فصل: تفسير الآيات رقم (94- 99)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏94- 99‏]‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ‏(‏94‏)‏ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آَبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏95‏)‏ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏96‏)‏ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ ‏(‏97‏)‏ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ ‏(‏98‏)‏ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏99‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وما أرسلنا في قرية من نبي‏}‏ أي‏:‏ رسول ‏{‏إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء‏}‏ أي‏:‏ بالبؤس والضر، كالقحط والأمراض، ‏{‏لعلهم يضَّرَّعون‏}‏ أي‏:‏ يتضرعون ويتذللون، ‏{‏ثم بدَّلنا مكانَ‏}‏ الحالة ‏{‏السيئةِ‏}‏ الحالة ‏{‏الحسنةَ‏}‏ أي‏:‏ أعطيناهم، بدل ما كانوا فيه من البلاء والشدة، السلامة والسعة، ‏{‏حتى عَفَوا‏}‏‏:‏ كثروا عَددًا وعُددًا، يقال‏:‏ عفا النبات‏:‏ إذا كثر، ومنه‏:‏ «اعفُو اللِّحى» ‏{‏وقالوا قد مسَّ آباءنا الضراءُ والسراءُ‏}‏؛ كُفرًا لنعمة الله عليهم، ونسيانًا لذكره، واعتقادًا بأنه من عادة الدهر يتعاقب في الناس بين السراء والضراء، فقد مس آباءنا منه شيء مثل ما مسنا، ‏{‏فأخذناهم بَغتةً‏}‏‏:‏ فجأة ‏{‏وهم لا يشعرون‏}‏ بنزول العذاب‏.‏

‏{‏ولو أن أهل القرى‏}‏ المتقدمة في قوله‏:‏ ‏{‏وما أرسلنا في قرية من نبي‏}‏ وقيل‏:‏ مكة وما حولها‏.‏ وقيل‏:‏ مطلقًا، ‏{‏آمنوا واتقَوا‏}‏ مكان كفرهم وعصيانهم، ‏{‏لفتحنا عليهم بركاتٍ من السماء والأرض‏}‏؛ لوَسعنا عليهم الخير، ويسرناه لهم من كل جانب‏.‏ وقيل‏:‏ المراد‏:‏ المطر والنبات‏.‏ ‏{‏ولكن كذبوا‏}‏ بالرسل، وكفروا النعم، ‏{‏فأخذناهم بما كانوا يكسبون‏}‏ من الكفر والمعاصي‏.‏

‏{‏أفأمِن أهل القرى‏}‏ أي‏:‏ أبعد ذلك أمن أهل القرى ‏{‏أن يأتيهم بأسنا بياتًا وهم نائمون‏}‏ ‏؟‏ أي‏:‏ ليلاً، في حال نومهم‏.‏ ‏{‏أوَ أمِنَ أهل القرى أن يأتيهم بأسنا‏}‏ أيضًا ‏{‏ضُحىً‏}‏؛ ضحوة النهار ‏{‏وهم يلعبون‏}‏ من فرط الغفلة، أو يشتغلون بما لا ينفعهم، ‏{‏أفأمِنُوا مكرَ الله‏}‏ وهو أن يستدرجهم بالنعم حتى يأخذهم بغتة‏؟‏ ‏{‏فلا يأمنُ مكرَ الله إلا القومُ الخاسرون‏}‏ الذين خسروا أنفسهم، بترك النظر والاعتبار، حتى هلكوا، فلم ينفعهم حينئذٍ الندم‏.‏

الإشارة‏:‏ إظهار المِحَن والمِنَن وتعاقبهما على الإنسان، حكمتها‏:‏ الرجوع إلى الله، وتضرع العبد إلى مولاه، فمن فعل ذلك كان معتمدًا عليه في الحالتين، مغترفًا من بحر المنة بكلتا اليدين، ومن نزلت به المحن ثم أعقبته لطائف المنن، فلم يرجع إلى مولاه، ولا شكره على ما خوله من نعماه، بل قال‏:‏ هذه عادة الزمان؛ يتعاقب بالسراء والضراء على الإنسان، فهذا عبد منهمك في غفلته، قد اتسعت دائرة حسه، وانطمست بصيرة قدسه، يصدق عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ أَضَلُّ أُوْلِئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ‏}‏ ‏[‏الأعرَاف‏:‏ 179‏]‏‏.‏

وقال القشيري في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ أي‏:‏ لو آمنوا بالله واتَّقُوا الشرك ‏{‏لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض‏}‏ بأسباب العطاء، فإن سَبَقَ بخلافه القضاء فأبواب الرضا، والرضا أتم من العطاء‏.‏ ويقال‏:‏ ليس العبرة بالنعمة؛ العِبرة بالبركة في النعمة‏.‏ ه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكن كذَّبوا‏}‏ أي‏:‏ شكُّوا في هذا الوعد فلم يتقوا بالإيمان والتقوى حتى يتركوا الأسباب، والشاك في الصادق المصدوق مكذب‏.‏ وقال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه‏:‏ للناس أسباب، وسببنا الإيمان والتقوى، ثم تلا هذه الآية‏:‏ ‏{‏ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، وقد تقدم عند قوله‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُوَاْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ‏}‏ ‏[‏الأنعَام‏:‏ 82‏]‏‏.‏ ما يتعلق بالأمن من مكر الله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏100- 102‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ‏(‏100‏)‏ تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ ‏(‏101‏)‏ وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ ‏(‏102‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏أن لو نشاء‏}‏‏:‏ «أن» مخففة، وهي وما بعدها‏:‏ فاعل ‏{‏يَهدِ‏}‏ أي‏:‏ أو لم يتبين لهم قدرتنا على إهلاكهم لو نشاء ذلك‏؟‏ وإنما عدى «يهدي» باللام؛ لأنه بمعنى يتبين، و‏{‏نطبع‏}‏‏:‏ استئناف، أي‏:‏ ونحن نطبع على قلوبهم‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏أوَ لم يهدِ‏}‏ أي‏:‏ يتبين ‏{‏للذين يرثون الأرضَ من بعد أهلها‏}‏ أي‏:‏ يخلفون من قبلهم ويرثون ديارهم وأموالهم، ‏{‏أن لو نشاء أصبناهم‏}‏ أي‏:‏ أهلكناهم ‏{‏بذنوبهم‏}‏ بسبب ذنوبهم، كم أهلكنا من قبلهم، لكن أمهلناهم ولم نهملهم، ‏{‏و‏}‏ نحن ‏{‏نَطبَعُ على قلوبهم‏}‏ بالغفلة والانهماك في العصيان، ‏{‏فهم لا يسمعون‏}‏ سماع تدبر واعتبار‏.‏

‏{‏تلك القرى‏}‏، التي قصصنا عليك آنفًا، ‏{‏نقصّ عليك من أنبائها‏}‏ من أخبارها، أي‏:‏ بعض أخبارها، ولها أبناء غيرها لا نقصها عليك ‏{‏ولقد جاءتهم رسُلهم بالبينات‏}‏‏:‏ بالمعجزات، ‏{‏فما كانوا ليؤمنوا‏}‏ عند مجيئهم، بها ‏{‏بما كذَّبوا من قبل‏}‏ مجيئها، يعني‏:‏ أن ظهور المعجزات لم ينفعهم، بل الشي الذي كذبوا به قبل مجيئها، وهو التوحيد وتصديق الرسل؛ استمروا عليه بعد مجيئها‏.‏

أو‏:‏ ‏{‏فما كانوا ليؤمنوا‏}‏ مدة عمرهم بما كذبوا به أولاً، حيث جاءتهم الرسل، فلم تؤثر فيهم دعوتهم المتطاولة والآيات المتتابعة‏.‏ ‏{‏كذلك يطبعُ الله على قلوب الكافرين‏}‏ فلا تلين شكيمتهم بالآيات والنذر‏.‏

‏{‏وما وجدنا لأكثرهم‏}‏ أي‏:‏ لأكثر أهل القرى ‏{‏من عهدٍ‏}‏، بل جُلُّهم نقصوا ما عَهدناهم عليه من الإيمان والتقوى بإنزال الآيات ونصب الحجج، ‏{‏وإن وجدنا أكثرَهم‏}‏ أي‏:‏ علمناهم ‏{‏لفاسقين‏}‏، و«إن» مخففة، واللام‏:‏ فارقة‏.‏

الإشارة‏:‏ ينبغي لمن فتح الله بصيرته أن ينظر بعين الاعتبار فيمن سلف قبله، كيف تركوا الدنيا ورحلوا عنها، ولم يأخذوا منها إلا ما قدموا أمامهم‏؟‏ قَدِموا على ما قدَّموا، وندموا على ما خلفوا، ولم ينفعهم الندم وقد زلت بهم القدم، فالدهر خطيب يُسمع القاصي والقريب، وهو ينادي بلسان فصيح، عادلاً عن الكتابة إلى التصريح، قائلاً‏:‏ أمَا حَصلَ لكم الإنذار‏؟‏ أما كفاكم ما تشاهدون في الاعتبار‏؟‏ أين من سلف قبلكم‏؟‏‏.‏ أوَ ما كانوا أشد منكم أو مثلكم‏؟‏ قد نما ذكرهم وعلا قدرهم، وخسف بعد الكمال بدرهم، فكأنهم ما كانوا، وعن قريب مضوا وبانوا، أفضوا إلى ما قدموا، وانقادوا قهرًا إلى القضاء وسلموا، في أيها الغافلون، أنتم بمن مضى لاحقون، ويا أيها الباقون؛ أنتم إليهم تساقون، قَضاءٌ مبرم، وحُكمٌ ملزم، ليس عند محيد لأحد من العبيد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏103‏]‏

‏{‏ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآَيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏103‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ثم بعثنا‏}‏ من بعد الرسل المتقدمين ‏{‏موسى‏}‏ بن عمران ‏{‏بآياتنا‏}‏‏:‏ بمعجزاتنا الدالة على صدقه، ‏{‏إلى فرعون ومَلَئِهِ فظلموا بها‏}‏ أي‏:‏ طغوا بسببها، وزادوا عتوًا على عتوهم، ‏{‏فانظر كيف كان عاقبة المفسدين‏}‏ كيف غرقوا عن آخرهم، وأكلهم البحر‏.‏

الإشارة‏:‏ إذا أراد الله تعالى أن يُهلك قومًا بعث إليهم من يُذكرهم، فإذا زادوا في العتو والطغيان عاجلهم بالعقوبة‏.‏ ذكر الشعراني‏:‏ أن مدينة بالمشرق صنعوا وليمة يتنزهون فيها، فخرجوا إلى بستان، فلما صنعوا الطعام دخل عليهم فقير، فقال‏:‏ أعطوني، فأعطوه، ثم قال‏:‏ أعطوني فزادوه، ثم قال أعطوني، فجروه حتى أخرجوه، فأرسل عليهم مَن أخرجهم من تلك المدينة وخربها، فهي خربة إلى اليوم‏.‏ سبحان المدبر الحكيم الواحد القهار‏!‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏104- 105‏]‏

‏{‏وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏104‏)‏ حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ‏(‏105‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ من قرأ‏:‏ ‏(‏عليّ‏)‏؛ بشد الياء، فحقيق‏:‏ مبتدأ، و‏(‏عليّ‏)‏‏:‏ متعلق به، و‏(‏ألاَّ أقول‏)‏‏:‏ خبره، أي‏:‏ حقيق عَلَيَّ قولُ الحق‏.‏ ومن قرأ‏:‏ ‏{‏عَلَى‏}‏؛ بالتخفيف، فحقيق‏:‏ صفة لرسول، و‏(‏على‏)‏‏:‏ حرف جر، و‏(‏ألاَّ أقول‏)‏‏:‏ مجرور، أي‏:‏ إني رسول حقيق على قول الحق، وعدَّاه بعلى؛ لتضمنه معنى حريص، أو تكون ‏(‏على‏)‏ بمعنى الباء أي‏:‏ حقيق بقول الحق، وقد يبقى على أصله لأمن الالتباس؛ والمعنى‏:‏ حقيق على قول الحق أنا أكون أنا قائله، لا يرضى إلا مثله ناطقًا به‏.‏ انظر البيضاوي‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وقال موسى يا فرعونُ إني رسولٌ من ربِّ العالمين حقَيقٌ‏}‏ واجب ‏{‏على أن لا أقول على الله إلا الحقَّ‏}‏؛ لأنني معصوم من النطق بغيره، فإن كذَّبتني فقد ‏{‏جئتكم ببيّنة من ربكم‏}‏ أي‏:‏ بمعجزة واضحة، تدل على صدقي، وهي العصا‏:‏ ‏{‏فأرْسِلْ معي بني إسرائيل‏}‏ أي‏:‏ فخل سبيلهم، حتى يرجعوا معي إلى الأرض المقدسة‏:‏ التي هي وطنُ آبائهم، وكان قد استعبدهم واستخدمهم في الأعمال الشاقة؛ وذلك أنه لما تُوفِّي يوسف عليه السلام غلب عليهم فرعونُ واستعبدهم حتى أنقذهم الله على يد موسى، وكان بين اليوم الذي دخل فيه يوسف مصر واليوم الذي دخله موسى رسولاً إلى فرعون‏:‏ أربعمائة عام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏106- 112‏]‏

