فصل: تفسير الآية رقم (151)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***


تفسير الآية رقم ‏[‏151‏]‏

‏{‏سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ ‏(‏151‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏الرعب‏}‏‏:‏ الخوف، وفيه الضم والسكون، وهكذا كل ثلاثي ساكن الوسط، كالقدس والعسر واليسر، وشبه ذلك، و‏{‏بما أشركوا‏}‏‏:‏ مصدرية‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ سنقذف ‏{‏في قلوب الذين كفروا‏}‏ كأبي سفيان وأصحابه، ‏{‏الرعب‏}‏ والخوف، حتى يرجعوا عنكم بلا سبب، بسبب شركهم بالله ‏{‏ما لم ينزل به سلطاناً‏}‏ ولا حجة على استحقاق العبادة، ‏{‏ومأواهم النار‏}‏ أي‏:‏ هي مقامهم، ‏{‏وبئس مثوى الظالمين‏}‏ أي‏:‏ قبح مقامهم‏.‏ ووضع الظاهر موضع المضمر للتغليظ في العلة‏.‏

الإشارة‏:‏ فيها تسلية للفقراء، فإنَّ كل من هم بإذايتهم ألقى الله في قلبه الرعب، حتى لا يقدر أن يتوصل إليهم بشيء مما أمَّل فيهم، وقد رأيتهم هموا بقتلهم وضربهم وحبسهم، وسعوا في ذلك جهدهم، وعملوا في ذلك بينات على زعمهم، تُوجب قتلهم، فكفاهم الله أمرهم، وألقى الرعب في قلوبهم، فانقلبوا خائبين وماتوا ظالمين، والله ولي المتقين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏152‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏152‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ حسَّه‏:‏ إذا قتله وأبطل حسه، وجواب ‏{‏إذا‏}‏‏:‏ محذوف، أي‏:‏ حتى إذا فشلتم وتنازعتم وعصيتم امتحناكم بالهزيمة، والواو لا ترتب، والتقدير‏:‏ حتى إذا تنازعتم وعصيتم وفشلتم سلبنا النصر عنكم‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ولقد صدقكم الله‏}‏ ما وعدكم من النصر لو صبرتم واتقيتم، وذلك حين كنتم ‏{‏تحسونهم‏}‏ بالسيف، وتقتلونهم حتى انهزموا هاربين، بإذنه تعالى وإرادته، ‏{‏حتى إذا فشلتم‏}‏ أي‏:‏ جبنتم وضعف رأيكم وملتم إلى الغنيمة، ‏{‏وتنازعتم‏}‏ في الثبات مع الرماة حين انهزم المشركون، فقلتم‏:‏ الغنيمةَ الغنيمةَ، فما وقوفكم هنا‏!‏ وقال آخرون‏:‏ لا تخالفوا أمر الرسول، ثم تركتم المركز، ‏{‏وعصيتم الرسول من بعد ما أراكم ما تحبون‏}‏ من النصر والغنيمة، امتحناكم حينئذ بالهزيمة‏.‏

فمنكم ‏{‏من يريد الدنيا‏}‏ ليصرفها في الآخرة، وهم الذين خالفوا المركز وذهبوا للغنيمة، ‏{‏ومنكم من يريد الآخرة‏}‏ صِرفاً، وهم الثابتون مع عبد الله بن جبير، محافظةً على أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ‏{‏ثم صرفكم عنهم‏}‏ حين خالفتم أمر الرسول، ‏{‏ليبتليكم‏}‏ أي‏:‏ ليختبركم، فيتبين الصابر من الجازع، والمخلص من المنافق، ‏{‏ولقد عفا عنكم‏}‏ فلم يستأصلكم بعد المعصية والمخالفة، لاستحقاقكم ذلك، أو تجاوز عن ذنبكم وتفضل بالتوبة والمغفرة، ‏{‏والله ذو فضل‏}‏ عظيم ‏{‏على المؤمنين‏}‏؛ يتفضل عليهم بالمغفرة في الأحوال كلها، سواء أديل عليهم أو لهم، فإن الابتلاء أيضاً رحمة وتطهير‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ يقول للفقراء الذين استشرفوا على بلاد الخصوصية، ثم فشلوا ورجعوا إلى بلاد العمومية‏:‏ ولقد صدقكم الله وعده في إدراك الخصوصية لو صبرتم، فإنكم حين كنتم تجاهدون نفوسكم وتحسونها بسيوف المخالفة، لمعت لكم أنوار المشاهدة، حتى إذا فشلتم وتفرقت قلوبكم، وعصيتم شيوخكم قلَّت أمدادكم، وأظلمت قلوبكم، من بعد ما رأيتم ما تحبون من مبادئ المشاهدة، فملتم إلى الدنيا الفانية، فمنكم يا معشر المنتسبين من يريد الدنيا، فصحب العارفين على حرف، وهو الذي رجع وفشل، ومنكم من يريد الآخرة وقطع يأسه من الرجوع إلى الدنيا، وهو الذي ثبت حتى ظفر، ثم صرفكم عن حصبة العارفين، يا من أراد الدنيا من المنتسبين، ليبتليكم، هل صحبتموهم لله أو لغيره، ولقد عفا عنكم وجعلكم من عوام المسلمين، ولم يسلب عنكم الإيمان عقوبة لترك صحبة العارفين‏.‏ أو لقد عفا عنكم إن رجعتم إلى صحبتهم والأدب معهم، فإن الله ‏{‏ذو فضل على المؤمنين‏}‏ حيث لم يعاجلهم بالعقوبة‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

وقال الورتجبي‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏منكم من يريد الدنيا‏}‏، أي‏:‏ منكم من وقع في بحر غني القدم، واتصف به بنعت التمكين ورؤية النعم في شكر المنعم، كسليمان عليه السلام‏.‏ ومنكم من وقع في بحر التنزيه وتقديس الأزلية، فغلب عليه القدس والطهارة، فخرج بنعت الفقر؛ تجريداً لتوحيده وإفرادِ قدمه من الحدث، كمحمدٍ صلى الله عليه وسلم حيث قال‏:‏ «الفقر فخري»‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏153‏]‏

‏{‏إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏153‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏إذْ‏}‏‏:‏ ظرف لعفا، أو اذكر‏.‏ وأصعد‏:‏ أبعد في الأرض، وصعد‏:‏ في الجبل، فالإصعاد‏:‏ الذهاب في الأرض المستوية، والصعود‏:‏ الارتقاء في العلو‏.‏ وقرئ بهما معاً؛ لأنهما وقعا معاً، فمنهم من فرّ ذاهباً في الأرض، ومنهم من صعد إلى الجبل‏.‏

و ‏{‏لكيلا‏}‏‏:‏ متعلق بأثابكم‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ولقد عفا عنكم حين كنتم ‏{‏تُصْعِدُون‏}‏ عن نبيه- عليه الصلاة والسلام-، منهزمين عنه، تبعدون عنه، ‏{‏ولا تلوون على أحد‏}‏ أي‏:‏ لا يلتفت بعضكم إلى بعض، ولا ينتظر بعضكم بعضاً، ‏{‏والرسول‏}‏ محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏يدعوكم في أخراكم‏}‏ أي‏:‏ في ساقتكم، يقول‏:‏ «إليَّ عباد الله، أنا رسول الله، من يكرُّ فله الجنة»، وفيه مدح للرسول صلى الله عليه وسلم بالشجاعة والثبات، حيث وقف في آخر المنهزمين، فإن الآخر هو موقف الأبطال، والفرار في حقه صلى الله عليه وسلم محال‏.‏

‏{‏فأثابكم‏}‏ أي‏:‏ فجازاكم على ذلك الفرار، ‏{‏غمّاً‏}‏؛ وهو ظهور المشركين عليكم وقتل إخوانكم، بسبب غم أوصلتموه للنبيّ صلى الله عليه وسلم بعصيانه والفرار عنه، وقدَّر ذلك ‏{‏لكيلا تحزنوا على ما فاتكم‏}‏ من الغنيمة، ‏{‏ولا‏}‏ على ‏{‏ما أصابكم‏}‏ من الجرح والهزيمة، لأن من استحق العقوبة والأدب لا يحزن على ما فاته ولا على ما أصابه؛ إذ جريمته تستحق أكثر من ذلك، يرى ما نزل به بعض ما يستحقه، فيهون عليه أمر ما نزل به أو ما فاته من الخير‏.‏

أو يقول‏:‏ ‏{‏فأثابكم غمّاً‏}‏ متصلاً ‏{‏بغم‏}‏؛ فالغم الأول‏:‏ ما فاتهم من الظفر والغينمة، والثاني‏:‏ ما نالهم من القتل والهزيمة، أو الأول‏:‏ ما أصابهم من القتل والجراح، والثاني‏:‏ ما سمعوا من الإرجاف بقتل النبيّ صلى الله عليه وسلم، وذلك ليتمرنوا على المحن والشدائد حتى لا يجزعوا من شيء، وبذلك وصفهم كعب بن زهير في لاميته، حيث قال‏:‏

لاَ يَفْرَحُونَ إِذا نَالَتْ رِماحُهُمْ *** وَلَيْسُوا مجازيعاً إذا نِيلُوا

فإن المتمرّن على المصائب المتعوّد عليها يهون عليها أمرها، فلا يحزن على ما أصابه ولا ما فاته، ‏{‏والله خبير بما تعملون‏}‏ وبما قصدتم، فيجازيكم على ذلك‏.‏

الإشارة‏:‏ ما زال الدعاة إلى الله من أهل التربية النبوية يدعون الناس إلى الله، ويعرفونهم بالطريق إلى الله، يبنون لهم الطريق إلى عين التحقيق، والناس يبعدون عنهم ويفرّون منهم، وهم في أخراهم يقولون بلسان الحال أو المقال‏:‏ يا عباد الله، هلم إلينا نعرفُكم بالله، وندلكم على الله، فلا يلوي إليهم أحد ولا يلتفت إليهم بشر، إلا من سبقت له العناية، وأراد الحق تعالى أن يوصله إلى درجة الولاية، «سبحان من لم يجعل الدليل على أوليائه إلا من حيث الدليل عليه، ولم يوصل إليهم إلا من أراد أن يوصله إليه»، فأثابهم على الفرار غم الحجاب، متصلاً بغم الأسباب، فلا يحزنوا على ما فاتهم من المعرفة؛ إذ لم يعرفوا قدرها، ولا على ما أصابهم من الغفلة والبطالة، إذ لم يتفطنوا لها ‏{‏والله خبير بما تعملون‏}‏ يا معشر العباد، من التودد أو العناد‏.‏ وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏154‏]‏

‏{‏ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏154‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏نعاساً‏}‏‏:‏ بد لمن ‏{‏أمنة‏}‏، أو هو المفعول، و‏{‏أمنة‏}‏‏:‏ حال منه، مقدمة، أو مفعول له، أي‏:‏ أنزل عليكم نعاساً لأجل الأمنة، أو حال من كاف ‏{‏عليكم‏}‏، أي‏:‏ أنزل عليكم حال كونكم آمنين‏.‏ والأمنة‏:‏ مصدر أمِن، كالعظَمة والغَلَبة‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ثم أنزل عليكم‏}‏ أيها المؤمنون ‏{‏من بعد الغم‏}‏ الذي أصابكم بموت إخوانكم، والإرجاف بقتل نبيكم، الأمن والطمأنينة، حتى أخذكم النعاس وأنتم في الحرب‏.‏ قال أبو طلحة‏:‏ ‏(‏غَشينَا النعاسُ ونحن في المصافّ، حتى كان السيف يسقط من يد أحدنا فيأخذه، ثم يسقط فيأخذه‏)‏‏.‏ وقال الزبير رضي الله عنه‏.‏ لقد رأيتني حين اشتدّ الخوف، ونحن مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، أرسل الله- تعالى- علينا النوم، والله إني لأسمع قول معتب، والنعاس يغشاني، ما أسمعه إلا كالحلُم‏:‏ ‏{‏لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا‏}‏‏.‏

