فصل: تفسير الآيات رقم (46- 47)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏46- 47‏]‏

‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ ‏(‏46‏)‏ قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏47‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ لهم أيضًا‏:‏ ‏{‏أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم‏}‏ أي‏:‏ أصمَّكم وأعماكم، ‏{‏وختم على قلوبكم‏}‏؛ بأن غطى عليها بما يزول به عقلكم وفهمُكم، ‏{‏مَن إله غير الله يأتيكم به‏}‏ أي‏:‏ بذلك المأخوذ‏.‏ ‏{‏انظر كيف نُصرف الآيات‏}‏ أي‏:‏ نُكررها على جهات مختلفة، كتصريف الرياح، تارة من جهة المقدمات العقلية، وتارة من جهة الترغيب والترهيب، وتارة بالتنيبة والتذكير بأحوال المتقدمين، ‏{‏ثم هم يصدفون‏}‏ أي‏:‏ يعرضون عنها ولم يلتفتوا إليها، و‏{‏ثُم‏}‏‏:‏ لاستبعاد الإعراض بعد تصريف الآيات وظهورها‏.‏

و ‏{‏قل‏}‏ لهم أيضًا‏:‏ ‏{‏أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة‏}‏ من غير مقدمة ‏{‏أو جهرة‏}‏ بتقديمها، فالبغتة‏:‏ ما لم يتقدم لهم به شعور، والجهرة‏:‏ ما قدمت لهم مخايلة، وقيل‏:‏ بغتة بالليل، وجهرة بالنهار، ‏{‏هل يُهلك‏}‏ أي‏:‏ ما يُهلك به هلاك سخط وتعذيب، ‏{‏إلا القوم الظالمون‏}‏ بالكفر والمعاصي‏.‏

الإشارة‏:‏ إنما خلق الأسماع والأبصار، لسماع الوعظ والتذكار، ولنظرة التفكر والاعتبار، فمن صرفهما في ذلك فقد شكر نعمتهما، ومن صرفهما في غير ذلك فقد كفر نعمتهما، ومن كفر نعمتهما يوشك أن تؤخذ منه تلك النعمة، وكذلك نور العقل، ما جعله الله في العبد إلا ليعرفه به، ويعرف دلائل توحيده، ويتبصرّ به في أمره‏.‏ فإذا صرفه في تدبير هواه وشهواته فقد كفر نعمته، فيوشك أيضًا أن يؤخذ منه‏.‏

وإذا أنعم الله عليه باستعمال هذه الحواس فيما خلقت لأجله؛ فليكن على حذر من آخذ ذلك منه أيضًا، فلا يأمن مكر الله، فإن الأسماع والأبصار والقلوب بيد الله، يُقلبها كيف شاء، فإن أخذها لن يقدر على ردها، ولذلك كان العارف لا يزول اضطراره، ولا يكون مع غير الله قراره، والعذاب الذي يأتي بغتة، هو السلب بغتة، أي‏:‏ فقد القلب في مرة واحدة، والذي يأتي جهرة هو فقده شيئًا فشيئًا، وسبب هذا الهلاك‏:‏ هو ظلم العبد لنفسه، إما بسوء أدب مع الله، أو نقض عهد الشيوخ العارفين بالله‏.‏ وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏48- 49‏]‏

‏{‏وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آَمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏48‏)‏ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ‏(‏49‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وما نرسل المرسلين إلا مبشرين‏}‏ للمؤمنين بالنعيم المقيم، ‏{‏ومنذرين‏}‏ للكفار بالعذاب الأليم، ولم نرسلهم ليقترح عليهم ويتلهى بهم، ‏{‏فمن آمن‏}‏ بهم، ‏{‏وأصلح‏}‏ ما يجب إصلاحه على ما شرع لهم، ‏{‏فلا خوف عليهم‏}‏ من العذاب، ‏{‏ولا هم يحزنون‏}‏ لفوات الثواب، ‏{‏والذين كفروا وكذبوا بآياتنا يمسهم العذاب‏}‏ أي‏:‏ يلحقهم، جعل العذاب ماسًّا لهم كأنه الطالب للوصول إليهم، واستغنى بتعريفه عن توصيفه‏.‏ وذلك المس ‏{‏بما كانوا يفسقون‏}‏ أي‏:‏ بسبب خروجهم عن التصديق والطاعة‏.‏

الإشارة‏:‏ ما من زمان إلا ويبعث الله أولياء عارفين، مبشرين لم أطاعهم واتبعهم بطلعة أنوار الحضرة على أسرارهم، ومنذرين لمن خالفهم بظهور ظلمة الكون على قلوبهم وانطباع الأكوان في أسرارهم، فمن آمن بهم وصحبهم فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، بدليل قوله‏:‏ ‏{‏أَلآ إِنَّ أَوْلِيَآءَ اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏ ‏[‏يُونس‏:‏ 62‏]‏، ومن كذب بهم وبما يظهر على أيديهم من أسرار المعارف يمسهم عذاب القطيعة، بما كانوا يفسقون، أي‏:‏ بخروجهم على طاعتهم والإذعان إليهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏

‏{‏قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ لهم يا محمد‏:‏ أنا ‏{‏لا أقول لكم عندي خزائن الله‏}‏ فآتيكم منها بكل ما تقترحون عليَّ من المعجزات، بل خزائن مقدوراته تعالى في علم غيبه، ليس لي منها إلا ما يُظهره منها بقدرته، ‏{‏ولا أعلم الغيب‏}‏ حتى أخبركم بالمغيبات، بل مفاتيح الغيب عنده، لا يعلمها إلا هو، إلا ما يُوحى إليّ منها، ‏{‏ولا أقول لكم إني ملك‏}‏ فأستغنى عن الطعام والشراب، أو أقدر على ما يقدر عليه الملك، إن أنا إلا بشر أوحى إليَّ أن أنذركم، فأتبع ما يوحى إليّ؛ وأبترأ من دعوى الألوهية والملكية، وأدعي النبوة التي هي من كمالات البشر‏.‏

‏{‏قل‏}‏ لهم‏:‏ ‏{‏هل يستوى الأعمى‏}‏ الذي هو ضال جاهل، ‏{‏والبصير‏}‏ الذي هو مهتدٍ عالم، أو‏:‏ هل يستوي مدعي المستحيل؛ كالألوهية والمَلَكية ومُدَّعي الحق، كالنبوة والرسالة، ‏{‏أفلا تتفكرون‏}‏ فتميزوا بين أدعاء الحق والباطل، فتهتدوا إلى اتباع الحق وتجنب الباطل‏.‏

الإشارة‏:‏ ما قالته الرسل للكفار حين اقترحوا عليهم المعجزات، تقوله الأولياء لأهل الإنكار، حيث يطلبون منهم الكرامات، وتقول لهم‏:‏ إن نتبع إلا ما أمرنا به ربنا وسنّه لنا رسولُنا، فمن اهتدى وتبصر فلنفسه، ومن عمى فعليها‏.‏

وقال الورتجبي بعد قوله‏:‏ ‏{‏ولا أقول لكم إني مالك‏}‏‏:‏ تواضع صلى الله عليه وسلم حين أقام نفسه مقام الإنسانية، بعد أن كان أشرف خلق الله من العرش إلى الثرى، وأظهر من الكروبيين والروحانيين على باب الله سبحانه، خضوعًا لجبروته، وخُنوعًا في أنوار ملكوته، بقوله‏:‏ ‏{‏ولا أقول لكم إني ملك‏}‏، وليس لي اختيارٌ في نبوتي، ‏{‏إن اتبع إلا ما يوحى إليّ‏}‏‏.‏ هل يكون من هذا وصفه، بعد كونه بصيرًا بنور الله، ورأفته به، كالذي عمي عن رؤية إحاطته بكل ذرة من العرش إلى الثرى‏؟‏ أفلا تتفكرون أن من ولد من العدم بصيرًا بنور القدم، ليس كمن ولد من العدم أعمى عن رؤية عظمته وجلاله‏.‏ انتهى كلامه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

‏{‏وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ‏(‏51‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ الضمير في ‏{‏به‏}‏‏:‏ يعود على ‏{‏ما يوحى‏}‏ وجملة ‏{‏ليس‏}‏‏:‏ حال من ضمير ‏{‏يُحشروا‏}‏‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وأنذر‏}‏ أي‏:‏ خوِّف بما أوحي إليك، المؤمنين المقصرين في العمل؛ ‏{‏الذين يخافون أن يُحشروا إلى ربهم‏}‏ بالبعث للحساب، حال كونهم في ذلك الوقت ‏{‏ليس لهم من دونه وليٌّ‏}‏ ينصرهم من عذابه، ‏{‏ولا شفيع‏}‏ يرده عنهم بشفاعته، ‏{‏لعلهم يتقون‏}‏ أي‏:‏ كي يصيروا بإنذارك متقين، وإنما خص الإنذار هنا بالذين يخافون؛ لأنه تقدم في الكلام ما يقتضى اليأس من إيمان غيرهم، فكأنه يقول‏:‏ أنذر الخائفين؛ لأنه ينفعهم الإنذار، وأعرض عمن تقدم ذكرهم من الذين لا يسمعون ولا يعقلون، أو‏:‏ أنذر من يتوقع البعث والحساب، أو يتردد فيه مؤمنًا أو كافرًا‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏

الإشارة‏:‏ لا ينفع الوعظ والتذكير إلا من سبق له الخوف من الملك القدير؛ إذ هو الذي ينهضه الخوف المزعج أو الشوق المقلق، وأما من سَوّدت قلبَه الخطايا، وانطبعت في مرآته صور الأشياء، فلا ينفع فيه زاجر ولا واعظ، بل ران على قلبه ما اقترفه من المآثم، والعياذ بالله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏52- 53‏]‏

‏{‏وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏52‏)‏ وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ‏(‏53‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏فتطردهم‏}‏‏:‏ جواب النفي، و‏{‏فتكون‏}‏‏:‏ جواب النهي، أي‏:‏ ولا تطرد فتكون من الظالمين، فليس عليكم من حسابهم شيء فتطردهم‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ لنبيه عليه الصلاة والسلام، حين طلب منه صناديدُ قريش أن يطرد عنه ضعفاء المسلمين ليجالسوه، فَهَمَّ بذلك طمعًا في إسلامهم، فنزلت‏:‏ ‏{‏ولا تطرد الذين يدعون ربهم‏}‏ أي‏:‏ يعبدونه بالذكر وغيره، أو يدعونه بالتضرع والابتهال، ‏{‏بالغداة والعشي‏}‏ أي‏:‏ على الدوام‏.‏ وخص الوقتين بالذكر؛ لشرفهما‏.‏ وفي الخبر‏:‏ «يا ابنَ آدمَ، اذكُرني أول النهار وآخره، أكفِكَ ما بينهما» وقيل‏:‏ صلاة الصبح والعصر، وقيل‏:‏ الصلاة بمكة قبل فرض الخمس‏.‏

قال البيضاوي‏:‏ بعد ما أمره بإنذار غير المتقين ليتقوا أي‏:‏ على التفسير الثاني في الآية المتقدمة أمره بإكرام المتقين وتقريبهم، وألاَّ يطردَهم، ترضية لقريش، رُوِي أنهم قالوا‏:‏ لو طَردتَ هؤلاء الأعبُدِ يُعنُون فقراء المُسلِمِينَ، كعمَّار وصُهَيب وخبَّاب وبِلال وسَلمان جلَسنا إليك، فقال‏:‏ «ما أنا بطاردِ المؤمنين» قالوا‏:‏ فأقمهُم عنا، قال‏:‏ «نَعَم» ‏[‏رُوِي أن عمر قال له‏:‏ لَو فَعَلتَ حتَّى تنظرَ إلى ما يَصِيرُونَ‏؟‏‏]‏ قالوا‏:‏ فاكتُب بِذَلِكَ كِتَابًا، فدَعَا بالصَّحِيفَةِ وبَعَليٍّ؛ ليَكتُبَ، فنزلت‏.‏ ه‏.‏ وفي ذكر سلمان معهم نظر لتأخر إسلامه بالمدينة‏.‏

ثم وصفهم بالإخلاص فقال‏:‏ ‏{‏يريدون وجهه‏}‏ أي‏:‏ يدعونه مخلصين طالبين النظر لوجهه، وفيه تنبيه على أن الإخلاص شرط من الأعمال، ورتب النهي عليه؛ إشعارًا بأنه يقتضي إكرامهم، وينافي إبعادهم، ثم علل عدم طردهم فقال‏:‏ ‏{‏ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم‏}‏ أي‏:‏ أنت لا تحاسب عنهم، وهم لا يحاسبون عنك، فلأي شيء تطردهم‏؟‏ وقيل‏:‏ الضمير‏:‏ للكفار، أي‏:‏ أنت لا تحاسب عنهم، وهم لا يحاسبون عنك، فلا تهتم بأمرهم، حتى تطرد هؤلاء من أجلهم، ‏{‏فتكون من الظالمين‏}‏ بطردهم، لكنه عليه الصلاة والسلام لم يفعل، فلا ظلم يلحقه في ذلك؛ لسابق العناية والعصمة‏.‏

