فصل: تفسير الآيات رقم (23- 24)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 24‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آَبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏23‏)‏ قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم‏}‏؛ الذين بقوا على كفرهم ‏{‏أولياءَ‏}‏؛ توالونهم بالمحبة والطاعة، ‏{‏إِن استحبوا الكفرَ‏}‏ واختاروه على الإيمان‏.‏ نزلت في شأن المهاجرين؛ فإنهم لما أُمروا بالهجرة قالوا‏:‏ إن هاجرنا قطعنا آباءنا وأبناءنا وعشائرنا، وذهبت تجارتنا، وبقينا ضائعين‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت فيمن ارتد ولحق بمكة، فنهى الله عن موالاتهم‏.‏ ‏{‏ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون‏}‏؛ بوضعهم الموالاة في غير موضعها‏.‏

‏{‏قل إِن كان آباؤكُم وأبناؤكُم وإِخوانُكم وعشيرتُكم‏}‏ أي‏:‏ أصحابكم، أو أقرباؤكم، ‏{‏وأموال اقترفتُموها‏}‏؛ اكتسبتموها، ‏{‏وتجارة تخشوْنَ كسادَهَا‏}‏ أي‏:‏ فوات وقت إنفاقها، ‏{‏ومساكنُ ترضونها‏}‏؛ لحسنها وسعتها، فإن كان ذلك ‏{‏أحبَّ إليكم من الله ورسولهِ‏}‏ أي‏:‏ من الإيمان بالله وصحبة ورسوله، ‏{‏وجهادِ في سبيله‏}‏، فآثرتم ذلك، وتخلفتم عن الإيمان والهجرة، ‏{‏فتربصوا حتى يأتي اللَّهُ بأمره‏}‏ أي‏:‏ بعقوبة عاجلة أو آجلة، أو بنصر وفتح على المؤمنين، كفتح مكة وغيرها، والمراد بالمحبة‏:‏ الاختيارية دون الطبيعة؛ فإنها لا تدخل تحت التكليف، والتحفظ عنها؛ لأن حب الأوطان والعشائر طبيعي، والحب المكلف به اختياري، بحيث يجاهد نفسه في إبدال الطبيعي بالاختياري‏.‏

ثم هدد من وقف مع حب الأوطان بقوله‏:‏ ‏{‏والله لا يهدي القوم الفاسقين‏}‏ لا يرشدهم ولا يوفقهم‏.‏ وفي الآية تهديد عظيم، وقلَّ من تحفظ عنه‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏

الإشارة‏:‏ الهجرة من أوطان الغفلة واجبة، ومفارقة الأصحاب والعشائر؛ الذين لا يوافقون العبد على النهوض إلى الله فريضة، فيجب على المريد أن يهاجر من البلد التي لا يجد فيها قلبه، ولا يجد فيها من يتعاون به على ربه، كائنة ما كانت، وما رأينا ولياً قط أنتج في بلده، إلا القليل، فلما هاجر صلى الله عليه وسلم من وطنه إلى المدينة‏.‏ وحينئذ نصر الدين، بقيت سنة في الأولياء، لا تجد ولياً يعمر سوقُه إلا في غير بلده، ويجب عليه أيضاً أن يعتزل من يشغله عن الآباء والأبناء والأزواج والعشائر، وكذلك الأموال والتجارات التي تشغل قلبه عن الله، بعد أن يقيم في أولاده حقوق الشريعة، فاللبيب هو الذي يجمع بين الحقيقة والشريعة، فلا يضيع من يعول، ولا يترك حق من يتعلق به من الزوجة أو غيرها، ويذكر الله مع ذلك، فيخالطهم بحسه، ويفارقهم بقلبه، فإن لم يستطع وأراد دواء قلبه فليخير الزوجة، ويُوكل من ينوب عنه في القيام بحقوق العيال، حتى يقوى قلبه ويتمكن مع ربه، ‏{‏وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجعَل لَّهُ مَخرَجَاً وَيَرزُقهُ مِن حَيثُ لاَ يَحتَسِبُ وَمَن يَتَوَّكَّل عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسبُه‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 2 3‏]‏‏.‏

ولإبراهيم بن أدهم رضي الله عنه‏:‏

هَجَرْتُ الخَلْقَ طُرّاً في رِضاكَا *** وأَيْتَمْتُ البَنينَ لِكَيْ أَرَاكَا

فَلَوْ قَطَّعْتَني إِرْباً فَإرْباً *** لِمَا حنَّ الفُؤَادُ إِلَى سِوَاكَا

وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 27‏]‏

‏{‏لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ‏(‏25‏)‏ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ‏(‏26‏)‏ ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏27‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏ويوم حنين‏}‏‏:‏ عطف على ‏{‏مواطن‏}‏، أو منصوب بفعل مضمر، وهذا أحسن؛ لأن قوله‏:‏ ‏{‏إذ أعجبتكم كثرتكم‏}‏ خاص بيوم حنين‏.‏ انظر‏:‏ ابن جزي‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ في تذكيرهم بالنعم‏:‏ ‏{‏لقد نصَركُم اللَّهُ في مواطنَ كثيرةٍ‏}‏ أي‏:‏ في مواقف الحرب ومداحضها في مواضع كثيرة، ‏{‏و‏}‏ نصركم أيضاً ‏{‏يومَ حُنينٍ‏}‏، وهي غزوة كانت بعد فتح مكة، متصلة بها، في موضع يقال له‏:‏ حنين، سمي باسم رجل كان يسكنه، وهو وادٍ بين مكة والطائف، حارب فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون، وكانوا اثنى عشر ألفاً‏:‏ عشرة آلاف من الذين حضروا فتح مكة، وألفان انضموا إليهم من الطلقاء، قاتلوا هوازن وثقيف ومن انضم إليهم من قبائل العرب‏.‏ وكانوا ثلاثين ألفاً، فلما التقوا مع بعض المشركين قال بعض المسلمين‏:‏ لن نُغلَبَ اليوم من قلة، إعجاباً بكثرتهم، واقتتلوا قتالاً شديداً، فأدرك المسلمين إعجابهم، واعتمادهم على كثرتهم، فانهزموا حتى وصل جُلهم إلى مكة، وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مركزه، ليس معه إلا عمه العباس، آخذاً بلجامه، وابن عمه أبو سفيان بن الحارث، وناهيك شهادة على تناهي شجاعته صلى الله عليه وسلم، فقال العباس وكان صيِّتاً‏:‏ صِحْ بالناس، فنادى‏:‏ يا عباد الله، يا أصحاب الشجرة، يا أصحاب سورة البقرة، فكروا عنقاً واحداً، يقولون‏:‏ لبيك لبيك، ونزلت الملائكة، فالتقوا مع المشركين، فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «هذا حين حَمِي الوَطيس»، ثم أخذ كفاً من تراب فرماهم، وقال‏:‏ «شاهت الوجوه»، ثم قال‏:‏ «انهزموا وربِّ الكعبة»، فانهزموا‏.‏

فأشار تعالى إلى مقالتهم معاتباً لهم عليها بقوله‏:‏ ‏{‏إذْ أعجبتكُم كثرتُكم فلم تُغن عنكم شيئاً‏}‏ أي‏:‏ فلم تُغن تلك الكثرة عنكم شيئاً من الإغناء، أو من أمر العدو‏.‏ وهذه المقالة صدرت من غير النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم؛ لأنه معصوم من الإعجاب، وإن ثبت أنه قال ذلك فليس على وجه الإعجاب، بل على وجه الإخبار، وعلى ذلك جرى الحكم في المذهب‏:‏ من حرمة الفرار عند بلوغ اثني عشر ألفاً، وكان المسلمون يومئذ اثني عشر ألفاً بالطلقاء؛ وهم مسلمة الفتح‏:‏ وكانوا ألفين، وسُموا بالطلقاء؛ لمنّ النبي صلى الله عليه وسلم عليهم، يقال لمن أطلق من أسر‏:‏ طليق، وجمعه على طلقاء نادر؛ لأنه يشترط في فعيل، الذي يجمع على فعلاء، أن يكون بمعنى فاعل، كظريف وشريف، لا بمعنى مفعول، كدفين ودفنى، وسخين وسخنى، منه‏.‏ طليق‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وضاقتْ عليكم الأرضُ بما رحُبَتْ‏}‏؛ برحبها، أي‏:‏ ضاقت على كثرة اتساعها، فلم تجدوا فيها مكاناً تطمئن إليه نفوسكم من الدهش، ‏{‏ثم وليتم مدبرين‏}‏؛ هاربين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ‏{‏ثم أنزل الله سكينته‏}‏ أي‏:‏ طمأنينته ‏{‏على رسوله وعلى المؤمنين‏}‏ بعد انهزامهم، فرجعوا وقاتلوا، أو على من بقي مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يفروا‏.‏

وإعادة الجار؛ للتنبيه على اختلاف حالهما‏.‏

‏{‏وأنزل جنوداً‏}‏ من الملائكة ‏{‏لم تروها‏}‏ بأعينكم، وكانوا خمسة آلاف، أو ثمانية، أو ستة عشر، على اختلاف الأقوال‏.‏ ‏{‏وعذَّبَ الذين كفروا‏}‏ بالقتل والأسر والسبيٍ، ‏{‏وذلك جزاءُ الكافرين‏}‏ أي‏:‏ ما فعل بهم هو جزاء كفرهم في الدنيا، ‏{‏ثم يتوبُ الله من بعد ذلك على من يشاء‏}‏ منهم، بالتوفيق للإسلام، ‏{‏والله غفور رحيم‏}‏ يتجاوز عنهم ويتفضل عليهم بالتوفيق والهداية‏.‏

رُوي أن أناساً منهم جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسْلَمُوا، وقالوا‏:‏ يا رسولَ الله، أنْتَ خيرُ الناس وأبرهم، وقد سُبي أهلُونا وأولادُنا، وأُخِذَتْ أموالُنَا وقد سُبي يومئذ ستة آلاف نفس، وأخذ من الإبل والغنم ما لا يحصى، فقال‏:‏ «اختاروا، إما سَبْيكُمْ، وإما أمْوالَكُم»‏.‏ فقالوا ما كُنَّا نَعدِلُ الأحسابِ شيئأً، فمنْ كان بيَدِهِ سبي فطابتْ نفسُهُ أنْ يرُدَّهُ فشأنُهُ، ومن لا، فليُعْطِنَا، وليكُنْ قَرْطاً علينا حتَّى نُصيب شيئاً فنُعطِيِه مثله «، فقالوا‏:‏ رضينا وسَلَّمنا، فقال‏:‏» إنِّي لا أدري، لَعَلَّ فِيكُمْ مَنْ لا يَرضَى، فارجعوا حتى يرفع إِليَّ عُرفَاوكُمُ أمرَكم «فرفعوا إليه أمْرَهمْ، وقالوا‏:‏ قد رضُوا، فردَّ السبي إليهم، وقسم الأموال في المؤلفة قلوبهم، ترغيباً في تسكين قلوبهم للإسلام‏.‏ والغزوة مطولة في كتب السيرة، والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ لقد نصركم الله، يا معشر المريدين، على جهاد نفوسكم وتيسير أموركم، في مواطن كثيرة، إذا رجعتم إلى ربكم، واعتزلتم من حولكم وقوتكم في جميع أموركم، فمن علامة النجاح في النهاية الرجوع إلى الله في البداية، ما تعذر مطلب أنت طالبه بربك، ولا تيسر مطلب أنت طالبه بنفسك، فمن رجع إلى نفسه، أو استند إلى عقله وحدسه، لم تغن عنه شيئاً، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، ورجع من حيث جاء، فإن انتبه، ورجع إلى ربه، أنزل سكينة عليه، وأيده باليقين، ورجا أن يدرك أمله من رب العالمين‏.‏

قال الورتجبي‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم أنزل الله سكينتة على رسوله‏}‏، سكينته عليه الصلاة والسلام زيادة أنوار كشف مشاهدة الله، له، حين خاف من مكر الأزل، فأراه الله اصطفائيته الأزلية، وأمنة من مكره، لا أنه ينظر من الحق إلى نفسه طرفة عين، لكن إذا غاب في بحر القدم لم ير للحدث اثراً، ورأى الحدثان متلاشية في فيض العظمة، ففزع منه به، فآواه الله منه إليه، حتى سكن به عنه‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏28‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نَجَس‏}‏ أي‏:‏ عين الخبث، مبالغة في خبثهم، إما لخبث باطنهم بالكفر، أو لأنهم لا يتطهرون من النجاسات، ولا يتوقون منها، فهم ملابسون لها غالباً‏.‏ وعن ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ أن أعيانهم نجسة كالكلاب‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏ ‏{‏فلا يقربوا المسجدَ الحرام‏}‏، وهو نص على منع المشركين وهم عبدة الأوثان من المسجد الحرام، وهو مجمع عليه، وقاس مالك على المشركين جميع الكفار من أهل الكتاب وغيرهم، وقاس على المسجد الحرام سائر المساجد، ومنع جميع الكفار من جميع المساجد‏.‏