ثم إن هذا النعاس إنما ‏{‏يغشى طائفة منكم‏}‏ وهم المؤمنون، أو‏:‏ هذه الأمنة إنما تغشى طائفة منكم، وأما المنافقون فقد ‏{‏أهمتهم أنفسهم‏}‏، أي‏:‏ أوقعتهم في الهموم والغموم، أو ما يهمهم إلا أنفسهم، يُدبرون خلاصها ونجاتها، فقد طارت قلوبهم من الخوف، فلا يتصور في حقهم النوم، ‏{‏يظنون بالله غير الحق‏}‏ أي‏:‏ غير الظن الحق، لأنهم ظنّوا أنه لا ينصر- عليه الصلاة والسلام، وأن أمره مضمحل، أو ظنوا أنه قتل، ظنّاً كظن الجاهلية، أهل الشرك، ‏{‏يقولون‏}‏ أي‏:‏ بعضهم لبعض‏:‏ ‏{‏هل لنا من الأمر من شيء‏}‏ أي‏:‏ عُزلنا عن تدبر أنفسنا، فلم يبق لنا من الأمر من شيء‏.‏ قاله ابنُ أُبي، لَما بلغة قتل الخزرج‏.‏

‏{‏قل‏}‏ لهم يا محمد‏:‏ ‏{‏إن الأمر كله لله‏}‏؛ ليس بيد غيره شيء من التدبير والاختيار، حال كون المنافقين ‏{‏يخفون في أنفسهم‏}‏ من الكفر والنفاق ‏{‏ما لا يُبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا‏}‏ أي‏:‏ لو كان تدبيراً أو اختياراً ما خرجنا سلسلة المقادير، رغماً على أنفكم، فلو ‏{‏كنتم في بيوتكم‏}‏ آمنين ‏{‏لبرز الذين كتب عليهم القتل‏}‏، ووصل أجلهم ‏{‏إلى مضاجعهم‏}‏ ومصارعهم، رغماً على أنفهم، فإن الله قدَّر الأمور ودبرها في سابق أزله، لا معقب لحكمه، وإنما فعل ذلك، وأخرجكم إلى المعركة ‏{‏ليبتلي الله ما في صدوركم‏}‏ أي‏:‏ يختبر ما فيها من الخير أو الشر، ‏{‏وليمحص ما في قلوبكم‏}‏ أي‏:‏ يكشف ما فيها من النفاق أو الإخلاص، فقد ظهر خبث سريرتكم ومرض قلوبكم بالنفاق الذي تمكن فيه، ‏{‏والله عليم بذات الصدور‏}‏ أي‏:‏ بخفاياها قبل إظهارها‏.‏ وفيه وعد ووعيد وتنبيه على أنه غني عن الابتلاء، وإنما فعل ذلك ليُميِّز المؤمنين ويُظهَر حال المنافقين‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏

الإشارة‏:‏ ثم أنزل عليكم أيها الواصلون المتمكنون، أو من تعلق بكم من السائرين‏.‏

من بعد غم المجاهدة وتعب المراقبة أمنة في قلوبكم بالطمأنينة بشهود الله، وراحة في جوارحكم من تعب الخدمة في السير إلى الله، حتى وصلتم فنمتم في ظل الأمن والأمان، وسكنتم في جوار الكريم المنان‏.‏

قال بعض العارفين‏:‏ ‏(‏إذا انتقلت المعاملة إلى القلوب استراحت الجوارح‏)‏، وهذه الراحة إنما تحصل للعارفين، أو من تعلق بهم من المريدين، وطائفة من غيرهم؛ وهم المتفقرة الجاهلون، الذين لا شيخ لهم، قد أهمتهم أنفسهم، تارة تصرعهم وتارة يصرعونها، تارة تُشرق عليهم أنوارُ التوجه، فيقوى رجاؤهم في الفتح، وتارة تنقبض عنهم فيظنون بالله غير الحق، ظن الجاهلية، يقولون‏:‏ هل لنا من الفتح من شيء‏؟‏‏.‏

قل لهم‏:‏ ‏{‏إن الأمر كله لله‏}‏؛ يوصل من يشاء ويبعد من يشاء، يُخفون في أنفسهم من العيوب والخواطر الرديئة ما لا يبدون لك، فإذا طال عليهم الفتح، وغلب عليهم الفقر، ندموا على ما فاتهم من التمتع بالدنيا، يقولون‏:‏ لو كان لنا من الأمر شيء ما قُتلنا ها هنا بالذل والفقر والجوع، قل لهم‏:‏ ذلك الذي سبق في علم الله، لا محيد لأحد عنه، ليظهر الصادق في الطلب من الكاذب، ‏[‏كن صادقاً تجد مرشداً‏]‏، فلو صدقتم في الطلب لأرشدكم إلى من يُوصلكم ويريحكم من التعب‏.‏ وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏155‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ‏(‏155‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إن الذين تولوا منكم‏}‏ وانهزموا يوم أحد؛ ‏{‏يوم التقى الجمعان‏}‏ جمع المسلمين وجمع الكفار إنما كان السبب في انهزامهم أن الشيطان ‏{‏استزلهم‏}‏، أي‏:‏ طلب زللهم فأطاعوه، أي‏:‏ زين لهم الفرار فأطاعوه، بسبب بعض ‏{‏ما كسبوا‏}‏ من الإثم، كمخالفة أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم، والحرص على الغنيمة، وذنوب اقترفوها قبل الجهاد، فإن المعاصي تجر بعضها بعضاً، كالطاعة، ‏{‏ولقد عفا الله عنهم‏}‏ فيما فعلوا من الفرار؛ لتوبتهم واعتذارهم؛ ‏{‏إن الله غفور‏}‏ للذنوب، ‏{‏حليم‏}‏ لا يعاجل بعقوبة المذنب كي يتوب‏.‏

الإشارة‏:‏ إن الذين تولوا منكم يا معشر الفقراء، ورجعوا عن صحبة الشيوخ، حين التقى في قلبهم الخصمان‏:‏ خصم يرغبهم في الثبوت، وخصم يدلهم على الرجوع، ثم غلب خصم الرجوع فرجعوا، إنما استزلهم الشيطان بسوء أدبهم، فإن تابوا ورجعوا، أقبلوا عليهم، وقَبل الله توبتهم، وعفا عنهم، فإنه سبحانه غفور حليم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏156‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏156‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏غُزّي‏}‏‏:‏ جمع غازٍ، كعافٍ وعفى، وإنما وضع ‏{‏إذا‏}‏ موضع ‏{‏إذ‏}‏؛ لحكاية الحال،

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا‏}‏ ونافقوا، كعبد الله بن أُبي، وأصحابه، ‏{‏وقالوا لإخوانهم‏}‏ في النسب، أو في المذهب، أي‏:‏ قالوا لأجلهم أو في شأنهم، ‏{‏إذا ضربوا في الأرض‏}‏ أي‏:‏ سافروا للتجارة أو غيرها فماتوا، ‏{‏أو كانوا غُزًّى‏}‏ أي‏:‏ غازين فقتلوا في الغزو‏:‏ ‏{‏لو كانوا عندنا‏}‏ مُقيمين ‏{‏ما ماتوا وما قتلوا‏}‏، وإنما نطقوا بذلك ‏{‏ليجعل الله ذلك‏}‏ القول الناشىء عن الاعتقاد الفاسد ‏{‏حسرة في قلوبهم‏}‏ بالاغتمام على ما فات، والتحسر على ما لم يأت، ‏{‏والله‏}‏ هو ‏{‏يحيي ويميت‏}‏ بلا سبب في الإقامة والسفر، فليس يمنع حذر من قدر، ‏{‏والله بما تعملون‏}‏، أيها المؤمنون ‏{‏بصير‏}‏، ففيه تهديد لهم على أن يُماثلوا المنافقين في هذا الاعتقاد الفاسد، ومن قرأ بالياء فهو تهديد لهم‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ لا ينبغي للأقوياء من أهل اليقين أن يتشبهوا بضعفاء اليقين، كانوا علماء أو صالحين أو طالحين، حيث يقولون لإخوانهم إذا سافروا لأرض مخوفة أو بلد الوباء‏.‏ لو جلسوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا، وما دَرَوْا أن الله قدَّر الآجال كما قدَّر الأرزاق وجميع الشؤون والأحوال، وعيَّن لها أوقاتاً محدودة في أزله، فكل مقدور يبرز في وقته، «ما من نَفَسٍ تبديه، إلا وله قدر فيك يمضيه»، فما قدَّره في سابق علمه لا بد أن يكون، وما لم يقدره لا يكون، ولا تجلبه حركة ولا سكون‏.‏ ولله در القائل‏:‏

مَا لاَ يُقَدَّرُ لاَ يَكُونُ بِحِيلَةٍ *** أَبَداً وَمَا هُوَ كائِنٌ سَيكُونُ

سَيَكُونُ ما هُوَ كائنٌ في وَقْتِهِ *** وَأخُو الجَهَالَةِ مُتْعَبٌ مَحْزُونُ

يَجْرِي الحَريصُ ولا يَنَالُ بِحرْصِهِ *** شَيْئاً ويَحْظَى عَاجِزٌ وَمَهِينٌ

فَدعَ الهُمُومَ، تَعَرَّ مِنْ أثْوابِهَا، *** إنْ كانَ عِنْدَكَ بالْقَضَاءِ يَقِينُ

هَوِّنْ عَلَيْكَ وَكُنْ بِرَبِّكَ وَاثِقاً *** فَأخُوا الحَقِيقَةِ شَأنُه التَّهْوِينُ

وكان سيدنا عمر رضي الله عنه يتمثل بهذه الأبيات‏:‏

فَهَوَّنْ عَلَيْكَ فَإنَّ الأُمُورَ *** بكفِّ الإلَهِ مَقَادِيرُهَا

فَلَيْسَ يَأتِيكَ مَصْرُوفُهَا *** ولا عَازِبٌ عَنْكَ مَقْدُورُها

وكل من لم يحقق الإيمان بالقدر لا ينفك عن الحسرة والكدر، ومن أراد النعيم المقيم فليثلج صدره ببرد الرضا والتسليم، ومن أراد الروح والريحان فعليه بجنات العرفان، وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواءه الطريق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏157- 158‏]‏

‏{‏وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ‏(‏157‏)‏ وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ ‏(‏158‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ إذا اجتمع القسم والشرط ذكر جواب الأول وأغنى عن الثاني، فقوله‏:‏ ‏{‏لمغفرة‏}‏‏:‏ جواب القسم، أغنى عن جواب ‏{‏إن‏}‏، والتقدير‏:‏ إن قتلتم في سبيل الله غفر الله لكم، ثم سد عنه ‏{‏لمغفرة‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ، ومن قرأ‏:‏ ‏{‏مِتم‏}‏ بكسر الميم، فهو من‏:‏ مات يمات، كهاب يهاب هِبتُ، وخاف يخاف خِفتُ، ومن قرأ بالضم‏:‏ فمن مات يموت، كقال يقول قُلت‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ إن السفر والغزو ليس هما مما يجلب الموت أو يقدم الأجل، وعلى تقدير‏:‏ لو وقع ذلك وحضر أجلكم فيه وقتلتم ‏{‏في سبيل الله‏}‏ بالسيف، ‏{‏أو متم‏}‏ حتف أنفكم، لما تنالون من المغفرة والرحمة والروح والريحان ‏{‏خير مما تجمعون‏}‏ من حطام الدنيا الفانية لو لم تموتوا، وعلى أي وجه متم أو قتلتم فلا تحشرون إلا إلى الله، لا إلى أحد غيره، فيوفى جزاءكم ويعظم ثوابكم، وأما البقاء في الدنيا فلا مطمع لأحد فيه، سافر أو قعد في بيته، وقدَّم أولاً القتل على الموت وأخره ثانياً؛ لأن الأول رتب عليه المغفرة والرحمة، وهما في حق من فتل في الجهاد أعظم ممن مات بغيره، فقدمه؛ اعتناء به، وفي الثاني رتب عليه الحشر، وهو مستوٍ في القتل والموت، فلا مزية فيه للقتل على الموت‏.‏ والله أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ ولئن قتلتم نفوسكم وبذلتم مهجكم في طلب محبوبكم، فظفرتم بالوصول إليه قبل موتكم، أو متم في السير قبل الوصول إلى محبوبكم، لما تنالون من كمال اليقين وشهود رب العالمين، أو من المغفرة والرحمة التي تضمكم إلى جواره، خير مما كنتم تجمعون من الدنيا قبل توجهكم إليه، فإن الموت والحشر مكتوب على كل مخلوق، فيظهر فوز المجاهدين والمتوجهين، وغبن القاعدين المستوفين‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏159‏]‏

