فصل: تفسير الآيات رقم (84- 86)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏84- 86‏]‏

‏{‏وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ ‏(‏84‏)‏ فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏85‏)‏ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ‏(‏86‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏وقال موسى‏}‏ لقومه، لمّا رأى خوفهم من فرعون‏:‏ ‏{‏يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا‏}‏ أي‏:‏ ثِقُوا به واعتمِدُوا عليه، ولا تُبالوا بغيره، ‏{‏إن كنتم مسلمين‏}‏ مستسلمين لقضاء الله أو منقادين لأحكامه، قائمتين بطاعته، بعد تحصيل الإيمان به، وقال لهم ذلك مع علمه بإيمانهم وإسلامهم؛ إنهاضاً لهم وتحريضاً على الصبر، كما تقول‏:‏ إن كنت رجلاً فافعل كذا‏.‏

‏{‏فقالوا على الله توكلنا‏}‏ لأنّا مؤمنون مخلصون، ‏{‏ربنا لا تجعلنا فتنةً‏}‏ أي‏:‏ موضع فتنة ‏{‏للقوم الظالمين‏}‏ أي‏:‏ لا تسلطهم علينا فيفتنونا، ‏{‏ونجنا برحمتك من القوم الكافرين‏}‏ أي‏:‏ من كيدهم، أو شؤم مشاهدتهم‏.‏ وفي تقديم التوكل على الدعاء تنبيه على أن الداعي ينبغي أن يتوكل أولاً لتُجاب دعوته؛ لأنه يتسبب في نجاح أمره، ثم يدعو‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ التوكل هو ثمرة الإيمان ونتيجته، فكلما قوي الإيمان واشتدت أركانه قوي التوكل وظهرت أسراره‏.‏ وكلما ضعف الإيمان ضعف التوكل، فالتَّوَغل في الأسباب نتيجة ضعف الإيمان، والتقلل منها نتيجة صحة التوكل والإيقان، والتوكل‏:‏ أن تكون بما في يد الله أوثق مما في يدك‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 96‏]‏ والتوكل قد يوجد مع الأسباب، ومع التجريد أنفع، وقد تقدم الكلام عليه في آل عمران‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏87‏]‏

‏{‏وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآَ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏87‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏وأوحينا إلى موسى وأخيه ان تبَوءا‏}‏ أي‏:‏ اتخذا ‏{‏لقومكما بمصر بيوتاً‏}‏ للصلاة والعبادة، قيل‏:‏ أراد الإسكندرية، وهي من مصر، ‏{‏واجعلوا‏}‏ أنتما وقومكما ‏{‏بُيوتَكم‏}‏ التي تسكنون فيها ‏{‏قبلةً‏}‏‏:‏ مصلّى ومساجد‏.‏ ورُوي أن فرعون أخافهم، وهدم مواضع كانوا اتخذوها للصلاة، فأمروا بإخفائها وجعلها في بيوتهم، وتكون متوجهة نحو القبلة يعني مكة وكان موسى يصلي إليها‏.‏

فإن قلت‏:‏ لِمَ خُصَّ موسى وهارون بالخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏أن تَبوءا‏}‏ ثم خُوطب بها بنو إسرائيل في قوله‏:‏ ‏{‏واجعلوا بيوتكم‏}‏ ‏؟‏ فالجواب‏:‏ أن التبوء واتخاذ المساجد مما يتعاطاه رؤوس القوم للتشاور، بخلاف جعل البيوت قبلة فمما ينبغي أن يفعله كل أحد‏.‏

‏{‏وأقيموا الصلاة‏}‏ في تلك البيوت، أُمروا بذلك أول مرة لئلا تظهر عليهم الكفرة ويفتنونهم عن دينهم، ‏{‏وبشَّر المؤمنين‏}‏ بالنصر والعز في الدنيا، وبالجنة في العقبى‏.‏

الإشارة‏:‏ اتخاذ الأماكن للعبادة والعزلة مطلوب عند القوم، وفي الحِكَم‏:‏ «ما نفع القلبَ شيءٌ مثلُ عزلةٍ يدخل بها ميدان فكرة»، وأصلهم في ذلك‏:‏ اعتزاله صلى الله عليه وسلم في غار حراء في مبدأ الوحي، فالخلوة للمريد لا بد منها في ابتداء أمره، فإذا قوي نوره، ودخل مقام الفناء؛ صلح له حينئذٍ الخلطة مع الناس، بحيث يكون جسده مع الخلق وقلبه مع الحق، فإن لله رجالاً أشباحُهم مع الخلق تسعى، وأرواحهم في الملكوت ترعى‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ الجَسدُ في الحانوت والقلب في الملكوت، فإذا رجع إلى البقاء لم يختَرْ حالاً على حال؛ لأنه مع الله على كل حال، وهذا من أقوياء الرجال‏.‏ نفعنا الله بهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏88- 89‏]‏

‏{‏وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آَتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ‏(‏88‏)‏ قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏89‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ اللام في ‏(‏ليُضلوا‏)‏ لام كي، متعلقة بآتيت محذوفة، أو بالمذكورة، ولفظ ‏(‏ربنا‏)‏ تكرار، أو تكون لام الأمر، فيكون دعاء عليهم بلفظ الأمر، بما علم من قرائن أحوالهم أنه لا يكون غيره‏.‏ ‏{‏فلا يؤمنوا‏}‏‏:‏ جواب الدعاء أو عطف على ‏(‏ليضلوا‏)‏‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأهُ زينةً‏}‏‏:‏ ما يتزين به من الملابس والمراكب، ونحوها، ‏{‏وأموالاً‏}‏‏:‏ أنواعاً من المال ‏{‏في الحياة الدنيا‏}‏ استدراجاً، ‏{‏ربنا‏}‏ آتيتهم ذلك ‏{‏ليُضلوا عن سبيلك‏}‏ طغياناً وبطراً بها، وصرفها في غير محلها، أو ربنا اجعلهم ضالين في سبيلك، كقول نوح عليه السلام ‏{‏وَلاَ تَزِدِ الظالمين إِلاَّ ضَلاَلاً‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 24‏]‏ لما أيس من إيمانهم، ‏{‏ربنا اطمسْ على أموالهم‏}‏ أي‏:‏ أهلكها وامحقها، ‏{‏واشْدُدْ على قلوبهم‏}‏ بالقسوة، واطبع عليها حتى لا تنشرح للإيمان، ‏{‏فلا يؤمنوا حتى يَرَوا العذابَ الأليم‏}‏ أي‏:‏ إن تطمس على أموالهم وتشدد على قلوبهم لا يؤمنوا إلا قهراً‏.‏

وفي الآية دليل على جواز الدعاء على الظالم بالمعصية، أو الكفر، وقد فعله سعد بن أبي وقاص على الذي شهد فيه بالباطل، ووجْهُ جوازه مع استلزامه وقوع المعاصي‏:‏ أنه لم يُعتبر من حيث تاديته إلى المعاصي، ولكن من حيث تأديته إلى نِكاية الظالم وعقوبته، وهذا كما قيل في تمني الشهادة أنه مشروع، وإن كان يؤدي إلى قتل الكافر للمسلم، وهو معصية ووهن في الدين، ولكن الغرض من تمنى الشهادة ثوابُها، لا نفسها‏.‏

‏{‏قال‏}‏ تعالى‏:‏ ‏{‏قد أجيَبت دعوتُكما‏}‏ يعني موسى وهارون، وكان يُؤمِّن على دعاء أخيه، ‏{‏فاستقيما‏}‏ أي‏:‏ اثبتا على ما أنتما عليه من الاستقامة والدعوة وإلزام الحجة، ولا تستعجلا، فإن ما طلبتما كائن ولكن في وقته، روي أنه مكث فيهم بعد الدعاء أربعين سنة، ‏{‏ولا تتبعانِّ سبيلَ الذين لا يعلمون‏}‏‏:‏ طريق الجهلة في استعجال الأشياء قبل وقتها، أو في عدم الوثوق والاطمئنان بوعدنا، وقرأ ابن ذكوان‏:‏ «ولا تتبعان» بالنون الخفيفة وكسرها لالتقاء الساكنين، وهو قليل، قال ابن مالك‏:‏

وَلم تَقَعْ خَفِيفَةٌ بَعدَ الأَلفْ *** ويحتمل أن تكون نون الرفع، و«لا» نافية، أي‏:‏ والأمر لا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون‏.‏

الإشارة‏:‏ دعاء الأولياء على الظالم مشروع بعد الإذن الإلهامي على ما يفهمونه، وقد مكث الشيخ أبو الحسن سنين لم يدع على ابن البراء حتى كان سنة في عرفة، فقال‏:‏ الآن أًذن لي في الدعاء على ابن البراء‏.‏‏.‏‏.‏ الخ فإن لم يكن إذن فالصبر أوْلى، بل الأولى الدعاء له بالهداية، حتى يأخذ الله بيده؛ وهذا مقام الصديقين، فإذا وقع الدعاء مطلقاً وتأخرت الإجابة فلا يستعجل، فيكون تبع سبيل الذين لا يعلمون، وفي الحكم‏:‏ «لا يكن تأخرُ أمدِ العطاءِ مع الإلحاحِ في الدعاء موجباً ليأسك، فقد ضمن لك الإحابة فيما يختار لك لا فيما تختار أنت لنفسك، وفي الوقت الذين يريد، لا في الوقت الذي تريد»، وقال أيضاً‏:‏ «لا يشككنَّك في الوعد عدم وقوع الموعود وإن تعين زمنه؛ لئلا يكون ذلك قَدْحاً في بصيرتك، وإخماداً لنور سريرتك» وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏90- 92‏]‏

‏{‏وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏90‏)‏ آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏91‏)‏ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ‏(‏92‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏فأتبعهم‏)‏ أي‏:‏ تبعهم، يقال‏:‏ تبع وأتبع لغتان‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏وجاوزنا ببني إسرائيل البحرَ‏}‏ أي‏:‏ جوزناهم في البحر يبساً؛ حتى بلغوا الشط الآخر حافظين لهم‏.‏ رُوي أن بني إسرائيل حين جاوزوا البحر كانوا ستمائة ألف، وكان يعقوب عليه السلام قد دخل مصر في نيف وسبعين من ذريته، فتناسلوا حتى بلغوا وقت موسى العدد المذكور‏.‏

