فصل: تفسير الآية رقم (47)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***


تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آَمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ‏(‏47‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ياأيها الذين أوتوا الكتاب‏}‏ من اليهود ‏{‏آمنوا بما نزلنا‏}‏ من القرآن ‏{‏مصدقًا لما معكم‏}‏ من التوراة ‏{‏من قبل أن نطمس وُجُوهاً‏}‏ أي‏:‏ نغير صُورها ونمحو تخطيط أشكالها، فلا تبقى عين ولا أنف ولا حاجب، ‏{‏فنرُدها على‏}‏ هيئة ‏{‏أدبارها‏}‏ من الأقفاء، أو ننكسها إلى ورائها في الدنيا، ‏{‏أو نلعنهم‏}‏ أي‏:‏ نخزيهم بالمسخ، ‏{‏كما لعنَّا أصحاب السبت‏}‏، فمسخناهم قردة وخنازير، ‏{‏وكان أمر الله مفعولاً‏}‏، لا مرد له، ولعله كان مشروطاً بعدم إيمان بعضهم، أو يراد بطمس الوجوه ما يكسوها من الذلة والصغار‏.‏ ويراد باللعن حقيقته، أي‏:‏ نلعنهم على لسانك كما لُعنوا على لسان داود وعيسى ابن مريم‏.‏

وهذه الآية كانت سبب إسلام كعب الأحبار، سمعها من بعض الصحابة فأسلم في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏.‏ والمسخ جائز على هذه الأمة، كما وقع الأمم السابقة، بدليل ما في كتاب الأشربة من البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «ليكوننَّ من أمَّتي أقوام يَستحلُّون الحِر والحَريرَ، والخمر والمعازف، ولينزلنَّ أقوام إلى جَنِب علَمِ، يَروحُ عليهم بسارحة لهم يأتيهم لحاجة، فيقولون‏:‏ ارجع إلينا غَدًا، فيُبيَّتُهم الله، ويضع عليهم العَلَم، ويَمسَخُ آخرين قِردَة وخنازيرَ إلى يوم القيامة»‏.‏

الإشارة‏:‏ حملة الشريعة يخاطبون بالإيمان بأهل الحقيقة، لأنها لبها وصفاؤها، فإن امتنعوا من الإيمان بها ومن الإذعان لأهلها، طمس الله وجوه قلوبهم، وملأها خوفًا وجزعًا وحبًا للدنيا، وردها على أدبارها، فلا تفهم أسرارَ الكتاب ولا تفقه إشارة الخطاب، فإن قصّروا عن حقوق الشريعة، وغيَّروا أحكامها مُسخوا قردة وخنازير‏.‏ وفي نوادر الأصول بسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «تَكُونُ فِي أُمَّتي قزَعةٌ، فَيَصيرُ النَّاسُ إلى عُلَمَائِهِمْ، فإذا هُم قِردَةٌ وخَنَازِيرُ»‏.‏

قال الترمذي الحكيم‏:‏ فالمسخ‏:‏ تغيير الخلقة عن جهتها، فإنما حل بهم المسخ لأنهم غيَّروا الحق عن جهته، وحرفوا الكلم عن مواضعه، فمسخوا عن أعين الخلق، وقلوبُهم عن رؤية الحق‏.‏ فمسخ الله صورهم وبدَّل خِلقتهم، كما بدلوا الحق باطلاً‏.‏ ه‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا ‏(‏48‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إن الله لا يغفر أن يشرك به‏}‏ لأنه بتَّ الحكم على خلود عذابه، لأن الله تعالى غيور لا أحد أغير منه‏.‏ كما في الحديث، ومن عادة الملوك إذا خرج أحدٌ من رعيته ونصر غيره لا يقبل منه إلا الرجوع أو الموت‏.‏ ولا شفاعة تنفع في غير الرجوع عنه‏.‏ ‏{‏ويغفر ما دون ذلك‏}‏ الشرك ‏{‏لمن يشاء‏}‏ من الكبائر والصغائر‏.‏ تاب أم لا‏.‏ فالعصاة أذا لم يتوبوا في مشيئة الله، ‏{‏ومن يُشرك بالله فقد افترى إثمًا عظيمًا‏}‏؛ ارتكب ما تستحقر دونه الآثام‏.‏ وهو إشارة إلى المعنى الفارق بينه وبين سائر الذنوب، والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ ولما رأت الصوفية أن الشرك لا يُغفر، ولا يُسمح في شيء منه، جليًا أو خفيًا، حققوا إخلاصهم، ودققوا معاملتهم مع ربهم، وفتشوا على قلوبهم، هل بقي فيها شيء من محبة غير مولاهم، أو خوفٌ من شيء دونه، وطهروا توحيدهم من نسبة التأثير لشيء من الكائنات، فتوجهوا إلى الله في إزالة ذلك عنهم‏.‏

قال بعضهم‏:‏ شربتُ لبنًا فأصابني انتفاخ، فقلت ضرني ذلك اللبن، فلما كنت ذات يوم أتلو، هذه الآية قلت‏:‏ يا رب؛ أنا لا أشرك بك شيئًا، فقال لي هاتفٌ‏:‏ ولا يوم اللبن، فبادرت إلى التوبة‏.‏ اه‏.‏ بالمعنى‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏49- 50‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ‏(‏49‏)‏ انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا ‏(‏50‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ألم تر‏}‏ يا محمد ‏{‏إلى الذين يزكون أنفسهم‏}‏، وهم اليهود، قالوا‏:‏ نَحنُ أبنَاءُ اللهِ وَأحبَّاؤُه، وقيل‏:‏ طائفة منهم، أتَوا بأطفَالِهِم إلىَ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ هَل عَلَى هؤُلآءِ ذَنبٌ، قال‏:‏ «لآ»‏.‏ قَالوُا‏:‏ واللهِ مَا نَحنُ إلا كَهَيئَتِهِم، مَا عَمِلنَا بالنّهَارِ يُكَفَّر عَنَّا باللَّيلِ، وما عملنا باللَّيلِ يُكَفَّر عَنَّا بالنّهَارِ، فنزلت فيهم الآية‏.‏ وفي معناهم‏:‏ من زكى نفسه وأثنى عليها قبل معرفتها‏.‏

‏{‏بل الله يُزكي من يشاء‏}‏ لأنه العالم بخفيات النفوس وكمائنها، وما انطوت عليه من قبيح أو حسن، فيزكي من يستحق التزكية، ويفضح المُدَّعِين، ‏{‏ولا يُظلمون فتيلاً‏}‏، وهو الخيط الذي في شق النواة، يضرب مثلاً لحقارة الشيء، فأن الله لا يظلم مثقال ذرة، ‏{‏انظر كيف يفترون على الله الكذب‏}‏ في زعمهم أنهم أبناء الله، أو أنهم مغفور لهم، ‏{‏وكفى به‏}‏ أي‏:‏ بالافتراء، ‏{‏إثماً مبينًا‏}‏ أي‏:‏ ظاهرًا لا يخفى على أحد‏.‏

الإشارة‏:‏ قال بعض الصوفية‏:‏ للنفس من النقائص ما لله من الكمالات، فلا ينبغي للعبد أن يُزكي نفسه، ولو بلغ فيها من التطهير ما بلغ، ولا يرضى عنها ولو عملت من الأعمال ما عملت‏.‏ قال أبو سليمان الداراني‏:‏ لي أربعون سنة وأنا مُتَّهٍمٌ لنفسي‏.‏ وفي الحِكَم «أصل كل معصيةٍ وغفلةٍ وشهوةٍ‏:‏ الرضا عن النفس، وأصلُ كل طاعةٍ ويقظةٍ وعفةٍ‏:‏ عدمُ الرضا منك عنها، ولأن تصحب جاهلاً لا يرضى عن نفسه خيرٌ من أن تصحب عالمًا يرضى عن نفسه، فأيُّ علمٍ لعالمٍ يرضى عن نفسه‏؟‏‏!‏ وأي جهل لجاهل لا يرضى عن نفسه‏؟‏‏!‏»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 52‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا ‏(‏51‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا ‏(‏52‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ الجبت في الأصل‏:‏ اسم صنم، فاستعمل في كل ما عُبد من دون الله، ‏{‏والطاغوت‏}‏‏:‏ كل باطل من معبود أو غيره، أو الجبت‏:‏ السحر، ‏{‏والطاغوت‏}‏‏:‏ الساحر، وبالجملة‏:‏ هو كل ما عُبد أو أطيع من دون الله، وقال الجوهري‏:‏ الجبت‏:‏ اسم لكل صنم ولكل عاصٍ ولكل ساحر وكل مُضِلّ، ‏{‏والطاغوت‏}‏‏:‏ الشيطان، وأصله‏:‏ طغيوت، فعلوت، من الطغيان، ثم قلب فصار طيَغوت، ثم قلبت الياء ألفًا‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من‏}‏ علم ‏{‏الكتاب‏}‏، وهم أحبار اليهود ‏{‏يُؤمنون بالجبت والطاغوت‏}‏؛ يقرون بصحة عبادتهما، ‏{‏ويقولون للذين كفروا هؤلاء‏}‏ الكفرة ‏{‏أهدى من الذين آمنوا‏}‏ طريقًا، نزلت في اليهود- لعنهم الله-‏:‏ كانوا يقولون‏:‏ إن عبادة الأصنام أرضى عند الله مما يدعو إليه محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل‏:‏ في حُيي بن أخطب وكعب بن الأشرف، خرجا في سبعين راكبًا إلى مكة يُحالفون قريشًا على محاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وقعة أُحد، وينقضون العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل كَعبُ على أبي سفيان، فأحسن مثواه، ونزلت اليهود في دور قريش‏.‏ فقال أهل مكة‏:‏ أنتم أهل كتاب، ومحمدٌ صاحب كتاب، ولا نأمن أن يكون هذا مكيدة منكم‏.‏ فإن أردتم أن نخرج معكم فاسجدوا لهذين الصنمين، وآمنوا بهما، ففعلوا، فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يؤمنون بالجبت والطاغوت‏}‏‏.‏

ثم قال أبو سفيان لكعب‏:‏ إنك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم، ونحن أميون لا نعلم، فأيُّنا أهدى سبيلاً وأقرب إلى الحق، نحن أو محمد‏؟‏ قال كعب‏:‏ اعرضوا عليَّ دينَكم، فقال أبو سفيان‏:‏ نحن ننحر للحجيج الكومَاءَ أي‏:‏ العظيمة من النوق ونسقي الماء، ونَقري الضيف، ونفك العاني، ونصل الرحم، ونعمر بيت ربنا، ونطوف به، ونحن أهل الحرم، ومحمدٌ فارقَ دينَ أبائه، وقطع الرحم وفارق الحرم، فقال كعب‏:‏ أنتم والله أهدى سبيلاً‏.‏ ه‏.‏

‏{‏أولئك الذين لعنهم الله‏}‏ وأبعدهم وأسحقهم ‏{‏ومَن يلعن الله فلن تجد له نصيرًا‏}‏ ينصره من عذاب الله‏.‏ فقد قُتل هؤلاء كلهم شر قتلة، وذهبوا إلى الهاوية‏.‏ عائذاً بالله‏.‏

الإشارة‏:‏ قال الورتجبي‏:‏ وبَّخ الله تعالى أهل ظاهر العلم الذين اختاروا الرياسة، وأنكروا على أهل الولاية، وآثروا صحبة المخالفين، يقبلون هواجس نفَوسهم التي هي الجبت، ويَحظُون على آثار الطاغوت، التي هي إبليس‏.‏ ه‏.‏

قلت‏:‏ وينسحب التوبيخ على من فضّل أهل الظاهر على أهل الباطن، وفضَّل العلماء على الأولياء، ويقولون‏:‏ هم أهدى منهم سبيلاً‏.‏ هيهات‏!‏ بينهم من البَون ما بين السماء والأرض‏.‏

والكلام إنما هو في التفضيل بين العارفين بالله، الذين جمعوا بين الفناء والبقاء، وبين العلماء والأتقياء‏.‏ وأما العُبَّاد والزهاد والصالحون فلا شك أن العلماء الأتقياء أفضل منهم، وإليهم أشار صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏

«فَضلُ العَالِمِ على العابِد كَفَضِلِي عَلَى أدناكُم» وكذلك الأحاديث التي وردت في تفضيل العلماء‏.‏ وأما العارفون بالله فهم أعظم العلماء، لأن علمهم متعلق بذات الله كشفًا وذوقًا، وعلماء الظاهر علمهم متعلق بأحكام الله‏.‏ مفرقُون عن الله، بل هم أشد حجابًا من غيرهم عن الله‏.‏ قال بعض الأولياء‏:‏ أشد الناس حجابًا عن الله‏:‏ العلماء ثم العباد ثم الزهاد‏.‏ ه‏.‏ لأن حلاوة ما هم فيه تمنعهم عن الانتقال عنه، وقد تقدم الكلام عند قوله‏:‏ ‏{‏كُنتٌمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ‏}‏ ‏[‏آل عِمرَان‏:‏ 110‏]‏ بأبلغ من هذا‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏

‏{‏أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا ‏(‏53‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏أم‏}‏‏:‏ منقطعة، بمعنى بل، والهمزة للإنكار، وهو إنكار وجحدٌ لما زعمت اليهود من أنَّ المُلكَ سيصيرُ لهم، و‏{‏إذًا‏}‏ إن فُصل بينها وبين المضارع، ب «لا» ففيها الإهمال والإعمال، وقد قرىء‏:‏ ‏(‏وإذًا لا يلبثوا‏)‏، والنقير‏:‏ النقرة التي في ظهر النواة، وهو هنا كنابة عن نهاية بخلهم‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ مُنكِرًا على اليهود‏:‏ أيحصل لهم ‏{‏نصيب من المُلك‏}‏ والرياسة‏؟‏ هيهات، لا يكون هذا أبدًا، فكيف يكون لهم الملك وهم أبخل الناس‏؟‏‏.‏ فإذا أُوتوا شيئًا من الملك لا يُعطون الناس نقيرًا، فما بالك بأكثر، والملك والنصر ولا يكونان إلا لأجل الكرم والجود والشجاعة، وإصابة الرأي وحسن التدبير، وهم بعداء من هذه المكارم‏.‏

الإشارة‏:‏ لا يُمكن اللهُ من العز والنصر والتصرف الظاهر أو الباطن إلا أهل السخاء والجود، فمن جاد بمالِهِ حتى لا يبالي كم أعطى ولا لمن أعطى، مكّنه الله من العز والتصرف الحسي، ومن جاد بنفسه وجاهه، وبذلهما في مرضاة ربه، مكّنه الله من العز والنصر والتصرف المعنوي؛ يتصرف بهمته في الوجود بأسره، من عرشه إلى فرشه، ويدوم عزه ونصره أبد الأبد‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏54- 57‏]‏

‏{‏أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آَتَيْنَا آَلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآَتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا ‏(‏54‏)‏ فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا ‏(‏55‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا ‏(‏56‏)‏ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا ‏(‏57‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏أم‏}‏ بمعنى بل، و‏{‏سعيرًا‏}‏ تمييز‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ توبيخًا لليهود على الحسد‏:‏ ‏{‏أم يحسدون الناس‏}‏، أي‏:‏ العرب حيث انتقلت النبوة إليهم، وقد كانت في أسلافهم، ‏{‏على ما آتاهم الله من فضله‏}‏، وهو ظهور النبوة فيهم، أو رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه اجتمع فيه ما افترق في سائر الناس، حسدوه على ما آتاه الله من فضله، من النبوة وغيرها، وقالوا لعنهم الله‏:‏ ما له همٌّ إلا النساء ولو كان نبيًا لشغله أمر النبوة عن النساء‏.‏

فكَّذبهم الله تعالى وردَّ عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏فقد آتينا آل إبراهيم‏}‏ وهم‏:‏ يوسف وداود وسليمان، ‏{‏الكتاب والحكمة‏}‏ أي‏:‏ النبوّة، ‏{‏وآتيناهم مُلكّاً عظيمًا‏}‏‏.‏ فقد اجتمع لداود عليه السلام مائة امرأة‏.‏ ولسليمان عليه السلام ألف امرأة‏:‏ ثلاثمائة مهيرة، أي بالمهر وسبعمائة سرية، فقال لهم عليه الصلاة والسلام حين نزلت الآية‏:‏ ألف امرأة عن رجل، ومائة امرأة عند آخر، أكثر من تسع نسوة، فسكتوا‏.‏

‏{‏فمنهم‏}‏ أي‏:‏ اليهود، ‏{‏من آمن به‏}‏ أي‏:‏ بمحمد عليه الصلاة والسلام كعبد الله بن سلام وأصحابة، ‏{‏ومنهم من صدّ عنه‏}‏ أي‏:‏ أعرض عنه، أو‏:‏ من آل إبراهيم من آمن بإبراهيم، ‏{‏ومنهم من صدّ عنه‏}‏، ولم يكن في ذلك توهين لقدر إبراهيم، فكذلك لا يُوهن كفرُ هؤلاء أمرَك، أو‏:‏ من أسلافهم من آمن بما أُوتي آل إبراهيم من الكتاب والحكمة والمُلك، ‏{‏ومنهم مَن صدّ عنه‏}‏، كما فعلوا مع سليمان وغيره‏.‏ ‏{‏وكفى بجهنم سعيرًا‏}‏ لمن كفر بما جاء به أحد من الرسل، أي‏:‏ فإن لم يُعاجَلوا بالعقوبة فقد كفاهم ما أعد لهم من سعير جهنم‏.‏

ثم بيَّن مآل من كفر، فقال‏:‏ ‏{‏إن الذين كفروا بآياتنا‏}‏ المنزلة على رسلنا، أو الدالة على وحدانيتنا، ‏{‏سوف نصليهم نارًا‏}‏ أي‏:‏ نحرقهم بها ونشويهم، ‏{‏كلما نضجت جلودهم‏}‏ أي‏:‏ لانت واحترقت ‏{‏بدّلناهم جلودًا غيرها‏}‏، قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «تُبدَّلُ في ساعةٍ مائةَ مَرَّة» وقال الحسن‏:‏ ‏(‏تأكلهم النارُ في كل يوم سبعين ألف مرة، كلما أكلتهم وأنضجتهم قيل لهم‏:‏ عودوا فيعودوان كما كانوا‏)‏‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ ‏(‏ما بين جلده ولحمه دود، لها جلبة أي حركة وهرير كجلبة حمر الوحش‏)‏‏.‏ رَوى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «غلظٌ جِلدِ الكَافِرِ اثنَانٍ وأربعَونَ ذرَاعًا، وضِرسه مِثلُ أحُد»‏.‏

وإنما بدلت جلودهم ‏{‏ليذوقوا‏}‏ ألم ‏{‏العذاب‏}‏، أي‏:‏ يدوم لهم ذلك بخلق جلد آخر مكانه، والعذاب في الحقيقة للنفس العاصية لا لآلة إدراكها، فلا محذور، ‏{‏إن الله كان عزيزًا‏}‏ لا يمتنع عليه ما يريد، ‏{‏حكيمًا‏}‏ يعاقب على قدر حكمته‏.‏

ثم ذكر مقابل هؤلاء فقال‏:‏ ‏{‏والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا لهم فيها أزواج مطهرة‏}‏ مما يستقذر ‏{‏وندخلهم ظلاً ظليلاً‏}‏ أي دائمًا لا تنسخه شمس، ولا يصحبه برد، قدَّم وعيد الكفار على وعد المؤمنين، لأن الكلام فيهم، وذكر المؤمنين بالعرض‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ الحسد خلق مذموم، لا يتطهر منه إلا الصديقون، وكل من بقي فيه بقية من الحسد لا يشم رائحة المعرفة، إذ لو عرف الله لم يجد من يحسد، وقد قيل‏:‏ الحسود لا يسود‏.‏ وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أن قال‏:‏ «الحَسدُ يأكُلُ الحسنَاتِ كما تأكلُ النَّارُ الحَطَبَ» وقال سفيان‏:‏ ‏(‏بلغني أن الله تبارك وتعالى يقول‏:‏ الحاسدُ عدو نعمتي، غيرُ راضٍ بقسمتي التي قسمت بين عبادي‏)‏‏.‏ وأنشدوا‏:‏

ألاَ قُل لمَن كانَ لي حَاسِدًا *** أتدري على مَن أسَأتَ الأدَب

أسَأتَ على اللهِ في فِعلِه *** إذا أنتَ لم تَرضَ لي مَا وَهَب

جَزَاؤُكَ منه الزيادةُ لي *** وألاَّ تَنَالَ الذِي تَطَّلِب

وقال آخر‏:‏

إن تحسُدُوني فإني غيرُ لائمكم *** قَبَلى من الناسِ أهل الفضلِ قّد حُسِدُوا

فَدَامَ لي وَلَهُم ما كَانَ بي وبهم *** وماتَ أكثَرُنا غيظًا بما يَجِدُ

ثم إن الحسود لا تزول عداواته، ولا تنفع مداواته، وهو ظالم يشتكي كأنه مظلوم‏.‏ ولقد صدق القائل‏:‏

كلُ العَدَاوةِ قد تُرجىَ إزالتُها *** إلا عداوة مَن عَادَاكَ مِن حَسَدٍ

وقال حكيم الشعراء‏:‏

وأظلمُ خَلقِ اللهِ مَن بَاتَ حَاسِدًا *** لِمَن بَاتَ في نَعمَائِه يَتَقَلَّبُ

وقال آخر‏:‏

أني لأرحمُ حاسِدِيَّ لفرطِ ما *** ضَمَّت صُدُوُرُهُم مِن الأوغَارِ

نَظَرُوا صنيعَ اللهِ في فَعُيُونهُم *** في جَنَّةٍ وقَلوبُهُم في نارِ

قال بعض الحكماء‏:‏ ‏(‏الحاسدُ يضرُّ نفسه ثلاث مضرات‏:‏ إحداها‏:‏ اكتساب الذنوب؛ لأن الحسد حرام‏.‏ الثانية‏:‏ سوء الأدب مع الله تعالى فإنَّ حقيقة الحسد‏:‏ كراهية إنعام الله على غيره، واعتراض على الله في فعله‏.‏ الثالثة‏:‏ تألم قلبه وكثرة همه وغمه‏)‏‏.‏ عافانا الله من ذلك كله، فالحاسد لا ينفك عن نار الحجاب وغم الحساب، والمتطهر منه يدخل جنة الرضى والتسليم في جوار الحبيب، وهو محل الراحة والأمن في الدارين، وهو الظل الظليل‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ‏(‏58‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ «ما» في ‏{‏نِعِمَّا‏}‏ تمميز أو فاعل، والمخصوص محذوف، أي نعم شيئًا شيء يعظكم به، أو نعم الذي يعظكم به ذلك الأمر، وهو رد الأمانات والعدل في الحكومات‏.‏

قال زيد بن أسلم وشهر بن حوشب‏:‏ نزلت الآية في شأن الأمراء‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ وأن نزلت في شأن عثمان بن طلحة سَادِن الكَعبَةِ فهي عامة‏.‏ والمخاطب بذلك أولاً الرسول صلى الله عليه وسلم وهو سيد الأمراء، أمره الحق تعالى أن يرد المفاتح إلى عثمان، وذلك أن عثمان أغلق باب الكعبة يوم فتح مكة وأبى أن يدفعها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدخل الكعبة، وقال‏:‏ لو عَلمِتُ أنه رَسُول الله ما منعتُهُ، فَلَوى عَلِيَّ يده، وأخذّها مِنهُ، فدخل رسول الله صلى عليه وسلم وصَلّى رَكعَتينِ، فلما خَرَجَ سألُه العباس أن يُعطيه المفتَاح، وَيَجمَعَ له السِّدَانَةَ والسِّقَايةَ، فأمره اللهُ تعالى أن يرده إليه، فأمر عَلِيًّا بأن يَرُدَّه وَيَعتَذِر إليه، وكان ذلك سببًا لإسلام عثمان، ونزل الأمر بأن السِّدَانَة في أولاده أبدًا‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إن الله يأمركم‏}‏، يا معشر الأمراء، أن تردوا ‏{‏الأمانات إلى أهلها‏}‏ من أنفسكم، أو من رعيتكم فتُنصفوا المظلوم من الظالم، حتى يؤدي ما ائتُمن عليه من دَينٍ، أو وديعة، أو غصب، أو سرقة، أو غير ذلك من حقوق العباد، بعضهم من بعض، وأن تؤدوا الزكاة إلى من يستحقها، وتصرفوا بيت المال فيمن يستحقه، لا تظلموا أهلها، ولا تضيعوا منها شيئاً في غير مستحقها‏.‏

‏{‏و‏}‏ يأمركم ‏{‏إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل‏}‏ في من يَنفُذُ عليه حكمُكُم، ‏{‏إن الله نعمًا يعظكم به‏}‏ أي‏:‏ إن الله يعظكم بأمر نعم ما هو، ‏{‏إن الله كان سميعًا بصيرًا‏}‏ لا يخفى عليه أحكامكم، ولا ما أخفيتم من أمانات غيركم‏.‏

الإشارة‏:‏ أمر الحقّ جلّ جلاله شيوخ التربية أن يؤدوا السر إلى من يستحقه من الفقراء، إذا تحققوا أهليتهم له، بحيث تخلوا عن الرذائل، كالحسد والكبر وغيرهما، وتحلوا بالفضائل، كسلامة الصدر وسخاوة النفوس وحسن الخلق، وغير ذلك من أوصاف الكمال، فإن تحققوا بالتخلية والتحلية، استحقوا الاطلاع على أسرار الربوبية، التي هي أمانات عند أهل الخصوصية، وأمرهم أن يحكموا بين الفقراء بالعدل، فيمدوا كلاً على قدر صِدقِه وخِدمَتِه، والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ‏(‏59‏)‏‏}‏