‏{‏قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآَيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏106‏)‏ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ ‏(‏107‏)‏ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ ‏(‏108‏)‏ قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ‏(‏109‏)‏ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ‏(‏110‏)‏ قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ‏(‏111‏)‏ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ‏(‏112‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ يقال‏:‏ أرجأ، بالهمز، يرجىء بمعنى آخر؛ فمن قرأ بالهمزة فعلى الأصل، ومن قرأه بغير الهمزة فيحتمل أن يكون بمعنى المهموز، وسهلت الهمزة، أو يكون بمعنى الرجاء، أي‏:‏ أطعمه، وأما ضم الهاء وكسرها فلغتان، وأما إسكانها فلغة؛ أجرى فيها الوصل مجرى الوقف‏.‏ وقد تتبع البيضاوي توجيه القراءات، فانظره إن شئت‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ فرعون لموسى عليه السلام‏:‏ ‏{‏إن كنتَ جئتَ بآيةٍ‏}‏ مَن عند مَن أرسلك، كما ذكرتَ، ‏{‏فأتِ بها‏}‏ وأحضرها ليَثبت بها صدقك ‏{‏إن كنت من الصادقين‏}‏ في دعواك، ‏{‏فألقى عصاه فإذا هي ثعبانٌ مبين‏}‏ أي‏:‏ ظاهر أمره، لا يشك في أنه ثعبان، وهي الحية العظيمة‏.‏

رُوِي أنه لما ألقاها صار ثعبانًا أشعر، فاغرًا فاه، بين لحييه ثمانون ذراعًا، وضع لحيه الأسفل على الأرض والأعلى على سور القصر، ثم توجه نحو فرعون، فهرب منه وأحدَثَ، وانهزم الناسُ مُزدحمين، فمات منهم خمسة وعشرون ألفًا، وصاح فرعون‏:‏ يا موسى، أنشدك الذي أرسلك خذه، وأنا أُومن بك، وأرسل معك بني إسرائيل، فأخذه فعاد عصًا‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏

ثم أظهر له معجزة أخرى‏:‏ ‏{‏ونَزَعَ يدهُ‏}‏ من جيبه، أو من تحت إبطه، ‏{‏فإذا هي بيضاءُ للناظرين‏}‏ أي‏:‏ بيضاء بياضًا خارجًا عن العادة، يجتمع عليها النظارة، أو بيضاء للنظار، لا أنها كانت بيضاء في خلقتها، بل كانت شديدة الأدمة كلون صاحبها‏.‏ رُوِي أنه كان شديد الأدمة فأدخل يده في جيبه أو تحت إبطه، ثم نزعها، فإذا هي بيضاء نورانية، غلب شعاعُها شعاعَ الشمس‏.‏

‏{‏قال الملأُ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم‏}‏، قيل‏:‏ هو وأشرافُ قومه، على سبيل المشاورة في أمره، فحكى عنه في سورة الشعراء، وعنهم هنا، أو قاله هو ووافقوه عليه، كعادة جلساء الملوك مع أتباعهم‏.‏ ‏{‏يريد أن يُخرجكم من أرضِكم‏}‏ بالحيل، أو بالقتال، أو بإخراج بني إسرائيل، وكانوا خدامًا لهم، فتخرب البلد من بعدهم، لأنهم خدامها وعمارها‏.‏ قال فرعون‏:‏ ‏{‏فماذا تأمرون‏}‏ أي‏:‏ تُشيرون عليَّ أن أفعل‏؟‏ ‏{‏قالوا أرجِه‏}‏ أي‏:‏ أخّره ‏{‏وأخاه‏}‏ أي‏:‏ أخرّهما حتى تنظر في أمرهما، وقيل‏:‏ أمروه بسجنهما، ‏{‏وأرسل في المدائن‏}‏ أي‏:‏ مدائن عمالتك ‏{‏حَاشرين‏}‏ يحشرون لك السحرة، ‏{‏يأتوك بكلِّ ساحرٍ عليم‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏113- 119‏]‏

‏{‏وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ ‏(‏113‏)‏ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ‏(‏114‏)‏ قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ ‏(‏115‏)‏ قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ ‏(‏116‏)‏ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ‏(‏117‏)‏ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏118‏)‏ فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ ‏(‏119‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ من قرأ‏:‏ ‏(‏أإن‏)‏ بهمزتين، فهو اسم استفهام، ومن قرأ بهمزة واحدة، فيحتمل أن يكون خبرًا، كأنهم قالوا‏:‏ لا بد لنا من أجر، أو استفهامًا حُذفت منه الهمزة، والتنكير للتعظيم، واستأنف الجملة، كأنها جواب عن سائل قال‏:‏ فماذا قالوا إذ جاؤوا‏؟‏ قالوا‏:‏ إن لنا لأجرًا‏.‏‏.‏‏.‏ الخ، و‏(‏إنكم‏)‏‏:‏ عطف على ما سدّ مسده نعم، من تمام الجواب، كأنه قال‏:‏ نعم نعطيكم الأجر ونقربكم‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وجاء السحرةُ فرعونَ‏}‏ بعد ما أرسل الشرطة في طلبهم، ‏{‏قالوا‏}‏ لما وصلوا إليه‏:‏ ‏{‏إن‏}‏ أئن ‏{‏لنا لأجرًا إن كنا نحن الغالبين‏}‏ لموسى‏؟‏ ‏{‏قال نعم‏}‏ إن لكم أجرًا ‏{‏وإنكم لَمِنَ المقربين‏}‏ إليّ‏.‏ فأنعم لهم بالأجر، وزادهم التقريب منه والجاه عنده؛ تحريضًا لهم‏.‏ واختُلف في عدد السحرة اختلافًا متباينًا، من سبعين رجلاً إلى سبعين ألفًا، وكل ذلك لا أصل له في صحة النقل‏.‏

ولمَّا خرجوا إلى الصحراء لمقابلته ‏{‏قالوا يا موسى إما أن تُلقي وإما أن نكونَ نحن الملقين‏}‏؛ خيّروا موسى مراعاة للأدب، وإظهارًا للجلادة، ولكن كانت رغبتهم في أن يلقوا قبله، ولذلك عبَّروا عن إلقاء موسى بالفعل وعن إلقائهم بالجملة الاسمية، وفيه إشارة إلى أنهم أهل الإلقاء المتمكنون فيه‏.‏ ولذلك أسعفهم، ‏{‏قال ألقوا‏}‏ أسعفهم كرمًا ومسامحة وازدراءً بهم، ‏{‏فلما ألقوا سحروا أعين الناس‏}‏، بأن خيلوا إليها خلاف ما في حقيقة الأمر، ‏{‏واسترهبوهم‏}‏ أي‏:‏ خوفوهم بما أظهروا لهم من أعمال السحر، ‏{‏وجاؤوا بسحر عظيم‏}‏ في فَنّه‏.‏ رُوِي أنهم ألقوا حبالاً غلاظًا، وخشبًا طوالاً، كأنها حيات، ملأت الوادي، وركب بعضها بعضًا‏.‏

‏{‏وأوحينا إلى موسى أن ألقِ عصاكَ‏}‏، فألقاها، فصارت ثعبانًا عظيمًا، على قدر الجبل، وقيل‏:‏ إنه طال حتى جاوز النيل، ‏{‏فإذا هي تَلقَفُ‏}‏ أي‏:‏ تبتلع ‏{‏ما يأفِكُون‏}‏ ما يُزَوِّرُونَهُ من إفكهم وكذبهم، رُوِي أنها لما ابتلعت حبالهم وعصيهم، وكانت ملأت الوادي، فابتلعتها بأسرها، أقبلت على الحاضرين، فهربوا وازدحموا حتى هلك منهم جمع عظيم، ثم أخذها موسى فصارت عصًا كما كانت، فقال السحرة‏:‏ لو كان هذا سحرًا لبقيت حبالنا وعصينا‏.‏

‏{‏فوقعَ الحقُّ‏}‏ أي‏:‏ ثبت بظهور أمره، ‏{‏وبَطَلَ ما كانوا يعملون فَغُلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين‏}‏ أي‏:‏ صاروا أذلاء مبهوتين، أو انقلبوا إلى المدينة مَقهورين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏120- 126‏]‏

‏{‏وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ ‏(‏120‏)‏ قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏121‏)‏ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ ‏(‏122‏)‏ قَالَ فِرْعَوْنُ آَمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ‏(‏123‏)‏ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏124‏)‏ قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ ‏(‏125‏)‏ وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِآَيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ ‏(‏126‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وأُلقى السحرةُ‏}‏ على وجوهم ‏{‏ساجدين‏}‏ لما عرفوا الحق وتحققوا به، فآمنوا؛ لأن الحق بهرهم، واضطرهم إلى السجود بحيث لم يتمالكوا، أو ألهمهم الله ذلك وحملهم عليه، حتى ينكسر فرعون بالذين أراد بهم كسف موسى، وينقلب الأمر عليه‏.‏

‏{‏قالوا آمنا بربِّ العالمين ربِّ موسى وهارون‏}‏ أبدلوا الثاني من الأول؛ لئلا يتوهم أنهم أرادوا به فرعون‏.‏ ‏{‏قال فرعونُ آمنتم به‏}‏ أي‏:‏ بالله أو بموسى، ‏{‏قبل أن آذن لكم إنَّ هذا لمكرٌ مكرتموه‏}‏ أي‏:‏ إن هذه لَحيلة صنعتموها أنتم وموسى ‏{‏في المدينة‏}‏؛ في مصر، ودبرتموها قبل أن تخرجوا للميعاد؛ ‏{‏لتُخرِجُوا منها أهلها‏}‏ أي‏:‏ القبط، وتخلص لكم ولبني إسرائيل، ‏{‏فسوف تعلمون‏}‏ عاقبة ما صنعتم‏.‏

ثم فصّل ما هددهم به، فقال‏:‏ ‏{‏لأقطعّن أيديكم وأرجلكم من خلاف‏}‏ من كل شق عضو، كَيَدٍ ورِجل من كل واحد ‏{‏ثم لأُصلبنَكم أجمعين‏}‏ تفضيحًا لكم وتنكيلاً لأمثالكم، وليس في القرآن أنه أنفذ ذلك، ولكن رُوِي عن ابن عباس وغيره أنه فعله‏.‏ قيل‏:‏ إنه أول من سنَّ ذلك أي‏:‏ القطع من خلاف فشرعه الله للقطاع تعظيمًا لجرمهم، فلذلك سماه الله محاربة لله ورسوله‏.‏

‏{‏قالوا‏}‏ أي‏:‏ السحرة لما خوفهم‏:‏ ‏{‏إنا إلى ربَّنا منقلبون‏}‏ بالموت، فيكرم مثوانا، فلا نُبالي بوعيدك، كأنهم اشتاقوا إلى اللقاء، فهان عليهم وعيده، أو إنا وأنت إلى ربنا منقلبون، فيحكم بيننا وبينك، ‏{‏وما تَنقِمُ منا‏}‏ أي‏:‏ وما تعيب علينا ‏{‏إلا أن آمنا بآيات ربَّنا لما جاءَتنا‏}‏، وهو لا يعاب عند العقلاء، لأنه خير الأعمال، وأصل المناقب ومحاسن الخلال، ثم فزعوا إلى الله فقالوا‏:‏ ‏{‏ربنا أفرِغ علينا صبرًا‏}‏ أي‏:‏ اصبب علينا صبرًا يغمرنا، كما يُفرغ الماء على الشيء فيغمره، ‏{‏وتوفنا مسلمين‏}‏ ثابتين على الإسلام‏.‏ قال البيضاوي‏:‏ قيل إنه فعل بهم ذلك، وقيل‏:‏ إنه لم يقدر عليه، لقوله‏:‏ ‏{‏أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ‏}‏ ‏[‏القَصَص‏:‏ 35‏]‏‏.‏ ه‏.‏ وقد تقدم قول ابن عباس وغيره‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ انظر من سبقت له العناية، هؤلاء السحرة جاؤوا يُحادون الله فأمسوا أولياء الله، فكم من خصوص تخرج من اللصوص، وانظر أيضًا صبرهم وثباتهم على دينهم، وعدم مبالاتهم بعدوهم، هكذا ينبغي أن يكون مَن مراده مولاه، لا يلتفت إلى شيء سواه، وعند هذه التصرفات يفتضح المُدّعُون ويثبت الصادقون، عند الامتحان يعز المرء أو يُهان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏127- 129‏]‏