‏{‏فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ‏(‏159‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏فبما‏}‏‏:‏ صلة‏.‏ والفظ، الجافي، يقال‏:‏ فظ فظاظةً وفظوظاً، ورجل فظ، وامرأة فظة، والفض- بغير المشالة‏:‏ التفرق، ويطلق على الكسر، ومنه‏:‏ لا يفضض الله فاك‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ فبرحمة من الله ونعمة كنت سهلاً ليناً رفيقاً، فحين عصوا أمرك، وفروا عنك، ألنت لهم جانبك، ورفقت بهم، بل اغتممت من أجلهم مما أصابهم، ‏{‏ولو كنت فظّاً‏}‏ جافياً سيىء الخلق ‏{‏غليظ القلب‏}‏ قاسيَهُ فأغلظت لهم القول، ‏{‏لانفضوا من حولك‏}‏ أي‏:‏ لتفرقوا عنك، ولم يسكنوا إليك، ‏{‏فاعف عنهم‏}‏ فيما يختص بك، ‏{‏واستغفر لهم‏}‏ في حق ربك حتى يشفعك فيهم ‏{‏وشاورهم في الأمر‏}‏ الذي يصح أن يشاور فيه؛ تطييباً لخاطرهم، ورفعاً لأقدارهم، واستخراجاً وتمهيداً لسنة المشاورة لغيرهم، وخصوصاً الأمراء‏.‏

قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «ما شقا عبد بمشورة، وما سعد باستغناء برأي» قال أيضاً‏:‏ «مَا خَابَ من اسْتَخَارَ، وَلاَ نَدِمَ من اسْتَشَارَ» وقال أيضاً- عليه الصلاة والسلام- «إذَا كَانَ أُمَرَاؤُكُمْ خِيَارَكُمْ، وَأَغْنِيَاؤُكُمْ أَسخيَاءَكُمْ، وأَمرُكُم شُورَى بَيْنَكُم، فَظَهْرُ الأرْض خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ بَطْنِهَا‏.‏ وإذا كَانَ أُمَرَاؤُكُمْ شِرَارَكُمْ وأَغْنِيَاؤُكُمْ بُخَلاءَكُمْ، ولم تكن أموركم شُورَى بَيْنَكُم، فبَطْنُ الأرْضِ خَيرٌ من ظَهْرِهَا»‏.‏

‏{‏فإذا عزمت‏}‏ على شيء بعد الشورى، ‏{‏فتوكل على الله‏}‏ أي‏:‏ ثق به وكيلاً، ‏{‏إن الله يحب المتوكلين‏}‏ فينصرهم ويهديهم إلى ما فيه صلاحهم‏.‏

الإشارة‏:‏ ما اتصف به نبينا- عليه الصلاة والسلام- من السهولة والليونة والرفق بالأمة، اتصفت به ورثته من الأولياء العارفين، والعلماء الراسخين، ليتهيأ لهم الدعوة إلى الله، أو إلى أحكام الله، ولو كانوا فظاظاً غلاظاً لانفض الناس من حولهم، ولم يتهيأ لهم تعريف ولا تعليم، فينبغي لهم أن يعفوا ويصفحوا ويغفروا ويصبروا على جفوة الناس، ويستغفروا لهم، ويشاوروهم في أمورهم، اقتداء برسولهم، فإذا عزموا على إمضاء شيء فليتوكلوا على الله؛ ‏{‏إن الله يحب المتوكلين‏}‏‏.‏

قال الجنيد- رضي الله عنه-‏:‏ ‏(‏التوكل أن تقبل بالكلية على ربك وتعرض عمن دونه‏)‏‏.‏ وقال الثوري‏:‏ أن تفني تدبيرك في تدبيره، وترضى بالله وكيلاً ومدبراً، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً‏}‏ ‏[‏النِّساء‏:‏ 81‏]‏‏.‏ وقال ذو النون‏:‏ ‏(‏خُلع الأرباب، وقطع الأسباب‏)‏ وقال الخواص‏:‏ قطع الخوف والرجاء مما سوى الله تعالى‏.‏ وقال العرجي‏:‏ رد العيش إلى يوم واحد، وإسقاط هم غد‏.‏ ه‏.‏ وقال سهل‏:‏ معرفة معطي أرزاق المخلوقين، ولا يصح لأحد التوكل حتى تكون عنده السماء كالصفر والأرض كالحديد، لا ينزل من السماء قطر، ولا يخرج من الأرض نبات، ويعلم أن الله لا ينسى له ما ضمن من رزقه بيه هذين‏.‏ ه‏.‏ وقيل‏:‏ هو اكتفاء العبد الذليل بالرب الجليل، كاكتفاء الخليل بالخليل، حين لم ينظر إلى عناية جبريل‏.‏

وقيل لبهلوان المجنون‏:‏ متى يكون العبد متوكلاً‏؟‏ قال‏:‏ إذا كان بالنفس غريباً بين الخلق، وبالقلب قريباً إلى الحق‏.‏

وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «مَنْ سَرَّهُ أنْ يَكُونَ أكْرَم النَّاسِ فَلْيَتقِ الله، ومَنْ سَرَّه أن يكُون أغْنَى النَّاس فيكنِ بما في يد الله أوثق منه بما في يَده»‏.‏

قال ابن جزي‏:‏ التوكل هو الاعتماد على الله في تحصيل المنافع وحفظها بعد حصولها، وفي دفع المضرات ورفعها بعد وقوعها، وهو من أعلى المقامات، لوجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏إن الله يحب المتوكلين‏}‏، والآخر‏:‏ الضمان الذي في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ‏}‏ ‏[‏الطّلاَق‏:‏ 3‏]‏، وقد يكون واجباً لقوله‏:‏ ‏{‏وَعَلَى اللَّهِ كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏المَائدة‏:‏ 23‏]‏، فجعله شرطاً في الإيمان، ولظاهر قوله‏:‏ ‏{‏وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونِ‏}‏ ‏[‏آل عِمرَان‏:‏ 122‏]‏؛ فإن الأمر محمول على الوجوب‏.‏

واعلم أن الناس في التوكل على ثلاث مراتب‏:‏

الأولى‏:‏ أن يعتمد العبد على ربه، كاعتماد الإنسان على وكيله المأمون عنده، الذي لا يشك في نصحيته له وقيامه بمصالحه‏.‏ الثانية‏:‏ أن يكون العبد مع ربه كالطفل مع أمه؛ لا يعرف سواها ولا يلجأ إِلاَّ إليها‏.‏ الثالثة‏:‏ أن يكون العبد مع ربه كالميت بين يدي الغاسل، قد أسلم إليه نفسه بالكلية‏.‏

فصاحب الدرجة الأولى عنده حظ من النظر لنفسه، بخلاف صاحب الثانية‏.‏ وصاحب الثانية له حظ من الاختيار، بخلاف صاحب الثالثة‏.‏ وهذه الدرجات مبنية على التوحيد الخاص، الذي تكلمتُ عليه في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِلَهُكُمْ إِلَهُ وَاحِدٌ‏}‏ ‏[‏البَقَرَة‏:‏ 163‏]‏، فهي تقوى بقوته وتضعف بضعفه‏.‏

فإن قيل‏:‏ هل يشترط في التوكل ترك الأسباب أم لا‏؟‏ فالجواب‏:‏ أن الأسباب على ثلاثة أقسام‏:‏

أحدها‏:‏ سبب معلوم قطعاً قد أجراه الله، فهذا لا يجوز تركه؛ كالأكل لرفع الجوع وللباس لرفع البرد‏.‏

الثاني‏:‏ سبب مظنون‏:‏ كالتجارة وطلب المعاش، وشبه ذلك، فهذا لا يقدح فعله في التوكل، فإن التوكل من أعمال القلوب لا من أعمال البدن، ويجوز تركه لمن قوي عليه‏.‏

والثالث‏:‏ سبب موهوم بعيد، فهذا يقدح فعله في التوكل، قلت‏:‏ ولعل هذا مثل طلب الكيمياء والكنوز وعلم النار والسحر، وشبه ذلك‏.‏

ثم فوق التوكل التفويض، وهو‏:‏ الاستسلام لأمر الله تعالى بالكلية، فإن المتوكل له مراد واختيار، وهو يطلب مراده في الاعتماد على ربه، وأما المفوض فليس له مراد ولا اختيار، بل أسند الاختيار إلى الله تعالى، فهو أكمل أدباً مع الله‏.‏ ه‏.‏ وأصله للغزالي، وسيأتي بقية الكلام عند قوله‏:‏ ‏{‏وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِى لاَ يَمُوتُ‏}‏ ‏[‏الفُرقان‏:‏ 58‏]‏‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏160‏]‏

‏{‏إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏160‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إن ينصركم الله‏}‏ كما نصركم يوم بدر، ‏{‏فلا غالب لكم‏}‏ من أحد من الناس، ‏{‏وإن يخذلكم‏}‏ كما خذكم يوم أحد، ‏{‏فمن‏}‏ هذا ‏{‏الذي ينصركم من بعده‏}‏ تعالى، أي‏:‏ فلا ناصر سواه‏.‏ وهذا تنبيه على الحث على التوكل، وتحريض على ما يستوجب به النصر، وهو الاعتماد على الله، وتحذير مما يستوجب الخذلان، وهو مخالفة أمره وعصيان رسوله، أو الاعتماد على غيره، ولذلك قال‏:‏ ‏{‏وعلى الله فليتوكل المؤمنون‏}‏؛ لِمَا علموا ألا ناصر سواه‏.‏

الإشارة‏:‏ إن ينصركم الله على مجاهدة النفوس، ودوام السير إلى حضرة القدوس، فلا غالب لكم من النفس، ولا من الناس ولا من الهوى ولا من الشيطان، وإن يخلذكم- والعياذ بالله- فمن ذا الذي ينصركم من بعد خذلانه لكم‏؟‏ فليعتمد المريد في سيره على مولاه، وليستنصر به في قطع حظوظه وهواه، فإنه لا ناصر له سواه‏.‏ وأنشدوا‏:‏

إِذَا كَانَ عُوْنُ اللّهِ لِلمَرْءِ نَاصِراً *** تَهَيَّأ لَهُ مِنْ كُلِّ صَعْبِ مُرَادُهُ

وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَوْنٌ مِن اللّهِ للْفَتَى *** فَأَكْثَرُ مَا يَجْنِي عَلَيْهِ اجْتِهَادُهُ

وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏161‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏161‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ الغلول‏:‏ السرقة من الغنائم، فمن قرأ بفتح الياء وضم الغين، فمعناه‏:‏ لا ينبغي له أن يأخذ شيئاً من الغنيمة خفية، والمراد‏:‏ تبرئة رسوله- عليه الصلاة والسلام- من ذلك‏.‏ ومن قرأ بضم الياء ففيه وجهان‏:‏ أحدهما‏:‏ أن يكون المعنى، ما كان لنبي أن يُخان، أي‏:‏ أن تخونه أُمّتُه في المغانم، وكذلك الأمراء، وإنما خص النبيَّ صلى الله عليه وسلم بذلك؛ لبشاعة ذلك مع النبيّ؛ لأن المعاصي تعظم بحضرته، والثاني‏:‏ أن يكون المعنى‏:‏ ما كان لنبي أن يُنسب إلى الخيانة؛ كقوله‏:‏ ‏{‏فَإِنَّهُمْ لاَ يُكّذِّبُونَكَ‏}‏ ‏[‏الأنعَام‏:‏ 33‏]‏ أي‏:‏ لا ينسبونك إلى الكذب‏.‏

يقوله الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ما كان‏}‏ ينبغي ‏{‏لنبيٍّ أن يغل‏}‏ ويأخذ شيئاً من الغنيمة خفية؛ لأن ذلك خيانة والنبوة تنافي ذلك، والمراد‏:‏ نزاهة الرسول- عليه الصلاة والسلام- عن ذلك، كقوله‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ‏}‏ ‏[‏مريَم‏:‏ 35‏]‏، ودفعُ ما توهمه الرماة، فقد رُوِيَ أنه- عليه الصلاة والسلام-قال لهم لما تركوا المركز‏:‏ «ألمْ أعْهَد إليكُمْ ألا تَتْركُوا المركَزَ حتَّى يأتيكُمْ أمْري‏؟‏» قالوا‏:‏ تَرَكْنا بقية إخْوانِنَا وُقوفاً، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «بل ظَننْتُم أنّا نَغُلّ ولا نقْسِمُ لكُمْ» فنزلت الآية‏.‏ وقيل إنه- عليه الصلاة والسلام-‏:‏ بعث طلائع، فغنم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقسم على من معه فقط، فنزلت، فاسترجع ذلك منهم‏.‏ وقيل‏:‏ في قطيفة حمراء فُقدت يوم بدر، فقال المنافقون‏:‏ لَعَلَّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أَخَذَهَا، فنزلت‏.‏