‏{‏فأتْبعهم‏}‏‏:‏ فأدركهم ‏{‏فرعونُ وجنودُه‏}‏، رُوي أنهم كانوا ثمانمائة ألف أدهم، سوى ما يناسبها من أواسط الخيل‏.‏ تبعهم ‏{‏بغياً وعَدْواً‏}‏‏:‏ باغين وعادين عليهم‏.‏ مستمراً على بغيه ‏{‏حتى إذا أدركه الغرق قال آمنتُ أنه‏}‏ أي‏:‏ بأنه ‏{‏لا إله إلا الذي آمنتْ به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين‏}‏، فآمن حين لا ينفع الإيمان بمعانية الموت، ومن قال بصحة إيمانه فغلطٌ، كالحاتمي فإنه قال في الفصوص‏:‏ إنه من الناجين، وذلك من جملة هفواته‏.‏

قال تعالى لفرعون‏:‏ ‏{‏الآن‏}‏ أي‏:‏ أتؤمن الآن، وقد أيست من نفسك، ‏{‏وقد عَصَيْتَ قَبْلُ‏}‏ مدة عمرك ‏{‏وكنتَ من المفسدين‏}‏‏:‏ الضالين المضلين، ‏{‏فاليوم نُنَجِّيك‏}‏ أي‏:‏ ننقذك مما وقع فيه قومك من قعر البحر، ونجعلك طافياً على وجه الماء، أو نلقيك على نجوة من الأرض ليراك الناس، فيتحققوا بغرق من معك حال كونك ‏{‏ببدنك‏}‏ عارياً عن الروح، أو عرياناً بلا لباس، أو بدرعك، وكانت له دُروع من ذهب يعرف بها، وكان مظاهراً بينها‏.‏

‏{‏لتكونَ لمنَ خَلْفِكَ آيةً‏}‏‏:‏ لمن وراءك علامة يعرفون أنك من الهالكين، والمراد‏:‏ بنو إسرائيل؛ إذ كان نفوسهم من عظمته ما خيّل إليهم أنه لا يهلك حتى كذبوا موسى عليه السلام حين أخبرهم بغرقه، إلى أن عاينوه منطرحاً على ممرهم من الساحل، أو لمن يأتي بعدك من القرون إذا سمعوا مآل امرك، فيكون ذلك عبرة ونكالاً للطغْيان، أوْ حجة تدلهم على أن الإنسان على ما كان عليه من عظيم الشأن وكبرياء الملك مملوك مقهور، بعيد عن مظانِّ الربوبية، أو آية تدل على كمال قدرته وإحاطة علمه وحكمته، فإن إفراده بالإلقاء إلى الساحل دون غيره؛ يفيد أنه مقصود لإزاحة الشك في أمره‏.‏

‏{‏وإن كثيراً من الناس عن آياتنا لغافلون‏}‏؛ لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها، والإخبار بهذا الأخذ الذي وقع في قعر البحر من أعلام النبوة؛ إذ لا يمكن أن يخبر بها إلا عَلاَّم الغيوب الذي لا يخفى عليه شيء، ولا يخلو منه مكان‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ كل من دخل بحر التوحيد علماً وهو فرعون برؤية نفسه، ولم يصحب من يغيبُه عنها غرق في بحر الزندقة والدعوى، فإن رجع إلى الإيمان بعد معاينة الهلاك بسيف الشريعة قيل له‏:‏ الآن وقد عصيت قبلُ وكنتَ من المفسدين‏؟‏ فإن تاب حقيقة رجى له النجاة، وإن قتل كان آية ونكالاً لمن خلفه‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏93‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏93‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏مُبوَّأ‏)‏‏:‏ ظرف بمعنى منزل‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏ولقد بوأنا‏}‏ أي‏:‏ أنزلنا ‏{‏بني إسرائيل مُبَوَّأ صِدْقٍ‏}‏ أي‏:‏ منزل صدق، أي‏:‏ منزلاً صالحاً مرضياً يصدق فيه ظن قاصده وساكنه، فما ظن فيه من الكمالات وجدها صدقاً وحقاً، والمراد به‏:‏ الشام وقراها، ‏{‏ورزقناهم من الطيبات‏}‏ من اللذائذ، وكانوا متفقين على دينهم، وعلى ظهور دين الإسلام، ‏{‏فما اختلفوا‏}‏ في أمر دينهم ‏{‏حتى جاءهم العلم‏}‏؛ بأن قرؤوا التوارة وعلموا أحكامها، ثم طغوا وعصوا، أو في أمر محمد صلى الله عليه وسلم إلا من بعد ما علموا صدقه بنعوته، وتظاهر معجزاته، ‏{‏إن ربك يقتضي بينهم يومَ القيامة فيما كانوا فيه يختلفون‏}‏، فيميز المحقَّ من المبطل بالإنجاء والإهلاك‏.‏

الإشارة‏:‏ قد يمد الله عباده بأنواع النعم، ثم يبعث لهم من يذكرهم بأيام الله، ويعرفهم به، فإذا اختلفوا عليه ظهر الشاكر من غيره، فيغير عليهم تلك النعم، فيوصل إليه أهل التصديق والاستماع والاتباع، ويبعد أهل الإنكار والابتداع‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏ رضي الله عنR>

تفسير الآيات رقم ‏[‏94- 95‏]‏

‏{‏فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ‏(‏94‏)‏ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏95‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏فإن كنتَ‏}‏ يا محمد ‏{‏في شكٍ مما أنزلنا إليك فاسألِ الذين يقرؤون من قَبلِكَ‏}‏ الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، والمراد به‏:‏ من وقع له شك، فإن الملك إذا إراد أن يُعرض بأحد؛ خاطب كبير القوم وهو يريد غيره، فهو كقول العامة‏:‏ الكلام مع السارية وافهمي يا جارية‏.‏

وأما النبي صلى الله عليه وسلم فهو بعيد من الشك؛ لأنه عين اليقين، وهو الذي علَّم الناس اليقين، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام لما نزلت «لا أشُكُ وَلاَ أَسأَل» والمراد بالذين يقرؤون الكتاب‏:‏ من أسلم منهم، كعبد الله بن سلام وغيره، أو فإن كنت أيها المستمع في شك مما أنزلنا إليك على لسان فاسأل‏.‏‏.‏‏.‏ الخ، وفيه تنبيه على أن من خالجته شبهة في الدين ينبغي أن يسارع إلى حلها، بالرجوع إلى أهل اليقين إن كانت في التوحيد، أو إلى أهل العلم إن كانت في الفروع‏.‏

قال ابن عطية‏:‏ الخواطر التي لا ينجو منها أحد، هي خلاف الشك الذي يحال فيه على الاستشفاء بالسؤال‏.‏ ه‏.‏ أي‏:‏ فإنها معفوّ عنها‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏لقد جاءك الحقُّ من ربك‏}‏ واضحاً لا مدخل للمرية فيه بالآيات القاطعة ‏{‏فلا تكوننَّ من الممتَرين‏}‏‏:‏ الشاكِّين بالتزلزل على ما أنت عليه من الجزم واليقين، ‏{‏ولا تكوننَّ من الذين كذَّبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين‏}‏، وهذا كله يجري على ما تقدم من أنه لكل سامع‏.‏ وقال البيضاوي‏:‏ هو من باب التهييج والتثبيت، وقطع الأطماع عنه، كقوله ‏{‏فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً لِّلْكَافِرِينَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 86‏]‏‏.‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ لا تنقطع عن العبد الأوهام والشكوك والخواطر، حتى يدخل مقام الإحسان، ويكاشف بمقام الشهود والعيان، بالغيبة عن حس الأكوان، بسطوع أنوار المعاني عند غيبة الأواني، ومن غاب عن حس نفسه غاب عنه حس جميع الأكوان؛ وذلك بصحبة أهل العرفان، الذين سلكوا الطريق حتى أفضوا إلى عين التحقيق، فزاحت عنهم الشكوك والأوهام، وانحلت عنهم الشُّبَه، وزالت عن قلوبهم الأسقام، واطلعوا على تاويل المتشابه من القرآن، فبصحبة هؤلاء ترتفع الخواطر والشكوك، ويرتفع العبد إلى حضرة ملك الملوك، فجلوس ساعة مع هؤلاء تعدل عبادة سنين‏.‏ وفي بعض الآثار‏:‏ ‏(‏تعلموا اليقين بمجالسة أهل اليقين‏)‏ قلت‏:‏ وقد مَنَّ الله علينا بمعرفتهم وصحبتهم، بعد أن تحققنا بخصوصيتهم، فللّه الحمد وله الشكر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏96- 97‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏96‏)‏ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آَيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ‏(‏97‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏‏:‏ ‏{‏إن الذين حقتْ‏}‏ أي‏:‏ ثبتت ‏{‏عليهم كلمة ربك‏}‏ بأنهم لا يؤمنون، أو بأنهم مخلدون في العذاب ‏{‏لا يؤمنون‏}‏ أبداً؛ إذ لا يكذب كلامه ولا ينتقض قضاؤه، ‏{‏ولو جاءتهم كلُّ آيةٍ‏}‏ وعاينوها فإن السبب الأصلي لإيمانهم هو تعلق إرادته تعالى، وقد أرادَ خلافه، فلا يؤمنوا ‏{‏حتى يَروُا العذابَ الأليم‏}‏ وحينئذٍ لا ينفعهم، كما لم ينفع فرعون، وبالله التوفيق‏.‏

الإشارة‏:‏ من انتكبه التوفيق لا يصدق بأهل التحقيق، ولو رأى منهم ألف كرامة، فلا تنفك عنه الشكوك والأوهام؛ حتى يفضي إلى شرب كأس الحِمام، فيلقى الله بقلب سقيم، وربما مات على الشك، فيلحقه العذاب الأليم، عائذاً بالله من ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏98‏]‏

‏{‏فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آَمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آَمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ‏(‏98‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏فلولا‏)‏‏:‏ تحضيضية، و‏(‏إلا قوم يونس‏)‏‏:‏ استثناء منقطع، ويجوز الاتصال؛ فيكون الاستثناء من معنى النفي الذي تضمَّنَهُ حرف التحضيض؛ لأن المراد بالقُرى‏:‏ أهلها، كأنه قال‏:‏ ما آمن أهل قرية من القرى الماضية فنفعها إيمانها إلا قوم يونس، ويؤيده قراءةُ الرفع‏.‏ و«يونس»‏:‏ عجمي مثلث النون‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏فلولا كانت‏}‏ هلاَّ وُجدت‏:‏ ‏{‏قريةٌ‏}‏ من القرى التي أهلكناها ‏{‏آمنتْ‏}‏ قبل معاينة العذاب، ولم تؤخر الإيمان إلى نزوله كما فعل فرعون، ‏{‏فَنَفَعَها‏}‏ حينئذٍ ‏{‏إيمانُها‏}‏ بأن يقبله الله منها؛ فيكشف عنها العذاب، ‏{‏إِلا‏}‏ لكن ‏{‏قومَ يونسَ لما آمنوا كشفنا عنهم عذابَ الخزي في الحياة الدنيا‏}‏، فرفعنا عنهم العذاب حين آمنوا بعد أن ظهرت مخايله، فنجوا ‏{‏ومتعناهم إلى حين‏}‏‏:‏ إلى تمام آجالهم‏.‏

