فصل: تفسير الآيات رقم (21- 22)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 22‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ‏(‏21‏)‏ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ جملة الترجي حال من الواو في ‏{‏اعْبُدُوا‏}‏، أي‏:‏ اعبدوا ربكم راجين أن تنخرطوا في سلك المتقين الفائزين بالهدي والفلاح، المستوجبين جوار الله تعالى، نبّه به على أن التقوى منتهى درجات السالكين؛ وهو التبري من كل شيء سوى الله تعالى- إلى الله تعالى‏.‏

و ‏{‏الَّذي جَعَلَ‏}‏ صفة للرب، و‏{‏فَلا تَجْعَلُوا‏}‏ معطوف على ‏{‏اعْبُدُوا‏}‏ على أنه نهي، أو منصوب بأن، جواب له، و‏(‏الأنداد‏)‏ جمع نِدِّ، بكسر النون‏.‏ وهو الشبه والمثل، و‏{‏أَنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ حال من ضمير ‏{‏فَلاَ تَجْعَلُوا‏}‏ أي‏:‏ فلا تجعلوا لله أنداداً والحال أنكم من أهل العلم‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ يا عبادي اعبدوني بقلوبكم بالتوحيد والإيمان، وبجوارحكم بالطاعة والإذعان، وبأرواحكم بالشهود والعيان، فأنا الذي أظهرتكم من العدم- أنتم ومَن كان قبلكم- وأسبلت عليهم سوابغ النعم، الأرض تقلكم والسماء تظلكم، والجهات تكتنفكم، وأنزلت من السماء ماء فأخرجت به أصنافاً ‏{‏من الثمرات رزقاً لكم‏}‏، فأنتم جوهرة الصدق، تنطوي عليكم أصداف مكنوناتي، وأنتم الذين أطلعتكم على أسرار مكنوناتي، فكيف يمكنكم أن تتوجهوا إلى غيري‏؟‏ وقد أغنيتكم بلطائف إحساني وبري، أنعمت عليكم أولاً بالإيجاد، وثانياً بتوالي الإمداد، خصصتكم بنور العقل والفهم، وأشرقت عليكم نبذة من أنوار القِدم، فبي عرفتموني، وبقدرتي عبدتموني، فلا شريك معي ولا ظهير، ولا احتياج إلى معين ولا وزير‏.‏

الإشارة‏:‏ توجه الخطاب إلى العارفين الكاملين في الإنسانية الذي يعبدون الله تعظيماً لحق الربوبية، وقياماً بوظائف العبودية، وفيهم قال صاحب العينية‏:‏

هُم الناسُ فالزمْ إنْ عَرفْتَ جَنَابَهُمْ *** فَفِيهِم لِضُرِّ العالمين مَنَافعُ

وقال قبل ذلك‏:‏

همُ الْقَصْدُ للملهوفِ والكنزُ والرجَا *** ومنهم يَنَالُ الصَّبُّ ما هُوَ طامعُ

بهِم يَهْتَدي للعينِ مَن ضَلَّ في العَمَى *** بهِم يُجذَبُ العُشَّاقُ، والرَّبْعُ شاسعُ

هم القَصْدُ والمطلوبُ والسؤلُ والمنَى *** واسْمُهُم لِلصَّبِّ في الحبِّ شَافعُ

فعبادة العارفين‏:‏ بالله ومن الله وإلى الله، وعبادة الجاهلين‏:‏ بأنفسهم ومن أنفسهم ولأنفسهم، عبادة العارفين حمد وشكر، وعبادة الغافلين اقتضاء حظ وأجر، عبادة العارفين قلبية باطنية، وعبادة الغافلين حسية ظاهرية، يا أيها الناس المخصوصون بالأنس والقرب دوموا على عبادة القريب، ومشاهدة الحبيب، فقد رَفَعْتُ بيني وبينكم الحجب والأستار، وأشهدتكم عجائب الألطاف والأسرار، أبرزتكم إلى الوجود، وأدخلتكم من باب الكرم والجود، ومنحتكم بفضلي غاية الشهود، لعلكم تتقون الإنكار والجحود، وتعرفونني في كل شاهد ومشهود‏.‏

فقد جعلت أرض نفوسكم مهاداً لعلوم الشرعية، وسماء قلوبكم سقفاً لأسرار الحقيقة، وأنزلت من سماء الملوكت ماء غيبياً تحيا به أرض النفوس، وتهتز بواردات حضرة القدوس، فتخرج من ثمرات العلوم اللدنية، والأسرار الربانية، والأحوال المرضية، ما تتقوت به عائلة المستمعين، وتنتعش به أسرار السائرين، فلا تشهدوا معي غيري، ولا تميلوا لغير إحساني وبري، فقد علمتم أني منفرد بالوجود، ومختص بالكرم والجود، فكيف يرجى غيري وأنا ما قطعت الإحسان‏؟‏‏!‏ وكيف يلتفت إلى ما سواي وأنا بذلت عادة الأمتنان‏؟‏‏!‏ مني كان الإيجاد، وعليَّ دوام الإمداد، فثقوا بي كفيلاً، واتخذوني وكيلاً، أعطكم عطاء جزيلاً، وأمنحكم فخراً جليلاً‏.‏

ولما أمر عباده بعبادته وتوحيده، أمرهم بتصديق كلامه والإيمان برسوله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 25‏]‏

‏{‏وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏23‏)‏ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ‏(‏24‏)‏ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

فإن قلت‏:‏ الريب في القرآن قد وقع من الكفار قطعاً، فكيف عبّر بإِنْ الدالة على الشك والتردد‏؟‏

قلت‏:‏ ‏{‏إن‏}‏ جازمة للفظ الشرط أو محله، موضوعة للشك في الشرط‏.‏ و«إذا» لا تجزم في اللفظ، وتدل على الجزم في المعنى، وفي ذلك يقول القائل‏:‏

إنا إنْ شَككتُ وجدْتُموني جَازِماً *** وإذا جَزمتُ فإنني لَمْ أجزمِ

فإن قلت‏:‏ الريب في القرآن قد وقع من الكفار قطعاً، فكيف عبّر بإنْ الدالة على الشك والتردد‏؟‏ قلت‏:‏ لما كان ريبهم واقعاً في غير محله- إذ لو تأملوا أدنى تأمل لزال ريبهم لوضوح الأمر وسطوع البرهان- كان ريبهم كأنه مشكوك فيه ومتردد في وقوعه، و‏(‏الشهداء‏)‏ جمع شهيد بمعنى الحاضر، أو القائم بالشهادة، أو الناصر، أُطْلِقَ على الأصنام؛ لأنهم يزعمون أنها تشهد لهم، ومعنى ‏(‏دون‏)‏‏:‏ أدنى مكان من الشيء، ثم استعير للرُّتَب فقيل‏:‏ زيد دون عمرو؛ أي‏:‏ في الشرف، ثم اتسع فيه فاستعير لكل تجاوزِ حدّ إلى حد، وتخطّي أمرٍ إلى آخر‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وَإِن كُنتُمْ‏}‏ يا معشر الكفار ‏{‏فِي‏}‏ شك ‏{‏مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى‏}‏ محمد ‏{‏عَبْدِنَا‏}‏ ورسولنا المختار لِسِرّ وحينا، ‏{‏فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِن‏}‏ جنسه في البلاغة والفصاحة، مشتملة على علوم وأسرار ومغيبات كما اشتمل عليه كتابي، ‏{‏وَادْعُوا‏}‏ من استطعتم ممن تنتصرون به على ذلك الإتيان، مِن آلهتكم التي تزعمون أنها تشهد لكم يوم القيامة، أو من حضركم من البلغاء والفصحاء ممن تنتصرون به ‏{‏مِن دُونِ اللَّهِ إن كُنتُمْ صَادِقِينَ‏}‏ في أنها تنفعكم‏.‏ ‏{‏فَإن لَّمْ‏}‏ تقدروا أن ‏{‏تَفْعَلُوا‏}‏ ذلك ‏{‏ولَن‏}‏ تقدروا ابداً فأسلموا وأقرُّوا بالحق، و‏{‏اتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ‏}‏ أي‏:‏ حجارة الكبريت، فَهُمَا حطبُها ووقودها ‏{‏أُعِدَّتْ لِلْكَافِرينَ‏}‏‏.‏

‏{‏وَبَشِّرِ‏}‏ يا محمد ويا مَن يصلح منه التبشير ‏{‏الَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ بالله ورسوله، ‏{‏وَعَمِلُوا‏}‏ ما كلفوا به من الأعمال ‏{‏الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارِ‏}‏ أي‏:‏ من تحت قصورها، وهي أنهار من ماء، وأنهار من عسل، وأنهار من لبن، وأنهار من خمر لذة للشاربين‏.‏ ‏{‏كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً‏}‏ أي‏:‏ صنفاً، ‏{‏قَالُوا هَذَا الَّذِين رُزقْنَا مِن قَبْلُ‏}‏ في دار الدنيا، فإن الطباع تميل إلى المألوف، فالصفة متفقة والطعم مختلف‏.‏ أو في الجنة، قيل‏:‏ هذا لما روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «والذي نفسُ محمدٍ بيدِه إنَّ الرجلَ مِنْ أهلِ الجنةِ لَيتَناولُ الثمرة لِيأكلهَا فما هي واصِلةٌ إلى جَوفِه حتى يبدل الله تعالى مكانها مِثلَها»، فلعلهم إذا رأوها على الهيئة الأولى قالوا ذلك، لفرط استغرابهم، وتبجحهم بما وجدوا من التفاوت العظيم في اللذة والتشابه البليغ في الصورة، ‏{‏وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ‏}‏ أي‏:‏ حور ‏{‏مُّطَهَّرَةٌ‏}‏ من الحيض، وسائر الأدناس، ومن الأخلاق المذمومة، والشيم الذميمة، ‏{‏وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏}‏؛ فإن النعيم إذا كان يعقُبه الفناء تنغّص على صاحبه، كما قال الشاعر‏:‏

لا خيرَ في العيشِ ما دَامتْ مُنغَّصَةً *** لَذاتُه بادِّكارِ الموتِ والهَرَمِ

الإشارة‏:‏ وإن كنتم يا معشر العوام في شك مما خصصنا به ولينا من الأنوار، وما أنزلنا على قلبه من المعارف والأسرار، وما ظهر عليه من البهجة والأنوار، وما اهتدى على يديه من الصالحين والأبرار، فأتوا أنتم بشيء من ذلك، وانتصروا بما قدرتم من دون الله إن كنتم صادقين في المعارضة، قال القشيري‏:‏ وكما أن كيد الكافرين يَضْمَحِلُّ في مقابلة معجزات الرسول، فكذلك دعاوى المُلْبِسين تتلاشى عند ظهور أنوار الصديقين‏.‏ ه‏.‏

فإن لم تفعلوا ما ذكرنا من المعارضة، ولن تقدروا على ذلك أبداً، فأَذْعنوا، واخْضعوا، واتقوا نار القطيعة والحظوظ، والطمع والهلع، التي مادتها النفوس والفلوس؛ إذ بهما هلك مَن هلك وفاز مَن فاز؛ أُعدت تلك النار للمنكرين الخصوصية، الجاحدين لوجود التربية النبوية‏.‏

وبَشِّر الصديقين بوجود الخصوصية، المنقادين لأهلها، أن لهم جنات المعارف في الدنيا، وجنات الزخارف في الآخرة، تجري من تحت قلوب أهلها أنوار العلوم والمعارف، فإذا كشف لهم يوم القيامة عن أسرار ذاته، قالوا‏:‏ هذا الذي عرفناه من قبل في دار الدنيا، إذ الوجود واحد والمعرفة متفاوتة، وأتُوا بأرزاق المعارف متشابهة؛ لأن مَنْ عَرَفه في الدنيا عرفه في الآخرة، ومَن أنكره هنا أنكره يوم القيامة، إلا في وقت مخصوص على وجه مخصوص، ولهم في جنات المعارف عرائس المعارف والكشوفات، مطهرات من أدناس الحس وعبث الهوى والشهوات، وهم بعد تمكنهم من شهود الذات، خالدون في عُشّ الحضرة، فيها يسكنون وإليها يأوون‏.‏