‏{‏وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآَلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ‏(‏127‏)‏ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏128‏)‏ قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ‏(‏129‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وقال الملأُ من قوم فرعون أَتذَرُ موسى وقومَه‏}‏ أي‏:‏ تتركهم يخالفون دينك ‏{‏ليُفسدوا في الأرض‏}‏ أي‏:‏ يخربوا ملكك بتغيير دينك ودعوتهم إلى مخالفتك، ‏{‏ويَذَرك وآلهتك‏}‏ أي‏:‏ يترك موسى دينك ومعبوداتك التي تعبد، قيل‏:‏ كان يعبد الكواكب، وقيل‏:‏ صنع لقومه أصنامًا وأمرهم أن يعبدوها تقربًا إليه‏.‏ ولذلك قال‏:‏ ‏{‏أَنَاْ رَبُّكُمُ الأَعْلَى‏}‏ ‏[‏النَّازعَات‏:‏ 24‏]‏‏.‏ قال فرعون في جوابهم‏:‏ ‏{‏سَنُقتِّل أبناءَهم‏}‏ أي‏:‏ ذكورهم ‏{‏ونستحي نساءهم‏}‏ أي‏:‏ بناتهم، كما كنا نفعل من قبل، ليُعلم أَنَّا على ما كنا عليه من القهر والغلبة، ولا يتوهم أنه المولود الذي حكم المنجمون والكهنة بذهاب ملكنا على يديه‏.‏ ‏{‏وإنا فوقهم قاهرون‏}‏ غالبون، وهم مقهورون تحت أيدينا‏.‏

‏{‏قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا‏}‏، قاله تسكينًا لهم حين سمعوا قول فرعون وما هددهم به، ثم قال لهم‏:‏ ‏{‏إن الأرض لله يُورثها من يشاء من عباده‏}‏ وسيورثها لكم إن صبرتم وآمنتم‏.‏ ‏{‏والعاقبة للمتقين‏}‏، فتكون العاقبة لكم إن اتقيتم، وهو وعدٌ لهم بالنصر والعز، وتذكير بما وعدم من إهلاك القبط وتوريثهم ديارهم وملكهم‏.‏

‏{‏قالوا‏}‏ أي‏:‏ بنوا إسرائيل‏:‏ ‏{‏أُوذينا من قبل أن تأتينا‏}‏ بقتل الأبناء، ‏{‏ومن بعد ما جئتنا‏}‏ بإعادته، فلم يرتفع عنا الذل بمجيئك، ‏{‏قال عسى ربُّكم أن يُهلك عدوكم ويستخلِفَكم في الأرض‏}‏، تصريحًا بما كِنّى عنه أولاً، لما رأى أنهم لم يتسلوا بذلك، ولعله أتى بحرف الطمع، أي‏:‏ الترجي؛ لعدم جزمه بأنهم المستخلَفون بأعيانهم، أو أولادهم، وقد رُوِي أن مصر إنما فتح لهم في زمن داود عليه السلام، قاله البيضاوي‏.‏ ‏{‏فينظرَ كيف تعملون‏}‏ أي‏:‏ فإذا استخلفكم يرى ما تعملون من شكر أو كفران، أو طاعة أو عصيان، فيجازيكم على حسب ما يُوجد منكم من كفر أو إحسان‏.‏

الإشارة‏:‏ ما وقع للأنبياء مع قومهم وقع مثله لأشياخ هذه الأمة وفقرائها مع أهل زمانهم، ولما كثرت الأحوال من الفقر أو خرق العوائد، وظهروا بتخريب ظواهرهم، وقعت بهم الشكاية إلى السلطان، وقالوا له‏:‏ هؤلاء يخربون ملكك، فآل على نفسه إنَّ مكنه الله منهم لا يترك منهم أحدًا، فكفى الله بأسه، فاستعانوا بالله وصبروا، واشتغلوا بذكر الله، وغابوا عمن سواه، فكانت العاقبة للمتقين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏130- 131‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَخَذْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ‏(‏130‏)‏ فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏131‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ عبَّر في جانب الحسنة بإذاء المفيدة للتحقيق، وعرَّف الحسنة؛ لكثرة وقوعها، وعبَّر في جانب السيئة بإن المفيدة للشك، ونكّر السيئة لنُدورها‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ولقد أخذنا آلَ فرعوَن بالسنين‏}‏ أي‏:‏ بالجدب والقحط لقلة الأمطار والمياه، ‏{‏ونقصٍ من الثمرات‏}‏ بكثرة العاهات، ‏{‏لعلهم يذّكَّرون‏}‏ أي‏:‏ لكي ينتبهوا أن ذلك من شؤم كفرهم ومعاصيهم، ويتعظوا، وترق قلوبهم بالشدائد، فيفزعوا إلى الله، ويرغبوا فيما عنده‏.‏

‏{‏فإذا جاءتهم الحسنةُ‏}‏، من الخصب والسعة والرخاء، ‏{‏قالوا لنا هذه‏}‏ أي‏:‏ قالوا‏:‏ هذه لنا ولسعودنا، ونحن مستحقون له‏.‏ ‏{‏وإن تُصبهم سيئة‏}‏‏:‏ جدب وبلاء ‏{‏يطيَّروا بموسى ومن معه‏}‏ أي‏:‏ يتشاءموا بهم، ويقولون‏:‏ ما أصابتنا إلا بشؤمهم، وهذا إغراق في وصفهم بالغباوة والقساوة؛ فإن الشدائد تُرقق القلوب، وتُذلل العرائك أي‏:‏ الطبائع، وتُزيل التماسك، سيما بعد مشاهدة الآيات، وهي لم تؤثر فيهم، بل زادوا عندها عتوًا وانهماكًا في الغي‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏ألا إنما طائرُهم عند الله‏}‏ أي‏:‏ سبب طائرهم وشرهم عنده، وهو حكمه ومشيئه، أو سبب شؤمهم عند الله، وهو أعمالهم المكتوبة عنده، فإنها التي ساقت إليهم ما يسؤوهم‏.‏ قال ابن جزي‏:‏ أي‏:‏ حظهم ونصيبهم الذي قدر لهم من الخير والشر عند الله، وهو مأخوذ من زجر الطير، ثم سمى به مَا يُصيب الإنسان، ومقصود الآية‏:‏ الرد عليهم فيما نسبوا إلى موسى من الشؤم‏.‏ ه، ‏{‏ولكنّ أكثرهم لا يعلمون‏}‏ أن ما يصيبهم من الله تعالى بلا واسطة، أو من شؤم أعمالهم‏.‏

الإشارة‏:‏ هذه الخصلة جارية أيضًا في هذه الأمة، أعني التطاير، ترى العوام إذا نزل بهم بلاء أو شدة قالوا‏:‏ بظهور هؤلاء وقع بنا ما وقع، ولقد سمعتُ ممن حكى لي هذه المقالة عن العامة وقت ابتداء ظهور الفقراء، وذلك أنهم آذوهم أذى شديدًا، فأرسل الله عليهم كثرة الأمطار كادت أن تكون طوفانًا، فقالوا‏:‏ ما أصابنا هذا إلا من شؤم هذه المرقعات التي ظهرت، ولم يدروا أن ذلك منهم لإذايتهم أهل الله‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏132- 137‏]‏

‏{‏وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آَيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ‏(‏132‏)‏ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آَيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ ‏(‏133‏)‏ وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ‏(‏134‏)‏ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ ‏(‏135‏)‏ فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ‏(‏136‏)‏ وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ ‏(‏137‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏مهما‏}‏‏:‏ اسم شرط جازم، و‏{‏تأتنا‏}‏‏:‏ شرطها، وجملة ‏{‏فما نحن‏}‏‏:‏ جوابها، قيل‏:‏ مركبة، وأصلها‏:‏ «ما» الشرطية، ضُمت إليها «ما» الزائدة، نحو‏:‏ أينما، ثم قُلبت الألف هاء، والمشهور‏:‏ أنها بسيطة، ومحلها‏:‏ رفع بالابتداء، أو نصب بفعل يفسره‏:‏ «تأتنا» والضمير في‏:‏ «به» عائد على «مهما»‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وقالوا‏}‏ أي‏:‏ فرعون وقومه‏:‏ ‏{‏مهما تأتنا به من آيةٍ‏}‏، وإنما سموها آية على زعم موسى، لا لاعتقادهم، ولذلك قالوا‏:‏ ‏{‏لتسحرنا بها‏}‏ أي‏:‏ لتسحر بها أعيينا وتشبه علينا، ‏{‏فما نحن لك بمؤمنين‏}‏‏.‏ وهذا من عظيم عتوهم وانهماكهم في الكفر‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏فأرسلنا عليهم الطوفانَ‏}‏ وهو مطر شديد نزل بهم مع فيض النيل، حتى هدم بيوتهم وكادوا يهلكون، وامتنعوا من الزراعة، وقيل‏:‏ الطاعون، وقيل‏:‏ الجدري، وقيل الموتان، ‏{‏والجراد‏}‏ وهو المعروف، أكل زروعهم وثمارهم، حتى أكل ثيابهم وأبوابهم وسقف بيوتهم، ‏{‏والقُمَّلَ‏}‏ قيل‏:‏ أولاد الجراد قبل نبات أجنحتها، وقيل‏:‏ البراغيث، وقيل السوس، والتحقيق‏:‏ أنه صغار القراد، دخل ثيابهم وشعورهم ولحاهم، وقرىء‏:‏ «القَملَ» بفتح القاف وهو القمل المعروف، دخل ثيابهم وامتلأت منها، ‏{‏والضفادعَ‏}‏، وهي المعروفة، كثرت عندهم حتى امتلأت بها فروشهم وأوانيهم، وإذا تكلم أحدهم وثب الضفدع إلى فيه‏.‏ ‏{‏والدمَ‏}‏ صارت مياههم دمًا، فكان يستسقي من البئر القبطي والإسرائيلي في إناء واحد، فيخرج ما يلي القبطي دمًا، وما يلي الإسرائيلي ماء‏.‏

قال البيضاوي‏:‏ رُوِي أنهم مُطِروا ثمانية أيام في ظلمة شديدة، لا يقدر أحد أن يخرج من بيته، ودخل الماء بيوتهم حتى قاموا فيه إلى تراقيهم، وكانت بيوت بني إسرائيل متصلة ببيوتهم، فلم يدخل فيها قطرة، وركب على أرضهم فمنعتهم من الحرث والتصرف فيها، ودام ذلك عليهم أسبوعًا، فقالوا لموسى عليه السلام‏:‏ أدع لنا ربك بما عهد عندك يكشف عنا ونحن نؤمن بك، فدعا الله فكشف عنهم، ونبت لهم من الكلأ والزرع والثمار ما لم يعهد مثله، ولم يؤمنوا، فبعث الله عليهم الجراد فأكلت زرعهم وثمارهم، ثم أخذت تأكل الأبواب والسقوف والثياب، ففزعوا إليه ثانيًا، فدعا، وخرج إلى الصحراء، وأشار بعصاه نحو المشرق والمغرب، فرجعت إلى النواحي التي جاءت منها، فلم يؤمنوا، فسلط عليهم القمل وأكل ما أبقاه الجراد، فكان يقع في أطعمتهم ويدخل في ثيابهم وجلودهم فيمصها، ففزعوا إليه فرفع عنهم، فقالوا‏:‏ قد تحققنا الآن أنك ساحر، ثم أرسل الله عليهم الضفادع بحيث لا ينكشف ثوب ولا طعام إلا وُجدت فيه، وكانت تملأ مضاجعهم، وتثب إلى قدورهم وهي تغلي وأفواههم عند التكلم، ففزعوا وتضرعوا، فأخذ عليهم العهود ودعا فكشف الله عنهم، ثم نقضوا العهد، فأرسل الله عليهم الدم، فصارت مياههم دمًا، حتى يجتمع القبطي مع الإسرائيلي على الماء، فيكون ما يلي القبطي دمًا، وما يلي الإسرائيلي ماء، ويمص الماء من فم الإسرائيلي فيصير دمًا في فيه، وقيل‏:‏ سلط عليهم الرعاف‏.‏

ه‏.‏

‏{‏آياتٍ‏}‏ أي‏:‏ حال كون ما تقدم آيات ‏{‏مُفصَّلاتٍ‏}‏، مبينات، لا تشكل على عاقل أنها آيات الله ونقمته‏.‏ قيل‏:‏ كان بين كل واحدة منها شهر، وامتداد كل واحدة منها شهر، وامتداد كل واحدة أسبوعًا، وقيل‏:‏ إن موسى ثبت فيهم، بعد ما غلب السحرة، عشرين سنة يريهم هذه الآيات على مهل، ‏{‏فاستكبروا‏}‏ عن الإيمان ‏{‏وكانوا قومًا مجرمين‏}‏ أي‏:‏ عادتهم الإجرام‏.‏

