‏

‏{‏وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ‏(‏1‏)‏ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ‏(‏2‏)‏ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ‏(‏3‏)‏ أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ ‏(‏4‏)‏ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏5‏)‏ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏6‏)‏ كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ ‏(‏7‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ ‏(‏8‏)‏ كِتَابٌ مَرْقُومٌ ‏(‏9‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏10‏)‏ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ ‏(‏11‏)‏ وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ‏(‏12‏)‏ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏13‏)‏ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏14‏)‏ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ‏(‏15‏)‏ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ ‏(‏16‏)‏ ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ويل للمطفيين‏}‏، الويل‏:‏ شديد الشر، أو‏:‏ العذاب الأليم، أو‏:‏ واد في جهنم يهوي الكافر فيه أربعين خريفاً قبل أن يبلغ قعره، وقيل‏:‏ كلمة توبيخ وعذاب، وهو مبتدأ، سوّغ الابتداء به معنى الدعاء‏.‏ والتطفيف‏:‏ البخس في الكيل والوزن، وأصله‏:‏ من الشيء الطفيف، وهو القليل الحقير، رُوي أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَدِمَ المدينة فوجدهم يُسيئون الكيل جدًّا، فنزلت، فأحْسَنوا الكيلَ، وقيل‏:‏ قدمها وبها رجل يُعرف بأبي جهينة، ومعه صاعان يكيل بأحدهما، ويكتال بالآخر، وقيل‏:‏ كان أهل المدينة تُجاراً، يطففون، وكانت بياعتهم المنابذة والملامسة والمخاطرة، فنزلت، فخرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقرأها عليهم، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «خَمْسٌ بخمس، ما نَقَض قومٌ العهد إلاّ سلَّط الله عليهم عدوّهم، ولا حَكَموا بغير ما أنزل الله إلاَّ فَشَى فيهم الفقر، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشى فيهم الموت، ولا طَفّفوا الكيل إلاَّ مُنِعُوا النبات، وأُخذوا بالسنين، ولا مَنَعُوا الزكاة إلاَّ حبس اللهُ عنهم المطر»‏.‏

ثم فسّر التطفيف الذي استحقوا عليه الذم والدعاء عليهم بالويل، فقال‏:‏ ‏{‏الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفُون‏}‏ أي‏:‏ إذا أخذوا بالكيل من الناس بالشراء ونحوه يأخذون حقوقهم وافية تامة، ولمّا كان اكتيالهم من الناس اكتيالاً يضرّهم، ويتحامل فيه عليهم؛ أبدل «على» مكان «مِنْ» للدلالة على ذلك، ويجوز أن يتعلّق «على» ب «يستوفون»، وتقدّم المفعول على الفعل لإفادة الاختصاص، أي‏:‏ يستوفون على الناس خاصة، وقال الفراء‏:‏ «مِنْ» و«على» يتعاقبان في هذا الموضع؛ لأنه حقّ عليه، فإذا قال‏:‏ اكتلت عليه، فكأنه قال‏:‏ أخذت ما عليه، وإذا قال‏:‏ اكتلت منه فكأنه قال‏:‏ استوفيت منه‏.‏ ه‏.‏

‏{‏وإِذا كالوهم أو وزنوهم‏}‏ أي‏:‏ كالوا لهم أو وزنوا لهم في البيع ونحوه، فحذف الجار وأوصل الفعل، ‏{‏يُخْسِرون‏}‏؛ ينقصون، يقال‏:‏ خَسر الميزان وأخسره‏:‏ إذا نقصه‏.‏ وجعلُ البارز تأكيداً للمستكن مما لا يليق بجزالة التنزيل، ولعل ذكر الكيل والوزن في صور الإخسار، والاقتصار على الاكتيال في صورة الاستيفاء لِما أنهم لم يكونوا متمكنين من الاحتيال عند الاتزان تمكُّنهم منه عند الكيل؛ لأنهم في الكيل يزعزعون ويحتالون في الملء بخلاف الوزن، ويحتمل أنّ المطففين كانوا لا يأخذون ما يُكال ويوزن إلاّ بالمكاييل لتمكّنهم بالاكتيال من الاستيفاء والسرف، كما تقدّم، وهذا بعيد، وإذا أعطوا كالُوا ووزنوا، لتمكّنهم من البخس في النوعين‏.‏

‏{‏ألاَ يظنُ أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم‏}‏ وهو يوم القيامة، وهو استئناف وارد لتهويل ما ارتكبوه من التطفيف والتعجُّب من اجترائهم عليه‏.‏ وأدخل همزة الاستفهام على ‏(‏ألاَ‏)‏ توبيخاً، وليست «ألا» هذه للتنبيه، و«أولئك» إشارة إلى المطففين، ووضعه موضع ضميرهم؛ للإشعار بمناط الحُكم الذي هو وصفهم، فإنَّ الإشارة إلى الشيء متعرضة له من حيث اتصافه بوصفه، وأمّا الضمير فلا يتعرّض لوصفه، وللإيذان بأنهم مُمازون بذلك الوصف القبيح أكمل امتياز، وما فيه من معنى البُعد للإشارة إلى بُعد درجتهم في الشرارة والفساد، أي‏:‏ ألاَ يظنُّ أولئك الموصوفون بذلك الوصف الشنيع أنهم مبعوثون ليوم عظيم ولا يقادَر قدره، ويُحاسبون فيه على قدر الذرّة والخردلة، فإنَّ مَن يظن ذلك وإن كان ظنًّا ضعيفاً لا يكاد يتجاسر على تلك القبائح، فكيف بمَن يتيقنه‏؟‏ وعن عبد الملك بن مروان‏:‏ أن أعرابياً قال له‏:‏ قد سمعتَ ما قال الله في المطفّفين أراد بذلك أنَّ المُطَفف قد توجّه عليه الوعيد العظيم الذي سمعتَ به فما ظنّك بنفسك وأنت تأخذ أموال المسلمين بلا كيل ولا وزن‏؟‏‏!‏‏.‏

‏{‏يومَ يقومُ الناسُ‏}‏، منصوب ب «مبعوثون» أي‏:‏ يُبعثون يومَ يقوم الناس ‏{‏لرب العالمين‏}‏ أي‏:‏ لحكمِه وقضائه، أو لجزائه بعقابه وثوابه، وعن ابن عمر رضي الله عنه أنه قرأ هذه السورة فلمّا بلغ هنا بكى نحيباً، وامتنع من قراءة ما بعده‏.‏

‏{‏كلاَّ‏}‏ ردع وتنبيه، أي‏:‏ ارتدعوا عما كنتم عليه من التطفيف والغفلة عن البعث والحساب، وتنبّهوا أنه مما يجب أن يُنتهى به ويُتاب منه، ثم علل الردع المذكور، فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ كتابَ الفُجَّار‏}‏ أي‏:‏ صحائف أعمالهم ‏{‏لفي سِجّينٍ‏}‏، جمهور المفسرين أنَّ «سِجين» موضع تحت الأرض السابعة، كما أنَّ «علِّيين» موضع فوق السماء السابعة، وفي القاموس‏:‏ عليون جمع «عِلِّيّ» في السماء السابعة، تصعد إليه أرواح المؤمنين، و«سجّين» موضع في كتاب الفجار، ووادٍ في جهنم، أو حجر في الأرض السابعة‏.‏ ه‏.‏ وفي حديث أنس صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «سجين أسفل سبع أرضين» وقال أبو هريرة‏:‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الفلق‏:‏ جُب في جهنم مغطى، وسِجين‏:‏ جُب في جهنم مفتوح» والمعنى‏:‏ إنّ تاب أعمال الفجار مثبت في سجين‏.‏ هو علم منقول من الوصف «فعيل» من السجن؛ لأنَّ أرواح الكفرة تسجن فيه، وهو منصرف لوجود سبب واحدٍ فيه، وهو العلميّة، لأنه علم لموضع‏.‏

ثم عَظَّم أمره فقال‏:‏ ‏{‏وما أدراك ما‏}‏ هو ‏{‏سِجّينٌ‏}‏ أي‏:‏ هو بحيث لا يبلغه دراية أحد، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كتاب مرقوم‏}‏، قال الطيبي‏:‏ هو على حذف مضاف، أي‏:‏ موضع كتاب مرقوم‏.‏ ه‏.‏ أو‏:‏ فيه كتاب مرقوم، وهو بدل من «سِجّين» أو‏:‏ خبر عن مضمر، بحذف ذلك المضاف، وأمّا مَن جعله تفسيراً لسجّين، بأن جعل سجيناً هو نفس الكتاب المرقوم؛ فلا يصح؛ إذ يصير المعنى حينئذ‏:‏ إنَّ كتاب الفجار لفي كتاب، ولا معنى له‏.‏

‏{‏ويل يومئذٍ للمكَذّبين‏}‏ هو متصل بقوله‏:‏ ‏{‏يوم يقوم الناسُ لرب العالمين‏}‏ وقيل‏:‏ ويل يوم يخرج ذلك المكتوب للمكذّبين ‏{‏الذين يُكَذِّبون بيوم الدين‏}‏؛ الجزاء والحساب، ‏{‏وما يُكَذِّب به‏}‏؛ بذلك اليوم ‏{‏إِلاَّ كُل معتدٍ‏}‏؛ مجاوِز للحدود التي حدّتها الشريعة، أو مجاوِز عن حدود النظر والاعتبار حتى استقصر قدرة الله على إعادته، ‏{‏أثيمٍ‏}‏؛ مكتسب للإثم منهمك في الشهوات الفانية حتى شغلته عما وراءها من اللذة الباقية، وحملته على إنكارها، ‏{‏إِذا تُتلى عليه آياتُنا‏}‏ التنزيلية الناطقة بذلك ‏{‏قال‏}‏‏:‏ هي ‏{‏أساطيرُ الأولين‏}‏ أي‏:‏ أحاديث المتقدمين وحكايات الأولين، والقائل‏:‏ قيل‏:‏ الوليد بن المغيرة، وقيل‏:‏ النظر بن الحارث، وقيل‏:‏ عام لمَن اتصف بالأوصاف المذكورة‏.‏

‏{‏كلاَّ‏}‏ ردع للمعتدي الأثيم عن ذلك القول الباطل وتكذيب له، ‏{‏بل رانَ على قلوبهم ما كانوا يكسِبون‏}‏، هو بيان لما أدّى بهم إلى التفوُّه بهذه العظيمة أي‏:‏ ليس في آياتنا ما يصحح أن يُقال فيها هذه المقالات الباطلة، بل رانت قلوبهم وغشّاها ما كانوا يكسبون من الكفر والجرائم حتى صارت عليهم كالصدأ للمرآة، فحال ذلك بينهم وبين معرفة الحق، كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن العبد كلما أذنب ذنباً حصل في قلبه نكتة سوداء، حتى يسوّد قلبه‏.‏‏.‏» الحديث، أي‏:‏ ولذلك قالوا ما قالوا‏.‏ والرين‏:‏ الصدأ، يقال‏:‏ ران عليه الذنب وغان ريناً وغيناً‏.‏