وجعلها الشافعي عامة في الكفار، خاصةً بالمسجد الحرام، فمنع جميع الكفار من دخول المسجد الحرام خاصة، وأباح دخول غيره، وقصرها أبو حنيفة على موضع النهي، فمنع المشركين خاصة من دخول المسجد الحرام وأباح لهم سائر المساجد، وأباح دخول أهل الكتاب في المسجد الحرام وغيره‏.‏ قاله ابن جزي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بعدَ عامهم هذا‏}‏ يعني‏:‏ سنة تسع من الهجرة، حين حج أبو بكر بالناس، وقرأ عليٌّ رضي الله عنه عليهم سورة براءة‏.‏

‏{‏وإن خِفْتُمْ عَيلةً‏}‏ أي‏:‏ فقرأ بسبب منع المشركين من الحرم، وكانوا يجلبون لها الطعام، فخاف الناس قلة القوت منها، إذا انقطع المشركون عنهم، فوعدهم الله بالغنى بقوله‏:‏ ‏{‏فسوف يغْنيِكُم الله من فضله‏}‏؛ من عطائه وتفضله بوجه آخر‏.‏ وقد أنجز وعده بأن أرسل السماء عليهم مدراراً، وأسلمت العرب كلها، وتمادى جلب الطعام إلى مكّة، ثم فتح عليهم البلاد، وجلبت لهم الغنائم، وتوجه الناس إليهم من أقطار الأرض، وما زال كذلك إلى الآن‏.‏

وقيده بالمشيئة؛ لتنقطع الآمال إلى الله، ولينبه على أنه متفضل في ذلك وإن الغنى الموعود يكون لبعض دون بعض، وفي عام دون عام، ‏{‏إن الله عليمٌ‏}‏ بأحوالكم، ‏{‏حكيم‏}‏ فيما يعطي ويمنع‏.‏

الإشارة‏:‏ بيوت الحضرة وهي القلوب المقدسة لا ينبغي أن يدخلها شيء من شرك الأسباب، أو الوقوف مع رفق الأصحاب، أو الركون إلى معلوم حتى يفرد التعلق بالحي القيوم، ولا ينبغي أيضاَ أن يدخلها شيء من نجاسة حس الدنيا وأكدارها وأغيارها، فيجب على أربابها الفرار من مواطن الكدر، والعزلة عن أربابها؛ لئلا يدخل فيها شيء من نجاستها، فتموت بعد حياتها، وكان عيسى عليه الصلاة والسلام يقول لأصحابه‏:‏ ‏(‏لا تجالسوا الموتى فتموت قلوبكم، قالوا‏:‏ من الموتى يا روح الله‏؟‏ قال‏:‏ المحبون للدنيا الراغبون فيها‏)‏‏.‏ فإن خفتم علية؛ بالفرار منهم واعتزال نجاستهم، فسوف يغنيكم الله من فضْلِ غَيْبه إن شاء في الوقت الذي يشاء، إذ لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء‏.‏ والله تعالى أعلم

قال القشيري‏:‏ ‏{‏إنما المشركون نجس‏}‏ أي‏:‏ لأنهم فقدوا طهارة الأسرار، فبقوا في مزابل الظنون والأوهام، فَمُنِعُوا قُربانَ المساجد التي هي مساجدُ القرب، وأما المؤمنون فطهَّرهم عن التدنُّس بشهود الأغيار، فطالعوا الحقَّ فرْدوا فيما ينشيه من الأمر ويُمضيه من الحُكم‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله للمؤمنين‏:‏ ‏{‏قاتِلوا‏}‏ أهل الكتاب من اليهود والنصارى ‏{‏الذين لا يؤمنون بالله‏}‏ على ما يجب له، لإشراكهم عُزير وعيسى، ولتجسيمهم، ‏{‏ولا باليوم الآخر‏}‏؛ لأنهم ينكرون المعاد الجسماني، فإيمانهم في الجانبين كلا إيمان ‏{‏ولا يحرِّمون ما حرَّمَ الله ورسولُه‏}‏ محمّد صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم يحلون الخمر والميتة والدم ولحم الخنزير، وغير ذلك مما حرمته الشريعة المحمدية، ‏{‏ولا يَدينونَ دينَ الحق‏}‏ أي‏:‏ لا يدخلون في الإسلام، الذي هو الدين الحق، الناسخ لسائر الأديان ومبطلها‏.‏

ثم بيَّن الذين أّمر اللَّهُ بقتالهم بقوله‏:‏ ‏{‏من الذين أوتوا الكتاب‏}‏؛ وهم اليهود والنصارى، وحين نزلت خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لغزوة تبوك لقتال النصارى، ووصل إلى أوائل بلد العدو، فصالح أهل أدرج وأيلة، وغيرهما، على الجزية وانصرف، ذلك امتثال للآية‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏حتى يُعطوا الجزبة‏}‏ أي‏:‏ ما تقرر عليهم أن يعطوه، وقدْرها عند مالك‏:‏ أربعة دنانير على أهل الذهب، وأربعون درهماً على أهل الورق، يؤخذ ذلك من كل رأس، واتفق العلماء على قبول الجزية من اليهود والنصارى، ويلحق بهم المجوس؛ لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «سُنُّوا بِهِمْ سُنًّةَ أَهْلِ الكتاب» لأن لهم شبهة كتاب، فألحقوا بهم‏.‏ واختلفوا في قبولها من عَبدة الأوثان؛ قال مالك‏:‏ تؤخذ من كل كافر إلا المرتد، ولا تؤخذ من النساء والصبيان والمجانين‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏عن يدٍ‏}‏ أي‏:‏ يباشر إعطاءها بيده، لا يبعثها مع أحد، أو لا يمطل بها، كقولك‏:‏ يداً بيد، أو عن استسلام وانقياد، كقولك‏:‏ ألقى فلان بيده‏.‏ ‏{‏وهم صاغرون‏}‏؛ أذلاء محقرون‏.‏ وعن ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ تؤخذ الجزية من الذمي، وتوجأ عنقه، أي‏:‏ تصفع‏.‏

الإشارة‏:‏ يؤمر المريد بقتل نفسه وحظوظه وهواه، وأعظمها‏:‏ حب الدنيا والرئاسة والجاه، ولا يزال يخالف هواها، ويعكس مراداتها، ويحملها ما يثقل عليها، حتى تنقاد إليه بالكلية، بحيث لا يثقل عليه شيء، ويستوي عندها العز والذل، والفقر والغنى، والمدح والذم، والمنع والعطاء، والفقد والوجد، فإن استوت عندها الأحوال فقد أسلمت وأعطت ما يجب عليها، فيجب حفظها ورعايتها، وتصديقها فيما يرد عليها‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 33‏]‏

‏{‏وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ‏(‏30‏)‏ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏31‏)‏ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ‏(‏32‏)‏ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ‏(‏33‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏عزيز‏)‏‏:‏ مبتدأ، و‏(‏ابن الله‏)‏‏:‏ خبر، فمن نونه جعله مصروفاً؛ لأنه عنده عربي، ومن حذف تنوينه‏:‏ إما لمنعه من الصرف؛ للعلمية والعجمية عنده، وإما لالتقاء الساكنين؛ تشبيهاً للنون بحروف اللين، وهو ضعيف، والأول أحسن‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏وقالت اليهودُ عُزَيرٌ ابنُ الله‏}‏، قال ابن عباس‏:‏ هذه المقالة قالها أربعة منهم، وهم‏:‏ سَلامُ بن مُشْكم، ونُعْمَانُ أو لُقْمَانُ بْنُ أَوفَى، وشَاسُ بنُ قَيس، وَمَالِكُ بْنُ الصَّيْفِ‏.‏ وقيل‏:‏ لم يقلها إلا فنحاص، ونسب ذلك لجميعهم؛ لسكوتهم عنه‏.‏ قال البيضاوي‏:‏ إنما قال ذلك بعضهم من متقدميهم، أو ممن كانوا بالمدينة، وإنما قالوا ذلك؛ لأنه لم يبق فيهم بعد وقعة بختنصر من يحفظ التوراة، وهو أي عزير لما أحياه الله بعد مائة عام، أملى عليهم التوراة حفظاً، فتعجبوا من ذلك، وقالوا‏:‏ ما هذا إلا أنه ابن الله، والدليل على أن هذا القول كان فيهم أن الآية قُرئت عليهم فلم يكذبوا مع تهالكهم على التكذيب‏.‏ ه‏.‏

‏{‏وقالت النصارى المسيحُ ابنُ الله‏}‏، هو أيضاً قول بعضهم، وإنما قالوه استحالة أن يكون الولد بلا أب، أو لما كان يفعل من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى، وتقدم الرد عليهم، وسبب إدخال هذه الشبهة عليهم، في سورة المائدة‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك قولُهم بأفواههم‏}‏ من غير دليل ولا برهان، بل قالوا به من عندهم ‏{‏يُضاهِئون‏}‏ أي‏:‏ يشابهون في هذه المقالة ‏{‏قولَ الذين كفروا من قبلُ‏}‏، يعني‏:‏ قدماءهم، على معنى أن الكفر قديم فيهم‏.‏ قال ابن جزي‏:‏ فإن كان الضمير لليهود والنصارى، أي المتقدمين، فالإشارة بقوله‏:‏ ‏(‏الذين كفروا من قبل‏)‏ للمشركين من الغرب، إذ قالوا‏:‏ الملائكة بنات الله، وهم أول كافر، أو للصابئين، أو لأمم تقدمت، وإن كان الضمير للمعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم؛ من اليهود والنصارى، فالذين كفروا من قبل هم أسلافهم المتقدمون‏.‏ ه‏.‏

‏{‏قاتَلهُم اللَّهُ‏}‏ أي‏:‏ أهلكهم ودمرهم؛ لأن من قاتله الله هلك، فيكون دعاء، أو تعجباً من شناعة قولهم، ‏{‏أنَى يُؤفكون‏}‏ أي‏:‏ كيف يصرفون عن الحق إلى الباطل‏.‏

‏{‏اتخذوا أحبارَهم‏}‏ أي‏:‏ علماءَهم ‏{‏ورهبانَهم‏}‏؛ عُبَّادَهم ‏{‏أرباباً من دون الله‏}‏؛ بأن أطاعوهم في تحريم ما أحل الله، وتحليل ما حرم الله، وفي السجود لهم، ‏{‏والمسيحَ ابنَ مريمَ‏}‏؛ بأن جعلوه ابن الله، ‏{‏وما أمروا إلا ليعبدوا إِلهاً واحداً‏}‏ وهو الله الواحد الحق، وأما طاعة الرسول عليه الصلاة والسلام وسائر من أمر بطاعته، فهو في الحقيقة طاعة الله، ‏{‏لا إله إلا هو‏}‏؛ تقرير للتوحيد، ‏{‏سبحانه عما يشركون‏}‏؛ تنزيهاً له عن أن يكون معه شريك‏.‏

‏{‏يريدون أن يُطفئوا‏}‏ أي‏:‏ يُخمدوا ‏{‏نورَ الله‏}‏؛ القرآن أو الإسلام بجملته، ‏{‏بأفواههم‏}‏ كقولهم فيه‏:‏ سحر، وشعر، وغير ذلك، وفيه إشارة إلى ضعف حيلتهم فيما أرادوا، ‏{‏ويأبى اللَّهُ‏}‏؛ لا يرضى ‏{‏إلا أن يُتِمَ نوره‏}‏ بإعلاء التوحيد وإظهار الإسلام، وإعزاز القرآن وأهله، ‏{‏ولو كره الكافرون‏}‏ ذلك، فإن الله لا محالة يُتم نوره، ويظهر دينه‏.‏

‏{‏هو الذي أرسلَ رسولهُ‏}‏ محمداً صلى الله عليه وسلم ‏{‏بالهدى ودين الحق ليُظهرَهُ على الدين كله‏}‏، الضمير في «يُظهره»‏.‏ للدين الحق، أو للرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏ واللام في «الدين»‏.‏ للجنس، أي‏:‏ على سائر الأديان فينسخها، أو على أهلها فيخذلهم، وقد أنجز وعده، وأظهر دينه ورسوله على الأديان كلها، حتى عم المشارق والمغارب، ‏{‏ولو كَرِهَ المشركون‏}‏ ذلك الإظهار، فيظهره الله رغماً من أنفهم‏.‏ وقيل‏:‏ يتحقق ذلك عند نزول عيسى عليه السلام، حتى لا يبقى دين إلا دين الإسلام، والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ من انطمس نور بصيرته نسب لله ما لا يليق بكمالاته، ومن لم تنهضه سوابق العناية وقف مع الوسائط ولم ينفذ إلى شهود الوسائط، وقد عيَّر الله قوماً وقفوا مع الوسائط فقال‏:‏ ‏{‏اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله‏}‏، وقال، في شأن الواسطة العظمى؛ غيرةً على القلوب أن تقف مع غيره‏:‏ ‏{‏ليسَ لَكَ مِنَ الأَمرِ شَيء‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 128‏]‏، ‏{‏إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٌ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 12‏]‏، ودخل بعض العارفين على إنسان وهو يبكي، فقال‏:‏ وما يبكيك‏؟‏ فقال له‏:‏ مات أستاذي، فقال له ذلك العارف‏:‏ ولم جعلت أستاذك من يموت‏؟‏‏.‏