‏{‏ولمّا وقع عليهم الرَّجزُ‏}‏ يعني‏:‏ العذاب المفصل، أو الطاعون الذي أرسله عليهم بعد ذلك، ‏{‏قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك‏}‏ أي‏:‏ بعهده عندك، وهو النبوة، أو بالذي عهده إليك أن تدعوه به فيجيبك كما أجابك في آياتك‏.‏ والمعنى‏:‏ ادع الله متوسلاً إليه بما عهد عندك من النبوة والجاه، أو بدعائك إليه ووسائلك، ‏{‏لئن كشفت عنا الرجز‏}‏‏:‏ العذاب ‏{‏لنُؤمنن لك‏}‏ أي‏:‏ أقسمنا بعهد الله لئن كشفت عنا الرجز لنؤمن لك ‏{‏ولنرسلنَّ معك بني إسرائيل‏}‏ كما طلبت، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فلما كشفنا عنهم الرِّجزَ إلى أجل هم بالغوه‏}‏ إلى حد من الزمان هم بالغوه ثم يُهلكون، وهو وقت الغرق أو الموت، وقيل‏:‏ إلى أجل عينوه لإيمانهم، ‏{‏إذا هم ينكُثُون‏}‏؛ جواب «لَمَّا» أي‏:‏ فلما كشفنا عنهم جاؤوا بالنكث من غير تأمل ولا توقف، ‏{‏فانتقمنا منهم‏}‏ أي‏:‏ فأردنا الانتقام منهم، ‏{‏فأغرقناهم في اليم‏}‏ أي‏:‏ البحر الذي لا يدرك قعره أو لجته، ‏{‏بأنهم‏}‏ أي‏:‏ بسبب أنهم ‏{‏كذَّبوا بآياتنا‏}‏ التي أرسلناها عليهم‏.‏ ‏{‏وكانوا عنها غافلين‏}‏ أي‏:‏ أغرقناهم بسبب تكذيبهم بالآيات وعدم فكرهم فيها حتى صاروا كالغافلين عنها‏.‏

‏{‏وأورثنا القوم الذين كانوا يُستَضعَفون‏}‏ بالاستعباد وذبح الأبناء ‏{‏مشارقَ الإرضِ ومغاربها‏}‏ يعني‏:‏ أرض الشام، ملكها بنو إسرائيل بعد الفراعنة والعمالقة، وتمكنوا من نواحيها ‏{‏التي باركنا فيها‏}‏ بالخصب وسعة العيش، وهي أرض الشام‏.‏ وزاد ابن جزي‏:‏ ومصر‏.‏

‏{‏وتمّتْ كلمةُ ربك الحسنى على بني إسرائيل‏}‏ أي‏:‏ نفذت ومضت واستقرت، والكلمة هنا‏:‏ ما قضى في الأزل من إنقاذهم من عدوهم، وقيل‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعفُواْ فِي الأَرْضِ‏}‏ ‏[‏القَصَص‏:‏ 5‏]‏ وكانت حسنى؛ لما فيها من النصر والعز، ‏{‏بما صبروا‏}‏ أي‏:‏ بسبب صبرهم على الشدائد ‏{‏ودمَّرنا‏}‏ أي‏:‏ خربنا ‏{‏ما كان يصنعُ فرعونُ وقومهُ‏}‏ من القصور والعمارات، ‏{‏وما كانوا يعْرِشُون‏}‏ من البنيان المرتفع كصرح هامان، أو ما كانوا يرفعون من الكروم في البساتين على العرشان، فالأول من العرش والثاني من العَريش‏.‏

الإشارة‏:‏ قد جرت عادة الله في خلقه أن يظهر الخواص من عباده، فَيُنكَرُوا أو يستضعفوا، حتى إذا طُهّروا من البقايا وتمكنوا من شهود الحق، مَنَّ الله عليهم بالعز والنصر والتمكين، فمنهم من يمكن من التصرف في الحس والمعنى، ويقره الوجود بأسره، ومنهم من يمكَّن من التصرف في الكون بهمته، ولكنه تحت أستار الخمول، لا يعرفه إلا من اصطفاه لحضرته، وهذا من شهداء الملكوت، ضنَّ به الحق تعالى فلم يظهره لخلقه‏.‏ والله تعالى أعلم وأحكم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏138- 141‏]‏

‏{‏وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ‏(‏138‏)‏ إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏139‏)‏ قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏140‏)‏ وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ‏(‏141‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وجاوزنا بِبني إسرائيل‏}‏ أي‏:‏ قطعنا بهم ‏{‏البحرَ‏}‏، رُوِي أنهم عبروه يوم عاشوراء، بعد مهلك فرعون، فصاموه شكرًا، ‏{‏فأَتَوا على قوم‏}‏ أي‏:‏ مروا على قوم من العمالقة، وقيل‏:‏ من لخم، ‏{‏يعكُفُون على أصنام لهم‏}‏ أي‏:‏ يقيمون على عبادتها، قيل‏:‏ كانت تماثيل البقر، وذلك أول شأن عبادة العجل، وهؤلاء القوم، قيل‏:‏ هم الجبارُون الذين أمر موسى بقتالهم بعد وصوله إلى الشام، ولما رأهم بنو إسرائيل ‏{‏قالوا يا موسى اجعل لنا إلهًا‏}‏ أي‏:‏ مثالاً نعبده ‏{‏كما لهم آلهة‏}‏ يعبدونها، ‏{‏قال‏}‏ لهم موسى عليه السلام‏:‏ ‏{‏إنكم قوم تجهلون‏}‏، وَصَفَهُم بالجهل المطلق، وأكده بإن؛ لبُعد ما صدر منهم، بعد ما رأوا من الآيات الكبرى‏.‏

قال البيضاوي‏:‏ ذكر ما أحدثه بنو إسرائيل من الأمور الشنيعة بعد أن مَنَّ الله تعالى عليهم بالنعم الجسام، وآراهم من الآيات العظام، تسليةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما كان يرى منهم ويلقى من التشغيب، وإيقاظًا للمؤمنين حتى لا يغفلوا عن محاسبة أنفسهم ومراقبة أحوالهم‏.‏ ه‏.‏ وذكر في «القوت» أن يهوديًّا قال لعلي رضي الله عنه‏:‏ كيف اختلفتم وضربتم وجوه بعضكم بالسيف، ونبيكم قريب عهد بكم‏؟‏ فقال‏:‏ أنتم لم تجف أقدامكم من ماء البحر حتى قلتم‏:‏ ‏{‏اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة‏}‏‏.‏ ه‏.‏

ثم قال لهم موسى رضي الله عنه‏:‏ ‏{‏إن هؤلاء مُتَبَّرٌ‏}‏‏:‏ مدمر هالك ‏{‏ما هُم فيه‏}‏ يعني‏:‏ أن الله تعالى يهدم دينهم الذي هم فيه، ويحطم أصنامهم ويجعلها رضاضًا‏.‏ ‏{‏وباطلٌ‏}‏ مضمحل ‏{‏ما كانوا يعملون‏}‏ من عبادتها، وإن قصدوا بها التقرب إلى الله تعالى، وإنما بالغ في هذا الكلام تنفيرًا وتحذيرًا عما طلبوا‏.‏ ‏{‏قال أغيرَ اللهِ أبغيكم‏}‏ أطلب لكم ‏{‏إلهًا‏}‏ أي‏:‏ معبودًا ‏{‏وهو فضّلكم على العالمين‏}‏ أي‏:‏ والحال أنه قد خصكم بنعم لم يُعطها غيركم، وفيه تنبيه على سوء مقابلتهم حيث قابلوا تخصيص الله لهم بما استحقوه تفضلاً، بأن قصدوا أن يشركوا به أخس شيء من مخلوقاته وأبلدَه، وهو البقر‏.‏

‏{‏وإذ أنجيناكم من آل فرعون‏}‏ أي‏:‏ واذكروا صُنعه معكم في هذا الوقت حيث نجاكم من فرعون ورهطه ‏{‏يسومُونَكم‏}‏ أي‏:‏ يذيقونكم ‏{‏سوءَ العذاب‏}‏، ثم بينَّه بقوله‏:‏ ‏{‏يقتلون أبناءَكم‏}‏ ذكورهم ‏{‏ويستحيون نساءَكم‏}‏ أي‏:‏ بناتكم، ‏{‏وفي ذلكم بلاءٌ من ربكم عظيم‏}‏ أي‏:‏ وفي ذلك القتل امتحان عظيم، أو في ذلك الإنجاء نعمة عظيمة وامتنان عظيم‏.‏

الإشارة‏:‏ من جاوز بحر التوحيد وحاد عنه، ولم يغرق فيه، لا يخلو من طلب شرك جلي أو خفي؛ لأن النفس ما دامت لم تغرق في بحر الوحدة، ولم تسبها جمال المعاني، قطعًا تميل إلى شيء من جمال الحس، لأن الروح في أصلها عشاقة، إن لم تعشق جمال الحضرة تعشق جمال الحس، ومن ركن إلى شيء مما سوى الله فهو شرك عند الموحدين من المحققين، ويؤخذ من الآية أن شكر النعم هو تلخيص التوحيد، وانفراد الوجهة إلى الله تعالى؛ لأن بني إسرائيل لمَّا أنعم الله عليهم بالإنجاء وفلق البحر قابلوا ذلك بطلب الشرك، فسقطوا من عين الله واستمر ذلهم إلى يوم القيامة‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏142‏]‏

‏{‏وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏142‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وواعدنا موسى‏}‏؛ لإنزال الكتاب ‏{‏ثلاثين ليلة‏}‏ من ذي القعدة، ‏{‏وأتممناها بعشر‏}‏ من ذي الحجة، ‏{‏فتمَّ ميقاتُ ربه‏}‏ بالغًا ‏{‏أربعين ليلة‏}‏، رُوِي أنه عليه السلام وعد بني إسرائيل، بمصر، أن يأتيهم بعد مهلك فرعون بكتاب الله تعالى، فيه بيان ما يأتون وما يذرون، فلما هلك فرعون سأل ربه فأمره بصوم ثلاثين، فلما أتم أنكر خلوف فيه فتسوك، فقالت الملائكة‏:‏ كنا نشم منك رائحة المسك فأفسدتَه بالسواك، فأمره الله تعالى أن يزيد عليه عشرًا، ثم أنزل عليه التوراة‏.‏

‏{‏وقال موسى لأخيه هارون‏}‏، عند ذهابه إلى الطور للمناجاة‏:‏ ‏{‏أخلُفني في قومي‏}‏ أي‏:‏ كن خليفتي فيهم ‏{‏وأصلح‏}‏ ما يجب أن يصلح من أمورهم، أو كن مصلحًا، ‏{‏ولا تتبع سبيلَ المفسدين‏}‏ أي‏:‏ لا تتبع سبيل من يسلك الإفساد، ولا تطع من دعاك إليه‏.‏

الإشارة‏:‏ كل من انقطع إلى الله تعالى بكليته واعتزل عن الخلق، وأخلى قلبه عما سوى الحق، حصلت له المناجاة والمكالمة، كما وقعت للكليم عليه السلام، وكل ما منحه الله للأنبياء يكون منه نصيب للأولياء من هذه الأمة، والله تعالى أعلم‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «مَن أخلَصَ أربَعِينَ صبَاحًا ظَهَرَت يَنابِيعُ الحِكمَةِ مِن قَلبِهِ عَلَى لِسَانِه»‏.‏

قال بعض الحكماء‏:‏ والسر في ذلك أن الله تعالى أمر بطينة آدم فخمرت في الماء أربعين يومًا، فتربى فيها أربعون حجابًا، فلولا تلك الحجب ما استطاع المقام في الأرض، فمن أيده الله على زوالها تشبه بالملأ الأعلى، وخرقت له العوائد، وأشرق النور من قلبه‏.‏ ولهذا المعنى بقي داود عليه السلام ساجدًا أربعين يومًا، فقبلت توبته، ومكث إبراهيم عليه السلام في نار النمرود أربعين يومًا، فاتخذه الله خليلاً، وكان بعد ذلك يقول‏:‏ ما رأيت أحلى من تلك الأيام، فمن أخلص في عبادته وأزال تلك الحجب عن قلبه كان ربانيًا‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّنَ‏}‏ ‏[‏آل عِمرَان‏:‏ 79‏]‏‏.‏ انظر الشطيبي‏.‏

ويؤخذ من الآية أن الشيخ إذ أراد أن يسافر من زاويته ينبغي له أن يخلف خليفة عنه ليقوم له بنظام الزاوية، إذ لا خير في قوم ليس فيهم من يعظهم في الله‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏143‏]‏

‏{‏وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏143‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ولما جاء موسى لميقاتنا‏}‏ الذي وقتنا له ‏{‏وكلَّمه ربه‏}‏ من غير واسطة كما يكلم الملائكة‏.‏ وفيما رُوِي‏:‏ أنه كان يسمع ذلك الكلام من كل جهة، وفيه تنبيه على أن سماع كلامه القديم ليس من جنس كلام المحدثين‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏ وقال الورتجبي‏:‏ أي أسمع عجائب كلامه كليمه ليعرفه بكلامه؛ لأن كلامه مفاتيح كنوز الصفات والذات‏.‏ ه‏.‏ وقال ابن جزي‏:‏ لما سمع موسى كلام الله طمع في رؤيته، فسألها، كما قال الشاعر‏:‏