ثم ذكر وعيد الغلول، فقال‏:‏ ‏{‏ومن يَغْلُلْ يأت بما غَلَ يوم القيامة‏}‏ أي‏:‏ يأتي بالذي غله يحمله على رقبته، قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «لا ألقى أحَدكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ يَجِيءُ على رَقَبته بَعِيرٌ لَهُ رُغَاء، أوْ بَقَرَةٌ لَهَ خُوَارٌ، أَوْ شَاةٌ تَيْعَرُ» ثم قال‏:‏ «اللهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ‏؟‏ ثلاثاً» كما في البخاري‏.‏

‏{‏ثم توفّى كل نفس‏}‏ جزاء ‏{‏ما كسبت‏}‏ تاماً، ‏{‏وهم لا يظلمون‏}‏ بنقص ثواب مُطيعهم، ولا يزاد على عقاب عاصيهم وكان اللائق بما قبله أن يقول‏:‏ ثم يوفى ما كسب‏.‏ لكنه عمم الحكم؛ ليكون كالبرهان على المقصود والمبالغة فيه، وأنه إذا كان كل كاسب مجزياً بعمله، فالغال مع عظم جرمه بذلك أولى‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏

الإشارة‏:‏ ما قيل في النبيّ- عليه الصلاة والسلام- يقال في ورثته الكرام، كالأولياء والعلماء الأتقياء، فإنهم ورثة الأنبياء، فيُظن بهم أحسن المذاهب، ويلتمس لهم أحسن المخارج، لأن الأولياء دلّوا على معرفة الله، والعلماء دلّوا على أحكام الله، وبذلك جاءت الرسل من عند الله، فلا يظن بهم نقص ولا خلل، ولا غلول ولا دخل، فلهم قسط ونصيب من حرمة الأنبياء، ولا سيما خواص الأولياء، ومن يظن بهم نقصاً أو خللاً، ويغل قلبه على شيء من ذلك، فسيرى وباله يوم تفضح السرائر، ‏{‏ثم توفّى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون‏}‏، فلحوم الأولياء والعلماء سموم قاتلة، وظن السوء بهم خيانة حاصلة‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏162- 163‏]‏

‏{‏أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏162‏)‏ هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ‏(‏163‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏أفمن اتبع رضوان الله‏}‏ بأن اعتقد في نبيه الكمال، وأطاعه في وصف الجلال والجمال، وهم المؤمنون، حيث نزهوا نبيهم من النقائص، ومَن هَجَسَ في قلبه شيء بادر إلى التوبة، ثم اتصف بكمال الخصائص، هل يكون ‏{‏كمن باء‏}‏ بغضب ‏{‏من الله‏}‏ ‏؟‏ وهم المنافقون، حيث نافقوا الرسول واتهموه- عليه الصلاة والسلام- بالغلول‏.‏

أو يقول‏:‏ ‏{‏أفمن ابتع رضوان الله‏}‏ بالطاعة والانقياد ‏{‏كمن باء بسخط من الله‏}‏ بالمعاصي وسوء الاعتقاد ‏{‏ومأواه جهنم وبئس المصير‏}‏ أي المنقلب، والفرق بين المصير والمرجع‏:‏ أن المصير يجب أن يخالف الحالة الأولى، ولا كذلك المرجع‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏

‏{‏وهم درجات عند الله‏}‏ أي‏:‏ أهل الرضوان درجات متفاوتة عند الله، على قدر سعيهم في موجب الرضا، وأهل السخط درجات أيضاً، على قدر تفاوتهم في العصيان، وهو على حذف مضاف، أي‏:‏ ذُوو درجات، ‏{‏والله بصير بما يعملون‏}‏؛ ‏{‏فيجازي كُلاًّ‏}‏ على قدر سعيه‏.‏

الإشارة‏:‏ ‏{‏فأمن اتبع رضوان الله‏}‏ بتعظيم الأولياء والعلماء وأهل النسبة، كمن باء بسخط من الله بإهانة من أمر الله أن يُعظم ويُرفع، ومأواه حجاب الحس وعذاب البعد، ‏{‏وبئس المصير‏}‏، فأهل القرب درجات على قدر تقربهم إلى ربهم، وأهل البعد درجات في البعد على قدر بعدهم من ربهم، بشؤم ذنبهم وسوء أدبهم، والله بصير بأعمالهم وما احتوت عليه قلوبهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏164‏]‏

‏{‏لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏164‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏لقد منّ الله على المؤمنين‏}‏ حيث ‏{‏بعث فيهم رسولاً من أنفسهم‏}‏ أي‏:‏ من جنسهم، أو من نسبهم، عربيّاً مثلهم، ليفهموا كلامه بسهولة، ويفتخروا به على غيرهم‏.‏ وتخصيص المؤمنين بالمنة، وإن كانت نعمته عامة؛ لزيادة انتفاعهم على غيرهم؛ لشرفهم وذكرهم به، حال كونه ‏{‏يتلو عليهم آياته‏}‏؛ القرآن بعد أن كانوا جاهلية لا يعرفون الوحي ولا سمعوا به، ‏{‏ويزكيهم‏}‏ أي‏:‏ يطهرهم من دنس الذنوب ودرن العيوب، ‏{‏ويعلمهم الكتاب‏}‏ أي‏:‏ القرآن، ‏{‏والحكمة‏}‏ أي‏:‏ السنة، ‏{‏وإن كانوا‏}‏ أي‏:‏ وإنه، أي‏:‏ الأمر والشأن كانوا ‏{‏من قبل‏}‏ بعثته ‏{‏لفي ضلال مبين‏}‏ أي‏:‏ ظاهر بيِّن‏.‏

الإشارة‏:‏ لقد منّ الله على المتوجهين إليه الطالبين لمعرفته، حيث بعث لهم من يأخذ بأيديهم، ويطوي مسافة البعد عنهم، وهم شيوخ التربية، يتلون عليهم آياته الدالة على كشف الحجاب وفتح الباب، ويزكيهم من دنس العيوب المانعة لعلم الغيوب، ثم يزكيهم من درن الحس إلى مشاهدة القرب والأنس، ويعلمهم الكتاب المشتمل على عين التحقيق، والحكمة المشتملة على التشريع وبيان الطريق، فيجمعون لهم ما بين الحقيقة والشريعة، وقد كانوا قبل ذلك في ضلال مبين عن الجمع بينهما‏.‏ وهذه المنّة عامة في كل زمان، إذا لا تخلو الأرض من داع يدعو إلى الله، ومن اعتقد قطعه فقد قطع منّة الله، واستعجز قدرة الله، وسد باب الرحمة في وجه عباد الله، والعياذ بالله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏165‏]‏

‏{‏أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏165‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ الهمزة- للتفريع، و‏{‏لَمَّا‏}‏‏:‏ ظرف، خافضة لشرطها، منصوبة بجوابها، وهي معطوفة على محذوف، أي‏:‏ أكان من كان يوم أحد، ولمّا أصابتكم مصيبة، قلتم ما قلتم، و‏{‏قد أصبتم‏}‏‏:‏ جملة حالية‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ أحين ‏{‏أصابتكم مصيبة‏}‏ يوم أحد بقتل سبيعن منكم، و‏{‏قد أصبتم مثليها‏}‏ يوم بدر فقتلتم سبعين وأسرتم سبعين، ‏{‏قلتم أنَّى هذا‏}‏ أي‏:‏ من أين أصابنا هذا البلاء وقد وعدنا النصر‏؟‏ ‏{‏قل‏}‏ لهم‏:‏ ‏{‏هو من عند أنفسكم‏}‏ أي‏:‏ مما اقترفته أنفسكم من مخالفة المركز، والنصر الموعود كان مشروطاً بالثبات والطاعة، فلما اختل الشرط اختل المشورط، ‏{‏إن الله على كل شيء قدير‏}‏؛ فيقدر على النصر بشرط وبغيره، لكن حكمته اقتضت وجود الأسباب والشروط؛ لأن هذا العلام قائم بين قدرة وحكمة‏.‏

أو‏:‏ ‏{‏قل هو من عند أنفسكم‏}‏ باختياركم الفداء يوم بدر‏:‏ رُوِيَ عن عليّ رضي الله عنه قال‏:‏ ‏(‏جاء جِبْريل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم بدر فقال‏:‏ خيِّرْ أصْحَابَكَ في الأسارى، إن شاءوا القتل، وإن شاءوا الفِدَاء، عَلَى أنْ يُقْتَلَ مِنْهُمْ عاماً مقبلاً مِثْلُهمْ، قالوا‏:‏ الفِدَاء ويُقْتَلُ مِنَّا‏)‏‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ إذا أصاب المريد شيء من المصائب والبلايا، فلا يستغرب وقوع ذلك به، ولا يتبرم منه، فإنه في دار المصائب والفجائع، «لا تستغرب وقوع الأكدار ما دُمتَ في هذه الدار، فإنما أبرزت ما هو مستحق وصفها وواجب نعتها»‏.‏ وإذا كان أصابته مصيبة في وقت، فقد أصابته نعمٌ جمة في أوقات عديدة، فليشكر الله على ما أولاه، وليصبر على ما ابتلاه، ليكون صباراً شكوراً‏.‏

قال الشيخ أبو الحسن- رضي الله عنه-‏:‏ ‏(‏العارف هو الذي عرف إساءاته في إحسان الله إليه، وعرف شدائد الزمان في الألطاف الجارية من الله عليه، فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون‏)‏‏.‏ وأيضاً‏:‏ كل ما يصيب المؤمن فمن كسب يده، ويعفو عن كثير‏.‏

وإن كان المريد وعد بالحفظ والنصر، فقد يكون ذلك بشروط خفيت عليه، فلم تحقق فيه، فيخلف حفظه لينفذ قدر الله فيه، ‏{‏وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 38‏]‏‏.‏

وليتميز الصادق من الكاذب والمخلص من المنافق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏166- 168‏]‏

‏{‏وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏166‏)‏ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ ‏(‏167‏)‏ الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏168‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏وقيل لهم تعالوا‏}‏‏:‏ استئناف، أو معطوف على ‏{‏نافقوا‏}‏، و‏{‏الذين قالوا لإخوانهم‏}‏‏:‏ بدل من الضمير المجرور في ‏{‏لهم‏}‏، أي وقيل للمنافقين‏:‏ قاتلوا أو ادفعوا، ثم فسرهم بقوله‏:‏ وهم ‏{‏الذين قالوا لإخوانهم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ‏.‏ أو من الواو في ‏{‏يكتمون‏}‏، أو منصوب على الذم، أو مبتدأ، والخبر‏:‏ ‏{‏قل‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ على من يجيز إنشاء الخبر، و‏{‏قعدوا‏}‏‏:‏ جملة حالية، على إضمار قد‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وما أصابكم‏}‏ يا معشر المسلمين يوم أحد ‏{‏يوم التقى‏}‏ جمع المسلمين وجمع الكفار، من القتل والجرح والهزيمة، ‏{‏فبإذن الله‏}‏ وقضائه، لا راد لإمضائه، ‏{‏وليعلم‏}‏ علم ظهور في عالم الشهادة ‏{‏المؤمنين‏}‏ والمنافقين؛ فيظهر إيمان هؤلاء وكفر هؤلاء، وقد ظهر نفاقهم حيث رجعوا مع عبد الله بن أبي، وكانوا ثلاثمائة‏.‏