‏{‏كلاَّ‏}‏ ردع وزجر عن الكسب الرائن ‏{‏إِنهم عن ربهم يومئذٍ لمحجوبون‏}‏ لَمَّا رانت قلوبهم في الدنيا حُجبوا عن الرؤية في الآخرة، بخلاف المؤمنين لَمّا صفت مرآة قلوبهم حتى عرفوا الحق كشف لهم يوم القيامة عن وجهه الكريم‏.‏ قال مالك‏:‏ لَمّا حجب الله أعداءه فلم يروه تجلّى لأوليائه حتى رأوه‏.‏ ه‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ في هذه الآية دلالة على أنَّ أولياء الله يرونه‏.‏ ه‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ في هذه الآية دليل أن الله يُرى يوم القيامة، ولولا ذلك ما كان في هذه الآية فائدة، ولمَا خصّصت منزلة الكفار بأنهم محجوبون عن الله‏.‏ انظر الحاشية‏.‏ ‏{‏ثم إِنهم لصالُو الجحيم‏}‏ أي‏:‏ داخلو النار، و«ثم» لتراخي الرتبة، فإنّ صَلي الجحيم أشد من الإهانة، والحرمان من الرؤية والكرامة‏.‏ ‏{‏ثم يُقال‏}‏ لهم‏:‏ ‏{‏هذا الذي كنتم به تُكَذِّبون‏}‏ في الدنيا فذُوقوا وباله‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

الإشارة‏:‏ التطفيف يكون في الأعمال والأحوال، كما يكون في الأموال، فالتطفيف في الأعمال عدم إتقانها شرعاً، ولذلك قال ابن مسعود وسلمان رضي الله عنهما‏:‏ الصلاة مكيال، فمَن وَفَّى وُفِّي له، ومَن طفَّف فقد علمتم ما قال الله في المطففين‏.‏ ه‏.‏ فكل مَن لم يُتقن عملَه فعلاً وحضوراً فهو مطفف فيه‏.‏ والتطفيف في الأحوال‏:‏ عدم تصفية القصد فيها، أو بإخراجها عن منهاج الشريعة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ويل للمطفيين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ، قال القشيري‏:‏ يُشير إلى المقصّرين في الطاعة والعبادة، الطالبين كمال الرأفة والرحمة، الذين يستوفون من الله مكيال أرزاقهم بالتمام، ويكيلون له مكيال الطاعة بالنقص والخسران، ذلك خسران مبين، ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم المشهد، مهيب المحضر، فلذلك فسدت أعمالهم واعتقادهم‏.‏

ه‏.‏ يوم يقوم الناس لرب العالمين، يوم يكثر فيه الهول، ويعظم فيه الخطب على المقصّرين، وتظهر فيه كرامة المجتهدين ووجاهة العارفين‏.‏

‏{‏كلاَّ‏}‏ ليرتدع المقصّر عن تقصيره؛ لئلا ينخرط في سلك الفجار، ‏{‏إن كتاب الفجّار لفي سجين‏}‏ المراد بالكتاب هنا‏:‏ كتاب الأزل، وهو ما كتب لهم من الشقاوة قبل كونهم، قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «السعيد مَن سعد في بطن أمه، والشقي مَن شقي في بطن أمه» و‏{‏وما أدراك ما سجين‏}‏ فيه ‏{‏كتاب مرقوم‏}‏ لأهل الشقاء شقاوتهم‏.‏ ‏{‏ويل يومئذ للمُكَذِّبين‏}‏ بالحق وبالدالين عليه، ‏{‏الذين يُكَذِّبون بيوم الدين‏}‏ وهم أهل النفوس المقبلين على الدنيا بكليتهم، ‏{‏وما يُكَذِّب به إلاّ كل معتد أثيم‏}‏؛ متجاوز عن الذوق والوجدان، محروم من الكشف والعيان، ‏{‏إذا تُتلى عليه آياتنا‏}‏ الدالة علينا ‏{‏قال أساطير الأولين‏}‏ أي‏:‏ إذا سمع الوعظ والتذكير من الدالين على الله قال‏:‏ خرافات الأولين‏.‏ وسبب ذلك‏:‏ الرانُ الذي ينسج على قلبه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون‏}‏ لمّا رانت قلوبهم، وتراكمت عليها الحظوظ والهوى، حُجبوا عن شهود الحق في الدنيا، ودام حجابهم في العقبى إلاَّ في أوقات قليلة، قال الحسن بن الفضل‏:‏ كما حجبهم في الدنيا عن توحيده حجبهم في الآخرة عن رؤيته‏.‏ ه‏.‏ قال الواسطي‏:‏ الكُفار في حجابٍ لا يرونه البتة، والمؤمنون في حجاب يرونه في وقتٍ دون وقت‏.‏ ه‏.‏ أي‏:‏ والعارفون يرونه كل وقت، ثم قال‏:‏ ولا حجاب له غيره، وليس يسعه سواه، ما اتصلت بشريةٌ بربوبيته قط، ولا فارقت عنه‏.‏ ه‏.‏

وقال في الإحياء‏:‏ النزوع إلى الدنيا يَحجب عن لقاء الله تعالى، وعند الحجاب تتسلط عليهم نار جهنم، إذ النار غير متسلطة إلاّ على محجوب، قال تعالى‏:‏ ‏{‏كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ثم إنهم لصالو الجحيم‏}‏ فرتَّب العذاب بالنار على ألم الحجاب، وألم الحجاب كافٍ من غير عِلاوة النار، فكيف إذا أضيفت العلاوة إليه‏!‏ ه‏.‏ وقد رتَّب الحجاب على الران والصدأ المانع من كشف الحقيقة، فكل من طهّر قلبه من ران الهوى، وغسله بأنوار الذكر والفكر لاحت له أنوار المشاهدة وأسرار الحضرة، حتى يشاهد الحق في الدنيا والآخرة، ويكون من المقربين أهل عليين، وكل مَن بقي مع حظوظ هواه حتى غلب على قلبه رانُ الشهوات بقي محجوباً في الدارين من عامة اليمين‏.‏ وأنواع الران التي تحجب عن الشهود ست‏:‏ ران الكفر، وران العصيان، وران الغفلة، وران حلاوة الطاعات، وران حس الكائنات، فإذا تصفّى من هذه كلها أفضى إلى مقام العيان، ولا طريق لرفع الران بالكلية إلاَّ بصُحبة المشايخ العارفين‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 28‏]‏

‏{‏كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ ‏(‏18‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ ‏(‏19‏)‏ كِتَابٌ مَرْقُومٌ ‏(‏20‏)‏ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ‏(‏21‏)‏ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ‏(‏22‏)‏ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ ‏(‏23‏)‏ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ‏(‏24‏)‏ يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ ‏(‏25‏)‏ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ‏(‏26‏)‏ وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ ‏(‏27‏)‏ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏كلاَّ‏}‏، ردع للمكذبين، ثم بيّن حال الأبرار، فقال‏:‏ ‏{‏إنَّ كتاب الأبرارِ‏}‏ أي‏:‏ ما كتب من أعمالهم، والأبرار‏:‏ المؤمنون المطيعون، لأنه ذُكر في مقابلة الفُجَّار، وعن الحسن‏:‏ البرّ‏:‏ الذي لا يؤذي الذرّ، ‏{‏لفي عليين‏}‏، قال الفراء‏:‏ هو اسم على صيغة الجمع لا واحد له، وقيل‏:‏ واحده «عِلِّيّ»، و«علِّيه» وأيًّا ما كان فهو موضع في أعلى الجنة، يسكنه المقربون‏.‏ قال ابن عمر رضي الله عنه‏:‏ إنّ أهل عليين لينظرون إلى أهل الجنة من كوى، فإذا أشرف رجل أشرقت له الجنة، وقالوا‏:‏ قد اطلع علينا رجل من أهل عليين، وقال في البدور‏:‏ «إنَّ الرجل من أهل عليين ليخرج فيسير في ملكه، فلا تبقى خيمة من خيام الجنة إلا ويدخلها ضوء من وجهه، حتى إنهم يستنشقون ريحه ويقولون‏:‏ واهاً لهذه الريح الطيبة‏.‏‏.‏» الحديث‏.‏‏.‏ وتقدّم قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أكثر أهل الجنة البُله، وعليون لذوي الألباب» وانظره في سورة المجادلة، وفي حديث البراء‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «عليون في السماء السابعة تحت العرش» وفيه ديوان أعمال السعداء، فإذا عمل العبدُ عملاً صالحاً عرج به وأثبت في ذلك الديوان، وقد رُوي في الأثر‏:‏ «أن الملائكة تصعد بصحيفةٍ فيها عمل العبد، فإن رضيه الله قال‏:‏ اجعلوه في عليين وإن لم يرضه قال‏:‏ اجعلوه في سجين»‏.‏

ثم نوّه بقَدْره فقال‏:‏ ‏{‏وما أدراك ما عليون كتابٌ مرقومٌ‏}‏ أي‏:‏ موضع كتاب، أو فيه كتاب مرقوم ‏{‏يشهده المقربون‏}‏ أي‏:‏ الملائكة المقربون، أو أرواح المقربين؛ لأنَّ عليين محل الكروبيين وأرواح المقربين‏.‏ ‏{‏إِنَّ الأبرار‏}‏ من أهل اليمين ‏{‏لفي نعيمٍ‏}‏ عظيم، ‏{‏على الأرائك‏}‏؛ على الأسرّة في الحِجال، ‏{‏ينظرون‏}‏ إلى كرامة الله ونِعمه التي أولاهم، أو‏:‏ إلى أعدائهم يعذّبون في النار، وما تحجب الحجال أبصارهم عن الإدْراك، ‏{‏تعرف في وجوههم نضرةَ النعيم‏}‏ أي‏:‏ بهجة التنعُّم وطراوته ورونقه‏.‏ والخطاب لكل أحد مما له حظ من الخطاب للإيذان بأنَّ حالهم من أثر النعمة وأحكام البهجة، بحيث لا يختص برؤيته راءٍ دون راءٍ‏.‏