وقال القشيري‏:‏ كما أن أهل الجنة يجدد لهم النعيم في وقت، فالثاني عندهم على ما يظنون كالأول، فإذا ذاقوه وجدوه غير ما تقدم، كذلك أهل الحقائق‏:‏ أحوالهم في الزيادة أبداً، فإذا رقي أحدهم عن محله، توهم أن الذي سيلقاه في هذا النَّفس مثل ما تقدم، فإذا ذاقه وجده فوق ذلك بأضعاف، كما قال قائلهم‏:‏

ما زِلتُ أنزلُ مِنْ وِدادِكَ مَنْزِلاً *** تَتحَيرُ الألبابُ عِندَ نُزُولهِ

ولما ضرب الله الأمثال في القرآن للمنافقين وغيرهم تكلم في ذلك بعض الكفار والملحدين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 27‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ ‏(‏26‏)‏ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏27‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ الحياء‏:‏ خُلُق كريم يمنع صاحبه من ارتكاب ما يعاب به، وفي الحديث‏:‏ «إنَّ الله حَيِيٌ كَريم»، و‏{‏مثلاً‏}‏ مفعول، و‏{‏ما‏}‏ نكرة، صفته، و‏{‏بعوضة‏}‏ بدل، والبعوضة‏:‏ الذباب‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «لوْ كَانَتِ الدُّنيَا تُسَاوِي عندَ الله جَنَاحَ بعُوضَةٍ مَا سَقَى الكافرَ منها جَرْعَة ماءٍ»، وقيل‏:‏ صِغَار البَقِّ، أي‏:‏ إن الله لا يترك أن يضرب مثلاً- أيّ مثل كان- بعوضة فما فوقها‏.‏ أو ‏{‏بعوضة‏}‏ مفعول أول، و‏{‏مثلاً‏}‏ مفعول ثانٍ، من باب جعل، و‏{‏ماذا‏}‏ إما مبتدأ وخبرِ، على أن ‏{‏ذا‏}‏ موصولة، أو مفعولة بأراد على أنها مركبة، و‏{‏مثلاً‏}‏ حال أو تمييز‏.‏ والفسق‏:‏ الخروج، يقال‏:‏ فسقت الرطبة إذا خرجت عن قشرها‏.‏

يقوله الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إنَّ اللَّهَ‏}‏ لا يترك ترك المستحيي ‏{‏أَن يَضْرِبَ مَثَلاً‏}‏ بالخسيس والكبير كالذباب والعنكبوت وغير ذلك‏.‏ فأما المؤمنون فيتيقَّنُون ‏{‏أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ‏}‏، وحكمته‏:‏ إبراز المعاني اللطيفة في قوالب المحسوسات ليسهل الفهم، وأما الكفار فيعترضون ويقولون‏:‏ ‏{‏مَاذَا أَرَادَ الله‏}‏ بهذه الأمثال‏؟‏ فإن الله منزه عن ضرب الأمثال بهذه الأشياء الخسيسة، قال الله تعالى في الرد عليهم‏:‏ أراد بهذا إضلال قوم بسبب إنكارها، وهداية آخرين بسبب الإيمان بها، ‏{‏وَمَا يُضِلُّ‏}‏ بذلك المثل إلا الخارجين عن طاعته، ‏{‏الذين‏}‏ نقضوا العهد الذي أُخذ عليهم في عالم الذَّرِّ، أو مطلق العهد، ‏{‏وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ‏}‏ من الأنبياء والرسل والأرحام وغيرها، ‏{‏وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ‏}‏ بالمعاصي والتعويق عن الإيمان، ‏{‏أَوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ‏}‏ الكاملون في الخسران، نعوذ بالله من الخذلان‏.‏

الإشارة‏:‏ إن الله لا يترك أن يظهر مثلاً من أنوار قدسه بارزاً بقدرته، مرتدياً برداء حكمته، ملتبساً بأسرار ذاته، مَكسُوّاً بأنوار صفاته من الذرة إلى ما لا نهاية له، فالمتجلِّي في النملة هو المتجلي في الفيلة، فأما الذين صَدَّقُوا بتجلي الذات في أنوار الصفات، فيقولون‏:‏ إنه الحق فائضٌ من نور الربوبية، محتجباً برداء الكبرياء وسبحات الألوهية‏.‏ وأما الجاحدون لظهور نور ذات الربوبية فينكرونه في حال ظهوره، ويقولون‏:‏ ماذا أراد الله بهذه العوالم الظاهرة‏؟‏ فيقول الحق تعالى‏:‏ أردت ظهور قدرتي وعجائب حكمتي، ليظهر سر ربوبيتي في مظاهر عبوديتي‏.‏

قال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه‏:‏ «العبودية جوهرة أظهر بها الربوبية» وقيل لأبي الحسن النُّورِي‏:‏ ما هذه الأماكن والمخلوقات الظاهرة‏؟‏ فقال‏:‏ عز ظاهر وملك قاهر، ومخلوقات ظاهرة به، وصادرة عنه، لا هي متصلة به ولا منفصلة عنه، فرغ من الأشياء ولم تفرغ منه، لأنها تحتاج إليه وهو لا يحتاج إليها‏.‏ ه‏.‏

فأراد الله بظهور هذا الكون أن يضل به قوماً فيقفون مع ظاهر غرَّتِه، ويهدي به قوماً فينفذون إلى باطن عبرته‏.‏ وما يضل به إلا الفاسقين الخارجين عن دائرة الشهود، المنكرين لتجليات الملك المعبود، الذين ينقضون عهد الله، وهو معرفة الروح التي حصلت لها وهي في عالم الذر، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل من الشيوخ العارفين، الذين أَهَّلَهُمَ الله للتربية والترقية، وهم لا ينقطعون ما دامت المِلَّةُ المحمدية، ويفسدون في الأرض بالإنكار والتعويق عن طريق الخصوص، بتضييعهم الأصولَ، وهي صحبة العارفين، والتأدب لهم، والتعظيم لحرمتهم‏.‏ وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏كيف‏}‏ حال؛ لأنها وقعت قبل كلام تام‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِالله‏}‏ وتجحدون نعمه المتوالية، ‏{‏و‏}‏ الحالة أنكم ‏{‏كُنتُمْ أَمْوَاتاً‏}‏ نطفاً في الأرحام ‏{‏فَأَحْيَاكُمْ‏}‏ بنفخ الروح في أجسادكم، ‏{‏ثُمَّ يُمِيتُكُمْ‏}‏ عند انقضاء آجالكم، ‏{‏ثُمَّ يُحْيِيكُمْ‏}‏ عند البعث لحسابكم، ثم يسكنكم دار القرار، إما إلى الجنة وإما إلى النار‏.‏ فهذه الآثار دالّة على باهر قدرته وتمام حكمته، فقد وضح الحق وظهر، ‏{‏فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 29‏]‏‏.‏

الإشارة‏:‏ كيف تنكرون ظهور نور الحق في الأكوان، وتبعدون عن حضرة الشهود والعيان، وقد كنتم أمواتاً بالغفلة وغم الحجاب، فأحياكم باليقظة والإياب، ثم يميتكم بالفناء عن شهود ما سواه، ثم يحييكم بالرجوع إلى شهود أثره بالله، ثم إليه ترجعون في كل شيء لشهود نوره في كل شيء، وقبل كل شيء، وبعد كل شيء، وعند كل شيء «كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما عليه كان»‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏29‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏جميعاً‏}‏ حال مؤكدة من ‏{‏ما‏}‏، و‏{‏ثم‏}‏ للترتيب الذكري لا الخارجي؛ لأن دحو الأرض مؤخر عن خلق السماء، إلا أن يكون العطف على معنى الجملة، والتقدير‏:‏ هو الذي خلق لكم الأرض مشتملة على جميع منافعكم، ثم استوى إلى السماء فخلقهن سبعاً، ثم دحا الأرض وبسطها‏.‏

والتسوية‏:‏ خلق الأشياء سالمة من العوج والخلل، و‏{‏سبع‏}‏‏:‏ بدل من الضمير، أو بيان له، وجملة ‏{‏وهو بكل شيء عليم‏}‏ تعليل لما قبله‏.‏ أي‏:‏ ولكونه عالماً بكنه الأشياء كلها خلق ما خلق على هذا النمط الأكمل والوجه الأنفع‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي خَلَقَ‏}‏ لأجلكم ‏{‏ما‏}‏ استقر ‏{‏فِي الأرْضِ جَمِيعاً‏}‏ تنتفعون به في الظاهر قوتاً لأشباحكم، ودواء لأبدانكم، ومتعة لنفوسكم، وتنتفعون به في الباطن بالتفكر والاعتبار، وزيادة في إيمانكم وقوة لإيقانكم، ثم قصد ‏{‏إلَى السَّمَاءِ‏}‏ قصد إرادة، فخلقهن ‏{‏سَبْعَ سَمَوَاتِ‏}‏ مستوية تامة، ليس فيها تفاوت ولا خلل، تظلكم بِجِرْمِها، وتضي عليكم بشمسها وقمرها وكواكبها، وقد أحاط علمه بالأشياء كلها، فلذلك خلقها على هذا النمط الغريب والإتقان العجيب‏.‏

الإشارة‏:‏ يا عبادي خلقتُ الأشياء كُلَّها من أجلكم، الأرض تُقلكم، والسماء تُظلكم، والجهات تَكْتَنِفُكُمْ والحيوانات تخدُمكم، والنباتات تنفعكم، وخلقتكم من أجلي، فكيف تميلون إلى غيري، وتنسَوْن إحساني وبرِّي‏؟‏‏!‏‏!‏‏!‏ الأشياء كلها عبيدكم وأنتم عبيد الحضرة، «أنت مع الأكوان ما لم تشهد المُكَوِّنَ، فإذا شهدتَ المكوِّنَ كانت الأكوانُ معك»‏.‏

وفي بعض الكتب المنزلة يقول الله تعالى‏:‏ «يا عبدي؛ إنما منحتك صفاتي لتعرفني بها، فإن ادعيتها لنفسك سلبتُك الولاية، ولم أسلبك صفاتي، يا عبدي‏:‏ أنت صفتي وأنا صفتك، فارجع إليَّ أرجع إليك، يا عبدي‏:‏ فيك للعلوم باب مفاتحه أنا، وفيك للجهل باب مفاتحه أنت، فاقصد أيّ البابين شئت، يا عبدي‏:‏ قربي منك بقدر بعدك عن نفسك؛ وبعدي عنك بقدر قربك من نفسك، فقد عرفتك الطريق، فاترك نفسك تصل إليَّ في خطرة واحدة، يا عبدي‏:‏ كل ما جمعك علي فهو مني، وكل ما فرقك عني فهو منك، فجاهد نفسك تصل إليّ، وإني لغني عن العالمين، يا عبدي‏:‏ إن منحتني نفسك رددتها إليك راضية مرضية، وإن تركتها عندك فهي أعظم بلية، فهي أعدى الأعادي إليك فجاهدها تَعُدْ بالفوائد إليك»‏.‏

وفي بعض الآثار المروية عن الله تعالى‏:‏ «يا عبدي‏:‏ أنا بُدُّك اللازم فالزم بُدَّك»‏.‏

ويمكن أن يشار بالأرض إلى أرض العبودية، وبالسماء إلى سماء الحقيقة، وبالسبع سماوات إلى سبع مقامات؛ وهي الصبر والشكر والتوكل والرضى والتسليم والمحبة والمعرفة‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

ولما ذكر الخلق العالم العلوي والسفلي، ذكر كيفية ابتداء من عمَّر العالم السفليَّ من جنس الآدمي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 33‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏30‏)‏ وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏31‏)‏ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ‏(‏32‏)‏ قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ‏(‏33‏)‏‏}‏