رُوي أن يونس عليه السلام بُعث إلى أهل نينوى من الموصل، فكذبوه وأصروا على تكذيبه، فوعدهم بالعذاب إلى ثلاث، فلما دنا الموعد وأغامت السماء غيماً أسود ذا دخان شديد فهبط حتى غشي مدينتهم، فهابوا، فطلبوا يونس فلم يجدوا فأيقنوا صدقه، فلبسوا المُسوح وبرزوا إلى الصعيد بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم، ودوابهم، وفرقوا بين كل والدة وولدها، فحن بعضها إلى بعض وعلت الأصوات والضجيج، وأخلصوا التوبة والإيمان، وتضرعوا إلى الله تعالى، فرحمهم وكشف العذاب عنهم، وكان يوم عاشوراء ويوم الجمعة‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ ينبغي للعبد أن يعتني بتربية إيمانه وتقوية إيقانه قبل فوات إبّانه، وهو انصرام أجله‏.‏ وتربيته تكون بصحبة أهل اليقين، فإن لم يعثر بهم فبمطالعة كتبهم، والوقوف على أخبارهم ومناقبهم، مع دوام التفكر والاعتبار، والإكثار من الطاعة والخضوع والافتقار، والتمسك بالذل والانكسار، قال تعالى في بعض الأخبار‏:‏ «أنا عند المنكسرة قلوبُهم من أَجلِي» وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏99- 100‏]‏

‏{‏وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ‏(‏99‏)‏ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ ‏(‏100‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏ولو شاء ربُّك‏}‏ هداية الخلق كلهم ‏{‏لآمن من في الأرض كلُّهُم جميعاً‏}‏ بحيث لا يتخلف عنه أحد، لكن حكمته اقتضت وجود الخلاف، فمن رام اتفاقهم على الإيمان فقد رام المحال، ولذلك قال‏:‏ ‏{‏أفأنت تُكرهُ الناسَ‏}‏ بالقهر على ما لم يشأ الله منهم ‏{‏حتى يكونوا مؤمنين‏}‏ كلهم‏.‏

قال البيضاوي‏:‏ وترتيب الإكراه على المشيئة بالفاء، وإيلاؤها حرف الاستفهام الإنكاري، وتقديم الضمير على الفعل، للدلالة على أن خلاف المشيئة مستحيل، فلا يمكنه تحصيله بالإكراه فضلاً عن الحث والتحريض عليه، إذ روي أنه عليه الصلاة والسلام كان حريصاً على إيمان قومه، شديد الاهتمام به، فنزلت، ولذلك قرره بقولة‏:‏ ‏{‏وما كان لنفسٍ أن تُؤمن إلا بإذن الله‏}‏؛ بمشيئته وألطافه وتوفيقه؛ فلا تجهد نفسك في هداها، فإنه إلى الله تعالى‏.‏ ‏{‏ويجعلُ الرِّجْسَ‏}‏‏:‏ العذاب أو الخذلان فإنه سببه ‏{‏على الذين لا يعقلون‏}‏‏:‏ لا يستعملون عقولهم بالنظر في الحجج والآيات، أو لا يعقلون دلائل القرآن وأحكامه؛ لِمَا على قلوبهم من الطبع، ويؤيده الأول قوله‏:‏ ‏{‏قل انظروا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ‏.‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ في الآية تسلية لأهل التذكير حين يرون الناس لم ينفع فيهم تذكيرهم، وفيها تأديب لمن حرص على هداية الناس كلهم، أو يتمنى أن يكونوا كلهم خصوصاً، فإن هذا خلاف حكمته تعالى‏.‏ قال تعالى ‏{‏وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 118‏]‏ فالداعون إلى الله لا يكونون حُرصاً على الناس أبداً، بل يدعون إلى الله، ويذكرون بالله، وينظرون ما يفعل الله اقتداء بنبي الله، بعد أن علمه الله كيف يكون مع عباد الله، والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏101- 103‏]‏

‏{‏قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏101‏)‏ فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ‏(‏102‏)‏ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏103‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏ماذا‏)‏ إن كانت استفهامية علقت ‏(‏انظروا‏)‏ عن العمل، وإن كانت موصولة فمفعول به، و‏(‏ما تغني الآيات‏)‏‏:‏ يحتمل الاستفهام في محل نصب بتُغني، أو النفي‏.‏ ‏(‏ثم ننجي‏)‏ معطوف على محذوف دل عليه‏:‏ ‏(‏إلا مثل أيام‏)‏ أي‏:‏ فكانت عادتنا معهم أن نهلك المكذبين، ثم ننجي رسلنا ومن آمن معهم، و«كذلك» مصدر معمول لننجي، و‏(‏حقاً‏)‏ اعتراض بينهما، وهو مصدر لفعل محذوف، أي‏:‏ مثل ذلك الإنجاء ننجي المؤمنين يحق ذلك حقاً، وعلى هذا يوقف على‏:‏ ‏(‏الذين آمنوا‏)‏، ثم يُبْتدأ بقوله‏:‏ ‏(‏كذلك حقاً‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الخ‏.‏ وقيل‏:‏ خبر عن ‏(‏الذين آمنوا‏)‏ أي‏:‏ والذين آمنوا مثلهم في الإنجاء، وهو ضعيف‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ للمشركين الذين طلبوا منك الآية‏:‏ ‏{‏انظروا ماذا في السماوات والأرضِِ‏}‏ من الآيات والعِبَر، وعجائب الصنع ليدلكم على وحدانية الله تعالى، وكمال قدرته، ثم بيَّن أن الآيات لا تفيد من سبق عليه الشقاء، فقال‏:‏ ‏{‏وما تُغني الآياتُ والنُّذُرُ عن قوم لا يؤمنون‏}‏ في علم الله وحُكمه، ثم هددهم بالهلاك فقال‏:‏ ‏{‏هل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم‏}‏ أي‏:‏ مثل وقائعهم ونزول العذاب بهم؛ إذ لا يستحق غيره، فهو من قولهم‏:‏ أيام العرب، لوقائعها‏.‏

‏{‏قل‏}‏ لهم‏:‏ ‏{‏فانتظروا‏}‏ هلاككم ‏{‏إني معكم من المنتظِرِين‏}‏ لذلك، أو فانتظروا هلاكي إني معكم من المنتظرين هلاككم، ‏{‏ثم نُنَجِّي رُسُلَنا‏}‏ أي‏:‏ عادتنا أن ننجي رسلنا ‏{‏والذين آمنوا‏}‏ معهم من ذلك الهلاك، ‏{‏كذلك حقاً علينا ننج المؤمنين‏}‏ من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حين نُهلك المجرمين؛ حقاً واجباً علينا كما هي عادتنا مع من تحبب إلينا بالإيمان والطاعة‏.‏

الإشارة‏:‏ أمر الحق جل جلاله أهل النظر والاستبصار بأن ينظروا ماذا في السماوات والأرض من الأسرار والأنوار، أمرهم أن يشاهدوا أسرار الذات وأنوار الصفات، دون الوقوف مع الأجرام الحسِّيات، أمرهم أن ينظروا المعاني خلف رقة الأواني، لا أن يقفوا مع الأواني، وإليه أشار ابن الفارض في خمريته، حيث قال‏:‏

ولُطفُ الأَواني في الحقيقة تَابعٌ *** لِلُطْفِ المَعَانِي، والمَعَانِي بِها تَسْمُو

فالأكوان كلها أواني حاملة للطف المعاني، وأصل الأواني، تحسست وتكثفت فمن لطَّف الأواني وذوّبها بفكرته رجعت معاني، واتصلت المعاني بالمعاني، وغابت حينئذٍ الأواني، ولا يعرف هذا إلا من صحب أهل المعاني، وهم أهل الفناء والبقاء، ومن لم يصحبهم فحسبه الوقوف مع الأجرام الحسية، ويستعمل فكرة التصديق والإيمان، وهي عبادة التفكر والاعتبار والأولى فكرة أهل الشهود والاستبصار، وفي أمثالهم قال الشاعر‏:‏

هُم الرِّجالُ وغَبْنٌ أن يُقال لِمَن *** لَمْ يَتَّصِفْ بِمَعَانِي وَصْفِهِم رَجُلُ

وقد ذكر في الحِكَم هذه الإشارة فقال «أباح لك أن تنظر ما في المُكَوِّنات، وما أباح لك أن تَقِفَ مع ذوات المكونات، ‏(‏قل انظروا ماذا في السماوات‏)‏ فتح لك باب الأفهام، ولم يقل‏:‏ انظروا السماوات؛ لئلا يدلك على وجود الأجرام»‏.‏

ومن سبق له في العلم القديم الخذلان لا يخرج عن دائرة الأكوان، فلا يؤمن بوجود أهل الشهود والعيان، فما ينتظر مثل هذا إلا ما نزل بأمثالهِ، من هجوم الحِِمام قبل خروجه من سجن الأجرام، فإنه لا ينجو من سجن الأكوان إلا من صحب أهل العرفان، الذين أفضوا إلى فضاء الشهود والعيان وقليل ما هم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏104- 107‏]‏

‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏104‏)‏ وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏105‏)‏ وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏106‏)‏ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ‏(‏107‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏وأن اقم‏)‏‏:‏ عطف على ‏(‏أن أكون‏)‏ وإن كان بصيغة الأمر؛ لأنَّ الغرض وصل «أن» بما يتضمن معنى المصدر يدل معه عليه، وصِيغ الأفعال كلها كذلك، سواء الخبر منها والطلب، والمعنى، وأمرت بالإيمان والاستقامة‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏قلْ‏}‏ يا محمد لأهل مكة أو لجميع الناس‏:‏ ‏{‏يا أيها الناسُ إن كنتم في شكٍ من ديني‏}‏؛ بأن شككتم في صحته حتى عبدتم غير الله، ‏{‏فلا أعبدُ الذين تعبدون من دون الله ولكن أعبدُ الله الذي يتوفاكم‏}‏ فهذا خلاصة ديني اعتقاداً وعملاً، فاعرضوها على العقل السليم، وانظروا فيها بعين الإنصاف، لتعلموا صحتها، وهو أني لا أعبد ما تخلقونه وتعبدونه، ولكن أعبد خالقكم، الذي هو يوجدكم ويتوفاكم‏.‏ وإنما خص التوفي بالذكر لأنه أليق بالتهديد، انظر البيضاوي‏.‏ ‏{‏وأمرت أن أكون من المؤمنين‏}‏ بالله وحده، الذي دل عليه العقل ونطق به الوحي‏.‏