‏{‏يُسقون من رحيقٍ‏}‏؛ شراب خالص لا شوب فيه، وقيل‏:‏ هو الخمر الصافية، ‏{‏مختومٌ‏}‏؛ مغلق عليه، ‏{‏ختامه مِسْكٌ‏}‏ أي‏:‏ مختوم أوانيه وأكوابه بالمسك مكان الطين، كما يفعل أهل الدنيا بأوانيهم إذا أرادوا حِفظها وصيانتها، ولعله تمثيل لكمال نفاسته، أو‏:‏ أخره وتمامُه مسك، أي‏:‏ يجد الشارب عند آخر شربه رائحة المسك‏.‏ وقُرىء «خاتِمَه» بكسر التاء وفتحها‏.‏ ‏{‏وفي ذلك‏}‏ الرحيق أو ما تقدّم من نعيم الجنان ‏{‏فليتنافس المتنافسون‏}‏؛ فليرغب الراغبون، وليجتهد المجتهدون، أو فليسبق المستبقون، وذلك بالمبادرة إلى الخيرات، والكفّ عن السيئات‏.‏

وأصل التنافس‏:‏ التغالب في الشيء النفيس، وهو من النفس لعزتها، وقال البغوي‏:‏ وأصله‏:‏ من الشيء النفيس الذي تحرص عليه النفوس، ويريده كل أحد لنفسه، وينفَسُ به على غيره، أي‏:‏ يضِنُّ به‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومِزَاجُه من تسنيمٍ‏}‏‏:‏ عطف على ‏(‏خِتامه‏)‏ صفة أخرى للرحيق، وما بينهما اعتراض مقرر لنفاسته، أي‏:‏ ما يمزَج به ذلك الرحيق هو من ماء التسنيم، والتسنيم اسم لعين بعينها في الفردوس الأعلى، سُميت بالتسنيم الذي هو مصدر من «سنّمه» إذا رفعه، لأنها أرفع شراب في الجنة، ثم فسّرها بقوله‏:‏ ‏{‏عيناً‏}‏، فهو منصوب على المدح أو الاختصاص، أو على الحال مع جمودها لوصفها بقوله‏:‏ ‏{‏يشربُ بها‏}‏ أي‏:‏ منها ‏{‏المقربون‏}‏، قال ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما‏:‏ فيشربها المقربون صِّرفاً، وتمزج لأصحاب اليمين‏.‏ ه‏.‏ والمقربون هم أهل الفناء في الذات، أهل الشهود والعيان، والأبرار أهل الدليل والبرهان، وهم أهل اليمين، وذلك أنَّ المقربين لَمّا أخلصوا محبتهم لله، ولم يُحبوا معه شيئاً من الدنيا خلُصَ لهم الشراب في الآخرة وأهل اليمين، لَمّا خلطوا في محبيتهم خلّط شرابهم، فالدنيا مزرعة الآخرة، فمن صَفّا صُفيَ له، ومَن كَدّر كُدّر عليه‏.‏

فإن قلتَ‏:‏ لِمَ أمر بالتنافس في الرحيق ولم يأمر به في التسنيم، مع كونه أرفع‏؟‏ قلتُ‏:‏ قال بعضهم‏:‏ إشارة إلى أن شربه لا يُنال بسبب، بل بالسابقة، وقيل‏:‏ إنه مُقدّم من تأخير، وإن التنافس حاصل في الجميع، أو يؤخذ بالأحْرى؛ لأنه إذا أمرَ بالتنافس في المفضول كان التنافس في الأفضل أحرى‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ قال الورتجبي‏:‏ كتاب الأبرار كتابٌ مرقوم برقم الله، رقمه بسعادتهم الأزلية، وولايتهم الأبدية، وذلك الكتاب عنده لا يطلع عليه إلاَّ المقربون المخاطبون بحديثه وكلامه، المكاشفون بالحقائق الغيبية قال أبو عثمان المغربي‏:‏ الكتاب المرقوم‏:‏ هو ما يُجري اللّهُ على جوارحك من الخير والشر، رقمها بذلك، وهو لا يخاف ما رقم به، وذلك الرقْم معلّق بالقضاء والقدر عن القدرة بمشيئته تعالى عليه، ولا نزوع عن ذلك ولا حيلة له فيه، فهو في ذلك معذور في الظاهر، غير معذور في الحقيقة، هذا لعوام الخلق، وأمّا للخواص والأولياء وأهل الحقائق فإنه رقْم الله على كل شيء أوجده، لم يُشْرف على ذلك الرقْم إلاَّ المقربون، فهم أهل الإشراف فمَن شاهد ذلك الرقْم من المقربين عرف صاحبه بما رقم به من الولاية والعداوة، فيُخبر عنه، وهو الإشراف والفراسة، كما كان لعُمر حين أخبر عنه صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ «كان في الأمم مُكلَّمون‏.‏‏.‏‏.‏» الحديث، أي‏:‏ فعُمر ممن أشرف على حقائق الرقْم، وعلى معاني الكتاب المرقوم فمَن كان بذلك الحال فهو المكلّم من جهة الحق بلا واسطة‏.‏ قال الجريري‏:‏ رقْمٌ رَقَم اللّهُ به قلوبَ عباده بما قضى عليهم في الأزل من السعادة والشقاوة، وبذلك الرقْم خَفي في أسرار العباد، وظهر على هياكلهم، كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏

«كُلٌّ مُيَسَّرٌ لما خُلق له»‏.‏

والحاصل‏:‏ أنَّ الكتاب المرقوم‏:‏ هو ما سطر لكل أحد في الأزل، فإن رقم له بالسعادة جعلَ في عليين، إشارة إلى أنَّ صاحبه يلحق به، وإن رقم بالشقاوة جعل في سجين، إشارة إلى لحوق صاحبه به‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يشهده المقربون‏}‏ أي‏:‏ يشهدونه بعلوم أفكارهم ومكاشفة أسرارهم، وقد ينطقون بذلك في حال الفيض أو الجذب، وهؤلاء هم المكلَّمون، وفي الحديث‏:‏ «قد كان في الأمم مكلَّمون، وإن يكن في أمتي فعُمر» والمقربون هم أهل الفناء والبقاء‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنَّ الأبرار لفي نعيم‏}‏ لذة الطاعات وحلاوة المناجاة، على أرائك المقامات ينظرون ما يفعل الله بهم‏.‏ وقال القشيري‏:‏ ينظرون في روضات الجنان الروحية والسرية والقلبية، لكل منهم روضة مخصوصة‏.‏ ه‏.‏ ولعل نظرهم علمياً لا ذوقياً، لأنَّ الذوق للمقربين، تَعْرِفُ في وجوههم نضرة النعيم، وهو ما يظهر على وجوههم من بهجة المحبة ونضرة القُربة ولعل المراد بالأبرار هنا السائرون، ولذلك قال‏:‏ ‏{‏يُسقَون من رحيق‏}‏ خمرة المحبة الأزلية، الصافية من كدر الهوى، مختوم عليه في قلوب العارفين‏.‏ قال القشيري‏:‏ أواني ذلك الشراب هي قلوب الأصفياء والأولياء، خِتامه مسك، وهو محبة الحق، لا يشرب من تلك الأواني المختومة إلاَّ الطالبون الصادقون في طريق السلوك إلى الله‏.‏ ه‏.‏ وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، فمَن فاته حظه من هذه الخمرة فهو محروم، كما قال ابن الفارض‏:‏

علَى نَفْسِه فَلْيبْك مَن ضاعَ عُمْرُه *** وليس لَهُ مِنْها نَصيبٌ ولا سَهْمٌ

وقال القشيري‏:‏ وتنافسهم فيه بالمبادرة إلى الأعمال الصالحة، وتعليق القلب بالله، والانسلاخ من الأخلاق الدنية، وجولان الهمم في الملكوت، واستدامة المناجاة‏.‏ ه‏.‏ ومِزاجه من تسنيم وهو عين بحر الوحدة الصافية، التي قال فيها القطب ابن مشيش رضي الله عنه‏:‏ وأغرقني في بحر الوحدة‏.‏‏.‏ الخ، ولذلك فسّرها تعالى بقوله‏:‏ ‏{‏عيناً يشرب بها المقربون‏}‏ فالمقربون يشربونه صرفاً في الدنيا والآخرة، ويمزج لغيرهم، قال بعضهم‏:‏ لأنه ليس مَن احتمل حمل الصفات كمن قَوِي على مشاهدة الذات، وشربها المقربون صرْفاً لحملهم الذات والصفات جميعاً‏.‏ ه‏.‏ ولأنهم صفّوا محبتهم في الدنيا من شوائب الهوى، فصفّى شرابهم في دار البقاء، وفي هذا المقام ينبغي التنافس الحقيقي، كما قال الشاعر‏:‏

فروحي وريحاني إذا كنت حاضراً *** وإن غبتَ فالدنيا عليّ محابسُ

إذا لم أنافس في هواك ولم أغر *** عليكَ ففي مَن ليت شعري أنافس

فلا تمقتن نفسي فأنت حبيبُها *** فكل امرىء يصبو إلى مَن يجانس

فتنافس الأبرار في حيازة النعيم، وتنافس المقربين في حيازة المنعِم، تنافسُ الأبرار في نعيم الأشباح وتنافس المقربين في نعيم الأرواح، ورضوان من الله أكبر، ذلك هو الفوز العظيم، جعلنا الله من أهل التنافس فيه وفي شهوده، آمنين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 36‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ ‏(‏29‏)‏ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ ‏(‏30‏)‏ وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ ‏(‏31‏)‏ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ ‏(‏32‏)‏ وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ ‏(‏33‏)‏ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ ‏(‏34‏)‏ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ ‏(‏35‏)‏ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ‏(‏36‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين أجرموا‏}‏؛ كفروا، كأبي جهل والوليد والعاص بن وائل وأضرابهم، ‏{‏كانوا من الذين آمنوا‏}‏ كعمّار وصُهيب وخباب وبلال ‏{‏يضحكون‏}‏ استهزاء بهم، ‏{‏وإِذا مَرُّوا بهم يتغامزون‏}‏؛ يُشير بعضهم إلى بالعين طعناً فيهم وعيباً لهم، وقيل‏:‏ جاء عليٌّ في نفر من المسلمين، فسخر منهم المنافقون، وضحكوا وتغامزوا، وقالوا‏:‏ أترون هذا الأصلع‏؟‏ فنزلت قبل أن يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتكون الآية على هذا مدنية، ‏{‏وإِذا انقلبوا إلى أهلهم‏}‏ أي‏:‏ إذا رجع الكفار إلى منازلهم ‏{‏انقلبوا فاكهين‏}‏، متلذذين بذكرهم بالسوء، أو متعجبين، وقرأ حفص‏:‏ ‏{‏فكهين‏}‏ بالقصر، أي‏:‏ أشرين أو فرحين، وقال الفراء‏:‏ هما سواء كطاعن وطعن‏.‏