وذلك انَّ ابن أُبيّ كان رأيه ألا يخرج المسلمون إلى المشركين، فلما طلب الخروجَ قومٌ من المسلمين، فخرج- عليه الصلاة والسلام- كما تقدم، غضب ابن أُبيّ، وقال‏:‏ أطاعهم وعصاني‏.‏ فرجع، ورجع مع أصحابه، فتبعهم أبو جابر عبد الله بن عمرو بن حرام، وقال لهم‏:‏ ارجعوا ‏{‏قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا‏}‏، أي‏:‏ كثروا سواد المسلمين، فقال ابنُ أُبيّ- رأس المنافقين-‏:‏ ما أرى أن يكون قتالاً، ولو علمنا أن يكون قتال ‏{‏لاتبعناكم‏}‏، وكنا معكم‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان‏}‏؛ لظهور الكفر عليهم من كلامهم، فأمارات الكفر عليهم أكثر من أمارات الإيمان، أو‏:‏ هم لأهل الكفر أقرب نصرة منهم لأهل الإيمان، لأن رجوعهم ومقالتهم تقوية للكفار عليهم وتخذيل للمسلمين، ‏{‏يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم‏}‏، فهم يظهرون خلاف ما يبطنون، لا تواطئ قلوبهم ألسنتم بالإيمان، وإضافة القول إلى الأفواه تأكيد وتغليظ، ‏{‏والله أعلم‏}‏ منكم ‏{‏بما تكتمون‏}‏ من النفاق؛ لأنه يعلمه مفصلاً بعلم واجب، وأنتم تعلمونه مجملاً بأمرات‏.‏

وهؤلاء المنافقون هم ‏{‏الذي قالوا‏}‏ في شأن إخوانهم الذي قُتلوا يوم أحد‏:‏ ‏{‏لو أطاعونا‏}‏ وجلسوا في ديارهم ‏{‏ما قتلوا‏}‏، قالوا هذه المقالة وقد قعدوا عن الخروج، ‏{‏قل‏}‏ لهم يا محمد‏:‏ ‏{‏فادْرءوا‏}‏ أي‏:‏ فادفعوا ‏{‏عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين‏}‏ أنكم تقدرون أن تدفعوا القتل عمن كتب عليه، فادفعوا عن أنفسكم الموت وأسبابه حين يبلغ أجلكم، فإنه أحرى بكم، فالقعود لا يُنجي من الموت إذا وصل الأجل، فإن أسباب الموت كثيرة، فقد يكون القعود سبباً للموت إن بلغ الأجل، وقد يكون الخروج سبباً للنجاة إن لم يبلغ‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ وما أصابكم يا معشر الفقراء عند توجهكم إلى الحق فارين من الخلق، حين استشرفتم على الجمع وجمع الجمع فبإذن الله؛ فإن الداخل على الله منكور، والراجع إلى الناس مبرور، وليظهر الصادق من الكاذب، فإن محبة الله مقرونة بالبلاء والطريق الموصلة إليها محفوفة بالمكاره، مشروطة بقتل النفوس وحط الرؤوس، ودفع العلائق، والفرا من العوائق‏.‏

فإذا قيل للعوام‏:‏ قاتلوا أنفسكم في سبيل الله لتدخلوا حضرة الله، ادفعوا عن أنفسكم العلائق لتشرق عليكم أنوار الحقائق، قالوا‏:‏ قد انقطع هذا الطريق واندرست أرباب علم التحقيق، ولو نعلم قتالاً بقي يُوصلنا إلى ربنا، كما زعمتم؛ لاتبعناكم ودخلنا في طريقكم‏.‏ وهم للكفر يومئذ أقرب للإيمان، حيث تحكموا على القدرة الأزلية، وسدوا باب الرحمة الإلهية، وإنما يقولون ذلك احتجاجاً لنفوسهم، وأبقاء على حظوظهم، وليس ذلك من خالص قلوبهم، يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم‏.‏

وإذا نزل بأهل النسبة نكبة أو بلية، قالوا لأخوانهم، الذين دخلوا في طريق القوم، وقد قعدوا هُم مع العوام‏:‏ لو أطاعونا ولم يدخلوا في هذا الشأن، ما قتلوا أو عذبوا، فقل لهم أيها الفقير‏:‏ القضاء والقدر يجري على الجميع، فادفعوا عن أنفسكم ما تكرهون، إن كنتم صادقين أن المكاره لا تصيب إلا من توجه لقتال نفسه‏.‏ والله تعالى‏.‏ أعلم بأسرار كتابه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏169- 171‏]‏

‏{‏وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ‏(‏169‏)‏ فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏170‏)‏ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏171‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏ألاَّ خَوف عليهم‏}‏‏:‏ بدل من ‏{‏الذين لم يلحقوا‏}‏، أو مفعول لأجله، وكرر‏:‏ ‏{‏يستبشرون‏}‏؛ ليذكر ما تعلق به من الفضل والنعمة، أو‏:‏ الأول بحال إخوانهم، وهذا بحال أنفسهم‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ولا تحسبن‏}‏ أيها الرسول، أو أيها السامع، ‏{‏الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل‏}‏ هم ‏{‏أحياء‏}‏؛ لأن الله تعالى جعل أرواحهم في حواصل طير خضر، يسرحون في الجنة حيث شاءوا عند ربهم، بالكرامة والزلفى، يُرزقون من ثمار الجنة ونعيمها، فحالهم حال الأحياء في التمتع بأرزاق الجنة، بخلاف سائر الأموات من المؤمنين؛ فإنهم لا يتمتعون بالأرزاق حق يدخلوا الجنة‏.‏ قاله ابن جزي‏.‏

قلت‏:‏ شهداء الملكوت- وهم العارفون- أعظم قدراً من شهداء السيوف، وراجع ما تقدم في سورة البقرة‏.‏

‏{‏فرحين بما آتاهم الله من فضله‏}‏ من الكرامة والزلفى والنعيم الذي لا يفنى، ‏{‏ويسبشرون بالذين لم يلحقو بهم من خلفهم‏}‏ أي‏:‏ بإخوانهم الذي لم يُقتلوا فيلحقوا بهم من بعدهم‏.‏ وتلك البشارة هي‏:‏ ‏{‏ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون‏}‏، أو من أجل ‏{‏ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون‏}‏‏.‏

والحاصل‏:‏ أنهم يستبشرون بما تبين لهم من الكرامة في الآخرة، وبحال من تركوا من خلفهم من المؤمنين، وهو أنهم إذا ماتوا أو قُتلوا، كانوا أحياء، حياة لا يدركها خوفُ وقوعِ محذور، ولا حزن فوات محبوب‏.‏ فالآية تدل على أن الإنسان غير الهيكل المحسوس، بل هو جوهر مُدرِك بذاته، لا ينفى بخراب البدن، ولا يتوقف على وجود البدن إدراكه وتألمُه والتذاذه‏.‏ ويؤيد ذلك قوله تعالى في آل فرعون‏:‏ ‏{‏النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُواً وَعَشِيّاً‏}‏ ‏[‏غَافِر‏:‏ 46‏]‏، وما رَوى ابنُ عباس من أنه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «أرْواحُ الشهداء في أجْوافِ طَيْرِ خَضْرٍ، تَرِدُ أنْهارَ الجنّةِ، وتَأكُلُ منْ ثِمارِها، وتَأوِي إلى قَنَادِيلَ مُعلَّقةٍ في ظلِّ العَرشِ»- قال معناه البيضاوي‏.‏

ولمّا ذكر استبشارهم بإخوانهم ذكر استبشارهم بما يخصهم فقال‏:‏ ‏{‏يستبشرون بنعمة من الله‏}‏؛ وهو ثواب أعمالهم الجسماني، ‏{‏وفضل‏}‏ وهو نعيم أرواحهم الروحاني، وهو النظر إلى وجهه الكريم، ويستبشرون أيضاً بكونه تعالى ‏{‏لا يضيع أجر المؤمنين‏}‏، ماتوا في الجهاد أو على فرشهم، حيث حسنت سريرتهم وكرمت علانيتهم، قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن لله عباداً يصرفهم عن القتل والزلازل والأسقام، يطيل أعمارهم في حسن العمل، ويحسن أرزاقهم، ويحييهم في عافية، ويميتهم في عافية على الفرش، ويعطيهم منازل الشهداء» قلت‏:‏ ولعلهم العارفون بالله، جعلنا الله من خواصهم، وسلك بنا مسالكهم‏.‏ آمين‏.‏

الإشارة‏:‏ لا تحسبن الذي بذلوا مُهجهم، وقتلوا أنفسهم بخرق عوائدها، وعكس مراداتها، في طلب معرفة الله، حتى ماتت نفوسهم، وحييت أرواحهم بشهود محبوبهم، حياة لا موت بعدها، فلا تظن أيها السامع أنهم أموات، ولو ماتوا حسّاً، بل هم أحياء على الدوام، وفي ذلك يقول الشاعر‏:‏

مَوْتُ التَّقِيِّ حَيَاةٌ لا فَنَاءَ لَهَا *** قَدْ مَاتَ قَوْمٌ وَهُمْ فِي النَّاسِ أَحْيَاءُ

فهم عند ربهم يشاهدونه مدة بقائهم، يرزقون من ثمار المعارف وفواكه العلوم، فرحين بما أتحفهم الله به من القرب والسر المكتوم، ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم في المرتبة ممن تعلق بهم وأنهم سيصلون إلى ما وصلوا إليه من معرفة الحي القيوم، فلا يلحقهم حينئذٍ خوف ولا حزن ولا هم ولا غم، لما سكن في قلبهم من خمرة محبة الحبيب، والقرب من القريب المجيب، وفي ذلك يقول ابن الفارض‏.‏

وإِنْ خَطَرَتْ يوماً علَى خاطِر امْرِئ *** أقَامَتْ به الأفْرَاحُ، وارتَحلَ الهمُّ

يسبشرون بنعمة أدب العبودية، وفضل شهود أسرار عظمة الربوبية، وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين المحبين لطريق المخصوصين، فإن طريق محبة طريق القوم عناية، والتصديق بها ولاية، وبالله التوفيق وهو الهادي إلى سواء الطريق‏.‏

ولما رجع أبو سفيان من غزوة أُحد، هو وأصحابه، حتى بلغوا الروحاء، ندم وهم بالرجوع، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فندب أصحابه للخروج في طلبه، وقال‏:‏ «لا يخرج معنا إلا من حضر بالأمس»، فخرج صلى الله عليه وسلم في سبعين رجلاً حتى بلغوا حمراء الأسد- وهي على ثمانية أميال من المدينة- وكان بأصحابه القرح، فتحاملوا على أنفسهم كي لا يفوتهم الأجر، وألقى الله الرعب في قلوب المشركين، فذهبوا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏172‏]‏

‏{‏الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ‏(‏172‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏الذين‏}‏‏:‏ مبتدأ، وجملة ‏{‏للذين أحسنوا‏}‏‏:‏ خبر، أو صفة للمؤمنين قبله، أو نصب على المدح‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏الذين استجابوا لله والرسول‏}‏ فأطاعوه فيما ندبهم إليه من اللحوق بالمشركين، إرهاباً لهم، ‏{‏من بعد ما أصابهم القرح‏}‏ أي‏:‏ الجرح، فتحاملوا على أنفسهم حتى ذهبوا مع نبيهم ‏{‏للذين أحسنوا منهم‏}‏ بأن فعلوا ما أمروا به، ‏{‏واتقوا‏}‏ الله في مخالفة أمر رسوله، ‏{‏أجر عظيم‏}‏ يوم يقدمون عليه‏.‏

الأشارة‏:‏ الذين استجابوا لله فيما ندبهم من الوصول إلى حضرته، وللرسول فيما طلبهم به من اتباع سنته، فجعلوا قلوبهم محلاً لحضرته، وجوارحهم متبعة لشريعته، من بعد ما أصابهم في طلب الوصول إلى ذلك قرح وضرب وسجن وإهانة، فصبروا حتى ظفروا بالجمع بين الحقيقة والشريعة، للذين أحسنوا منهم بالثبات على السير إلى الوصول إلى الحق، واتقوا كل ما يردهم إلى شهود الفرق، أجر عظيم وخير جسيم، بالعكوف في الحضرة، والتنعم بالشهود والنظرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏173- 175‏]‏

‏{‏الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ‏(‏173‏)‏ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ‏(‏174‏)‏ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏175‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ الموصول بدل من الموصول قبله، و‏{‏يخوف‏}‏‏:‏ يتعدى إلى مفعولين؛ للتضعيف، حذف الأول، أي‏:‏ يخوفكم أوليائه من الكفار، أو حذف الثاني، أي‏:‏ يخوف أولياءه القاعدين عن الخروج إلى ملاقاة العدو‏.‏