وأبرحُ ما يَكُونُ الشَّوقُ يَومًا *** إذا دَنَت الديارُ من الدَّيَارِ

‏{‏قال ربِّ أرني أنظر إليك‏}‏ أي‏:‏ أرني نفسك أنظر إليك، بأن تكشف الحجب عني، حتى أنظر إلى ذاتك المقدسة من غير واسطة، كما أسمعتني كلامك من غير واسطة‏.‏ قال البيضاوي‏:‏ وهو دليل على أن رؤيته تعالى جائزة في الجملة؛ لأن طلب المستحيل من الأنبياء محال، وخصوصًا ما يقتضي الجهل بالله، ولذلك رده بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لن تراني‏}‏ دون لن أُرِى ولن أريك، ولن تنظر إليّ، تنبيهًا على أنه قاصر عن رؤيته لتوقفها على حال في الرائي، لم توجد فيه بعدُ، وجعلُ السؤال لتبكيت قومه الذين قالوا‏:‏ ‏{‏أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً‏}‏ ‏[‏النَّساء‏:‏ 153‏]‏ خطأ، إذ لو كانت الرؤية ممتنعة لوجب أن يجهلهم ويزيح شبههم، كما فعل بهم حين قالوا‏:‏ ‏{‏أجْعَل لَّنَآ إِلَهًا‏}‏ ‏[‏الأعرَاف‏:‏ 138‏]‏، والاستدلال بالواجب على استحالتها أشد خطأ، إذ لا يدل الإخبار عن عدم رؤيته أياه على أنه لا يراه أبدًا، وألا يراه غيره أصلاً، فضلاً عن أن يدل على استحالتها‏.‏ ودعوى الضرورة فيه مكابرة وجهالة بحقيقة الرؤية‏.‏ ه‏.‏

وهو تعريض بالزمخشري وردُّ عليه، فإنه أطلق لسانه في أهل السنة عفا الله عنه‏.‏ والتحقيق‏:‏ أن رؤيته تعالى برداء الكبرياء وهي أنوار الصفات جائرة واقعة، وأما رؤية أسرار الذات وهي المعاني الأزلية، التي هي كنه الربوبية فغير جائزة؛ إذ لو ظهرت تلك الأسرار لتلاشت الأكوان واضمحلت، ولعل هذا المعنى هو الذي طلب سيدنا موسى عليه السلام، فلذلك قال له‏:‏ ‏{‏لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقرَّ مكانه‏}‏ عند تجلي هذه الأسرار له، ‏{‏فسوف تراني فلما تجلى ربُّه للجبل‏}‏ أي‏:‏ أظهر له شيئًا من أنوار الربوبية التي هي أسرار المعاني الأزلية، ‏{‏جعله دكًا‏}‏ أي‏:‏ مدكوكًا مفتتًا، والدك والدق واحد، وقرأ حمزة‏:‏ «دكاء» بالمد، أي‏:‏ أرضًا مستوية، ومنه‏:‏ ناقة دكاء لا سنم لها‏.‏ ‏{‏وخرَّ موسى صَعِقًا‏}‏ مغشيًا عليه من هول ما رأى، ‏{‏فلما أفاق قال‏}‏ تعظيمًا لما رأى‏:‏ ‏{‏سبحانك تُبت إليك‏}‏ من الجرأة والإقدام على السؤال بغير إذن، وقال بعضهم‏:‏ تُبتُ إليك من عدم الاكتفاء بقوله‏:‏ ‏{‏لن تراني‏}‏ حتى نظر إلى الجبل، ‏{‏وأنا أولُ المؤمنين‏}‏ أنك لا تُرى بلا واسطة نور الصفات، أو أول أهل زماني إيمانًا‏.‏

الإشارة‏:‏ رؤية الحق جائزة واقعة عند الصوفية في الدارين، ولكن لا ينالها في هذه الدار إلا خواص الخواص، ويُعبّرون عنها بالشهود والعيان، ولا يكون ذلك إلا بعد الفناء، وفناء الفناء بعد موت النفس وقتلها، ثم الغيبة عن حسها ورسمها، تكون بعد التهذيب والتدريب والتربية على يد شيخ كامل، لا يزال يسير به ويقطع به في المقامات، ويغيبه عن نفسه ورؤية وجوده، حتى يقول له‏:‏ ها أنت وربك، وذلك أن الحق جل جلاله تجلى لعباده بأسرار المعاني خلف رداء الأواني، وهو حس الأكوان، فأسرار المعاني لا يمكن ظهورها إلا بواسطة الأواني، أو تقول‏:‏ أسرار الذات لا تظهر إلا في أنوار الصفات، فلو ظهرت أسرار الذات بلا واسطة لاضمحلت الأشياء واحترقت، كما في الحديث‏:‏ «حِجَابُهُ النُّورُ، لَو كشَفَهُ لأحرقَت سُبُحَاتُ وَجههِ ما أنتَهَى إلَيه بَصَرُهُ من خلَقِهِ»‏.‏

فالمراد بالنور نور الصفات، وهو الأواني الحاملة للمعاني، لو كشف ذلك النور حتى تظهر أسرار الذات لأحرقت كل شيء أدركه بصره‏.‏ والواسطة عند المحققين هي عين عين الموسوط، فلا يزال المريد يفنى عن عين الواسطة في شهود الموسوط حتى يغيب عن الواسطة بالكلية، أو تقول‏:‏ لا يزال يغيب عن الأواني بشهود المعاني حتى تشرق شمس العرفان، فتغيب الأواني في ظهور المعاني، فيقع العيان على فقد الأعيان، «كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما عليه كان»، «ما حجبك عن الحق وجود موجود معه، إذ لا شيء معه، وإنما حجبك توهم موجود معه»‏.‏

والحاصل‏:‏ أن الحق تعالى تكون رؤيته أولاً بالبصيرة دون البصر، لأن البصيرة تدرك المعاني، والبصر يدرك الحسيات، فإذا انفتحت البصيرة استولى نورها على نور البصر، فلا يرى البصر حينئذٍ إلا ما تراه البصيرة‏.‏ قال بعض العارفين‏:‏ هذه المزية العظمى وهي رؤية الحق تعالى في الدنيا على هذا الوجه‏:‏ خاص بخواص الأمة المحمدية دون سائر الأمم وراثة عن نبيهم صلى الله عليه وسلم، فإنه خص بالرؤية دون غيره من الأنبياء‏.‏ وإلى ذلك أشار ابن الفارص في تائيته، مترجمًا بلسان الحقيقة المحمدية، حيث قال‏:‏

ودونَكَ بحرًا خُضتُهُ، وقَف الألي *** بساحِلِه، صَونًا لمَوضِع حُرمتي

ولا تقرَبُوا مالَ اليتيمِ إشارةٌ *** لكَفَّ يدٍ صُدَّت له، إذ تَصَّدِت

وما نالَ شيئًا منُه غيري سوى فتىً *** على قَدَمي في القبض والبسطِ ما فتى

قال شارحه القاشاني‏:‏ أراد بهذا البحر‏:‏ الرؤية التي مُنع منها موسى عليه السلام، وخص بها محمد عليه الصلاة والسلام وأفراد من أتباعه‏.‏ ثم قال‏:‏ ورد في الخبر‏:‏ أنه لما أفاق موسى عليه السلام من صعقته قيل له‏:‏ ليس ذلك لك، ذلك ليتيم يأتي من بعدك، ثم قال‏:‏ سبحانك تبتُ إليك عما تعديتُ لما ليس لي، وأنا أول المؤمنين بتخصيص محمد صلى الله عليه وسلم بهذا المقام‏.‏

ه‏.‏

وقيل في قوله‏:‏ ‏{‏فلما تجلى ربُّه للجبل‏}‏ أي‏:‏ جبل العقل، بحيث طمس نوره بنور شمس العرفان، وخر موسى صعقًا، أي‏:‏ ذهب وجوده في وجود محبوبه، وحصل له الزوال في مكان الفناء والسكر، فلما أفاق ورجع إلى البقاء تمسك بمقام العبودية والأدب مع الربوبية فقال‏:‏ ‏{‏سبحانك تبتُ إليك‏}‏ من رؤية جبل الحس قبل شهود نور المعنى، وأنا أول المؤمنين بأن نور المعاني خلف رداء الأواني، لا يدرك إلا بعد الصعقة، والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏144- 147‏]‏

‏{‏قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آَتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ‏(‏144‏)‏ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ ‏(‏145‏)‏ سَأَصْرِفُ عَنْ آَيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ‏(‏146‏)‏ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآَخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏147‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ الرُّشد والرَّشَد‏:‏ لغتان، قُرىء بهما‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏قال يا موسى إني اصطفيتُك‏}‏ اخترتك ‏{‏على الناس‏}‏ الموجودين في زمانك، وهارون، وإن كان نبيًا، كان مأمورًا باتباعه، ولم يكن كليما ولا صاحب شرع‏.‏ فقد اصطفيتك على أهل زمانك ‏{‏برسالتي‏}‏ لك إليهم، ومن قرأ بالجمع فالمراد‏:‏ أوقات التبليغ بأنواع الأحكام أو أسفار التوراة، ‏{‏و‏}‏ خصصتك ‏{‏بكلامي‏}‏، وقد شاركه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مع زيادة الرؤية، ‏{‏فخُذ ما آتيتك‏}‏ أي‏:‏ أعطيتك من الرسالة والتكليم، وأقنع بهما ولا تطلب غير ذلك، ‏{‏وكن من الشاكرين‏}‏ على هذه النعمة، وفيه نوع تأديب له‏.‏ رُوِي أن سؤال الرؤية كان يوم عرفة، وأعطاه التوراة يوم النحر‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏وكتبنا له في الألواح من كل شيءٍ‏}‏ يحتاجون إليه ‏{‏موعظةً‏}‏ أي‏:‏ تذكيرًا ‏{‏وتفصيلاً لكل شيءٍ‏}‏ يتوقفون عليه في الأحكام والوعظ‏.‏ واختلف في الألواح‏:‏ هل كانت سبعة أو عشرة أو اثنين، وهل كانت من زمرد أو زبرجد أو ياقوت أحمر، أو خشب، أو صخرة صماء، شقها الله تعالى لموسى عليه السلام فقطعها بيده، وكان فيها التوراة‏.‏

قال تعالى لموسى عليه السلام‏:‏ ‏{‏فخُذهَا‏}‏ أي‏:‏ الألواح أو الرسالة ‏{‏بقوة‏}‏ أي‏:‏ بجد واجتهاد، ‏{‏وأْمُرْ قومكَ يأخذوا بأحسنها‏}‏ بأحسن ما فيها، فإن فيها ما هو حسن وأحسن منه؛ كالقصاص مع العفو، أو بواجباتها، فإن الواجب أفضل من المندوب، وهذا كقوله في كتابنا‏:‏ ‏{‏وَاتَّبِعُوَاْ أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِكُم‏}‏ ‏[‏الزُّمَر‏:‏ 55‏]‏، ويجوز أن يراد بالأحسن‏:‏ البالغ في الحسن مطلقًا، لا بالإضافة إلى غيره، كقولهم‏:‏ الصيف أحر من الشتاء، فيكون الأمر بأخذ كل ما فيها لأنه بالغ الحسن، ثم بشرهم بخراب ملك عدوهم، فقال‏:‏ ‏{‏سأُريكُم دارَ الفاسقين‏}‏ أي‏:‏ دار فرعون وقومه خاوية على عروشها، أي‏:‏ أريكم كيف أقفَرَت منهم لمّا هلكوا، وقيل‏:‏ منازل عاد وثمود ومن هلك من الأمم، لتعتبروا بها، وقيل‏:‏ جهنم‏.‏

وقرأ ابن عباس‏:‏ «سأورثكم» بالثاء المثلثة، كقوله‏:‏ ‏{‏وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِى إِسْرَآءِيلَ‏}‏ ‏[‏الشُّعَرَاء‏:‏ 59‏]‏‏.‏

‏{‏سَأصرِفُ عن آياتي‏}‏ المنصوبة في الآفاق والأنفس الدالة على قدرتنا ووحدانيتنا من عجائب المصنوعات فلا يتفكرون فيها، أو القرآن وغيره من الكتب، أصرفُ عنها ‏{‏الذين يتكبّرون في الأرض‏}‏ بالطبع على قلوبهم فلا يتفكرون فيها، ولا يعتبرون، ولا يؤمنون بها، عقوبة لهم على تكبرهم، وقيل‏:‏ الصرف‏:‏ منعهم من إبطالها وإطفاء نورها، وإن اجتهدوا، كما فعل فرعون وغيره، فعاد عليهم بإعلائها وإظهار نورها، وذلك التكبر صدر منهم ‏{‏بغير الحق‏}‏ أي‏:‏ تكبروا بما ليس بحق، وهو دينهم الباطل‏.‏