فالوسائط؛ كالأنبياء والأولياء، إنما هم مُوَصِّلونَ إلى الله، دالون عليه، فمن وقف معهم ولم ينفذ إلى الله فقد اتخذه رباً عند الخواص‏.‏

وقال الورتجبي على هذه الآية‏:‏ عيَّر الحق تعالى من بقي في رؤية المقتدَى به دون رؤية الحق، وإن كان وسيلة منه، فإن في إفراد القدم من الحدوث، النظر إلى الوسائط، وهو شرك، وتصديق ذلك تمام الآية؛ ‏{‏وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً‏}‏‏.‏ غَيرهُ الوحدانية ما أبقت في البَيْن غيراً من الشواهد والآيات وجميع الخلق‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرهُم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 91‏]‏‏.‏ ولما رأى صلى الله عليه وسلم غيره القدم على شأن استهلاك الغير زجر من مدحه وتجاوز في المدح فقال‏:‏ «لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح»‏.‏

ثم قال الورتجبي‏:‏ قال بعضهم في هذه الآية‏:‏ سكنوا إلى أمثالهم، فطلبوا الحق من غير مظانه، وطُرق الحق واضحة لمن كحل بنور التوفيق، وبصر سبل التحقيق، ومن أعمي عن ذلك كان مردوداً عن طريق الحق إلى طرق الضالين من الخلق، وقد وقع أنهم معيرون وموبخون بقلة عرفانهم أهل الحقائق، وركونهم إلى أهل التقليد، وسقطوا عن منازل أهل التوحيد في التفريد، وهكذا شأن من اقتدى بالزّواقين من أهل السالوس المتزينين بزي المشايخ والعارفين المتحققين، وتخلفَ خلفَ الجامعين للدنيا، الذين يقولون‏:‏ نحن أبناء المشايخ ونحن رؤساء الطريقة، يُضْحك اللهُ الدهرَ من جهلهم حيث حيث علموا أن الولاية بالنسب، حاشا أن من لم يُذق طعمِ وِصال الله، وقلبُه معلق بغير الله، هو من أولياء الله‏.‏

قال الجنيد‏:‏ إذا أراد الله بالمريد خيراً هداه إلى صحبة الصوفية، ووقاه من صحبة القراء‏.‏ ولو اشتغلوا بشأنهم وجمع دنياهم، ولم يتعرضوا لأولياء الله، ولم يقصدوا إسقاط جاههم، لكفيهم شقاوتهم، لا سيما ويطعنون على الصديقين العارفين‏.‏ قال الله في شأنهم‏:‏ ‏{‏يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون‏}‏، كيف تطفأ بتراب حسبانهم أنوارُ شموس الصفات، التي من جباه وجوههم، ولئالئ خدودهم، وأصلها ثابت في أفلاك الوحدانية وسماوات القيومية، ويزيد نورهم على نور؛ لأنه تعالى بلا نهاية ولا منتهى لصفاته‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق‏}‏‏:‏ إن الله سبحانه سن سنة أزلية‏:‏ ألا يجد أحدٌ سبيله إلا من يقُيض له أستاذاً عارفاً بالله، وبسِّر دينه وربوبيته، فيدله إلى منهاج عبوديته، ومعارج روحه وقلبه، إلى مشاهدة ربوبيته، ويكون هو واسطة بينه وبين الله، وإن كان الفضل بيد الله، يؤتيه من يشاء بغير علة ولا سبب، جعله واسطة للتأديب لا للتقريب، وصيره شفيعاً للجنايات، لا شريكاً في الهدايات، هداه نور القرآن، وبيّنه حقيقة البيان، مع إظهار البرهان‏.‏ قيل‏:‏ جعل الله الوسائط طريقاً لعباده إليه، وبعثهم أعلاماً على الطرق ونوراً يهتدى بهم، وعرفهم سبل الحق وحقيقة الدين، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏أرسل رسوله بالهدى ودين الحق‏}‏، انتهى كلامه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏34- 35‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏34‏)‏ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏يحمى عليها‏)‏‏:‏ الجار والمجرور‏:‏ نائب الفاعل، وأصله‏:‏ يوم تحمى النار الشديدة الحمى عليها، فجعل الإحماء للنار؛ مبالغةً، ثم حذفت النار، وأسند الفعل إلى الجار والمجرور؛ تنبيهاً على المقصود، فانتقل من صيغة التأنيث إلى صيغة التذكير‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموالَ الناس بالباطل‏}‏؛ يأخذونها بالرشا في الأحكام، وسَمى أخذ المال أكلاً؛ لأنه الغرض الأعظم منه، ‏{‏ويصدون عن سبيل الله‏}‏ أي‏:‏ يعوقون الناس عن الدخول في دينه، ‏{‏والذين يكنزون الذهبَ والفِضةَ‏}‏ أي‏:‏ يدخرونها ‏{‏ولا يُنفقونها‏}‏ أي‏:‏ الأموال المفهومة من الذهب والفضة، أو الكنوز، أو الفضة، واكتفى بذكرها عن الذهب؛ إذ الحُكم واحد، ‏{‏فبشِّرهم بعذاب أليم‏}‏؛ وهو الكي بها، وهذا الحكم يحتمل أن يرجع لكثير من الأحبار والرهبان، فيكون مبالغة في وصفهم، بالحرص على المال وجمعه، وأن يراد به المسلمون الذين يجمعون الأموال، ويقتنونها ولا يؤدون حقها، ويكون اقترانه بأكلة الرشا من أهل الكتب؛ للتغليظ‏.‏ ويدل عليه‏:‏ أنه لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذكر ذلك عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ «إِنَّ الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيِّبَ بها ما بقي من أموالكم»‏.‏ وقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «ما أدى زَكَاته فَلَيْسَ بِكَنْز»‏.‏ وقال أبو ذر وجماعة من الزهاد‏:‏ كل ما فضل عن حاجة الإنسان فهو كنز، وحمل الآية عليه‏.‏

ثم ذكر وعيدهم فقال‏:‏ ‏{‏يوم يُحمَى عليها‏}‏ أي‏:‏ على الأموال المكنوزة، ‏{‏في نار جهنم‏}‏ أي‏:‏ يوم توقد النار ذات الحمى الشديد عليها، حتى تكون صفيحة واحدة، ‏{‏فتُكوى بها جباهُهم وجنوبهم وظهورهُم‏}‏، خصهم بالعذَاب، لأنهم كانوا يعرضون عن السائل، ويُولون ظهره، فيعرضون عنه بجباههم وجنوبهم‏.‏ أو لأنها أشرف الأعضاء، لاشتمالها على الدِّماغ والقلب والكبد‏.‏ أو لأنها أصول الجهات الأربع، التي هي مقادم الإنسان؛ مؤخره وجنبتاه‏.‏

يقال لهم‏:‏ ‏{‏هذا ما كنزتم لأنفسكم‏}‏ أي‏:‏ لمنفعتها، وكان عينَ مضرتها وسببَ تعذيبها، ‏{‏فذُوقوا ما كنتم تكنِزُون‏}‏ أي‏:‏ وبال كنزكم، أو ما كنتم تكنزونه‏.‏ وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «مَا مِنْ صَاحِب ذهبٍ ولا فضْةٍ لا يُؤدِّي منها حقّها إلاّ إذا كان يومُ القيامة صُفحت له صفائح من نَار، فأحمي عليها من نار جهنم، فيُكوى بها جبينُه وجنبه وظهرُه، كلما بردت أُعيدت له، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضي بين العباد فيرى سبيله‏:‏ إما إلى الجنة وإما إلى النار»‏.‏ رواه مسلم بطوله‏.‏

قال ابن عطية‏:‏ روي أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا‏:‏ قد ذم الله تعالى كسب الذهب والفضة، فلو علمنا أي المال خير حتى نَكْسبه‏؟‏ فقال عمر‏:‏ أنا أَسأل لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله، فقال‏:‏

«لِسان ذاكر، وقلب شَاكر، وزَوْجَة تُعينُ المرء على دينهِ»‏.‏ ورُوي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال، لما نزلت الآية‏:‏ «تَبّاً للذَّهَبِ والفِضَّةِ»‏.‏ فحينئذٍ أشفق أصحابه، وقالوا ما تقدم‏.‏ ه‏.‏ لابن حجر‏.‏

من خير ما يتخذ الإنسانُ *** في دنياه كيما يستقيمَ دينُه

قلبٌ شكور، ولسانٌ ذاكر، *** وزوجةٌ صالحة تُعينُه

وهو نظم لهذا الحديث، وقد تكلم عليه في المجامع وشرحِه‏.‏ قاله المحشي‏.‏

الإشارة‏:‏ هذه الآية تغبُر في وجوه علماء السوء، الذين يتساهلون في أكل الدنيا بالعلم، كقبض الرشا، وقبض ما فوق أجرته في الأحكام، فترى بعض قضاة الجور يقبضون المثاقيل على إنزال يده على الحكم، مع أنه واجب عليه، حيث تعين عليه بنصب الإمام له، وتجر ذيلها على أغنياء الدنيا، الذين يجمعون الأموال ويكنزونها، فترى أحدهم ينفق في نزهته وشهوة نفسه الأموال العريضة، وإذا أتاه فقير يسأله درهماً أو درهمين، تَمَعَّر وجهه، وتغير لونه، فبشرهم بعذاب أليم‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ‏(‏36‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏عند الله‏)‏‏:‏ معمول لعدة؛ لأنها مصدر، و‏(‏في كتاب الله‏)‏‏:‏ صفة لاثني عشر، و‏(‏يوم‏)‏‏:‏ متعلق بالثبوت المقدر في الخبر، أي‏:‏ ثابتة في كتاب الله يوم خلق الأكوان والزمان‏.‏ وقوله‏:‏ ‏(‏منها‏)‏‏:‏ أي‏:‏ الأشهر، ثم قال‏:‏ ‏(‏فيهن‏)‏‏.‏ وضابط الضمير إن عاد على الجماعة المؤنثة، حقيقة أو مجازاً، إن كانت أكثر من عشرة، قلتَ‏:‏ منها وفيها، وإن كانت أقل من عشرة، قلت‏:‏ منهن وفيهن، قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَأكُلُهُنّ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 46‏]‏ وقال هنا‏:‏ ‏(‏فيهن‏)‏‏.‏ انظر الإتقان‏.‏ و‏(‏كافة‏)‏‏:‏ حال من الفاعل أو المفعول‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏إِنَّ عِدَّة الشهور‏}‏ في كل سنة ‏{‏عند الله‏}‏؛ في علم تقديره، ‏{‏اثنا عشرَ شهراً‏}‏‏:‏ أولها المحرم، وآخرها ذو الحجة‏.‏ وأول من جعل أولها المحرم‏:‏ عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏.‏

وهذه العدة ثابتة ‏{‏في كتاب الله‏}‏؛ اللوح المحفوظ، أو في حكمه، أو القرآن، ‏{‏يومَ خَلَقَ السموات والأرض‏}‏، هذا أمر ثابت في نفس الأمر منذ خلق الله الأجرام والأزمنة، ‏{‏منها‏}‏ أي‏:‏ الأشهر ‏{‏أربعة حُرُم‏}‏، واحد فرد، وهو رجب، وثلاثة سَرد‏:‏ ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ‏{‏ذلك الدين القيم‏}‏ أي‏:‏ تحريم الأشهر الحرم هو الدين القويم، دين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وتمسكت به العرب حتى غيَّره بعضهم بالنسيء، ‏{‏فلا تظلموا فيهن أنفسَكم‏}‏؛ بهتك حرمتها والقتال فيها، ثم نسخ بقوله‏:‏ ‏{‏وقاتلوا المشركين كافةً‏}‏ أي‏:‏ في الأزمنة كلها؛ ‏{‏كما يُقاتلونكم كافة‏}‏؛ لأنهم، إن قاتلتموهم فيها قاتلوكم فهذا نسخ لتحريم القتال في الأشهر الحرم‏.‏

وقال عطاء‏:‏ لا يحل للناس أن يغزوا في الأشهر الحرم، ولا في الحَرم، إلا أن يُبدئوا بالقتال، ويرده غزوه صلى الله عليه وسلم حُنيناً والطائف في شوال وذي القعدة‏.‏ ‏{‏واعلموا أن الله مع المتقين‏}‏ بالنصر والمعونة، وفيه بشارة وضمان لهم بالنصر بسبب تقواهم‏.‏