‏{‏وأنْ أقِمْ وجهَكَ للدين حنيفاً‏}‏؛ مائلاً عن الأديان الفاسدة، أي‏:‏ أمرت بالاستقامة بذاتي كلها في الدين والتوغل فيه، بأداء الفرائض والانتهاء عن القبائح، أو‏:‏ أن أقيم وجهي في الصلاة باستقبال القبلة‏.‏ وقيل لي‏:‏ ‏{‏ولا نكوننَّ من المشركين‏}‏ بالله في شيء، ‏{‏ولا تَدْعُ من دون الله ما لا ينفعكُ ولا يضرُّكَ‏}‏ بنفسه ولا بدَعْوَته، ‏{‏فإن فعلتَ‏}‏ ودعَوْتَهُ ‏{‏فإنك إذاً من الظالمين‏}‏، وهو تنفير وتحذير للغير من الميل إليه‏.‏

ثم بيَّن من يستحق العبادة والدعاء، وهو الله تعالى فقال‏:‏ ‏{‏وإن يمسسك الله‏}‏ أي‏:‏ يصيبك ‏{‏بضر فلا كاشف له‏}‏‏:‏ لا رافع له ‏{‏إلا هُو‏}‏ أي‏:‏ الله، ‏{‏وإن يُردكَ بخيرٍ فلا رادَّ‏}‏‏:‏ لا دافع ‏{‏لفضله‏}‏ الذي أرادك له‏.‏

قال البيضاوي‏:‏ ولعله ذكر الإرادة مع الخير، والمس مع الضر، مع تلازم الأمرين للتنبيه على أن الخير مراد بالذات، وأن الضر إنما مسهم لا بالقصد الأول، ووضع الفضل موضع الضمير للدلالة على أنه متفضل بما يريد بهم من الخير لا لاستحقاق لهم عليه، ولم يستثن لأن مراد الله لا يمكن رده‏.‏ ه‏.‏

‏{‏يصيب به‏}‏ بذلك الخير ‏{‏من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم‏}‏، فتعرّضوا لخيره بالتضرع والسؤال، ولا يمنعكم من ذلك ما اقترفتم من العصيان والزلل، فإنه غفور رحيم‏.‏

الإشارة‏:‏ ينبغي لمن تمسك بطريق الخصوص، وانقطع بكليته إلى مولاه، أن يقول لمن خالفه في ذلك‏:‏ إن كنتم في شك من ديني من طريقي فلا أعبدُ ما تعبدون من دون الله، من متابعة الهوى والحرص على الدنيا، ولكن أعبدُ الله الذي يتوفاكم، وأمرت أن أكون من المؤمنين، وأن اقيم وجهي للدين حنيفاً مائلاً عن دينكم ودنياكم، كما قال القائل‏:‏

تَرَكتُ للِنَّاسِ دُنْياهُمْ ودِينَهم *** شُغْلاً بِذِكرِكَ يا دِيني ودُنيَائِي

قال آخر‏:‏

تَرَكتُ لِلنَّاس مَا تَهوَى نُفُوسُهُم *** مِن حُبِّ دُنيَا وَمِن عِزٍّ وَمِن جَاهِ

كَذاكَ تَرْكُ المَقَامَاتِ هُنَا وهُنَا *** والقَصْدُ غَيْبَتُنا عَمَّا سِوَى اللَّهِ

‏{‏ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك‏}‏، وهو ما سوى الله، فليس بيد أحد ضر، ولا نفع، ولا جلب ولا دفع، قال في الحكم‏:‏ «لا ترفعنَّ إلى غيره حاجة هو مُوردها عليك، فكيف يرفع إلى غيره ما كان هو له واضعا‏؟‏‏!‏ من لا يستطيع أن يرفع حاجته عن نفسه؛ فكيف يستطيع أن يكون لها عن غيره رافعاً‏؟‏‏!‏»‏.‏

قال بعضهم‏:‏ من اعتمد على غير الله فهو في غرور؛ لأن الغرور ما لا يدوم، ولا يدوم شيء سواه، وهو الدائم القديم، لم يزل ولا يزال، عطاؤه وفضله دائمان، فلا تعتمد إلا على من يدوم عليك منه الفضل والعطاء، في كل نفس وحين وأوان وزمان‏.‏ ه‏.‏

وقال وهب بن منبّه‏:‏ أوحى الله إلى داود عليه السلام‏:‏ «يا داود أما وعزتي وجلالي وعظمتي لا ينتصر بي عبد من عبادي دون خلقي، أعلم ذلك من نيته فتكيده السماوات السبع ومن فيهن، والأرضون السبع ومن فيهن، إلا جعلت له منهن فرجاً ومخرجاً، أما وعزتي وجلالي لا يعتصم عبد من عبادي بمخلوق دوني، أعلم ذلك من نيته إلا قطعت أسباب السماوات من يده، وأسخطتُّ الأرض من تحته ولا أُبالي في أي وادٍ هلك» ه‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ قرأت في بعض الكتب‏:‏ أن الله عز وجل يقول‏:‏ «وعزتي وجلالي، وجودي وكرمي، وارتفاعي فوق عرشي في عُلو مكاني، لأقطعن آمال كل مؤمّل لغيري بالإياس، ولأكسونه ثوب المذلة بين الناس، ولأنحينَّه من قربي، ولأقطعنه من وصلي، أيؤمِّل غيري في النوائب، والشدائدُ بيدي، وأنا الحي، ويُرجى غيري ويقرع بالكفر باب غيري، وبيدي مفاتح الأبواب، وهي مغلقة وبابي مفتحوح لمن دعاني، ومن ذا الذي أملني لنائبة فقطعت به دونها‏؟‏ ومن ذا الذي رجاني بعظيم جرمه فقطعت رجاءه مني‏؟‏ ومن ذا الذي قرع بابي فلم أفتح له‏؟‏ جَعلت آمال خلقي بيني وبينهم متصلة، فقطعت بغيري، وجعلت رجاءهم مدخُوراً لهم عندي، فلم يرضوا بحفظي، وملأت سماواتي بمن لا يملُّون تسبيحي من ملائكتي، وأمرتهم ألا يغلقوا الأبواب بيني وبين عبادي، فلم يثقوا بقولي، ألم يعلم من طرقَتْه نائبة من نوائبي أنه لا يملك كشفها أحدٌ غيري‏؟‏ فما لي أراه بآماله مُعرضاً عني‏؟‏ وما لي أراه لاهياً إلى سواي، أعطيته بجودي ما لم يسألني ثم انتزعته منه فلم يسألني رده‏.‏ وسأل غيري، أفتراني أبداً بالعطية قبل المسألة ثم أسأل فلا أجيب سائلي‏؟‏ أبخيل أنا فيبخلني خلقي‏؟‏ أليس الدنيا والآخرة لي‏؟‏ أوَليس الجود والكرم لي‏؟‏ أوَليس أنا محل الآمال‏؟‏ فمن ذا الذي يقطعها دوني‏؟‏ وما عسى أن يؤمل المؤملون لو قُلت لأهل سمواتي وأهل أرضي‏:‏ أمِّلوني، ثم أعطيتُ كل واحد منهم من الفكر مثل ما أعطيت الجميع، ما انتقص ذلك من ملكي عضو ذرَّة، وكيف ينقص ملك كامل أنا فيه‏؟‏‏.‏ فيا بؤس القانطين من رحمتي، ويا بؤسَ من عصاني ولم يراقبني، وثَبَ على محارمي ولم يَسْتَحِ منٍّي»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏108- 109‏]‏

‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ‏(‏108‏)‏ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ‏(‏109‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏قل أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم‏}‏ الرسول أو القرآن، ‏{‏فمن اهتدى‏}‏ بالإيمان والمتابعة ‏{‏فإنما يهتدي لنفسه‏}‏؛ لأن نفعه لها، ‏{‏ومن ضلَّ فإنما يضل عليها‏}‏؛ لأن وبال الضلال عليها، ‏{‏وما أنا عليكم بوكيل‏}‏ أي‏:‏ موكلٌ عليكم، فأقهركم على الإيمان، وإنما أنا بشير نذير‏.‏ وهو منسوخ بآية السيف‏.‏ ‏{‏واتبع ما يُوحى إليك‏}‏ بالامتثال والتبليغ، ‏{‏واصبر حتى يحكم الله‏}‏ بينك وبين عدوك، بالأمر بالقتال، ثم بالنصر والعز، ‏{‏وهو خير الحاكمين‏}‏ إذا لا يمكن الخطأ في حكمه، لاطلاعه على السرائر كاطلاعه على الظواهر‏.‏

الإشارة‏:‏ يا أيها الناس قد جاءكم من يُعرفكم بالحق من ربكم، فمن اهتدى بمعرفته واتباعه نفع نفسه، حيث أخرجها من غم الحجاب، وشفاها من سقم الشك والارتياب، ومن ضل عن معرفته فوبالهُ عليه، حيث ترك نفسه في أودية الخواطر تَجُول، وحرمها من الله حقيقة الوصول‏.‏ ويقال‏:‏ للعارف إذا اعرض الخلق عنه، ولم ينفع فيهم تذكيره ووعظه‏:‏ اتبع ما يوحى إليك من وحي الإلهام، فإنه حق في حق الخصوص؛ إذ لا يتجلى في قلوبهم إلا ما هو حق، حيث تطهرت من خواطر الخلق‏.‏ واصبر حتى يحكم الله بإرسال ريح الهداية، وهو خير الحاكمين‏.‏ وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق‏.‏