وهنا تفسيران‏:‏ أحدهما‏:‏ أن يكون من تتمة غزوة أحد، وهو الظاهر، ليتصل الكلام بما بعده، وذلك أن أبا سفيان لما هَمّ بالرجعة ليستأصل المسلمين، لقيه معبد الخزاعي، فقال له‏:‏ إن محمداً خرج يطلبك في جمع لم أرَ مثله، فدخله الرعب، فلقيه ركب من عبد القيس يريد المدينة بالميرة، فقال لهم‏:‏ ثبطوا محمداً عن لحوقنا، ولكم حمل بعير من الزبيب، فلما لقوا المسلمين خوفوهم، فقال‏:‏ ‏{‏حسبنا الله ونعم الوكيل‏}‏، ومضوا حتى بلغوا حمراء الأسد ثم رجعوا، فعلى هذا‏:‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏الذين قال لهم الناس‏}‏ وهم ركب عبد قيس حيث قالوا للمسلمين‏:‏ ‏{‏إن الناس‏}‏ يعني أبا سفيان ومن معه، ‏{‏قد جمعوا لكم‏}‏ ليرجعوا ليستأصلوكم ‏{‏فاخشوهم‏}‏ وارجعوا إلى دياركم ‏{‏فزادهم‏}‏ ذلك ‏{‏إيماناً‏}‏ ويقيناً وتثبيتاً في الدين، وهذا يدل على أن الإيمان يزيد وينقص، فيزيد بحسب التوجه إلى الله والتفرغ مما سواه، وينقص بحسب التوجه إلى الدنيا وشغبها، ويزيد أيضاً بالطاعة والنظر والاعتبار، وينقص بالمعصية والغفلة والاغترار‏.‏

ولما قال لهم الركب ذلك؛ ليخوفهم، ‏{‏قالوا حسبنا الله‏}‏ أي‏:‏ كافينا الله وحده، فلا نخاف غيره، ‏{‏ونعم الوكيل‏}‏ أي‏:‏ نعم من يتوكل عليه العبد، وهي كلمة يدفع بها ما يخاف ويكره، وهي الكلمة التي قالها إبراهيم حين ألقي في النار، ‏{‏فانقلبوا‏}‏ راجيعن من حمراء الأسد، متلبسين ‏{‏بنعمة من الله‏}‏ وهي العافية والسلامة، ‏{‏وفضل‏}‏ وهي زيادة الإيمان وشدة الإيقان، ‏{‏لم يمسسهم سوء‏}‏ من جراحة وكيد عدو، ‏{‏واتبعوا رضوان الله‏}‏، الذي هو مناط الفوز بخير الدارين، ‏{‏والله ذو فضل عظيم‏}‏، فقد تفضل عليهم بالتثبيت وزيادة الإيمان، والتوفيق إلى المبادرة إلى الجهاد مع الرسول صلى الله عليه وسلم الذي هو موجب الرضوان‏.‏

ثم حذَّرهم الحق تعالى ممن ثبّطهم عن اللحوق بالكافر، وهو ركب عبد القيس، تشبيهاً لهم بالشيطان، فقال‏:‏ ‏{‏إنما ذلكم الشيطان‏}‏ يخوفكم أولياءه من المشركين، أو ‏{‏يخوف أولياءه‏}‏ القاعدين من المنافقين ‏{‏فلا تخافوهم‏}‏؛ فإن أمرهم بيدي، ‏{‏وخافوا إن كنتم مؤمنين‏}‏؛ فإن الإيمان يقتضي إيثار خوف الله على خوف الناس‏.‏

التفسير الثاني‏:‏ أن يكون الكلام على غزوة بدر الصغرى،‏:‏ وذلك أن أبا سفيان لما انصرف من أُحد نادى‏:‏ يا محمد، موعدنا بدرٌ لقابل، إن شئت، فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن شاء الله تعالى»، فلما كان العام القابل، خرج أبو سفيان من أهل مكة، حتى نزل مرّ الظهران، فأنزل الله الرعب في قلبه، وبدا له أن يرجع، فلقي نُعيم بن مسعود الأشجعي معتمراً، فقال له‏:‏ ائت المدينة وأعلمهم أنّا في جمع كثير، وثبطهم عن الخروج، ولك عندي عشر من الإبل، فأتى المدينة فأخبرهم، فكره أصحابُ النبيّ صلى الله عليه وسلم الخروج، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏

«والذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لأَخْرجَنّ، ولو وَحْدِي» فرجع الجَبان وتأهب الشجعان، فخرجوا حتى أتوا بدراً الصغرى، ورجع أبو سفيان إلى مكة، فسموا جيش السويق، ووافق المسملون السوق ببدر، وكانت معهم تجارات فباعوا وربحوا، وانصرف النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينة‏.‏

فعلى هذا، يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏الذين استجابوا لله والرسول‏}‏، يعني‏:‏ في غزوة بدر الصغرى، لميعاد أبي سفيان، ‏{‏من بعد ما أصابهم القرح‏}‏ يعني‏:‏ في غزوة أحد في العام الأول، ‏{‏للذين أحسنوا منهم‏}‏ بالخروج مع الرسول، ‏{‏واتقوا‏}‏ الله في مخالفته، ‏{‏أجر عظيم الذين قال لهم الناس‏}‏ يعني نُعَيْم بن مسعود، وأطلق عليه الناس لأنه من جنسهم، كما يقال‏:‏ فلان يركب الخيل، وما يركب إلا فرساً، أو‏:‏ لأنه انضم إليه ناس من المدينة وأذاعوا كلامه‏.‏ ‏{‏إن الناس قد جمعوا لكم‏}‏ يعني‏:‏ أبا سفيان وأهل مكة لما خرج إلى مَرّ الظهران‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فانقلبوا بنعمة من الله‏}‏ أي‏:‏ عافية وسلامة، ‏{‏وفضل‏}‏ ما أصابوا من التجارة، وقوله‏:‏ ‏{‏إنما ذلكم الشيطان‏}‏ يعني‏:‏ نعيماً يخوفكم ‏{‏أولياءه‏}‏ والباقي ظاهر‏.‏

الإشارة‏:‏ أهل القوة من المريدين إذا قيل لهم‏:‏ إن الناس قد جمعوا لكم ليردوكم أو يؤذوكم فاخشوهم، زادهم ذلك إيماناً وإيقاناً، وتحققوا أنهم على الجادة، لسلوكهم على منهاج من قبلهم؛ ‏{‏أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءَامَنَّا‏}‏ ‏[‏العَنكبوت‏:‏ 2‏]‏ الآية‏.‏

واكتفوا بعلم الله ونظره وبرعايته ونصره، فانقلبوا بنعمة الشهود، وفضل الترقي في عظمة الملك الودود، لم يمسسهم في باطنهم سوء ولا نقصان، واستوجبوا من الله الرضى والرضوان، وإنما ذلكم شيطان يردهم عن مقام الشهود والعيان، فلا ينبغي لهم أن يخافوا ومطلبهم مقام الإحسان، الذي تُبْذل في طلبه الأرواح والأبدان‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏176- 177‏]‏

‏{‏وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏176‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏177‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ حَزَنَ يحزُن كبلغ يبلُغ، وأحزن يُحْزِن، كأَكْرم يكرم، لغتان، والأولى أفصح‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ولا يهولك شأن ‏{‏الذين يسارعون في الكفر‏}‏ أي‏:‏ يبادرون إلى الوقوع فيه، كالمنافقين او الكفار جميعاً، فلا تخف ضررهم؛ ‏{‏إنهم لن يضروا الله شيئاً‏}‏ أي‏:‏ لن يضروا أولياء الله، وإنما يرجع ضررهم إلى انفسهم‏.‏ ‏{‏يريد الله‏}‏- بسبب ما أظهر فيهم من المسارعة إلى الكفر- ‏{‏ألاَّ يجعل لهم حظّاً في‏}‏ ثواب ‏{‏الآخرة‏}‏؛ لِمَا سبق لهم من الشقاء، حتى يموتوا على الكفر‏.‏ وفي ذكر الإرادة إشعار بأن كفرهم بلغ الغاية، حتى أراد أرحم الراحمين ألاَّ يكون لهم حظ من رحمته‏.‏ ‏{‏ولهم‏}‏ مع ذلك ‏{‏عذاب عظيم‏}‏‏.‏

ثم كرّر شأنهم تأكيد فقال‏:‏ ‏{‏إن الذين اشتروا الكر بالإيمان‏}‏ أي‏:‏ استبدلوا الإيمان الذي ينجيهم من العذاب، لو دخلوا فيه، بالكفر الذي يُوجب العذاب، ‏{‏لن يضروا الله ولهم عذاب أليم‏}‏ موجع، أو يكون في الكفار أصالة، وهذا في المرتدين، والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ إنكار العوام على الخصوص لا يضرهم، ولا يغض من مرتبتهم، بل يزيدهم رفعةً وعلواً وعزّاً وقرباً، قال تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ‏}‏ ‏[‏النُّور‏:‏ 11‏]‏، وسَمِعتُ شيخنا البوزيدي رضي الله عنه يقول‏:‏ «كلامُ الناس في الولي كناموسة نفخت على جبل»‏.‏ أي‏:‏ لا يلحقهم من ذلك إلا ما يلحق الجبل من نفخ الناموسة، يريد الله ألا يجعل لهم من نصيب القرب شيئاً، ولهم عذاب البعد والنصب، في غم الحجاب وسوء الحساب، لا سيما من تمكن من معرفتهم، ثم استبدل صحبتهم بصحبة العوام، فلا تسأل عن حرمانه التام، والعياذ بالله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏178‏]‏

‏{‏وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏178‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ من قرأ بالتحتية، فالذين كفروا‏:‏ فاعل، و‏{‏إن‏}‏ وما بعدها‏:‏ سد مسد المفعولين، ومن قرأ بالفوقية فالذين‏:‏ مفعول أول، و‏{‏إنما‏}‏‏:‏ سد مسد الثاني، و‏{‏ما‏}‏‏:‏ مصدرية، والإملال‏:‏ الإمهال والتأخير‏.‏ ومنه‏:‏ ‏{‏وَاهْجُرْنِى مَلِيّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 46‏]‏‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ولا يظنن الذين كفروا أن إمهالي لهم وإمدادهم بطول الحياة، هو خير لهم، إنما نمهلهم استدراجاً ‏{‏ليزدادوا‏}‏ إثماً وعقوبة، ‏{‏ولهم عذاب مهين‏}‏ يهينهم، ويخزيهم يوم يُعز المؤمنين‏.‏

الإشارة‏:‏ إمهال العبد وإطالة عمره، إن كانت أيامه مصروفةً في الطاعة واليقطةِ، وزيادة المعرفة، فإطالتها خير، والبركة في العمر إنما هي بالتوفيق وزيادة المعرفة، وفي الحكم‏:‏ «من بورك له في عمره أدرك في يسير من الزمان ما لا تدركه العبارة ولا تلحقه الإشارة»‏.‏ وإن كانت أيام العمر مصروفة في الغفلة والبطالة وزيادة المعصية، فالموت خير منها‏.‏ وقد سُئل- عليه الصلاة والسلام- أيُّ الناس خَيْرٌ‏؟‏ قال‏:‏ «مَنْ طَالَ عُمرُه وَحَسُنَ عَمَلُهُ، قيل‏:‏ فَأَيُّ النّاسِ شر‏؟‏ قال‏:‏ مَنْ طَالَ عَمُرُهُ وَسَاءَ عَمله» والله تعالى أعلم‏.‏

ولمّا قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «إنَّ اللهَ أطلعني على من يُؤمِنُ بي ممن يكْفُر» قال المنافقون‏:‏ نحن معه ولا يعرفنا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏179‏]‏

‏{‏مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ‏(‏179‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ماز يميز، وميّز يُمَيِّز، بمعنى واحد، لكن في ميّز معنى التكثير‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ لعامة المؤمنين والمنافقين‏:‏ ‏{‏ما كان الله‏}‏ ليترك ‏{‏المؤمنين على ما أنتم عليه‏}‏ من الاختلاط، لا يعرف مخلصكم من منافقكم، بل لا بد أن يختبركم حتى يتميز المنافق من المخلص، بالوحي أو بالتكاليف الشاقة، التي لا يصبر عليها إلا المخلصون، كبذل الأموال والأنفس في سبيل الله، ليختبر به بواطنكم، ويستدل به على عقائدكم، أو بما ظهر في غزوة أحد من الأقوال والأفعال التي تدل على الإيمان أو النفاق، ‏{‏وما كان الله ليُطلعكم على الغيب‏}‏ حتى تعرفوا ما في القلوب من كفر أو إيمان، أو تعرفوا‏:‏ هل تَغْلُبون أو تُغْلَبُون‏.‏ ‏{‏ولكن الله يجتبي‏}‏ لرسالته ‏{‏من يشاء‏}‏، فيوحي إليه ويخبره ببعض المغيبات، أو ينصب له ما يدل عليها، ‏{‏فآمنوا بالله‏}‏ الذي اختص بعلم الغيب الحقيقي، وآمنوا برسله الذين اختارهم لأسرار الغيوب، لا يعلمون إلا ما علَّمهم‏.‏