الإشارة‏:‏ أهل الفهم عن الله‏:‏ الأزمنةُ كلها عندهم حُرُم، والأمكنة كلها عندهم حَرامٌ، فهم يحترمون أوقاتهم ويغتنمون ساعاتهم لئلا تضيع‏.‏ قال الحسن البصري‏:‏ أدركت أقواماً كانوا على ساعاتهم أشفق منكم على دنانيركم ودراهيمكم، يقول‏:‏ كما لا يخرج أحدكم ديناراً ولا درهماً إلا فيما يعود عليهم نفعه، كذلك لا يحبون أن يخرجوا ساعة من أعمارهم إلا فيما يعود عليهم نفعة وقال الجنيد رضي الله عنه‏:‏ الوقت إذا فات لا يُستدرك، وليس شيء أعز من الوقت‏.‏ ه‏.‏

وكل جزء يحصل له من العمر غير خال من عمل صالح، يتوصل به إلى مُلْك كبير لا يفنى، ولا قيمة لما يوصل إلى ذلك؛ لأنه في غاية الشرف والنفاسة، ولأجل هذا عظمت مراعاة السلف الصالح لأنفسهم، ولحظاتهم، وبادروا إلى اغتنام ساعاتهم وأوقاتهم، ولم يضيعوا أعمارهم في البطالة والتقصير، ولم يقنعوا من أنفسهم لمولاهم إلا بالجد والتشمير، وإلى هذه الإشارة بقوله‏:‏ ‏(‏فلا تظلموا فيهن أنفسكم‏)‏؛ بتضييعها في غير ما يقرب إلى الله‏.‏ ثم أمر بجهاد القواطع، التي تترك العبد في مقام الشرك الخفي، وبَشَّرهُم بكونه معهم بالنصر والتأييد، والمعونة والتسديد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏النسيء‏)‏‏:‏ التأخير، يقال بالهمزة وبقلبها ياء‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏إنما النسيءُ‏}‏، وهو تأخير حرمة الشهر الحرام إلى شهر آخر، وذلك أن العرب كانوا أصحاب حروب وإغارات، وكانت محرمة عليهم في الأشهر الحرم، فيشق عليهم تركها، فيجعلونها في شهر حرام، ويحرمون شهراً آخر بدلاً منه، وربما أحلوا المحرم وحرموا صفر، حتى يُكملوا في العام أربعة أشهر محرمة، وإنما ذلك ‏{‏زيادةٌ في الكفر‏}‏؛ لأنه تحريم ما أحل الله، وتحليل ما حرم الله، وهو كفر آخر ضموه إلى كفرهم، ‏{‏يُضَلُّ به الذين كفروا‏}‏ عن الحق، ضلالاً زائداً على ضلالهم، أو يضلهم الله بذلك، ‏{‏يُحلونه عاماً‏}‏ أي‏:‏ يحلون الشهر الحرام عاماً، ويجعلون مكانه آخر، ‏{‏ويحرمونه عاما‏}‏، فيتركونه على حرمته، فكانوا تارة ينسئون وتارة يتركون‏.‏

قيل‏:‏ أول من أحدث ذلك‏:‏ جُنادَهُ بن عوف الكناني؛ كان يقوم على جمل في الموسم فينادي‏:‏ إن آلهتكم قد أحلت لكم المحرم فأحلوه، ثم ينادي من قابل‏:‏ إن آلهتكم قد حرمت عليكم المحرم فحرموه، فتتبعه العرب‏.‏

ثم حرّموا شهراً آخر مكان المحرم ‏{‏ليواطئُوا‏}‏؛ ليوافقوا ‏{‏عِدَّةَ ما حرّمَ الله‏}‏، وهي الأربعة الحرم، ‏{‏فيُحلّوا ما حرّم الله‏}‏ عليهم من القتال في الأشهر الحرم، ‏{‏زُيِّنَ لهم سوء أعمالهم‏}‏ أي‏:‏ خذلهم وأضلهم، والمُزين حقيقة‏:‏ الله، أو الشيطان؛ حكمةً وأدباً‏.‏ ‏{‏والله لا يهدي القوم الكافرين‏}‏ إلى طريق الرشد، ما داموا على غيهم، حتى يسلكوا سبيل نبيه صلى الله عليه وسلم‏.‏

الإشارة‏:‏ إنما تأخير التوبة واليقظة، وترك السير إلى مقام التصفية والترقية، زيادة في البعد والقسوة، يضل به الذين هجروا طريق التربية والتصفية، عن مقام أهل الإحسان والمعرفة، فتارةً يُحلون المقام مع النفس الأمارة، ويقولون‏:‏ قد انقطعت التربية، وعُدِمَ الطبيبُ الذي يداويها ويخرجها عن وصفها، وتارة يُحرمون المقام معها والاشتغال بحظوظها وهواها، ويقولون‏:‏ البركة لا تنقطع، والمدد لا ينعدم، ليوافقوا بين الأمر بمجاهدتها في قوله‏:‏ ‏{‏والذين جاهدوا فينا‏}‏، وبين من قال‏:‏ قد انقطعت التربية، زُين له سواء أعمالهم، والله لا يهدي القوم الكافرين إلى السير والوصول إلى ربهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 39‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ‏(‏38‏)‏ إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏39‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏اثاقلتم‏)‏، أصله‏:‏ تثاقلتم أدغمت التاء في الثاء، وجلبت الهمزة للساكن، وقرئ على الأصل، وضمن الإخلاد، فَعُدِّيَ بإلى‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله‏}‏؛ للجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ‏{‏اثَّاقلتُم‏}‏ أي‏:‏ تباطأتم وأخلدتم ‏{‏إلى الأرض‏}‏ كسلاً وفشلاً، وكان ذلك في غزوة تبوك، أُمروا بها بعد رجوعهم من الطائف، في وقت عسر، وحَر، وبُعد الشقة، وكثرة العدو، فشق عليهم ذلك، ‏{‏أرضيتُم بالحياة الدنيا‏}‏ وكدرها، ‏{‏من الآخرة‏}‏، بدل الآخرة ونعيمها، ‏{‏فما متاع الحياة الدنيا‏}‏ أي‏:‏ التمتع بها في جانب الآخرة، ‏{‏إلا قليلٌ‏}‏؛ مستحقر، لسرعة فنائه ومزجه بالكدر‏.‏

‏{‏إلاّ تنفرُوا‏}‏ مع رسوله إلى ما استنفرتم إليه، ‏{‏يُعذبكم عذاباً إليماً‏}‏ في الدنيا والآخرة، في الدنيا‏:‏ بالإهلاك بأمر فظيع، كقحط وظهور عدو، وغير ذلك من المهلكات، وفي الآخرة‏:‏ بعذاب النار‏.‏ ‏{‏ويستبدلْ‏}‏ مكانكم ‏{‏قوماً غيركم‏}‏ في الدنيا، يكونون مطيعين لله ورسوله، كأهل اليمن، وأمثالهم، ‏{‏ولا تضرُّوه شيئاً‏}‏؛ إذ لا يقدح تثاقلكم في نصر دينه شيئاً، فإنه الغني عن كل شيء، في كل وقت‏.‏ وقيل‏:‏ الضمير للرسول صلى الله عليه وسلم؛ فإن الله وعده بالعصمة والنصرة، ووعده حق، ‏{‏والله على كل شيء قدير‏}‏ لا يعجزه شيء، فيقدر على التبديل وتغيير الأسباب والنصرة بلا مدد، كما فعل معه في الغار والهجرة، على ما ياتي‏.‏

الإشارة‏:‏ ما لكم إذا قيل لكم‏:‏ انفروا إلى من يُعرفكم بالله، ويعلمكم كيف تجاهدون نفوسكم في طلب مرضاة الله، اثاقلتم وأخلدتم إلى أرض الحظوظ والشهوات، أرضيتم بالحياة الدنيا الدنية، بل الحياة الأبدية، في الحضرة القدسية‏؟‏ أرضيتم بحياة الأشباح بدل حياة الأرواح‏؟‏ فما متاع الحياة الدنيا الفانية في جانب الحياة الأبدية في الحضرة العلية، إلا نزر قليل حقير ذليل، إلا تنفروا لجهاد نفوسكم، يعذبكم عذاباً أليماً، بغم الحجاب، وشدة التعب والنصب، وتوارد الخواطر والهموم، وترادُف الأكدار والغموم، ويستبدل قوماً غيركم يكونون عارفين بالله، مَرْضيين عند الله، راضين عن الله، والله على كل شيء قدير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏40‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ «إن»‏:‏ شرط، وجوابه محذوف، دلّ عليه قول‏:‏ ‏{‏فقد نصره الله‏}‏ أي‏:‏ إن لم تنصروه فسينصره الله، الذي نصره حين أخرجه الذين كفروا، حال ثاني اثنين، فدل بنصره في الماضي على نصره في المستقبل، وإسناد الإخراج إلى الكفرة؛ لأن همهم بإخراجه أو قتله كان سبباً لإذن الله له في الخروج، و‏(‏إذ هُما‏)‏‏:‏ بدل من ‏(‏أخرجه‏)‏؛ بدل البعض، و‏(‏إذ يقول‏)‏‏:‏ بدل ثان، و‏(‏كلمة الله‏)‏‏:‏ مبتدأ، و‏(‏العليا‏)‏‏:‏ خبر، وقرأ يعقوب‏:‏ بالنصب؛ عطفاً على ‏{‏كلمة الذين كفروا‏}‏، والأول‏:‏ أحسن؛ للإشعار بأن كلمة الله عالية في نفسها، فاقت غيرها أم لا‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏إلاّ تنصروهُ‏}‏؛ تنصروا محمداً، وتثاقلتم عن الجهاد معه، فسينصره الله، كما نصره حين ‏{‏أخرجه الذين كفروا‏}‏ من مكة، حال كونه ‏{‏ثاني اثنين‏}‏ أي‏:‏ لم يكن معه إلا رجل واحد، وهو الصدِّيق، ‏{‏إِذْ هما في الغار‏}‏؛ نقب في أعلى غار ثور، وثور جبل عن يمين مكة، على مسيرة ساعة‏.‏ ‏{‏إِذْ يقول لصاحبه‏}‏‏:‏ أبي بكر رضي الله عنه‏:‏ ‏{‏لا تحزنْ إنَّ الله معنا‏}‏ بالعصمة والنصرة‏.‏

رُوي أن المشركين طلعوا فوق الغار يطلبون رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين فقدوه من مكة، فأشفق أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «ما ظَنُّكَ باثنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهِما» فأعماهم الله عن الغار، فجعلوا يترددون حوله فلم يروه‏.‏ وقيل‏:‏ لما دخل الغار بعث الله حمامتين، فباضتا في أسفله، والعنكبوت نسجت عليه‏.‏

‏{‏فأنزل اللَّهُ سكِينَتُه‏}‏ أي‏:‏ أًمْنَه الذي تسكن إليه القلوب، ‏{‏عليه‏}‏ أي‏:‏ على رسوله صلى الله عليه وسلم، أو على صاحبه، ‏{‏وأيَّده بجنودٍ لم تَرَوها‏}‏، يعني الملائكة، أنزلهم ليحرسوه في الغار، أو يوم بدر وأحد وغيرهما، فتكون على هذا‏:‏ الجملة معطوفة على‏:‏ ‏{‏فقد نصره الله‏}‏‏.‏ ‏{‏وجعلَ كلمةَ الذين كفروا‏}‏ وهي الشرك، أو دعوى الكفر، ‏{‏السفلى وكلمةُ الله‏}‏ التي هي التوحيد، أو دعوة الإسلام، ‏{‏هي العُليا‏}‏؛ حيث خلص رسوله صلى الله عليه وسلم من بين الكفار، ونقله إلى المدينة، ولم يزل ينصره حتى ظهر التوحيد وبطل الكفر، ‏{‏والله عزيزٌ‏}‏؛ غالب على أمره، ‏{‏حكيم‏}‏ في أمره وتدبيره‏.‏

الإشارة‏:‏ ما قيل في حق الرسول صلى الله عليه وسلم يقال في حق ورثته، الداعين إلى الله بعده؛ من العارفين بالله، فيقال لمن تخلف عن صُحبَة ولي عصره وشيخ تربية زمانه‏:‏ إلا تنصروه فقد نصره الله وأعزه، وأغناه عن غيره، فمن صحبه فإنما ينفع نفسه، فقد نصره الله حين أنكره أهله وأبناء جنسه، كما هي سنة الله في أوليائه، لأن الداخل على الله منكور، والراجع إلى الناس مبرور، فمن دخل مع الخصوص قطعاً أنكرته العموم، فنخرجه ثاني اثنين هو وقبله، فيأوي إلى كهف الأنس بالله، والوحشة مما سواه، فيقول لقلبه‏:‏ لا تحزن إن الله معنا، فينزل الله عليه سكينة الطمأنينة والتأييد، وينصره باجناد أنوار التوحيد والتفريد، فيجعل كلمة أهل الإنكار السفلى، وكلمة الداعين إلى الله هي العليا، والله عزيز حكيم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 42‏]‏