أعاد العامل في قوله‏:‏ ‏{‏وأطيعوا الرسول‏}‏، إشارة إلى استقلال الرسول بالطاعة، ولم يُعده في ‏{‏أولى الأمر‏}‏ إشارة إلى أنه يوجد منهم من لا تجب طاعته، ثم بيّنه بقوله‏:‏ ‏{‏فإن تنازعتم في شيء‏}‏ كأنه قيل‏:‏ فإن لم يعملوا بالحق فلا تطيعوهم، وردوا ما تخالفتم فيه إلى حكم الله ورسوله‏.‏ قال الطيبي، وسيأتي تحريرُ ذلك إن شاء الله تعالى‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله‏}‏ فيما أمركم به ونهاكم عنه، ‏{‏وأطيعوا الرسول‏}‏ كذلك‏.‏ ‏{‏وأولي الأمر منكم‏}‏ أي‏:‏ مَن ولي أمرَكم‏.‏ من وُلاَةِ العدل كالخلفاء والأمراء بعدهم، تجب طاعتهم فيما أمَروُا به من الطاعة دون المعصية إلا لخوف هرج، قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «إنَّمَا الطَّاعَةُ فِي المَعرُوف»، فأن لم يعدل‏:‏ وجبت طاعته خوفًا من الفتنة‏.‏ وهذا هو الأصح‏.‏ لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «سَيَليكم ولاة، فيليكم البَرُّ ببره، والفاجر بفجوره، فاستمعوا لهم، وأطيعوا في كل ما وافق الحق، فصلوا وراءهم، فإن أحسنوا فلهم، وإن أساؤوا فلكم وعليهم» رواه أبو هريرة‏.‏

وفي حديث آخر‏:‏ «لا أن تَروا كُفرًا بَوَاحًا، لكم عليه من اللهِ بُرهَانٌ» أي‏:‏ فيجب عزلهم‏.‏ وقال أيضًا صلى الله عليه وسلم لما سأله أبو وائل فقال‏:‏ يا رسول الله؛ أرأيت إن كان علينا أمراء يمنعوننا حقنا ويسألون حقهم‏؟‏‏.‏ فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «اسمَعُوا وأطِيعُوا، فَإنَّ عليهم ما حُمِّلُوا وَعَليكُم ما حُملتم»‏.‏

وقال جابر بن عبد الله والحسن والضحاك ومجاهد‏:‏ أولو الأمر هم الفقهاء والعلماء، أهل الدين والفضل، يُعلَّمون الناس معالم دينهم ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، دليله‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِى الأَمْرِ مِنْهُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 83‏]‏ الآية‏.‏ قال أبو الأسود‏:‏ ليس شيء أعز من العلم، الملوك حُكَّام على الناس، والعلماء حُكَّام على الملوك‏.‏ ه‏.‏

‏{‏فإن تنازعتم‏}‏ أنتم وأولو الأمر، أو بعضكم مع بعض أي‏:‏ اختلفتم في حكم شيء من أمر الدين فلم تعلموا حكمه، ‏{‏فردّوه إلى الله‏}‏ أي‏:‏ إلى كتاب الله، ‏{‏و‏}‏ إلى ‏{‏الرسول‏}‏ في زمانه، أو سنته بعد موته، فإن لم يوجد بالنص فبالقياس‏.‏ فالأحكام ثلاثة‏:‏ مثبت بالكتاب، ومثبت بالسنة، ومثبت بالرد إليهما على وجه القياس‏.‏ وعن إبراهيم بن يسار قال‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «اعملُوا بالقرآن‏:‏ أحلُّوا حَلاَلهُ، وحرَّمُوا حرامَهُ، وآمنوا بِه ولا تكفُروا بشيءٍ منهُ، وما اشتبه عليكُم فردُّوه إلي الله تعالى وإلى أولى العِلم من بَعدي، كيما يُخبرُونكم به»، ثم قال‏:‏ «وليَسعُكُم القرآن وما فيهِ من البَيَانِ؛ فإنه شافعٌ مشفَّعٌ، وما حِلٌ مُصدَّقَّ»، وأن له بكل حَرفٍ نُورًا يومَ القِيَاَمَة «‏.‏

فردوا الأحكام إليه وإلى الرسول، ‏{‏إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الأخر‏}‏ فأن الإيمان يُوجِبُ ذلك‏.‏ ‏{‏ذلك‏}‏ الرد ‏{‏خير‏}‏ لكم ‏{‏وأحسن تأويلاً‏}‏ من تأويلكم بالرأي من غير رد، وأحسن عاقبة ومآلاً، والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ أولو الأمر عند الصوفية، هم شيوخ التربية العارفون بالله، فيجب على المريدين طاعتهم في المنشط والمكره، وفي كل ما أمروا به، فمن خالف أو قال‏:‏ «لِمَ» لَم يفلح أبدًا، ويكفي الإشارة عن التصريح عند الحذاق أهل الاعتناء، فإن تعارض أمر الأمراء وأمر الشيوخ، قدَّم أمر الشيخ إلا لفتنة فادحة، فإن الشيخ يأمر بطاعتهم أيضًا لما يؤدي من الهرج بالفقراء، فإن تنازعتم يا معشر الفقراء، في شيء من علم الشريعة أو الطريقُ، فردوه إلى الكتاب والسنُّة‏.‏ قال الجنيد رضي الله عنه‏:‏ طريقتنا هذه مؤيدة بالكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن ويتعلم الحديث لا يُقتدى به في هذا الشأن‏.‏ ه‏.‏ ويكفي المهم من ذلك، وهو ما يتوقف عليه أمر عبادته‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏60- 63‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا ‏(‏60‏)‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا ‏(‏61‏)‏ فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا ‏(‏62‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا ‏(‏63‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏رأيت المنافقين‏}‏، وضع الظاهر موضع المضمر تسجيلاً عليهم بالنفاق وذمًا لهم به‏.‏ وكان القياس‏:‏ رأيتهم، و‏{‏صدودًا‏}‏‏:‏ مصدر، أو اسم مصدر الذي هو الصد، والفرق بينه وبين المصدر‏:‏ أن المصدر اسم للمعنى الذي هو الحدث، واسم المصدر اسم للفظ المحسوس، و‏{‏يحلفون‏}‏ حال‏.‏ و‏{‏في أنفسهم‏}‏ يتعلق بقُل، وقيل ببليغًا‏.‏ وهو ضعيف؛ لأن الصفات لا يتقدم عليها معمولها، اللهم إلا أن يتوسع في الظروف‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ألم تر‏}‏ يا محمد ‏{‏إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك‏}‏ وهم المنافقون، ‏{‏يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت‏}‏، كعب بن الأشرف لفرط طغيانه‏.‏ وفي معناه كل من يحكم بالباطل، ‏{‏وقد أُمروا أن يكفروا به‏}‏، ويؤمنوا بالله ويرضوا بحكمه‏.‏ ‏{‏ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيدًا‏}‏، بأن يصرفهم عن حكم الله ورسوله‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ إنَّ منافقًا خَاصَمَ يَهُودِيًّا فَدَعَاهُ اليَهُوديُّ إلى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف، ثم اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحكم لليهودي بالحق؛ فلم يرض المنافق، وقال‏:‏ نتحاكم إلى عُمَر، فقال اليهودي‏:‏ نعم فذهبا إلى عمر رضي الله عنه فقال اليهودي‏:‏ قضى لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرضى بقضائه وخاصم إليك، فقال عمر للمنافق‏:‏ أكذلك‏؟‏‏.‏ قال‏:‏ نعم، فقال‏:‏ على رسلكما حتى أخرج إليكما، فدخل وأخذ سيفه فخرج، فضرب به عنق المنافق حتى برد، وقال‏:‏ هكذا أقضي لمن لم يرضَ بقضاء الله ورسوله، فنزلت الآية‏.‏‏.‏ وقال جبريل رضي الله عنه‏:‏ إن عمر فرّق بين الحق والباطل‏.‏ فسُمي الفاروق‏.‏

‏{‏وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين‏}‏ أي‏:‏ بعضَهم، ‏{‏يصدون عنك‏}‏ غير راضين بحكمك ‏{‏صدودًا‏}‏ عظيمًا‏.‏ ‏{‏فكيف‏}‏ يكون حالهم ‏{‏إذا أصابتهم مصيبة‏}‏ كقتل عمر المنافقَ، بسبب ما قدمت ‏{‏أيديهم‏}‏ من عدم الرضى بحكم الله، ‏{‏ثم جاؤوك‏}‏ يطلبون ديّة صاحبهم، ‏{‏يحلفون بالله إن أردنا‏}‏ بالإنصراف إلى عمر ‏{‏إلا أحسانًا‏}‏ منه بالخصمين، ‏{‏وتوفيقاً‏}‏ بينهما، قطعًا للنزاع بينهما، قال تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم‏}‏ من النفاق، فلا يغني عنهم الكتمان والحلف الكاذب من الله شيئًا، أو يعلم الله ما في قلوبهم من الطمع في الدية، ‏{‏فأعرض عنهم‏}‏، أي‏:‏ عن قبول معذرتهم ولا تمكنهم من طمعهم، ‏{‏وقل لهم في أنفسهم‏}‏، أي‏:‏ خاليًا بهم ‏{‏قولاً بليغًا‏}‏ يبلغ إلى قلوبهم، ويؤثر فيهم، لينزجروا عن طلب دم صاحبهم، وإنما أمر أن يعظهم خاليّا لأن النصح في ذلك أنجح، وأقرب للقبول، ولذلك قيل‏:‏ من نصحك وَحدَكَ فقد نصحك، ومن نصحك مع الناس فقد فضحك‏.‏ والله أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ كل من دخل تحت ولاية شيخ التربية، وجب أن يرد حكوماته كلها إليه، ويرضى بما قضى عليه، وترى بعض الفقراء يزعمون أنهم في تربية الشيخ وتحت أحكامه، ثم يتحاكمون إلى حُكام الجور وقضاة الزمان في أمر الدنيا وما يرجع إليها، فهؤلاء قد ضلوا ضلالاً بعيدًا‏.‏

إلا أن يتوبوا ويُصلحوا ما أفسدوا، بإصلاح قلب الشيخ حتى يجبر كسرهم، فالمريد الصادق لا يصل إلى الحاكم، ولو ذهب ماله كله، فإن كان ولا بد‏.‏ فليوكل عنه في ذلك‏.‏

فيكيف إذا أصابت هؤلاء مصيبة وهي ظلمة القلب، وفتنة الدنيا بسبب ما قدمت أيديهم من تخطى حكم شيخهم إلى حُكم غيره، ثم جاؤوك يحلفون بالله ما أردنا إلا أحسانًا وهو حفظ مالنا، وتوفيقًا بيننا وبين خصمنا، فيجب على الشيخ أن يُعرض عن عتابهم ويذكرهم حتى يتوبوا، فإن تابوا فإن الله غفور رحيم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏64- 68‏]‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا ‏(‏64‏)‏ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ‏(‏65‏)‏ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا ‏(‏66‏)‏ وَإِذًا لَآَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏67‏)‏ وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ‏(‏68‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏توابًا رحيمًا‏}‏ مفعولاً ‏(‏وَجَدَ‏)‏ أن كانت علمية، أو ‏{‏توابًا‏}‏ حال، و‏{‏رحيمًا‏}‏ بدل منه، أو حال من ضميره إن فسرت بصادف‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وما أرسلنا من رسول‏}‏ من لدن آدم إلى زمانك، ‏{‏إلا ليُطاع بإذن الله‏}‏ وأمره بطاعته، فمن لم يطعه ولم يرض بأحكامه فهو كافر به‏.‏ ‏{‏ولو أنهم‏}‏ أي‏:‏ المنافقون حين ‏{‏ظلموا أنفسهم‏}‏ بالترافع إلى غيرك، والتحاكم إلى الطاغوت ‏{‏جاؤوك‏}‏ تائبين ‏{‏فاستغفروا الله‏}‏ بالتوبة، ‏{‏واستغفر لهم الرسول‏}‏ حين اعتذروا إليه حتى انتصب لهم شفيعًا، ‏{‏لوجدوا الله‏}‏ أي‏:‏ تحققوا كونه ‏{‏توابًا رحيمًا‏}‏، قابلاً لتوبتهم متفضلاً عليهم بالرحمة والغفران‏.‏ وإنما عدل عن الخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏واستغفر لهم الرسولُ‏}‏ ولم يقل‏:‏ واستغفرت لهم، تفخيمًا لشأنه، وتنبيهًا على أن من حق الرسول أن يقبل اعتذار التائبين، وإن عَظُم جُرمُهم، ويشفع لهم، ومن جلالة منصبه أن يشفع في عظائم الذنوب وكبائرها‏.‏