لمّا أراد الله تعالى عمارة الأرض، بعد أن عمَّر السماوات بالملائكة، أخبر الملائكة بما هو صانع من ذلك؛ تنويهاً بآدم وتشريفاً لذريته، وتعيماً لعباده أمر المشاورة، فقال لهم‏:‏ ‏{‏إنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً‏}‏ يخلفني في أرضي وتنفيذ أحكامي، ‏{‏قَالُوا‏}‏ على وجه الاستفهام، أو من الإدلال، إن كان من المقربين، بعد أن رأوا الجن قد أفسدوا وسفكوا الدماء‏:‏ ‏{‏أَتَجْعَلُ مَن يُفْسِدُ فِيهَا‏}‏، وشأن الخليفة الإصلاح، ‏{‏وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ‏}‏، أي‏:‏ نسبح ملتبسين بحمدك، ‏{‏ونُقَدِّسُ لَكَ‏}‏، أي‏:‏ نطهر أنفسنا لأجلك، أو ننزهك عما لا يليق بجلال قدسك، فنحن أحق بالخلافة منهم‏.‏

قال الحقّ جلّ وعلا‏:‏ ‏{‏إنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ‏}‏؛ فإني أعلم أنه يكون منهم رسل وأنبياء وأولياء، ومن يكون مثلكم أو أعظم منكم، ولما ألقى الخليل في النار ضجت الملائكة وقال‏:‏ «يا رب هذا خليلك يحرق بالنار»‏.‏ فقال لهم‏:‏ «إن استغاث بكم فأغيثوه»‏.‏ فلما رفع همَّتَه عنهم قال الحقّ تعالى‏:‏ ‏{‏ألم أقل لكم إني أعلم ما لا تعلمون‏}‏‏.‏

ثم وَجَّهَ الحق تعالى استحقاقه للخلافة؛ وهو تشريفه بالعلم، فقال‏:‏ ‏{‏وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا‏}‏، أي مسميات الأسماء؛ بأن ألقى في رُوعه ما تحتاج إليه ذريته من اللغات والحروف، وخواص الأشياء ومنافعها، ثم عرض تلك المسميات على الملائكة، إظهاراً لعجزهم، وتشريفاً لآدم بالعلم‏.‏ ‏{‏فقال‏}‏‏:‏ أخبروني ‏{‏بأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ‏}‏ المسيمات ‏{‏إن كنتم صادقين‏}‏ في ادعائكم استحقاق الخلافة، فلما عجزوا عن معرفة تلك الأسماء ‏{‏قَالُوا سُبْحَانَكَ‏}‏ أي‏:‏ تنزيهاً لك عن العبث، ‏{‏لا عِلْمَ لَنَا إلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ‏}‏ بكل شيء، ‏{‏الْحَكيمُ‏}‏ لإتقانك كل شيء، وهذا اعتراف منهم بالقصود والعجز، وإشعار بأن سؤالهم كان استفهاماً وطلباً لتفسير ما أشكر عليهم، ولم يكن اعتراضاً‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِم‏}‏، وعيِّن لهم اسم كل مسمى، فلما أخبرهم بذلك بحيث قال مثلاً‏:‏ هذا فرس وهذا جمل، وعين ذلك لهم، وظهرت ميزته عليهم بالعلم حتى استحق الخلافة، قال الحقّ تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ‏}‏ أي‏:‏ ما غاب، وأعلم ما تظهرونه من قولكم‏:‏ ‏{‏أَتَجْعَلُ فِيهَا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ، وما تكتمونه من استحقاقكم الخلافة، وقولكم‏:‏ لن يخلق الله تعالى أحداً أعلم منا لتقدمنا، والفضل لمن صدق لا لمن سبق‏.‏

قال البيضاوي‏:‏ اعلم أن هذه الآيات تدل على شرف الإنسان، ومزية العلم وفضله على العبادة، وأنه شرط في الخلافة، بل العمدة فيها، وأن التعليم يصح إطلاقه عليه تعالى، وإن لم يصح إطلاق المعلم عليه؛ لاختصاصه بمن يحترف به، وأن اللغات توقيفية- عملها الله بالوحي-، وأن آدم عليه السلام أفضل من هؤلاء الملائكة؛ لأنه أعلم منهم، والأعلم أفضل لقوله تعالى‏:‏

‏{‏هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الزُّمَر‏:‏ 9‏]‏، وأن الله يعلم الأشياء قبل حدوثها‏.‏ ه‏.‏ باختصار‏.‏

وقال في تفسير الملائكة‏:‏ إنهم أجسام لطيفة قادرة على التشكل، وهي منقسمة على قسمين‏:‏ قسم شأنهم الاستغراق في معرفة الحق والتنزه عن الاشتغال بغيره،- وهم العليِّون، والملائكة المقربون- وقسم يدبرون الأمر من السماء إلى الأرض على ما ثبت به القضاء وجرى به القلم الإلهي، وهم المدبرات أمراً، فمنهم سماوية، ومنه أرضية‏.‏ ه‏.‏ مختصراً‏.‏

الإشارة‏:‏ اعلم أن الروح القائمة بهذا الآدمي هي قطعة من الروح الأعظم التي هي المعاني القائمة بالأواني، وهي آدم الأكبر والأب الأدم، وفي ذلك يقول ابن الفارض‏:‏

وإنِّي وإنْ كنتُ ابن آدمَ صُورةً *** فلِي فِيه مَعْنىً شاهدٌ بأُبوَّتِي

فلمّا أراد الحق تعالى أن يستخلف هذا الروح في هذه البشرية لتدبرها وتصرفها فيما أريد منها، قالت الملائكة بلسان حالها‏:‏ كيف تجعل فيها من يفسد فيها بالميل إلى الحظوظ والشهوات، ويسفك الدماء بالغضب والحميات، ونحن نسبحك وننزهك عما لا يليق بك‏؟‏ رأت الملائكة ما يصدر من بعض الأرواح من الميل إلى الحضيض الأسفل، ولم تر ما يصدر في بعضها من التصفية والترقية، فقال لهم الحق تعالى‏:‏ ‏{‏إني أعلم ما لا تعلمون‏}‏؛ فإن منها من تعرج إلى عرش الحضرة، وتعبدني بالفكرة والنظرة، وتستولي على الوجود بأسره، وتنكشف لها عند ذلك أسرار الذات وأنوار الصفات وأسماء المسميات‏.‏

فيقول الحق تعالى للملائكة‏:‏ هل فيكم من كشف له عن هذا السر المكنون، والاسم المصون، فقالوا‏:‏ ‏{‏سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا‏}‏ من علم الصفات دون أسرار الذات ‏{‏إنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ‏}‏ يقول الحق تعالى لروح العارف التي نفذت إلى بحر وحدة الذات وتيار الصفات‏:‏ أنبئهم بما غاب عنهم من أسرار الجبروت، وأسماء الملكوت، فلما أعلمهم بما كوشف له من الأسرار، وانفق له من الأنوار، أقروا بشرف الآدمي، وسجدوا لطلعة آدم عليه السلام فقال الحق لهم‏:‏ ‏{‏أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ‏}‏ ‏؟‏ أي‏:‏ ما غاب في سماء الأرواح من الأسرار وفي أرض النفوس من الأنوار، وأعلم ما تظهرونه من الانقياد، وما تكتمونه من الاعتقاد، والله تعالى أعلم‏.‏

ولما تبينّ شرف آدم عليه السلام وبان فضله أمرهم بالسجود له‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏إذ‏}‏ ظرف للماضي، ضد إذا، وهي معمولة لفعل مقدر، يفسره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ‏}‏ ‏[‏الأعرَاف‏:‏ 86‏]‏، فحيثما وردت في القرآن فيقدر له «اذكر»، والاستثناء متصل؛ إذا قلنا إبليس من الملائكة، ومنقطع؛ إذا قلنا من الجن‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ واذكر ‏{‏إِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ‏}‏، لام تبينت فضيلة، آدم أمرهم بالسجود، فقال لهم‏:‏ ‏{‏اسْجُدُوا لآدَمَ‏}‏ سجود انحناء، ‏{‏فَسَجَدُوا‏}‏ كلهم، لأنهم شهدوا الجمع ولم يشهدوا الفرق، فرأوا آدم قِبْلَةً، أو نوراً من أنوار عظمته، ‏{‏إلاَّ إِبْليسَ‏}‏ أي‏:‏ امتنع؛ حيث نظر الفرق بحكمة الواحد القهار، فاستبكر ‏{‏وكان‏}‏ من جملة ‏{‏الْكَافِرِينَ‏}‏‏.‏ وكفره باعتراضه على الله وتسفيه حكمه، لا بامتناعه؛ إذ مجرد المعصية لا تكفر‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ إذا كمل تصفية الروح، وظهر شرفها، خضع لها كل شيء، وتواضع لها كل شيء، وانقاد لأمرها من سبقت له العناية، وهبت عليه ريح الهداية، لأنها صارت آدم الأكبر، إلا من إبلسته المشيئة، وطردته القدرة، فاستبكر عن تحكيم جنسه على نفسه، وكان من الكافرين لوجود الخصوصية، جزاؤه حرمان شهود طلعة الربوبية، وهبوطه إلى حضيض العمومية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏35- 37‏]‏

‏{‏وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏35‏)‏ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ‏(‏36‏)‏ فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ‏(‏37‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏رغداً‏}‏‏:‏ صفة لمصدر محذوف، أي‏:‏ أكلا رغداً واسعاً، و‏{‏تكونا‏}‏‏:‏ منصوب، جواب الأمر، أو معطوف على ‏{‏تقرباً‏}‏، و‏{‏أزلهما‏}‏‏:‏ أوقعهما في الزلل بسبب الأكل، أو أذهبهما عن الجنة، ويدل عليه قراءة حمزة‏:‏ «فأزالهما» وجملة ‏{‏بعضكم لبعض عدو‏}‏‏:‏ حالية، أي‏:‏ متعادين‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وَقُلْنَا يَا آدَم‏}‏ حين سجدت له الملائكة ودخل الجنة‏:‏ ‏{‏اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ‏}‏ حواء ‏{‏الجنة‏}‏، وكانت خلقت من ضلعه الأيسر، ‏{‏وَكُلا‏}‏ من ثمار الجنة ‏{‏حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجِرَةَ‏}‏‏:‏ العنب أو التين أو الحنطة؛ ‏{‏فَتَكُونَا‏}‏ إن أكلتما منها ‏{‏مِنَ الظَّالِمِينَ‏}‏ لنفسيكما‏.‏ فدخل إبليس خفية أو في فم الحية، فتكلم مع آدم عليه السلام فقال له آدمُ عليه السلام‏:‏ ما أحسن هذه الحالة لو كان الخلود‏.‏ فحفظها إبليس، ووجد فيها مدخلاً من جهة الطمع، فقال له‏:‏ ‏{‏هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةٍ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 120‏]‏ فدلّه على أكل الشجرة، وقال‏:‏ ‏{‏مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا‏}‏ ‏[‏الأعرَاف‏:‏ 20‏]‏ عنها ‏{‏إِلاَّ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 20‏]‏ كراهية ‏{‏أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الخالدين وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 20، 21‏]‏‏.‏ وأكلت حواء أولاً، ثم قالت له‏:‏ قد أكلتُ ولم يضرني، ثم أكل آدم عليه السلام من جنس الشجرة، لا من عينها، متأوّلاً، فطار التاج واللباس، وأخرجهما ‏{‏مما كانا فيه‏}‏ من رغد العيش والعناء، وأهبطهما إلى الأرض، للتعب والعناء، ليكون خليفة على ما سبق به القضاء‏.‏

فقال لهم الحقّ تعالى‏:‏ ‏{‏اهْبطُوا‏}‏ آدم وحواء وإبليس والحية، ‏{‏بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ‏}‏ استقرار وتمتع ‏{‏إلَى حِينٍ‏}‏ وفاتكم، فتقدمون علي فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، ‏{‏فَتَلَقَّى‏}‏ أي أخذ ‏{‏آدم من ربه كلمات‏}‏ وهي‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مَنَ الْخَاسِرِينَ‏}‏ ‏[‏الأعرَاف‏:‏ 23‏}‏، ‏{‏فتاب‏}‏ الحق تعالى عليه واجتباه لحضرته، فإنه توّاب كثير التوبة على عباده، رحيم بهم، أرحم من أبيهم وأمهم، اللهم ارحمنا رحمة تعصمنا بها عن رؤية السّوي، إنك على كل شيء قدير‏.‏