‏{‏وكذلك فتنا بعضهم ببعض‏}‏ أي‏:‏ ومثل ذلك الاختبار، وهو اختلاف أحوال الناس في أمر الدنيا، ‏{‏فتنا بعضهم ببعض‏}‏ أي‏:‏ ابتلينا بعضهم ببعض في أمر الدين، فقدّمنا هؤلاء الضعفاء على أشراف قريش؛ بالسبق إلى الإيمان ‏{‏ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا‏}‏ أي‏:‏ أهؤلاء من أنعم الله عليهم بالهداية والتوفيق دوننا، ونحن الأكابر والرؤساء، وهم المساكين والضعفاء، فنحن أحق منهم به إن كان حقًا، وهذا إنكار منهم لأن يخص هؤلاء من بينهم بإصابة الحق والسبق إلى الخير، كقولهم ‏{‏لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَآ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 11‏]‏‏.‏ واللام في ‏{‏ليقولوا‏}‏‏:‏ للعاقبة‏.‏ قال تعالى في الرد عليهم‏:‏ ‏{‏أليس الله بأعلم بالشاكرين‏}‏ أي‏:‏ بمن يقع منهم الإيمان والشكر فيوفقهم، وبمن لا يقع منه فيخذُله‏.‏

وبالله التوفيق‏.‏

الإشاره‏:‏ في صحبة الفقراء خيرٌ كثير وسرٌ كبير، وخصوصًا أهل الصفاء والوفاء منهم، وفي ذلك يقول الشيخ أبو مدين رضي الله عنه‏:‏

مَا لذّةُ العَيشِ إلاّ صُحبَةُ الفُقَرا *** هُم السّلاَطين والسَّادَاتُ والأُمَرا

فَاصْحَبْهُمُو وتأدَّب في مَجَالِسِهِم *** وخلِّ حظَّكَ مَهمَا خلَّفُوكَ ورَا

إلى آخر كلامه‏.‏

فلا يحصل كمال التربية والتهذيب إلا بصحبتهم، ولا تصفوا المعاني إلا بمجالستهم والمذاكرة معهم، والمراد من دخل منهم بلاد المعاني، وحصَّل مقام الفناء في الذات، فالجلوس مع هؤلاء ساعة تعدل عبادة الثقلين سِنين، ومن شأن شيوخ التربية‏:‏ العطف على الفقراء والمساكين وتقريبهم، ولا يطردون أحدًا منهم ولو عمل ما عمل، اقتداء بما أمر به نبيهم صلى الله عليه وسلم‏.‏ بل شأنهم الإقبال على من أقبل إليهم، عصاة كانوا أو طائعين وإقبالهم على العصاة المذنبين أكثر، جبرًا لكسرهم، وتألفًا لهم، وسوقًا لهم إلى الله بملاطفة الإحسان‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏54‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ من فتح ‏{‏أنه‏}‏، جعله بدلاً من الرحمة، ومن كسره؛ فعلى الاستئناف، و‏{‏بجهالة‏}‏‏:‏ حال، ومن قرأ ‏{‏فإنه‏}‏ بالكسر؛ بالجملة‏:‏ جواب الشرط، ومن فتح؛ فخبر عن مضمر، أي‏:‏ فجزاؤه الغفران، أو مبتدأ؛ فالغفران جزاؤه‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا‏}‏؛ وهم الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي، خصهم بالإيمان بالقرآن، بعد ما وصفهم بالمواظبة على الطاعة والإحسان، فإذا أقبلوا إليك ‏{‏فقل‏}‏ لهم‏:‏ ‏{‏سلام عليكم‏}‏؛ تحية مني عليكم، أو من الله أبلغه إليكم، ‏{‏كَتب ربكم على نفسه الرحمة‏}‏ أي‏:‏ حتمها عليه فضلاً منه، وهي ‏{‏أنه من عمل منكم سوءًا‏}‏ أي‏:‏ ذنبًا ‏{‏بجهالة‏}‏ أي‏:‏ بسفاهة وقلة أدب، أو جاهلاً بحقيقة ما يتبعه من المضار والمفاسد، ‏{‏ثم تاب من بعده‏}‏ أي‏:‏ من بعد عمل السوء ‏{‏وأصلح‏}‏ بالتدارك والندم على إلا يعود إليه، ‏{‏فأنه غفور‏}‏ لذنبه، ‏{‏رحيم‏}‏ به بقبول توبته‏.‏

قال البيضاوي‏:‏ أمرَه أن يبدأ بالتسليم، أو يُبلغ سلام الله ويبشرهم بسعة رحمته وفضله، بعد النهي عن طردهم؛ إيذانًا بأنهم الجامعون لفضيلَتَي العلم والعمل، ومن كان كذلك ينبغي أن يُقَّرب ولا يُطرَد، ويُعز ولا يُذل، ويُبشِّر من الله بالسلامة في الدنيا وبالرحمة في الآخرة، وقيل‏:‏ إن قومًا جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ إنا أصبَنا ذنوبًا عِظامًا، فلم يَرُدَّ عليهم، فانصرَفوا، فنزلت‏.‏ ه‏.‏

قال القُشَيري‏:‏ أحلَّه محل الأكابر والسَّادات، فإنَّ السلام من شأن الجَائِي إلاَّ في صفة الأكابر، فإنَّ الجائي والآتي يسكت لهيبة المأتِي، حتى يبتدىء ذلك المقصودُ بالسؤال، فعند ذلك يجيب الآتي‏.‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ مِن شأن الأكابر من الأولياء، الداعين إلى الله، إكرامُ مَن أتى إليهم بحُسن اللقاء وإظهار المَسَّرة والبُرور، وخصوصًا أهل الانكسار فيُؤنسونهم، ويُوسعون رجاءهم، ويفرحونهم بما يسمعون منهم من سعة فضل الله وكرمه‏.‏

كان الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه إذا دخل عليه أحد من أهل العصيان كأرباب الدولة والمخزن، قال إليهم، وفرح بهم، وأقبل عليهم، وإذا أتى إليه أحد من العلماء أو الناسكين لم يَعتَنِ بشأنهم، فقيل له في ذلك، فقال‏:‏ أهل العصيان يأتوننا فقراء منكسرين من أجل ذنوبهم، لا يرون لأنفسهم مرتبة، فأردت أن أجبر كسرهم، وهؤلاء أهل الطاعة يأتوننا أغنياء معتمدين على طاعتهم، فلا يحتاجون إلى ما عندنا، أو كلامًا هذا معناه، ذكره في لطائف المنن‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏55‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ قرىء بتاء الخطاب، ونصب السبيل؛ على أنه مفعول به، وقرىء بتاء التأنيث ورفع السبيل؛ على أنه فاعل مؤنث، وبالياء والرفع؛ على تذكير السبيل؛ لأنه يجوز فيه التذكير والتأنيث‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وكذلك نُفصل الآيات‏}‏ أي‏:‏ ومثل ذلك التفصيل الواضح نفصل الآيات، أي‏:‏ نشرح آيات القرآن ونوضحها في صفة المطيعين والمجرمين، والمصرين والأوابين، ليظهر الحق، ولتستوضح يا محمد ‏{‏سبيل المجرمين‏}‏ فتعاملهم بما يحق لهم من الإبعاد إن بَعُدوا، أو الإقبال إن أقبلوا‏.‏ أو لتتبين طريقهم ويظهر فسادها ببيان طريق الحق‏.‏

الإشارة‏:‏ سبيل المؤمنين من أهل اليمين، هو التمسك بظاهر الشريعة المحمدية؛ بامتثال الأمر واجتناب النهي، والمبادرة إلى التوبة، إن أخل بأحد الأمرين من غير تحرِّ لما وراء ذلك، وسبيل المتوجهين من السائرين والواصلين‏:‏ تصفية القلوب وتهيؤها لإشراق أسرار علم الغيوب؛ بتخليتها من الرذائل وتحليتها بأنواع الفضائل؛ لتتهيأ بذلك لطلوع شموس العرفان، والدخول في مقام الكشف والعيان، الذي هو مقام الإحسان، وما خرج عن هذين السبيلين فهو سبيل المجرمين‏:‏ إما بالكفر، وإما بالإصرار على العصيان، والعياذ بالله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏56- 58‏]‏

‏{‏قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ‏(‏56‏)‏ قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ‏(‏57‏)‏ قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ ‏(‏58‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ يا محمد‏:‏ ‏{‏إني نُهيتُ‏}‏ أي‏:‏ نهاني ربي ‏{‏أن أعبدَ الذين تدعُون‏}‏ أي‏:‏ تعبدون ‏{‏من دون الله‏}‏، أو ما تدعونها آلهة؛ أي‏:‏ تسمونها بذلك، وتخضعون لها من دون الله، ‏{‏قل‏}‏ لهم‏:‏ ‏{‏لا أتبع أهواءكم‏}‏ الفاسدة وعقائدكم الزائغة، ‏{‏قد ضللتُ‏}‏ عن الحق ‏{‏إذًا‏}‏ أي‏:‏ إذا اتبعت أهواءكم، ‏{‏وما أنا من المهتدين‏}‏ أي‏:‏ ما أنا في شيء من الهدى حتى أكون من عدادهم إن اتبعت أهواءكم، وفيه تعريض بهم، وأنهم ضالون حائدون عن طريق الهدى، ليسوا على شيء منها‏.‏

‏{‏قل إني على بيّنة‏}‏ أي‏:‏ طريق واضحة ‏{‏من ربي‏}‏ تُوصلني إلى تحقيق معرفته، واستجلاب رضوانه، أنا ومن اتبعني، ‏{‏و‏}‏ أنتم ‏{‏كذبتم به‏}‏ أي‏:‏ بربي؛ حيث أشركتم به وعبدتم غيره، أو كذبتم بطريقه؛ حيث أعرضتم عنها، واستعجلتم عقابه في الدنيا، ‏{‏ما عندي ما تستعجلون به‏}‏ من العذاب أو المعجزات، ‏{‏إن الحكم إلا لله‏}‏ في تعجيل العذاب وتأخيره، أو في إظهار الآيات وعدم إظهارها، ‏{‏يقَصُّ‏}‏ القصص ‏{‏الحق‏}‏ وهو القرآن، أي‏:‏ ينزله عليّ لأنذركم به، أو يقضي القضاء الحق من تعجيل ما يعجل وتأخير ما يؤخر، فيحكم بيني وبينكم إن شاء، ‏{‏وهو خير الفاصلين‏}‏ أي‏:‏ القاضين‏.‏

‏{‏قل لو أن عندي‏}‏ أي‏:‏ في قدرتي وطوقي ‏{‏ما تستعجلون به‏}‏ من العذاب ‏{‏لقُضي الأمر بيني وبينكم‏}‏ أي‏:‏ لأهلكتكم عاجلاً؛ غضبًا لربي، وانقطع ما بيني وبينكم، ولكن الأمر بيد خالقكم الذي هو عالم بأحوالكم، ‏{‏والله أعلم بالظالمين‏}‏ أي‏:‏ عالم بما ينبغي أن يؤخذ عاجلاً، وبمن ينبغي أن يمهل، فمفاتح الغيب كلها عنده، كما سيذكره‏.‏

الإشارة‏:‏ قل، أيها العارف، المتوجه إلى الله، المنقطع كليته إلى مولاه، الغائب عن كل ما سواه‏:‏ إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله؛ من حب الدنيا، ومن الرياسة والجاه‏.‏ قل‏:‏ لا أتبع أهواءكم؛ لأني قد اجتمعت أهوائي في محبوب واحد، حين وصلت إلى حضرته، وتنعمت بشهود طلعته، فانحصرت محبتي في محبوب واحد، وفي ذلك يقول القائل‏:‏

كَانَت لِقَلبيَ أهوَاءٌ مُفَرَّقَةٌ *** فَاستَجمَعَت مُذ رأتكَ العَينُ أهوائِي

فَصَارَ يَحسُدُنِي مَن كُنتُ أحسُدُهُ *** وَصِرتُ مَولَى الوَرَى مُذ صِرت مَولائِي