‏{‏وإِذا رَأَوهم‏}‏ أي‏:‏ رأى الكافرون المؤمنين ‏{‏قالوا إِنَّ هؤلاء لضالُّون‏}‏ أي‏:‏ مخدوعون، أي‏:‏ خدع محمدٌ هؤلاء فضلُّوا وتركوا اللذّات لما يرجونه في الآخرة من الكرامات، فقد تركوا العاجل بالآجل، والحقيقة بالخيال وهذا عين الضلال، ولم يشعر هؤلاء الكفرة أنَّ ما اغترُّوا به وانهمكوا فيه هو عين الضلال، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما أُرسلوا عليهم حافظين‏}‏ أي‏:‏ وما أرسل الكفّار على المسلمين، يحفظون أعمالهم ويرقبون أحوالهم‏.‏ والجملة حال، أي‏:‏ قالوا ذلك والحال أنهم ما أُرسلوا من جهة الله تعالى موكّلين بهم، مهيمنين على أعمالهم، يشهدون برُشدهم وضلالهم، بل أُمروا بإصلاح أنفسهم، فاشتغالهم بذلك أولى من تتبُّع عورات غيرهم‏.‏

‏{‏فاليومَ الذين آمنوا من الكفارِ يضحكون‏}‏، حين يرونهم مغلولين أذلاء قد غشيتهم فنون العذاب والصغَار بعد العزة والاستكبار، وهم ‏{‏على الأرائك‏}‏ آمنون ووجه ذلك‏:‏ أنهم لمَّا كانو أعداءهم في الدنيا جعل لهم سروراً في تعذيبهم، وقال كعب‏:‏ بين الجنة والنار كُوَىً، فإذا أراد المؤمن أن ينظر إلى عدوه الذي كان له في الدنيا نظر إليه، دليله‏:‏ ‏{‏فاطلع فَرَءَاهُ فِي سَوَآءِ الجحيم‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 55‏]‏ فضحكوا منهم في الآخرة كما كانوا يضحكون منهم في الدنيا جزاءً وفاقاً‏.‏ ‏{‏على الأرائك ينظرون‏}‏ حال، أي‏:‏ يضحكون منهم ناظرين إليهم وإلى ما هم فيه من سوء الحال، وقيل‏:‏ يُفتح إلى الكفار باب إلى الجنة، فيُقال لهم‏:‏ هَلمُّوا إليها، فإذا وصلوا إليها أغلق دونهم، يفعل ذلك بهم مراراً، ويضحك المؤمنون، ويأباه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هل ثُوِّب الكفارُ ما كانوا يفعلون‏}‏ فإنه صريح في أنَّ ضحك المؤمنين منهم جبراً لضحكهم منهم في الدنيا، فلا بد من المجانسة والمشاكلة‏.‏ والتثويب والإثابة‏:‏ المجازاة، أي‏:‏ ينظرون هل جُوزي الكفار بما كانوا يفعلون من السخرية بالمؤمنين أم لا‏؟‏

ويحتمل أن يكون مفعول‏:‏ «ينظرون» محذوفاً أي‏:‏ ينظرون إلى أعدائهم في النار، أو إلى ما هم فيه من نعيم الجنان، ثم استأنف بقوله‏:‏ ‏{‏هل ثُوِّب الكفارُ ما كانوا يفعلون‏}‏ أي‏:‏ هل جُوزوا بذلك إذا فعل بهم هذا العذاب المهين، و«هل» على هذا للتقرير، قال الرضي‏:‏ وتختص «هل» بحكمين دون الهمزة، وهما‏:‏ كونها للتقرير في الإثبات، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هل ثوب الكفار‏}‏ أي‏:‏ ألم يَثوبوا، وإفادتها للنفي حتى جاز أن يجيء بعدها «إلاَّ» قصداً للإيجاب، كقوله تعالى‏:‏

‏{‏هَلْ جَزَآءُ الإحسان إِلاَّ الإحسان‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 60‏]‏ وقول الشاعر‏:‏

وهل أنا إلاّ مِن غُزَيّةَ إن غوت *** غَويتُ، وإن تُرشَدْ غزية أرشد

الإشارة‏:‏ ما قاله الكفرة في ضعفاء المسلمين قاله أهل الغفلة في المنتسبين الذاكرين، حرفاً بحرف، وما أُرسلوا عليهم حافظين، فإذا تحققت الحقائق، ورُفع الذاكرون مع المقربين، وبقي أهل الغفلة مع الغافلين في أهل اليمين، يضحكون منهم كما ضحكوا منهم في الدنيا‏.‏ وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى الطريق، وصلّى الله عليى سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم‏.‏

سورة الانشقاق

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ ‏(‏1‏)‏ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ ‏(‏2‏)‏ وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ ‏(‏3‏)‏ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ ‏(‏4‏)‏ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ ‏(‏5‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إِذا السماءُ انشقتْ‏}‏ أي‏:‏ تشقّقت أبواباً لنزول الملائكة في الغمام، أو‏:‏ انشقت وطُويت كطي السجل للكتاب، ‏{‏وأَذِنَتْ لربها‏}‏ أي‏:‏ استمعت، وفي الحديث‏:‏ «ما أَذِنَ اللهُ لشيءٍ إذنه لنبيٍّ يتغَنَّى بالقرآن» أي‏:‏ ما استمع، أي‏:‏ انقادت وأذعنت لتأثير قدرته تعالى حين تعلّقت إرادته بانشقاقها ولم تأبَ ولم تمتنع، ‏{‏وحُقَّتْ‏}‏ أي‏:‏ وحقَّ لها أن تسمع وتطيع لأمر ربها، إذ هي مصنوعة مربوبة لله تعالى‏.‏

‏{‏وإِذا الأرضُ مُدَّتْ‏}‏؛ بُسطت وسُويت باندكاك جبالها وكِّل أمتٍ فيها حتى تصير كالصحفية الملساء، عن أبن عباس‏:‏ تُمدّ مَدَّ الأديم العُكاظي، منسوب إلى عكاظ سوق بين نخلة والطائف، كانت تعمره الجاهلية في ذي القعدة، عشرين يوماً، تجمع فيه قبائل العرب، فيتعاكظون، أي‏:‏ يتغامزون ويتناشدون، قاله في القاموس‏.‏ ‏{‏وألقتْ ما فيها‏}‏ أي‏:‏ رمت ما في جوفها من الموتى والكنوز، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا‏}‏ ‏[‏الزلزلة‏:‏ 2‏]‏‏.‏ ‏{‏وتخلتْ‏}‏ منها فلم يبقَ في جوفها شيء، وذلك ما يُؤذن بعِظَم الأمر، كما تلقي الحامل ما في بطنها قبل الوضع‏.‏ ‏{‏وأَذِنَتْ لربها‏}‏ أي‏:‏ استمعت في إلقاء ما في بطنها، وتخليتها عنه، ‏{‏وحُقتْ‏}‏ أي‏:‏ وهي حقيقة بأن تنقاد لربها ولا تمتنع، ولكن لا بُعد إن لم تكن كذلك، بل في نفسها وحَد ذَاتِها، من قولهم‏:‏ هو محقوق بكذا، أو حقيق به، والمعنى‏:‏ انقادت لربها وهي حقيقة بذلك مِن ذاتها، وكذلك يقال في انشقاق السماء‏.‏ انظر أبا السعود‏.‏ وجواب ‏(‏إذا‏)‏ محذوف، ليذهب المقدِّر كلَّ مذهب، أي‏:‏ كان من الأمر الهائل ما يقصر عنه الوصف، أو حذف اكتفاءً بما تقدّم في سورة التكوير والانفطار، أو ما دلّ عليه ‏{‏فملاقيه‏}‏ أي‏:‏ إذا السماء انشقت لاقى الإنسان كدْحَهُ‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ إذا السماء، أي‏:‏ سماء الأرواح انشقت عن ظلمة الأشباح انشقاق الفجر عن ظلمة الليل، فتغيب ظلمة الأشباح في نور عالَم الأرواح فحينئذ تظهر حقائق الأشياء على ما كانت عليه في الحقيقة الأزلية، فينتفي الحدث ويبقى القِدم‏.‏ قال الورتجبي‏:‏ إذا أراد الله قلع الكون، يلقي على السموات والأرض أثقال هيبة عظمته وكبريائه، فتنشق السماء، وتمد الأرض من عكس تجلي عظمته وكبريائه، وحق لهما أن تتصدّعا، لِما عليهما من أثقال قهريات جبروته، حيث يشققهما، وهما طائعتان لربهما، وكيف لا تكون منهما طاعة، وهما في قبضة قهر جلاله أقل من خردلة، ألا ترى كيف قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الكونُ في يمين الرحمن أقلِّ من خَردلةٍ» وكذلك يتجلّى لسماء أرواح العارفين وأرض قلوب المحبين بنعت العظمة والكبرياء، فتنشق الأرواح وتزلزل القلوب من وقوع نور هيبته عليها، وبهذا الوصف وصف قلوب المقرّبين عند نزول خطاب الهيبة، قال الله تعالى‏:‏

‏{‏حتى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 23‏]‏ الآية‏.‏ قال بعضهم‏:‏ خطاب الأمر إذا وقع على الهياكل فهي بين مطيع وعاصٍ، وخطاب الهيبة إذا وردت تفني وتُعجز الإقرار معه كقوله‏:‏ ‏{‏إذا السماء انشقت‏}‏ وَرَدَ عليها صفةُ الهيبة فانشقت وأذِنَتْ لربها وأطاعت وانقادت، وحُق لها ذلك، وهو الذي أوجدها‏.‏ ه وإذا الأرض أرض البشرية مُدت، أي‏:‏ بُسطت ولانت لأحكام الربوبية بالمجاهدة والرياضة، وألقت ما فيها من الخبائث والعيوب، وتخلّت عنها، وأذنت لربها في أحكام العبودية والعبادة، وحُقَّتْ بذلك؛ لأنَّ في ذلك شرفَها وعزَّها، وجواب «إذا» محذوف، أي‏:‏ كان من الأسرار والأنوار والمعارف ما لا يدخل تحت دوائر العبارة، ولا تحيط به الإشارة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 15‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ‏(‏6‏)‏ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ‏(‏7‏)‏ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ‏(‏8‏)‏ وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا ‏(‏9‏)‏ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ ‏(‏10‏)‏ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا ‏(‏11‏)‏ وَيَصْلَى سَعِيرًا ‏(‏12‏)‏ إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا ‏(‏13‏)‏ إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ ‏(‏14‏)‏ بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا ‏(‏15‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يا أيها الإِنسانُ‏}‏ خطاب الجنس ‏{‏إِنك كادِحٌ إِلى ربك كَدْحاً فمُلاقِيهِ‏}‏ أي‏:‏ جاهدٌ جادٌّ في السير إلى ربك‏.‏ فالكدح في اللغة‏:‏ الجد والاجتهاد، أي‏:‏ إنك في غاية الاجتهاد في السير إلى ربك، لأنَّ الزمان يطير طيراً وأنت في كل لحظة تقطع حظًّا من عمرك القصير، فإنك سائر مسرع إلى الموت، ثم تلاقي ربك‏.‏ قال الطيبي عن الإمام‏:‏ في الآية نكتة لطيفة، وهي‏:‏ أنها تدل على انتهاء الكدح والتعب للمؤمن بانتهاء هذه الحياة الدنيوية، ويحصل بعد ذلك محض سعادته وراحته الأبدية‏.‏ ه‏.‏