سورة هود

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ‏(‏1‏)‏ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ‏(‏2‏)‏ وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ ‏(‏3‏)‏ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏4‏)‏ أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏5‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏كتاب‏)‏‏:‏ خبر، أي‏:‏ هذا كتاب‏.‏ و‏(‏أحكمت‏)‏‏:‏ صفة‏.‏ و‏(‏من لدن‏)‏‏:‏ خبر ثان، أو خبر «كتاب» إن جعل مبتدأ، أو صفة له، إن كان خبراً‏.‏ و‏(‏أَلاَّ تعبدوا‏)‏‏:‏ «أن» مفسرة، أو مصدرية في موضع مفعول لأجله، أو بدل من الآيات أو مستأنف‏.‏ و‏(‏أن استغفروا‏)‏‏:‏ عطف عليه‏.‏ و‏(‏حين‏)‏‏:‏ متعلق بمحذوف، أي‏:‏ ألا إنهم يثنونها حين يستغشون‏.‏‏.‏‏.‏ الخ‏.‏ و‏(‏يعلم‏)‏‏:‏ استئناف لبيان النقض عليهم‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ أيها الرسول المصطفى، هذا الذي تقرؤه ‏{‏كتابٌ أحكمت آياته‏}‏؛ أتقنت، ونظمت نظماً محكماً، لا يعتريه خلل من جهة اللفظ ولا المعنى، أو أحكمت من النسخ بشريعة أخرى، أو أحكمت بالحُجج والبراهين، أو جعلت حكيمة؛ لأنها مشتملة على أمهات الحكم العلمية‏.‏ ‏{‏ثم فُصَّلتْ‏}‏؛ بُينت لاشتمالها على بيان العقائد والأحكام والمواعظ والأخبار‏.‏ أو فصلت سورة سورة؛ ليسهل حفظها‏.‏ وفُصلت بالإنزال نجماً نجماً، في أزمنة مختلفة‏.‏ أو فُصل فيها لُخص ما يحتاج إليه من الأحكام‏.‏ و‏(‏ثم‏)‏‏:‏ للتفاوت في الحكم؛ لأن الأحكام صفة ذاتية، والتفصيل إنما هو بحسب من يفصل له‏.‏ نزل ذلك في الكتاب ‏{‏من لَّدنْ حكيمٍ خبيرٍ‏}‏، ولذلك كان محكماً مفصلاً بالغاً في ذلك الغاية؛ لأن الحكيم الخبير لا يخفى عليه ما يخل بنظم الكلام‏.‏

قائلاً ذلك الكتاب‏:‏ ألا تعبدوا معه غيره‏.‏ وقال في القوت‏:‏ ‏{‏كتاب أحكمت آياته‏}‏ يعني‏:‏ بالتوحيد، ‏{‏ثم فصلت‏}‏ أي‏:‏ بالوعد والوعيد‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏من لدن حكيم‏}‏ أي‏:‏ بالإحكام للأحكام، ‏{‏خبير‏}‏ بالتفصيل للحلال والحرام‏.‏ ‏{‏ألا تعبدوا إلا الله‏}‏؛ هذا هو التوحيد الذي أحكمه‏.‏ ‏{‏إنني لكم منه نذير‏}‏ بالعذاب، ‏{‏وبشير‏}‏ بالثواب لمن آمن به‏.‏ هذا هو الوعد والوعيد‏.‏ قاله البيضاوي‏:‏ ‏{‏إنني لكم منه‏}‏ أي‏:‏ من الله، ‏{‏نذير وبشير‏}‏ بالعقاب على الشرك والثواب على التوحيد‏.‏ ‏{‏وأن استغفروا ربكم‏}‏‏:‏ عطف على «ألا تعبدوا»، ‏{‏ثم توبوا إليه‏}‏؛ ثم توصلوا إلى مطلبكم بالتوبة؛ فإن المعرض عن طريق الحق لا بد له من رجوع‏.‏ وقيل‏:‏ استغفروا من الشرك، ثم توبوا إليه بالطاعة، ويجوز أن يكون «ثم»‏:‏ للتفاوت بين الأمرين‏.‏ ه‏.‏

قال ابن جزي‏:‏ ‏{‏استغفروا ربكم‏}‏ مما تقدم من الشرك والمعاصي، ثم ارجعوا إليه بالطاعة والاستقامة‏.‏ ه‏.‏ وقال الواحدي‏:‏ ‏{‏استغفروا ربكم‏}‏ من ذنوبكم السابقة، ‏{‏ثم توبوا إليه‏}‏ من المستأنفة متى وقعت‏.‏ ه‏.‏ ‏{‏يمتعكم متاعاً حسناً‏}‏؛ يحييكم حياة طيبة بالأرزاق والنعم والخيرات، فتعيشوا في أمن ودعة‏.‏ ‏{‏إلى أجل مسمَّى‏}‏؛ تمام أجلكم، فلا يستأصلكم بالعذاب، أو يمتعكم بالرجاء فيه والرضا بقضائه؛ لأن الكافر قد يمتع بالأرزاق في الدنيا؛ استدراجاً، ‏{‏ويُؤتِ‏}‏ في الآخرة ‏{‏كلَّ ذي فضلٍ‏}‏؛ عمل صالحاً، ‏{‏فضله‏}‏ أي‏:‏ جزاء فضله، فيُوفي ثوابه عمله، أو يعطي كل ذي فضل في دينه جزاء فضله في الدنيا والآخرة‏.‏

وهو وعد للمؤمن التائب بخير الدارين‏.‏

‏{‏وإن تَولَّوا‏}‏ أي‏:‏ وإن تتولوا عما أمرتكم به، ‏{‏فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير‏}‏؛ يوم القيامة، أو يوم الشدة بالقحط والجوع، وقد نزل بهم حتى أكلوا الجيف‏.‏ أو يوم بدر ‏{‏إلى الله مرجِعُكم‏}‏ أي‏:‏ رجوعكم في ذلك اليوم الكبير، أو بالموت، ‏{‏وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏؛ فيقدر على بعثهم وعذابهم أشد العذاب‏.‏ وكأنه تقرير لكبر اليوم‏.‏

‏{‏ألا أنهم يَثْنُونَ صدورَهم‏}‏؛ يلوونها عن الحق وينحرفون عنه، أو يعطفونها على الكفر وعداوة النبي صلى الله عليه وسلم، أو يولون ظهورهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لئلا يروه من شدة البغض والعداوة، ‏{‏ليستخفوا منه‏}‏ أي‏:‏ من الرسول عليه الصلاة والسلام أو‏:‏ من الله بسرهم، فلا يطلع رسوله والمؤمنين عليه‏.‏ قيل‏:‏ إنها نزلت في طائفة من المشركين، قالوا‏:‏ إن أرخينا ستورنا، واستغشينا ثيابنا، وطوينا صدورنا على عداوة محمد صلى الله عليه وسلم كيف يعلم ذلك‏؟‏ والحاصل‏:‏ أن الإثناء إن كان عن الحق فالضمير في‏:‏ ‏(‏منه‏)‏، يعود على الله، وإن كان عن النبي صلى الله عليه وسلم فالضمير يعود عليه؛ وفي البخاري عن ابن عباس‏:‏ أنها نزلت فيمن كان يستحي أن يتخَلّى أو يجامع فيفضي إلى السماء‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ألا حين يستغشون ثيابهم‏}‏‏:‏ يحتمل أن يكون عند النوم، فيكون الإثناء عن الحق، أو عن الله، أو عند مواجهة الرسول، فيكون الإثناء عن رؤيته عليه الصلاة والسلام، أو عن سماع القرآن‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏يعلم ما يسرون‏}‏ في قلوبهم، ‏{‏وما يعلنون‏}‏ بأفواههم فقد استوى في علمه سرهم وعلانيتهم، فكيف يخفى عليه أمرهم واستخفاؤهم منه‏؟‏ ‏{‏إنه عليم بذات الصدور‏}‏ أي‏:‏ بالأسرار صاحبة الصدور، أو بحقائق الصدور وما احتوت عليه‏.‏

الإشارة‏:‏ يقول الحق جل جلاله‏:‏ هذا كتاب أحكمت آياته بالتعريف بالذات، ثم فصلت ببيان الصفات، أو‏:‏ أحكمت بتبيين الحقائق، ثم فصلت بتبيين الشرائع‏:‏ أو أحكمت ببيان ما يتعلق بعالم الأرواح من التعريف، ثم فصلت ببيان ما يتعلق بعالم الأشباح من التكليف، أو‏:‏ أحكمت ببيان أسرار الملكوت، ثم فصلت ببيان أحكام الملك‏.‏ ثم بيَّن ما يتعلق بالذات فقال‏:‏ ‏{‏ألا تعبدون إلا الله‏}‏ وبيَّن ما يتعلق بالصفات من التفصيل فقال‏:‏ ‏{‏وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه‏}‏، أو‏:‏ بيَّن ما يتعلق بالحقائق، ثم ما يتعلق بالشرائع، وهكذا‏.‏ فإن جمعتم بين الحقائق والشرائع يمتعكم متاعاً حسناً؛ بشهود ذاته، والتنزه في أنوار صفاته، إلى أجل مسمى، وهو‏:‏ النزول في مقعد صدق عند مليك مقتدر، ويؤت كل ذي فضل من المعرفة جزاء فضله من الشهود، فمن تولى عن هذا خاف من عذاب يوم كبير، وهو‏:‏ غم الحجاب، والتخلف عن الأحباب‏.‏ ثم عاتب أهل الشهود حيث تركوا مقام المشاهدة وتنزلوا إلى مقام المراقبة، بقوله‏:‏ ‏{‏ألا إنهم يثنون صدورهم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏، الآية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ‏(‏6‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏وما من دابةٍ في الأرض‏}‏ أي‏:‏ كل ما يدب عليها؛ عاقلاً أو غيره، ‏{‏إلا على الله رزقُها‏}‏؛ غذاؤها ومعاشها؛ لتكلفه إياه بذلك؛ تفضلاً وإحساناً‏.‏ وإنما أتى بعلى التي تقتضي الوجوب؛ تحقيقاً لوصوله، وتهييجاً على التوكل وقطع الوساوس فيه، ‏{‏ويعلمُ مستقرها ومستودعها‏}‏؛ أماكنها في الحياة والممات، أو الأصلاب والأرحام‏.‏ أو‏:‏ مستقرها في الأرض بعد وجودها، ومستودعها‏:‏ موادها قبل إيجادها‏.‏ أو بالعكس‏:‏ مستقرها‏:‏ موادها في العلم قبل الظهور، ومستودعها إقامتها في الدنيا بعد الوجود‏.‏ ‏{‏كلٌّ‏}‏ واحد من الدواب على اختلاف أجناسها وأصنافها ‏{‏في كتاب مبين‏}‏؛ مذكور في اللوح المحفوظ، أو في العلم القديم المبين للأشياء، قال البيضاوي‏:‏ وكأنه أريد بالآية كونه عالماً بالمعلومات كلها، وبما بعدها بيان كونه قادراً على الممكنات بأسرها، تقريراً للتوحيد ولما سبق من الوعد والوعيد‏.‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ هم الرزق، وخوف الخلق، من أمراض القلوب، ولا ينقطعان عن العبد حتى يكاشف بعلم الغيوب وهو التوحيد الخاص؛ أعني‏:‏ الرسوخ في الشهود والعيان‏.‏ وإنما يضر العبدَ ما كان ساكناً، وأما الخواطر التي تلمع وتذهب، فلا تضر؛ لأن الإنسان خلق ضعيفاً‏.‏