تَرَكتُ لِلنَّاسِ دنياهم ودِينَهُم *** شُغلاً بِذِكرك يَا دِينِي ودُنيَائِي

وقال آخر‏:‏

تَركتُ للنَّاسِ، ما تَهوَى نُفوسُهم *** مِن حُبِّ دُنيا ومن عزِّ ومن جَاهِ

كذَاكَ تَركُ المقَامَات هُذَا وَهُنَا *** والقَصدُ غَيبَتُنَا عَمَّا سِوَى اللهِ

‏{‏قل إني على بينة من ربي‏}‏ أي‏:‏ بصيرة نافذة في مشاهدة أسرار ربي، فقد كذَّبتم بخصوصيتي، وطلبتم دلائل ولايتي، ما عندي ما تستعجلون به من الكرامات، ‏{‏إن الحكم إلا لله‏}‏، يقضي القضاء الحق، فيُظهر ما يشاء، ويُخفي مَن يشاء، ‏{‏وهو خير الفاصلين‏}‏ أي‏:‏ الحاكمين بين عبادة، قل لو أن عندي ما تستعجلون به؛ من نفوذ دعوتي في إظهار كرامتي، لقٌضي الأمر بيني وبينكم، والله أعلم بالمكذبين بأوليائه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

‏{‏وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ‏(‏59‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏مفَاتِح‏}‏‏:‏ جمعِ مفتح بكسر الميم مقصور، من مفتاح، وهو آلة الفتح، وهو مستعار لما يتوصل به إلى الغيوب، أو يفتحها، وهو المخزن‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وعنده مفاتح الغيب‏}‏ أي‏:‏ علم المغيبات، لا يعلمها غيره، إلا من ارتضى من خلقه، أو‏:‏ عنده خزائن علم الغيوب لا يعلمها غيره، والمراد بها الخمسة التي ذكرها الحق تعالى في سورة لقمان‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ‏}‏ ‏[‏لقمَان‏:‏ 34‏]‏ الآية؛ لأنها تعم جميع الأشياء، وسيأتي الكلام عليها إن شاء الله، فقد اختص سبحانه بعلم المغيبات ‏{‏لا يعلمها إلا هو‏}‏؛ فيعلم أوقاتها وما في تعجيلها وتأخيرها من الحِكَم، فيظهرها على ما اقتضته حكمته وتعلقت به مشيئته، وفيه دليل على أن الله تعالى يعلم الأشياء قبل وقوعها، وهو أمر ضروري‏.‏

‏{‏ويعلم ما في البر والبحر‏}‏ من عجائب المصنوعات وضروب المخلوقات؛ على اختلاف أجناسها وأنواعها، حيها وجامدها، فيعلم عددها وصفتها وأماكنها، ‏{‏وما تسقط من ورقة إلا يعلمها‏}‏ كيف تسقط، على ظهرها أو بطنها، وما يصل منها إلى الأرض وما يتعلق في الهواء، وهو مبالغة في إحاطة علمه بالجزئيات، كما تعلق بالكليات، ‏{‏ولا حبة في ظلمات الأرض‏}‏ من حبوب الثمار وبذور سائر النبات، والرمل، وغير ذلك من دقائق الأشياء وجلائلها، ‏{‏ولا رطب ولا يابس‏}‏ من الأشجار والنبات والحيوانات التي فيها الحياة والتي فارقتها، فهي من جنس اليابس، ‏{‏إلا في كتاب مبين‏}‏ أي‏:‏ علم الله القديم، أو اللوح المحفوظ، فعلى الأول، يكون بدلاً من الاستثناء الأول، بدل الكل من الكل، وعلى الثاني‏:‏ بدل اشتمال‏.‏ وقرئت بالرفع، على العطف على محل‏:‏ ‏{‏من ورقة‏}‏، أو على الابتداء، والخبر‏:‏ ‏{‏في كتاب مبين‏}‏‏.‏

الإشارة‏:‏ مفاتح الغيب هي أسرار الذات وأنوار الصفات، أو أنوار الملكوت وأسرار الجبروت، لا يعلمها إلا هو، فما دام العبد محجوبًا بوجود نفسه، محصورًا في هيكل ذاته، لا يذوق شيئًا من هذه الغيوب، فإذا أراد الحق جل جلاله أن يفتح على عبده شيئًا من هذه الغيوب، غطى وصف عبده بوصفه، ونعته بنعته، فغيَّبه عن وجود نفسه، فصار هو سمعه وبصره وقلبه وروحه، فيعلم تلك الأسرار به، لا بنفسه، فما علم تلك الأسرار غيره، ويحيط بأسرار الأشياء كلها، برها وبحرها؛ لأنه يصير خليفة الله في أرضه‏.‏ وقال الورتجبي‏:‏ غَيبُه ذاته القدسية، وهي خزانة أسرار الأزل والأباد، ومفاتحها‏:‏ صفاتها الأزلية، لا يعلم صفاته وذاته بالحقيقة إلا هو تعالى بنفسه، فَنَفى الغير عن البين، حيث لا حيث ولا بين‏.‏ انظر تمامه فيه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏60- 62‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏60‏)‏ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ ‏(‏61‏)‏ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ‏(‏62‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وهو الذي يتوفاكم‏}‏ أي‏:‏ يقبض أرواحكم ‏{‏بالليل‏}‏ إذ نمتم، وفي ذلك اعتبار واستدلال على البعث الأخروي، ‏{‏ويعلم ما جَرَحتم‏}‏ أي‏:‏ ما كسبتم من الأعمال ‏{‏بالنهار‏}‏، وخص الليل بالنوم والنهار بالكسب جريًا على المعتاد، ‏{‏ثم إذا‏}‏ توفاكم بالليل ‏{‏يبعثكم فيه‏}‏ أي‏:‏ في النهار، ‏{‏ليُقضى أجل مُسمى‏}‏ أي‏:‏ ليبلغ المتيقظ آخر أجله المسمى له في الدنيا، وهو أجل الموت، ‏{‏ثم إليه مرجعكم‏}‏ بالموت ‏{‏ثم يُنبئُكم بما كنتم تعملون‏}‏ فيعاتب المسيء ويكرم المحسن‏.‏

رُوِي‏:‏ أن العبد إذا قُبض عَرجت الملائكة برُوحه إلى سِدرة المنتهَى، فيُوقف به هناك، فيُعاتبه الحق تعالى على ما فرط منه حتى يَرفَضَّ عرقًا، ثم يقول له‏:‏ قد غفرتُ لك، اذهبوا به ليرى مقعدَه في الجنة، ثم يُردّ إلى السؤال‏.‏

‏{‏وهو القاهر فوق عباده‏}‏ بالقهر والغلبة، ‏{‏ويُرسل عليكم حفظةً‏}‏؛ ملائكة تحفظ أعمالكم، وهم الكرام الكاتبون، والحكمة فيه‏:‏ أن العبد إذا علم أن أعماله تكتب عليه وتُعرض على رؤوس الأشهاد، كان أزجر له عن المعاصي، ثم لا تزال الملائكة تكتب عليه أعماله ‏{‏حتى إذا جاء أحدَكُم الموتُ توفتهُ رسُلنا‏}‏ أي‏:‏ ملك الموت وأعوانه، ‏{‏وهم لا يٌفرطون‏}‏ بالتواني التأخير، ولا يجازون ما حد لهم بالتقديم والتأخير‏.‏ ‏{‏ثم رُدّوا إلى الله‏}‏ أي‏:‏ إلى حُكمه وجزائه، أو مشاهدته وقربه، ‏{‏مولاهم‏}‏ الذي يتولى أمرهم، ‏{‏الحقِّ‏}‏ أي‏:‏ المتحقق وجوده، وما سواه باطل، ‏{‏ألا له الحُكم‏}‏ يومئذٍ، لا حكم لغيره فيه، ‏{‏وهو أسرع الحاسبين‏}‏؛ يحاسب الخلائق في مقدار حلب شاة، لا يشغله حساب عن حساب، ولا شأن عن شأن، سبحانه لا إله إلا هو‏.‏

الإشارة‏:‏ وهو الذي يتوفاكم، أي‏:‏ يخلصكم بليل القبض، ويعلم ما كسبتم في نهار البسط، ثم يبعثكم من ليل القبض إلى نهار البسط، وهكذا؛ ليقضى أجل مسمى للإقامة فيهما، ثم إليه مرجعكم بالخروج عنهما؛ لتكونوا لله لا شيء دونه، وفي الحكم‏:‏ «بسطك كي لا يبقيك مع القبض، وقبضك كي لا يتركك مع البسط، وأخرجك عنهما، كي لا تكون لشيء دونه»‏.‏

وقال فارس رضي الله عنه‏:‏ القبض أولاً ثم البسط، ثم لا قبض ولا بسط؛ لأن القبض والبسط يقعان في الوجود؛ أي؛ في وجود النفس، وأما مع الفناء والبقاء فلا‏.‏ ه‏.‏ أي‏:‏ فلا قبض ولا بسط؛ لأن العارف الواصل مقبوض في بسطه، مبسوط في قبضه، لا تؤثر فيه هواجم الأحوال؛ لأنه مالك غير مملوك‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

ومن علم أن الله قاهر فوق عباده، انسلخ من حوله وقوته، وانعزل عن تدبيره واختياره؛ لإحاطة القهرية به، ومن تحقق عموم قهاريته تعالى، علم أنه لا حجاب حسي بينه وبينه، إذ لو حجبه شيء لستره ما حجبه، ولو كان له ساتر لكان لوجوده حاصر، وكل حاصر لشيء فهو له قاهر، ‏(‏وهو القاهر فوق عباده‏)‏، وإنما المحجوب‏:‏ العبد عن ربه بوجود وهمه وجهله، ومن تحقق أن الملائكة تحفظ أعماله استحيا من ارتكاب القبائح، لئلا تعرض على رؤوس الأشهاد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏63- 64‏]‏

‏{‏قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ‏(‏63‏)‏ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ ‏(‏64‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏قل من ينجيكم‏}‏ أي‏:‏ يُخلصكم ‏{‏من ظلمات البر والبحر‏}‏ أي‏:‏ من شدائدهما، استعير الظلمة للشدة، لمشاركتهما في الهول، فقيل لليوم الشديد‏:‏ يوم مظلم، أو‏:‏ من الخسف في البر والغرق في البحر، حال كونكم ‏{‏تدعونه تضرعًا وخُفية‏}‏ أي‏:‏ جهرًا وسرًا، قائلين‏:‏ ‏{‏لئن أنجيتنا من هذه‏}‏ الظلمة، أي‏:‏ الشدة، ‏{‏لنكونن من الشاكرين‏}‏ بإقرارنا بوحدانيتك، ‏{‏قل الله يُنجيكم منها ومن كل كرب‏}‏ أي‏:‏ غم سواها، ‏{‏ثم أنتم تُشركون‏}‏ أي‏:‏ تعودون إلى الشرك ولا تُوفون بالعهد، وهذا شأن النفس اللئيمة؛ في وقت الشدة ترجع إلى الحق وتوحده، وفي وقت السعة تنساه وتشرك معه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْاْ رَبَّهُم مًّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَآ أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏الرُّوم‏:‏ 33‏]‏‏.‏

الإشارة‏:‏ ظلمات البر هو ما يخوض القلب ويظلمه؛ من أجل ما يدخل عليه من حس الظاهر، الذي هو بر الشريعة، وظلمات البحر هو ما يدهش الروح ويحيرها من أجل ما يدهمها من علم الحقائق، عند الاستشراف عليها، أو ما يشكل عليها في علم التوحيد، فإذا رجع إلى الله فيهما، وتمسك بشيخ كامل في علم الحقائق أنجاه الله منهما، فإذا شكر الله وأفرد النعمة إليه دامت نجاته، وإن التفت إلى غيره خيف عليه العوُد إلى ما كان عليه‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏65- 67‏]‏

‏{‏قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ‏(‏65‏)‏ وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ‏(‏66‏)‏ لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ‏(‏67‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ يا محمد‏:‏ ‏{‏هو القادر على أن يبعث عليكم عذابًا من فوقكم‏}‏، كما فعل بقوم نوح ولوط وأصحاب الفيل، ‏{‏أو من تحت أرجُلِكُم‏}‏، كما أغرق فرعون وخسف بقارون، وقيل‏:‏ من فوقكم‏:‏ بتسليط أكابركم وحكامكم عليكم، ومن تحت أرجلكم‏:‏ سفلتكم وعبيدكم، ‏{‏أو يَلبسكم‏}‏ أي‏:‏ يَخلطكم ‏{‏شيعًا‏}‏ أي‏:‏ فِرَقًا متحزبين على أهواء شتى، فينشب القتال بينكم، ‏{‏ويُذيق بعضكم بأس بعض‏}‏، بقتال بعضكم بعضًا‏.‏

وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنه لما نزلت‏:‏ ‏{‏أن يبعث عليكم عذابًا من فوقكم‏}‏ قال‏:‏ «أعُوذُ بِوَجهِكَ»، ولما نزلت‏:‏ ‏{‏أو من تحت أرجلكم‏}‏ قال أيضًا‏:‏ «أعُوذُ بِوَجهِكَ» ولما نزلت‏:‏ ‏{‏أو يلبسكم شيعًا‏}‏ قال‏:‏ «هذَا أهوَنُ»، فقضى الله على هذه الأمة بالقتل والقتال إلى يوم القيامة، نعوذ بالله من الفتن‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏انظر كيف نُصرف الآيات‏}‏ أي‏:‏ نُقبلها بورود الوعد والوعيد ‏{‏لعلهم يفقهون‏}‏ ما نزل إليهم‏.‏