الإشارة‏:‏ يقول الحقّ جلّ جلاله للروح، إذا كمل تهذيبها، وتمت تريبتُها‏:‏ اسكن أنت وبشريتك التي تزوجتها- قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ‏}‏ ‏[‏التّكوير‏:‏ 7‏]‏- جنة المعارف، وَكُلا من ثمار أذوابها وأنهار علومها، وتبوَّءًا من قصور ترقياتها، أكلاً واسعاً ما دمتما متحليين بالأدب، ولا تقربا شجرة المعصية وسوء الأدب ‏{‏فتكونا من الظالمين‏}‏، فلما سكنت جنة الخلود، وشَرهَتْ إلى الخلود، أهبطها الله إلى أرض العبودية، وردها إلى البقاء؛ لتستحق الخلافة، وتقوم بحقوق الربوبية، بسبب ما ارتكبه من المعصية، وهي الشَّرهُ إلى دوام الحرية، «أكْرِمْ بها معصيةً أورثت الخلافة‏!‏»، فكل ما ينزل بالروح إلى قهرية العبودية، فهو سبب إلى الترقي لشهود نور الربوبية، وربما قضي عليك بالذنب فكان سبب الوصول، فلام أراد الحق تعالى أن ينزلها إلى أرض العبودية بالسلوك بعد الجذب، قال لها ولمن يحاربها من الشيطان والهوى والدنيا وسائر الحظوظ‏:‏ اهبطوا بعضكم لبعض عدو، ولكم- أيها العارفون بعد جهاد أعدائكم- في أرض العبودية، استقرار وتمتعٌ بتجليات أنوار الربوبية، إلى حين الملاقاة الحقيقية‏.‏ فتلقت الروح من ربها كلمات الإنابة، وهبَّ عليها، نسيم الهداية، بما سبق لها من عين العناية، فتاب عليها، وقرَّبها إلى حضرة الشهود، ومعاينة طلعة الملك الودود، إنه تواب رحيم جواد كريم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 39‏]‏

‏{‏قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏38‏)‏ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏39‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏إن‏}‏‏:‏ شرط، و‏{‏ما‏}‏ زيدت لتقوية الشرط، ولذلك دخلت نون التوكيد، وعبر بإن دون ‏{‏إذا‏}‏، مع تحقق مجيء الهدى؛ لأنه غير واجب عقلاً، وجملة الشرط الثاني وجوابه، الشرط الأول، و‏{‏جميعاً‏}‏ حال مؤكدة؛ أي‏:‏ اهبطوا أنتم أجمعون، ولذلك لا يقتضي اجماعهم على الهبوط في زمان واحد‏.‏

ولما أمر الحقّ جلا جلاله آدم أولاً بالهبوط من الجنة، جعل يبكي ويتضرّع ويقول‏:‏ ألم تخلقني بيدك‏؟‏ ألم تسجد لي ملائكتك‏؟‏ ألم تدخلني جنتك‏؟‏ ثم ألهم الكلمات التي تلقاها من ربه، فتاب عليه ورحمه، فطمع آدم حين سمع من ربه قبول توبته في البقاء في الجنة، فقال له الحقّ جلّ جلاله‏:‏ يا آدم لا يجاورني من عصاني، وقد سبقت كلمتي بهبوطك إلى الأرض لتكون خليفتي بذريتك، فكرّر عليه الأمر بالهبوط ثانياً‏.‏ فقال‏:‏ ‏{‏اهبطوا منها جميعا‏}‏ أنتما بما اشتملتما عليه من ذريتكما‏.‏ فمهما ‏{‏يَأتِيَنَّكُم مِنِّي هُدىً‏}‏ أي‏:‏ بيان وإرشاد إلى توحيدي ومعرفتي، على يد رسول أو نائب عنه، ‏{‏فَمَن تَبعَ‏}‏ ذلك الإرشاد، واهتدى إلى معرفتي وتوحيدي، وعمل بطاعتي وتكاليفي، ‏{‏فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ‏}‏ من لحُوق مكروه ‏{‏وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏ من فوات محبوب، لأني أَصرف عنهم جميع المكاره، وأجلب لهم المنافع، ‏{‏والذين كفروا وكذبوا بآياتنا‏}‏ الدالّة على قدرتنا المنزلة على رسلنا، ‏{‏وَاسْتَكْبَرُواْ‏}‏ ‏[‏النِّساء‏:‏ 173‏]‏ عن النظر فيها، أو عن الخضوع لمن جاء بها، ‏{‏أُوْلَئِكَ أصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏}‏‏.‏

الإشارة‏:‏ إذا سكنت الأرواح في عُشِّ الحضرة، وتمكنت من الشهود والنظرة، أمرها الحق تعالى بالنزول إلى سماء الحقوق أو أرض الحظوظ، فتنزل بالإذن والتمكين، والرسوخ في اليقين، لا لطلب جزاء أو لقضاء شهوة، بل تنزل بالله ومن الله وإلى الله، فمن نزل منها على هذا الهدى الحسن ‏{‏فَلا خَوْفٌ عَلَيْهمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏، ومن ركب بحر التوحيد مع غير رئيس عارف، ولم يأوِ إلى سفينة الشريعة، واستكبر عن الخضوع إلى تكاليفها لعبت به الأمواج، فكان من المغرقين‏.‏ ‏{‏أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون‏}‏؛ لأن من تحقق ولم يتشرع فقد تزندق، ومن تشرع ولم يتصوف فقد تفسق، ومن جمع بينهما فقد تحقق، جعلنا الله ممن تحقق بهما‏.‏ وسلك على مهاجهما إلى الممات، آمين‏.‏

ولما ذكر الحق تعالى شرف كتابه، ونفى وجد الريب عن ساحته، ثم دعا إلى توحيده، وبرهن على وجوده، بابتداء خلق العالم من عرشه إلى فرشه، وذكر كيفية ابتداء عمارته، خاطب بني إسرائيل؛ لأنهم أهل العلم بالأخبار المتقدمة، وقد مسعوا هذه الأخبار نَبِي أُمِّي لم يُعْهَدْ بقراءةٍ ولا تعلم، فقامت الحجة عليهم، وتحققوا أنه من عند الله‏.‏ وما منعهم من الإسلام إلا الحسد وحب الرئاسة، فلذلك أطال الحق الكلام معهم، تارةً يُقرِّعَهم على عدم الإيمان وما فعلوا مع أنبيائهم، وتارة يذكرهم النعم التي أنهم الله على أسلافهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏40- 43‏]‏

‏{‏يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ‏(‏40‏)‏ وَآَمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ‏(‏41‏)‏ وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏42‏)‏ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ‏(‏43‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏إسرائيل‏}‏‏:‏ هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل- عليهم الصلاة السلام- وهو اسم عجمي، وبنو تميم تقول‏:‏ «إسرائين» بالنون، ‏(‏وإسرا‏)‏ بالعبرانية‏:‏ عبد، و‏(‏إيل‏)‏‏:‏ اسم الله تعالى، فمعناه‏:‏ عبد الله، وبنو إسرائيل‏:‏ هم أولاد يعقوب عليه السلام، و‏{‏بعهدي‏}‏ من إضافة المصدر إلى فاعله، و‏{‏بعهدكم‏}‏ إلى مفعوله، و‏{‏إياي‏}‏ منصوب بفعل مضمر، يُقدر مؤخراً‏.‏ أي‏:‏ أياي ارهبوا فارهبون‏.‏ وحذف مفعول ‏{‏ارهبون‏}‏ لرؤوس الآي وكذا قوله‏:‏ ‏{‏وإياي فاتقون‏}‏، والرهبة‏:‏ خوف مع تحرُّز، و‏{‏تكتموا‏}‏‏:‏ معطوف على ‏{‏تلبسوا‏}‏، أو منصوب بأن مضمرة بعد النهي، و‏{‏أنتم تعلمون‏}‏‏:‏ جملة حالية‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ‏}‏ التي خصصتُكم بها، بأن فضلتكم على أهل زمانكم، وجعلت فيكم أنبياء ورسلاً، كلما انقرض نبيّ بعثت نبيّاً آخر، وجعلتكم ملوكاً وحكاماً على الناس، قبل أن تفسدوا في الأرض بقتل الأنبياء، فتكفروا بهذه النعم، فإن الإنسان حسود غيروٌ بالطبع، فإذا نظر إلى ما أنعم الله على غيره حمله الحسد والغيرة على السخط والكفران، وإذا نظر إلى ما أنعم الله به عليه حمله حب النعمة على الرضا والشكر، فاذكروا ما أنعمت به عليكم، وقيدوه بالشكر، ‏{‏وَأَوْفُوا بِعَهْدِي‏}‏ الذي عهدت إليكم، وهو أنكم إن أدركتم محمداً صلى الله عليه وسلم لتؤمنن به ولتنصرنه، ولتبينن صفته التي في كتابكم، ولا تكتمونها، ‏{‏أُوفِ بِعَهْدِكُمْ‏}‏ بأن أدخلكم جنتي، وأبيح لكم النظر إلى وجهي، وأحل عليكم رضواني في جملة عبادي، ولا ترهبوا أحداً غيري، فإنه لا فاعل غيري‏.‏

وبادروا إلى الإيمان ‏{‏بِمَا أَنْزَلْتُ‏}‏ على محمد رسولي، من كتابي، الذي هو مصدق ‏{‏لِّمَا مَعَكُمْ‏}‏ من التوراة، ومهيمن عليه، ‏{‏وَلاَ تَكُونُوا أَوَّلَ‏}‏ فريق ‏{‏كَافِرِ بِهِ‏}‏، فتبوؤوا بإثمكم وإثم من تبعكم، ولا تستبدلوا الإيمان الذي هو سبب الفوز في الدارين، بالعرضِ الفاني الذي تأخذونه من سفلتكم، فإنه ثمن قليل يعقبه عذاب جليل وخزي كبير‏.‏ ولا تخشوا أحداً سواي؛ فإن النفع والضرر بيدي، ولا تخلطوا ‏{‏الْحَقَّ‏}‏ الذي هو ذكر محمد صلى الله عليه وسلم وصفته التي في كتابكم، ‏{‏بِالْبَاطِلِ‏}‏ الذي تريدونه تحريفاً وتأويلاً، ‏{‏و‏}‏ لا ‏{‏تكتموا الحّقَّ‏}‏ الذي عندكم، من ذكر محمد وصحة رسالته، ‏{‏وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ أنكم محرفون، ولابسون عناداً وحسداً، فيحل عليكم غضبي وعقابي، ‏{‏وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِى فَقَدْ هَوَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 81‏]‏‏.‏ فإذا حصلتم أصول الدين، وهو الإيمان، فاشتغلوا بفروعه، وهي الصلاة والزكاة وغيرهما، فأدوهما على منهاج المسلمين‏.‏ واجعلوا صلاتكم في جماعة المؤمنين؛ فإنَّ صلاة الجماعة تُفضلُ غيرها بسبعٍ وعشرين درجة، مع سريان واقتباس الأنوار من الصالحين والأبرار، وبالله التوفيق‏.‏

الإشارة‏:‏ إذا توجَّه الخطاب إلى طائفة مخصوصة، حمله أهل الفهم عن الله على عمومه لكل سامع، فإن الملك إذا عاتب قوماً بمحضر آخرين، كان المراد بذلك تحذير كل مَن يسمع، فكأن الحق جلّ جلاله يقول‏:‏ يا بني آدم اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم، وتفكروا في أصولها وفروعها، واشكروني عليها بنسبتها إليَّ وحدي، فإنه لا منعم غيري، فمن شكرني شكرته، ومن فيض إحساني وبري مددته، ومن كفر نعمتي سلبته، وعن بابي طردته، وأوفوا بعهدي بالقيام بوظائف العبودية، أوف بعهدكم بأن أطلعكم على أسرار الربوبية‏.‏