واعلم ان الرزق على قسمين‏:‏ رزق الأرواح، ورزق الأشباح‏.‏ فرزق الأرواح معنوي، وهو‏:‏ قوت الروح من المعرفة وعلم اليقين‏.‏ ورزق الأشباح حسي، وهو‏:‏ الطعام والشراب‏.‏ وقد تكفل الله بالأمرين معاً، وأمر بالتسبب فيهما، قياماً برسم الحكمة‏.‏ فالتكفل حقيقة، والتسبب شريعة، فالعامة اشتغلوا بالتسبب في الرزق الحسي والبحث عنه، ولم يعبأوا بالرزق المعنوي، ولا عرفوه؛ من شدة إعراضهم عنه، مع أنهم لو فقدوا الرزق المعنوي لماتت أرواحهم‏.‏ والخاصة اشتغلوا بالتسبب في الرزق المعنوي والبحث عنه، ولم يعبأوا بالرزق الحسي من شدة إعراضهم عنه، مع أنهم لو فقدوا الرزق الحسي لهلكت أشباحهم‏.‏ وخاصة الخاصة يتسببون في الرزق الحسي والمعنوي، وليس هم مع إرادتهم في واحد منهما، وإنما هم أبداً مع إرادة مولاهم راتِعين أبداً، حيث دفعتهم إرادة سيدهم في الحسي أو في المعنوي من غير تبرم ولا التفات لغيره، كما قال القائل‏:‏

آرَانِي كالآلات وَهو مُحَرَّكي *** أَنَا قَلَمٌ والاقتِدارُ أصَابِعُ

العامة قد حُجبوا عن الله بإرادتهم للرزق الحسي، حيث صار الرزق الحسي هو حظ النفوس‏.‏ صاروا مع حظ نفوسهم لا غير، والخاصة وجدوا الله في طلبهم للرزق المعنوي، لأنه حق الله، لا حظ للنفس فيه، لأجل ذلك لمّا كانوا لله كان الله لهم‏.‏ وخاصة الخاصة ليس هم مع إرادتهم في شيء، بل هُم بالله في الأحوال كلها لا بنفوسهم‏.‏ قد انمحت إرادتهم في إرادة الله، فصارت إرادتهم إرادة الله، وفعلهم فعله‏.‏ وهذا المقام يقال له‏:‏ التمكين بالتلوين‏.‏ ه‏.‏ قاله شيخ شيوخنا سيدي علي الجمل العمراني رضي الله عنه في كتابه، نفعنا الله بهم جميعاً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويعلم مُستقرها ومُستودعها‏}‏ أي‏:‏ يعلم مستقرها في العلم، ومستودعها في العمل، أو مستقرها في الحال، ومستودعها في المقام، أو مستقرها في الفناء، ومستودعها في البقاء، أو مستقرها في التلوين ومستودعها في التمكين، أو مستقرها في عالم الأشباح، ومستودعها في عالم الأرواح‏.‏ وأنشدوا‏:‏

كُلُّ شَيْءٍ سَمِعْتَهُ أو تَرَاه *** فَهوَ للقبضتين يُشيرُ

ضع قميصي عن العيون ترى ما *** غاب عنك فقد أتاك البشير

فالمراد بالقبضتين‏:‏ الحس والمعنى، وإن كانا في الأصل قبضة واحدة، لكن لما تجلت بالضدين سمَّاها قبضتين‏.‏ فالحس رداء للمعاني‏.‏ وسماه هنا قميصاً؛ لأنه يستر كالرداء، فإذا رفع القميص عن عُيون البصيرة رأت ما غاب عنها من أنوار الملكوت وأسرار الجبروت، وهذا معنى قوله‏:‏ ضع قميصي عن العيون‏.‏ إلخ‏.‏‏.‏‏.‏ وَرَفْعُ حجاب المعنى عن البصيرة هو بشير الولاية وعنوانها‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏7‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏وهو الذي خلق السماوات والأرض‏}‏ وما بينهما وما فيهما ‏{‏في‏}‏ مقدار ‏{‏ستة أيام‏}‏ من أيام الدنيا، أو خلق العالم العلوي والسفلي في مقدار ذلك‏.‏ وجمع السماوات دون الأرض؛ لاختلاف العلويات بالأصل والذات دون السفليات‏.‏ ‏{‏وكان عرشه على الماء‏}‏ قيل‏:‏ لم يكن بينهما حائل، وكان موضوعاً على متن الماء‏.‏ واستدل به على إمكان الخلاء، وعلى أن الماء أول حادث بعد العرش من أجرام هذا العالم‏.‏ وقيل‏:‏ كان الماء على متن الريح‏.‏ والله أعلم بذلك‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏

قلت‏:‏ الخلاء هو الفضاء الخارج عن دائرة الأكوان‏.‏ وهو عند المتكلمين من جملة الممكنات، ووجه الاستدلال من الآية على إمكانه‏:‏ أن العرش والماء لما كانا محصورين لزم أن يكون ما خرج عنهما خلاء، وكل ما سوى الله فهو ممكن‏.‏ وعند الصوفية‏:‏ هو أسرارالذات الأزلية الجبروتية، كما أن الأكوان هي أنوار الصفات الملكوتية، ولا شيء معه، ‏{‏سبحانه وتعالى عما يشركون‏}‏‏.‏ ونقل بعض أهل التاريخ‏:‏ أن الله تعالى خلق بعد العرش ياقوته صفراء، ذكروا من عظمتها وسعتها، ثم نظر إليها، فذابت من هيبته، فصارت ماء، فكان العرش مرتفعاً فوقها، ثم اضطرب ذلك الماء، فعلته زبدة، خلق منها الأرض، ثم ارتفع من الماء دخان خلق منه السماوات‏.‏ ه‏.‏

خلق ذلك ‏{‏لِيبلُوكم أيُّكم أحسن عملاً‏}‏ أي‏:‏ ليختبركمْ اختباراً تقوم به الحجة عليكم، ‏{‏أيكم احسن عملاً‏}‏ بالزهد في هذا العالم الفاني، وتعلق الهمه بالعالم الباقي قال البيضاوي‏:‏ أي‏:‏ يعاملكم معاملة المبتلى لأحوالكم، كيف تعملون‏؟‏ فإن جملة ذلك أسباب ومواد لوجودكم ومعاشكم، وما تحتاج إليه أعمالكم، ودلائل وأمارات تستدلون بها وتستنبطون منها‏.‏ ثم قال‏:‏ فالمراد بالعمل ما يعم عمل القلب والجوارح‏.‏ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أيكم أحسن عقلاً وأروع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله»‏.‏ والمعنى‏:‏ أكمل علماً وعملاً‏.‏ ه‏.‏

قال المحشي‏:‏ ويتجه كون المعنى‏:‏ أيكم أكثر شكراً لله على تمهيد تلك المنافع والمصالح‏.‏ والشكر يشمل الطاعات القلبية والبدنية‏.‏ ويحتمل أنه كآية‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 56‏]‏‏.‏ وأن بقاء الدنيا وخلقها إنما هو للتكليف، فإذا لم يبق في الأرض من يعبد الله انقضت الدنيا، وجاءت الساعة، كما تقتضيه الأحاديث الصحاح والمتبادر ما قدمناه، وحاصله‏:‏ أنه خلق الأشياء من أجل ابن آدم، ولتدله على خالقه فيجني بها ثمار معرفته تعالى، ويعترف بشكره، وإفراد عبادته‏.‏ وقد جاء‏:‏ «خلقت الأشياء من أجلك وخلقتك من أجلي»‏.‏

قلت‏:‏ فيكون المعنى‏:‏ هو الذي أظهر الوجود من عرشه إلى فرشه، ليختبركم أيكم أحسن عملاً بالاشتغال بالله، والعكوف في حضرته دون الوقوف مع ظاهر الكون، والاشتغال بحسه، مع كونه خُلق من أجله‏.‏

ثم قال‏:‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، هو‏:‏ تنبيه على أن الإنكار الكفار للبعث بعد إقرارهم بأن الله تعالى خالق العالم، الذي هو أعظم من البعث، تناقض منهم؛ لأن إقرارهم بقدرته على الأكبر، ثم إنكارهم لما هو أيسر تناقض‏.‏ ه‏.‏ أي‏:‏ ولئن ذكرت لهم البعث بعد الموت لقالوا ما هذا إلا سحر ظاهر‏.‏ أي‏:‏ ما البعث أو القول به، أو القرآن المتضمن لذكره إلا كالسحر في الخديعة أو البطلان‏.‏ وقرأ حمزة ساحر أي‏:‏ القائل بهذا‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ في صحيح البخاري قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «كَانَ اللَّهُ ولا شَيء مَعه، وكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ» الحديث‏.‏ فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الحق جل جلاله كان في أزله لا شيء معه، ثم أظهر الأشياء من نوره بنوره لنوره، فهو الآن على ما كان عليه‏.‏ وعن أبي رَزِينٍ‏:‏ قلنا‏:‏ يا رَسُولَ الله‏!‏ أَيْنَ كَانَ ربُّنَا قَبْل أنْ يَخْلُقَ خَلقَهُ‏؟‏ قال‏:‏ «كَان في عَمَاءٍ ما فَوْقَه هَوَاءٌ، ومَا تَحْتَهُ هَوَاءٌ، وخَلَق عَرشَه عَلَى المَاءِ»‏.‏ والعماء هو‏:‏ الخفاء، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأنبآء‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 66‏]‏، أي‏:‏ خفيت‏.‏ ويقال للسحاب عماء؛ لأنه يخفى ما فيه‏.‏ وقال الششتري‏:‏ في المقاليد‏:‏ كان في عمّى، ما فوقه هَوَاء، وما تحته هواء‏.‏ هي الوحدة المُصْمتة الصّمدية، البحر الطامس الذي هو الأزل والأبد، فلم يكن موجود غير الوجود هو هو‏.‏ ه‏.‏