ثم أقسم بربوبيته على نفي إيمان من لم يرض بحكم رسوله، فقال‏:‏ ‏{‏فلا وربك لا يؤمنون‏}‏ إيمانًا حقيقيًا ‏{‏حتى يحكموك‏}‏ أي‏:‏ يترافعوا إليك، راضين بحكمك، ‏{‏فيما شَجَر بينهم‏}‏ أي‏:‏ اختلط بينهم واختلفوا فيه ‏{‏ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا‏}‏ أي‏:‏ ضيقًا وشكًا ‏{‏مما قضيت‏}‏، بل تنشرح صدورهم لحكمك؛ لأنه حق من عند الله‏.‏ ‏{‏ويُسلموا‏}‏ لأمرك ‏{‏تسليمًا‏}‏‏.‏ أي ينقادوا لأمرك ظاهرًا وباطنًا‏.‏

‏{‏ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم‏}‏، توبة من ذنوبكم، كما كتبناه على بني إسرائيل، أو في الجهاد في سبيل الله، ‏{‏أو اخرجوا من دياركم‏}‏ كما خرج بنو إسرائيل حين أمرناهم بالهجرة من مصر، ‏{‏ما فعلوه إلا قليل منهم‏}‏ وهم المخلصون‏.‏ قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه‏:‏ ‏(‏لو كتب ذلك علينا أنا أول خارج‏)‏‏.‏ قال ثابت بن قيس بن شماس‏:‏ ‏(‏لو أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقتل نفسي لفعلت‏)‏‏.‏ وكذلك قال عُمر وعمارُ بن ياسر وابنُ مسعود وناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لو أمرنا لفعلنا‏.‏ فبلغ ذلك النبيُ صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ «إنَّ مِن أُمَّتِي رِجَالاً‏:‏ الإيمَانُ في قُلُوبِهِم أثبَتُ مِنَ الجِبَالِ الرَّوَاسِي» فهؤلاء من القليل‏.‏

وسبب نزول قوله‏:‏ ‏{‏فلا وربك‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ‏:‏ قضية الزُّبَيرِ مع حَاطِب في شرَاج الحَرَّة، كَانَا يسقيانِ به النّخل، فتخاصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه السلام‏:‏ «اسقِ يا زُبيرُ وأرسِل إلى جارِكَ» فقال حَاطبُ‏:‏ لأن كَان ابن عمتك‏.‏ فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «اسقِ يا زُبيرُ، واحِبِس الماءَ حتَّى يبلغ الجدر واستوف حقك» وقيل‏:‏ نزلت في اليهودي مع المنافق المتقدم، وهو أليق بالسياق‏.‏

‏{‏ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به‏}‏ من طاعة الرسول، والرضى بحكمه، ‏{‏لكان خيرًا لهم‏}‏ في آجلهم وعاجلهم، ‏{‏وأشد تثبيتًا‏}‏ في دينهم وقوة في إيمانهم، أو تثبيتًا لثواب أعمالهم، ‏{‏وإذًا‏}‏ لو فعلوا ذلك ‏{‏لآتيناهم من لدنا أجرًا عظيمًا ولهديناهم صراطًا مستقيمًا‏}‏ يصلون بسلوكه إلى حضرة القدس، ودوام الأنس، ويفتح لهم أسرار العلوم، ومخازن الفهوم، قال صلى الله عليه وسلم‏:‏

«من عَمِلَ بما عِلَمَ أورثه الله علمَ ما لم يعلم» والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ كما أمر الله بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم في حياته، أمر بطاعة ورثته بعد مماته، وهم العلماء الأتقياء الذين يعدلون في الأحكام، والأولياء العارفون الذين يحكمون بوحي الإلهام، فالعلماء حُكَّام على العموم، والأولياء حكام على الخصوص، أعني من تعلق بهم من أهل الإرادة، فمن لم يرض بحكم العلماء، ووجد في نفسه حرجًا مما قضوا به عليه، ففيه شُبعة من النفاق، وخصلة من المنافقين‏.‏ ومن لم يرض بحكم الأولياء فقد خرج من دائرتهم، ومن عُش تربيتهم، لأن حكم الرسول عليه الصلاة والسلام وحكم ورثته هو حكم الله، ومن لم يرض بحكم الله خرج عن دائرة الإيمان‏.‏

فلا يكمل إيمان العبد حتى لا يجد في نفسه حرجًا من أحكام الله، القهرية والتكليفية، ويسلم لما يبرز من عنصر القدرة الأزلية، كيفما كان، فقرًا أو غنى، ذلاً أو عزًا، منعًا أو عطاء، قبضًا أو بسطًا، مرضًا أو صحة، إلى غير ذلك من اختلاف المقادير‏.‏ ويرضى بذلك ظاهرَا وباطنًا، وينسلخ من تدبيره واختياره؛ إلى اختيار مولاه فهو أعلم بمصالحه، وأرحم به من أمه وأبيه‏:‏ وبالله التوفيق‏.‏ وهو الهادي إلى سواء الطريق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏69- 70‏]‏

‏{‏وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ‏(‏69‏)‏ ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا ‏(‏70‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏رفيقاً‏}‏‏:‏ تمييز لما في ‏{‏حَسُن‏}‏ من معنى التعجب أو المدح، ولم يجمع؛ لأن فعيلا يُحمل على الواحد والجمع، أو لأنه أريد حسن كل واحد منهم‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ومن يطع الله والرسول‏}‏ ويرضى بأحكامهما ويمتثل أمرهما ويجتنب نهيهما، ‏{‏فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم‏}‏، وهم أكرم الخلق عند الله وأعظمهم قدرًا ‏{‏من النبيين‏}‏ والمرسلين ‏{‏والصديقين‏}‏ وهم من كثر صدقهم وتصديقهم وعظم يقينهم؛ وهم الأولياء العارفون بالله، ‏{‏والشهداء‏}‏ الذين ماتوا جهادًا في سبيل الله، ‏{‏والصالحين‏}‏ وهم العلماء الأتقياء، ومن صلح حاله من عامة المسلمين‏.‏

قال البيضاوي‏:‏ قسمهم أربعة أقسام، بحسب منازلهم في العلم والعمل، وحث كافة الناس على ألاَّ يتأخروا عنهم، وهم‏:‏ الأنبياء الفائزون بكمال العلم والعمل، المتجاوزون حد الكمال إلى درجة التكميل‏.‏ ثم الصديقون الذين صعِدت نفوسهم تارة بمراقي النظر في الحجج والآيات، وأخرى بمعارج التصفية والرياضات إلى أوج العرفان، حتى اطلعوا على الأشياء وأخبروا عنها على ما هي عليها‏.‏ ثم الشهداء الذين أدى بهم الحرص على الطاعة والجد في إظهار الحق، حتى بذلوا مُهَجَهُم في أعلاء كلمة الله، ثم الصالحون الذين صرفوا أعمارهم في طاعته، وأحوالهم في مرضاته، ولك أن تقول‏:‏ المُنعَمُ عليهم هم العارفون بالله، وهؤلاء إما أن يكونوا بالغين درجة العيان، أو واقفين في مقام الاستدلال والبرهان، والأولون إما أن ينالوا مع العيان القرب، بحيث يكونون كمن يرى الشيء قريبًا، وهم الأنبياء، أو لا، فيكونون كمن يرى الشيء بعيدًا، وهم الصديقون، والآخرون إما أن يكون عرفانهم بالبراهين القاطعة، وهم العلماء الراسخون الذين هم شهداء الله في أرضه، وإما أن يكون بأمارات وإقناعات تطمئن إليها نفوسهم، وهم الصالحون‏.‏ انتهى كلامه‏.‏

وفيه نظر من وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه أطلق على أهل الاستدلال أنهم عارفون، ولا يقال عند الصوفية فيه عارف، حتى يترقى عن مقام الاستدلال، وإلا فهو عالم فقط، والثاني‏:‏ أنه جعل الصديقين بمنزلة من يرى الشيء بعيدًا، وأهل الفناء لم يبق لهم بُعدٌ، بل غابوا في القرب حتى امتحى اسمهم ورسمهم‏.‏ فأيُّ بينونة وأيُّ بُعد يبقى للعارف، لولا فقدان الذوق، ولكن لكلِّ فنِ أربابُه، وسيأتي في الإشارة تحقيق ذلك إن شاء الله‏.‏

ثم قال جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وحسن أولئك رفيقًا‏}‏ أي‏:‏ ما أحسنهم رفقًا في الفراديس العُلى، فهم يتمتعون فيها برؤيتهم وزيارتهم والحضور معهم، وإن كانوا أعلى منهم، فلا يلزم من كونه معهم أن تستوي درجته معهم، قال في الحاشية‏:‏ وتعقل مرافقة من دون النبي في المدانات من حاله وكشفه، بحيث لا يحجب عنه، وإن كان لا مطمع له في منزلته، واعتبر برؤية البصائر له وعدم غيبته عنهم وأنسهم به والاستفادة منه، رُوِي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال‏:‏

«يزور الأعلَون من أهل الجنة الأسفلين، ولا يزور الأسفلون الأعلين، إلا من كان يزور في الله في الدنيا، فذلك يزور الجنة حيث شاء»‏.‏

رُوِيَ أن ثَوبَانَ مَولى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أتاه يومًا وَقَد تَغَيَّر وَجهُهُ وَنَحَلَ جِسمُهُ، فسأله عليه الصلاة والسلام عن حاله، فقال‏:‏ ما بي وَجَعٌ، غَيرَ أنِّي إذَا لَمْ أرَكَ اشتقْتُ إليك، واستَوحَشتُ وَحشةً شَدِيدَةً حَتَى ألقَاكَ، ثمَّ ذَكَرتُ الآخِرَةَ فخفت ألا أرَاكَ هُنَاكَ؛ لأني عرفت أنكَ تُرفَعُ مَعَ النَّبِيِّينَ‏.‏ وإن دخلتُ الجَنَّة، كُنتُ في مَنزلٍ أدون مِن مَنزِلكَ، وأن لَم أدخُلِ الجَنَّةَ فّذَلكَ حَرِيّ ألا أرَاكَ أبَدًا‏.‏ فنزلت الآية ‏{‏ومَن يطع الله والرسول‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ‏.‏

‏{‏ذلك الفضل من الله‏}‏ إشارة إلى ما للمطيعين من الأجور، ومزيد القرب والحضور، وأنه فضل تفضل على عباده، ‏{‏وكفى بالله عليمًا‏}‏ بمقادير الأعمال والمقامات‏.‏ فيُجازى كُلاًّ على حسب مقامه‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ اعلم أن الطاعة التي توجب المعية الحسية في النعيم الحسي الجسماني هي الطاعة الظاهرة الحسية‏.‏ والطاعة التي توجب المعية المعنوية في النعيم الروحاني هي الطاعة الباطنية القلبية‏.‏ فالمعية الحسية صاحبها مفروق، والمعية المعنوية صاحبها مجموع، لا يغيب عن حبيبه لحظة‏.‏ هؤلاء هم الصديقون المقربون‏.‏ وفوقهم الأنبياء، وتحتهم الشهداء والصالحون‏.‏

وبيان ذلك أن العلم بالله تعالى‏:‏ إما أن يكون عن كشف الحجاب وانقشاع السحاب، أعني سحاب الأثر، وهم أهل الشهود والعيان‏.‏ وإما أن يكون من وراء الحجاب، يأخذون أجرهم من وراء الباب، يستدلون بالآثار على المؤثر‏.‏ وهم أهل الدليل والبرهان‏.‏ والأولون إما أن يرتقوا إلى مكافحة الوحي ورؤية الملائكة الكرام‏.‏ وهم الأنبياء والرسل عليه الصلاة والسلام-، وإما أن يقصروا عن درجة الوحي ويكون لهم وحي إلهام، وهم الصديقون؛ أهل الحال والمقام، فقد اشتركوا في مقام العيانِ‏.‏ لكن مقام الحضرة فضاؤه واسع، والترقي في معارج أسرار التوحيد غير متناهٍ، فحيث انتهى قدم الولي ابتدأ ترقي النبي، وأما أهل الحجاب فإما أن يكون علمهم بالله بالبراهين القطعية والدلائل السمعية، وهم العلماء الراسخون، وهو مقام الشهداء، وإما أن يكون علمهم بالرياضات والمجاهدات وتواتر الكرامات، وهم العباد والزهاد‏.‏ وهو مقام الصالحين، ويلتحق بهم عوام المسلمين، لأن كل مقام من هذه المقامات في درجات ومقامات لا يحصرها إلا العالم بها‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏71- 74‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا ‏(‏71‏)‏ وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا ‏(‏72‏)‏ وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا ‏(‏73‏)‏ فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏74‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ الحِذر والحَذَر واحد، كالشِّبه والشِّبَه، وبَطًأ يستعمل لازمًا بمعنى ثقل، ومتعديًا بالتضعيف أي‏:‏ بطَّأ غيره، و‏{‏لَمَن ليبطئن‏}‏ اللام الأولى للابتداء، والثانية للقسم، أي‏:‏ وإنَّ منكم أُقسم بالله لمن ليبطئن‏.‏ وجملة‏:‏ ‏{‏كأن لم يكن‏}‏‏:‏ اعتراضية بين القول والمقول، تنبيهًا على ضعف عقيدتهم، وأن قولهم هذا قولُ من لا مواصلة بينكم وبينه‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ تأهبوا واستعدوا لجهاد الأعداء، و‏{‏خذوا حذركم‏}‏ منهم؛ بالعُدَّةِ والعَدَد، ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة، ولا حجة فيه للقدرية؛ لأن هذا من الأسباب التي ستر الله بها أسرار القدرة‏.‏ وقد قال لنبيِّه عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏{‏قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 51‏]‏ وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «اعقلها وتوكل» وفي ذلك طمأنينة للقلوب التي لم تطمئن وتشريعًا للضعفاء، فإذا تأهبتم واستعددتم ‏{‏فأنفروا‏}‏ أي‏:‏ اخرجوا إلى الجهاد ‏{‏ثُباتٍ‏}‏ أي‏:‏ جماعات متفرقة، سرية بعد سرية، ‏{‏أو انفروا جميعًا‏}‏ أي‏:‏ مجتمعين مع نبيكم، أو مع أميركم‏.‏