أو‏:‏ ‏{‏أوفوا بعهدي‏}‏ بالقيام برسوم الشريعة، ‏{‏أوفِ بعهدكم‏}‏ بالهداية إلى منار الطريقة، أو‏:‏ ‏{‏أوفوا بعهدي‏}‏ بسلوك منهاج الطريقة، ‏{‏أوفِ بعهدكم‏}‏ بالإيصال إلى عين الحقيقة، أو‏:‏ ‏{‏أوفوا بعهدي‏}‏ بالاستغراق في بحر الشهود، ‏{‏أوفِ بعهدكم‏}‏ بالترقي أبداً غلى الملك الودود، وخصّوني بالرهب والرغب، وتوجهوا إليّ في كل سؤال وطلب، أعطف عليكم بعنايتي وودي، وأمنحكم من عظيم إحساني ورفدي، ‏{‏وآمنوا بما أنزلت‏}‏ على قلوب أوليائي، ومن مواهب أسراري وآلائي، تصديقاً لما أتحفت به رسلي وأنبيائي، فكل ما ظهر على الأولياء فهو معجزة للأنبياء وتصديق لهم، ولا تبادروا بالإنكار على أوليائي، فتكونوا سبباً في طرد عبادي عن بابي، ولا يمنعكم حب الرئاسة والجاه عن الخضوع إلى أوليائي، ولا ترقبوا أحداً غيري، فإني أمنعكم من شهود سري‏.‏

‏{‏ولا تلبسوا الحق بالباطل‏}‏، فتظهروا شعار الصالحين وتبطنوا أخلاق الفاسقين، تتزيوا بزي الأولياء، تفعلوا فعل الأغوياء، وإذا تحققتم بخصوصية أحد من عبادي، فلا تكتموها عن أهل محبتي وودادي، وأقيموا صلاة القلوب بالخضوع تحت مجاري الأقدار، وأدّوا زكاة النفوس بالذل والانكسار، وكونوا مع الخاشعين، ‏{‏واركعوا مع الراكعين‏}‏، أمنحكم معونتي ونصري، وأفيض عليكم من بحر إحساني وبري، أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ البر، بالكسر‏:‏ يجمع وجوه الخير وأنواع الطاعات، والنسيانُ‏:‏ الترك‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله في توبيخ أخبار اليهود‏:‏ كانوا إذا استرشدهم أحد من العرب دلّوه على الإسلام، وقالوا له‏:‏ دين محمد حق، وهم يمتنعون منه، وقيل‏:‏ كانوا يأمرون الناس بالصدقة وهم يبخلون، فقال لهم‏:‏ كيف ‏{‏تأمرون الناس بالبر‏}‏ والإحسان، وتتركون ‏{‏أَنفُسَكُمْ‏}‏ في الكفر والعصيان، وأنتم تدرسون التوراة الصحيح، وتعلمون أن ذلك من أقبح القبيح‏؟‏، أفلا عقل لكم يزجركم عن هذه الخصلة الذميمة‏؟‏؛ فإن من شأن العقل التمييز بين القبيح والحسن والنافع والضار، فكل من تقدم لما فيه ضرره فلا عقل له‏.‏

الإشارة‏:‏ كل مَن أشار إلى مقام لم يبلغْ قدمه إليه، فهذا التوبيخ متوجِّهُ إليه، وكل مَن ذكر غيره بعيب لم يتخلص منه، قيل له‏:‏ أتأمر الناس بالبر وتنسى نفسك خالية منه، فلا يسلم من توبيخ هذه الآية من أهل التكذير إلا الفرد النادر من أهل الصفاء والوفاء‏.‏

وقال البيضاوي‏:‏ ‏(‏المراد بها حثّ الواعظ على تزيكة النفس، والإقبال عليها بالتكميل لتُقَوم فيُقَيِّم، لا منع الفاسق عن الوعظ، فإن الإخلال بأحد الأمرين المأمور بهما لا يوجب الإخلال بالآخر‏)‏‏.‏ فانظره‏.‏ وتأمل قول القائل‏:‏

يا أيهَا الرجلُ المعلِّمُ غيرَه *** هلاَّ لنفسِك كانَ ذا التعليمُ

تَصِف الدواءَ لِذي السقامِ وذي الضنَا *** ومِن الضَّنَا وجَواهُ أنتَ سقيمُ

وأراكَ تلقحُ بالرشادِ عقُولَنا *** نُصْحاً، وأنت مِن الرشادِ عديمُ

أبدأ بنفسِك فانْهَهَا عَن غَيَّها *** فإذا انتهتْ عنه فأنتَ حكيمُ

فَهُناك يُقْبَلُ إن وعظتَ، ويُقتدَى *** بالقول منكَ، وينفعُ التعليمُ

لا تَنْهَ عن خُلقٍ وتأتيَ مثلَه *** عارٌ علَيكَ إذا فعلتَ عظيمُ

لكن مَنْ حصل له بعض الصفاء ذكر غيره ونفسه معهم، وكان بعض أشياخنا يقول حين يذكر الفقراء‏:‏ نحن إنما ننبح على نفوسنا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 46‏]‏

‏{‏وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ ‏(‏45‏)‏ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ‏(‏46‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ الصبر‏:‏ هو حبس القلب على حكم الرب، فيحتمل أن يراد به ظاهره، أو يراد به هنا الصوم، لأن فيه الصبر عن الشهوات‏.‏ والخشوع في الجوارع‏:‏ سكونها وذُلها، والخضوع في القلب‏:‏ انقياده لحكم الرب‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ يا مَن ابتلي بالرئاسة والجاه، استكبر عن الانقياد لأحكام الله؛ التي جاءت بها الرسل من عند الله، استعن على نفسك ‏{‏بالصبر‏}‏ على قطع المألوفات، وترك الحظوظ والشهوات، وأصل فروعها حب الرئاسة والجاه، فمن صبر على تركهما فاز برضوان الله‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «وفي الصبر على ما تكرَهُ خيرٌ كثير»‏.‏

قال الشاعر‏:‏

والصَّبْرُ كالصْبرِ مُرٌ في مذَاقَتِه *** لَكِنْ عَواقِبُه أحلَى مِن العسلِ

أو‏:‏ ‏{‏وَاسْتَعِينُوا‏}‏ بالصوم ‏{‏وَالصَّلاةِ‏}‏، فإن في الصوم كَسْرَ الشَّهْوَةِ وتصفية النفس، فإذا صفت النفس من الرذائل تحلت بأنواع الفضائل، كالتواضع والإنصاف، والخشوع وسائر سني الأوصاف، وفي الصلاة أنواع من العبادات النفسية والبدنية، كالطهارة، وستر العورة، وصرف المال فيهما، والتوجه إلى الكعبة، والعكوف للعبادة، وإظهار الخشوع بالجوارح، وإخلاص النبيّة بالقلب، ومجاهدة الشيطان، ومناجاة الرحمن وقراءة القرآن، وكف النفس عن الأطْيَبَيْنِ، وفي الصلاة قضاء المآرب وجبر المصائب، ولذلك كان- عليه الصلاة والسلام- إذا حزّ به أمر فزع إلى الصلاة، ‏{‏وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ‏}‏ أي‏:‏ شاقة على النفس؛ لتكريرها في كل يوم، ومجيئها وقت حلاوة النوم، ‏{‏إلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ‏}‏ الذين سكنت حلاوتها في قلوبهم، وتناجوا فيها مع ربهم، حتى صارت فيها قُرَّة عينهم‏.‏

الذين يتيقنون ‏{‏إَنَّهُمْ مُّلاقُوا رَبِّهِمْ‏}‏ فيتنعمون بالنظر إلى وجه الكريم، ويتيقنون أيضاً أنهم راجعون إلى ربهم بالبعث والحشر للثواب والعقاب، وإنما عبَّر الحق تعالى هنا بالظن في موضع اليقين إبقاء على المذنبين، وتوفراً على العاصين، الذين ليس لهم صفاء اليقين؛ إذ لو ذكر اليقين صرفاً لخرجوا من الجملة، فسبحانه من رب حليم، وجواد كريم‏.‏ اللهم امنن علينا بصفاء المعرفة واليقين، حتى لا يختلج قلوبنا وَهْمٌ ولا ريب، يا رب العالمين‏.‏

الإشارة‏:‏ يا من رام الدخول إلى حضرة الله، تذلل وتواضع لأولياء الله، وتجرّع الصبر في ذلك كي يدخلوك حضرة الله، كما قال القائل‏:‏

تَذللْ لِمنْ تهْوى؛ فَلَيْسَ الهوَى سَهْلُ *** إذا رَضِي المَحْبُوبُ صَحَّ لكَ الوَصْلُ

فإن منعك من ذلك حب الرئاسة والجاه، فاستعن على ذلك بالصبر والصلاة، فإن الصبر عنوان الظفر، والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر‏.‏ فأدمن قرع الباب حتى تدخل مع الأحباب، فالإدمان على عبادة الصلاة أمره كبير، إلا مَن خلص إلى مناجاة العلي الكبير، وتحقق بملاقاة الشهود والعيان، ورجع إلى مولاه في كل أوان، فإن الصلاة حينئذٍ تكون له من قرّة العين‏.‏ وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق‏.‏

ولما أمرهم بالأصول والفروع، ذكَّرهم بالنعم، وخوفهم بالوعيد على عدم شكرها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏47- 48‏]‏

‏{‏يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏47‏)‏ وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ‏(‏48‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏العدل‏}‏ بالفتح‏:‏ الفداء، وبالكسر‏:‏ الحمل، وجملة ‏{‏لا تجزي‏}‏‏:‏ صفة ليوم، والعائد محذوف، أي‏:‏ لا تجزي فيه‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يَا بَنِي إسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ‏}‏ على آبائكم بالهداية وبعث الرسل، ‏{‏وَأنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ‏}‏‏:‏ أهل زمانكم، فاذكروا هذه النعم واشكروني عليها؛ بأن تتبعوا هذا النبيّ الجليل، الذي تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة والإنجيل‏.‏

وخافوا ‏{‏يَوْماً‏}‏ لا تَقْضي فيه ‏{‏نَفْسٌ عَن نَّفْسِ شَيْئًا‏}‏ بحيث لا تجلِب لها نفعاً، ولا تدفع عنها ضرراً، ولا تقبل ‏{‏مِنْهَا شَفَاعَةٌ‏}‏ إن وقعت الشفاعة فيها، ولا يؤخذ منها فداء، إن أرادت الفداء عنها، ولا تنتصر في دفع العذاب، إن أرادت الانتصار بعشيرتها‏.‏ فانتفى عنها وجوه الامتناع من العذاب بأي وجه أمكن؛ فإن الإنسان إذا أُخذ للنكال احتال على نفسه إما بالشفاعة، أو بالفداء إن لم تقبل الشفاعة فيه، أو بالانتصار بأقاربه، والآيةُ في الكفار، فلا حجةَ لمن ينفِي الشفاعة في عُصَاة المؤمنين، والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ قد يتوجَّهُ العتاب إلى أهل الرئاسة والجاه، من العلماء والصالحين، وكل من خُصَّ بشرف أو خصوصية، فيقول لهم الحق تعالى‏:‏ ‏{‏اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ‏}‏ بالعلم أو السيادة أو الصلاح، وبأن فضلتكم على أهل زمانكم، وخصصتكم من أبناء جنسكم؛ فقد رُوِيَ‏:‏ «أنَّ العبد يُحاسب على جاهه كما يُحاسب على ماله»‏.‏ فمن صرفه في طاعة الله، وتواضع لعباد الله، وسعى في حوائجهم، وأبلغ الجهد في قضاء مآربهم، كان ذلك شكراً لنعمة الجاه؛ فقد رُوِيَ في الحديث‏:‏ «مَنْ سَعَى في حَاجَةِ أخيهِ المسْلِم، قُضِيتْ أو لَم تُقْضَ، غُفِر لَه ما تقدَم مِنْ ذنبه، وكُتب له براءتان‏:‏ براءة من النار وبراءة من النفاق»‏.‏

ولا يأخذ على ذلك أجراً ولا جُعلاً؛ فإنَّ ذلك سحت وربا، ومن تكبّر به وطغى، أو أخذ على ذلك أجراً، قيل له يوم القيامة‏:‏ قد استوفيت أجرك فلا حظ لك عندنا، فلا تنفعه شفاعة، ولا يقبل منه فداء، ولا يقدر أن ينتصر من موارد الهوان والردى، ففي بعض الأخبار‏:‏ يقول الله تعالى للفقراء الذين يعظمون في الدنيا لأجل فقرهم‏:‏ ألم أرخص لكم الأسعار‏؟‏ ألم أوسع لكم المجالس‏؟‏ ألم أُعطِّف عليكم عبادي‏؟‏ فقد أخذتم أجركم في الدنيا‏.‏ أو كما قالك والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏

‏{‏وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ‏(‏49‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏إذ‏}‏‏:‏ معمول لاذكروا، و‏{‏فرعون‏}‏‏:‏ اسم لكل من ملك القبط، كما أن قيصر اسم لمن ملك الروم، وكسرى اسم لمن ملك الفرس، واسم ‏{‏فرعون‏}‏ الذي كان في زمن موسى عليه السلام‏:‏ «مصعب بن ريان»، وقيل‏:‏ ابنه الوليد‏.‏ وسَام يسُوم‏:‏ طلب وبغى، يقال‏:‏ سامه خسفاً إذا أولاه ظلماً، وجملة ‏{‏يسومونكم‏}‏‏:‏ حال من ‏{‏آل فرعون‏}‏، وجملة ‏{‏يذبحون‏}‏‏:‏ بيان لها‏.‏ وسوء العذاب‏:‏ أفظعه وأقبحه‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ يا بني إسرائيل اذكروا نعمة أخرى أنعمت بها على أسلافكم، وأنتم عالمون بها، وذلك حين أنجيناكم من عذاب فرعون ورهطه، يولونكم أقبحَ العذاب وأشنعَه، كانوا يستعبدون رجالكم ونساءكم في مشاق الخدمة والمهنة، ولمّا أخبره الكهان أنه سيخرج منكم ولد يُخَرِّب ملكه، جعل يذبح ذكوركم ويترك نساءكم، وفي ذلكم محنة ‏{‏مِن رَّبِّكُمْ‏}‏ وابتلاء ‏{‏عَظِيمٌ‏}‏، أو في ذلك الإنجاء اختبار من ربكم عظيم، فاذكروا هذه النعمة، وتحصنوا بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم من محنة أخرى، ولا ينفع حذرٌ من قدر، ‏{‏وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرَاً مَّقْدُوراً‏}‏ ‏[‏الأحزَاب‏:‏ 38‏]‏‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

الإشارة‏:‏ لكل زمان فراعين وجبابرة يقطعون الناس عن الانقطاع إلى الله والدخول إلى حضرة الله، ‏{‏ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 104‏]‏،

يقول الحقّ جلّ جلاله للذين تخلصوا منهم‏:‏ اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم بها؛ حيث أنجيتكم من فراعين زمنكم، ‏{‏يسومونكم سوء العذاب‏}‏؛ وهو البقاء في غم الحجاب، والانقطاع عن الأحباب، يقتلون ما ربيتم من اليقين في قلوبكم والمعرفة في أسراركم، ويستحيون شهواتكم وحظوظكم، ‏{‏وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم‏}‏‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏الأنعَام‏:‏ 116‏]‏‏.‏ وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏

‏{‏وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

ثم ذكَّرهم الحق تعالى نعمة أخرى؛ وهي فلق البحر وإغراق العدو، فقال‏:‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ واذكروا أيضاً حين ‏{‏فرقنا‏}‏ بسببكم ‏{‏البحر‏}‏، حين فررتم من عدوكم، فسلكتم فيه اثنيْ عشر مسلكاً يابساً، حتى خلصتم إلى الشام، فلما أدرككم عدوُّكم، واسْتَتَمَّ دخولهُ فيه، أطبقنا عليهم البحر ‏{‏فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون‏}‏ وأنتم تعاينون غرقهم وهلاكهم، فاشكروا هذه النعم التي أنعمت بها على أسلافكم، واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم على نبي أُمي، لم يكن له علم بهذا، حتى علمه بالوحي من ربكم‏.‏

الإشارة‏:‏ قال بعض الحكماء‏:‏ ‏(‏الهوى بحر لا ساحل له إلا الموت‏)‏‏:‏ فلا يقطع بحر الحظوظ والعوائد، إلا الخواص، الذين منَّ الله عليهم بسلوك الطريقة، والغرق في بحر الحقيقة، على يد رجلا جمعوا بين الشريعة والحقيقة، فيقول الحق- جلّ جلاله- لمن تخلَّص من بحر هواه، وأفضى إلى مشاهدة مولاه‏:‏ اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم؛ حيث خلصتكم من بحر الشهوات والعوائد، وأطلعتكم على أسرار العلوم وذخائر الفوائد، وأغرقنا فيه من تكبّر وطغى، وأنتم تنظرون ما فيه الناس من غم الحجاب وسوء الحساب، في بحر لجى يغشاه موج الذنوب، من فوقه موج الحظوظ، من فوقه سحاب الأثر، إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نوراً لما له من نور‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 53‏]‏

‏{‏وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ‏(‏51‏)‏ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏52‏)‏ وَإِذْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ‏(‏53‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏أربعين‏}‏‏:‏ مفعول لواعدنا، لا ظرف، و‏{‏العجل‏}‏‏:‏ مفعول أول، والثاني محذوف، أي‏:‏ اتخذتموه إليهاً، و‏{‏الفرقان‏}‏‏:‏ معطوف على ‏{‏الكتاب‏}‏‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ واذكروا أيضاً حين ‏{‏وَاعَدْنَا مُوسَى‏}‏ أن يصوم ‏{‏أَرْبَعِينَ لَيْلَةً‏}‏ بأيامها متواصلة، وذلك حين طلبتم منه أن ينزل عيه الكتاب فيه بيان الأحكام، ثم لما صامها، وهي‏:‏ ذو القعدة وعشر ذي الحجة، وأتى إلى المناجاة، كفرتم، و‏{‏اتَّخَذْتُمُ الْعَجْلَ‏}‏ الذي صاغه السامِريُّ من الحُليّ، الذي أخذته نساء بني إسرائيل من القبط عارية، ففرّوا به ظنّاً منهم أنه حلال، فقال لهم هارون عليه السلام‏:‏ لا يحل لكم، فطرحوه في حفرة، فصاغ منه السامري صورة العجل، وألقى في جوفه قبضة أخذها من تحت حافر فرس جبريل عليه السلام حين عبر معهم البحر، فجعل يخور، فقال السامري‏:‏ ‏{‏هَذَآ إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 88‏]‏، ‏{‏وأنتم ظالمون‏}‏ في عبادته، ‏{‏ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم‏}‏ بالتوبة وقتل النفس على ما يأتي، ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏، فلا فلا تعصون نعمة، ‏{‏و‏}‏ اذكروا أيضاً ‏{‏إذْ آتينا موسَى الكِتَابَ‏}‏ الذي طلبتم، وهو التوراة، وهو ‏{‏الفرقان‏}‏ الذي فرقنا فيه بين الحق والباطل، كي تهتدوا إلى الصواب فتنجوا من العذاب‏.‏

الإشارة‏:‏ ما زالت الأشياخ والأولياء الأقدمون ينتحلون طريق سيدنا موسى عليه السلام في استعمال هذه الأربعين، ينفردون فيها إلى مولاهم، مؤانسة ومناجاة، وفي ذلك يقول ابن الفارض رضي الله عنه‏:‏

وصِرْتُ مُوسَى زَمَاني *** مذ صارَ بَعْضِيَ كُلِّي

وقال‏:‏

صارتْ جِبالِيَ دكّاً *** مِنْ هَيْبَةِ المُتَجَلِّي

فيفارقون عشائرهم وأصحابهم في مناجاة الحبيب، والمؤانسة بالقريب، فمن أصحابهم مَن يبقى على عهده في حال غيبة شيخه، من المجاهدة والمشاهدة، ومنهم مَن تسرقه العاجلة فيرجع إلى عبادة عجل حظه وهواه؛ فيظلم نفسه بمتابعة دنياه، فإن بادر بالتوبة والإقلاع، ورجع إلى حضرة شيخه بالاستماع والاتباع، وقع عنه العفو والغفران ورجا ما كان يؤمله من المشاهدة والعيان، وإلا باء بالعقوبة والخسران، وكل مَن اعتزل عن الأحباب والعشائر والأصحاب، طالباً جمع قلبه، ورضى ربه، فلا بد أن ترد عليه أسرار ربانية ومواهب لدنية، من لدن حكيم عليم، يظهر بها الحق، ويدفع بها الباطل، فيفرق بين الحق والباطل‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ‏(‏54‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ البارىء هو‏:‏ المقدر للأشياء والمظهر لها‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ واذكروا يا بني إسرائيل حين ‏{‏قال‏}‏ موسى ‏{‏لقومه‏}‏ لما رجع من الطور، ووجدهم قد عبدوا العجل‏:‏ ‏{‏يَا قَوْم إنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أنفُسَكُم‏}‏ وبخستموها ‏{‏باتخاذكم العجل‏}‏ إلاهكم، ‏{‏فَتُوبُوا إلَى‏}‏ خالقكم الذي صوركم في أحسن تقويم، ‏{‏فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ‏}‏ بهدم هذه البنية التي ركبتها في أحسن صورة، فبخستموها، ولم تعرفوا قدرها، فعبدتم أبلد الحيوان، الذي هو البقرة‏.‏ من لم يعرف حق النعمة فحقيق أن تُسترد منه‏.‏

فذلكم القتل والمبادرة إلى التوبة ‏{‏خير لكم‏}‏ عِندَ خالقكم، لأنه يفضي إلى الحياة الدائمة والبهجة السرمدية، فلما صعب عليكم القتل؛ للشفقة على الأخ أو القريب، ألقينا عليكم ضبابة حتى أظلم المكان، فاقتتلتم من الغداة إلى العشي، فدعا موسى وهارون- عليهما السلام- بالكشف عنهم، فرفعت السحابة، وقد قُتل سبعون ألفاً، ففعلتم ذلك القتل، فتاب الحق تعالى عليكم، فقبل توبة مَن بقي منكم، وعفا عمت مات؛ ‏{‏إنه هو التواب الرحيم‏}‏ أي‏:‏ كثير التوفيق للتوبة، أو كثير قبولها، الرحيم بعباده المؤمنين‏.‏

الإشارة‏:‏ ما قاله سيدنا موسى عليه السلام لقومه، يقال مثله لمن عبد هواه، وعكف على متابعة دنياه‏:‏ يا من بخس نفسه بإرخاء العنان في متابعة هواها، حتى حرمها من مشاهدة جمال مولاها، تُب إلى ربك، وانتبه من غفلتك، واقتل نفسك بمخالفة هواها، فلعلها تحيا بمشاهدة مولاها، فما دامت النفس موجودة، وحظوظها لديها مشهودة، وآمالها ممدودة، كيف تطمع أن تدخل حضرة الله، وتتمتع بشهود جماله وسناه‏؟‏‏!‏

إن تُرِدْ وصْلَنا فَمَوتُكَ شَرْطٌ *** لا يَنالُ الوِصَالَ مَنْ فيهِ فَضْلَهْ

وقال الحلاجُ في هذا المعنى‏:‏

لَمْ أُسْلِم النفسَ للأسقامِ تُتْلِفُها *** إلاَّ لِعِلْمِي بأَنَّ الوصْلَ يُحْيِيهَا

وقال أيضاً‏:‏

أُقتُلوني يا ثقاتي *** إِنَّ في قَتْلِي حَياتِي

وحَيَاتي في مَماتِي *** وممَاتي في حَياتي

أنا عندي‏:‏ مَحْوُ ذَاتي *** من أجَلِّ المكْرُمَاتِ

وبَقَائِي في صِفاتي *** مِنْ قبيحِ السيِّئَاتِ

وقال أيضاً‏:‏

إنْ كان سَفْكُ دَمي أقْصَى مُرادِكُمُ *** فَمَا غَلَتْ نظرةٌ مِنكُم بِسَفْك دَمِي

وقال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه‏:‏ ‏(‏لا يدخل على الله إلا من بابين، أحدهما‏:‏ الموت الحسي، وهو الموت الطبيعي، والآخر‏:‏ الموت الذي تعنيه هذه الطائفة‏)‏‏.‏ ه‏.‏ وهو موت النفوس، فمن لم تمت نفسه لم تَحْيَى روحه‏.‏