والحاصل‏:‏ أن الحق جل جلاله كا في سابق أزله ذاتاً مقدسة، لطيفة خفيفة عن العقول، نورانية متصفة بصفات الكمال، ليس معها رسوم ولا أشكال، ثم أظهر الحق تعالى قبضة من نوره حسية معنوية؛ إذ لا ظهور للمعنى إلا بالحس، فقال لها‏:‏ كوني محمداً، فمن جهة حسها محصورة، ومن جهة معناها لا نهاية لها، متصلة ببحر المعاني الأزلي، الذي برزت منه، وما نسبتها من ذلك البحر من جهة حسها إلا كخردلة في الهواء‏.‏ وقد أشار ابن الفارض إلى وصف هذه الخمرة الأزلية وهو تفسير للعماء المذكور قبلُ فقال‏:‏

صفاءٌ ولا ماءٌ، ولُطفٌ ولاَ هواً *** ونورٌ ولا نارٌ، وروحٌ ولا جِسمٌ

تَقَدَّمَ كلَّ الكائنات حديثُها *** قديماً ولا شكلٌ هناك، ولا رَسْم

وقامت بها الأشياءُ ثمَّ لحكمَةِ *** بها احتَجَبَت عن كلّ من لا له فَهْمُ

فالأشكال والرسوم متفرعة من تلك القبضة المحمدية، والقبضة متدفقة من بحر الجبروت الذي لا نهاية له، فهي حقيقة، وما ظهر تحديدها إلا من جهة حسها‏.‏ فهي كثلجة في بحرٍ، ماؤها الباطن متصل في البحر، وظاهرها محدود محصور‏.‏ فالأشكال كلها غريقة في بحر الجبروت‏.‏ ولذلك قال صاحب العينية‏:‏

هو العَرْشُ الكُرسِيُّ والمَنْظَرُ البهي *** هو السِّدرةُ التي إِليهَا المَرَاجعُ

وقال أيضاً‏:‏

هُوَ المُوجِدُ الأَشْيَاءِ وهوَ وُجُودُهَا *** وعَيْنُ ذَوَاتِ الكُلّ وهْوَ الجَوَامعُ

فَأوْصَافُهُ والاسْمُ والأثَرُ الذي *** هُو الكَونُ عَيْنُ الذَّات والله جَامِعُ

فالأكوان ثابتة بإثباته، ممحوة بأحدية ذاته، فالحق تعالى كما كان لا شيء معه، فهو الآن كما كان‏.‏ إذ التغير في حقه تعالى مُحال، ولا يعلم هذه الأسرار إلا من صحب أهل الأسرار، وحسب من لم يصحبهم التسليم‏.‏ كما رمزوا وأشاروا إليه‏:‏

وإن لَمْ تَرَ الهِلال فَسَلَّمْ *** لأُناسٍ رَأوْهُ بالأبْصارِ

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليبلُوكم أيكم أحسنُ عملاُ‏}‏ أي‏:‏ ليظهر منكم من يقف مع الأكون، ومن ينفذ إلى شهود المكون‏.‏ وهو الذي حسن عمله، وارتفعت همته‏.‏ ولئن قلت أيها العامي‏:‏ إنكم تحيون بالمعرفة من بعد موت قلوبكم بالجهل والغفلة إن صحبتمُوني، ليقولن أهلُ الإنكار‏:‏ إن هذا إلا سحر مبين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏يوم‏)‏‏:‏ معمول لخبر ليس، وهو دليل جواز تقديمة إن كان ظرفاً‏.‏

‏{‏يقول الحق جل جلاله‏:‏‏}‏ ‏{‏ولئن أخَّرنا عنهم العذابَ‏}‏ الموعود في الدنيا، أو في الآخرة، ‏{‏إلى أمة‏}‏ أي‏:‏ أوقات معدودة قلائل، ‏{‏ليقولن‏}‏؛ استهزاء‏:‏ ‏{‏ما يحْسبُه‏}‏ ‏؟‏ أي‏:‏ ما يمنعه من الوقوع الآن‏؟‏ ‏{‏ألا يوم يأتيهم‏}‏ وينزل بهم كيوم بدر، أو يوم القيامة ‏{‏ليس مصروفاً عنهم‏}‏ ليس مدفوعاً عنهم حين ينزل بهم، ‏{‏وحاقَ‏}‏؛ نزل وأحاط ‏{‏بهم ما كانوا به يستهزئون‏}‏، وضع الماضي الاستقبال؛ تحقيقاً للوقوع، ومبالغة في التهديد‏.‏

الإشارة‏:‏ إمهال العاصي بإهمال له؛ فإن الله تعالى يمهل ولا يهمل‏.‏ فإمهاله إما استدراج، أو انتظار لتوبته، فليبادر بالتوبة قبل الفوات، وبالعمل الصالح قبل الممات‏.‏ فما أبعد ما فات، وما أقرب ما هو آت، وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 11‏]‏

‏{‏وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ ‏(‏9‏)‏ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ ‏(‏10‏)‏ إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ‏(‏11‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏ولئن‏)‏‏:‏ شرط وقسم، ذكر جواب القسم، واستغنى به عن جواب الشرط‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏ولئن أذقنا الإنسان منا رحمةً‏}‏ أي‏:‏ أعطيناه نعمة يجد لذتها‏.‏ ‏{‏ثم نزعناها منه‏}‏ أي‏:‏ سلبنا تلك النعمة منه ‏{‏إنه ليؤوسٌ‏}‏؛ قنوط، حيث قلَّ رجاؤه من فضل الله؛ لقلة صبره، وعدم ثقته بربه، ‏{‏كفور‏}‏‏:‏ مبالغ في كفران ما سلف له من النعم، كأنه لم ير نعمة قط‏.‏ ‏{‏ولئن أذقناه نعماءَ بعد ضراء مسَّتْه‏}‏؛ كصحة بعد سقم، وغنى بعد فقر، أو علم بعد جهل، ‏{‏ليقولنَّ ذهب السيئاتُ‏}‏‏.‏ أي‏:‏ المصائب التي مستني، ‏{‏عني‏}‏، ونسي مقام الشكر‏.‏ ‏{‏إنه لفرح‏}‏ أي‏:‏ بطر متعزز بها، ‏{‏فخورٌ‏}‏ على الناس، متكبر بها، مشغول بذلك عن شكرها، والقيام بحقها‏.‏ قال البيضاوي‏:‏ وفي لفظ الإذاقة والمس تنبيه على ان ما يجده الإنسان في الدنيا من النعم والمحن كالأنموذج لما يجده في الآخرة، وأنه يقع في الكفر والبطر بأدنى شيء؛ لأن الذوق‏:‏ إدراك المطعم، والمس مبدأ الوصول إليه‏.‏ ه‏.‏

‏{‏إلا الذين صبروا‏}‏ على الضراء؛ إيماناً بالله، واستسلاماً لقضائه، ‏{‏وعملوا الصالحات‏}‏ شكراً لآلائه، سابقها ولاحقها، ‏{‏أولئك لهم مغفرة‏}‏ لذنوبهم، ‏{‏وأجر كبير‏}‏ أقلة الجنة، وغايته النظرة‏.‏ والاستثناء من الإنسان؛ لأن المراد به الجنس‏.‏ ومن حمله على الكافر لسبق ذكرهم جعله منقطعاً‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ ينبغي للعبد أن يكون شاكراً للنعم، صابراً عند النقم، واقفاً مع المنعم دون النعم‏.‏ إن ذهبت من يدة نعمة رَجَى رجوعها، وإن أصابته نقمة انتظر انصرافها‏.‏ والحاصل‏:‏ ان يكون عبداً لله في جميع الحالات‏.‏

حُكي أن سيدنا موسى عليه السلام قال‏:‏ يا رب دلني على عمل إذا عملته رضيت عني‏.‏ قال‏:‏ إنك لا تطيق ذلك، فخر ساجداً متضرعاً، فقال‏:‏ يا ابن عمران؛ إن رضاي في رضائك بقضائي‏.‏ ه‏.‏ وقال ابن عباس رضي الله عنه أول شيء كتبه الله في اللوح المحفوظ‏:‏ أنا الله لا إله إلا أنا، محمد رسولي، فمن استسلم لقضائي، وصبر على بلائي، وشكر نعمائي، كتبته صديقاً، وبعثته مع الصديقين، ومن لم يستسلم لقضائي، ولم يصبر على بلائي، ولم يشكر نعمائي، فليتخذ رباً سوائي‏.‏ ه‏.‏ ورُوي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال‏:‏ ثلاث من رزقهن خير الدنيا والآخرة‏:‏ الرضا بالقضاء، والصبر على الأذى، والدعاء في الرخاء‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 14‏]‏

‏{‏فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ‏(‏12‏)‏ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏13‏)‏ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ لنبيه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏فلعلك تارك بعضَ ما يُوحى إليك‏}‏، فلا تبلغه وهو ما فيه تشديد على المشركين، مخافة ردهم واستهزائهم به‏.‏ ولا يلزم من توقع الشيء وقوعه‏.‏ فالعصمة مانعة من ذلك‏.‏ فالرسول عليه الصلاة والسلام لم يترك شيئاً من الوحي إلا بغله، ولكن الحق تعالى شجعه وحرضه على التبليغ في المستقبل‏.‏ ولو قوبل بالإنكار‏.‏

ثم قال له‏:‏ ‏{‏وضائق به صدرُكَ‏}‏؛ أي‏:‏ ولعله يعرض لك في بعض الأحيان ضيق في صدرك، فلا تتلوه عليهم مخافة ‏{‏أن يقول لولا أُنزل عليه كنز‏}‏ ينفقه للاستتباع كالملوك، أو يستغني به عن طلب المعاش، ‏{‏أو جاء معه ملكٌ‏}‏ يشهد له، والقصد تسليته صلى الله عليه وسلم عن قولهم، حتى يُبلغ الرسالة ولا يبالي بهم‏.‏ وإنما قال‏:‏ ‏{‏ضائق‏}‏؛ ليدل على اتساع صدره صلى الله عليه وسلم، وقلة ضيقه في الحال‏.‏ ‏{‏إنما أنت نذير‏}‏ ليس عليك إلا الإنذار بما أوحي إليك، ولا عليك ردوا أو اقترحوا، فلا يضيق صدرك بذلك‏.‏ ‏{‏والله تعالى على كل شيء وكيل‏}‏ فتوكل عليه، فإنه عالم بحالهم ومجازيهم على أقوالهم وأفعالهم‏.‏