‏{‏وكذَّب به قومك‏}‏ أي‏:‏ بالعذاب، أو بالقرآن، ‏{‏وهو الحق‏}‏ أي‏:‏ الواقع لا محالة، أو الصدق في أخباره وأحكامه، ‏{‏قل لست عليكم بوكيل‏}‏ أي‏:‏ وكُل إليَّ أمركم فأمنعكم من التكذيب، أو أجازيكم، إنما أنا منذر، والله هو الحفيظ‏.‏ ‏{‏لكل نبأ‏}‏ أي‏:‏ خبرٍ بعذاب أو إيعاد به، ‏{‏مستقر‏}‏ أي‏:‏ وقت استقراره ووقوعه، يعرف عند انقضائه صدقة من كذبه، ‏{‏وسوف تعلمون‏}‏ ما يحل بكم عند وقوعه في الدنيا والآخرة‏.‏

الإشارة‏:‏ الخطاب للمريدين السائرين، أو الواصلين‏.‏ خوفهم بأن يحول بينهم وبين شهود عظمته الفوقية والتحتية، فينزل عليهم عذاب الفرق من جهة العلو أو السُّفل، فلا يشهدون إلا الأكوان محيطة بهم، أو يخالف بين وجوههم ويلبسهم شيعًا، فإذا تفرقت الوجوه تفرقت القلوب غالبًا، والعياذ بالله، لأن الفتح والنصر مرتب على الجمع، قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ‏}‏ ‏[‏سَبَأ‏:‏ 26‏]‏‏.‏ قال القشيري‏:‏ فيه إشارة إلى أن الجمع مُؤذِن بالفتح‏.‏ ه‏.‏ فينبغي للمريد أن يشهد الصفاء في الجميع، ويتودد إلى الجميع، حتى لا يبقى معه فرق‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏68- 70‏]‏

‏{‏وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏68‏)‏ وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ‏(‏69‏)‏ وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ‏(‏70‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشيطان فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذكرى مَعَ القوم الظالمين وَمَا عَلَى الذين يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ ولكن ذكرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ وَذَرِ الَّذِينَ اتخذوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏ولكن ذكرى‏}‏‏:‏ مفعول بمحذوف، أي‏:‏ يذكرونهم ذكرى، أو مبتدأ، أي‏:‏ عليهم ذِكرَى‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وإذا رأيتَ الذين يخوضون في آياتنا‏}‏ أي‏:‏ القرآن؛ بالتكذيب والاستهزاء بها والطعن فيها ‏{‏فأعرض عنهم‏}‏ ولا تجالسهم، بل قُم عنهم ‏{‏حتى يخوضوا في حديث غيره‏}‏ أي‏:‏ غير القرآن، ‏{‏وإما يُنسينكَ الشيطانُ‏}‏ النهيَ عن مجالستهم، وجلست نسيانًا، ‏{‏فلا تقعد بعد الذكرى‏}‏ أي‏:‏ بعد أن تذكر النهي، ‏{‏مع القوم الظالمين‏}‏، ونسبة النسيان إلى الشيطان أدبًا مع الحضرة، ‏{‏قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللهِ‏}‏ ‏[‏النِّساء‏:‏ 78‏]‏، ووضع المظهر موضع المضمر، أي‏:‏ معهم، للدلالة على أنهم ظلموا بوضع التكذيب والاستهزاء موضع التصديق والتعظيم‏.‏

‏{‏وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء‏}‏ أي‏:‏ ما على المتقين الذين يجالسونهم شيء من حسابهم، بل عقابهم على الخوض خاصٌّ بهم، ‏{‏ولكن‏}‏ عليهم ‏{‏ذِكرَى‏}‏ أي‏:‏ تذكيرهم ووعظهم ومنعهم من الخوض إن قدروا، وكراهية ذلك إن لم يقدروا، فيعظونهم ‏{‏لعلهم يتقون‏}‏، فَيجتَنِبُون ذلك الخوض؛ حياء أو كراهية مُساءتهم، وإنما أبيح للمؤمنين القعود مع الكفار الخائضين ومخالطتهم؛ لأن ذلك يشق عليهم، إذ لا بد لهم من مخالطتهم في طلب المعاش وفي الطواف، وغير ذلك بخلافه عليه الصلاة والسلام؛ لأن الله أغناه عنهم به، فنهاه عن مخالطة أهل الخوض مطلقًا‏.‏

ثم قال له‏:‏ ‏{‏وذَرِ الذين اتخذوا دينهم لعبًا ولهوًا‏}‏ أي‏:‏ بنوا أمر دينهم على التشهِّي، وتدَّينوا بما لا يعود عليهم بنفع، عاجلاً وآجلاً، كعبادة الأصنام واتخاذ البحائر والسوائب، أو اتخذوا دينهم الذي كلفوا بالدخول فيه لعبًا ولهوًا، حيث سخروا به، أي‏:‏ أعرض عنهم ولا تبال بأفعالهم وأقوالهم‏.‏ ومن جعله منسوخًا بآية السيف حمله على الأمر بالكف عنهم، وترك التعرض لهم، ‏{‏وغرتهم الحياةُ الدينا‏}‏ وزخرفها، حتى نسُوا البعث وأنكروه، والعياذ بالله‏.‏

الإشارة‏:‏ قد تقدم مرارًا التحذير من مخالطة أهل الخوض وصحبة العوام، وكل من ليس من جنس أهل النسبة، فإن ألجأه الحال إلى صحبتهم فليُذكرهم، ويعظهم، ويُنهضهم إلى الله بمقاله أو حاله ما استطاع‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

ثم أمر نبيه عليه الصلاة والسلام بالتذكير، فقال‏:‏

‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ الله وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَآ أولئك الذين أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏تُبسل‏}‏‏:‏ تُحبس وتُسلم للهلكة، وفي البخاري‏:‏ «تُسبلَ‏:‏ تُفضح، أُبلسوا‏:‏ فُضِحُوا وأُسلموا»‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ لنبيه عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏{‏وذكِّر‏}‏ بالقرآن الناس؛ مخافة ‏{‏أن تُسبل نفس بما كسبت‏}‏ أي‏:‏ لئلا تُحبس كل نفس وتُرتهن بما كسبت أو تُسلم للهلكة، أو لئلا تفضح على رؤوس الأشهاد بما كسبت، ‏{‏ليس لها من دون الله وليّ ولا شفيع‏}‏ يدفع عنها العذاب، ‏{‏وإن تَعدل كل عَدلٍ‏}‏ أي‏:‏ وإن تفد كل فداء ‏{‏لا يُؤخذ منها‏}‏ أي‏:‏ لا يُقبل منها‏.‏

‏{‏أولئك الذين أُبسلوا بما كسبوا‏}‏ أي‏:‏ أُسلموا للعذاب بسبب أعمالهم القبيحة وعقائدهم الزائغة، أو افتضحوا بما كسبوا ‏{‏لهم شراب من حميم‏}‏ وهو الماء الحار، ‏{‏وعذاب أليم بما كانوا يكفرون‏}‏، والمعنى‏:‏ هم بين ماء مغَلى يتَجَرجر في بطونهم، ونار تُشعل بأبدانهم بسبب كفرهم، والعياذ بالله‏.‏

الإشارة‏:‏ لا ينبغي للشيخ أو الواعظ أن يمل من التذكير، ولو رأى من أصحابه غاية الصفاء، ولا ينبغي للمريد أن يمل من التصفية والتشمير، ولو بلغ من تصفية نفسه ما بلغ، أو أَظهرت له من الاستقامة ما أظهرت، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها‏}‏‏.‏

قال أبو حفص النيسابوري رضي الله عنه‏:‏ من لم يتَّهم نفسه على دوام الأوقات، ولم يخالفها في جميع الأحوال، ولم يجرها إلى مكروهها في سائر أيامه، كان مغرورًا، ومن نظر إليها باستحسان شيء منها فقد أهلكها، وكيف يصح لعاقل الرضا عن نفسه؛ والكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم، يقول‏:‏ ‏{‏وَمَآ أُبَرِّئُ نَفْسِى إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 53‏]‏‏.‏ وقال أيضًا‏:‏ منذ أربعين سنة اعتقادي في نفسي أن الله ينظر إليَّ نظر السخط، وأعمالي تدل على ذلك‏.‏ وقال الجنيد رضي الله عنه‏:‏ لا تسكن إلى نفسك، وإن دامت طاعتها لك في طاعة ربك‏.‏ وقال أبو سليمان الداراني رضي الله عنه‏:‏ ‏(‏ما رضيت عن نفسي طرفة عين‏)‏‏.‏ إلى غير ذلك من مقالاتهم التي تدل على عدم الرضى عن النفس وعدم القناعة منها بالتصفية التي آظهرت‏.‏

ويُحكى عن القطب بن مشيش؛ أنه لما بلغ في تلاوته هذه الآية، تواجد وأخذه حالٌ عظيم اقتطعه عن حسه، حتى كان يتمايل، فيميل الجبل معه يمينًا وشمالاً‏.‏ نفعنا الله بذكرهم آمين‏.‏

فإن قلت‏:‏ العارف لم تبق له نفس يتهمها؛ لفنائه في شهوده وانطوائه في وجوده‏؟‏ قلت‏:‏ العارف الكامل هو الذي لا يحجبه جمعه عن فرقة، ولا فرقة عن جمعه، فإذا رجع إلى شهود فرقه، رأى نفسه عبدًا متصفًا بنقائص العبودية التي لا نهاية لها، ولذلك قالوا‏:‏ للنفس من النقائص ما لله من الكمالات‏.‏ فلو تطهرت كل التطهير لم يقبل منها، وإذا نظر إلى نعت جمعه رأى نفسه مجموعًا في الحضرة، متصفًا بالكمالات التي لا نهاية لها، فيغيب عن شهود عبوديته في عظمة ربوبيته، لكنه لا يحجب بجمعه عن فرقه؛ لكماله، وإلى هذا المعنى أشار في الحكم بقوله‏:‏ لا نهاية لمذامك إن أرجعك إليك، ولا تفرغ مدائحك إن أظهر جوده عليك‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏71- 73‏]‏

‏{‏قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏71‏)‏ وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ‏(‏72‏)‏ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ‏(‏73‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏ونُردُّ‏}‏‏:‏ عطف على ‏{‏ندعو‏}‏ والهمزة للإنكار، والرد على العقب‏:‏ الرجوع إلى وراء، لعلَّةٍ في المشي، واستعير للمعاني، و‏{‏كالذي استهوته‏}‏‏:‏ الكاف في موضع نصب على الحال من الضمير في ‏{‏نُردّ‏}‏ أي‏:‏ كيف نرجع مشبهين بمن استهوته الشياطين، أو نعت لمصدر محذوف، أي‏:‏ ردًا كرد الذي‏.‏‏.‏‏.‏ الخ‏.‏ واستهوى‏:‏ استفعل، من هَوَى في الأرض إذا ذهب، وقال الفارسي‏:‏ استهوى بمعنى أهوى، مثل استزل بمعنى أزل، و‏{‏حيران‏}‏‏:‏ حال من مفعول استهوى‏.‏

و ‏{‏أن أقيموا‏}‏‏:‏ عطف على ‏{‏لنُسلم‏}‏، أو ‏{‏أمرنا‏}‏‏.‏ ‏{‏قوله الحق‏}‏‏:‏ مبتدأ، و‏{‏يوم يقول‏}‏‏:‏ خبر مقدم، أي‏:‏ قوله الحق حاصل يوم يقول‏:‏ ‏{‏كن فيكون‏}‏، وفاعل ‏{‏يكون‏}‏‏:‏ ضمير فاعل كن، أي‏:‏ حين يقول للشيء‏:‏ كن فيكون ذلك الشيء، و‏{‏يوم ينفخ‏}‏‏:‏ ظرف لقوله‏:‏ ‏{‏الملك‏}‏، كقوله‏:‏ ‏{‏لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ‏}‏ ‏[‏غَافر‏:‏ 16‏]‏‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ لهم يا محمد ‏{‏أندعو من دون الله‏}‏ أي‏:‏ نعبد ‏{‏ما لا ينفعنا ولا يضرنا‏}‏ من الأصنام الجامدة، ‏{‏ونُرد على أعقابنا‏}‏ أي‏:‏ نرجع إلى الشرك ‏{‏بعد إذ هدانا الله‏}‏ وأنقذنا، ورزقنا الإسلام، وهذا على الصحابة‏.‏ وأما النبي صلى الله عليه وسلم فلم يتقدم له شرك؛ لعصمته، أي‏:‏ كيف نرد على أعقابنا ردًا ‏{‏كالذي استهوته الشياطين‏}‏، أي‏:‏ أضلته مَرَدَةُ الجن عن الطريق المستقيم، فذهب ‏{‏في الأرض حيران‏}‏؛ متحيرًا ضالاً عن الطريق، ‏{‏له أصحاب‏}‏ أي‏:‏ رفقة ‏{‏يدعونه إلى الهدى‏}‏ أي‏:‏ إلى الطريق المستقيم، يقولون له‏:‏ ‏{‏ائتنا‏}‏ وكن معنا لئلا تتلف‏.‏ وهو مثال لمن ترك الإسلام وضل عنه‏.‏