قلتُ‏:‏ إن كان كدحه في طلب مولاه؛ حصل له بعد موته دوام الوصال، وصار إلى روح وريحان، وجنات ورضوان، وإن كان كدحه في طلب الحُور والقصور، بُشّر بدوام السرور، وربما اتصلت روحه بما كان يتمنى، وإن كان كدحه في طلب الدنيا مع إقامة الدين أفضى إلى الراحة من تعبه، وإن كان في طلب الحظوظ والشهوات مع التقصير، انتقل من تعب إلى تعبٍ والعياذ بالله‏.‏ وقال أبو بكر بن طاهر‏:‏ إنك تُعامل ربك معاملة ستعرض عليك في المشهد الأعلى، فاجتهد ألاَّ تخجَل من معاملتك مع خالقك‏.‏ أه‏.‏

ثم فصّل ما يلقى بعد اللقاء فقال‏:‏ ‏{‏فأمّا مَن أوتي كتابه بيمينه‏}‏ أي‏:‏ كتاب عمله ‏{‏فسوف يُحاسب حساباً يسيراً‏}‏؛ سهلاً هيناْ، وهو الذي يُجازي على الحسنات ويتجاوز عن السيئات‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «مَن يحاسَب عُذِّب» فقيل له‏:‏ فأين قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فسوف يُحاسب حساباً يسيراً‏}‏ فقال‏:‏ «ذلكم العرض، مَن نُوقش الحساب عُذِّب» والعرض‏:‏ أن يُقال له‏:‏ فعلتَ كذا وفعلتَ كذا، ثم يُقال له‏:‏ سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم‏.‏ ‏{‏وينقلبُ إِلى أهله‏}‏ أي‏:‏ إلى عشيرته إن كانوا مؤمنين، أو‏:‏ إلى فريق المؤمنين، أو‏:‏ إلى أهله في الجنة من الآدمية أو الحور والغلمان، أو‏:‏ إلى مَن سبقه من أهله أو عشيرته، إن قلنا‏:‏ إنَّ الكتاب يُعطى بمجرد اللقاء في البرزخ، فإنَّ الأرواح بعد السؤال تلحق بأهلها وعشيرتها، حسبما تقدّم في الواقعة‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مسروراً‏}‏ أي‏:‏ مبتهجاً بحاله، قائلاً‏:‏ ‏{‏هَآؤُمُ اقرؤا كِتَابيَهْ‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 19‏]‏ أو‏:‏ مسروراً بلقاء ربه ودوام وصاله‏.‏

تنبيه‏:‏ الناس في الحساب على أقسام، منهم مَن لا حساب عليهم ولا عتاب، وهم العارفون المقربون، أهل الفناء في الذات ومنهم مَن يُحاسب حساباً يسيراً، وهم الصالحون الأبرار، ومنهم مَن يُناقش ويُعذِّب ثم ينجو بالشفاعة، وهم عصاة المؤمنين ممن ينفذ فيهم الوعيد، ومنهم مَن يُناقش ويخلد في العذاب، وهم الكفرة، وإليهم أشار بقوله‏:‏

‏{‏وأمّا مَن أُوتي كتابَه وراء ظهره‏}‏، قيل‏:‏ تغلّ يُمناه إلى عنقه، وتُجعل شماله وراء ظهره‏.‏ وقيل‏:‏ يثقب صدره وتخرج منه إلى ظهره، فيعطى كتابه بها وراء ظهره، ‏{‏فسوف يَدعو ثبُوراً‏}‏ يقول‏:‏ واثبوراه‏.‏

والثبور‏:‏ الهلاك، ‏{‏ويَصْلَى سعيراً‏}‏ أي‏:‏ يدخلها، ‏{‏إِنه كان‏}‏ في الدنيا ‏{‏في أهله‏}‏ أي‏:‏ معهم ‏{‏مسروراً‏}‏ بالكفر، يضحك على مَن آمن بالبعث‏.‏ وقيل‏:‏ كان لنفسه متابعاً، وفي هواه راتعاً، ‏{‏إِنه ظنّ أن لن يَحُورَ‏}‏؛ لن يرجع إلى ربه، تكذيباً بالبعث‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ما عرفتُ تفسيره حتى سمعت أعرابية تقول لبنتها‏:‏ حُوري‏.‏ أي‏:‏ ارجعي‏.‏ ‏{‏بلى‏}‏ جواب النفي، أي‏:‏ يرجع لا محالة، ‏{‏إِنَّ ربه كان به بصيراً‏}‏ أي‏:‏ إنَّ ربه الذي خلقه كان به وبأعماله الموجبة للجزاء «بصيراً» بحيث لا تخفى عليه منها خافية، فلا بد من رجعه وحسابه عليها حتماً‏.‏

الإشارة‏:‏ يا أيها الإنسان الطالب الوصول، إنك كادح إلى ربك كدحاً بالمجاهدة والمكابدة فمُلاقيه بالمشاهدة المعاينة في مقام الفناء والبقاء، فأمّا مَن أُوتي كتابه السابق له في الأزل «بيمينه» بكونه من أهل اليمين والسعادة «فسوف يُحاسب حساباً يسيراً» فيُؤدب في الدنيا إن وقع منه سوء أدب، «وينقلب إلى أهله» إخوانه في الله «مسروراً» بوصوله إلى مولاه‏.‏ قال الورتجبي‏:‏ مسروراً بلقاء ربه، وما نال من قُربه ووصاله، وهذا للمتوسطين، ومَن بلغ إلى حقيقة الوصال وصار أهلاً له لا ينقلب عنه إلى غيره‏.‏ ه‏.‏ وأمّا مَن أُوتي كتابه السابق بخذلانه في الأزل، وراء ظهره، بحيث غفل عن التوجه إلى الله، واتخذه وراء ظهره، فسوف يدعو ثبوراً، فيتمنى يوم القيامة أن لم يكن شيئاً ويصلى سعير القطيعة والبُعد إنه كان في أهله مسروراً منبسطاً في الدنيا، مواجَهاً بالجمال من أهله وعشيرته، ليس له مَن يؤذيه، وهذا من علامة الاستدراج، ولذلك لا تجد وليًّا إلاَّ وله مَن يُؤذيه، يُحركه إلى ربه، قال بعض الصوفية‏:‏ قَلَّ أن تجد وليًّا إلاَّ وتحته امرأة تؤذيه‏.‏ ه‏.‏ «إنه» أي‏:‏ الجاهل ظنّ أن لن يحور إلى ربه في الدنيا ولا في الآخرة، بل يرده اللهُ ويُحاسبه على النقير والقطمير، إنه كان به بصيراً بظاهره وباطنه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 25‏]‏

‏{‏فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ ‏(‏16‏)‏ وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ ‏(‏17‏)‏ وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ ‏(‏18‏)‏ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ ‏(‏19‏)‏ فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏20‏)‏ وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآَنُ لَا يَسْجُدُونَ ‏(‏21‏)‏ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ ‏(‏22‏)‏ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ ‏(‏23‏)‏ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏24‏)‏ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ‏(‏25‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏فلا أُقسم بالشفقِ‏}‏ وهي الحُمرة التي تُشاهد في أفق المغرب بعد الغروب، أو‏:‏ البياض الذي يليها، سمي به لرقَّته، ومنه‏:‏ الشفقة التي هي رقة القلب‏.‏ ‏{‏والليلِ وما وَسَقَ‏}‏؛ وما جمع وضمَّ، يقال‏:‏ وسقه فاتسق، أي‏:‏ جمعه فاجتمع، أي‏:‏ وما جمعه من الدواب وغيرها، أو‏:‏ ما جمعه من الظلمة والكواكب، وما عمل فيه من التهجد، ‏{‏والقمرِ إِذا اتَّسَقَ‏}‏ أي‏:‏ اجتمع ضوؤه وتمّ نوره ليلة أربع عشرة‏.‏

‏{‏لتَرْكَبُنَّ طبقاً عن طبق‏}‏؛ لتُلاقُن حالاً بعد حال، كل واحدة منها مطابقة لأختها في الشدّة والفظاعة كأحوال شدائد الموت، ثم القبر، ثم البعث، ثم الحشر، ثم الحساب، ثم الميزان، ثم الصراط‏.‏ أو‏:‏ حالاً بعد حال، النطفة، ثم العلقة، ثم المضغة، ثم الجنين، ثم الخروج إلى الدنيا، ثم الطفولة، ثم الكهولة، ثم الشيخوخة، ثم الهرم، ثم الموت‏.‏‏.‏ وما ذكر بعده آنفاً إلى دخول الجنة أو النار‏.‏ وقال بعض الحكماء‏:‏ يشتمل الإنسان من كونه نطفة إلى أن يَهرم على نيف وثلاثين اسماً‏:‏ نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظاماً، ثم خلقاً آخر، ثم جنيناً، ثم وليداً، ثم رضيعاً، ثم فطيماً، ثم يافعاً، ثم ناشئاً، ثم مترعرعاً، ثم مزوِّراً، ثم مراهقاً، ثم محتلماً، ثم بالغاً، ثم حَمَلاً، ثم ملتحياً، ثم مستوفياً، ثم مصعَداً، ثم مجتمعاً والشباب يجمع ذلك ثم مَلْهوراً، ثم كهلاً، ثم أشمط، ثم شيخاً، ثم أشيب، ثم حَوْقلاً، ثم مُقتاتاً، ثم هما، ثم هرماً، ثم ميتاً‏.‏ وهذا معنى قوله‏:‏ ‏{‏لتَرْكَبُنَّ طبقاً عن طبق‏}‏‏.‏ ه‏.‏ من الثعلبي‏.‏ أو‏:‏ لتركبن سنن مَن قبلكم، حالاً بعد حال‏.‏