‏{‏وإن منكم‏}‏ يا معشر المسلمين ‏{‏لمن ليبطئن‏}‏ الناس عن الجهاد، أول ليتثاقلن ويتخلفن عنه، وهو عبدالله بن أُبُيّ المنافق، وأشباهه من المنافقين، ‏{‏فإن أصابتكم مصيبة‏}‏؛ كقتل أو هزيمة ‏{‏قال قد أنعم الله عليّ‏}‏ حين تخلفت ‏{‏إذا لم أكن معهم شهيدًا‏}‏ فيصيبني ما أصابهم‏.‏ ‏{‏ولئن أصابكم فضل من الله‏}‏، كنصر وغنيمة، ‏{‏ليقولن‏}‏ لفرط عداوته‏:‏ ‏{‏يا ليتني كنتُ معهم فأفوز فوزًا عظيمًا‏}‏، بالمال والعز‏.‏ كأن ذلك المنافق، لم يكن بينكم وبينه مودة ولا مواصلة أصلاً، حيث يتربص الدوائر، يفرح بمصيبتكم ويتحسر بعزكم ونصركم‏.‏

فإن تثاقل هذا عن القتال أو بطَّأ غيره، ‏{‏فليقاتل في سبيل الله‏}‏ أهلُ الإخلاص والإيمان ‏{‏الذين يشرون‏}‏، أي‏:‏ يبيعون ‏{‏الحياة الدنيا بالآخرة‏}‏، فيؤثرون الآخرة الباقية على الدنيا الفانية، ‏{‏ومن يقاتل في سبيل الله‏}‏ لإعلاء كلمة الله ‏{‏فيُقتل‏}‏ شهيدًا ‏{‏أو يَغلب‏}‏ عدوه وينصره الله ‏{‏فسوف نؤتيه أجرًا عظيمًا‏}‏، وإنما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فيُقتل أو يَغلب‏}‏ تنبيهًا على أن المجاهد ينبغي أن يثبت في المعركة، حتى يعز نفسه بالشهادة، أو الدين بالظفر والنصر‏.‏ وألا يكون قصده بالذات القتل، بل إعلاء الحق وإعزاز الدين‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏

الإشارة‏:‏ يا أيها الذين آمنوا إيمان الخصوص؛ خذوا حذركم من خدع النفوس، لئلا تعوقكم عن حضرة القدوس، فانفروا إلى جهادها ثُباتٍ أو جماعة؛ «فإن يد الله مع الجماعة، فالصحبة عند الصوفية شرط مؤكد وأمر محتم‏.‏ والله ما أفلح من أفلح إلا بصحبة من أفلح، فالنفس الحية لا تموت مع الأحياء، وإنما تموت مع الأموات، فهي كالحوت ما دامت في البحر مع الحيتان لا تموت أبدًا، فإذا أخرجتها وعزلتها عن أبناء جنسها ماتت سريعًا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏75‏]‏

‏{‏وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا ‏(‏75‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏ما‏}‏ مبتدأ‏.‏ و‏{‏لكم‏}‏ خبر‏.‏ و‏{‏لا تقاتلون‏}‏ حال، و‏{‏المستضعفين‏}‏ عطف على اسم الجلالة، أي‏:‏ أيَ شيء حصل لكم حال كونكم غير مجاهدين في سبيل الله وفي تخليص المستضعفين‏؟‏ و‏{‏الظالم‏}‏ نعت للقرية، وإنما ذُكَّر ولم يؤنث، لأنه أسند إلى المذكر، واسم الفاعل إذا جرى على غير مَن هُوَ لَهُ أجرى مجرى الفعل، فيذكر ويؤنث باعتبار الفاعل‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وما لكم‏}‏ يا معشر المسلمين ‏{‏لا تقاتلون في سبيل الله‏}‏، وفي تخليص إخوانكم ‏{‏المستضعفين‏}‏ بمكة، الذين حبسهم العدو أو أسرهم ومنعهم من الهجرة؛ ‏{‏من الرجال والنساء والولدان‏}‏، فهم في أيديهم مغللون ممتحنون‏.‏ قال البيضاوي‏:‏ وإنما ذكر الولدان مبالغة في الحث وتنبيهًا على تناهي ظلم المشركين بحيث بلغ أذاهم الصبيان، وأن دعوتهم أجيبت بسبب مشاركتهم في الدعاء، حتى تشاركوا في استنزال الرحمة واستدفاع البلية‏.‏ ه‏.‏

ثم ذكر دعاءهم فقال‏:‏ ‏{‏الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية‏}‏ أي‏:‏ مكة ‏{‏الظالم أهلها‏}‏ بالشرك والطغيان حتى تعدى إلى النساء والصبيان‏.‏ ‏{‏واجعل لنا من لدنك وليًّا‏}‏ يصوننا عن أذاهم، ‏{‏ونصيرًا‏}‏ يمنعنا من التخلف عن الهجرة إلى رسولك صلى الله عليه وسلم، فاستجاب الله دعاءهم بأن يسَّر لبعضهم الخروج إلى المدينة، وجعل لمن بقي منهم أعظم ولي وناصر، بفتح مكة على نبيه صلى الله عليه وسلم، فتولاهم ونصرهم، واستعمل عليهم عتَّاب بن أسيد، فحماهم وأعزهم حتى صارو أعزاء أهلها، كما هي عادته سبحانه في إجابة دعاء المضطرين‏.‏

الإشارة‏:‏ ما لكم يا معشر العِباد، وخصوصًا المريدين من أهل الجد والاجتهاد، لا تجاهدون نفوسكم في طريق الوصول إلى الله، كي تنالوا بذلك مشاهدة جماله وسناه، وتخلصوا ما كمن في نفوسكم من الأسرار، وما احتوت عليه من العلوم والأنوار‏.‏ فإن قرية البشرية قد احتوت عليها وأسرتها بظلمات شهواتها، واستضعفتها بتراكم غفلتها وتكثيف حجاب حسها‏.‏ فمن جاهدها استخلص جواهر تلك العلوم والأسرار مِن صَدَفِها‏.‏ وفي ذلك يقول ابن البنا في مباحثه‏:‏

ولم تزل كُلُّ النُّفُوسِ الأحيا *** عَلاَّمة درَّاكة للأشيَا

وإنما تَعُوقُها الأبدَان *** والأنفس النزع والشَّيطَان

فكلُّ مَن أذَاقَضهم جهادَه *** أظهرَ للقاعد خَرقَ العاده

وقال أيضًا‏:‏

وَهِيَ مِن النفوس في كُمُون *** كما يكون الحَبُّ في الغُصُون

فالرجال‏:‏ الأسرار والأنوار، والنساء‏:‏ العلوم والأذكار، والولدان‏:‏ الحكم بنات الأفكار‏.‏ فكل هؤلاء مستضعفون تحت قهر البشرية الظالم أهلها‏.‏ ومن الأنفس النزع والشياطين المغوية، فكل من جاهد هؤلاء القواطع أظهر تلك العلوم والأنوار السواطع، واستخلص رُوحه من أسر حجاب الأكوان، وأفضى إلى فضاء الشهود والعيان‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏ وهو الهادي إلى سواء الطريق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏76‏]‏

‏{‏الَّذِينَ آَمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ‏(‏76‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ في مدح المخلصين‏:‏ ‏{‏الذين آمنوا يُقاتلون في سبيل الله‏}‏، وابتغاء مرضات الله، وإعلاء كلمة الله، ‏{‏والذين كفروا‏}‏، من أهل مكة وغيرهم، ‏{‏يُقاتلون في سبيل الطاغوت‏}‏ وهو الشيطان، ‏{‏فقاتلوا‏}‏ يا أولياء الله ‏{‏أولياء الشيطان‏}‏ ولا يهولكم كيده؛ ‏{‏إن كيد الشيطان كان ضعيفًا‏}‏، وكيد الله للكافرين كان قويًا متينًا، فلا تخافوا أولياءه، فأنهم اعتمدوا على أضعف شيء وأوهنه، وأنتم اعتمدتم على أقوى شيء وأمتَنِه‏.‏

الإشارة‏:‏ كل ما سوى الله طاغوت، فمن قصد بجهاده أو عمله رضى الله والوصول إلى حضرته دون شيء سواه، كان من أولياء الله، ومن قصد بجهاده أو أعماله حظًا دنيويًا أو أخرويًا خرج من دائرة الولاية، فإما أن يكون مع عامة أهل الإيمان، أو من أولياء الشيطان‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم «إنَّما الأعمَالُ بالنيات، وإنما لكلِّ امرىءٍ مَا نَوَى، فمن كانَت هجرَتُه إلى الله ورسولِه فهجرتُه إلى اللهْ ورسولِه، ومن كانت هجرتُه إلى دُنيا يُصيبهُا أو امرأةٍ ينكِحُها، فهجرتُه إلى ما هَاجَرَ إليه» وقال في الحِكَم‏:‏ «لا ترحل من كَونٍ إلى كَونٍ، فتكون كحمار الرحى، يسير والذي ارتحل منه هو الذي ارتحل إليه، ولكن أرحل من الأكوانِ إلى المُكَوِّنِ، ‏{‏وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى‏}‏ ‏[‏النُجُم‏:‏ 42‏]‏»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏77- 80‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا ‏(‏77‏)‏ أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا ‏(‏78‏)‏ مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ‏(‏79‏)‏ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ‏(‏80‏)‏‏}‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏أو أشد‏}‏ عطف على الكاف النائبة عن المصدر، أي‏:‏ خشيةً مثل خشية الله أو أشد، وهو من إضافة المصدر إلى المفعول، أي‏:‏ مثل خشيتهم الله‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ألم تر‏}‏ يا محمد ‏{‏إلى الذين‏}‏ طلبوا منك فرضَ الجهاد حرصًا على أن يجاهدوا، فقيل لهم على لسان الرسل‏:‏ ‏{‏كُفّوا أيديكم‏}‏ عنه إلى أوَانِ فَرضِه، واشتغلوا بما أُمِرتم به من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ‏{‏فلما كُتب عليهم القتال‏}‏ دخلهم الخوف ‏{‏إذا فريق منهم يخشون الناس‏}‏ أي‏:‏ الكفار، أن يقتلوهم مثل خشية عقاب ‏{‏الله‏}‏ أو أشد خشية منه‏.‏ ‏{‏وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال‏}‏ في هذا الوقت ‏{‏لولا‏}‏‏:‏ هلاّ ‏{‏أخّرتنا إلى أجل قريب‏}‏ نتمتع فيه بحياتنا أو إلى أن نموت بآجالنا‏.‏ قلت‏:‏ والظاهر أنهم قالوا ذلك في نفوسهم، خواطر خطرت لهم، ولم يفوهوا به، إن نزلت في الصحابة رضي الله عنهم، وإن كانت في المنافقين فيمكن أن ينطقوا بها‏.‏

‏{‏قل متاع الدنيا قليل‏}‏ وعيشها ذليل، وأجلها قريب، ‏{‏والآخرة خير لمن اتقى‏}‏، وحياتها خير وأبقى، وسَتَقدُمون على مولاكم، فيكرم مثواكم، ويوفيكم جزاء أعمالكم، ‏{‏ولا تظلمون فتيلاً‏}‏ من ثواب أعمالكم، ولا تنقصون من أيام أعماركم، جاهدتم أو قعدتم‏.‏