‏{‏قل‏}‏ لهم‏:‏ ‏{‏إن هدى الله‏}‏، وهو الإسلام، ‏{‏هو الهدى‏}‏ وحده، وما عداه ضلال‏.‏ ‏{‏و‏}‏ قد ‏{‏أمرنا لنسلم لرب العالمين‏}‏ نكون على الجادة من الهدى، ‏{‏و‏}‏ أُمرنا ‏{‏أن أقيموا الصلاة واتقوه‏}‏‏:‏ أي‏:‏ أُمرنا بإقامة الصلاة والتقوى، رُوِي أن عبد الرحمن بن أبي بكر دعا أباه إلى عبادة الأوثان، فنزلت، وعلى هذا أُمِر الرسول بهذا القول؛ إجابة عن الصديق تعظيمًا لشأنه، وإظهارًا للاتحاد الذي كان بينهما‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏ وقال ابن جزي‏:‏ ويبُطل هذا قول عائشة‏:‏ ما نزل في آل أبي بكر شيء من القرآن إلا برائتي‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ ليس بحجة؛ لصغر سنِّها وقت نزول الآية بمكة، والإسلام يمحو ما قبله‏.‏ ثم قال جل جلاله‏:‏ ‏{‏وهو الذي إليه تحشرون‏}‏ يوم القيامة؛ فيظهر من تبع الحق من الباطل‏.‏

‏{‏وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق‏}‏‏.‏ أي‏:‏ قائمًا بالحق والحكمة، فهو أحق بالعبادة وحده، ‏{‏ويوم يقول كن فيكون قوله الحق‏}‏ أي‏:‏ قوله العدل حاصل يوم يقول للبعث والحشر‏:‏ كن فيكون، ‏{‏وله الملك يوم ينفخ في الصور‏}‏ أي‏:‏ انفرد الملك له يوم ينفخ في الصور فيقول‏:‏ لمن الملك اليوم‏؟‏ فلا يُجاب، فيقول‏:‏ لله الواحد القهار، ‏{‏عالم الغيب والشهادة‏}‏ أي‏:‏ هو عالم بما غاب وما ظهر، ‏{‏وهو الحكيم‏}‏ في صنعه، ‏{‏الخبير‏}‏ بأمر عباده‏.‏

الإشاره‏:‏ إذا توجه العبد إلى مولاه، وانقطع بكليته إلى الله، طالبًا منه معرفته ورضاه، قد يمتحن بشيء من شدائد الزمان؛ كالفاقة وإيذاء الخلق والأحزان، فيقال اختبارًا له‏:‏ تعلق في دفع ما نزل بك بشيء من السِّوى، فيجب عليه أن يقول‏:‏ ‏{‏أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونُردُّ على أعقابنا‏}‏ بالالفتات إلى غير ربنا، بعد إذ هدانا الله إلى توحيده ومعرفته، ونكون كالذي استهوته الشياطين في الأرض، حيران بالتفاته إلى غير الكريم المنان، ‏{‏قل إن هدى الله‏}‏ أي‏:‏ هدايته الخاصة، وهي الإنقطاع إليه وحده في الشدائد، ‏{‏هو الهدى‏}‏، وقد أُمرنا بالانقياد بكليتنا إلى ربنا، وأُمرنا إذا حزبنا شيء بإقامة الصلاة؛ لأنها مفتاح الفرج، وبالتقوى؛ لأنها سبب النصر؛ ‏{‏إنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا‏}‏، وآخر أمرنا الموت والحشر إلى ربنا، والاستراحة إلى الروح والريحان‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏74‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آَزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آَلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏74‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏آزر‏}‏‏:‏ عطف بيان، أو بدل من أبيه، ومنع من الصرف؛ للعلمية والعجمة‏.‏ وقرأ يعقوب بالضم على النداء، وقيل‏:‏ إن آزر اسم صنم؛ لأنه ثبت أن اسم أبي إبراهيم تارخ‏.‏ فعلى هذا يحتمل أن يكون لقب به؛ لملازمته له، وقيل‏:‏ هما عَلمَانِ له كإسرائيل ويعقوب‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏و‏}‏ أذكر ‏{‏إذ قال إبراهيم لأبيه آزر‏}‏، حين دعاه إلى التوحيد‏:‏ ‏{‏أتتخذ أصنامًا آلهة‏}‏ تعبدها من دون الله، وهي لا تنفع ولا تضر، ‏{‏إني أراك وقومك في ظلال مبين‏}‏‏:‏ بيِّن الضلالة، ظاهر الخطأ‏.‏

الإشارة‏:‏ كل من سكن إلى شيء دون الله، أو مال إليه بالعشق والمحبة، فهو صنم في حقه، فإن لم ينزع عن محبته، ولم يقلع عن السكون إليه، كان حجابًا بينه وبين شهود أسرار التوحيد‏.‏ وفي الحِكَم‏:‏ «ما أحببت شيئًا إلا وكنت عبدًا له، وهو لا يحب أن تكون لغيره عبدًا»‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «تَعِس عبدُ الدينار والدرهم»‏.‏‏.‏ أي‏:‏ خاب وخسر، فإذا اطلع الحق تعالى على قلب عبده فرآه مائلاً لغيره، حجب عنه أنوار قدسه، وفي ذلك يقول الششتري رضي الله عنه‏:‏

لِي حَبِيبٌ إنما هو غَيُور، *** يُطلُّ في القَلبِ كَطَيرٍ حَذُور، *** إذا رأى شَيئًا امتَنَع أن يَزُور

تفسير الآيات رقم ‏[‏75- 79‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ‏(‏75‏)‏ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ ‏(‏76‏)‏ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ‏(‏77‏)‏ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ‏(‏78‏)‏ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏79‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ المُلك‏:‏ ما ظهر في عالم الشهادة من المحسوسات، والملكوت‏:‏ ما غاب فيها من معاني أسرار الربوبية، والجبروت‏:‏ ما لم يدخل عالم التكوين من أسرار المعاني الأزلية‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وكذلك‏}‏ أي‏:‏ مثل ذلك التبصر الذي بَصَّرنا به إبراهيم حتى اهتدى للرد على أبيه، نُريه ‏{‏ملكوت السماوات والأرض‏}‏ أي‏:‏ نكشف له عن أسرار التوحيد فيهما، حتى يشاهد فيهما صانعهما، ولا يقف مع ظاهر حسهما، وإنما فعلنا له ذلك ‏{‏ليكون من الموقنين‏}‏ بمعرفتنا، عارفًا بأسرار قدسنا‏.‏

ولما كان أبوه وقومه يعبدون الأصنام والكواكب والقمر والشمس، أراد أن يرشدهم إلى التوحيد من طريق النظر والاستدلال؛ ‏{‏فلما جن عليه الليل‏}‏ أي‏:‏ ستره بظلامه، ‏{‏رأى كوكبًا‏}‏ وهو الزهرة أو المشتري، ‏{‏قال هذا ربي‏}‏ على سبيل التنزل إلى قول الخصم، وإن كان فاسدًا؛ فإن المستدل على فساد قول يحكيه على ما يقوله الخصم، ثم يَكرّ عليه بالفساد؛ لأن ذلك أدعى إلى الحق، وأقرب إلى رجوع الخصم، ‏{‏فلما أفل‏}‏ أي‏:‏ غاب، ‏{‏قال لا أحب الآفلين‏}‏؛ فضلاً عن عبادتهم؛ فإن التغير بالاستتار والانتقال يقتضي الإمكان والحدوث وينافي الألوهية‏.‏

‏{‏فلما رأى القمر بازغًا‏}‏‏:‏ متبدئًا في الطلوع، ‏{‏قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الظالمين‏}‏‏.‏ استعجزَ نفسه واستعان ربه في دَرك الحق، وأنه لا يهتدي إليه إلا بتوفيقه؛ إرشادًا لقومه‏.‏ وتنبيهًا لهم على أن القمر أيضًا؛ لتغيُّر حاله، لا يَصلح للألوهية، وأن من اتخذه إلهًا، فهو ضالٌّ‏.‏

‏{‏فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي‏}‏، إنما ذكَّر الإشارة لتذكير الخبر، وصيانةً للرب عن شبهة التأنيث ‏{‏هذا أكبر‏}‏ لكبر النور وسطوعه أكثر، ‏{‏فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون‏}‏ من الأجرام المحدثة المحسوسة، المحتاجة إلى محدث يحدثها، ومخصص يخصصها‏.‏

ولما تبرأ من عبادتها توجه إلى موجدها ومبدعها، فقال‏:‏ ‏{‏إني وجهت وجهي للذي فطر‏}‏ أي‏:‏ أبدع ‏{‏السماوات والأرض‏}‏ حال كوني ‏{‏حنيفًا‏}‏ أي‏:‏ مائلاً عن دينكم ‏{‏وما أنا من المشركين‏}‏ مثلكم‏.‏ وإنما احتج بالأفول دون البزوغ، مع أنه تغير؛ لأن الأفول أظهر في الدلالة؛ لأنه انتقال مع اختفاء واحتجاب‏.‏ ولأنه رأى الكوكب الذي يعبدونه في وسط السماء حين حاول الاستدلال‏.‏ وقيل‏:‏ إن هذا الاستدلال والاحتجاج كان في حال طفولته قبل التكليف‏.‏ فقد رُوِي أنه لما ولدته أمه في غار، خوفًا من نمرود؛ إذ كان يقتل الأطفال؛ لأن المنجمين أخبروه أن هلاكه على يد صبي يُولد في هذا العصر، فكان يستدل بما رأى على توحيد ربه، وهو في الغار، وهذا ضعيف لأن قوله‏:‏ ‏{‏إني بريء مما تشركون‏}‏ يقتضي المحاججة والمخاصمة لقومه‏.‏

وقوله عليه السلام‏:‏ ‏{‏هذا ربي‏}‏ مع قوله‏:‏

‏{‏إِنّي سَقِيمٌ‏}‏ ‏[‏الصَّافات‏:‏ 89‏]‏، و‏{‏فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 63‏]‏، ليس بكذب؛ للعصمة، وإنما هو تورية‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «ليس بكاذبٍ من كاذَب ظالمًا، أو دفع ضررًا، أو رعى حقًا، أو حفظ قلبًا» وفي رواية أخرى‏:‏ «ليس بكاذب، من قال خيرًا أو نواه» وأما اعتذاره في حديث الشفاعة؛ فلهول المطلع، فيقع الحذر من أدنى شيء‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ لمَّا كوشف إبراهيم بعالم الملكوت، رأى الله في الأشياء كلها، كما ورد في بعض الأثر‏:‏ ‏(‏ما رأيت شيئًا إلا رأيت الله فيه‏)‏‏.‏ وإنما قال‏:‏ ‏{‏لا أحب الآفلين‏}‏؛ حذرًا من الوقوف مع الحس دون شهود المعنى، إذ بحر المعاني متصل دائم ليس فيه تغيير ولا انتقال‏.‏ وإنما تتغير الأواني دون المعاني، فشمس المعاني مشرقة على الدوام ليس لها مغيب ولا تغير ولا انتقال، ولذلك قيل‏:‏

طَلَعت شَمسُ مَن أُحِبُ بلَيلٍ *** واستنَارَت فمَا تَلاها غُرُوبُ

إنَّ شَمسَ النَّهَارِ تَغرُبُ بالَّليلِ *** وشَمسُ القُلوبِ ليس لهَا مَغِيبُ

أي‏:‏ طلعت شمس نهارعرفانهم على ليل وجودهم، فامتحت ظلمة وجودهم في شهود محبوبهم، وفي الحِكَم‏:‏ «أنا الظواهر بأنوار آثاره، وأنار السرائر بأنوار أوصافه، لأجل ذلك أفَلَت أنوار الظواهر، ولم تأفل أنوار القلوب والسرائر»‏.‏

قال الجَوزِي‏:‏ لما بدا لإبراهيم نجم العلم، وطلع قمر التوحيد، وأشرقت شمس المعرفة قال‏:‏ ‏{‏إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ ه‏.‏ قيل‏:‏ لما نظر إبراهيم عليه السلام بعيون رأسه إلى نور النجم والشمس والقمر الحسي، نودي في سره‏:‏ يا إبراهيم، لا تنظر ببصرك إلى الجهة الحسية، وانظر ببصيرتك إلى الحقيقة المعنوية؛ لأن الوجود كله عين الأحدية، فافهم معاني الأسماء، ولا تقف مع جرم الأرض والسماء، فإن الوقوف مع الحس حجاب عن المعنى‏.‏ فقال إبراهيم‏:‏ ‏{‏إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفًا وما أنا من المشركين‏}‏‏.‏ ه‏.‏ وفي ذلك يقول الششتري أيضًا‏:‏