وقال بعض العارفين‏:‏ ‏(‏لا يحصل الدخول على الله حتى يموت أربع موتات‏:‏ موت أحمر، وموت أسود، وموت أبيض، وموت أخضر‏.‏ أما الموت الأحمر فهو مخالفة الهوى، وأما الموت الأسود فهو تحمل الأذى، وأما الموت الأبيض فهو الجوع- أي‏:‏ المتوسط- وأما الموت الأخضر فهو لبس المرقعات، وطرح الرقاع بعضها على بعض‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ ورأس الهوى وعنصره هو حب الجاه وطلب الرئاسة‏.‏ فمن نزل إلى أرض الخمول، وخرق عوائد نفسه فيه، انخرقت له الحجب، ولاحت له الأنوار، وأشرقت عليه الأسرار في مدة قريبة، وبالله التوفيق وهو الهادي إلى سواء الطريق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏55- 56‏]‏

‏{‏وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ‏(‏55‏)‏ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏56‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏جهرة‏}‏ مصدر نرى؛ لأنه نوع منه، أي‏:‏ نرى الله رؤية عيان، أو حال من الفاعل، أي‏:‏ نراه معاينين له، أو من المفعول؛ أي‏:‏ نراه معاينة‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ واذكروا أيضاً، يا بني إسرائيل، حين قلتم لموسى عليه السلام لما رجع من الطور، ووجدكم قد عبدتم العجل، فأخذ منكم سبعين رجلاً ممن لم يعبد العجل، وذهب يعتذر، فلما سمعتم كلامي أنكرتموه وحرفتموه، وقلتم‏:‏ ‏{‏لَن نُؤْمِنَ لَكَ‏}‏ أن هذا كلام الله ‏{‏حَتَّى نَرَى اللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةِ‏}‏ بسبب طلبكم ما لا طاقة لكم به، فغبتم عن إحساسكم، وذهبت أرواحكم، ‏{‏وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ‏}‏ ما فعل بكم، فاستشفع فيكم موسى عليه السلام وقال‏:‏ يا ‏{‏رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وَإِيَّاىَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَآءُ مِنَّا‏}‏ ‏[‏الأعرَاف‏:‏ 155‏]‏ كيف أرجع إلى قومي بغير هؤلاء‏؟‏ ‏{‏ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْد مَوْتِكُمْ‏}‏ وعشتم زماناً بعد ذلك ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏ هذه النعمة، وتقومون بحسن الخدمة، فتقروا بربوبيتي، وتصدقوا برسلي، فلم تفعلوا‏.‏

الإشارة‏:‏ من شأن الأرواح الطيبة التشوق إلى الحضرة، والتشوف إلى العيان والنظرة، فلا يحصل لها كمال التصديق والإيقان إلا بعد الشهود والعيان، فلما علم الحق سبحانه من بعض الأرواح صدق الطلب، رفع عنها الحجاب، وفتح لها الباب، فأخذتها صاعقة الدهشة والحيرة، ولم تطق صدمة المشاهدة والنظرة، فغابت عن الأشكال والرسوم في مشاهدة أنوار الحي القيوم، ثم مَنَّ عليها بالبعث من موت الفناء إلى حياة البقاء، فأمنت من الشقاء، فحصلت لها الحياة الدائمة والسعادة السرمدية‏.‏ فالصاعقة عند أهل الفن هي عبارة عن الغيبة عن النفس، وفناء دائرة الحس، وهي شهود عدمك لوجود الحق، والبعث منها هو مقام البقاء، وهو شهود الأثر بالله‏.‏ وهو مقام حق اليقين‏.‏ وحاصلة‏:‏ شهود وجود الحق وحده، لا عدمك ولا وجودك، «كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما عليه كان»‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

‏{‏وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏57‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏الغّمّامّ‏}‏‏:‏ السحاب الرقيق، و‏{‏المَنِّ‏}‏ هنا‏:‏ العسل، و‏{‏السَّلْوى‏}‏ قيل‏:‏ اللحم، والأصح‏:‏ أنه اسم طائر كالسماني‏.‏

يقول الحقَ جلّ جلاله‏:‏ في تذكير بني إسرائيل ما أنعم به عليهم في حال التيه‏:‏ ‏{‏و‏}‏ قد ‏{‏ظَلَّلْنا عَلَيْكُمْ الْغَمَامَ‏}‏ يقيكم من الحر في أيام التيه، ‏{‏وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ‏}‏ وهو عسل كان ينزل على الشجر من الفجر إلى الطلوع، فيغرفون منه ما شاءوا، ‏{‏و‏}‏ أنزلنا عليكم ‏{‏السلوى‏}‏، وهو طير كانت تحشره الجنوب، فينزل عليهم، فياخذون منه ما شاءوا، ولا يمتنع منهم، فيذبحون ويأكلون لحماً طريّاً، فقلنا لهم‏:‏ ‏{‏كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا‏}‏ بمخالفتهم أمْرَ نبيهم وسوء أدبهم معه، حيث قالوا‏:‏ ‏{‏فَاذْهَبْ أَنَتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلآ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ‏}‏ ‏[‏المَائدة‏:‏ 24‏]‏، فعاقبهم بالتيه أربعين سنة، يتيهون في مقدار خمسة فراسخ أو ستة‏.‏ ‏{‏وَلَكِن‏}‏ ظلموا أنفسهم؛ حيث أوقعوها في البلاء والمحنة‏.‏

رُوِيَ أنهم لما أُمروا بجهاد الجبارين، جبنوا وقالوا تلك المقالة، فدعا عليهم سيدنا موسى عليه السلم فوقعوا في التيه بين مصر والشام، فكانوا يمشون النهار فيبيتون حيث أصبحوا، ويمشون الليل فيصبحون حيث أمسوا، فقالوا لموسى عليه السلام‏:‏ من لنا بالطعام‏؟‏ فأنزل الله عليهم المنّ والسلوى، قالوا‏:‏ كيف بحر الشمس‏؟‏ فظلل عليهم الغمام، قالوا‏:‏ بم نستصبح بالليل‏؟‏ فضرب لهم عمود نور في وسط محلتهم، قالوا‏:‏ من لنا بالماء‏؟‏ فأمر موسى عليه السلام بضرب الحجر، فقالوا‏:‏ من لنا باللباس‏؟‏ فأعطوا ألا يَبْلى لهم ثوب، ولا يَخْلَق، ولا يَدْرن، وأن ينمو بنمو صاحبه، وقيل‏:‏ كساهم مثل الظفر، ‏{‏وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ ‏[‏البَقَرَة‏:‏ 284‏]‏‏.‏

الإشارة‏:‏ لما انفصلت الأرواح من عالم الجبروت، كانت على الطهارة الأصلية، والنزاهة الأزلية، عالمة بأسرار الربوبية وعظمة الألوهية، لكن لم يكن لها إلا جنة الحرية، دون جنة العبودية، فلما أراد الحق تعالى أن يمتعها بجنتين عن يمين وشمال، أمرها بالنزول إلى أرض العبودية، في ظلل من غمام البشرية، فمنَّ عليها بحلاوة المشاهدات وسلوان المناجات، وقال لها‏:‏ ‏{‏كلوا منطيبات ما رزقناكم‏}‏ من طرائف العلوم، وفواكه الفهوم، هذا لمن اعتنى بروحه فاستكمل فضيلتها، وخالف هواها، فنفذت من عالم الأشباح إلى عالم الأرواح، فلم تنحجب بسحب الآثار إلى نفوذ شهود الأنوار، بل غابت عن شهود الآثار بشهود الأنوار‏.‏ أما من حجبت عن شهود الأنوار بالوقوف مع الآثار، ووقعت في شبكة الحظوظ والشهوات، وربطت بعقال الأسباب والعادات، فقد ظلمت نفسها، وبخست حقها من مشاهدة مولاها، حتى استعت عليها دائرة الحس، ولم تنفذ إلى المشاهدة والأنس‏.‏ وأنشدوا‏:‏

كَمِّلْ حقيقتك التي لم تكمُلِ *** والجسمَ ضَعْهُ في الحضِيض الأسفلِ

أَتُكَمِّلُ الفَانِي وَتَتْرُك باقياً *** هَمَلاً، وأَنت بأمرِه لم تحفلِ‏؟‏

فالجسمُ للنفس النفيسةِ آلةٌ *** ما لَمْ تُحَصِّلْه بها لم يحْصُلِ

يَفْنَى، وتَبقى دائماً في غِبْطةٍ *** أو شِقْوةٍ وندامة لا تنْجَلِي

أُعْطِيتَ جِسْمَكَ خادماً فخدمْتَه *** أَتُمَلِّكُ المفضولَ رِقَّ الأفضلِ‏؟‏

شَرَكٌ كثيفٌ أنتَ في أحْبَالِهِ *** مَا دام يُمكنك الخَلاصَ فَعَجِّلِ

مَنْ يستطيعُ بلوغَ أَعْلَى مَنزلٍ *** ما بالَهُ يرضَى بأدنَى مَنْزِل‏!‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏58- 59‏]‏

‏{‏وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏58‏)‏ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏حِطة‏}‏‏:‏ خبر مبتدأ مضمر، أي‏:‏ أمرنا حطة، أي‏:‏ تواضع وانحطاط، وقال هنا‏:‏ ‏(‏فكلوا‏)‏، وفي الأعراف بالواو؛ لأن الأكل مرتب على الدخول، بخلاف السكنى، فإنها تفارق الأكل، فكأنه مأمور به‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ واذكروا يا بني إسرائيل حين قلنا لأسلافكم بعد أن خرجوا من التيه‏:‏ ‏{‏ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ‏}‏ أعني بيت المقدس، أو أريحاء، بعد أن تُجاهدوا أهلها، ‏{‏فَكُلُوا‏}‏ من نعم ما فيها أكلاً واسعاً؛ لأنها مخصبة، ‏{‏وَادْخُلُوا‏}‏ باب القرية راكعين، تواضعاً وشكراً، ‏{‏وَقُولُوا‏}‏ في دخولكم‏:‏ شأننا ‏{‏حِطَّةٌ‏}‏، أي‏:‏ شأننا الانحطاط والتواضع لله، فإن فعلتم ذلك ‏{‏نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيد‏}‏ من امتثل أمرنا، وأحسن الأدب معنا، خيراً كثيراً، في الدنيا والآخرة، ‏{‏فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا‏}‏ منهم قَوْلاً غيْر الَّذِي أمروا به، وقالوا مكان حطة‏:‏ حنطة، حبة في شعرة، ‏{‏فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً‏}‏ عذاباً ‏{‏مِّنَ السَّمَاءِ‏}‏ قيل‏:‏ هو الطاعون، فمات منهم سبعون ألفاً في يوم واحد، بسبب فسقهم وتعديهم الحدود‏.‏

الإشارة‏:‏ يقول الحق سبحانه للأرواح، لما كمل تطهيرها من البقايا، وتكاملت فيها المزايا‏:‏ ادخلوا هذه الحضرة المقدسة، وتنعموا فيها حيث شئتم بالمشاهدة، والمكالمة، والمواجهة، والمساورة، والمفاتحة، والمناجاة، وادخلوا بابها أذلاء صاغرين، فلا دخول للحضرة المقدسة إلا من باب الذل والافتقار، وأنشدوا‏:‏

ومَا رُمتُ الدخولَ عليهِ حتَّى *** حَلَلْتُ مَحَلَّةَ العبدِ الذليلِ

وأَغمضْتُ الجفُونَ على قَذَاها *** وصُنْت النَّفْسَ عن قالٍ وقيلِ

وقيل لأبي يزيد‏:‏ يا أبا يزيد، خزائننا معمورة بالخدمة، ائتني من كوّة الذل والافتقار‏.‏ وفي رواية قيل له‏:‏ يا أبا يزيد‏:‏ تقرب إلينا بما ليس عندنا، فقال‏:‏ يا رب؛ وما الذي ليس عندك‏؟‏ فقال‏:‏ الذل والافتقار‏.‏ ه‏.‏ وقال شيخ المشايخ القطب الجيلاني رضي الله عنه‏:‏ ‏(‏أتيت الأبواب كلها، فوجدت عليها الزحام، فأتيت من باب الذل والافتقار، فوجدته خالياً، فدخلت منه، وقلت‏:‏ هلموا‏)‏‏.‏ أو كما قال‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

تَذَللْ لِمنْ تَهْوى فَلَيْسَ الهَوى سَهْلُ *** إذا رَضِيَ المحْبُوبُ صَحَّ لكَ الوّصْلُ