‏{‏أينما تكونوا يدرككم الموت‏}‏ عند انقضاء آجالكم، ‏{‏ولو كنتم في بروج مشيدة‏}‏ عالية محصنة‏.‏ فإن كان الموت لا بد منه ففي الجهاد أفضل، لأنه حياة لا موتَ بعده‏.‏ قال الكلبي‏:‏ نزلت في قوم من الصحابة، منهم‏:‏ عبد الرحمن بن عوف، والمِقدادُ وقٌدامة بن مَظعون وغيرهم، كانوا يُؤذَونَ بمكة، ويستأذنون النبي صلى الله عليه وسلم في القتال، فيقول لهم‏:‏ كفوا أيديكم حتى يُؤذن فيه لكم، فلما هاجروا إلى المدينة وأُمروا به، كرهه بعضهم كراهية الطبع البشري، فخطر ببالهم شيءٌ مما حكى الله عنهم‏.‏ فلما كانوا في عين العناية ومحل القرب والهداية عوقبوا على تلك الخواطر، ولو كان غيرهم من أهل البُعد لسُومح له في ذلك، وقيل‏:‏ نزلت في قوم من المؤمنين أُمروا بالجهاد فنافقوا من الجُبن، وتخلفوا عن الجهاد، وهذا أليق بما بعده من قوله‏:‏ ‏{‏إن تصبهم حسنة‏}‏‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ نرى بعض الفقراء يبطشون إلى مقام التجريد ومجاهدة نفوسهم قبل كمال يقينهم، فإذا أُمِروا بذلك، ورأوا ميادين الحروب واشتعال نيران قتل النفوس، وأمروا بالصبر على المكاره، من مواجهة الإنكار ولحوق الذل والافتقار، جبنوا وكلَّوا ورجعوا القهقرى، فيقال لهم‏:‏ متاعُ الدنيا قليل وعزيزها ذليل، وغنيها فقير، وكبيرها حقير، وما تنالون من الله في جزاء مجاهدتكم خيرٌ وأبقى، ولا تُظلمون فتيلاً من مجاهدتكم لنفوسكم، فلو صبرتم لفزتم بالوصول إلى حضرة ربكم، فلما جبُنتُم ورجعتم، كان جزاؤكم الحرمان، عما ظفر به أهل العرفان‏.‏

وفي مثل هؤلاء يقول ابن الفارض رضي الله عنه‏:‏

تعرّضَ قومٌ للغرامِ وأعرَضوا *** بجانبهم عن صحّتي فيه واعتلّوا

رضوا بالأماني، وابُتُلوا بحظُوظهم *** وخاضوا بحارَ الحبّ، دعوى، فما ابتلّوا

فهُم في السُّرى لم يَبرَحوا من مكانهم *** وما ظَعَنوا في السير عنه، وقد كلَّوا

ثم حكى مقالتهم الدالة على نفاقهم، فقال‏:‏

‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِ الله وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ الله فَمَا لهؤلاء القوم لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ في وصف أهل النفاق‏:‏ وإنهم إن ‏{‏تصبهم حسنة‏}‏ كخصب ورخاء ونعمة ظاهرة، قالو‏:‏ ‏{‏هذه من عند الله‏}‏، ونسبوها إلى الله بلا واسطة، ‏{‏وإن تصبهم سيئة‏}‏ كقحط وجوع وموت وقتل، قالوا للرسول عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏{‏هذه من عندك‏}‏ بشؤم قدومك أنت وأصحابك، كما قالت اليهود لعنهم الله‏:‏ منذ دخل محمدٌ المدينة نقصت ثمارها وغلت أسعارها‏.‏

قلت‏:‏ بل زكت ثمارها، ورخصت أسعارها، وأشرقت أنوارها، ولاحت أسرارها، وقد دعا صلى الله عليه وسلم للمدنية بمثل ما دعا إبراهيمُ لمكة، وأضعاف ذلك، فما زالت الخيرات تترادف إليها حسًا ومعنى إلى يوم القيامة، وهذه المقالة قد صدرت ممن كان قبلهم؛ فقد قالوا لسيدنا صالح عليه السلام‏:‏ ‏{‏قَالُواْ اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ‏}‏ ‏[‏النَّمل‏:‏ 47‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن تُصِبْهُمْ سَيَّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 131‏]‏، ‏{‏مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قّدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ‏}‏ ‏[‏فُصّلَت‏:‏ 43‏]‏‏.‏ قال تعالى مكذبًا لهم‏:‏ ‏{‏قل كلٌّ من عند الله‏}‏؛ الحسنة بفضله، والسيئة بعدله‏.‏ ثم عيرهم بالجهل فقال‏:‏ ‏{‏فمالِ هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثًا‏}‏؛ فهُم كالبهائم أو أضل سبيلاً، أو لا يفقهون القرآن ويتدبرون حديثه، ولو تدبروا لعلموا أن الكل من عند الله، وأنه خالق كل شيء، المقدَّر لكل شيء‏.‏

ثم علَّمنا الأدب بنسبة الكمالات إليه سبحانه بلا وساطة، ونسبة النقائص إلى شؤم ذنوبنا، فقال‏:‏ ‏{‏ما أصابك من حسنة‏}‏ أي‏:‏ نعمة ‏{‏فمن الله‏}‏ فضلاً وإحسانًا، وأما طاعة العبد فلا تفي بشكر نعمة واحدة، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «لن يَدخلَ أحدُكُمُ الجنةَ بعملهِ»، قيل‏:‏ ولا أنتَ يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ «ولا أنَا، إلا أن يتَغمدني الله برَحمته» ‏{‏وما أصابك‏}‏ أيها الإنسان ‏{‏من سيئة‏}‏ أي‏:‏ بلية ‏{‏فمن نفسك‏}‏ أي‏:‏ شؤم ذنبك، وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال‏:‏

«مَا مِن خَدشٍ بعُود ولا اختلاج عرق ولا غيره إلا بذنب، وما يَعفوا الله عنه أكثرُ» فلا ينافي قوله‏:‏ ‏{‏قل كلٌّ من عند الله‏}‏؛ فإن الكل منه إيجاداً واختراعًا، غير أن الحسنة إحسانٌ، والسيئة مُجَازاة وانتقام‏.‏ كما قالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ «مَا مِن مُسلمٍ يُصيبه وَصَبٌ ولا نَصَبٌ، حتى الشوكة يُشَاكها، وحتى انقطاع شِسع نَعلهِ، إلا بذنب، وما يعفوا الله عنه أكثر»‏.‏

وفي مصحف ابن مسعود‏:‏ ‏(‏قالوا‏:‏ ‏{‏ما أصابك من حسنة فمن الله‏}‏‏)‏ الآية‏.‏ فتكون حينئٍذ من مقالة المنافقين، والآيتان كما ترى لا حجة فيها للمعتزلة‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ ثلاث خصال لا ينجو منها إلا القليل كما في الحديث‏:‏ الطيرة، والحسد، والظن‏.‏ فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «إذا تَطَيَّرتَ فامضِ، وإذا حسدتَ فلا تبغ، وإذا ظننت فلا تٌحَقّق» فيتأكد على المريد أن يتطهر من هذه الخصال، ويصفي مشربه من التوحيد، فلا يرى في الوجود إلا مولاه، ولا ينسب التأثير إلى شيء سواه، إذا رأى نعمة به أو بغيره، قال‏:‏ من الله، وإذا رأى مصيبة كذلك تأدب مع الله، فيعتقد في قلبه أنها من قَدَرِ الله، يقول‏:‏ ‏{‏قل كلٌّ من عند الله‏}‏، وينسب النقص إلى نفسه وهواه، فالنفس والشيطان مناديل الحضرة، تمسح فيهما أوساخ الأقدار، ‏{‏وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ‏}‏ ‏[‏القَصَص‏:‏ 68‏]‏‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تم شَهِدَ جلّ جلاله لرسوله بالرسالة، تحريضًا على تعظيمه وحثًا على طاعته، وترهيبًا من سوء الأدب معه، كما صدر من المنافقين، فقال‏:‏

‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وكفى بالله شَهِيداً مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله وَمَن تولى فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً‏}‏

قلت‏:‏ إن تعلق الجار بالفعل كان ‏{‏رسولاً‏}‏ حال مؤكدة، وإن تعلق بالاسم كان حالاً مؤسسة تفيد العموم؛ أي أرسلناك رسولاً للناس جميعًا، و‏{‏حفيظًا‏}‏ حال من الكاف‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وأرسلناك‏}‏ يا محمد ‏{‏للناس رسولاً‏}‏ تعلمهم التوحيد وتدلهم على الأدب، فالتوحيد محله البواطن، فلا يرى الفعل إلا من الله، والأدب محله الظواهر فينسب بلسانه النقص إلى نفسه وهواه‏.‏ وإذا شهد الحق جل جلاله لرسوله بالرسالة أغْنَى عن غيره، ‏{‏وكفى بالله شهيدًا‏}‏‏.‏ وشهادة الحق له بالمعجزات والواضحات، والبراهين القطعيات، والدلائل السمعيات، فإذا ثبتت رسالته وجب على الناس طاعته، ولذلك قال‏:‏ ‏{‏من يطع الرسول فقد أطاع الله‏}‏؛ لأنه مُبلغ عن الله لا ينطق عن الهوى‏.‏ رُوِي أنه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «مَن أطَاعَنِي فَقَد أطَاعَ الله، ومَن أحبَني فقَد أحبَ الله» فقال بعض المنافقين‏:‏ ما يريد هذا الرجل إلا أن نتخذه ربًّا، كما اتخذت النصارى عيسى‏.‏ فنزل‏:‏ ‏{‏من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى‏}‏ وأعرض ‏{‏فما أرسلناك عليهم حفيظًا‏}‏ تَحفَظُ عليهم أعمالهم، وتحاسبهم عليها، إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب‏.‏

الإشارة‏:‏ كما شهد الحق جل جلاله لرسله بالرسالة، بما أظهر لهم من المعجزات، شهد لأوليائه بالولاية بما منحهم من الكرامات‏.‏ والمراد بالكرامة‏:‏ هي تحقيق العرفان، ومعرفة الذوق والوجدان، واستقامة الظواهر والبواطن، وتهذيب الأخلاق وهداية الناس على يديه إلى العليم الخلاق، فهذه الكرامة المعتبرة عند المحققين، فمن أطاعهم فقد أطاع الله، ومن أعرض عنهم فقد أعرض عن معرفة الله، ومن أحبهم فقد أحب الله، ومن أبغضهم فقد أبغض الله؛ لأنهم نور من أنوار الله، وعين من عيون الله، إذا لم يبق فيهم بقية مما سوى الله، أقدامهم عرى قدم رسول الله، ‏{‏إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 10‏]‏ فافهم، والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏81‏]‏

‏{‏وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ‏(‏81‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏طاعة‏}‏‏:‏ خبر، أي‏:‏ أمرنا طاعة، وأصله النصب على المصدر، ورُفِعَ للدلاله على الثبوت، وبيِّتَ الشيء، دبَّره ليلاً وأضمره في نفسه‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ في شأن المنافقين‏:‏ ‏{‏ويقولون‏}‏ لك إذا حضروا معك‏:‏ أمرنا وشأننا ‏{‏طاعةٌ‏}‏ لك فيما تأمرنا به، ‏{‏فإذا برزوا‏}‏ أي‏:‏ خرجوا ‏{‏من عندك بيَّت طائفة منهم‏}‏ أي‏:‏ دبرَّت ليلاً وأخفت من النفاق ‏{‏غير الذي تقول‏}‏ لك من قبول الإيمان وإظهار الطاعة، أو زوَّرت خلاف ما قلتَ لها من الأمر بالطاعة، ‏{‏والله يكتب ما يبيتون‏}‏ أي‏:‏ يُثبِتُه في صحائفهم فيجازهم عليه، ‏{‏فأعرض عنهم‏}‏ ولا تبال بهم، ‏{‏وتوكل على الله‏}‏ يكفك شرهم، ‏{‏وكفى بالله وكيلاً‏}‏ عليهم، فسينتقم لك منهم‏.‏

الإشارة‏:‏ هذه الخصلة موجودة في بعض العوام؛ إذا حضروا مع أهل الخصوصية أظهروا الطاعة والإقرار، وإذا خرجوا عنهم بيَّتوا الانتقاد والإنكار، فلا يليق إلا الإعراض عنهم، والغيبة في الله عنهم، فإن الله يكفي شرهم بكفالته وحفظه‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏82‏]‏

‏{‏أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ‏(‏82‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ أفلا يتدبر هؤلاء المنافقون ‏{‏القرآن‏}‏، وينظرون ما فيه من البلاغة والبيان، ويتبصّرون في معاني علومه وأسراره، ويطلعون على عجائب قصصه وأخباره، وتَوافُق آياتهِ وأحكامه، حتى يتحققوا أنه ليس من طوق البشر، وإنما هو من عند الله الواحد القهار، ‏{‏ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا‏}‏ بَين أحكامه وآياته، من تَفَاوتِ اللفظ وتناقض المعنى، وكَون بعضه فصيحًا، وبعضه ركيكًا، وبعضه تصعب معارضته وبعضه تسهل، وبعضه توافق أخباره المستقبلة للواقع، وبعضه لا يوافق، وبعضه يوافق العقل، وبعضه لا يوافقه، على ما دل عليه الاستقراء من أن كلام البشر، إذا طال، قطعًا يوجد فيه شيء من الخلل والتناقض‏.‏