لا تنظُر إلَى الأوَاني *** وَخُض بَحرَ المعَانِي *** لَعَّلَكَ تَرَانِي‏.‏‏.‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏80- 82‏]‏

‏{‏وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ ‏(‏80‏)‏ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏81‏)‏ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ‏(‏82‏)‏‏}‏

‏{‏وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَآجُّونّيِ فيِ اللهِ وقد هَدَآنِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وحاجه قومه‏}‏ أي‏:‏ خاصموه في التوحيد، فقال لهم‏:‏ ‏{‏أتحاجُّوني في الله‏}‏ أي‏:‏ في وحدانيته، أو في الإيمان به، وقد هداني إلى توحيده وأرشدني إلى معرفته، فلا ألتفت إلى غيره، ولا أعبأ بمن خاصمني فيه، والأصل‏:‏ تحاجونني، فحذف نافع وابن عامر نون الرفع، وأبقى نون الوقاية، وقيل‏:‏ العكس، وأدغم الباقون أحدى النونين في الأخرى‏.‏

الإشارة‏:‏ مخاصمة العموم لأهل الخصوصية سُنَّة ماضية؛ ‏{‏وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 62‏]‏؛ لأنَّ من أنكر شيئًا عاداه، فأهل الخصوصية يَعذرون من أنكر عليهم؛ لأن ذلك مبلغهم من العلم، والعامة لا يعذرون أهل الخصوصية؛ لخروجهم عن بلادهم؛ فلا يعرفون ما هم فيه‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

ولما خاصموا إبراهيم عليه السلام فلم يلتفت إليهم، خوفوه بأصنامهم، فقال لهم‏:‏

‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الفريقين أَحَقُّ بالأمن إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ الذين آمَنُواْ وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أولئك لَهُمُ الأمن وَهُمْ مُّهْتَدُونَ‏}‏

قلت‏:‏ الاستثناء في قوله‏:‏ ‏{‏إلا أن يشاء‏}‏‏:‏ منقطع‏.‏ قاله ابن جزي‏.‏ وظاهر كلام البيضاوي‏:‏ أنه متصل، وهو المتبادر، أي‏:‏ ولا أخاف ما تشركون في حال من الأحوال إلا أن يشاء ربي أن يصيبني بمكروه من جهتها؛ استدراجًا لكم، وفتنة‏.‏ وقال الواحدي‏:‏ لا أخاف إلا مشيئة ربي أن يعذبني‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ حاكيًا عن خليله إبراهيم‏:‏ ‏{‏ولا أخاف ما تُشركون به‏}‏ أي‏:‏ لا أخاف معبوداتكم أن تصيبني بشيء؛ لأنها جوامد لا تضر ولا تنفع، ‏{‏إلا أن يشاء ربي شيئًا‏}‏ يصيبني بقدَره وقضائه، فإنه يصيبني لا محالة، لا بسببها، ‏{‏وَسِعَ ربي كل شيء علمًا‏}‏، كأنه علَّة الاستثناء، أي‏:‏ لا أخاف إلا ما سبق في مشيئة الله، لأنه أحاط بكل شيء علمًا، فلا يبعد أن يكون في علمه وقدره أن يحيق بي مكروه من جهتها، ‏{‏أفلا تتذكرون‏}‏ فتُمَيزوا بين الصحيح والفاسد، والقادر والعاجز‏؟‏‏.‏

‏{‏وكيف أخافُ ما أشركتم‏}‏ وهو جامد عاجز لا يتعلق به ضرر ولا نفع‏؟‏ ‏{‏ولا تخافون أنكم أشركتم بالله‏}‏ وهو أحق أن يُخاف منه كل الخوف، لأنه القادر على الانتقام ممن أشرك معه غيره، وسوَّى بينه وبين مصنوع عاجز، لا يضر ولا ينفع، فأنتم أحق بالخوف؛ لأنكم ‏{‏أشركتم بالله ما لم يُنزِّل به عليكم سلطانًا‏}‏ أي‏:‏ لم يُنَزل بإشراكه كتابًا، ولم ينصب عليه دليلاً، ‏{‏فأيُّ الفريقين أحق بالأمن‏}‏‏:‏ أهل التوحيد والإيمان، أو أهل الشرك والعصيان‏؟‏ ‏{‏إن كنتم تعلمون‏}‏ ما يَحق أن يُخاف منه‏.‏

ثم أجاب عن الاستفهام‏:‏ الحق تعالى أو خليلهُ، فقال‏:‏ ‏{‏الذين آمنوا ولم يلبسوا‏}‏ أي‏:‏ يخلطوا ‏{‏إيمانهم بظلم‏}‏ أي‏:‏ بشرك، بل آمنوا بالله ولم يعبدوا معه غيره، ‏{‏أولئك لهم الأمن‏}‏ في الآخرة، ‏{‏وهم مهتدون‏}‏ في الدنيا‏.‏ أما الطائع فأمنه ظاهر، وأما المعاصي فيؤمن من الخلود وتحريم الجنة عليه‏.‏

ولمَّا نزلت الآية أشفق منها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا‏:‏ أينا لم يظلم نفسه‏؟‏ لأنهم فهموا عموم الظلم؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ليس ما تظنون، إنما هو ما قال لقمانُ لابنه‏:‏ ‏{‏يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللهِ إَنَّ الشِرْكِ لَظُلْمٌ‏}‏ ‏[‏لقمَان‏:‏ 13‏]‏» وقد كان المشركون يُقِرُّون بالصانع ويخلطون معه التصديق بربوية الأصنام، فقد آمنوا بوجود الصانع، ولكنهم لبسوا إيمانهم بالشرك، فلا آمن لهم ولا هداية‏.‏ وبهذا يرد جهالة الزمخشري في إنكاره الحديث الصحيح، ولو بقي الظلم على عمومه أي‏:‏ ولم يخلطوا إيمانه بمعصية لصَحَّ، ويكون المراد بالأمن أمنًا خاصًا وهداية خاصة، لكن ما قاله عليه الصلاة والسلام يُوقف عنده‏.‏

الإشارة‏:‏ العارف بالله، المتحقق بوحدانية الله، لا يسكن خوفْ الخلق في قلبه، ولا ينظر إلا إلى ما يبرُز من عند ربه، فإن وعدَه بالعصمة أو الحفظ لم يترك بذلك التضرعَ والالتجاء إلى ربه؛ لسعة علمه تعالى، وقد يكون ذلك متوقفًا على أسباب وشروط، أخفاها الحق تعالى إظهارًا لقهريته، ولذلك قال الخليل عليه السلام‏:‏ ‏{‏ولا أخاف ما تُشركون به إلا أن يشاء ربي شيئًا وسع ربي كل شيء علمًا‏}‏‏.‏ وقال سيدنا شعيب عليه السلام‏:‏ ‏{‏وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلآَّ أّن يَشَآءَ اللهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَىْءٍ عِلْمًا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 89‏]‏‏.‏ فالعارف لا يزول اضطرارهُ، ولا يكون مع غير الله قراره، وأما الأمن من التحويل والانقلاب، فاختلف فيه؛ فقال بعضهم‏:‏ يحصُل للوليِّ الأمنُ، إذا تحقق بمقام القُرب، وحصل له الفناء والبقاء، متمسكًا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِين آمَنُوا وَلَم يَلبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمن‏}‏‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ لا يحصل الأمن إلا للأنبياء عليهم السلام؛ للعصمة‏.‏

قال الورتجبي‏:‏ مقام الأمن لا يحصل لأحد، ما دام هو بوصف الحدثَية، وكيف يكون آمنًا منه وهو في رِقِّ العبودية ويعرف نفسه بها، ويعرف الحق بوصف القدم والبقاء وقهر الجبروت‏؟‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 99‏]‏‏.‏ فإذا رأى الله تعالى بوصف المحبة والعشق والشوق، وذاق طعم الدنو، واتّصف بصفات الحق، بدا له أوائل الأمن، لأن في صفة القدم لا يكون علة الخوف والرجاء، لأن هناك جنة القرب والوصال، وهم فيها آمنون من طوارق القهر، وهم مهتدون ما داموا متصفين بصفاته، وإن كانوا في تسامح من مناقشة الله بدقائق خفايا مكره‏.‏

ه‏.‏

فظاهر كلامه، أن المتحقق بمقام الفناء والبقاء، يحصل له الأمن من الشقاء، وكذلك قال أبو المواهب‏:‏ من رجع إلى البقاء أمِنَ من الشقاء‏.‏ وقال في نوادر الأصول‏:‏ مَن حَظُّه من أهل التقريب‏:‏ الجلال والجمال، وقد أقيم في الهيبة والأنس، قد غاب عن خوف العقوبة، ولكنه يخاف التحويل والهُوِي والسقوط، لِما رُكب في نفوس بني آدم من الشهوات، فهن أبدًا يُهوِين بصاحبهن عن الله إلى الإخلاد والبُطء، وإنما يسكن خوف التحول إذا خلَص إلى الفردانية وتعلَّق بالوحدانية؛ لتلاشِي الهوى منه والشهوة؛ بكشف الغطاء، ولا يذهب خوف ذلك بالكُلِّية عنه، وإن سكن؛ لبقاء خيال ذلك في حق غير الأنبياء‏.‏ وأما هُم فلم يبقَ لهم ظِلُّ الهوى، فبُشِّروا بالنجاة؛ فلَم تَغُرهم البُشرى؛ لأنهم لم يبق لهم نفوس، فتستبدّ وتجور إذا أمِنَت السقوط، ومَن بعَدَهم بَقِي لهم في نفوسهم شيء فمُنعوا البشرى، وأُبهم عليهم الأمر؛ صنعًا بهم؛ ونظرًا لهم، لتكون نفوسهم منقمعة بخوف الزوال‏.‏ ه‏.‏ هذا هو الأصل فافهمه‏.‏ ه‏.‏

وحاصل كلامه‏:‏ أن غير الأنبياء لا ينقطع عنه خوفُ التحويل، بل يسكن خوفه فقط، ولا يُبَشِّر بالأمن إلا الأنبياء، وهو الصواب، لبقاء قهر الربوبية فوق ضعف العبودية، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ‏}‏ ‏[‏الأنعَام‏:‏ 18‏]‏‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏83‏]‏

‏{‏وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ‏(‏83‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏على قومه‏}‏‏:‏ متعلق بحجتنا، إن جُعل خبرًا عن ‏{‏تلك‏}‏، وبمحذوف، إن جعل بدلَه، أي‏:‏ وتلك الحجة آتيناها إبراهيم حُجة على قومه‏.‏ ومن قرأ‏:‏ ‏{‏درجات‏}‏‏:‏ بالتنوين؛ فَمن نشاء‏:‏ مفعول، و‏{‏درجات‏}‏‏:‏ تمييز‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه‏}‏، إشارة إلى ما تقدم من استدلاله على وحدانيته تعالى بأُفول الكوكب والقمر والشمس، واحتجاجه بذلك على قومه، وإتيانه إياها‏:‏ وإرشاده لها وتعليمه إياها، قال تعالى‏:‏ ‏{‏نرفع درجات من نشاء‏}‏ في العلم والحكمة، أو في اليقين والمعرفة، ‏{‏إن ربك حكيم‏}‏ في رفعه وخفضه، ‏{‏عليم‏}‏ بحال من يرفعه ويخفضه، وبحال الاستعداد لذلك‏.‏

الإشارة‏:‏ رفعُ الدرجات في جنات الزخارف يكون بالعلم والعمل وزيادة الطاعات، ورفع الدرجات في جنة المعارف يكون بكبر اليقين‏.‏ والترقي في شهود رب العالمين‏.‏ وذلك بحسب التبتل والانقطاع، والتفرغ من شواغل الحس ودوام الأُنس‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏84- 90‏]‏