رُوِيَ أن الكفرة قالوا‏:‏ إن كان محمد صادقاً فليخبرنا‏:‏ من يؤمن منا ومن يكفر‏؟‏ فنزلت الآية‏.‏ وقيل‏:‏ سببها ما تقدم من قول المنافقين، ووجه المناسبة‏:‏ هو ما صَدَرَ منهم يوم أُحُد من المقالات التي ميزتهم من المؤمنين‏.‏ ‏{‏وإن تؤمنوا‏}‏ إيماناً حقيقياً ‏{‏وتتقوا‏}‏ النفاق والشرك ‏{‏فلكم أجر عظيم‏}‏ عند الله‏.‏

الإشارة‏:‏ من سُنّة الله في المتوجهين إليه إذا كثروا، وظهرت فيهم دعوى القوى، أرسل الله عليهم ريح التصفية، فيثبت الصحيح، والخاوي تذروه الريح، وما ان الله ليذرهم على ما هم عليه من غير اختبار، حتى يميز الخبيث من الطيب، أي‏:‏ مَنْ هِمَّتُه الله ومَنْ هِمَّتُه سواه، وما كان الله ليُطلعكم على الغيب حتى يعلموا من يثبت ممن يرجع، أو يعلموا ما يلحقهم من الجلال والجمال، وإنما ذلك خاص بالرسل عليهم السلام، وقد يُطلع على شيء من ذلك بعض خواص ورثتهم الكرام، فالواجب على المريد أن يُؤمن بالقدر المغيب، ولا يستشرف على الاطلاع عليه؛ «استشرافُك على ما بطن فيك من العيوب، خير من استشرافك على ما حُجب عنك من الغيوب»‏.‏ ‏{‏وإن تؤمنوا‏}‏ بمواقع القضاء والقدر، ‏{‏وتتقوا‏}‏ القنوط والكدر، ‏{‏فلكم أجر عظيم‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏180‏]‏

‏{‏وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏180‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ من قرأ بالخطاب؛ فالموصول مفعول أول، و‏{‏خيراً‏}‏‏:‏ مفعول ثان، والضمير للفصل، والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، ولا بد من حذف مضاف، أي‏:‏ لا تحسبن بُخلَ الذين يبخلون خيراً لهم، ومن قرأ بالغيب؛ ف ‏{‏الذين‏}‏‏:‏ فاعل، والمفعول الأول محذوف، لدلالة ‏{‏يبخلون‏}‏ عليه، لا يحسبن البخلاء خيراً لهم، والطوق‏:‏ ما يدار بالعنق‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ولا يظنن ‏{‏الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله‏}‏ من الأموال، فلم يؤدوا زكاتهم، أن بخلهم خير لهم، ‏{‏بل هو شر لهم‏}‏؛ لاستجلابه العذاب إليهم، ثم بيَّنه بقوله‏:‏ ‏{‏سيطوقون ما بخلوا به‏}‏ أي‏:‏ يلزمون وبال ما بخلوا به إلزام الطوق للعنق، وقيل‏:‏ يطوق به حقيقة، لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «ما من رَجُل لا يؤدي زكاة ماله إلا إذا كان يوم القيامة- مُثِّلَ له شُجَاعاً أقْرع، له زَبِيبتَان، يطوِّقُه، ثم يأخُذُ بِلْهزِمتيه- أي‏:‏ شدقيه- يقول‏:‏ أنا كنْزكَ، أنا مَالُكَ، ثم تلا هذه الآية‏:‏ ‏{‏ولا يحسبن‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏» وقيل‏:‏ يجعل يوم القيامة في أعناقهم طوقاً من نار‏.‏

والمال الذي بخل به هو لله، وسيرجع لله، ‏{‏ولله ميراث السماوات والأرض‏}‏ فهو الذي يرث الأرض ومن عليها، فكيف يبخل العبد بمال الله، وهو يعلم أنه يرجع لله، فيموت ويتركه لمن يسعد به‏!‏ ولله درّ القائل، حيث قال‏:‏

يا جَامِعَ الْمَالِ كَمْ تُضَرُّ به *** تَطْمَعُ بالله فِي الخُلُودِ معَهْ

هَلْ حَمَل المالَ مَيِّتٌ مَعَهْ‏؟‏ *** أمَا تَارهُ لِغَيْرِه جَمَعَهْ‏؟‏‏!‏

‏{‏والله بما تعملون خبير‏}‏ لا يخفى عليه منعكم ولا إعطاؤكم، فيجازي كُلاً بعمله‏.‏

الإشارة‏:‏ لا يحسبن الذي يبخلون بما أتاهم الله من فضل الرئاسة والجاه، أن يبذلوها في طلب معرفة الله، وبذلها‏:‏ إسقاطها وإبدالها بالخمول، والذل لله، وإسقاط المنزلة بين عباد الله، فلا يظنون أن بخلهم بذلك خير لهم، بل هو شرٌّ لهم، سيلزمون وبال ما بخلوا به يوم القيامة، حين يرون منازل المقربين كالشمس الضاحية في أعلى عليين، وهم مع عوام أهل اليمين، محجوبون عن شهود رب العالمين، إلا في وقت مخصوص وحين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏181- 183‏]‏

‏{‏لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ‏(‏181‏)‏ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ‏(‏182‏)‏ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏183‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏وقتلهم‏}‏‏:‏ معطوف على ‏{‏ما‏}‏ المفعولة أو النائبة عن الفاعل، على القرائتين رفعاً ونصباً، و‏{‏أن الله‏}‏‏:‏ عطف على ‏{‏ما‏}‏ أي‏:‏ ذلك العذاب بسبب ما قدمتم وبأن الله منتفٍ عنه الظلم، فلا بد أن يعاقب المسيء ويثيب المحسن، ‏{‏الذين قالوا إن الله عهد إلينا‏}‏‏:‏ صفة للذين ‏{‏قالوا إن الله فقير‏}‏، أو بدل منه مجرور مثله‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏لقد سمع الله قول‏}‏ اليهود ‏{‏الذين قالوا إن الله فقير ونحن إغنياء‏}‏ وقائله‏:‏ فِنْحَاصُ بن عَازُرواء، في جماعة منهم، وذلك أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كتب مع أبي بكر إلى يهود بن قينقاع، يدعوهم إلى الإسلام، وإلى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وأن يقرضوا الله قرضاً حسناً، فدخل أبو بكر رضي الله عنه مِدْرَاسَهُم، فوجد خلقاً كثيراً اجتمعوا إلى فنحاص، وهو من علمائهم- ومعه حبر آخر اسمه‏:‏ ‏(‏أيشع‏)‏، فقال أبو بكر لفنحاص‏:‏ اتق الله وأسلم، فوالله إنك لتعلم أن محمداً رسول الله، قد جاءكم بالحق من عند الله، اتق الله وأسلم، فوالله إنك لتعلم أن محمداً رسول الله، قد جاءكم بالحق من عند الله، فأسلِمْ وصَدِّق، وأقْرِض الله قرضاً حسناً يدخلك الجنة، فقال فنحاص لعنه الله‏:‏ يا أبا بكر؛ تزعم ان ربنا يستقرضنا أموالنا، وما يستقرض إلا الفقير من الغني، ولو كان غنيّاً ما استقرض، فلطمه أبو بكر رضي الله عنه وقال‏:‏ لولا ما بيننا من العهد لضربت عنقك، فشكاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له‏:‏ عليه الصلاة والسلام‏:‏- «ما حملك على ما فعلت‏؟‏» فقال‏:‏ يا رسول الله، إن عدو الله قال قولاً قولاً عظيماً، زعم أن الله فقير، وهم أغنياء، فجَحَد ما قال، فنزلت الآية؛ تكذبياً له‏.‏

والمعنى‏:‏ أن الله سمع مقالتهم الشنيعة، وأنه سيعاقبهم عليها، ولذلك قال‏:‏ ‏{‏سنكتب ما قالوا‏}‏ أي‏:‏ سنسطرها عليهم في صحائف أعمالهم، أو سنحفظها في علمنا ولا نهملها، لأنها كلمة عظيمة، فيها الكفر بالله والاستهزاء بكتاب الله وتكذيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك نظمت مع قتلهم الأنبياء، حيث عطفه عليه، وفيه تنبيه على أن قولهم الشينع ليس هو أول جريمة ارتكبوها، وأن من اجترأ على قتل الأنبياء لم يستبعد أمثال هذا القول منه‏.‏

ثم ذكر عقابهم، فقال‏:‏ ‏{‏ونقول‏}‏ لهم يوم القيامة‏:‏ ‏{‏ذوقوا عذاب الحريق‏}‏ أي‏:‏ المُحْرِق، والذوق‏:‏ يطلق على إدراك المحسوسات كالمطعومات، والمعنويات كما هنا، وذكره هنا؛ لأن عذابهم مرتب على قولهم الناشئ عن البخل، والتهالك على المال، وغالب حاجة الإنسان إليه، لتحصيل المطاعم، ومعظم بخله للخوف من فقده‏.‏

‏{‏ذلك‏}‏ العذاب بسب ما ‏{‏قدمت أيديكم‏}‏ من قتل الأنبياء، وقولكم هذا، وسائر معاصيكم، وعبّر بالأيدي؛ لأن غالب الأعمال بهن، وبأن ‏{‏الله ليس بظلام للعبيد‏}‏ بل يجازي كلَّ عبد بما كسب من خير أو شر، فأنتم ظلمتم أنفسكم‏.‏

ثم إن قوماً منهم، وهو كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف وحُيَيْ بن أخطب وفنْحَاص ووهب بن يهوذا، أتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ يا محمد؛ تزعم أن الله بعثك إلينا رسولاً، وإن الله قد عهد إلينا يف التوراة، ألاَّ نؤمن لرسول يزعم أنه نبيّ حتى يأتينا بقربان تأكله النار، فإن جئتنا به صدقناك، فأنزل الله فيهم تكذيباً لهم‏:‏ ‏{‏الذين قالوا إن الله عهد إلينا‏}‏ في التوراة وأوصانا ‏{‏ألا نؤمن لرسول حتى ياتينا بقربان‏}‏؛ كصدقة أو نسيكة، ‏{‏تأكله النار‏}‏ كما كانت لأنبياء بني إسرائيل‏.‏

وذلك أن القرابين والغنائم كانت حراماً على بني إسرائيل، وكانوا إذا قرَّبوا قُرباناً، أو غنموا غنيمة، فتقبل منهم، ولم يُغل من الغنيمة، نزلت نار بيضاء من السماء، فتأكل ذلك القربان أو الغنيمة، فيكون ذلك علامة على القبول، وإذا لم يتقبل بقي على حاله، وهذا من تعنتهم وأباطيلهم، لأن أكل القربان لم يُوجبْ الإيمانَ إلا لكونه معجزة، وسائر المعجزات في ذلك سواء، فلذلك ردَّ عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات‏}‏ أي‏:‏ المعجزات الواضحات، ‏{‏وبالذي قلتم‏}‏ من أكل النار القربان، فكذبتموهم وقتلتموهم كزكريا ويحيى وغيرهما، ‏{‏فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين‏}‏ في دعواكم أنه ما منعكم من الإيمان إلا عدم ظهور هذه المعجزة، فما لكم لم تؤمنوا بمن جاء بها حتى قتلتموه‏؟‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ ما زالت خواص العامة مولعةً بالإنكار على خواص الخاصة، يسترقون السمع منهم، إذا سمعوا كلمة لم يبلغها علمُهم، وفيها ما يوجب النقص من مرتبتهم، حفظوها، وحرفوها، وأذاعوها، يريدون بذلك إطفاء نورهم، وإظهار عُوَراهم، والله حفيظ عليهم، سيكتب ما قالوا وما قصدوا من الإنكار على أوليائه، ويقول لهم‏:‏ ذوقوا عذاب البعد والحجاب‏.‏ وما يتشبثون به في الإنكار عليهم‏:‏ اقتراحهم الكرامات التي كانت للأولياء قبلهم، ويقولون‏:‏ لا نصدق بهم حتى يأتون بما أتى به فلان وفلان، فقد كان من قبلهم يطعنون فيهم مع ظهور ذلك عليهم، كما هو سنة الله فيهم‏.‏ ‏{‏والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏184‏]‏