قال البيضاوي‏:‏ ولعل ذكره للتنبيه على أن اختلاف ما سبق من الأحكام ليس للتناقض في الحكم، بل لاختلاف الأحوال من الحكم والمصالح‏.‏ ه‏.‏ قال ابن جزي‏:‏ وإن عَرَضَت لأحدٍ شبهةٌ وظن اختلافًا في شيء من القرآن، فالواجب أن يَتَّهِمَ نظره، ويسأل أهل العلم ويطالع تآليفهم، حتى يعلم أن ذلك ليس باختلاف‏.‏ ه‏.‏

الإشاره‏:‏ تدبر القرآن على حساب صفاء الجنان، فبقدر ما يتطهر القلب من حب الدنيا والهوى تتجلى فيه أسرار كلام المولى، وبقدر ما يتراكم في مرآة قلبه من صور الأكوان، يتحجب عن أسرار معاني القرآن؛ ولو كان من أكابر علماء اللسان‏.‏ فلما كان القرآن هو دواء لمرض القلوب، أمر الله المنافقين بالتدبر في معاينة؛ لعل ذلك المرض ينقلع عن قلوبهم، لكن الأقفال الت على القلوب مَنَعَت القلوبَ من فهم كلام علام الغيوب، فحلاوة كلام الله لا يذوقها إلا أهل التجريد، الخائضون في تيار بحار التوحيد، الذين صَفَت قلوبُهم من الأغيار، وتطهرت من الأكدار، يتمتعون أولاً بحلاوة الكلام، ثم يتمتعون ثانيًا بحلاوة وشهود المتكلم‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏83‏]‏

‏{‏وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏83‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأمن أَوِ الخوف أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرسول وإلى أُوْلِي الأمر مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

قلت‏:‏ استنبط الشيء‏:‏ استخرجه من غيره، وأصل الاستنباط‏:‏ إخراج النبط، وهو الماء، يخرج من البئر أول ما يحفر، والجار في ‏{‏منهم‏}‏‏:‏ إما بيان للموصول، أي‏:‏ لعلم المستنبطون الذين هم أولو الأمر، أو يتعلق ب ‏(‏علم‏)‏، أي‏:‏ لعلمه الذين يستخرجونه إلى الناس من أولي الأمر‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ في ذمّ المنافقين أو ضعفة المسلمين‏:‏ ‏{‏وإذا جاءهم أمرٌ‏}‏ أي‏:‏ خبر عن السرايا الذين توجهوا للغزو، من نصر وغنيمة وأمن أو خوف، وقتل وهزيمة، ‏{‏أذاعوا به‏}‏ أي‏:‏ تحدثوا به، وأشهروه، وأرجفوا به قبل أن يصل إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وأكابر الصحابة، الذين هم أولو الأمر وأهل البصائر، فيعرفون كيف يتحدثون به،

ولو ردوا ذلك ‏{‏إلى الرسول‏}‏ وأخبروه به سرًا، أو سكتوا حتى يصل إليه، أو يردوه ‏{‏إلى أولي الأمر‏}‏ من أكابر الصحابة، لعلمه الذين يستخرجونه إلى الناس ‏{‏منهم‏}‏ فينقلونه على وجهه، ويعرفون كيف يتحدثون به من غير إرجاف ولا تخويف، أو ‏{‏لعَلمَه الذين يستنبطونه‏}‏ وهم أولو الأمر أولاً، ثم يعلم الناس، فلا يكون فيه إرجاف ولا سوء أدب‏.‏ أو‏:‏ وإذا جاءهم أمر من وحي السماء‏:‏ من تخويف أو تأمين، أذاعوا به قبل أن يظهره الرسول عليه الصلاة والسلام، ولو سكتوا وردوا ذلك إلى الرسول حتى يتحدث به للناس، ويظهره أولو الأمر من أكابر أصحابه، لعلمه الذين يستخرجون ذلك الوحي من أصله، وهو الرسول عليه الصلاة والسلام وأكابر أصحابه، كما فعل عمر رضي الله عنه‏:‏ إذ سمع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق نساءه، فدخل عليه فقال‏:‏ أطلقت نساءك‏؟‏ قال‏:‏ «لا» فقال على باب المسجد، فقال‏:‏ إن رسول الله صلى عليه وسلم لم يطلق نساءه، فأنزل الله هذه القصة، قال‏:‏ وأنا الذي استنبطته‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ قالت الحكماء‏:‏ قلوب الأحرار قبور الأسرار، وهذه الخصلة التي ذمَّها الله تعالى توجد في كثير من العوام؛ مهما سمعوا خبرًا‏:‏ خيرًا أو شرًا، بادروا إلى إفشائه، ولا سيما إذا سمعوه على أهل النسبة أو أهل الخصوصية، وقد تُوجد في بعض الفقراء، وهي غفلة ونوع من الفضول، فالفقير الصادق غائب عن أخبار الزمان وأهله، وقد ترك الناسَ وما هم فيه، وقد تغلب عليه الغيبة في الله حتى تغيب عنه الأيام، وأما الفقير الذي يتسمع الأخبار ويبحث عنها فلا نسبة له في الفقر، إلا اسم بلا مسمى، وقد ترى بعض الفقراء، يُبلِّغُ مساوِىءَ إخوانه إلى المشايخ، وهو سبب الطرف، والعياذ بالله‏.‏

وقد كان صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «لا تبلغوني مساوىء أصحابي»؛ لأن ذلك يسؤوهم، والخير كله في إدخال السرور على قلوب المشايخ‏.‏

وتنسحب الآية على مَن يُفشِيِ أسرار الربوبية، ويُطلع الفقراء علَى الحقيقة، ولو ردوا ذلك إلى شيخهم حتى يكون هو الذي يطلعهم لكان أحسن، لأن الحقيقة إذا أُخِذَت من الشيخ كان فيها سر كبير، بخلاف ما إذا أُخِذّت من غيره، إلاَّ إذا كان مأذونًا في ذلك فكأنه هو‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

وقال الورتجبي‏:‏ قال أبو سيعد الخراز‏:‏ إن له عبادًا يدخل عليهم الخلل، ولولا ذلك لفسدوا وتعطلوا، وذلك أنهم بَلَغُوا من العلم غاية، صاروا إلى علم المجهول، الذي لم ينصُّه كتاب، ولا جاء به خبر، لكن العقلاء العارفون، يحتجون له من الكتاب والسنة، بحسن استنباطهم ومعرفتهم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏لعلمه الذين يستنبطونه منهم‏}‏‏.‏ ه‏.‏

قلت‏:‏ ومعنى كلامه‏:‏ أن الله تعالى أشغل علماء الظاهر بتقرير علم الفرق، ولولا اشتغالهم بذلك لتعطلوا وتبطلوا، إذ لا قدرة لهم على عمل القلوب من الفكرة والنظرة، لكن العارفون يقرون لهم ذلك، ويحتجون لهم بما في نشر العلم من الأجور، من الكتاب والسنة، لأنهم قاموا بنظام عمل الحكمة ورفعوا علم الشريعة، ولولا قيامهم بذلك لتعين على أهل الباطن، فتتشوش عليهم قلوبهم، وكان شيخ شيوخنا سيدي علي الجمل العمراني رضي الله عنه يقول‏:‏ جزاهم الله عنا خيرًا؛ رفعوا لنا علم الشريعة، نحن نغرق في البحر، ثم نرفع رأسنا فنرى العلم قائمًا، ثم نرجع إلى البحر‏.‏ ه‏.‏ بالمعنى، والله تعالى أعلم‏.‏

ثم إن الهداية بيد الله، قوم أقامهم في الفرق، وقوم هداهم إلى الجمع، كما قال تعالى‏:‏

‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشيطان إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ لولا أن الله تفضل عليكم ورحمكم بنبي الرحمة، وأنقذكم من متابعة الشيطان وعبادة الأوثان، لبقيتم على كفركم وضلالكم، ولاتبعتم الشيطان فيما يأمركم به من الكفر والعصيان، إلا قليلاً ممن اهتدى قبل بعثته، كقس بن ساعدة، وزيد بن نفيل، وورقة بن نوفل، رزقهم الله كمال العقل؛ فنظروا وتفكروا بعقولهم؛ فوجدوا الله واعتزلوا ما كان يعبد آباؤهم وإخوانهم‏.‏ أما قس فاعتزل قومه، وعبد الله وحده، وكان يخطب على الناس ويأمرهم بالتوحيد، ويعيب عليهم عبادة الأصنام‏.‏ وعاش سبعمائة عام‏.‏ وأما زيدٌ فتعلق بالحنيفية، دين إبراهيم، حتى مات قبل البعثة‏.‏ وأما ورقة فأخذ بدين النصرانية التي لم تُغَيَّر، وأدرك أول البعثة، وآمن بالرسول قبل أن يُؤمر بالإنذار، قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «رأيتُه في الجنة عليه ثيابُ خُضر» والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ لولا فضل الله عليكم بأن بعث لكم مَن يدلكم على الله ويعرفكم بالله، ورحمته بأن أخرجكم من ضيق الفرق، إلى فضاء الجمع، لاتبعتم الفرق علمًا وعملاً، لكن الله تعالى بفضله ورحمته غيبكم عن شهود الفرق بشهود الملك الحق‏.‏ إلاّ فرقًا قليلاً تقيمون به رسم العبودية، وتظهرون به الآداب مع الربوبية‏.‏

قال الورتجبي‏:‏ الفضل والرحمة منه للعموم، ومحبته للخصوص، الذين هم مستثنون بقوله‏:‏ «إلا قليلاً»‏.‏ ه‏.‏ قال القشيري‏:‏ ‏{‏ولولا فضل الله‏}‏ مع أوليائه لهاموا في كل وادٍ من الفرقة كأشكالهم في الوقت‏.‏ ه‏.‏ فَخَصَّ الإشارة بالأولياء، وعليه فقوله‏:‏ ‏{‏إلا قليلاً‏}‏ أي‏:‏ إلا تفرقة قليلة تعرض لهم، تربيةً لهم، وإبقاء لرسمهم ومناطِ تكليفهم‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏ قاله في الحاشية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏84- 86‏]‏

‏{‏فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا ‏(‏84‏)‏ مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا ‏(‏85‏)‏ وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا ‏(‏86‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏نفسك‏}‏‏:‏ مفعول ثانٍ، والأول نائب، أي‏:‏ لا يكلفك الله إلا نفسك‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏فقاتل‏}‏ يا محمد ‏{‏في سبيل الله‏}‏ ولو وَحدَكَ إن تثبطوا عن الجهاد، لا نكلفك إلا أمر نفسك، ‏{‏و‏}‏ لكن ‏{‏حَرِّض المؤمنين‏}‏ على الجهاد، إذ ما عليك إلا التحريض‏.‏ فجاهدوا حتى تكون كلمة الله هي العليا‏.‏ ‏{‏عسى الله أن يكف‏}‏ بجهادكم ‏{‏بأس الذين كفروا‏}‏ ويبطل دينهم الفاسد‏.‏ ‏{‏والله أشد بأسًا‏}‏ منهم ‏{‏وأشد تنكيلاً‏}‏ أي‏:‏ تعذيبًا لهم‏.‏ وقد حقَّق الله ذلك ففتح الله على نبيه قبائل العرب، فلم يبق فيهم مشرك، ثم فتح على الصحابة سائر البلاد، وهدى الله بهم جميع العباد، إلا من فرّ من الكفار إلى شواهق الجبال‏.‏

وإنما أمرتك بالتحريض على الجهاد، لأن الدال على الخير كفاعله، وذلك كالشفاعة بين الناس ودلالتهم على إصلاح ذات البين، فمن ‏{‏يشفع شفاعة حسنة‏}‏ بأن ينفع المشفوع له، بدفع ضرر أو جلب نفع، ابتغاء وجه الله، ‏{‏يكن له نصيب منها‏}‏، أي‏:‏ حظ كبير من الثواب؛ لأنه دل المشفوع عنده على الخير، وأوصل النفع إلى المشفوع له، فله من الأجر مثل ما لهما، ومنها‏:‏ الدعاء بظهر الغيب، فقد قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «مَن دعا لمسلمٍ بظَهرِ الغَيبِ استُجيب له، وقال له الملك‏:‏ لك مِثلُ ذَلِكَ»‏.‏