‏{‏وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏84‏)‏ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏85‏)‏ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏86‏)‏ وَمِنْ آَبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏87‏)‏ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏88‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ ‏(‏89‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ‏(‏90‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ الضمير في ‏{‏ذريته‏}‏ لإبراهيم عليه السلام؛ لأن الحديث عليه، أو لنوح عليه السلام؛ لذكر لوط، وليس من ذرية إبراهيم، لكنه ابن أخيه فكأنه ابنه، و‏{‏داود‏}‏‏:‏ عطف على ‏{‏نوح‏}‏؛ أي‏:‏ وهدينا من ذريته داود، و‏{‏من آبائهم‏}‏‏:‏ في موضع نصب، عطف على ‏{‏نوح‏}‏؛ أي وهدينا بعض آبائهم، والهاء في ‏{‏اقتده‏}‏‏:‏ للسكت، فتحذف في الوصل، ومن أثَبتها راعَى فيها خط المصحف، وكأنه وصلَ بنية الوقف‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ووهبنا‏}‏ لإبراهيم ‏{‏إسحاق‏}‏ ابنه، ‏{‏ويعقوب‏}‏ حفيده، ‏{‏كُلاًّ‏}‏ منهما ‏{‏هدينا‏}‏ ‏{‏ونوحًا‏}‏ قد هديناه ‏{‏من قبل‏}‏ إبراهيم، وعدَّه نعمة على إبراهيم؛ من حيث إنه أبوه، وشَرفُ الوالد يتعدَّى إلى الولَد، ‏{‏ومن ذريته‏}‏ أي‏:‏ إبراهيم، ‏{‏داود‏}‏ بن أيشا، ‏{‏وسليمان وأيوب‏}‏ بن قوص بن رَازَح بن عيصُو بن إسحاق ‏{‏ويوسف‏}‏ بن يعقوب بن إسحاق، ‏{‏وموسى وهارون‏}‏ ابنا عمران بن يصهر بن فاهث بن لاوي بن يعقوب‏.‏ ‏{‏وكذلك نجزي المحسنين‏}‏ أي‏:‏ نجزي المحسنين جزاء مثل ما جازينا إبراهيم؛ برفع درجاته وكثرة أولاده، وجعل النبوة فيهم‏.‏

‏{‏وزكريا‏}‏ بن آذنِ بن بَركيَا، من ذرية سليمان، ‏{‏ويحيى‏}‏ بن زكريا، ‏{‏وعيسى‏}‏ ابن مريم بنت عمران، وفيه دليل على أن الذرية تتناول أولاد البنت، ‏{‏وإلياس‏}‏ بن نُسى فنحاص بن إلعَازر بن هارون‏.‏ وقيل‏:‏ هو إدريس جَد نوح، وفيه بُعد‏.‏ ‏{‏كلٌّ من الصالحين‏}‏ الكاملين في الصلاح، وهو الإتيان بما ينبغي والتحرز مما لا ينبغي‏.‏

‏{‏وإسماعيل‏}‏ بن إبراهيم، قد هدينا أيضًا، وهو أكبر ولد إبراهيم، وهو ابن هاجر، ‏{‏واليسع‏}‏ بن أخطوب بن العجوز، وقرىء‏:‏ «والليسع» بالتعريف، كَأن أصله‏:‏ ليسع، و«أل» فيه‏:‏ زائدة، لا تفيد التعريف؛ لأنه علَم، ‏{‏ويونس‏}‏ بن متى، اسم أبيه، وهو من ذرية إبراهيم، خلافًا للبيضاوي‏.‏ قال القرطبي‏:‏ لم يبعث الله نبيًا من بعد إبراهيم إلا من صُلبه‏.‏ ه‏.‏ ويونس مثلث النون كيوسف، يعني بتثليث السين‏.‏ ‏{‏ولوطًا‏}‏ هو ابن هاران أخى إبراهيم، فهو ابن أخيه، وقيل‏:‏ ابن أخته، فقد يُطلق على العم أب مجازًا، ‏{‏وكُلاًّ فضلنا على العالمين‏}‏ أي‏:‏ عالَمِي زمانِهم بالنبوة والرسالة، فكل واحد فِضِّل على أهل زمانه‏.‏

‏{‏ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم‏}‏ أي‏:‏ فضَّلنا هؤلاء وبعض آبائهم وذرياتهم، أو هدينا هؤلاء وبعض آبائهم وذرياتهم وإخوانهم، ‏{‏واجتبيناهم‏}‏ أي‏:‏ اخترناهم للرسالة واصطفيناهم للحضرة، ‏{‏وهديناهم إلى صراط مستقيم‏}‏؛ الذي يُوصل إلى حضرة قدسنا‏.‏ ‏{‏ذلك هُدَى الله‏}‏ أي‏:‏ ذلك الدين الذي دانوا به هو هدى الله ‏{‏يهدي به‏}‏ أي‏:‏ بسببه، ‏{‏من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون‏}‏، تحذيرًا من الشرك، وإن كانوا معصومين منه‏.‏

‏{‏أولئك الذين آتيناهم الكتاب‏}‏ أي‏:‏ جنس الكتب، ‏{‏والحُكم‏}‏ أي‏:‏ الحكمة، أو الفصل بين العباد، على ما يقتضيه الحق، ‏{‏والنبوة‏}‏؛ الرسالة ‏{‏فإن يكفر بها هؤلاء‏}‏‏:‏ أهل مكة، ‏{‏فقد وكَّلنا بها‏}‏ أي‏:‏ بالإيمان بها والقيام بحقوقها، ‏{‏قومًا ليسوا بها بكافرين‏}‏؛ وهُم الأنبياء المذكورون، وتابعوهم، وقيل‏:‏ الصحابة المهاجرون والأنصار، وهو الأظهر‏.‏

وقيل‏:‏ كل مؤمن، وقيل‏:‏ الفرس‏.‏ والأول أرجح؛ لدلالة ما بعده عليه، وهو قوله‏:‏ ‏{‏أولئك الذين هَدى الله‏}‏، الإشارة إلى الأنبياء المذكورين، ‏{‏فبهداهم اقتَدِه‏}‏ أي‏:‏ اتبع آثارهم، والمراد بهديهم‏:‏ ما توافقوا عليه من التوحيد وأصول الدين، دون الفروع المختلف فيها، فإنها ليست هدى مضافًا إلى الكل، ولا يمكن التأسِّي بهم جميعًا؛ فليس فيه دليل على أنه عليه الصلاة والسلام متعبّد بشرع مَن قبله‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏

‏{‏قل لا أسألُكم عليه‏}‏ أي‏:‏ التبليغ أو القرآن، ‏{‏أجرًا‏}‏ أي‏:‏ جُعلاً من جهتكم، كحال الأنبياء قبلي؛ اقتداء بهم فيه، فهو من جملة ما أمر بالاقتداء بهم فيه، ‏{‏إن هو‏}‏ أي‏:‏ ما هو، أي‏:‏ التبليغ أوالقرآن، ‏{‏إلا ذكرى للعالمين‏}‏؛ إلا تذكرة وموعظة لهم‏.‏

الإشارة‏:‏ فُضَّل هؤلاء السادات على أهل زمانهم بما هداهم إليه من أنوار التوحيد وأسرار التفريد، وبما خصهم به من كمال العبودية والآداب مع عظمة الربوبية‏.‏ وفي قوله لحبيبه‏:‏ ‏{‏فبهداهم اقتده‏}‏ فتح لباب اكتساب التفضيل، فكلَّ مَن اقتدَى بهم فيما ذُكر شُرِّف على أهل زمانه، وقد جمع في حبيبه صلى الله عليه وسلم ما افترق فيهم، وزاد عليهم بالمحبة ورفع الدرجات، فكان هو سيد الأولين والآخرين، فكل من اقتدى به في أفعاله وأقواله وأخلاقه نال من السيادة بقدر اقتدائه، وأمرُه سبحانه له بالاقتداء بهم، إنما هو في الآداب، وكان ذلك قبل أن يتَرقَّى عنهم إلى مقامه الذي خصَّه الله به‏.‏ للأنبياء سيرًا وتَرَقِّيَا يليق بهم‏.‏ كما للأولياء سيرٌ وتَرَقٍّ يليق بهم‏.‏

قال الورتجبي‏:‏ أمَر حبيبَه عليه الصلاة والسلام بالاقتداء بالأنبياء والرسل قبلَه في آداب الشريعة، لأن هناك منازلَ الوسائط، فإذا أوصله بالكُلِّية إليه، وكَحّل عيون أسراره بكُحل الربوبية، جعَله مستقلاً بذاته مستقيمًا بحاله، وخرج عن حَدِّ الإرادة إلى حد المعرفة والاستقامة، وأمره بإسقاط الوسائط، حتى قال‏:‏ «لَو كَانَ مُوسَى حَيًا ما وَسِعَهُ إلاَّ اتّبِاعي»، وغير ذلك‏.‏ ه‏.‏ وقال الشاذلي رضي الله عنه‏:‏ أمَره بالاقتداء بهم فيما شاركوه فيه، وإن انفرد عنهم بما خُصَّ به‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏91‏]‏

‏{‏وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آَبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ‏(‏91‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلَ جلاله‏:‏ في الرد على اليهود‏:‏ ‏{‏وما قدروا الله حق قدره‏}‏ أي‏:‏ ما عَرفُوه حق معرفته في الرحمة والإنعام على العباد بالوحي وغيره، إذ لو عرفوه لَهابُوا أن يُنكروا بعثة الرسل، أو ما جَسَرُوا على هذه المقالة، أو ما عظموه حق تعظيمه‏.‏ حيث كذَّبوا رسله وأنكروا أن يكون أنزل عليهم كتابًا، إذ لو عظِّموه حق تعظيمه لصدَّقوا الرسول الوارد عنه، وهو معنى قوله‏:‏ ‏{‏إذ قالوا ما أنزل الله على بَشَرٍ من شيء‏}‏، والقائلون هم اليهود، كفنحاص ومالك بن الصيف وغيرهما، قالوا ذلك مبالغة في إنكار إنزال القرآن ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فردَّ الله عليهم بما لا بدَّ لهم من الإقرار به وهو إنزال التوراة على موسى؛ فقال‏:‏ ‏{‏قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورًا وهُدًى للناس‏}‏، فالنور للبواطن، والهداية للظواهر، ‏{‏تجعلونه‏}‏ أي‏:‏ التوارة، ‏{‏قراطيسَ‏}‏ أي‏:‏ تُجَزِّؤُونه أجزاء متفرقة، ما وافقَ أهواءكم أظهرتموه وكتبتموه في ورقات متفرقة، وما خالف أهواءكم كتمتموه وأخفيتموه‏.‏

رُوِي أنَّ مَالك بنَ الصَّيفِ قاله، لَمّا أغضَبَهُ النبي صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ «أُنشدُكُ الله الذي أنزَلَ التَّورَاة عَلَى مُوسَى، هَل تجِد فيها أنَّ الله يبغضَ الحَبرَ السَّمِين، فَأنتَ الحَبرُ السّمِين»، فغَضب، وقال‏:‏ ما أنزَلَ الله علَى بَشَرٍ مِن شَيء، فَرَّدّ الله عَلَيهِ بِما تقَّدم‏.‏ وقيل‏:‏ القائلون ذلك‏:‏ المشركون، وإلزامهُم بإنزال التوراة؛ لأنه كان مشهورًا عندهم يُقِرُّون به، ولذلك قالوا‏:‏ ‏{‏أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّآ أَهدى مِنْهُمْ‏}‏ ‏[‏الأنعَام‏:‏ 157‏]‏‏.‏

‏{‏وعُلِّمتُم‏}‏ على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم‏}‏، زيادة على ما في التوراة وبيانًا لما التبس عليكم على آبائكم الذين كانوا أعلم منكم‏.‏ ونظيرهُ‏:‏ ‏{‏إِنَّ هَذَا الْقُرْءَانَ يَقَصُّ عَلَى بَني إِسْرَاءِيلَ أَكْثَرَ الِّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ‏}‏ ‏[‏النَّمل‏:‏ 76‏]‏ أو‏:‏ وعُلِّمتم من التوراة ما لم تكونوا تعلَّمتم أنتم ولا آباؤكم قبل إنزاله، وإن كان الخطاب لقريش؛ فالذي عُلِّموه‏:‏ ما سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم من القَصص والأخبار‏.‏

ثم أجاب عن استفهامه بقوله‏:‏ ‏{‏قُل اللهُ‏}‏ أي‏:‏ أنزلَه الله، أو الله أنزله‏.‏ قال البيضاوي‏:‏ أمره بأن يجيب عنهم؛ إشعارًا بأن الجواب بهذا مُتَعيّن لا يمكن غيرُه، وتنبيهًا على أنهم بُهتُوا بأنهم لا يقدرون على الجواب ه‏.‏ ‏{‏ثم ذَرهُم في خوضهم يلعبون‏}‏ في أباطيلهم‏.‏ فلا عليك بعد التبليغ وإلزام الحجة، وأصلُ الخَوض في الماء، ثم أستُعير للمعاني المُشكِلة، وللقلوب المتفرقة في أودية الخواطر‏.‏

الإشارة‏:‏ يُفهَم من الآية أنَّ من أقَرَّ بإنزال الكتب وآمن بجميع الرسل، فقد قَدَر الله حق قدره وعظَّمه حق تعظيمه‏.‏ وهذا باعتبار ضعف العبد وعجزه وجهله؛ وإلاَّ فتعظيم الحق حق تعظيمه، ومعرفته حق معرفته، لا يمكن انتهاؤها، ولا الوصول إلى عشر العشر منها‏.‏