‏{‏فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ‏(‏184‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏الزبر‏}‏‏:‏ جمع زبور، بمعنى مزبور، أي‏:‏ مكتوب، من زبرت، أي‏:‏ كتبت، وكل كتاب فهو زبور، وقال امرؤ القيس‏:‏

لِمَنْ طَلَلٌ أبْصَرْتُهُ فَشَجَانِي *** كَخَطِّ زَبَورٍ في عَسِيبٍ يَمَانِ

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ في تسلية رسوله- عليه الصلاة والسلام- من تكذيب اليهود وغيرهم له‏:‏ ‏{‏فإن كذبوك‏}‏ فليس ذلك ببدع؛ ‏{‏فقد كُذبت رسل‏}‏ مثلك ‏{‏من قبلك‏}‏ جاءوا قومهم بالمعجزات البينات، وبالكتب المنزلات، فيها مواعظ زاجرات، ‏{‏وبالكتاب المنير‏}‏ المشتمل على الأحكام الشرعيات‏.‏

الإشارة‏:‏ كما كُذبت الأنبياء كُذبت الأولياء، بعد أن ظهر عليها من العلوم الباهرة والحكم الظاهرة والكرامات الواضحة، وأعظمها المعرفة، وهذه سنة ماضية، ولن تجد سنة الله تبديلاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏185‏]‏

‏{‏كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ‏(‏185‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏زحزح‏}‏‏:‏ بُوعِدَ، والزحزحة‏:‏ الجذب والإخراج بعجلة‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ كل نفس منفوسة لا بد أن تذوق حرارة الموت، وتسقى كأس المنون، وإنما توفون جزاء أعمالكم يوم القيامة، يوم قيامكم من القبور، خيراً كان أو شرّاً‏.‏

قال البيضاوي‏:‏ ولفظ التوفية يشعر بأنه قد يكون قبلها بعض الأجور، أي‏:‏ توفية بعض الأجور، ويؤديه قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «القَبْرُ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الجنةِ، أو حُفْرةٌ مِنْ حُفَرِ النارِ»، ‏{‏فمن زحزح‏}‏ أي‏:‏ بُوعد ‏{‏عن النار وأدخل الجنة فقد فاز‏}‏ بالنجاة ونيل المراد، وعنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من أحبَ أن يُزحزَحَ عن النارِ ويُدْخَل الجَنَةَ؛ فَلتُدرِكْهُ مَنِيَّتُهُ وهو يُؤمنُ باللهِ واليَومِ الآخِرِ، ويَأتِي، إلى النَاسِ ما يُحِبُّ أن يُؤْتى إِليْه»‏.‏

‏{‏وما الحياة الدنيا‏}‏ وزخارفها ولذاتها ‏{‏إلا متاع الغرور‏}‏؛ فإن الغار- وهو المُدلِّس- يظهر ما هو حسن من متاعه، ويخفي ما هو معيب، كذلك الدنيا تبتهج لطالبها، وتُظهر له حلاوتها وشهواتها، حى تشغله عن ذكر الله وعن طاعته، فيؤثرها على آخرته، ثم يتركها أحوج ما يكون إليها، فينقلبُ نادماً متحسراً، وفي ذلك يقول الشاعر‏:‏

ومَنْ يحمد الدنيا لشيء يسره *** فسوف للعُسْرِ عن قَرِيبٍ يَلُومُها

إذا أدبرت كانتْ على المرء حسرةً *** وإن أقبلتْ كانت كثيراً هُمُومُها

الإشارة‏:‏ النفس، من حيث هي، كلها تقبل الموت لمن قتلها وجاهدها، وإنما وقع التفريط من أربابها، فمن زحزحها عن نار الشهوات، وقتلها بسيوف المخالفات، حتى أدخلها جنات الحضرات، فقد فاز فوزاً عظيماً، وربح ربحاً كريماً‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏186‏]‏

‏{‏لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ‏(‏186‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ أصل ‏{‏تبلونَّ‏}‏‏:‏ تُبلوون كتُنصرون، ثم قلبت الواو ألفاً، ثم حذفت لالتقاء الساكنين، فصار تبلْونن، ثم أكد بالنون، فاجتمع ثلاث نونات، حذفت نون الرفع فالتقى ساكنان؛ الواو ونون التوكيد، فحركت الواو بالضمة المجانسة، وهي النائب عن الفاعل‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ والله ‏{‏لتبلون‏}‏ أي‏:‏ لتختبرن ‏{‏في أموالكم‏}‏؛ بما يصيبها من الآفات، وما كُلفتم به من النفقات، ‏{‏وأنفسكم‏}‏؛ بالقتل والجراحات، والأسر والأمراض وسائر العاهات‏.‏ ‏{‏ولتسمعُن من الذين أتوا الكتاب من قبلكم‏}‏؛ اليهود ‏{‏ومن الذين أشركوا‏}‏، كفار مكة، ‏{‏أذى كثيراً‏}‏ كقولهم‏:‏ إن الله فقير، وهجاء الرسول- عليه الصلاة والسلام-، والطعن في الدين، وإغراء الكفرة على المسلمين، أو غير ذلك من الأذى، أعْلَمهم بذلك قبل وقوعه، ليتأهبوا للصبر والاحتمال، حتى لا يروعَهم نزولها حين الإنزال‏.‏ ‏{‏وتتقوا‏}‏ الله فيما أمركم به، ‏{‏فإن ذلك من عزم الأمور‏}‏ أي‏:‏ من معزومات الأمور التي يجب العزم عليها، أو مما عزم الله على فعلها، وأوْجَبه على عباده‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ كل من دخل في طريق الخصوص بالصدق والعزم على الوصول، لا بد أن يُبتلى ويختبر في ماله ونفسه، ليظهر صدقه في طلبه، ولا بد أن يسمع من الناس أذى كثيراً، فإن صبر ظفر، وإن رجع خسر، وهذه سنة الله في عباده‏:‏ ‏{‏وَلَنَبْلَوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ‏}‏ ‏[‏محَمَّد‏:‏ 31‏]‏، قال الورتجبي‏:‏ ‏{‏لتبلون في أموالكم‏}‏؛ بجمعها ومنها والتقصير في حقوق الله فيها، ‏{‏وأنفسكم‏}‏؛ باتباع شهواتها، وترك رياضتها، وملازمتها أسباب الدنيا، وخلوها من النظر في أمر الميعاد، وقيل‏:‏ ‏{‏لتبلون في أموالكم‏}‏؛ بالاشتغال بها أخذاً وإعطاء‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏187‏]‏

‏{‏وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ‏(‏187‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ الضمير في ‏{‏نبذوه‏}‏‏:‏ يعود على الكتاب، أو الميثاق‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏و‏}‏ اذكر ‏{‏إذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب‏}‏ وهم اليهود، أخذ عليهم العهد ليبينن للناس ما في كتابهم من صفة النبيّ صلى الله عليه وسلم ولا يكتمونه، فنبذوا ذلك العهد أو الكتاب ‏{‏وراء ظهورهم‏}‏؛ فكتموا صفته- عليه الصلاة والسلام- خوفاً من زوال رئاستهم، ‏{‏واشتروا‏}‏ بذلك العهد، أي‏:‏ استبدلوا به ‏{‏ثمناً قليلاً‏}‏ من حطام الدنيا، وما كانوا يأخذونه من سفلتهم، ‏{‏فبئس ما يشترون‏}‏، وهي تجر ذيلها على من كتم علماً سئل عنه، قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «مَنْ كَتَمَ عِلْماً عَنْ أَهْله ألجِمَ بلِجَامٍ مِنْ نَارٍ» وعن عليّ رضي الله عنه‏:‏ ‏(‏ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يُعلِّموا‏)‏‏.‏ وقال محمد بن كعب‏:‏ ‏(‏لا يحل للعالم أن يسكت على علمه، ولا الجاهل أن يسكت على جهله‏)‏‏.‏

الإشارة‏:‏ أهل العلم إذا تحققوا بوجود الخصوصية عند ولي، وكتموا ذلك حسداً وخوفاً على زوال رئاستهم، دخلوا في وعيد الآية؛ لأنَّ العوام تابعون لهم، فإذا كتموا أو أنكروا تبعُوهم على ذلك، فيحملون أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم، والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏188- 189‏]‏

‏{‏لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏188‏)‏ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏189‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ من قرأ بالخطاب، فالذين‏:‏ مفعول أول، والثاني‏:‏ محذوف، أي‏:‏ بمفازة من العذاب، أو هو المذكور، و‏{‏تحسبنهم‏}‏‏:‏ تأكيد للفعل الأول، ومن قرأ بالغيب، فالذين‏:‏ فاعل، والمفعولان‏:‏ محذوفان، دلَّ عليهما ذكرُهما مع الثاني، أي‏:‏ لا يحسبوا أنفسهم فائزة‏.‏ ‏{‏فلا تحسبنهم‏}‏‏:‏ من قرأ بفتح التاء؛ فالخطاب للرسول- عليه الصلاة والسلام-، والفعل مبني، ومن قرأ بالياء؛ فالخطاب للذين يفرحون، والفعل معرب، أي‏:‏ لا يحسبن أنفسهم بمفازة من العذاب‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏لا تحسبن‏}‏ يا محمد ‏{‏الذين يفرحون بما أتَوا‏}‏ أي‏:‏ بما فعلوا من التدليس وكتمان الحق، ‏{‏ويُحبون أن يُحمدوا بما لم يفعلوا‏}‏ من الوفاء بالعهد، وإظهار الحق، والإخبار بالصدق، أنهم فائزون من العذاب، فلا تظنهم ‏{‏بمفازة من العذاب‏}‏، بل ‏{‏لهم عذاب أليم‏}‏ موجع، ‏{‏ولله ملك السماوات والأرض‏}‏؛ إن شاء عذب وإن شاء رحم، ‏{‏والله على كل شيء قدير‏}‏ فلا يعجزه من ذلك شيء، أو‏:‏ لا يظن الذي يفرحون بما أتوا، ويحبون أن يُحمدوا بما لم يفعلوا، فلا يحسبون أنفسهم بمفازة من العذاب‏.‏

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه‏:‏ ‏(‏أنها نزلت في المنافقين، كانوا إذا خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم تخلَّفوا، وإذا قدم اعتذروا، فإذا قَبِل عذرهم فرحوا، وأحبُّوا أن يُحمدوا بما لم يفعلوا‏)‏‏.‏ وما تقدم في التوطئة هو عن ابن عباس‏.‏ وقال ابن حجر‏:‏ ولا مانع من أن يتناول الآية كلَّ من أتى بحسنة وفَرِحَ بها فَرَحَ إعجاب، وأحب أن يحمده الناس ويثنوا عليه بما ليس فيه‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ لا يظن أهل الفرق الذين يسندون الأفعال إلى أنفسهم، غائبين عن فعل ربهم، ويحبون أن يحمدهم الناس ويمدحهم بفعل غيرهم، أنهم فائزون عن عذاب الفرق، وحجاب العجب، إذ لا فاعل سوى الحق، فمن تمام نعمته عليك أن خلق فيك ونسب إليك، فإن فرح العبد بالطاعة من حيث ظهورها عليه، وهي عنوان العناية- ورأى نفسه فيها كالآلة، معزولاً عن فعلها، محمولاً بالقدرة الأزلية فيها، فلا بأس عليه، ويزيد بذلك تواضعاً وشكراً، وإن فرح بها من حيث صدورها منه، ويتبجح بها على عباد الله، فهو عين العجب، وفي الحكم‏:‏ «لا تُفرحكَ الطاعة من حيث إنها صَدَرَتْ منك، وافرح بها من حيث إنها هدية من الله عليك؛ ‏{‏قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ‏}‏ ‏[‏يُونس‏:‏ 58‏]‏»‏.‏