هذا على مَن قرأ بضم الباء، وأمّا مَن قرأ بفتحها فالخطاب إمّا للإنسان المتقدم، فيجري فيه ما تقدّم، أو‏:‏ للنبي صلى الله عليه وسلم، أي‏:‏ لتركبَن مكابدة الكفار حالاً بعد حال، أو‏:‏ لتركبَن فتح البلاد شيئاً بعد شيء، أو‏:‏ لتركبَن السماوات في الإسراء، سماء بعد سماء‏.‏ أو‏:‏ لتركبَن أحوال أيامك، حالاً بعد حال، حال البعثه، ثم حال الدعوة، ثم حال الهجرة، ثم حال الجهاد وفتح البلاد، ثم حال الحج وتوديع العباد، ثم حال الرحيل إلى دار المقام، ثم حال الشفاعة، ثم حال المقام في دار الكرامة‏.‏ فالطبق في اللغة يُطلق على الحال، كما قال الشاعر‏:‏

الصبر أجمل والدنيا مفجعةٌ *** مَن ذا الذي لم يزوّر عيشه رنقا

إذا صفا لك من مسرورها طبق *** أهدى لك الدهر من مكروهها طبقا

ويطلق على الجيل من الناس يكون طباق الأرض، أي‏:‏ ملأها، ومنمهم قول العباس في النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏

تَنقَّل من صَالبٍ إلى رَحمٍ *** إذا مَضَى عَالَمٌ بَدَا طَبَقُ

ومحل ‏(‏عن طبق‏)‏‏:‏ النصب، على أنه صفة لطبق، أي‏:‏ طبقاً مجاوزاً لطبق، أو‏:‏ حال من الضمير في «لتركبن» أي‏:‏ مجاوزين لطبق‏.‏

‏{‏فما لهم لا يؤمنون‏}‏، الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، من أحوال يوم القيامة وأهوالها، أي‏:‏ إذا كان الأمر يوم القيامة كما ذكر، فأيّ شيء حصل لهم حال كونهم غير مؤمنين، أي‏:‏ أيّ شيء يمنعهم من الإيمان، وقد تعاضدت موجباته‏؟‏ ‏{‏وإِذا قُرىءَ عليهم القرآنُ لا يسجدون‏}‏ ولا يخضعون، وهي أيضاً جملة حالية، نسقاً على ما قبلها، أي‏:‏ أيّ‏:‏ مانع لهم حال عدم سجودهم وخضوعهم واستكانتهم عند قراءة القرآن‏؟‏‏.‏ قيل‏:‏ قرأ النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم‏:‏ ‏{‏وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 19‏]‏ فسجد هو ومَن معه من المؤمنين، وقريش تُصَفِّق فوق رؤوسهم وتُصفِّر، فنزلت‏.‏ وبه احتجّ أبو حنيفة على وجوب السجدة وعن ابن عباس‏:‏ «ليس في المفصل سجدة»، وبه قال مالك‏.‏ وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سجد فيها، وقال‏:‏ «والله ما سجدت إلاّ بعد أن رأيت النبي صلى الله عليه وسلم سجد فيها»، وعن أنس رضي الله عنه‏:‏ «صليتُ خلف أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم فسجدوا»‏.‏ ولعلهم لم يبلغهم نسخ سجدتها‏.‏

‏{‏بل الذين كفروا يُكذّبون‏}‏ بالقرآن الناطق بما ذكر من أحوال القيامة وأهوالها، مع تحقُّق موجبات تصديقهم، ولذلك لا يخضعون عند تلاوته ‏{‏واللهُ أعلم بما يُوعدون‏}‏؛ بما يُضمرون في قلوبهم، ويُخفون في صدورهم من الكفر والحسد والبغي والبغضاء، أو‏:‏ بما يجمعون في صحفهم من أعمال السوء، ويدّخرون لأنفسهم من أنواع العذاب، ‏{‏فبشَّرهم بعذابٍ أليمٍ‏}‏؛ أخبرهم يظهر أثره على بشرتهم، ‏{‏إِلاَّ الذين آمنوا وعمِلوا الصالحات‏}‏، استثناء منقطع، ‏{‏لهم أجرٌ غيرُ ممنونٍ‏}‏؛ غير مقطوع، أو غير ممنونٍ به‏.‏

الإشارة‏:‏ أقسم تعالى بنور بداية الإيمان ونهايته، وما اشتمل عليه ليل الحجاب من أنواع العُمال، فقال تعالى «فلا أُقسم بالشفق»؛ بنور بداية الإيمان، الذي هو كبياض الشفق، «والليل وما وسق»؛ وليل الحجاب، وما اشتمل عليه من العُبّاد والزُهّاد والأبرار والعلماء الأتقياء، وقمر الإيمان إذا جنح نوره، وقَوِيَ دليله «لتَركبُن» أيها السالكون، طبقاً عن طبق؛ حالاً بعد حال، حتى تنتهوا إلى شمس العيان، فأول الأحوال‏:‏ حال التوبة، ثم حال اليقظة، ثم حال المجاهدة في خرق عوائد النفس، ثم حال المراقبة، ثم حال الاستشراف، على الحضرة، ثم حال المشاهدة، ثم حال المعاينة، ثم حال المكالمة، ثم حال الترقِّي إلى ما لا نهاية له‏.‏ فما لهم، أي‏:‏ لأهل الإنكار، لا يؤمنون بسلوك هذا الطريق، وإذا قُرىء عليهم القرآن الدالّ على هذا المنهاج لا يخضعون ولا يتدبرونه حق تدبيره، بل الذين كفروا بطريق الخصوص، يُكّبون بها‏.‏ والله أعلم بما يوعون في قلوبهم من الأمراض والعيوب، أو من الإنكار فبشِّرهم بعذاب البُعد والحجاب، إلاَّ الذين آمنوا وصدّقوا بطريق الخصوص، وسَلَكوها معهم، لهم آجر، وهو مقام الشهود، غير ممنون؛ غير مقطوع، بل تترادف الأنوار والأسرار والكشوفات إلى غير نهاية، أو‏:‏ غير ممنون به، بل مواهب من الله بلا مِنّة‏.‏ وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم‏.‏

سورة البروج

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 10‏]‏

‏{‏وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ ‏(‏1‏)‏ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ ‏(‏2‏)‏ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ ‏(‏3‏)‏ قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ ‏(‏4‏)‏ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ ‏(‏5‏)‏ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ ‏(‏6‏)‏ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ ‏(‏7‏)‏ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ‏(‏8‏)‏ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ‏(‏9‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ‏(‏10‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏والسماءِ ذات البروج‏}‏ الأثني عشر، وهي الحَمَل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدلو، والحوت‏.‏ شُبهت بالقصور لأنها تنزلها السيارة، وتكون فيها الثوابت ومنازل القمر، أو‏:‏ عُظْم الكواكب، سُميت بروجاً لظهورها، من‏:‏ التبرُّج، أي الظهور، أو‏:‏ أبواب السماء، فإنَّ النوازل تخرج منها، ‏{‏واليومِ الموعودِ‏}‏ أي‏:‏ يوم القيامة‏.‏

‏{‏وشاهدٍ ومشهودٍ‏}‏ أي‏:‏ وشاهد في ذلك اليوم ومشهود فيه، والمراد بالشاهد‏:‏ مَن يشهد فيه من الخلائق كلهم، وبالمشهود فيه‏:‏ ما في ذلك اليوم من عجائبه وأهواله، إذا أُريد بالشهود‏:‏ الحضور، وإذا أريد الشهادة، فيُقَدّر المعمول، أي‏:‏ مشهود عليه أو مشهود به‏.‏ وقد اضطربت الأقوال في الشاهد والمشهود، فقيل‏:‏ الشاهد‏:‏ أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والمشهود‏:‏ سائر الأمم؛ لأنه يشهدون عليهم كما تقدّم وقيل‏:‏ الشاهد‏:‏ عيسى عليه السلام، والمشهود‏:‏ أمته، لقوله‏:‏ ‏{‏وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 117‏]‏، وقيل‏:‏ الشاهد‏:‏ جميع الأنبياء، والمشهود‏:‏ أممهم، وقيل‏:‏ الشاهد‏:‏ الملائكة الحفظة، والمشهود‏:‏ الناس، لأنهم يشهدون عليهم يوم القيامة‏.‏ وقيل‏:‏ الشاهد‏:‏ الجوارح، والمشهود عليهم‏:‏ أصحابها وقيل‏:‏ الشاهد‏:‏ الله والملائكة وأولو العلم، والمشهود به‏:‏ الوحدانية، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 18‏]‏ الخ‏.‏ وقيل‏:‏ الشاهد‏:‏ جميع المخلوقات، والمشهود به‏:‏ وجود خالقها وإثبات صفاته من الحياة والقدرة‏.‏‏.‏‏.‏ وغير ذلك‏.‏

وقيل‏:‏ الشاهد‏:‏ النجم، للحديث‏:‏ «لا صلاة بعد العصر حتى يطلع الشاهد» أي‏:‏ النجم والمشهود‏:‏ الليل، لأن النجم يشهد بانقضاء النهار ودخول الليل‏.‏ وقيل‏:‏ الشاهد‏:‏ الحجر الأسود، والمشهود‏:‏ الناس يحجون، لأنه يشهد عليهم يوم القيامة لمَن قَبّله أو لمسه‏.‏ وقيل‏:‏ الشاهد‏:‏ يوم الجمعة، والمشهود‏:‏ يوم عرفة، لأنَّ يوم الجمعة يشهده بالأعمال، ويوم عرفة يشهده الناس، وهذا مروي عنه صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقيل‏:‏ الشاهد‏:‏ يوم عرفة، والمشهود‏:‏ يوم النحر‏.‏ قاله عليّ رضي الله عنه، انظر ابن جزي‏.‏ وقيل‏:‏ الشاهد‏:‏ الأيام والليالي، والمشهود‏:‏ بنو آدم، للحديث «ما من يوم إلاَّ وينادي‏:‏ أنا يوم جديد، وعلى ما يُفعل به شهيد، فاغتنمني» وكذلك تقول الليلة، وأنشدوا‏:‏