‏{‏انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏41‏)‏ لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏يُهلكون‏)‏‏:‏ حال من فاعل ‏(‏يحلفون‏)‏، أو بدل منه‏.‏ قال في القاموس‏:‏ ‏(‏الشقة‏)‏ بالضم والكسر‏:‏ البُعد والناحية يقصدها المسافر، والسفر، البعيد والمشقة‏.‏ ه‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏انفرُوا‏}‏ للجهاد مع الرسول صلى الله عليه وسلم، حال كونكم ‏{‏خِفافاً‏}‏؛ نشاطاً، ‏{‏وثِقالاً‏}‏؛ كسالى لمشقته، أو ‏(‏خفاقاً‏)‏ لمن قَلَّ عياله، ‏(‏وثقالاً‏)‏ لمن كثر عياله، أو خفافاً لمن كان فقيراً، وثقالاً لمن كان غنياً، أو خفافاً ركباناً، وثقالاً مشاة، أو خفافاً بلا سلاح، وثقالاً بالسلاح، أو خفافاً شباباً، وثقالاً شيوخاً، أو خفافاً أصحاء، وثقالاً مرضى‏.‏ ولذلك قال ابنُ أمِّ مكتوم لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أَعَليَّ الغزو يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ «نعم» حيث نزل‏:‏ ‏{‏ليسَ عَلَيكُم جُناح‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 61‏]‏‏.‏ ‏{‏وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله‏}‏ أي‏:‏ بما أمكن؛ إمّا بهما أو بأحدهما، ‏{‏ذلكم خير لكم‏}‏، مِنْ تركه، ‏{‏إن كنتم تعلمون‏}‏ ما في ذلك من الأجر العظيم والخير الجسيم، أي‏:‏ لو علمتم ذلك ما قعدتم خلف سرية‏.‏

ثم عاتب من أراد التخلف، فقال‏:‏ ‏{‏لو كان عرضاً قريباً‏}‏ من الدنيا، ‏{‏وسفراً قاصداً‏}‏؛ متوسطاً أو قريباً، ‏{‏لاتَّبعوك‏}‏ أي‏:‏ لو كان ما دعوا إليه أمراً دنيوياً، كغنيمة كبيرة، أو سفراً متوسطاً، لاتبعوك ولوافقوك على الخروج، ‏{‏ولكن بَعُدتْ عليهم الشُّقَّةُ‏}‏ أي‏:‏ المسافة التي تقطع بمشقة، وذلك أن الغزوة أي‏:‏ تبوك كانت إلى أرض بعيدة، وكانت في شدة الحر، وطيب الثمار، فشقت عليهم‏.‏ ‏{‏وسيحلفون بالله‏}‏ أي‏:‏ المتخلفون إذا رجعت من تبوك، معتذرين، يقولون‏:‏ ‏{‏لو استطعنا‏}‏ الخروج ‏{‏لخرجنا معكم‏}‏، لكن لم تكن لنا استطاعة من جهة العُدة والبدن وهذا إخبار بالغيب قبل وقوعه‏.‏ ‏{‏يُهلِكُونَ أنفسهم‏}‏ بوقوعها في العذاب، ‏{‏والله يعلم إِنهم لكاذبون‏}‏ في ذلك؛ لأنهم كانوا مستطيعين الخروج، وإنما قعدوا كسلاً وجُبْناً، والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ انفروا إلى الجهاد أنفسكم وقطع علائقكم وعوائقكم، لكي تستأهلوا لدخول حضرة ربكم، وسافروا إلى من يعينكم ويقوي مدد أجناد أنواركم، وهم المشايخ العارفون، فسيروا إليهم خفافاً وثقالاً، ونشاطاً وكُسَّالاً، والغالب أن النفس يشق عليها ما يكون سبباً في قتلها فلا ينفر إليها خفافاً أول مرة إلا النادر‏.‏

ثم أمر ببذل الأموال والمُهج في طريق الوصول إلى حضرة الله، وعاتب من تخلف عن ذلك وطلب الراحة والبقاء في وطن نفسه‏.‏ قال القشيري‏:‏ أمرهم بالقيام بحقه، والبدار إلى أداء أمره على جميع أحوالهم، ‏{‏خفافاً‏}‏ أي‏:‏ في حال حضور قلوبكم، فلا يمسُّكم نَصَبُ المجاهدات، ‏{‏وثقالاً‏}‏ أي‏:‏ إذا رُدِدتُم إليكم في مقاساة نصب المكابدات‏.‏ فإن البيعةَ أُخِذَتْ عليكم في المنشط والمكره‏.‏ ه‏.‏ ومثله عند الورتجبي عن أبي عثمان قال‏:‏ خفافاً وثقالاً؛ في وقت النشاط والكراهية، فإن البيعة على هذا وقعت، كما روى عن جرير بن عبد الله أنه قال‏:‏ بايعنا رسول الله على المنشط والمكره‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏43- 45‏]‏

‏{‏عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ‏(‏43‏)‏ لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ‏(‏44‏)‏ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ ‏(‏45‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ لنبيه عليه الصلاة والسلام؛ ملاطفاً له في الكلام‏:‏ ‏{‏عفا اللَّه عنك لم أذنتَ لهم‏}‏، لِمَ بادرت إلى الإذن إلى المنافقين في التخلف، واستكفيت بالإذن العام في قولنا‏:‏ ‏{‏فَأذَن لِّمن شئتَ مَنهُم‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 62‏]‏، فإن الخواص من المقربين لا يكتفون بالإذن العام، بل يتوقفون إلى الإذن الخاص‏.‏ ولذلك عُوتِبَ يونس عليه السلام‏.‏ والمعنى‏:‏ لأي شيء أذنت لهم في القعود حين استأذنوك واعتذروا لك بأكاذيب‏؟‏ وهلا توقفت ‏{‏حتى يتبين لك الذين صدقوا‏}‏ في الاعتذار، ‏{‏وتعلم الكاذبين‏}‏ فيه‏.‏

قال ابن عطية‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏الذين صدقوا‏}‏ يريد‏:‏ في استئذانك، وأَنك لو لم تأذن لهم لخرجوا معك، وقوله‏:‏ ‏{‏وتعلم الكاذبين‏}‏ يريد‏:‏ أنهم استأذنوك يظهرون لك أنهم يقفون عند حدِّك، وهم كَذَبة، قد عزموا على العصيان، أذِنتَ أو لم تأذن‏.‏ ه‏.‏ قال ابن جزي‏:‏ كانوا قد قالوا‏:‏ استأذنوه في القعود، فإن إذن لنا قعدنا، وإن لم يأذن قعدنا، وإنما كان يظهر الصادق من الكاذب لو لم يأذن لهم، فحينئذٍ كان يقعد العاصي والمنافق، ويسافر المطيع الصادق‏.‏ ه‏.‏

‏{‏لا يستأذنُك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يُجاهدوا بالله واليوم الآخر أن يُجاهدوا بأموالهم وأنفسهم‏}‏ أي‏:‏ ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوك في أن يجاهدوا، بل الخُلَّص منهم يُبادرون إليه، ولا يوقفُونه على الإذن فيه، فضلاً عن أن يستأذنوا في التخلف عنه، ‏{‏والله عليم بالمتقين‏}‏؛ فيثيبهم ويقربهم، وهي شهادة لهم بالتقوى وَعِدَةً لهم بثوابه‏.‏

‏{‏إنما يستأذنكَ‏}‏ في التخلف ‏{‏الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر‏}‏، وخصص ذكر الإيمان بالله واليوم الآخر؛ إشعاراً بأن الباعث على الجهاد والوازع عنه‏:‏ الإيمان وعدم الإيمان بهما، ‏{‏وارتابت قلوبهم‏}‏ أي‏:‏ شكَّت في الإيمان والبعث، ‏{‏فهم في ريبهم يترددُون‏}‏‏:‏ يتحيرون‏.‏ ونزلت الآية في عبد الله بن أُبيّ والجَدُّ بن قيْس، وأمثالهما من المنافقين‏.‏

الإشارة‏:‏ لا ينبغي للعارفين بالله؛ الداعين إلى الله، أن يأذنوا لمن استأذنهم في التخلف عن الجهاد الأكبر، ويرخصون له في البقاء مع النفس والهوى، وجمع حطام الدنيا، شفقةُ ورحمةً؛ لأن الشفقة في هذا المعنى لا تليق بأهل التربية، فقد قالوا‏:‏ الشفقة والرطوبة لا تليق بشيوخ التربية، بل لا يليق بهم إلا الأمر بما تموت به النفوس، وتحيا به الأرواح، وإن كان فيه حتفُهم‏.‏ وقد قالوا أيضاً‏:‏ إذا كان الشيخ يحرش على المريد، ويقدمه للمهالك في نفسه أو ماله أو جاهه، فهو دليل على أنه يحبه وينصحه، وإذا كان يرخص له في أمورنفسه، ويأمره بالمقام معها، فهو غير ناصح له‏.‏

وأما الإذن في التجريد وعدمه‏:‏ فإن رآه أهلاً له؛ لنفوذ عزمه، فيجب عليه أن يأمره به، وإن رآه لا يليق به؛ لعوارض قامت به؛ منعه منه، حتى ينظر ما يفعل الله به، وسأل رجلٌ القطبَ ابنَ مشيش، فقال له‏:‏ يا سيدي؛ استأذنك في مجاهدة نفسي‏؟‏ فقال له‏:‏ ‏{‏لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين إنما يستئذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏46- 48‏]‏

‏{‏وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ ‏(‏46‏)‏ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ‏(‏47‏)‏ لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ ‏(‏48‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏ما زادوكم إلا خبالاً‏}‏ قال بعضهم‏:‏ هو استثناء منقطع، أي‏:‏ ما زادوكم شيئاً، لكن خبالاً يُحدِثُونه في عسكركم بخروجهم‏.‏ قال ذلك‏:‏ لئلا يلزم أن الخبال واقع في عسكر المسلمين، لكن خروجهم يزيد فيه‏.‏ وفيه نظر؛ لأن الاستثناء المفرغ لا يكون منقطعاً، ويمكن هنا أن يكون متصلاً؛ لأن غزوة تبوك خرج فيها كثير من المنافقين، فحصل الخبال، فلو خرج هؤلاء المستأذنون في التخلف، القاعدون، لزاد الخبالُ بهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏ولأوضعوا‏)‏ أي‏:‏ أسرعوا، والإيضاع‏:‏ الإسراع، ‏(‏وخلالكم‏)‏‏:‏ ظرف، أي‏:‏ لأسرعوا بينكم بالمشي بالنميمة، وجملة‏:‏ ‏(‏يبغونكم‏)‏‏:‏ حال من فاعل «أوضعوا»‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏ولو أرادوا‏}‏؛ أراد المنافقون ‏{‏الخروجَ‏}‏ إلى الغزو معكم، وكانت لهم نية في ذلك ‏{‏لأعدُّوا له عُدَّةً‏}‏ أي‏:‏ لاستعدوا له أهبتَهُ قبل أوانه‏.‏ فما فعلوا، ‏{‏ولكن‏}‏ تثبطوا؛ لأنه تعالى كره ‏{‏انبعاثهم‏}‏، أي‏:‏ نهوضهم للخروج، ‏{‏فثبَّطهم‏}‏ أي‏:‏ حبسهم وكسر عزمهم، كسلاً وجبناً، ‏{‏وقيلَ‏}‏ لهم‏:‏ ‏{‏اقعدوا مع القاعدين‏}‏ من النساء والصبيان وذوي الأعذار، وهو ذم لهم وتوبيخ‏.‏ والقائل في الحقيقة هو الله تعالى، وهو عبارة عن قضائه عليهم بالقعود، وبناه للمجهول تعليماً للأدب‏.‏ قال البيضاوي‏:‏ هو تمثيل لإلقاء الله كراهة الخروج في قلوبهم، أو وسوسة الشيطان بالأمر بالقعود، أو حكاية قول بعضهم لبعض، أو إذن الرسول لهم‏.‏ ه‏.‏