‏{‏وإن يروا كل آية‏}‏ مُنزلةٍ أو معجزة ‏{‏لا يُؤمنوا بها‏}‏ لعنادهم، واختلال نظرهم، بسبب انهماكهم في الهوى وحب الجاه، ‏{‏وإن يَرَوا سبيل الرُّشد‏}‏ أي‏:‏ طريق الصواب والحق ‏{‏لا يتخذوه سبيلاً‏}‏ لاستيلاء الشيطان عليهم، ‏{‏وإن يَرَوا سبيلَ الغيِّ‏}‏ أي‏:‏ الظلال ‏{‏يتخذوه سبيلاً‏}‏ أي‏:‏ يسلكونه ويتبعونه، لأن سجيتهم الضلال، ‏{‏ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين‏}‏ أي‏:‏ ذلك الصرف بسبب تكذيبهم وعدم تدبرهم الآيات‏.‏

‏{‏والذين كذَّبوا بآياتنا ولقاءِ الآخرة‏}‏ أي‏:‏ وبلقائهم الدار الآخرة، أو‏:‏ ما وعد الله في الآخرة، ‏{‏حَبِطَت أعمالُهم‏}‏ لا ينتفعون بها، ‏{‏هل يُجزَون إلا ما كانوا يعملون‏}‏ أي‏:‏ لا يجزون إلا مقدار أعمالهم ‏{‏وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 49‏]‏‏.‏

الإشارة‏:‏ كل من أقامه الله في مقام من المقامات، أو حال من الأحوال، كيفما كان، يقال له‏:‏ خذ ما آتيتك، واقنع بما أوليتك، وكن من الشاكرين عليه، وإلا سلبناك ما أعطيناك، فالرضا بالقسمة واجب، وطلب باب الفضل والكرم لازب، والأمر مُبهم، والعواقب مُغيبة، ومنتهى المقام على التعيين لا يعلم إلا بعد الموت‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فخذها بقوة‏}‏ أي‏:‏ بجد واجتهاد‏.‏ قال في الإحياء‏:‏ الأخذ بالجد أن يكون القارىء متجردًا لله عند قراءته، منصرف الهمّة إليه عن غيره، وهو يشير للحضور‏.‏

وقول تعالى‏:‏ ‏{‏يأخذوا بأحسنها‏}‏ قال الورتجبي‏:‏ يأخذون بأبينها لهم، وهي المحكمات التي توجب العبودية، ويأخذون بمتشابهها التي هي وصف الصفات بحسن الاعتقاد والتسليم فيها، لأن علومها وحقائقها لا تكشف إلا للربانيين‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالْرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏آل عِمرَان‏:‏ 7‏]‏ الآية‏.‏ ه‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض‏}‏‏.‏ قال القشيري‏:‏ سأحرِمُ المتكبرين بركة الاتباع، حتى لا يتلقوا الآيات التي يُكاشَفَون بها بالقبول، ولا يسمعوا ما يُخَاطَبُون به بسمع الإيمان‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏148- 149‏]‏

‏{‏وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ ‏(‏148‏)‏ وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏149‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏عِجلاً‏}‏‏:‏ مفعول أول لاتخذ، و‏{‏جسدًا‏}‏‏:‏ بدل منه، وحذف الثاني أي‏:‏ «إلهًا» لدلالة أوله، و‏{‏له خوار‏}‏‏:‏ نعت له‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏واتخذ قُوم موسى من بعده‏}‏ أي‏:‏ من بعد ذهابه للميقات، ‏{‏من حُليَّهم‏}‏ التي كانوا استعاروها من القبط، حين هموا بالخروج من مصر، وإضافتها إليهم؛ لأنها كانت تحت أيديهم، فصنع لهم منها السامري ‏{‏عِجلاً جسدًا‏}‏ بلا روح، فألقى في جوفه من تراب أثر فرس جبريل، فصار ‏{‏له خُوارٌ‏}‏، فقال لهم‏:‏ ‏{‏هذا إلهكم وإله موسى‏}‏، فعكفوا على عبادته، واتخذوه إلهًا‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلاً‏}‏ أي‏:‏ ألم يروا، حين اتخذوه إلهًا، أنه لا يقدر على كلام، ولا على إرشاد سبيل، كآحاد البشر، حتى حسبوا أنه خالق الأجسام والقوى والقدر، وهذا تقريع على فرط ضلالتهم وإخلالهم بالنظر‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏اتخذوه‏}‏ إلهًا ‏{‏وكانوا ظالمين‏}‏ في اتخاذه، وضعوا الأشياء في غير محلها، أي‏:‏ كانت عادتهم الظلم، فلم يكن اتخاذ العجل بدعًا منهم‏.‏

‏{‏ولما سُقِطَ في أيديهم‏}‏؛ كناية عن اشتداد ندمهم، فإن النادم المتحسر يعض يده غمًا، فتصير يده مسقوطًا فيها‏.‏ أو يسقط رأسه، أي‏:‏ يطأطئها لبعض يده‏.‏ وقال الدمياميني‏:‏ العرب تضرب الأمثال بالأعضاء، ولا تريد أعيانها، تقول للنادم‏:‏ يُسقط في يده، وفي الذليل‏:‏ رغم أنفه‏.‏ ه‏.‏ أي‏:‏ ولَمَّا ندموا على ما فعلوا، ‏{‏ورأوا‏}‏ أي‏:‏ علموا ‏{‏أنهم قد ضلّوا‏}‏ باتخاذ العجل، ‏{‏قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا‏}‏ بالتجاوز عن خطيئتنا، ‏{‏لنكونَنّ من الخاسرين‏}‏ دنيًا وأخرى‏.‏

الإشارة‏:‏ كلّ مَن ركن إلى شيء وعكف على محبته من دون الله فهو في حقه عجل يعبده من دون الله، «ما أحببت شيئًا إلا وكنت عبدًا له، وهو لا يحب أن تكون عبدًا لغيره»‏.‏ عافانا الله من ذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏150- 153‏]‏

‏{‏وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏150‏)‏ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ‏(‏151‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ ‏(‏152‏)‏ وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآَمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏153‏)‏‏}‏

الإشارة‏:‏ ‏{‏بئسما‏}‏‏:‏ «ما» نكرة موصوفة‏:‏ تمييز، تفسير للضمير المستكن في ‏(‏بئس‏)‏، والمخصوص‏:‏ محذوف، أي‏:‏ بئس شيئًا خلفتموني خلافتكم هذه، و‏{‏ابن أم‏}‏‏:‏ منادى مضاف، منصوب بفتحة مقدرة قبل ياء المتكلم، وأصله‏:‏ ابن أمي، فحذفت الياء، وفتحت الميم تخفيفًا‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ولما رجعَ موسى‏}‏ من ميقاته ‏{‏إلى قومه غضبان‏}‏ على قومه، ‏{‏أسِفًا‏}‏ أي‏:‏ حزينًا عليهم حيث ضلوا، ‏{‏قال‏}‏ لهم، أو لأخيه ومن معه من المؤمنين‏:‏ ‏{‏بئسما خلفتُموني من بعدي‏}‏ أي‏:‏ من بعد انطلاقي إلى المناجاة، ‏{‏أعَجِلتُم أمرَ ربكم‏}‏ أي‏:‏ أسابقتم قضاء ربكم ووعده، واستعجلتم إتياني قبل الوقت الذي قدَّر فيه، أو أعجلتم عقوبة ربكم وإهلاكه لكم حيث عبدتم غيره‏.‏

‏{‏وألقى الألواحَ‏}‏؛ طرحها من شدة الغضب حمية للدين، رُوِي أن التوراة كانت سبعة أسفار في سبعة ألواح، فلما ألقاها انكسرت، فرفع ستةَ أسبَاعِها، وكان فيها تفصيل كل شيء، وبقي سُبعٌ كان فيه المواعظ والأحكام، ‏{‏وأخذَ برأسِ أخيه‏}‏‏:‏ بشعر رأسه ‏{‏يَجرُّه إليه‏}‏؛ توهمًا في أنه قصَّر في زجرهم، وهارونُ كان أكبر منه بثلاث سنين، وكان حمولاً لَيِّنًا، ولذلك كان أحبَّ إلى بني إسرائيل، ولما رأى هارونُ ما يفعل به أخروه ‏{‏قال ابنَ أُمَّ‏}‏؛ ذكر الأم ليرقّقه، وكان شقيقًا له، ‏{‏إنَّ القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني‏}‏ حين أنكرتُ عليهم، فقد بذلتُ جهدي في كفهم، وقهروني حتى قاربوا قتلي، فلم أُقَصِّر، ‏{‏فلا تُشمت بي الأعداء‏}‏؛ فلا تفعل بي ما يشمتون بي، أي‏:‏ يستشفون بي لأجله، ‏{‏ولا تجعلني مع القوم الظالمين‏}‏ معدودًا في عدادهم بالمؤاخذة، أو نسبة التقصير‏.‏

‏{‏قال‏}‏ موسى‏:‏ ‏{‏ربِّ أغفر لي‏}‏ ما صنعتُ بأخي، ‏{‏ولأخي‏}‏؛ إن فرَّط في كفَّهم، ‏{‏وأدخلنا في رحمتك‏}‏ بمزيد الإنعام علينا، ‏{‏وأنت أرحمُ الراحمين‏}‏ فأنت أرحم منا على أنفسنا‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين اتخذوا العِجلَ سينالُهم غضبٌ من ربهم‏}‏؛ وهو ما أمرهم من قتل أنفسهم، أو الطاعون الذي سلط عليهم، ‏{‏وذلةٌ في الحياة الدنيا‏}‏ وهي ضرب الجزية والهوان إلى يوم القيامة، ‏{‏وكذلك نجزي المفترين‏}‏ على الله، ولا فرية أعظم من فريتهم، حيث ‏{‏قالوا هذا إلهكم وإله موسى‏}‏، ولعله لم يفترِ أحدٌ مثلها قبلهم ولا بعدهم، حيث جعلوا البقر إلههم وإله الرسول، نسأل الله الحفظ‏.‏

ثم ذكر توبتهم، فقال‏:‏ ‏{‏والذين عَمِلُوا السيئات‏}‏ من الكفر والمعاصي، ‏{‏ثم تابوا من بعدها‏}‏؛ من بعد السيئات ‏{‏وآمنوا‏}‏ واشتغلوا بما يقتضيه الإيمان من الأعمال الصالحات، ‏{‏إنَّ ربك من بعدها‏}‏ من بعد التوبة ‏{‏لغفورٌ رحيم‏}‏ وإن عَظُم الذنب؛ كجريمة عَبَدَة العجل وكَثُر؛ كجرائم بني إسرائيل‏.‏

الإشارة‏:‏ الغضب لله وبالله، والأسف على دين الله، من أمارة الغَيرة على دين الله، لكنَّ صاحب هذا المقام مالك نفسه، يظهر الغلظة ويبطن الرحمة، قيامًا بشهود الحكمة والقدرة، وأما ما صدر من سيدنا موسى عليه السلام فتشريع لأهل التشريع، لئلا يقع التساهل في تغيير المناكر‏.‏

وساق الإمام الهروي هذه الآية في منازل السائرين في باب المراد، وهو المخصوص من ربه بما لم يُرِده هو ولا خطر بباله، والإشارة بذلك إلى الضَّنَائِن الذين وَرَدَ فيهم الخبر‏:‏ «إنَّ للهِ ضَنَائِن من خَلقِه، ألبَسَهُم النُور السَّاطِع، وغذاهُم فِي رَحَمِتِه، وفَعَلَ بِهم وفَعَلَ‏.‏‏.‏‏.‏» أورده الإمام أو نعيم في الحلية‏.‏

وحاصله‏:‏ أن المُرادين هم قوم مخصوصون، ملطوف بهم، محمول عنهم، ومنه‏:‏ ‏{‏ومَا كُنتَ تَرْجُوَاْ أَن يُلْقَىَ إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِن رَّبِكَ‏}‏ ‏[‏القَصَص‏:‏ 86‏]‏ فقد خُص عليه الصلاة والسلام بما لم يخطر على باله قبل النبوة‏.‏

قال الهروي‏:‏ والمراد‏:‏ ثلاث درجات‏:‏ الدرجة الأولى‏:‏ أن يُعصمَ العبد وهو مستشرف للجفا؛ اضطرارًا بتنغيص الشهوات وتعويق الملاذ، وسد مسالك المعاطب عليه، إكرامًا، والدرجة الثانية‏:‏ أن توضع عن العبد عوارض النقص، ويعافيه من سمة اللائمة، ويملكه عواقب الهفوات، كما فعل لسليمان عليه السلام في قتل الخيل؛ حمله على الريح الرُخاء، فأغناه عن الخيل، وكما فعل لموسى عليه السلام؛ حين ألقى الألواح وأخذ برأس أخيه لم يعتب عليه كما عتب على آدم ونوح وداود ويونس عليهم السلام‏.‏ ه‏.‏