مضى أمْسُك الماضي شهيداً معدّلاً *** وخُلّفتَ في يوم عليك شهيدُ

فإن كنت بالأمس اقترفت إساءة *** فَثَنهْ بإحسانٍ وأنت حميدُ

ولا تُرْج فعْل الخير يوماً إلى غدٍ *** لعل غداً يأتي وأنت فقيدُ

فيومُك إن أتعبتَه نفعه غدا *** عليك وماضي العَيْش ليس يعودُ

وجواب القسم إمّا محذوف يدلّ عليه‏:‏ ‏{‏قُتل‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ، كأنه قيل‏:‏ أقسم بهذه الأشياء أنّ كفار قريش ملعونون كما لُعن ‏{‏أصحابُ الأخدود‏}‏ أو‏:‏ هو قتل بعينه على حذف اللام، لطول الكلام، أي‏:‏ لقد قُتل أصحاب الأخدود، والمراد‏:‏ تثبيت المؤمنين على ما هم عليه من الإيمان، وتصبيرهم على أذى الكفرة، وتذكيرهم بما جرى على مَن تقدمهم من التعذيب، وصبرهم على ذلك، حتى يأنسوا ويصبروا على ما كانوا يلقون من قومهم، ويعلموا أنَّ هؤلاء الكفرة بمنزلة أولئك، ملعونون مثلهم‏.‏

والأخدود‏:‏ الخد في الأرض، أي‏:‏ الشق‏.‏

رُوي في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «كان لبعض الملوك ساحر، فلمّا كبر، قال للملك‏:‏ قد كبرتُ فابعث إليّ غلاماً أعلّمه السحر، فضمّ إليه غلاماً ليعلّمه، وكان في طريق الغلام راهبٌ، فسمع منه وأعجبه، وكان يحتبس عنده، فيضربه الساحرُ، فقال له الراهبُ‏:‏ إذا خشيت الساحرَ، فقل له‏:‏ حبسني أهلي، وإذا خشيتَ أهلك، فقل‏:‏ حبسني الساحرُ، فرأى في طريقه ذات يوم دابة قد حبست الناس، وقيل‏:‏ كانت أسداً، وقيل‏:‏ ثُعباناً، فأخذ حجراً، وقال‏:‏ اللهم إن كان الراهب أحبّ إليك من الساحر فاقتلها، فقتلها، وكان الغلام تعلَّم من الساحر اسم الله الأعظم، فكان الغلام يُبرىء الأكمه والأبرص، ويشفي من الأدواء، فعمي جليس الملكُ فأبراه، وأبصره الملكُ، فقال‏:‏ مَن ردَّ عليك بصرك‏؟‏ فقال‏:‏ ربي، فغضب، فعذّبه، فدلّ على الغلام، فعذّبه، فدلّ على الراهب، فلم يرجع عن دينه، فقدّ بالمنشار، وأبى الغلامُ، فذهب به إلى جبل ليطرح من ذروته فدعا، فرجف بالقوم، فطاحوا، ونجا، فذهب به إلى قُرْقُورة وهي السفينة فلجَجوا به ليغرقوه، فدعا، فانكفأتْ بهم السفينةُ، فغرقوا، ونجا، فقال للملك‏:‏ لستَ بقاتلي حتى تجمع الناسَ في صعيد، وتصلبني على جذع، وتأخذ سهماً من كنانتي، وتقول‏:‏ بسم الله ربّ الغلام، ثم ترميني به، فرماه فوقع في صدغه، فوضع يده عليه ومات‏.‏ فقال الناس‏:‏ آمنا بربّ الغلام، فقيل للملك‏:‏ نزل بك ما كنت تحذر، فخدّ أخدوداً، فملأها ناراً، فمَن لم يرجع عن دينه طرحه فيها، حتى جاءت امرأة معها صبيٌّ، فتقاعست، فقال الصبيّ‏:‏ يا أماه‏!‏ اصبري، فإنك على الحق، فاقتحمت بصبيها‏.‏ وقيل لها‏:‏ قعي ولا تنافقي، ما هي إلاّ غميضة» والحديث في صحيح مسلم‏.‏

واسم الغلام‏:‏ عبد الله بن الثامر، واسم الراهب‏:‏ فيميون، واسم الملك‏:‏ ذو نواس‏.‏ وقد ذكر القصة الكلاعي بتمامها‏.‏ وقيل‏:‏ تعددت قضية الأخدود، فكانت واحدة بنجران باليمن، والأخرى بالشام، والأخرى بفارس، فنزل القرآن في الذي بنجران‏.‏ انظر التثعلبي‏.‏ قال سعيد بن المسيب‏:‏ كنا عند عمر، إذ ورد عليه أنهم وجدوا ذلك الغلام حين حفروا خربة، وأُصْبعه على صُدْغِه كما قتل، فكلما مدت يده رجعت مكانها، فكتب عمر‏:‏ أن واروه حيث وجدتموه‏.‏ ه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏النارِ‏}‏؛ بدل اشتمال من «الأخدود» فحذف الضمير، اي‏:‏ فيه، وقيل‏:‏ قاعدة الضمير أغلبية، و‏{‏ذات الوقود‏}‏ وصَفٌ لها بغاية العظم، وارتفاع اللهب، وكثرة ما يوجبه من الحطب وأبدان الناس، ‏{‏إِذ هم عليها قعودٌ‏}‏؛ ظرف لقُتل، أي‏:‏ لُعنوا حين حرّقوا المؤمنين بالنار، قاعدين عليها في مكان مشرف عليها من جنبات الأخدود، ‏{‏وهم على ما يفعلون بالمؤمنين‏}‏ من الإحراق ‏{‏شُهودٌ‏}‏ يشهد بعضهم لبعض عند الملك أنَّ أحداً منهم لم يُقَصِّر فيما أمر به، وفوّض إليه من التعذيب، أو‏:‏‏:‏ إنهم ‏{‏شهود‏}‏ يشهدون بما فعلوا بالمؤمنين يوم القيامة، يوم تشهد عليهم ألسنتُهم، وقيل‏:‏ «على» بمعنى «مع» أي‏:‏ وهم مع ما يفعلون بالمؤمنين من العذاب حضور، ولا يَرقّون لهم، لغاية قسوة قلوبهم‏.‏

وهذا هو الذي يستدعيه النظم الكريم، وتنطق به الروايات المشهورة‏.‏

وقد رُوي أنَّ الجبابرة لمّا ألقوا بالمؤمنين في النار، وهم قعود عليها، علقت بهم النار، فاحترقوا، ونجّا اللهُ المؤمنين سالمين، وإلى هذا القول ذهب الربيعُ بن أنس والواحدين وعلى ذلك حملا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولهم عذاب الحريق‏}‏‏.‏

‏{‏وما نَقَمُوا منهم‏}‏ أي‏:‏ وما عابوا منهم وأنكروا عليهم، يقال‏:‏ نقم بالفتح والكسر‏:‏ عاب، أي‏:‏ عابوا منهم ‏{‏إِلاَّ أن يؤمنوا بالله‏}‏ وهذا كقول الشاعر‏:‏

ولا عَيْبَ فيهم غير أنَّ سيوفهم *** بهن فُلولٌ من قِرَاع الكتائبِ

وكقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا الله‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 40‏]‏ وعبّر بلفظ المضارع، ولم يقل‏:‏ إلاَّ أن آمنوا، مع أنَّ القصة قد وقعت، لإفادة أنَّ التعذيب إنما كان دوامهم على الإيمان، ولو كفروا بالرجوع عن الإيمان في المستقبل لم يعذبوهم‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏العزيزِ الحميدِ‏}‏، ذكر الأوصاف الذي يستحقّ بها أن يؤمن به، وهو كونه عزيزاً غالباً قادراً، يُخشى عقابه، حميداً منعماً، يجب له الحمد على نعمته ويرجى ثوابه، ليقرر أنَّ وصف الإيمان الذي عابوا منهم وصف عظيمٌ، له جلالة، وأنَّ مَن رام صاحبه بالانتقام والعيب كان مبطلاً مبالغاً في الغي، يستحق أن ينتقم منه بعذاب لا يُقادر قدره‏.‏

‏{‏الذي له ملك السمواتِ والأرض‏}‏ فكل مَن فيها يحق عليه عبادته والخضوع له، ‏{‏واللهُ على كل شيءٍ شهيدٌ‏}‏ وعيد لهم شديد، يعني‏:‏ أنه تعالى عَلِمَ بما فعلوا وسيجازيهم عليه‏.‏

‏{‏إِنَّ الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات‏}‏ أي‏:‏ محقوهم في دينهم ليرجعوا عنه، والمراد بهم‏:‏ إمّا أصحاب الأخدود خاصة، وبالمفتونين‏:‏ المطروحين في الأخدود، وإمّا الذين بَلوْهم في ذلك بالإذاية والتعذيب على الإطلاق، وهم داخلون في جملتهم دخولاً أولياً‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ الأشبه أنَّ المراد بهؤلاء قريش، حيث طانوا يُعَذَّبون مَن أسلم، ويقويه بعض التقوية‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم لم يتوبوا‏}‏ لأنه رُوي‏:‏ أنّ أصحاب الأخدود ماتوا على كفرهم، وأمّا قريش فكان منهم مَن تاب بعد نزول الآية‏.‏ ه‏.‏ مختصراً‏.‏ ‏{‏فلهم عذابُ جهنَّمَ‏}‏ في الآخرة لكفرهم، ‏{‏ولهم عذابُ الحريق‏}‏ في الدنيا لِما تقدّم أن النار انقلبت عليهم فأحرقتهم، أو‏:‏ عذاب الحريق‏:‏ نار أخرى عظيمة تحرقهم في الآخرة، لسبب فتنتهم للمؤمنين‏.‏ والجملة‏:‏ خبر «إن» ودخلت الفاء لتضمين المبتدأ معنى الشرط، ولا ضَرَرَ في نسخة ب «إنَّ» وإن خالف في ذلك الأخفش‏.‏