‏{‏لو خرجوا فيكم‏}‏ ما زادكم خروجهم شيئاً ‏{‏إلا خبالاً‏}‏؛ فساداً وشراً‏.‏ والاستثناء من أعم الأحوال، فلا يلزم أن يكون الخبال موجوداً، وزاد بخروجهم، أو إذا وقع خبال بحضور بعضهم معكم ما زادكم هؤلاء القاعدون بخروجهم إلا خبالاً زائداً على ما وقع‏.‏ ‏{‏ولأوْضَعُوا‏}‏ أي‏:‏ لأسرعوا ‏{‏خِلالَكُم‏}‏ أي‏:‏ فيما بينكم، فيسرعون في المشي بالنميمة والتخليط والهزيمة والتخذيل، ‏{‏يبغونَكُم الفتنة‏}‏ أي‏:‏ حال كونهم طالبين لكم الفتنة، بإيقاع الخلل بينكم، قلوبكم ورأيُكم، فيذهب ريح نصركم، ‏{‏وفيكم‏}‏ قوم ‏{‏سماعُون لهم‏}‏؛ فيقبلون قولهم، إما بحسن الظن بهم، أو لنفاق بهم، فيقع الخلل بسبب قبول قولهم، أو فيكم سماعون لأخباركم فينقلونه إلى غيركم، ‏{‏والله عليم بالظالمين‏}‏؛ فيعلم ضمائرهم، وما ينشأ عنهم، وسيجازيهم على فعلهم‏.‏

‏{‏لقد ابْتَغَوُا الفتنة‏}‏ أي‏:‏ تشتيت أمرك وتفْريق أصحابك ‏{‏من قبلُ‏}‏ أي‏:‏ من قبل هذا الوقت، كرجوعهم عنك يوم أُحد، ليوقعوا الفشل في الناس، ‏{‏وقلَّبوا لك الأمور‏}‏ أي‏:‏ دبروها من كل وجه، فدبروا الحيل، ودوروا الآراء في إبطال امرك، فأبطل الله سعيهم، ‏{‏حتى جاء الحقُّ وظهر أمرُ الله‏}‏ أي‏:‏ علا دينه، ‏{‏وهم كارهون‏}‏ أي‏:‏ على رغم أنفهم، والآيتان تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على تخلفهم، وبيان ما ثبطهم الله لأجله وكره انبعاثهم له، وهتك أستارهم، وكشف أسرارهم، وإزاحة اعتذارهم‏.‏ انظر البيضاوي‏.‏

الإشارة‏:‏ الناس على ثلاثة أقسام‏:‏ قسم أقامهم الحق تعالى لخدمة أنفسهم وحظوظهم؛ عدلاً‏.‏

وقسم أقامهم الحق تعالى لخدمة معبودهم؛ فضلاً‏.‏ وقسم اختصهم بالتوجه إلى محبوبهم؛ رحمة وفضلاً‏.‏

فالأوّلون‏:‏ أثقلهم بكثرة الشواغل والعلائق، ولو أرادوا الخروج منها لأعدوا له عدة بالتخفيف والزهد، ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم، وقيل‏:‏ اقعدوا مع القاعدين، أقامهم لإصلاح عالم الحكمة، وأما أهل الخدمة‏:‏ فرآهم لم يصلحوا لصريح معرفته، فشغلهم بخدمته، ولو أرادوا الخروج من سجن الخدمة إلى فضاء المعرفة لأعدوا له عدة؛ بصحبة أهل المعرفة الكاملة‏.‏ وأما أهل التوجه إلى محبته وصريح معرفته فلم يشغلهم بشيء، ولم يتركهم مع شيء، بل اختصهم بمحبته، وقام لهم بوجود قسمته، ‏{‏يَختَصُ بِرحمَتِهِ مَن يَشَاءُ واللَّهُ ذُو الفَضل العَظيم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 74‏]‏‏.‏ وكل قسم لو دخل مع من فوقه على ما هو عليه، لأفسده، وما زاده إلا خبالاً وشراً‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏49- 50‏]‏

‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ‏(‏49‏)‏ إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏ومنهم من يقولُ ائذن لي‏}‏ في القعود، ‏{‏ولا تفتنِّي‏}‏؛ ولا توقعني في الفتنة، أي‏:‏ في العصيان والمخالفة، بأ تأذن لي، وفيه إشعار بأنه لا محالة متخلف، أََذِنَ أو لم يأذن، أو في الفتنة؛ بسبب ضياع المال والعيال؛ إذ لا كافل لهم بعدي، أو في الفتنة بنساء الروم، كما قال الجَدُّ بنُ قَيْس‏:‏ قد علمت الأنصار أني مُولع بالنساء، فلا تفتني ببنات بني الأصفر، ولكني أُعينك بمال، واتركني‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَلاَ في الفتنةِ سقطُوا‏}‏ أي‏:‏ إن الفتنة التي سقطوا فيها، وهي فتنة الكفر والنفاق، لا ما احترزوا عنه، ‏{‏وإنَّ جهنم لمحيطة بالكافرين‏}‏، أي‏:‏ دائرة بهم يوم القيامة، أو الآن؛ لأن إحاطة أسبابها بهم كوجودها، ومن أعظم أسبابها‏:‏ بغضك وانتظارهم الدوائر بك‏.‏

‏{‏إن تُصبْك حسنة‏}‏؛ كنصر أو غنيمة في بعض غزواتك، ‏{‏تسؤوهم‏}‏؛ لفرط حسدهم وبغضهم، ‏{‏وإن تُصبك‏}‏ في بعضها ‏{‏مصيبة‏}‏؛ ككسر أو شدةٍ كيوم أحد، ‏{‏يقولوا قد أخذنا أمْرَنا من قبلُ‏}‏ أي‏:‏ يتبجحوا بتخلفهم أو انصرافهم، واستحمدوا رأيهم في ذلك، ‏{‏ويتولوا‏}‏ عن متحدِّثِهم ومجْمعهم، أو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ‏{‏وهم فَرحُون‏}‏ مسرورون بما صنعوا من التخلف عن الجهاد‏.‏

الإشارة‏:‏ ومن ضعفاء اليقين من يستأذن المشايخ في البقاء مع الأسباب وفتنة الأموال، ويقول‏:‏ لا تفتني بالأمر بالتجريد، فإني لا أقدر عليه، ويرضى بالسقوط في فتنة الأسباب والشواغل، فإن ضم إلى ذلك الإنكار على أهل التجريد، بحيث إذا رأى منهم نكبة أو كسرة من أجل التجريد، والخروج عن عوائد الناس وما هم عليه، فرح، وإذا رأى منهم نصراً وعزاً انقبض، ففيه خصلة من النفاق، والعياذ بالله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 52‏]‏

‏{‏قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏51‏)‏ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ ‏(‏52‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ لهم يا محمد‏:‏ ‏{‏لن يصيبنا‏}‏ من حسنة أو مصيبة، ‏{‏إلا ما كتبَ اللهُ لنا‏}‏ في اللوح الحفوظ، لا يتغير بموافقتكم ولا بمخالفتكم، ‏{‏هو مولانا‏}‏؛ متولي أمرنا وناصرنا، ‏{‏وعلى الله فليتوكل المؤمنون‏}‏ أي‏:‏ وإليه فليفوض المؤمنون أمورهم؛ رضاَ بتدبيره؛ لأن مقتضى الإيمان ألا يتوكل إلا على الله؛ إذ لا فاعل سواه، ‏{‏قل‏}‏ لهم‏:‏ ‏{‏هل تربّصُون‏}‏ أي‏:‏ تنتظرون ‏{‏بنا إحدى الحُسنيين‏}‏ أي‏:‏ إلا إحدى العاقبتين اللتين كل منهما حسنى‏:‏ إما النصر وإما الشهادة، ‏{‏ونحنُ نتربصُ بكم‏}‏ أيضاً إحدى العاقبتين السُوأتين‏:‏ إما ‏{‏أن يصيبَكم اللَّهُ بعذابٍ من عنده‏}‏ بقارعة من السماء، ‏{‏أو بأيدينا‏}‏ أي‏:‏ أو بعذاب بأيدينا، وهو القتل على الكفر، ‏{‏فتربصُوا‏}‏ ما هو عاقبتنا، ‏{‏إنا معكم مُتَربِّصون‏}‏ ما هو عاقبتكم‏.‏

الإشارة‏:‏ ثلاثة أمور توجب للعبد الراحة من التعب، والسكون إلى رب الأرباب، وتذهب عنه حرارة التدبير والاختبار، وظلمة الأكدار والأغيار‏:‏ أحدها‏:‏ تحقيق العلم بسبقية القضاء والقدر، حتى يتحقق بأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وما أصابه لم يكن ليخطئه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏قل لن يصينا إلا ما كتب الله لنا‏}‏، ‏{‏وَإن يمْسسْك اللَّهُ بضُرِّ فَلا كَاشِفَ له إلاَّ هُوَ‏}‏، وليتأمل قول الشاعر‏:‏

مَا لا َيُقَدِّرُ لا يَكُون بِحيلَةٍ *** أَبَداً، وَمَا هُو كَائِنٌ سَيَكُونُ

سَيَكُونُ مَا هُوَ كَائِنٌ في وَقْتِهِ *** وأخُو الجَهالَةِ مُتْعَبٌ مَخْزُون

وقد ورد عن سيدنا علي كرم الله وجهه أنه قال‏:‏ سبع آيات‏:‏ من قرأها أو حملها معه؛ لو انطبقت السماء على الأرض؛ لجعل الله له فرجاً ومخرجاً من أمره، فذكر هذه الآية‏:‏ ‏{‏قل لن يصيبنا‏}‏، وآية في سورة يونس‏:‏ ‏{‏وَإِن يَمسَسْك اللَّهُ بِضُرٍ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 107‏]‏ الآية، وآيتان في سورة هود‏:‏ ‏{‏وَما مِن دآبَّةٍ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 6‏]‏، الآية، ‏{‏إنّي تَوَكَّلتُ عَلَى اللهِ رَبَي وَرَبّكُم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 56‏]‏، الآية، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكأَيَّن مّنِ دَآبَّةٍ لاَّ تَحمِلُ رِزقُها اللَّهُ يرزُقُها وَإِيَّاكمُ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 60‏]‏، ‏{‏مَّا يَفتَحِ اللَّهُ للِنَّاسِ مِن رَّحمَةٍ فَلاَ مُمسكَ لَهَا وَمَا يَمسِك فَلاَ مُرسِلَ لَهُ مِن بَعدِهِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكيمُ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 2‏]‏، و‏{‏ولَئن سَأَلتَهُم‏}‏‏.‏‏.‏ في الزمر إلى قوله ‏{‏عَلَيهِ يَتَوكَّلُ المُتَوَكِلُون‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 38‏]‏، ونظمها بعضهم فقال‏:‏

عليك بقل وإن، وما، إني، في هود *** وكأين، مَا يفتحْ، ولئن؛ مكملا

وإنما أشار رضي الله عنه إلى معنى الآيات لا إلى لفظها؛ لأنها كلها تدل على النظر لسابق القدر، والتوكل على الواحد القهار‏.‏

الأمر الثاني‏:‏ تحقق العبد برأفته تعالى ورحمته، وأنه لا يفعل به إلا ما هو في غاية الكمال في حقه، إن كان جمالاً فيقتضي منه الشكر، وإن كان جلالاً فيقتضي منه الصبر، وفيه غاية التقريب والتطهير وطي المسافة بينك وبين الحبيب‏.‏

وفي الحكم‏:‏ «خير أوقاتك وقت تشهد فيه وجودَ فاقتك، وتُرَدُ فيه إلى وجود ذلتك، إن أردت بسط المواهب عليك، فصحح الفقر والفاقة لديك، الفاقة أعياد المريدين»‏.‏ إلى غير ذلك من كلامه في هذا المعنى‏.‏

الأمر الثالث‏:‏ تحققه بخالص التوحيد؛ فإذا علم أن الفاعل هو الله ولا فاعل سواه؛ رضي بفعل حبيبه، كيفما كان، كما قال ابن الفارض رضي الله عنه‏:‏

أَحِبَّاي أَنْتُمْ أَحسَنَ الدَّهر أم أسا *** فكونوا كما شِئتُمْ أَنا ذلك الخِلّ

وكما قال صاحب العينية‏:‏

تَلَذُّ لِيَ الآلام إذْ كُنْتَ مُسقِمي *** وإن تَخْتَبِرني فَهْي عِنْدي صَنَائِعُ

تَحَكَّم بِمَا تَهْواهُ فِيّّ فإنَّني *** فَقيرٌ لسُلطان المَحَبَّةِ طَائِعُ

فهذه الأمور الثلاثة، إذا تفكر فيها العبد دام حبوره وسروره، وسهلت عليه شؤونه وأموره‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل هل تربصون بنا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، مثله يقول أهل النسبة لأهل الإنكار‏:‏ هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين، إما حسن الختام بالموت على غاية الإسلام، يموت المرء على ما عاش عليه، وإما الظفر بمعرفة الملك العلام على غاية الكمال والتمام، ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعقوبة من عنده؛ بسبب إذايتكم، أو بدعوة من عندنا إذا أَذِنَ لنا‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏53- 54‏]‏

‏{‏قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ ‏(‏53‏)‏ وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ ‏(‏54‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ‏}‏