وقولوا عند دخولكم الحضرة‏:‏ شأننا حطة؛ أي‏:‏ شأننا السفليات دون العلويات، فالسلوك من باب السفليات واجب، وإلا فلا وصول، فكل مَن سلك من باب السفليات طهر من البقايا، وتكاملت فيه المزايا، فيصلح لدخول الحضرة، وينخرط في سلك أهل الشهود والنظرة، فيكون من المحسنين المقربين، فلا جرم أن الله يزيده ترقياً في العلوم والأسرار، في هذه الدار، وفي تلك الدار، بخلاف مَن خالف ما أمر به من سلوك طريق السفليات، وتعاطي الأمور العلويات، قبل كمال التربية؛ فإنه يجرع إلى غم الحجاب، وسوء الحساب؛ بسبب خروجه عن طريق الأحباب، وسلوكه طريق أهل الغفلة والارتياب، وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ‏(‏60‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏استسقى‏}‏‏:‏ طلب السقي، و«ال» في ‏{‏الحجر‏}‏ للعهد، وهو الحجر الذي فرَّ بثوبه، أو حجر خفيف مربع مثل رأس الرجل، أُمر أن يحمله معه، فكان يضعه في مخلاته، فإذا احتاج الماء ضربه، قيل‏:‏ كان من رخام، وقيل‏:‏ كان كذَّان، كان فيه اثنتا عشرة حفرة، تنبع من كل حفرة عين ماء عذب، على عدد الأسباط، فإذا أراد حمله ضربه فجفّ الماء منه، وقيل‏:‏ للجنس، فكان يضرب أيَّ حجر وجد، فتنفجر منه عيوناً، ثم تسير كل عين في جدول إلى سبط، فقالوا‏:‏ إن أفضينا إلى أرض لا حجارة فيها عطشنا، فأوحى إليه‏:‏ أن كلِّمْهُ يَطِعْك لعلهم يعتبرون‏.‏

و ‏{‏فَانْفَجَرَتْ‏}‏ معطوف على محذوف؛ أي‏:‏ فضرب فانفجرت، والعُثو‏:‏ أشد الفساد، عَثَا يعثَوا عثواً، وعثى يعثِي عثِياً، وعاث يعيث عيثاً، و‏{‏مفسدين‏}‏‏:‏ حال مؤكدة لعاملها، أو مقيدة، إن قلنا‏:‏ إن العثو أعم من الفساد، لصدقه على القصاص، فإنه عثر غير فساد‏.‏ انظر البيضاوي‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ واذكروا يا بني إسرائيل حين عطشتم في التيه، فطلبتم من موسى السقي، فاستسقى لكم، ‏{‏فقلنا‏}‏ له‏:‏ ‏{‏اضرب بعصاك‏}‏ التي أخذتها من شعيب عليه السلام، وكانت من آس الجنة، وورثت عن آدم عليه السلام، فيها عشرة أذرع، فضرب ‏{‏فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً‏}‏ على عدد أسباطكم، فكل عين تجري إلى سبط ‏{‏قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسِ مَّشْرَبَهُمْ‏}‏ مُعَيناً، لا يعدو أحد على أحد، فقلنا لهم‏:‏ ‏{‏كُلُوا‏}‏ من المن والسلوى، ‏{‏واشربوا‏}‏ من الماء الذي رزقناكم، ولا تطغوا بالنعم فتفسدا في الأرض بالمعاصي والذنوب، فيكون ذلك كفراً مستوجباً للسلب بعد العطاء، رُوِيَ أنهم كانوا ستمائة ألف، وسعة المعسكر اثنا عشر ميلاً‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ اعلم أن الأرواح إذا تطهرت من الأكدار، وتحررت من الأغيار، وأشرقت عليها الأنوار والأسرار، وكمل تطهيرها، وتمت تصفيتها، كان صاحبها آية من آيات الله، وحجة من حجج الله، إذا ضرب بعصا همته القلوب القاسية أو الأنفس الأبية، لانت وانفجرت بالعلوم القدسية، كل واحد بما يليق به، فمنها من تنبع بالعلوم الوهبية، ومنها من تنبع بالعلوم الرسمية، ومنها من تنبع بالكرامات وخوارق العادات، ومنها من تنبع منها المكاشفات والاطلاعات، قد علم كل أناس مشربهم، على حسب ما سبق لهم، فيقول الحق تعالى لهم‏:‏ كلوا من ثمرات ما اجتنيتم من العلوم والمعارف التي أوليناكم، واشربوا من مناهل المنازل التي فيها أقمناكم، أو كلوا من ثمرات المعرفة ما تتقوى به معانيكم، واشربوا من خمر الحبيب ما تغيبوا به عن وجودكم، ولا تتعدوا أطواركم من القيام بوظائف العبودية، ومعرفة عظمة الربوبية، فتكونوا لسلب ما أولاكم متعرضين، ولعقوبته مستحقين، عائذاً بالله من السلب بعد العطاء‏.‏ آمين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

‏{‏وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ‏(‏61‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ المراد بالطعام الواحد‏:‏ هو المنّ والسلوى‏.‏ ووحَّده لأنه لا يختلف ولا يتبدل، كقولهم‏:‏ طعام مائدة الأمير واحد، والبقل‏:‏ جميع الخضر، كالنجم والكرنب والكراث وغير ذلك‏.‏ والقثاء‏:‏ جمع قثاءة، وهي الخيار والفقوس والبطيخ وغير ذلك من الفواكه التي تستنبت، والفوم قيل‏:‏ الحنطة، والأصح أنه الثوم‏.‏ قال الشاعر‏:‏

أنتُم أُناسٌ لِئامُ الأُصولِ *** طعامُكُم الفومُ والحَوقَلُ

أراد‏:‏ الثوم والبصل‏.‏ والعرب تعاقب بين الفاء والثاء فتقول‏:‏ معافير ومعاثير، وتقول للقبر‏:‏ جدث وجدف‏.‏

والعدس‏:‏ معلوم، روى عليّ- كرّم الله وجهه- عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «عليكم بالعدس، فإنه مبارك مقدس، وإنه يرقق القلب، ويكثر الدمعة، وإنه بارك فيه سبعون نبيّاً، آخرهم عيسى ابن مريم»‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ واذكروا أيضاً حين ‏{‏قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامِ وَاحِدٍ‏}‏ حين مللتم من العسل واللحم، وملتم إلى عَكَرِكُمْ السوء، أي‏:‏ مألوفكم وشهواتكم السيئة، لأنهم كانوا فلاحين، فقلتم‏:‏ ‏{‏ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ‏}‏، أي‏:‏ من جنس ما ينبت الله فيها من البل والقثاء والعدس والفوم والبصل، قال موسى عليه السلام‏:‏ ‏{‏أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى‏}‏ وأخس من الثوم والبصل وغيرها، ‏{‏بالَّذِي هُوَ خَيْرٌ‏}‏ من اللحم والعسل، ‏{‏اهْبِطُوا‏}‏ إلى مصر من الأمصار، تجدوا ما تشتهون، إذ لا يوجد ذلك إلا في القرى والأمصار، أو ‏{‏اهْبِطُوا مِصْراً‏}‏ التي كنتم فيها أذلاء مستبعدين، تجدوا حظوظكم وشهواتكم؛ لأن الحظوظ والشهوات منوطة بالذل والهوان، ‏{‏وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ‏}‏، أي‏:‏ ألزموها لزوم الدرهم المضروب لضربه ونقشه، فالذلة‏:‏ ضرب الجزية، والمسكنة‏:‏ فقر النفس وإن كان موسراً‏.‏

وإنما ضُربت عليهم الذلة والمسكنة لأنهم لم يرضوا بتدبير الحق، ولم يقنعوا برزقه، فكل مَن لم يقنع بقسمته وسئم من اتحاد رزقه، خيف عليه من ضرب الذل والمسكنة، وانقلبوا أيضاً ‏{‏بِغَضَبٍ منَ اللَّهِ‏}‏ حيث نقضوا العهود، وتعدوا الحدود، فكفروا وطغوا وقتلوا الأنبياء بغير حق، وسبب ذلك‏:‏ تمردهم في العصيان، فإن المعاصي تجر بعضها إلى البعض حتى تنتهي إلى الكفر، والعياذ بالله من سخطه وعضبه‏.‏

الإشارة‏:‏ كل مَن لم يقنع بالقسمة الأزلية، ولم يقم حيث أقامته القدرة الإلهية، بل جنح إلى حظوظه وهواه، وحرص على تحصيل أغراضه ومناه، قيل له‏:‏ أتستبدل تدبيرك- الذي هو أدنى- بتدبير الحق- الذي هو خير-‏؟‏ أتترك تدبير الحكيم العليم، الرؤوف الرحيم، إلى تدبير عقلك الضعيف الجاهل الخسيس اللئيم‏؟‏‏!‏ فعسى أن تدبر شيئاً يكون لك فإذا هو عليك‏.‏ وعسى أن تأتيك المسار من حيث تعتقد المضار، وتأتيك المضار من حيث ترتجي المسار‏.‏ ولله درّ القائل‏:‏

وكَم رُمْتُ أَمْراً خِرْتَ لي في انْصِرَافِهِ، *** فَلاَ زلْتَ لي مِني أبَرَّ وأَرْحَمَا

عَزَمْتُ عَلَى ألاّ أُحِسَّ بِخَاطِرٍ *** عَلى القلْبِ إلاَّ كُنْتَ أَنْتَ المُقَدَّمَا

وألا تَرَانِي عِنْدَ مَا قَدْ نَهيْتَني؛ *** لِكَونَك في قَلْبِي كَبيراً مُعَظَّمَا

يا مَن لم يقنع بتدبير مولاه، ومال إلى نيل حظه وهواه، اهبط إلى أرض الحظوظ والشهوات تجد فيها ما ألفته نفسك من عوائدك السيئات‏.‏ يا مَن أخلدت نفسه إلى الهوى ومتابعة الشيطان، كيف تستبدل العز الدائم بالذل والهوان‏؟‏‏!‏ وأنشدوا‏:‏

لاَ تَتْبعِ النفسَ في هَواهَا *** إنَّ اتِّباعَ الهَوَا هَوَانُ

قال في التنوير‏:‏ فائدة‏:‏ اعلم أن بني إسرائل لما دخلوا التيه، ورُزقوا المنّ والسلوى، واختار الله لهم ذلك رزقاً، رزقهم إياه، يبرز عن عين المنّة، من غير تعب منهم ولا نصب، فرجعت نفوسهم الكثيفة لوجود، العادة، والغيبة عن شهود تدبير الله، غلى طلب ما كانوا يعتادونه، فقالوا‏:‏ ‏{‏ادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض‏}‏ الآية‏.‏ ‏{‏قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصراً فإن لكم ما سألتم وضرب عليهم الذلّة والمسكنة وباءوا بغضب من الله‏}‏، وذلك لأنهم تركوا ما اختار الله لهم، مائلين لما اختاروا لأنفسهم، فقيل لهم عن طريق التوبيخ‏:‏ ‏{‏أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير‏}‏ ‏؟‏ فظاهر التفسير‏:‏ أتستبدلون الفوم والعدس والبصل بالمنّ والسلوى‏؟‏ وليس النوعان سواء في اللذة ولا في سقط المشقة وسر الاعتبار، أتستبدلون مرادكم لأنفسكم بمراد الله تعالى لكم‏؟‏ ‏{‏أتستبدلون الذي هو أدنى‏}‏ وهو ما أردتموه، ‏{‏بالذي خير‏}‏، وهو ما أراده الله لكم‏؟‏ ‏{‏اهبطوا مصراً‏}‏ فإن ما اشتهيتموه لا يليق إلا أن يكون في الأمصار، وفي سر الخطاب‏:‏ اهبطوا عن سماء التفويض وحسن التبدير منا لكم، إلى أرضي التدبير والاختيار منكم لأنفسكم، موصوفين بالذل والمسكنة؛ لاختياركم مع اختيار الله، وتدبيركم لأنفسكم مع تدبير الله‏.‏ ه المراد منه‏.‏

ولما ذَكَّرَهُمْ الحق تعالى بالنعمة، ووبَّخَهم على ارتكاب الآثام، رغَّبهم في الإسلام‏.‏