الإشارة‏:‏ والسماء ذات البروج، أي‏:‏ سماء الحقائق، صاحبة المنازل التي تنزل فيها السالك في ترقِّبه إليها، مَن أرض الشرائع، كمقام التوبة، ثم الصبر، ثم الورع، والزهد، ثم التكُّل، ثم الرضا والتسليم، ثم المراقبة، ثم المشاهدة، واليوم الموعود يوم الفتح الأكبر، وهو وقت الخروج من شهود الكون إلى شهود المكوِّن، وشاهد هو الذي يشهد ذات الحق عياناً، ومشهود، هو عظمة الذات العلية وأسرارها وأنوارها‏.‏ وقال الورتجبي‏:‏ الشاهد هو والمشهود هو، يرى نفسه بنفسه، أي‏:‏ لا يراه أحد بالحقيقة سواه، وأيضاً‏:‏ الشاهد هو، إذا تجلّى بتجلِّي الجمال والحس، والمشهود قلوب العارفين شاهَدَها بنعت الكشف، وأيضاً‏:‏ اشاهد هو قلوب المحبين، والمشهود لقاؤه، وهو شاهدهم وهو مشهودهم، هو شاهد العارف والعارف شاهده‏.‏ ه‏.‏ قُتل أصحابُ الأخدود، وهم الصادُّون عن طريق الحق أينما كانوا وكيف كانوا، المعذِّبون لأهل التوجه، وما نقموا منهم إلاّ طلب كمال الإيمان، وتحقيق الإيقان‏.‏ إنّ الذي فتنوا أهل التوجه ثم لم يتوبوا فلهم عذاب البُعد ولهم عذاب الاحتراق بالحرص والتعب والخوف والجزع‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 22‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ ‏(‏11‏)‏ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ ‏(‏12‏)‏ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ ‏(‏13‏)‏ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ‏(‏14‏)‏ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ ‏(‏15‏)‏ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ‏(‏16‏)‏ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ ‏(‏17‏)‏ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ ‏(‏18‏)‏ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ ‏(‏19‏)‏ وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ ‏(‏20‏)‏ بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ ‏(‏21‏)‏ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ‏(‏22‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إِنّ الذين آمنوا‏}‏ وصبروا على الإيمان ‏{‏وعَمِلوا الصالحات‏}‏ من المفتونين وغيرهم ‏{‏لهم‏}‏ بسبب ذلك الإيمان والعمل الصالح ‏{‏جناتٌ تجري من تحتها الأنهارُ‏}‏، إن أُريد بالجنات الأشجار فجريان الأنهار من تحتها ظاهر، وإن أُريد بها الأرض المشتملة عليها فالتحتية باعتبار جريها الظاهرة، فإنَّ أشجارها ساترة لساحتها، كما يعرب عنه اسم الجنة‏.‏ ‏{‏ذلك هو الفوزُ الكبير‏}‏ الذي تصغر عنده الدنيا وما فيها من فنون الرغائب بحذافيرها، والفوز‏:‏ النجاة من الشر والظفر بالخير‏.‏ والإشارة إمّا إلى الجنة الموصوفة بما ذكر والتذكير لتأويلها بما ذكر، وإمّا إلى ما يفيده قوله‏:‏ ‏{‏لهم جنات‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ، من حيازتهم لها، فإنَّ حصولها لهم مستلزم لحيازتهم لها قطعاً، وما فيه من البُعد للإيذان بعلو درجته، وبُعد منزلته في الفضل‏.‏ ومحله‏:‏ الرفع، وخبره‏:‏ ما بعده‏.‏

‏{‏إِنَّ بطشَ ربك لشديدٌ‏}‏، البطش‏:‏ الأخذ بعنف، فإذا وُصف بالشدة فقد تفاقم وتعاظم أمره‏.‏ والمراد‏:‏ أخذ الظلمة والجبابرة بالعذاب والانتقام، وهو استئناف، خواطب به النبي صلى الله عليه وسلم إيذاناً بأنَّ لكفار قوهه نصيباً موفوراً من مضمونه، كما يُنبىء عنه التعرُّض لعنوان الربوبية مع الإضافة لضميره صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏{‏إِنه هو يُبدىء ويُعيد‏}‏ أي‏:‏ هو يُبدىء الخلق وهو يُعيده، من غير دخلٍ لأحد في شيء منها‏.‏ ففيه مزيد تقرير لشدة بطشه، فقد دلّ باقتداره على البدء والإعادة على شدة بطشه، أو‏:‏ هو يُبدىء البطش بالكفرة في الدنيا ويُعيده في الآخرة‏.‏ ‏{‏وهو الغفورُ‏}‏ الساتر للعيوب، الغافر للذنوب، ‏{‏الودودُ‏}‏ المحب لأوليائه، أو‏:‏ الفاعل بأهل طاعته ما يفعله الودود، من إعطائهم ما أرادوا، ‏{‏ذو العرش‏}‏ أي‏:‏ خالقه ومالكه، وقيل‏:‏ المراد بالعرش‏:‏ المُلك، أي‏:‏ ذو السلطة القاهرة ‏{‏المجيدُ‏}‏ بالجر صفة للعرش، وبالرفع صفة لذُو، أي‏:‏ العظيم في ذاته، فإنه واجب الوجود، تام القدرة ‏{‏فعَّالٌ لما يُريد‏}‏ بحيث لا يتخلّف عن إرادته مراد من أفعاله تعالى وأفعال عباده، ففيه دلالة على خلق أفعال العباد، وهو خبر عن محذوف‏.‏

‏{‏هل أتاك حديثُ الجنود‏}‏ أي‏:‏ قد أتاك حديث الطاغية والأمم الخالية‏.‏ وهو استفهام تشويق مقرر لشدّة بشطه تعالى بالظَلَمة العصاة والكفرة العتاة‏.‏ وكونه فعال لما يُريد مع تسليته صلى الله عليه وسلم بأنه سيصيب قومه صلى الله عليه وسلم ما أصاب تلك الجنود‏.‏ ‏{‏فرعونَ وثمودَ‏}‏؛ بدل من الجنود؛ لأنَّ المراد بفرعون هو وقومه‏.‏ والمراد بحديثهم‏:‏ ما صدر منهم من التمادي على الكفر والضلال، وما حلّ بهم من العذاب والنكال، أي‏:‏ قد أتاك حديثهم، وعرفت ما فعل بهم، فذكّر قومك ببطش الله تعالى، وحذّرهم أن يُصيبهم مثل ما أصاب أمثالهم‏.‏

‏{‏بل الذين كفروا في تكذيبٍ‏}‏، إضراب عن مماثلتهم، وبيان لكونهم أشد منهم في الكفر والطغيان، كأنه قيل‏:‏ ليسوا مثلهم في ذلك، بل هم أشد منهم في استحقاق العذاب واستيجاب العقاب، فإنهم مستقرُّون في تكذيبٍ شديد للقرآن الكريم، أو كأنه قيل‏:‏ ليست جنايتهم مجرد عدم التذكُّر والاتعاظ بما سمعوا من حديثهم، بل هم مع ذلك في تكذيب شديدٍ للقرآن الناطق بذلك، لكن لا أنهم يكذبون بوقوع تلك الحادثات، بل لكون ما نطق به قرآناً من عند الله تعالى مع وضوح أمره، وظهور حاله، بالبينات الباهرة‏.‏

‏{‏واللهُ من ورائهم محيط‏}‏؛ عالم بأحوالهم، قادر عليهم، لا يفوتونه‏.‏ وهو تمثيل لعدم نجاتهم من بأس الله تعالى بعدم فوات المحاط المحيط‏.‏

‏{‏بل هو قرآن مجيد‏}‏ أي‏:‏ بل هذا الذي كذّبوا به قرآن شريف عالي الطبقة في الكتب السماوية، وفي نظمه وإعجازه، وهو رد لكفرهم وإبطال لتكذيبهم، وتحقيق للحق، أي‏:‏ ليس الأمر كما قالوا، بل هو كتاب شريف ‏{‏في لوح محفوظ‏}‏ من التحريف والتبديل‏.‏ وقرأ نافع بالرفع صفة للقرآن، والباقي بالجر صفة للوح، أي‏:‏ محفوظ من وصول الشياطين إليه‏.‏ واللوح عند الحسن‏:‏ شيء يلوح للملائكة يقرؤونه، وعن ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ هو من درّة بيضاء، طوله ما بين السماء والأرض، وعرضه ما بين المشرق والمغرب، قلمه نور، وكل شيءٍ فيه مسطور‏.‏ قال مقاتل‏:‏ هو عن يمين العرش، وقيل‏:‏ أعلاه معقود بالعرش، وأسفله في حِجْرِ ملَك كريم ه‏.‏

الإشارة‏:‏ إنَّ الذين آمنوا إيماناً حقيقيًّا شهوديًّا، وعملوا الصالحات بأيدي القلوب والأرواح والأسرار، يعني العمل الباطني، لهم جنات المعارف، تجري من تحتها أنهار العلوم والحِكم، ذلك هو الفوز الكبير والسعادة العظمى‏.‏ إنَّ بطش ربك بأهل الإنكار الجاحدين لأهل الخصوصية لَشَدِيد، وهو غم الحجاب وسوء الحساب، إنه هو يُبدىء ويُعيد، يُبدىء الحجاب للمحجوبين، ويُعيد الشهود للعارفين، وهو الغفور للتائبين المتوجهين، الودود للسائرين المحبين‏.‏ قال الورتجبي‏:‏ الغفور للجنايات، الودود بكشف المشاهدات‏.‏ ه‏.‏ ذو العرش‏:‏ ذو السلطة القاهرة على العوالم العلوية والسفلية‏.‏ قال الورتجبي‏:‏ وصف نفسه بإيجاد العرش، ثم وصف نفسه بالشرف والتنزيه، أي‏:‏ بقوله‏:‏ ‏{‏المجيد‏}‏ إعلاماً بأنه كان ولا مكان، والآن ليس في المكان، إذ جلاله وجماله منزَّه عن مماسة المكان، والحاجة إلى الحدثان‏.‏ ه‏.‏ قال القشيري‏:‏ ويجوز أن يكون المراد بالعرش‏:‏ قلب العارف المستَوي للرحمن، كما جاء الحديث‏:‏ «قلب العارف عرش الله» ه‏.‏

فعّال لما يُريد، يُقرِّب البعيد ويُبعد القريب إن شاء‏.‏ قال القشيري‏:‏ إنْ أراد أن يجعل أرباب الأرواح من أرباب النفوس فهو قادر على ذلك، وهو عادل في ذلك، وإن أراد عكس ذلك فهو كذلك‏.‏ ه‏.‏ فلذا كان العارف لا يزول اضطراره، ولا يكون مع غير الله قراره، هل أتاك حديث الجنود، أي‏:‏ جنود النفس التي تُحارب به الروح لتهوي بها إلى الحضيض الأسفل، ثم فسّرها بفرعون الهوى، وثمود حب الدنيا، والطبع الدني‏.‏ بل الذين كفروا بطريق الخصوص في تكذيب، لهذا كله، فلا يُفرقون بين الروح والنفس، ولا بين الفرق والجمع، والله من ورائهم محيط، لا يفوته شيء، لإحاطة المحيط بالأشياء ذاتاً وصفاتاً وفعلاً، بل هو أي‏:‏ ما يوحي إلى الأسرار الصافية، والأرواح الطاهرة قرآن مجيد في لوح محفوظ عن الخواطر والهواجس الظلمانية، وهو قلب العارف‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم‏.‏