ثم ذكر سبب إبطال عملهم وصدقاتهم، فقال‏:‏

‏{‏وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصلاة إِلاَّ وَهُمْ كسالى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏أن تُقبل‏)‏‏:‏ بدل من ضمير ‏(‏منعهم‏)‏، أو على حذف الجار، و‏(‏إلا أنهم كفروا‏)‏‏:‏ فاعل، أي‏:‏ وما منع قبول نفقاتهم، أو من قبول نفقاتهم، إلا كفرهم بالله وبرسوله، ويحتمل أن يكون الفاعل ضميراً يعود على الله تعالى و‏(‏إنهم‏)‏ مفعول من أجله‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏وما منعهم‏}‏؛ وما منع المنافقين من قبول نفقاتهم وأعمالهم ‏{‏إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله‏}‏؛ إلا كُفرهم بالله وبرسوله، أو‏:‏ ما منعهم الله من قبول نفقاتهم إلا لأجل كفرهم بالله وبرسوله، وكونه ‏{‏لا يأتُونَ الصلاةَ إلا وهم كُسَالى‏}‏؛ متثاقلين، ‏{‏ولا ينفقون إلا وهم كَارِهُون‏}‏ أي‏:‏ لا يُعطون المال إلا في حال كراهيتهم للإعطاء؛ لأنهم لا يرجون ثواباً ولا يخافون بتركها عقاباً، فهم يعطون ذلك رياء ونفاقاً‏.‏

الإشارة‏:‏ لا يتقبل الله إلا عمل المخلصين، إما إخلاص العوام؛ لقصد الثواب وخوف العقاب، أو إخلاص الخواص؛ لإظهار العبودية وإجلال الربوبية، وعلامة الإخلاص‏:‏ وجود النشاط والخفة حال المباشرة للعمل، أو قبلها والغيبة عنه بعد الوقوع، والله أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏

‏{‏فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ‏(‏55‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏فلا تُعْجِبُكَ‏}‏، أيها الناظر إلى المنافقين، كثرةُ ‏{‏أموالهم ولا أولادهم‏}‏؛ فإن ذلك استدراج ووبال لهم ‏{‏إنما يريد اللَّهُ ليُعذِّبَهم بها في الحياة الدنيا‏}‏؛ بسبب ما يكابدون في جمعها وحفظها من المتاعب، وما يرون فيها من الأمراض والمصائب، أو ما ألزموا به من أداء زكاتها، مع كونهم لا يرجون خَلَفها ‏{‏وتَزْهقَ أنفُسُهم وهم كافرون‏}‏؛ فلا يستوفون التمتع بها في الدنيا؛ لقصر مدتها، ولا يجدون ثواب ما أعطوا منها؛ لعدم إيمانهم‏.‏ وأصل الزهوق‏:‏ الخروج بصعوبة، لصعوبة خروج أرواحهم، والعياذ بالله‏.‏

الإشارة‏:‏ ينبغي لمريد الآخرة ألا يستحسن شيئاً من الدنيا، التي هي مدْرجة الاغترار، بل ينبغي له أن ينظر إليها وإلى إهلها بعض الغض والاحتقار، حتى ترتفع همته إلى دار القرار، وينبغي لمريد الحق تعالى ألا يحقر شيئاً من مصنوعاته، ولا يصغر شيئاً من تجلياته، إذ ما في الوجود إلا تجليات العلي الكبير، إما من مظاهر اسمه الحكيم، أو اسمه القدير، فيعطي الحكمة حقها والقدرة حقها، ويتلون مع كل واحدة بلونها، وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏56- 57‏]‏

‏{‏وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ ‏(‏56‏)‏ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ ‏(‏57‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ الفَرَقُ‏:‏ الخوف، و‏(‏مُدَّخلاً‏)‏‏:‏ أصله‏:‏ متدخلاً، مفتعل من الدخول، قبلت التاء دالاً وأدغمت‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏ويحلفون‏}‏ لكم ‏{‏بالله إنهم لمنكم‏}‏ أي‏:‏ من جملة المسلمين، ‏{‏وما هم منكم‏}‏؛ لكفر قلوبهم، ‏{‏ولكنهم قوم يَفْرقُون‏}‏‏:‏ يخافون منكم أن تفعلوا بهم ما تفعلون بالمشركين، فيظهرون الإسلام تقية وخوفاً ‏{‏لو يجدون مَلْجأً‏}‏ أي‏:‏ حصناً يلتجئون إليه، ‏{‏أو مَغَاراتٍ‏}‏؛ غيراناً، ‏{‏أو مُدَّخلاً‏}‏؛ ثقباً أو جحراً يَنجَحِرُون فيه‏.‏ وقرأ يعقوب‏:‏ «مُدخِلاً»؛ بضم الميم وسكون الدال، أي‏:‏ دخولاً، أو مكاناً يدخلون فيه، ‏{‏لَوَلّوا إليه وهم يجمحون‏}‏ أي‏:‏ يُسرعون إسراعاً لا يردهم شيء كالفرس الجموح‏.‏

الإشارة‏:‏ قد يتطفل على القوم من ليس منهم، فيظهر الوفاق ويبطن النفاق، كحال أهل النفاق، فينبغي أن يستر ويُحلُم عليه، كما فعل عليه الصلاة والسلام بالمنافقين، تلطف معهم في حياتهم، والله يتولى سرائرهم، بالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏58- 59‏]‏

‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ ‏(‏58‏)‏ وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏لو‏)‏‏:‏ شرطية، و‏(‏أنهم‏)‏‏:‏ قال سيبويه‏:‏ مبتدأ، والخبر محذوف‏:‏ ولو رضاهم ثابت أو موجود‏.‏‏.‏‏.‏ الخ‏.‏ وقال غيره‏:‏ فاعل بفعل محذوف؛ ولو ثبت رضاهم، وجواب ‏(‏لو‏)‏‏:‏ محذوف، أي‏:‏ ولو أنهم رضوا لكان خيراً لهم‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏ومنهم‏}‏؛ ومن المنافقين ‏{‏من يلمزك‏}‏ أي‏:‏ يعيبك، ويعترض عليك ‏{‏في‏}‏ قسم ‏{‏الصدقات‏}‏، ‏{‏فإن أُعطوا منها رَضُوا‏}‏ وفرحوا، ‏{‏وإِنْ لمْ يُعْطُوا منها‏}‏ شيئاً ‏{‏إّذا هم يَسْخَطُون‏}‏‏.‏ والآية نزلت في ابن أُبي؛ رأس المنافقين، قال‏:‏ ألا تَرونَ إلى صاحِبِكُم إِنَّما يقْسِمُ صَدقَاتكُمْ في رُعَاةِ الغَنَم، ويَزْعُمُ أَنَّهُ يَعْدل‏.‏ وقيل‏:‏ في ذي الخُوَيْصِرةِ رأس الخَوَارِجِ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم غنائم حنين، فاستعطف قلوب أهل مكة، فآثرهم بالعطاء، فقال‏:‏ اعْدِلَ يا رَسُول الله، فقال‏:‏ «ويلَكَ، إنْ لَمْ أَعْدِلْ فمنْ يَعْدِل‏؟‏»‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولو أنهم رَضُوا ما أتاهم اللَّهُ ورسولُه‏}‏ أي‏:‏ بما أعطاهم الرسول من الغنيمة، وذَكَرَ الله؛ للتعظيم، وللتنبيه على أن ما فعله الرسول عليه الصلاة والسلام كان بأمر الله ووحيه، فكأنه فعله هو‏.‏ ‏{‏وقالوا حسبنا الله‏}‏ أي‏:‏ كفانا فضلُه، ‏{‏سيؤتينا اللَّهُ من فضله ورسولهُ‏}‏ صدقة أو غنيمة أخرى، فيؤتينا أكثر مما أتانا، ‏{‏إنا إلى الله راغِبُون‏}‏ في أن يُغنينا من فضله وجوده‏.‏ فلو فعلوا هذا لكان خيراً لهم من اعتراضهم عليك، الموجب لهم المقت والعذاب‏.‏

الإشارة‏:‏ لا يكون المؤمن كاملاً حتى يستوي عنده المنع والعطاء، والفقد والوجد، والفقر، والغنى والعز والذل‏.‏ وأما إن كان في حالة العطاء والوجد يفرح، وفي حالة المنع والفقد يسخط، فلا فرق بينه وبين أهل النفاق، إلا من حيث التوسم بالإيمان، ولو أنه رضي بما قسم الله له، واكتفى بعلمه، ورغب الله في زيادته من فضله، لكان خيراً له وأسلم‏.‏ والله تعالى أعلم وأحكم‏.‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏60‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏إِنما‏}‏ تدفع ‏{‏الصدقاتُ‏}‏ الواجبة أي‏:‏ الزكاة لهؤلاء الثمانية، وهذا يُرَجَّحُ أن لَمْزهم كان في قسم الزكاة لا في الغنائم، واختصاص دفع الزكاة بهؤلاء الثمانية مجمع عليه، واختلف‏:‏ هل يجب تعميمهم‏؟‏ فقال مالك‏:‏ ذلك إلى الإمام، إن شاء عمم وإن شاء خصص، وإن لم يلها الإمام؛ فصاحب المال مخير، وبه قال أبو حنيفة وأحمد، وأفتى به بعض الشافعية، وقال الشافعي‏:‏ يجب أن تقسم على هذه الأصناف بالسواء، إن وجدت‏.‏

أولها‏:‏ الفقير‏:‏ وهو من لا شيء له، وثانيها‏:‏ المسكين‏:‏ وهو من له شيء لا يكفيه‏.‏ فالفقير أحوج، وهو مشتق من فقار الظهر، كأنه أصيب فقاره، والمسكين من السكون، كأن العجز أسكنه‏.‏ ويدل على هذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَت لِمَسَكِينَ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 79‏]‏‏.‏ فسماهم مساكين مع ملكهم السفينة، وأنه صلى الله عليه وسلم سأل المسكنة؛ وقيل بالعكس، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أًو مِسكيناً ذَا مَتربَةٍ‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 16‏]‏ وقيل‏:‏ هما سواء‏.‏ ‏{‏والعاملينَ عليها‏}‏ أي‏:‏ الساعين في تحصيلها وجمعها، ويدخل فيهم الحاشر والكاتب والمفرق، ولا بأس أن يعلف خيلهم منها، ويضافون منها بلا سَرف‏.‏ ‏{‏والمؤلفة قلوبهم‏}‏ قال مالك‏:‏ هم كفار ظهر ميلهم للإسلام، فيعطوا ترغيباً في الإسلام‏.‏ وقيل قوم أسلموا ونيتهم ضعيفة، فيعطوا ليتمكن الإسلام في قلبهم، وحكمُهم باق، وقيل‏:‏ أشراف يُترقب بإعطائهم إسلام نظائرهم‏.‏

‏{‏وفي الرقاب‏}‏ أي‏:‏ في فك الرقاب، يشترون ويعتقون، ‏{‏والغَارِمينَ‏}‏، أي‏:‏ مَنْ عليهم دَيْن، فيعطى ليقضي دينه، ويشرط أن يكون استدانة في غير فساد ولا سرف، وليس له ما يبيع في قضائه‏.‏ ‏{‏وفي سبيل الله‏}‏ يعني‏:‏ الجهاد، فيعطى منها المجاهدون وإن كانوا أغنياء، ويشتري منها آلة الحرب، ولا يبنى منها سور ولا مركب‏.‏ ‏{‏وابن السبيل‏}‏ وهو الغريب المحتاج لما يوصله لبلده، ولم يجد مسلفاً، إن كان مليَّاَ ببلده، وإلا أعطي مطلقاً‏.‏

فرض الله ذلك ‏{‏فريضة من الله‏}‏ أي‏:‏ حقاً محدوداً عند الله‏.‏ قال ابن جزي‏:‏ ونصبه على المصدر يعني‏:‏ لفعل محذوف كما تقدم فإن قيل‏:‏ لِمَ ذكر مصرف الزكاة في تضاعيف ذكر المنافقين‏؟‏ فالجواب‏:‏ أنه خص مصرف الزكاة في تلك الأصناف؛ ليقطع طمع المنافقين فيها، فاتصلت هذه الآية في المعنى بقوله‏:‏ ‏{‏ومنهم من يلمزك في الصدقات‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ه‏.‏ ‏{‏والله عليمٌ حكيم‏}‏؛ يضع الأشياء في مواضعها‏.‏

الإشارة‏:‏ إنما النفحات والمواهب للفقراء والمساكين، الذين افتقروا من السِّوى، وسكنوا في حضرة شهود المولى‏.‏ وفي الحكم‏.‏ «ورود الفاقات أعياد المريدين، ربما وجدت من المزيد في الفاقة ما لا تجده في الصوم والصلاة، الفاقات بسُطُ المواهب‏.‏ إن أردت بسط المواهب عليك فصحح الفقر والفاقة لديك‏.‏ ‏{‏إنما الصدقات للفقراء والمساكين‏}‏‏.‏