قال شارحه الإمام عبد المعطي السكندري‏:‏ وهذه الدرجة أتم في الحمل على الأعمال وركوب الأهوال، والتلطف في تعليم الإقبال مما قبلها، فإن ما قبلها منعٌ من الشهوات وصيانة عن الآفات؛ جبرًا وقهرًا وحفظًا، وهذا حفظ عنها؛ بإظهار صفح برفق وإكرام ولطف، فتقوى المحبة في القلب، فيحمل ذلك على سرعة الموافقة، ومتى عرف العبد تقصيره في حق مولاه، ورأى مع ذلك تجاوزه عنه، وإحسانه إليه، فضلاً عن ترك مؤاخذته بما جناه، انغرس في قلبه محبته، وقوى بذلك نشاطه، وخفت عليه الأعمال، وقويت منه الأحوال، فكلاهما محفوظ مُعَان، إلا أن الأول قهر مع تعلقه، وهذا إكرام ولطف بعد جريان هفوته، ثم ذكر الدرجة الثالثة، فانظره‏.‏ ه‏.‏ بنقل المحشي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏154‏]‏

‏{‏وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ ‏(‏154‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏لما سكت‏}‏ أي‏:‏ سكن ‏{‏عن موسى الغضبُ‏}‏؛ لَمَّا كان الغضب هو الحامل له على ما فعل صار كأنه كان يأمره به ويغريه عليه، حتى عبَّر عن سكونه بالسكوت، أي‏:‏ لما سكن غضبه ‏{‏أخذَ الألواحَ‏}‏ التي ألقاها، ‏{‏وفي نُسختها‏}‏ أي‏:‏ وفيما نسخ فيها، أي‏:‏ كُتب ‏{‏هُدَىً ورحمة‏}‏ أي‏:‏ بيان للحق وإرشاد إلى الصلاح والخير، ‏{‏للذين هم لربهم يرهبون‏}‏ أي‏:‏ للذين يخافون ربهم ويهابونه؛هم المنتفعون بها، ودخلت اللام في المفعول؛ لضعف العامل بتأخره‏.‏

الإشارة‏:‏ الغضب لأجل النفس يُفسد الإيمان، كالحنظل مع العسل، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام للذي قال له‏:‏ أوصني، قال‏:‏ «لا تَغضَب»، ثم كرر عليه‏:‏ أوصني، قال‏:‏ «لا تَغضَب»، ثلاثًا، لأن الغضب المفرط يغطي نور العقل، فيصدر من صاحبه أمور منكرة، قد يخرج بها عن الإيمان بالكلية، وقد يؤدي إلى قتل نفسه والعياذ بالله، والغضب معيار الصوفية؛ قال بعضهم‏:‏ إذا أردت أن تعرف الرجل فغضبه وانظر ما يخرج منه، إلى غير ذلك مما ورد فيه، فإن كان غضبه لله أو بالله فلا كلام عليه، وهو حال الأنبياء وأكابر الأولياء رضي الله عنهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏155- 157‏]‏

‏{‏وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ ‏(‏155‏)‏ وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏156‏)‏ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏157‏)‏‏}‏

‏{‏واختار موسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرجفة قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السفهآء مِنَّآ إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِي مَن تَشَآءُ أَنتَ وَلِيُّنَا فاغفر لَنَا وارحمنا وَأَنتَ خَيْرُ الغافرين واكتب لَنَا فِي هذه الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏واختارَ موسى قومه‏}‏ من قومه ‏{‏سبعين رجلاً‏}‏ يعتذرون عن قومهم في عبادة العجل، ‏{‏لميقاتنا‏}‏ الذي وقتنا لهم يأتون إليه، وقيل‏:‏ إن الله تعالى أمره به بأن يأتيه في سبعين من بني إسرائيل، فاختار من كل سبط ستةً، فزاد على السبعين اثنان، فقال‏:‏ يتخلف منكم رجلان، فتشاجروا، فقال‏:‏ إن لِمن قعد أجر من خرج، فقعد كالب ويوشع، وذهب معه الباقون، فلما دنوا من الجبل غشية غمام، فدخل موسى بهم الغمام وخروا سُجدًا، فسمعوه يكلم موسى، يأمره وينهاه، ثم انكشف الغمام، فأقبلوا إليه، وقالوا‏:‏ ‏{‏لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً‏}‏ ‏[‏البَقَرَة‏:‏ 55‏]‏، ‏{‏فأخذتهم الرجفة‏}‏ أي‏:‏ الصعقة، أو رجفة الجبل، عقابًا لهم على قولهم، فصعقوا منها، يحتمل أن تكن رجفة موت أو إغماء‏.‏ والأول أظهر؛ لقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِن بَعْدِ مَوْتِكُمْ‏}‏ ‏[‏البَقَرَة‏:‏ 56‏]‏‏.‏

‏{‏فلما أخذتهُم الرّجفَةُ قال‏}‏ موسى‏:‏ ‏{‏ربِّ لو شئتَ أهلكتَهم من قبل وإيّايَ‏}‏، تمنى هلاكهم وهلاكه قبل ذلك الوقت، لأنه خاف من تشغيب بني إسرائيل عليه، إن رجع إليهم دون هؤلاء السبعين، ربما قالوا‏:‏ عرّضهم للهلاك، أو يكون قال ذلك على وجه الاستسلام والانقياد للقضاء، أي‏:‏ لو شئت أن تُهلكنا من قبل ذلك لفعلت، فإنا عبيدك وتحت قهرك تفعل بنا ما تشاء، أو يكون قاله على وجه التضرع والرغبة، أي‏:‏ لو ئشت أن تهلكنا قبل اليوم لفعلت، لكنك عافيتنا وأنقذتنا وأغرقت عدونا، فافعل بنا الآن كما عودتنا، وأحيي هؤلاء الذي أمتهم، إذ ليس ببعيد من عميم إحسانك، ‏{‏أَتُهلِكُنا بما فعلَ السفهاءُ منّا‏}‏ من العناد والتجاسر على طلب الرؤية، أو بما فعل السفهاء من عبادة العجل‏.‏

‏{‏إن هي إلا فتنتُك‏}‏ أي‏:‏ ابتلاؤك حين أسمعتهم كلامك، حتى طمعوا في الرؤية، أو فتنتك لهم بأن أجريت الصوت من العجل حتى افتتنوا به، وهذا اعتراف بالقدر، ورجوع إلى قوله‏:‏ ‏{‏فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 85‏]‏ الآية، ولذلك قيل‏:‏ إنه قال له تعالى‏:‏ نعم هي فتنتي يا حكيم الحكماء‏.‏ ه‏.‏ أي‏:‏ ما هذه الأمور كلها التي صدرت من بني إسرائيل إلا فتنتك ‏{‏تُضلَّ بها من تشاء‏}‏ ضلالته، باتباع المخايل، ‏{‏وتهدي من تشاء‏}‏ هدايته، فيقوي بها إيمانه، وهو اعتذار عن فعل السفهاء فإنه كان بقضاء الله ومشيئته‏.‏

‏{‏أنت وليُّنا‏}‏ القائم بأمرنا، أو ناصرنا من الوقوع في أسباب المهالك، ‏{‏فاغفر لنا‏}‏ ما قارفنا من الذنوب، ‏{‏وارحمنا‏}‏ أي‏:‏ اعصمنا من الوقوع في مثله، ‏{‏وأنت خير الغافرين‏}‏؛ تغفر السيئة وتبدلها بالحسنة، ‏{‏واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة‏}‏ أي‏:‏ حالة حسنة من حسن معيشة وتوفيق طاعة، ‏{‏وفي الآخرة‏}‏ حسنة؛ نعيم الجنة، ‏{‏إنا هُدنا إليك‏}‏ أي‏:‏ تبنا إليك، من هادَ يهود‏:‏ إذا رجع، أي‏:‏ رجعنا إليك بالتوبة مما سلف منا‏.‏

الإشارة‏:‏ السلامة من العطب هو في مقام الهيبة والأدب، ولذلك قيل‏:‏ قف بالبساط، وإياك والانبساط‏.‏ وأما مقام الإدلال فلا يصح إلا من أكابر الأنبياء، والأولياء المحققين بمقام المحبوبة، المتحَفين بغاية الخصوصية، ومنه قول سيدنا موسى عليه السلام‏:‏ ‏{‏أتهلكنا بما فعل السفهاء منا‏}‏، كما قال في الإحياء‏.‏ والإدلال‏:‏ هو انبساط يثور من مقام الأنس والتحقق بالمحبة الخاصة، ولا يتفق إلا من محبوب مأخوذ عنه، ليس عليه بغية من نفسه، ولا شعور بوجوده وأنانيته، وإلا ردّ في وجهه وكان سبب عطبه‏.‏ ومن الإدلال‏:‏ ما وقع لأبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه في حزبه الكبير، من قوله‏:‏ وليس من الكرم إلا تحسن إلا لمن أحسن إليك‏.‏‏.‏‏.‏ الخ‏.‏ وقد وقع لغيره من المحبوبين‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

ثم أجاب الحق سبحانه وتعالى سؤال موسى عليه السلام في قوله‏:‏ ‏{‏واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة‏}‏ فقال‏:‏

‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ قَالَ عذابي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَآءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزكاة والذين هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل يَأْمُرُهُم بالمعروف وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المنكر وَيُحِلُّ لَهُمُ الطيبات وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخبآئث وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ والأغلال التي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فالذين آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ واتبعوا النور الذي أُنزِلَ مَعَهُ أولئك هُمُ المفلحون‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ في جواب سيدنا موسى عليه السلام‏:‏ ‏{‏قال عذابي أُصيب به من أشاءُ‏}‏ ممن أخذّته الرجفة وغيرهم، ‏{‏ورحمتي وَسِعت كلَّ شيء‏}‏ في الدنيا للمؤمنين والكافرين، وفي الآخرة مخصوصة بالمؤمنين، ‏{‏فسأكتبها‏}‏ كتابة خاصة لا تليق بكم يا بني إسرائيل، إنما تليق بالأمة المحمدية الموسومة بالآداب المرضية، الذين ‏{‏يتقون‏}‏ الكفر والمعاصي، وإن وقعت هفوة بادروا إلى التوبة، ‏{‏ويُؤتون الزكاة‏}‏، خصصها بالذكر لأنها كانت أشق عليهم‏.‏ ‏{‏والذين هم بآياتنا يؤمنون‏}‏ فلا يكفرون بشيء منها، بل يؤمنون بجميع الكتب والأنبياء، وليس ذلك لغيرهم‏.‏ ولذلك خصهم الله بهذه الرحمة؛ فَنَصرَهم على جميع الأمم، وأعلى دينهم على جميع الأديان، ومكّن لهم ما لم يمكن لغيرهم‏.‏

‏{‏الذين يتبعون الرسول‏}‏ صلى الله عليه وسلم ‏{‏النبي الأميَّ‏}‏ وهو نبينا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم، وكونه أُميًّا شرفٌ له، إذ الكتابة وسيلة للعلوم، وقد أُعطي منها ما لم يُعطَ أحَدٌ من العالمين، من غير تعب تعلمها، ولارتفاع الارتياب في نبوته صلى الله عليه وسلم، فهي من جملة معجزاته؛ قال تعالى‏:‏

‏{‏وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏العَنكبوت‏:‏ 48‏]‏ الآية‏.‏ قال بعضهم‏:‏ لما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ورحمتي وسعت كل شيء‏}‏ طمع فيها كل أحد، حتى إبليس، فلما قال‏:‏ ‏{‏فسأكتبها للذين يتقون‏}‏ يئس إبليس، وبقيت اليهود والنصارى، فلما قال‏:‏ ‏{‏الذين يتبعون الرسول النبي الأميّ‏}‏ يئس اليهود والنصارى‏.‏ ه‏.‏

‏{‏الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل‏}‏ اسمًا وصفة، ونص ما في التوراة على ما في صحيح البخاري، عن عبد الله بن سلام‏:‏ «يا أيُّهَا النَبِيُّ إنَّا أرسلَنَاكَ شَاهِدًا ومُبَشَّرًا ونَذِيرًا، وحِرزًا للأمِّيينَ، أنتَ عَبدِي ورَسُولِي، سَمَّيتُكَ المُتَوكلَ، لِيسَ بفظٍ ولا غليظ ولا صَخَّابِ في الأسوَاقُ، ولا يُجَازِي بالسَّيِّئةَ السَّيِّئة، ولكِن يَعَفُو ويَصفَحُ، ولَن يَقبِضَهُ الله حَتَّى يُقِيمَ بِهِ المِلَّةَ العَوجاءَ؛ بِأن يَقُولُوا‏:‏ لا إله إلاَّ الله، فَيفَتَح بِها أعيُنًا عُميًا، وآذانًا صُمًّا، وقُلُوبًا غُلفًا»‏.‏