قال تعالى ‏{‏وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 110‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ‏}‏ ‏[‏عَبَسَ‏:‏ 23‏]‏ فلو بقي العبد يترقى في المعرفة أبدًا سرمدًا، ما عرف الله حق معرفته، حتى ينتهي إلى غايتها، ولو بقي يعبد أبد الأبد ما قام بواجب حقه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل الله‏}‏ استشهد به الصوفيةُ، في طريق الإشارة، على الانفراد والانقطاع إلى الله، وعدم الالفتات إلى ما عليه الناس من الخوض والاشتغال بالأغيار والأكدار، والخروج عنهم إلى مقام الصفا، وهو شهود الفردانية، والعكوف في أسرار الوحدانية‏.‏ قال ابن عطاء الله لما تكلم على أهل الشهود قال‏:‏ ‏(‏لأنهم لله لا لشيء دونه، ‏{‏قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون‏}‏‏)‏‏.‏ وقد يُنكِر عليهم من لم يفهم إشارتهم، تجمدًا ووقوفًا مع الظاهر، وللقرآن ظاهر وباطن لا يعرفه إلا الربانيون‏.‏ نفعنا الله بهم، آمين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏92‏]‏

‏{‏وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ‏(‏92‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وهذا كتاب أنزلناه مبارك‏}‏ أي‏:‏ كثير البركة، حسًا ومعنًى، لكثرة فوائده وموم نفعه، أو‏:‏ كثير خيره، دائم منفعته، قال القشيري‏:‏ مبارك‏:‏ دائم باق، لا ينسخُه كتابٌ، من قولهم‏:‏ بَرك الطير على الماء‏.‏ ه‏.‏ ‏{‏مُصدقُ الذي بين يديه‏}‏ من الكتب المتقدمة‏.‏ ‏{‏ولتُنذر‏}‏ أنت ‏{‏أُمَّ القرى‏}‏ أي‏:‏ مكة، ‏{‏ومَنْ حولها‏}‏ من المشرق والمغرب أو لينذر القرآنُ أمَّ القرى ومن حولها أي‏:‏ أنزلناه للبركة والإنذار، وإنما سميت مكة أمَّ القرى؛ لأنها قبلة أهل القرى وحجهم ومجمعهم، وأعظم القرى شأنًا‏.‏ وقيل‏:‏ لأن الأرض دُحِيت من تحتها أو لأنها مكان أول بيت وضُع للناس‏.‏

‏{‏والذين يؤمنون بالآخرة‏}‏ هم الذين ‏{‏يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون‏}‏؛ لأنَّ من مصدق بالآخرة، وخاف عاقبتها، تحرى لنفسه الصواب، وتفكر في صدق النجاة، فآمن بالنبي صلى الله عليه وسلم وصدّق بما جاء به، وحافظ على مراسم الشريعة، وأهمها‏:‏ الصلاة؛ لأنها عماد الدين وعلم الإيمان، من حافظ عليها حفظ ما سواها، ومن ضيَّعها ما سواها‏.‏

الإشارة‏:‏ مفتاح القلوب هو كتاب الله، وهو عُنوان السير، فمن فُتح له في فهم كتاب الله، عند سماعه والتدبر في معانيه، فهو علامة فتح قلبه، فلا يزال يزداد في حلاوة الكلام، حتى يُشرف على حلاوة شهود المتكلم من غير واسطة؛ وذلك غاية السير، وابتداء الترقي في أنوار التوحيد وأسرار التفريد، التي لا نهاية لها‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏93- 94‏]‏

‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آَيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ‏(‏93‏)‏ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ‏(‏94‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏كما خلقناكم‏}‏‏:‏ بدل من ‏{‏فُرَادى‏}‏، أو حال ثانية، و‏{‏لقد تقطع بينكم‏}‏؛ من قرأ بالرفع، فهو فاعل، أي‏:‏ تقطع وصلُكم، ومن قرأ بالنصب، فظرف، على إضمار الفاعل، أي‏:‏ تقطع الاتصال بينكم، أو على حذف الموصول؛ لقد تقطع ما بينكم‏.‏

يقول الحقّ جلَ جلاله‏:‏ ‏{‏ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا‏}‏ فزعم أنه يوحى إليه، كمسيلمة الكذاب والأسود العَنسي، أو‏:‏ غيَّر الدين، كعَمرو بن لحي وأمثاله ‏{‏أو قال أُوحي إليَّ ولم يُوحَ إليه شيء‏}‏ كابن أبي سَرح ومن تقدم، إلا من تاب، كابن أبي سرح‏.‏ ‏{‏ومَن قال سأنزل مثل ما أنزل الله‏}‏ الذين قالوا‏:‏ ‏{‏لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلِ هَذَا‏}‏ ‏[‏الأنفَال‏:‏ 31‏]‏ كالنضر بن الحارث وأشباهه‏.‏

‏{‏ولو ترى إذ الظالمون‏}‏ من اليهود والكذابين والمستهزئين، حين يكونون ‏{‏في غمرات الموت‏}‏‏:‏ شدائده ‏{‏والملائكة باسطو أيديهم‏}‏ لقبض أرواحهم، أو بالضرب لوجوههم وأدبارهم، قائلين لهم‏:‏ ‏{‏أخرجوا أنفسكم‏}‏ من أجسادكم؛ تغليظًا عليهم، ‏{‏اليوم‏}‏ وما بعده ‏{‏تُجزون عذاب الهون‏}‏ أي‏:‏ الهوان، يريد العذاب المتضمن للشدة والهوان، وإضافته للهوان لتمكنه فيه‏.‏ وذلك العذاب ‏{‏بما كنتم تقولون على الله غير الحق‏}‏، كادعاء النبوة كذبًا، وادعاء الولد والشريك لله، ‏{‏وكنتم عن آياته تستكبرون‏}‏ فلا تستمعون لها، ولا تؤمنون بها، فلو أبصرت حالهم ذلك الوقت لرأيت أمرًا فظيعًا وهولاً شنيعًا‏.‏

يقول الحق سبحانه لهم‏:‏ ‏{‏ولقد جئتمونا‏}‏ للحساب والجزاء، ‏{‏فُرادى‏}‏‏.‏ متفرَّدين عن الأعوان والأوثان، أو عن الأموال والأولاد، وهذا أولى بقوله‏:‏ ‏{‏كما خلقناكم أول مرة‏}‏ أي‏:‏ على الهيئة التي وُلدتم عليها من الانفراد والتجريد حفُاة عُراة غُرلاً ‏{‏وتركتم ما خولناكم‏}‏ أي‏:‏ تفضَّلنا به عليكم من الدنيا فشُغلتم به عن الآخرة، ‏{‏وراء ظهوركم‏}‏، فلم تقدموا منه شيئًا، ولم تحملوا معكم منه نقيرًا، ‏{‏وما نرى معكم شفعاءكم‏}‏ أي‏:‏ أصنامكم ‏{‏الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء‏}‏ أي‏:‏ أنهم شركاء مع الله في ربوبيتكم واستحقاق عبادتكم، ‏{‏لقد تقطَّع بينكم‏}‏ أي‏:‏ تفرَّق وصلُكم وتشتت شملكم، ‏{‏وضَلَّ‏}‏ أي‏:‏ غاب ‏{‏عنكم ما كنتم تزعمون‏}‏ أنهم شفعاؤكم، أو لا بعث ولا حساب الظهور كذبكم‏.‏

الإشارة‏:‏ كل من ادعى حالاً أو مقامًا، يعلم من نفسه أنه لم يُدركه ولم يتحقق به، فالآية تَجُرُّ ذيلَها عليه‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏ولقد جِئتُمُونَا فرادى‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ، إشارة إلى أن الدخول على الله والوصول إلى حضرته، لا يكون إلا بعد قطع الطلاق والعوائق والشواغل كلها، وتحقيق التجريد ظاهرًا وباطنًا؛ إذًا لا تتحقق الفردانية إلا بهذا‏.‏

وقال الورتجبي‏:‏ ولي هنا لطيفةٌ أخرى، أي‏:‏ ولقد جئتمونا موحدِّين بوحدانيتي شاهدين بشهادتي، بوصف الكشف والخطاب، كما جئتمونا من العدَم في بدء الأمر، حين عَرَّفتُكم نفسي بقولي‏:‏ ‏{‏أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى‏}‏ ‏[‏الأعرَاف‏:‏ 172‏]‏ بلا إشارة التشبيه وغلط التعطيل، كما وصفهم نبيه صلى الله عليه وسلم‏:‏

«كُلُّ مَولُد يُولَدُ عَلَى الفِطرَةِ»، يعني‏:‏ على فطرة الأزل بلزوم سمة العبودية بلا علة الاكتساب، عند سبق الإرادة‏.‏ انتهى‏.‏ قلت‏:‏ وحاصل كلامه، أن مجيئهم فُرادى، كناية عن دخولهم الحضرة القدسية بعد تقديس الأرواح وتطهيرها، حتى رجعت لأهلها، كما خلقها أول مرة، أعني‏:‏ مقدسة من شواهد الحس، مُطهرة من لُوثِ الإغيار، على فطرة الأزل، فشبه مجيئها الثاني بعد التطهير ببروزها الأول، حين كانت على أصل التطهير، كأنه قال‏:‏ ولقد جئتمونا فرادى من الحس وشهود الغير كما خلقناكم كذلك في أول الأمر‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم‏}‏ أي‏:‏ من العلوم الرسمية، والطاعات البدنية والكرامات الحسية، قال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي العارف‏:‏ كنت أعرف أربعة عشر عِلمًا، فلما علمت علم الحقيقة شرطت ذلك كله، فلم يبق لي إلا التفسير والحديث والمنطق‏.‏ ه‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما نرى معكم شفعاءكم‏}‏ إشارة إلى أنهم دخلوا من باب الكرم لا من باب العمل‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏95- 96‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ‏(‏95‏)‏ فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ‏(‏96‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏ومُخرج‏}‏‏:‏ معطوف على ‏{‏فالق‏}‏، على المختار؛ لأنَّ ‏{‏يُخرج الحي‏}‏ واقع موقع البيان له، و‏{‏سكنًا‏}‏‏:‏ مفعول بفعل محذوف، أي‏:‏ جعله سكنًا، إلا أن يريد بجاعل‏:‏ الاستمرار، فحينئذٍ ينصب المفعول‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إن الله فالق الحب والنوى‏}‏ أي‏:‏ يفلق الحب تحت الأرض لخروج النبات منها، ويفلق النوى لخروج الشجر منها، ‏{‏يُخرج الحي‏}‏ أي‏:‏ كل ما ينمو من الحيوان والنبات؛ ليطابق ما قبله، ‏{‏من الميت‏}‏ مما لا ينمو كالنطف والحب‏.‏ ‏{‏ومُخرِج الميت من الحي‏}‏ أي‏:‏ ومخرج الحب والنُّطَف من الحي، ‏{‏ذلكم الله‏}‏ أي‏:‏ ذلكم المخرج والمحيي المُميت هو الله المستحق للعبادة دون غيره، ‏{‏فأَنَّى تُؤفكون‏}‏؛ تُصرفون عنه إلى غيره‏.‏

‏{‏فالق الإصباح‏}‏ أي‏:‏ شاقّ عَمُود النهار عن ظُلمة الليل، ‏{‏وجاعل الليل سكنًا‏}‏ أي‏:‏ يُسكن فيه من تَعَب النهار للاستراحة، ‏{‏و‏}‏ جعل ‏{‏الشمس والقمر حُسبانًا‏}‏ أي‏:‏ على أدوار مختلفة، يُعلم بها حساب الأزمنة والليل والنهار، أو حُسبانًا كحسبان الرَّحا يدور بهما الفلك دورة بين الليل والنهار، ‏{‏ذلك‏}‏ التسيير بالحساب المعلوم، هو ‏{‏تقدير العزيز العليم‏}‏ الذي قهرهما بعزته، وسيرهما على ذلك السير البديع بعلمه وحكمته‏.‏

الإشارة‏:‏ إذا أحب الله عبدًا فلق حبة قلبه بعشقه ومحبته، وفلق نواة عقله بالتبصر في عجائب قدرته، فلا يزال قلبُه يميل إلى حضرته، وعقلُه يتشعشع أنواره بازدياد تفكره في عجائب عظمته، حتى تُشرق عليها شمس العرفان، فيفلق عمود فجرها عن ظلمة ليل وجود الإنسان، فيصير حيًّا بمعرفته، بعد أن كان ميتًا بجهله وغفلته، فيميته عن شهود نفسه، ثم يُحييه بشهود ذاته، يُخرج الحيّ من الميت ومخرج الميت من الحي، جاعل ليل العبودية سكنًا، وشمس العرفان وقمر الإيمان حسبانًا، تدور الفكرة بأنوارهما، كما يدور الفلك بالشمس والقمر الحِسيِّين ذلك تقدير العزيز العليم‏.‏