‏{‏ومَن يشفع شفاعة سيئة‏}‏، يريد بها فسادًا بين الناس؛ كنميمة وزور وإحداث بدعة، ‏{‏يكن له كِفلٌ‏}‏ أي‏:‏ نصيب ‏{‏منها‏}‏ أي‏:‏ من وِزرها، وفي الحديث‏:‏ «من سنَّ سُنةَ حَسَنةٌ، فله أجرُهَا وأجرُ مَن عَمِلَ بِهَا إلى يَومِ القيامَةِ، ومن سنَّ سُنَّة سَيِّئةً فعليه وزرُهَا وَوِزرُ مَن عَمِلَ بِها إلى يَوم القيامَةِ» ‏{‏وكان الله على كل شيء مقيتًا‏}‏ أي‏:‏ مقتدرًا من أقات على الشيء‏:‏ إذَا قدر عليه، أو شهيدًا حافظَا فيجازي على قدر الأعمال‏.‏

ومن هذا أيضًا‏:‏ السلام، فإنه سبب في ثواب الرد، لذلك ذكره الحق في سلك الدلالة على الخير فقال‏:‏ ‏{‏وإذا حُييتم بتحية فحيوا بأحسن منها‏}‏ بأن تقولوا‏:‏ وعليكم السلام والرحمة والبركة، ‏{‏أو ردوها‏}‏ بأن تقولوا‏:‏ وعليكم السلام‏.‏

وفي الخبر‏:‏ «مَن قَالَ لأخيه المسلم‏:‏ السَّلامُ علَيكُم، كتب الله له عَشرُ حَسنات، فإن قال‏:‏ السَّلامُ عليكُم ورحمَةُ الله، كتب الله له عِشرين حَسنة، فإن قال‏:‏ وَبَرَكَاتُه، كتب الله ثَلاثين»، وكذلك لمن ردّ، فإن اقتصر على السلام، فعشر، وهكذا‏.‏‏.‏ فإن ذكرَ المسلم الرحمةَ والبركةَ، قال الرادُّ‏:‏ وعليكم، فقط، إذ لم يبق ما يزاد، ورد السلام واجب على الكفاية، حيث يكون مشروعًا، فلا يرد في الخطبة، وقراءة القرآن، والذكر والتفكر، والاعتبار، ونظرة الشهود والاستبصار، لأنه يفتر ويشوش، وفي الحمام إذا كانوا عراة، وفي حال الجماع والأكل والشرب وغيرها من المسائل المستثناة‏.‏

وقد نظمه بعضهم، فقال‏:‏

رَدُّ السَّلآم واجبٌ إلا على *** مَن في الصَّلاةِ أو بأكل شُغلا

أو شُربٍ أو قراءةٍ أو أدعِيه *** أو ذكرٍ أو خُطبةٍ أو تَلبِيه

والسلام من تحية أهل الإسلام، خاصٌّ بهم‏.‏ لذلك استغرب الخضر عليه السلام سلام سَيدنا موسى عليه السلام فقال له‏:‏ «وأنَّى بأرضِكَ السَّلامُ، وكذلك خليل الله إبراهيم عليه السلام، إنما أنكر الملائكة حيث سلموا عليه بتحية أهل الإسلام؛ لأنه كان بين أظهر قوم كفار، أما سلام أبي ذر على النبي صلى الله عليه وسلم بتحية أهل الإسلام، قبل أن يسلم، فلعله سمعه من بعض الصحابة قبل أن يسلم، أو إلهام من الله‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

‏{‏إن الله كان على كل شيء حسيبًا‏}‏ يحاسبكم على التحية وغيرها‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

الإشارة‏:‏ فجاهد أيها الإنسان نفسك في سبيل الله، لا تكلف إلا إصلاحها وتزكيتها، وحرض من يسمع قولك من المؤمنين على جهاد أنفسهم، عسى الله أن يكف عنهم القواطع والعلائق، فيتأهلون لإشراق قلوبهم بأنوار الحقائق، فإن الله لا يغلبه شيء، فمن ذكّر عبادَ الله، ودسهم إلى حضرة الله كان حظه كبيرًا عند الله‏.‏ ومن دلهم على غير الله فقد غشهم وكان مُهانًا عند الله، وإذا وقع السلام على الفقراء؛ فإن كانوا سالكين غير مشتغلين بالذكر وجب عليهم الرد بأحسن، وإذا كانوا ذاكرين أو متفكرين أو سكارى في شهود الحبيب سقط عنهم السلام، وكذلك إذا سلم عليهم اختبارًا وتعنيتًا لم يجب الرد‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏87‏]‏

‏{‏اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا ‏(‏87‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏الله‏}‏‏:‏ مبتدأ، و‏{‏لا إله‏}‏‏:‏ خبر، أو اعتراض، و‏{‏ليجمعنكم‏}‏‏:‏ خبر، وهو أوفق بالسياق، و‏{‏لا ريب فيه‏}‏ حال، أو صفة لمصدر، أي‏:‏ جمعًا لا ريب فيه‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏الله لا إله إلا هو‏}‏ أي‏:‏ لا مستحق للعبادة إلا هو، والله ‏{‏ليجمعنكم‏}‏ أي‏:‏ ليَحشرنك من قبوركم ‏{‏إلى يوم القيامة‏}‏ للحساب الذي وعدكم به، لا شك فيه، فهو وعد صادق، ‏{‏ومن أصدق من الله حديثًا‏}‏، أي‏:‏ لا أحدَ أصدقُ من الله حديثًا، لأن الكذب نقص، وهو على الله محال‏.‏

الإشارة‏:‏ الحق تعالى واحد في ملكه، فلا يذوق وحدانيته إلا من كان واحدًا في قصده وهمه، فكل من وحَّدّ قلبه وقصده وهمته في طلبه، وانجمع بكليته إليه، جمعه الله لحضرته، ونعَّمه بشهود ذاته، وعدًا حقًا وقولاً صادقًا، لا ريب فيه ولا اشتباه، إذ لا أحدَ أصدقُ من الله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏88- 90‏]‏

‏{‏فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا ‏(‏88‏)‏ وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ‏(‏89‏)‏ إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا ‏(‏90‏)‏‏}‏

‏{‏فَمَا لَكُمْ فِي المنافقين فِئَتَيْنِ والله أَرْكَسَهُمْ بِمَا كسبوا أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ الله وَمَن يُضْلِلِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏فئتين‏}‏‏:‏ حال، والعامل فيه‏:‏ الاستقرار في الجر، وأركس الشيء نكَّسه‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ معاتبًا الصحابة حين اختلفوا في إسلام بعض المنافقين، فقال‏:‏ ‏{‏فما لكم‏}‏ افترقتم ‏{‏في‏}‏ شأن ‏{‏المنافقين‏}‏ فرقتين، ولم تتفقوا على كفرهم، والحالة أن الله تعالى ‏{‏أركسهم‏}‏، أي‏:‏ نكَّسهم وردهم إلى الكفر بعد أن أظهروا الإسلام بسبب ما كسبوا من الآثام‏.‏ ‏{‏أتريدون أن تهدموا من أضل الله‏}‏، وسبق لهم الشقاء في علم الله‏؟‏ ومن يضلل الله فلن تجد له طريقاً إلى الهدى‏.‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ ‏(‏نزلت في قومِ كانوا بمكة من المشركين، فزعموا أنهم آمنوا ولم يهاجروا، ثم سافر قوم منهم بتجارات إلى الشام، فاختلف المسلمون، هل يقتلونهم ليغنموا تجارتهم، لأنهم لم يهاجروا، أو يتركونهم لأنهم مؤمنون‏؟‏‏)‏‏.‏ وقيل‏:‏ في قوم أسلموا ثم اجتَوَوا المدينة، واستأذنوا رسول الله صلى عليه وسلم في الخروج إلى البدو، فلما خَرَجُوا لم يزالُوا راحلين مَرحلةٌ حتى لحقُوا بالمُشركين، فاختلف المسلمون في إسلامهم‏.‏

ثم حكم بكفرهم فقال ‏{‏ودّوا لم تكفرون‏}‏ أي‏:‏ يتمنون كفركم ‏{‏كما كفروا فتكونون‏}‏ معهم ‏{‏سواء‏}‏ في الضلال والكفر‏.‏

الإشارة‏:‏ من دخل في طريق المخصوصين الأبرار، ثم لم تساعده رياح الأقدار، فلا ينبغي الكلام فيه، ولا الخوض في شأنه، لأن أمره بيد ربه، ‏(‏من يهده الله فلا مضل له‏)‏، ومن يضلل فلا ناصر له‏.‏ وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق‏.‏

ثم نهى عن مُوَالاَتهم، فقال‏:‏

‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَآءَ حتى يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ الله فَإِنْ تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ واقتلوهم حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً إِلاَّ الذين يَصِلُونَ إلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُونَكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَآءَ الله لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعتزلوكم فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السلم فَمَا جَعَلَ الله لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏حَصِرت‏}‏‏:‏ أي‏:‏ ضاقت، والجملة حال من الواو، بدليل قراءة يعقوب ‏(‏حَصِرَةً‏)‏‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏فلا تتخذوا‏}‏ من هؤلاء الكفرة ‏{‏أولياء‏}‏ وأصدقاء حتى يتحقق إيمانهم، بأن يهاجروا من دار الكفرإلى دار الإسلام ‏{‏في سبيل الله‏}‏ وابتغاء مرضات الله، لا لحرف دنيوي، ‏{‏فإن تولوا‏}‏ عن إظهار الإيمان بالهجرة ‏{‏في سبيل الله‏}‏، ‏{‏فخذوهم‏}‏ أسارى ‏{‏واقتلوهم حيث وجدتموهم‏}‏ كسائر الكفرة، وجانبوهم ‏{‏ولا تتخذوا منهم وليًا ولا نصيرًا‏}‏ أي‏:‏ لا تستعينوا بهم في جهادكم، ‏{‏إلاَّ الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم‏}‏ عهد، و‏{‏ميثاق‏}‏ أي‏:‏ مهاندة، فلهم حكم المُعَاهَدِين الذين وصلوا إليهم، ودخلوا معهم في الصلح، فلا تقتلوهم ولا تأسروهم‏.‏

وكانت خزاعة وادعت النبي صلى الله عليه وسلم وعقدت معه الصلح، فجاء بنو مدلج فدخلوا معهم في الصلح، فنهى الله عن قتالهم ما داموا معهم، فالقوم الذين بين المسلمين وبينهم ميثاق هم خزاعة، والذي وصلوا إليهم هم بنو مدلج‏.‏ فالاستثناء على هذا منقطع، لأن بني مدلج حينئٍذ كانت مظهرة للكفر لا منافقة، ويحتمل أن يكون متصلاً، أي‏:‏ إلا الذين يصلون منهم‏.‏‏.‏‏.‏ الخ، فتأمل‏.‏ وكان هذا في أول الإسلام، ثم نُسِخ بقوله‏:‏ ‏{‏فَأْقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ‏}‏ ‏[‏التّوبَة‏:‏ 5‏]‏ الآية‏.‏

ثم ذكر قومًا آخرين نهى عن قتالهم، فقال‏:‏ ‏{‏أو جاءوكم‏}‏ أي‏:‏ إلاَّ قومًا جاؤوكم، قد ‏{‏حصرت صدورهم‏}‏ أي‏:‏ ضاقت عن ‏{‏أن يُقاتلوكم أو يُقاتلوا قومهم‏}‏ يعني أنهم كرهوا قتالهم، وكرهوا قتال قومهم الكفار، فلا تقتلوهم أيضًا، لأن الله كفَّ شرهم عنكم، ‏{‏ولو شاء الله لسلّطهم عليكم‏}‏ بأن قوَّى قلوبهم وأزال رعبهم ‏{‏فَلَقَاتَلُكم‏}‏ ولم يكفّوا عنكم، ‏{‏فإن اعتزلوكم‏}‏ ولم يتعرّضوا لكم ‏{‏وألقوا إليكم السلم‏}‏ أي‏:‏ الاستسلام والانقياد ‏{‏فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً‏}‏ أي‏:‏ طريقًا إلى قتالهم‏.‏

الإشارة‏:‏ نهى الله تعالى عن مساكنة النفوس وموالاتها، حتى تهاجر عن مواطن شهواتها إلى حضرة ربها، فإن تولت عن الهجرة وألِفَت البطالةَ والغفلة فليأخذها ليقتلها حيثما ظهرت صورتها، ولا يسكن إليها أبدًا أو يواليها، إلاَّ إن وصلت إلى حضرة الشيخ، وأمره بالرفق بها، أو كفت عن طغيانها، أو كفى الله أمرها؛ بجذبٍ أخرجها عن عوائدها، أو واردٍ قوَّى دفع شهواتها، فإنه يأتي من حضرة قهار، لا يصادم شيئاً إلا دمغه، وهذه عناية من الرحمن، ولو شاء تعالى لسلطها على الإنسان يرخى لها العنان، فتجمح به في ضَحضَاح النيران، فإن كفت النفس عن شهواتها، وانقادت إلى حضرة ربها، فما لأحدٍ عليها من سبيل، وقد دخلت في حمى الملك الجليل‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