وقال الهروي‏:‏ الفقر صفة مهجورة، وهو ألذُّ ما يناله العارف، لكونها تدخله على الله، وتجلسه بين يدي الله، وهو أعم المقامات حكماً؛ لقطع العوائق، والتجرد من العلائق، واشتغال القلب بالله‏.‏ وقيل‏:‏ الفقير الصادق لا يملِك ولا يُملَك‏.‏ وقال الشبلي‏:‏ الفقير لا يستغني بشيء دون الله‏.‏ وقال الشيخ ابن سبعين رضي الله عنه‏:‏ الفقير هو الذي لا يحصره الكون‏.‏ ه‏.‏ يعني‏:‏ لخروج فكرته عن دائرة الأكوان، وقال القشيري‏:‏ الفقير الصادق عندهم‏:‏ مَنْ لا سماء تُظِله، ولا أرضَ تُقِلُّه، ولا سهم يتناوله، ولا معلومَ يشغِله، فهو عبد الله بالله‏.‏ ه‏.‏

وقال السهروردي في عوارفه‏:‏ الفقر أساس التصوف، وبه قوامه، ويلزم من وجود التصوف وجود الفقر؛ لأن التصوف اسم جامع لمعاني الفقر والزهد، مع زيادة أحوال لا بد منها للصوفي، وإن كان فقيراً زاهداً‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ نهاية الفقر بداية التصوف؛ لأن التصوف اسم جامع لكل خلق سني، والخروج من كل خلق دنيء، لكنهم اتفقوا ألاًّ دخول على الله إلا من باب الفقر، ومن لم يتحقق بالفقر لم يتحقق بشيء مما أشار إليه القوم‏.‏

وقال أبو إسحاق الهروي أيضاً‏:‏ من أراد ان يبلغ الشرفَ كل الشرف؛ فليخترْ سبعاً على سبع، فإن الصالحين اختاروا حتى بَلَغُوا سنام الخير‏.‏ واختاروا الفقر على الغنى، والجوع على الشبع؛ والدُّون على المرتفع، والذلَّ على العز، والتواضع على الكبر، والحزن على الفرح، والموت على الحياة‏.‏ ه‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ إن الفقير الصادق ليحترز من الغنى؛ حذراً أن يدخله؛ فيفسد عليه فقره، كما يحترز الغنى من الفقر؛ حذراً أن يفسد عليه غناه‏.‏

قال بعض الصالحين‏:‏ كان لي مال، فرأيت فقيراً في الحرم جالساً منذ أيام، ولا يأكل ولا يشرب وعليه أطمار رثة، فقلت‏:‏ أُعنيه بهذا المال؛ فألقيته في حجره، وقلت‏:‏ استعن بهذا على دنياك، فنفض بها في الحصباء، وقال لي‏:‏ اشتريتُ هذه الجلسة مع ربي بما ملكت، وأنت تفسدها عليَّ‏؟‏ ثم انصرف وتركني ألقُطها‏.‏ فوالله ما رأيت أعز منه لَمَّا بَدَّدَها، ولا أذل مني لما كنت ألقطها‏.‏ ه‏.‏

وكان بعضهم إذا أصبح عنده شيء؛ اصبح حزيناً، وإذا لم يصبح عنده شيء؛ أصبح فرحاً مسروراً، فقيل له‏:‏ إنما الناس بعكس هذا، فقال‏:‏ إني إذا لم يصبح عندي شيء فلي برسول الله صلى الله عليه وسلم أُسوة، وإذا أصبح لي شيء لم يكن لي برسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة‏.‏ ه‏.‏ وجمهور الصوفية‏:‏ يفضلون الفقير الصابر على الغني الشاكر، ويُفضلون الفقر في الجملة على الغني؛ لأنه عليه الصلاة والسلام اختاره، وما كان ليختار المفضول‏.‏ وشذ منهم يحيى بن معاذ الواعظ وأحمد بن عطاء‏.‏

قال القشيري‏:‏ كان ابن عطاء يُفضل الغنى على الفقر، فدعا عليه الجنيد فأصيب عقله ثلاثين سنة، فلما رجع إليه عقله قال‏:‏ إنما أصابني ما أصابني بدعاء الجنيد‏.‏

وتكلم يحيى بن معاذ، ففضل الغنى على الفقر، فأعطاه بعض الأغنياء ثلاثين ألف درهم، فدعا بعض المشايخ عليه، فقال‏:‏ لا بارك الله له فيها، فخرج عليه اللص فنهبه إياها‏.‏ ه‏.‏ وحكي عن أبي يزيد البسطامي‏:‏ أنه قال‏:‏ أًسري بروحي، فرأيت كأني واقف بين يدي الله، فسمعت قائلاً يقول‏:‏ يا أبا يزيد، إن أردت القرب منا فأتنا بما ليس عندنا، فقلت‏:‏ يا مولاي وأي شيء ليس عندك، ولك خزائن السماوات والأرض‏؟‏ فسمعت‏:‏ يا أبا يزيد، ليس عندي ذل ولا فقر فمن أتاني بهما بلّغته‏.‏ ه‏.‏

وقال في الإحياء‏:‏ الفقر المستعاذ منه‏:‏ فقر المضطر، والمسؤول هو‏:‏ الاعتراف بالمسكنة والذلة والافتقار إلى الله عز وجل‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ والأحسن أن المستعاذ منه هو‏:‏ فقر القلوب من اليقين، فيسكنها الجزع والهلع، والفقر المسؤول هو‏:‏ التخفيف من الشواغل والعلائق، والله تعالى أعلم‏.‏

وقد تكلم القشيري هنا على أخذ الزكاة وتركها، فقال‏:‏ من أهل المعرفة من رأى أنَّ أَخذَ الزكاة المفروضة أَولى، قالوا‏:‏ لأن الله سبحانه جعل ذلك مِلكاً للفقير، فهو أحل له من المتطوع به‏.‏ ومنهم من قال‏:‏ الزكاة المفروضة لأقوام مستحقة، ورأوا الإيثار على الإخوان أولى، فلم يزاحموا أرباب السهمان، وتحرجوا من أخذ الزكاة، ومنهم من قال‏:‏ إن ذلك وسخ الأموال، وهو لأصحاب الضرورات‏.‏ وقالوا‏:‏ نحن آثرنا الفَقْرَ اختياراً‏.‏‏.‏‏.‏ فلم يأخذوا الزكاة المفروضة‏.‏ ه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏(‏والعاملين عليها‏)‏‏:‏ هم المستعدون للمواهب بالتفرغ والتجريد، و‏(‏المؤلفة قلوبهم‏)‏ على حضرة محبوبهم، والجادُّون في فك الرقاب من الجهل والغفلة؛ وهم أهل التذكير، الداعون إلى الله، ‏(‏والغارمين‏)‏ أي‏:‏ الدافعون أموالهم ومهجهم في رضى محبوبهم، فافتقروا فاستحقوا حظهم من المواهب والأسرار، و‏(‏في سبيل الله‏)‏ أي‏:‏ المجاهدون أنفسهم في مرضاة الله‏.‏ ‏(‏وابن السبيل‏)‏‏:‏ السائحين في طلب معرفة الله‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

‏{‏وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏61‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏قل أُذُنُ خير‏)‏‏:‏ من قرأ بالإضافة؛ ف ‏(‏لكم‏)‏‏:‏ متعلق بالاستقرار، أي‏:‏ هو أذن خير كائن لكم‏.‏ ومن قرأ بالتنوين؛ ف ‏(‏خير‏)‏‏:‏ خبر عن «أُذن»؛ خبر ثانٍ، ومن قرأ‏:‏ «ورحمة»؛ بالرفع فعطف على ‏(‏أذن خير‏)‏، ومن قرأ بالجر، فعطف على «خير»، المجرور‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏ومنهم الذين يُؤذون النبيَّ ويقولون‏}‏ فيه‏:‏ ‏{‏هو أُذُنُ‏}‏ يسمع كل ما يقال له يصدقه؛ حقاً كان أو باطلاً، فإذا حلفنا له أنا لم نقل شيئاً صدقنا‏.‏ والقائل لهذه المقالة‏:‏ قيل‏:‏ هو نَبْتَل بْن الحَارِثِ، وكان من مردة المنافقين‏:‏ وقيل‏:‏ عتاب بن قشير، في جماعة، قالوا‏:‏ محمد أذن سامِِعِه، نقول ما شئنا، ثم نأتيه فيصدقنا فيما نقول‏.‏ قال البيضاوي‏:‏ سمي بالجارحة للمبالغة؛ كأنه من فرط استماعه صار جملته آلة السماع، كما سمي الجاسوس عيناً‏.‏ ه‏.‏

قال تعالى في الرد عليهم‏:‏ ‏{‏قل أُذُنُ خيرٍ لكم‏}‏ أي‏:‏ هو لكم سماع خير وحق، فيسمع الخير والحق ويبلغه لكم، أو قل‏:‏ هو أذنٌ خيرٌ لكم من كونه غير أذن؛ لأن كونه أذناً يقبل معاذيركم؛ ولو كان غير أذن لكذبكم وفضحكم‏.‏ وفي ‏(‏الوجيز‏)‏ أي‏:‏ مستمع خير وصلاح، لا مستمع شر وفساد‏.‏

قال البيضاوي‏:‏ وهو تصديق لهم بأنه أذن، لكن لا على الوجه الذي ذموا به يعني من تنقصه بقلة الحزم والانخداع بل من حيث إنه يسمع الخير ويقبله‏.‏ ثم فسر ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏يؤمنُ بالله‏}‏؛ يصدق بالله وبما له من الكمالات، ‏{‏ويُومنُ للمؤمنين‏}‏؛ ويصدقهم؛ لما يعلم من خلوصهم، واللام مزيدة؛ للتفرقة بين إيمان التصديق وإيمان الإذعان والأمان، ‏{‏ورحمةٌ للذين آمنوا منكم‏}‏ أي‏:‏ هو رحمة لمن أظهر الإيمان منكم، بحيث يقبله ولا يكشف سره‏.‏ وفيه تنبيه على أنه ليس يقبل قلولكم؛ جهلاً بكم، بل رفقاً بكم وترحماً عليكم، قاله البيضاوي‏.‏

وفي ابن عطية‏:‏ وخص الرحمة بالذين آمنوا؛ إذ هم الذين نجوا بالرسول وفازوا‏.‏ وفي الوجيز‏:‏ وهو رحمة لهم، لأنه كان سبب إيمانهم‏.‏ ه‏.‏ فظاهره أن الإيمان الصادر منهم كان حقيقياً، وهو حُسنُ خلافٍ ظاهر‏.‏ قال البيضاوي‏:‏ أي‏:‏ هو رحمة لمن وفقه الله للإيمان منكم‏.‏

‏{‏والذين يُؤذون رسول الله‏}‏ بأي نوع من الإيذاء، ‏{‏لهم عذابٌ أليم‏}‏ موجع بسبب إذايته‏.‏

الإشارة‏:‏ تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم ومدحه وذكر محاسنه، من أجل القربات وأعظم الطاعات؛ لأن تعظيمه ناشئ عن محبته، ومحبته عقد من عقود الإيمان، لا يتم الإيمان إلا بها، والإخلال بهذا الجانب من أعظم المعاصي عند الله، ولذلك قبح كفر المنافقين واليهود، الذين يؤذون جانب النبوة، وما عابه به المنافقون في هذه الآية هو عين الكمال عند أهل الكمال‏.‏

قال القشيري‏:‏ عابوه بما هو أماره كرمه، ودلالة فضله، فقالوا‏:‏ إنه؛ لحُسن خُلُقه، يسمع ما يقال له، وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «المُؤمنُ غِرٌّ كَرِيمٌ والمُنافِقُ خِبٌّ لَئِيمٌ»‏.‏ قالوا‏:‏ من الفاضل‏؟‏ قالوا‏:‏ الفَطِنُ المُتَغَافِلُ، وأنشدوا‏:‏

وإذا الكريمُ أَتَيْتَه بخدِيعَةٍ *** فرأيته فيما ترومُ يُسارعُ

فاعلمْ بأنَّك لم تخادِعْ جاهلاً *** إنَّ الكريمَ بفضله يتخادع

وكل ولي يتخلق بهذا الخلق السني؛ الذي هو التغافل والانخداع في الله، وكان عبد الله بن عمر يقول‏:‏ ‏(‏من خدعنا في الله انخدعنا له‏)‏‏.‏ ورأى سيدنا عيسى عليه السلام رجلاً يسرق، فقال له‏:‏ سرقت يا فلان‏؟‏ فقال‏:‏ والله ما سرقت، فقال عليه السلام‏:‏ ‏(‏آمنتُ بالله وكذبتُ عيني‏)‏‏.‏ فمن أخلاق الصوفي أن يؤمن بالله، ويؤمن للمؤمنين، كيفا كانوا، ورحمة للذين آمنوا، فمن آذى من هذا وصفه فله عذاب أليم‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