ومما في التوراة أيضًا، وهو مما أجمع عليه أهل الكتاب، وهو باق في أيديهم إلى الآن؛ أن الملك قد نزل على إبراهيم، فقال له‏:‏ في هذا العام يولد لك غلام اسمه إسحاق، فقال إبراهيم‏:‏ يا رب ليت إسماعيل يعيش يخدمك، فقال الله لإبراهيم‏:‏ ذلك لك، قد استجيب لك في إسماعيل، وأنا أباركه، وأنميه، وأكثره، وأعظمه بما ذماذ، وتفسيره‏:‏ محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

ومن ذلك مما في التوراة أيضًا‏:‏ أن الرب تعالى جاء من طور سيناء، وطلع على «ساغين»، وظهر من جبل فاران، ويعني طور سيناء‏:‏ موضع مناجاة موسى، وساغين موضع عيسى، وفاران هي مكة، موضع مولد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وفي التوراة أيضًا‏:‏ أن هاجر أم إسماعيل لما غضبت عليها سارة، تراءى لها ملكٌ، فقال لها‏:‏ يا هاجر، أين تريدين، ومن أين أقبلتِ‏؟‏ فقالت‏:‏ أهرب من سيدتي سارة، فقال لها‏:‏ يا هاجر، ارجعي إلى سارة، وستحملين وتلدين ولدًا اسمه إسماعيل، وهو يكون عَين الناس، وتكون يده فوق الجميع، وتكون يد الجميع مبسوطة إليه بالخضوع‏.‏ ه‏.‏

وهذا الذي وعدها الملك إنما ظهر بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم وظهور دينه وعلو مكانه، ولم يكن ذلك لإسماعيل ولا لغيره من أولاده، لكن الأصل يشرف بشرف فرعه، وفي التوراة أيضًا‏:‏ أن الله أوحى إلى إبراهيم عليه السلام‏:‏ قد أجبت دعاءك في إسماعيل، وباركت عليه، وسيلد اثني عشر عظيمًا، وأجعله لأمة عظيمة‏.‏ وفي بعض كتبهم‏:‏ لقد تقطعت السماء من بهاء مُحمدٍ المحمود، وامتلأت الأرض من حمده، لأنه ظهر بخلاص أمته‏.‏ ه‏.‏ ونص ما في الإنجيل‏:‏ أن المسيح قال للحواريين‏:‏ إني ذاهب عنكم، وسيأتيكم الفارقَليط، الذي لا يتكلم من قِبل نفسه، إنما يقول كما يقال له‏.‏ ه‏.‏ والفارقليط بالعبرانية‏:‏ اسم محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل معناه‏:‏ الشافع المشفع‏.‏

وعن شَهر بن حَوشبٍ في قصة إسلام كعب الأحبار، وهو من اليمن من حمير‏:‏ أن كعبًا أخبره بأمره، وكيف كان ذلك، وكان أبوه من مؤمني أهل التوراة برسول الله صلى الله عليه وسلم، قبل ظهوره، قال كعب‏:‏ وكان أبي من أعلم الناس بالتوراة وكُتب الأنبياء، ولم يكن يدخر عني شيئًا مما كان يعلم، فلما حضرته الوفاة دعاني فقال‏:‏ يا بني، قد علمتَ أني لم أكن أدخر عنك شيئًا مما كنتُ أعلم، إلا أني حَبَستُ عنك ورقتين فيهما ذكر نبي يُبعث، وقد أطل زمانه، فكرهت أن أخبرك بذلك، فلا آمن عليك بعد وفاتي أن يخرج بعض هؤلاء الكاذبين فتتبعه، وقد قطعتهما من كتابي، وجعلتهما في هذه الكوة التي ترى، وطينت عليهما، فلا تتعرض لهما حتى يخرج هذا النبي، فإذا خرج فاتبعه وانظر فيهما، فإن الله تعالى يزيدك بهذا خيرًا، فلما مات والدي لم يكن شيء أحب إليّ من أن ينقضي المأتم حتى أنظر ما في الورقتين، فإذا فيهما‏:‏ «محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، خاتم النبيين لا نبي بعده، مولده بمكة، ومهاجره طيبة، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يجزي بالسيئة الحسنة، ويعفو ويغفر ويصفح، أمته الحمَّادون، الذين يحمدون الله على كل شرف وعلى كل حال، وتُذلل ألسنتهم بالتكبير، وينصر الله نبيهم على كل من ناوأه، يغسلون فروجهم بالماء، ويتأزرون على أوساطهم، وأنَاجِيلُهُم في صدورهم، ويأكلون قربانهم في بطونهم، ويؤجرون عليها، وتراحمهم بينهم تراحم بني الأم والأب، وهم أول من يدخل الجنة يوم القيامة من الأمم، وهم السابقون المقربون، والشافعون المشفع فيهم» ثم أسلم على يد عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ في بقية أوصاف نبينا عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏{‏يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويُحِلُّ لهم الطيبات‏}‏ مما حرم على اليهود؛ كالشحوم وغيرها، ‏{‏ويُحرَّم عليهم الخبائث‏}‏ كالدم والحم الخنزير وسائر الخبائث، أو كالربا والرشوة وغيرهما من المحرمات‏.‏ قال ابن جزي‏:‏ مذهب مالك أن الطيبات هي الحلال، وأن الخبائث هي الحرام‏.‏ ومذهب الشافعي‏:‏ أن الطيبات هي المستلذات، إلا ما حرمه الشرع منها، كالخمر والخنزير، وأن الخبائث هي المستقذرات كالخنافس والعقارب‏.‏ ه‏.‏

‏{‏ويضعُ عنهم إصرَهم‏}‏ أي‏:‏ الثقل الذي عليهم، وهو مثال لما كُلفوا به أي‏:‏ بنو إسرائيل في شرعهم من المشقات؛ كقتل الأنفس في التوبة، وقطع موضع النجاسة من الثوب، وتعيين القصاص في العمد والخطأ‏.‏ ‏{‏والأغلآل التي كانت عليهم‏}‏؛ عبارة عما منعت منه شريعتهم، كتحريم الشحوم، وتحريم العمل يوم السبت وشبه ذلك‏.‏ ‏{‏فالذين آمنوا به وعزّرُوه‏}‏ أي‏:‏ منعوه وحفظوه من عدوه، حتى لا يقوى عليه، أو عظموه بالتقوية حتى انتصر، وأصله‏:‏ المنع، ومنه التعزير، ‏{‏ونصروه‏}‏ حتى أظهروا دينه في حياته وبعد مماته، ‏{‏واتبعوا النورَ الذي أُنزل معه‏}‏ وهو القرآن، وإنما سماه نورًا؛ لأنه بإعجازه ظاهر أمره ومظهر غيره، أو لأنه كاشف للحقائق مظهر لها‏.‏

‏{‏أولئك هم المفلحون‏}‏ الفائزون بالرحمة الأبدية، وهذا آخر جواب سيدنا موسى عليه السلام‏.‏

الإشارة‏:‏ قوله تعالى ‏{‏ورحمتي وسعت كل شيء‏}‏، قال القشيري‏:‏ لم يُعَلَّقها بالمشيئة يعني‏:‏ كما قال في العذاب لأنها نفس المشيئة، ولأنها قديمة، والإرادة لا تتعلق بالقديم، فلمَّا كان العذاب من صفات الفعل علَّقه بالمشيئة، بعكس الرحمة لأنها من صفات الذات‏.‏ ويقال في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وسعت كل شيء‏}‏‏:‏ مجالٌ لآمال العُصَاة؛ لأنهم، وإن لم يكونوا من جملة المطيعين العابدين والعارفين، فيهم «شيء»‏.‏ ه‏.‏

قلت‏:‏ وبهذا العموم تشبث إبليس في قضية له مع سهل، وذلك أنه لما تراءى له، ضحك، فقال له‏:‏ كيف تضحك وقد أبلست من رحمة الله‏؟‏ فقال له‏:‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏ورحمتي وسعت كل شيء‏}‏ وأنا شيء فسكت سهل، ثم تذكر تما الآية، فقال‏:‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏فسأكتبها للذين يتقون‏}‏، فهي مُقيدة لا مطلقة، فقال له‏:‏ التقوى فعل العبد، والرحمة صفة الرب، ولا يتغير وصف الحق بفعل العبد، فعجز سهل‏.‏

قلت‏:‏ والجواب‏:‏ أن إبليس جاء من جهة الفرق، ولو نظر للجمع لوجد الرحمة وصفه، والتقوى فعله، وفعله يغير وصفه، والكل منه وإليه‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

وقال الورتجبي‏:‏ جميع الخلائق مستغرقون في بحر الرحمة، لأن إيجاد الحق إياهم، على أي‏:‏ وصف كانوا، عين رحمته، حيث دخلوا تحت نظره وسلطانه وربوبيته، ومباشرة قدرته فيهم، ثم إن الخلق بالتفاوت في الرحمة فالجمادات مستغرقة في نور فعله، وهي الرحمة الفعلية، والحيوانات مستغرفة في نور صفاته، وهي الرحمة الصفاتية، والعقلاء من الجن والإنس والملائكة مستغرقون في نور ذاته، وهي الرحمة القديمة الذاتية من جهة تعريفهم ربوبيته ووحدانيته، وهم من جهة الأجسام وما يجري عليها، في الرحمة العامة، ومن جهة الأرواح وما يجري عليها، في الرحمة الخاصة، وهم فيها بالتفاوت، فبعضهم في رؤية العظمة ذابوا، وبعضهم في رؤية القدم والبقاء تاهوا، وبعضهم في رؤية الجلال والجمال عشقوا وطاشوا، ومن خرج من مقام الرحمة إلى أصل الصفة، ومن الصفة إلى أصل الذات استغرق في الراحم، وفنى عن الرحمة، فصار رحمة للعالمين، وهذا وصف نبينا عليه الصلاة والسلام، لأنه وصل بالكل إلى الكل، فوصفه برحمة الكل بقوله‏:‏ ‏{‏وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إَلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبيَاء‏:‏ 107‏]‏، ثم خص رحمته الخاصة الصفاتية، بعد أن عم الكل برحمته العامة للمنفردين بالله عن غير الله، القانتين بعظمته في عظمة الذين بذلوا وجوههم لحق ربوبيته عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏فسأكتبها للذين يتقون‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏ ه‏.‏

قال في الحاشية‏:‏ واعتبر قوله‏:‏ ‏{‏فسأكتبها‏}‏، فإنه يقتضي كون الرحمة السابقة مطلقة، والتغيير طارىء، والطارىء لا ينافي الذات‏.‏

ه‏.‏

قلت‏:‏ فتكون على هذا الرحمة التي وسعت كل شيء رحمة عامة، إذ لا يخلو مخلوق من رحمته في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فالخلق كلهم مرحومون إيجادًا وإمدادًا، وأما في الآخرة فما من عذاب إلا والله أشد منه في قدرته، والرحمة التي كتبت للمتقين رحمة خاصة، ويدل على هذا ما في القوت على قوله‏:‏ ‏{‏فسأكتبها للذين يتقون‏}‏، قال‏:‏ معناه خصوص الرحمة وصفوها لا كلها، إذ لا نهاية للرحمة، لأنها صفة الراحم الذي لا حد له، ولأنه لم يخرج من رحمته شيء، كما لم يخرج من حكمته وقدرته شيء‏.‏ ه‏.‏

وقال السيوطي‏:‏ فسأكتبها في الآخرة، ووجه تخصيصها في الآخرة بالمؤمنين‏:‏ تمحضها هنالك من غير شوب بضد، ولا كذلك في الدنيا، وإن كانت غالبة، والكافر عمته في الدنيا عمومًا ظاهرًا، وسلب منها في الآخرة بحسب الظاهر، وإن لم يخل عنها في الجملة، لأن عضبه تعالى لا حدّ له لولا رحمته‏.‏

وحاصله‏:‏ أنه لم تفي جهنم بغضبه، لأنه لا يفي المتناهي بغير المتناهي ورحمته عمت الكافر في الدنيا لإمهاله وبسط نعمه عليه، وفي الإمهال فسحة في الحال وأمل الإقلاع في المآل، وقد يتفق كثيرًا، أي‏:‏ الإقلاع، فلا يتعين أن يكون الإمهال استدراجًا، على أنه إنما يتجلى تجليًا أوليًا ذاتيًا برحمة مطلقة من غير تفصيل، إذ لا تعدد في الذات، وإنما يظهر التفصيل بالصفات، وإن كان يسري إليها من الذات، ولكن الرحمة تظهر أولاً من الذات، مع قطع النظر عن الصفات؛ لظهورها، ولا تظهر النقمة إلا من الصفات، وهي خفية في تجلي الذات المطلق، ولذلك قال‏:‏ ‏{‏ورحمتي وسعت كل شيء‏}‏، وعلق العذاب على المشيئة، فخص به دونها‏.‏ ه‏.‏ من الحاشية مع زيادة بيان‏.‏