‏{‏أَمْ‏}‏؛ بل ‏{‏يقولون افتراه‏}‏ أي‏:‏ ما يوحى إليه، ‏{‏قل‏}‏ لهم‏:‏ ‏{‏فأتوا بعشر سُورٍ مثِلهِ‏}‏ في البيان وحسن النظم‏.‏ تحداهم أولاً بعشر سور، فلما عجزوا سهل الأمر عليهم وتحداهم بسورة‏.‏ وتوحيد المثل باعتبار كل واحد‏.‏ ‏{‏مُفتريات‏}‏؛ مختلفات من عند أنفسكم، إن صح أني اختلقته من عند نفسي؛ فإنكم عرب فصحاء مثلي‏.‏ ‏{‏وادعوا من استطعتم من دون الله‏}‏ للمعاونه على المعارضة، ‏{‏إن كنتم صادقين‏}‏ أنه مفترى‏.‏ ‏{‏فإن لم يستجيبوا لكم‏}‏؛ فإن عجزوا عن الإتيان، ‏{‏فاعلموا‏}‏ أيها الرسول المؤمنون ‏{‏إنما أُنزل بعلم الله‏}‏؛ بإذنه، أو بما لا يعلمه إلا الله من الغيوب‏.‏ والمعنى‏:‏ دوموا على إيمانكم، وزيدوا يقيناً فيه‏.‏

قال البيضاوي‏:‏ وجمع الضمير؛ إما لتعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم، أو لأن المؤمنين كانوا يتحدونهم، فكان أمر الرسول عليه الصلا ة والسلام متناولاً لهم من حيث إنه يجب اتباعه عليهم في كل أمر إلا خصه الدليل‏.‏ أو للتنبيه على أن التحدي مما يوجب رسوخ إيمانهم وقوة يقينهم‏.‏ ولذلك رتب عليه قوله‏:‏ ‏{‏فاعلموا أنما أُنزل بعلم الله‏}‏؛ ملتبساً بما لا يعلمه إلا الله، لأن العالم والقادر بما لا يعلم ولا يقدر عليه غيره‏.‏ ‏{‏وأن لا إله إلا هو‏}‏؛ لظهور عجز آلهتهم‏.‏ ‏{‏فهل أنتم مسلمون‏}‏ ‏؟‏ ثابتون على الإسلام، راسخون مخلصون فيه، إذا تحقق عندكم إعجازه مطلقاً‏.‏

ويجوز أن يكون الكل خطاباً للمشركين، والضمير في ‏{‏يستجيبوا‏}‏ لمن استطعتم، أي‏:‏ فإن لم يستجيبوا لكم، أي‏:‏ من استعنتم به على المعارضة لعجزهم، وقد عرفتم من أنفسكم القصور عن المعارضة، ‏{‏فاعلموا‏}‏ أنه نظم لا يعلمه إلا الله وأنه منزل من عنده، وأن ما دعاكم إليه من التوحيد حق، فهل أنتم داخلون في الإسلام بعد قيام الحجة القاطعة‏؟‏ وفي مثل هذا الاستفهام إيجاب بليغ؛ لما فيه معنى الطلب، والتنبيه على قيام الموجب، وزوال العذر‏.‏

ه‏.‏ وقال في الوجيز‏:‏ فإن لم يستجيبوا لكم؛ من تدعون إلى المعاونة، ولا تهيأ لكم المعارضة، فقد قامت عليكم الحجة، ‏{‏فاعلموا أنما أنزل بعلم الله‏}‏ أي‏:‏ أنزل والله عالم بإنزاله، وعالم أنه من عنده، ‏{‏فهل أنتم مسلمون‏}‏ ‏؟‏ استفهام، معناه الأمر، كقوله ‏{‏فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 91‏]‏‏.‏ ه‏.‏

الإشارة ينبغي لأهل الوعظ والتذكير أن يعمموا الناس في التذكير، ولا يفرقوا بين أهل الصدق، وأهل التنكير‏.‏ يل ينصحوا العباد كلهم، ولا يتركوا تذكيرهم، ومخافة الرد عليهم، ولا تضيق صدورهم بما يسمعون منهم، اقتداء بنبيهم صلى الله عليه وسلم، وقد قال لقمان لابنه حين أمره بالتذكير ‏{‏واصبر على مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمور‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 17‏]‏، فإن طلبوا من المذكر الدليل فليقل‏:‏ إنما أنا نذير، والله على كل شيء وكيل‏:‏ فإن قالوا‏:‏ هذا الذي تذكر كلنا نعرفه، فليقل‏:‏ فأتوا بسورة من مثله، أو بعشر سور من مثله‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 16‏]‏

‏{‏مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ ‏(‏15‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ «ما صنعوا فيها»‏:‏ الضمير يعود على الدنيا، والظرف يتعلق بصنعوا‏.‏ أو يعود على الآخرة، ويتعلق الظرف بحبط، أي‏:‏ حبط في الآخرة ما صنعوا من الأعمال في الدنيا‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏من كان يريد‏}‏ بعمله ‏{‏الحياةَ الدنيا وزينتَها‏}‏، فكان إحسانه وبره رياء وسمعَة، ‏{‏نُوفّ إليهم أعمالَهم فيها‏}‏ أي‏:‏ نوصل إليهم جزاء أعمالهم في الدنيا، من الصحة والرئاسة، وسعة الأرزاق، وينالُون ما قصدوا من حمد الناس، وإحسانهم وبرهم، ‏{‏وهم فيها لا يُبخسون‏}‏ لا يُنقصون شيئاً من أجورهم، فيحتمل‏:‏ أن تكون الآية نزلت في أهل الرياء من المؤمنين الذين يراؤون بأعمالهم؛ كما ورد في حديث الغازي والغني القارئ المرائين، وأنهم أول من تُسعر بهم جهنم‏.‏ ويحتمل أن تكون نزلت في الكفار، وهو أليق بقوله‏:‏ ‏{‏أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النارُ‏}‏؛ لأنهم استوفواما تقضيه صور أعمالهم الحسنة، وبقيت لهم أوزار العزائم السيئة‏.‏ ‏{‏وحَبِطََ ما صنعوا فيها‏}‏ أي‏:‏ في الدنيا فكل ما صنعوا في الدنيا من الإحسان حبط يوم القيامة؛ لأنهم لم يريدوا به وجه الله‏.‏ والعمدة في انتظار ثواب الأعمال هو الإخلاص، ‏{‏وباطلٌ ما كانوا يعملون‏}‏؛ لأنه لم تتوفر فيه شروط الصحة التي من جملتها الإخلاص‏.‏

الإشارة‏:‏ في الحديث «مَن كَان الدُّنيا هَمَّه‏:‏ فَرَّق اللَّهُ عَليْهِ أَمْرَهُ، وجَعَل فَقْرَه بَينَ عَينَيه، وَلم يَأتِهِ مِنَ الدُّنيا إلا ما قُسِمَ له‏.‏ ومن كَانت الآخرةُ نيته‏:‏ جمعَ اللَّهُ عَليه أَمْرَه، وجَعَل غَناهُ في قَلبِه، وأَتتهُ الدُّنيا وهِي صَاغِرة»‏.‏

قلت‏:‏ ومن كان الله همه كفاه هَم الدارين‏.‏ فطالبُ الدنيا أسير، وطالب الآخرة أجير وطالب الحق أمير‏.‏ فارفع همتك أيها العبد عن دار الفانية، وعلق قلبك بالدار الباقية، ثم ارفعها إلى شهود الذات العالية، ولا تكن ممن قصرَ همته على هذه الدار فتكن ممن ليس له في الآخرة إلا النار‏.‏ وحصّن أعمالك بالإخلاص، وإياك وملاحظة الناس؛ فتبوأ بالخيبة والإفلاس، وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏أفمن كان‏)‏‏:‏ مبتدأ، والخبر محذوف، أي‏:‏ كمن كان يريد الدنيا وزينتها‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏أفمن كان على بينةٍ‏}‏، طريقة واضحة ‏{‏من ربه‏}‏ وهو النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون، كمن ليس كذلك، ممن همه الدنيا‏؟‏‏!‏ والمراد بالبينة‏:‏ ما أدرك صحتَه العقلُ والذوقُ، أي‏:‏ على برهان واضح من ربه، وهو الدليل العقلي؛ والأمر الجلي‏.‏ أو برهان من الله يدله على الحق والصواب فيما ياتيه ويذره، ‏{‏ويتلُوه‏}‏؛ ويتبع ذلك البرهان الذي هو دليل العقل، ‏{‏شاهدٌ منه‏}‏ أي‏:‏ من الله يشهد بصحته، وهو‏:‏ القرآن، لأنه مصباح البصيرة والقلب؛ فهو يشهد بصحة ما أدركه العقل من البرهان‏.‏

‏{‏ومن قبله‏}‏ أي‏:‏ من قبل القرآن، ‏{‏كتابُ موسى‏}‏ يعني‏:‏ التوارة، فإنها أيضاً متلوة شاهدة بما عليه الرسول ومن تبعه من البينة الواضحة‏.‏ أو البينة‏:‏ القرآن، والشاهد‏:‏ جيريل عليه السلام، أو عَلِيٌّ كرم الله وجهه، أو الإنجيل، وهو حسن، لقوله‏:‏ ‏{‏ومن قبله كتابُ موسى‏}‏؛ فإن التوراة قبل الإنجيل‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهنا اعتراض؛ وهو أن الضمير قي «قبله» عائداً على القرآن، فَلِمَ لَمْ يذكر الإنجيل وهو قبله وبينه وبين كتاب موسى‏؟‏ فالانفصال عنه‏:‏ أنه خَصَّ التوراة بالذكر؛ لأن الملّتين متفقتان على أنها من عند الله، والإنجيل قد خالف فيها‏.‏ فكان الاستشهاد بما تقوم به الحجة على الكتابين أولى‏.‏ وهذا كقول الجن ‏{‏إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ موسى‏}‏ ‏[‏الاحقاف‏:‏ 30‏]‏‏.‏ وقول النجاشي‏:‏ «إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاه واحدة»،‏.‏ ه‏.‏ وإذا فسرنا الشاهد بالإنجيل سقط الاعتراض‏.‏

ثم وصف التوراة بقوله‏:‏ ‏{‏إماماً‏}‏‏.‏ أي‏:‏ مؤتماً به في الدين، لأجله، ‏{‏ورحمةً‏}‏ على المنزل عليهم‏.‏ ‏{‏أولئك‏}‏ أي‏:‏ من كان على بينة من ربه، ‏{‏يُؤمنون به‏}‏ أي‏:‏ بالقرآن، ‏{‏ومن يكفرْ به من الأحزاب‏}‏‏:‏ كأهل مكة، ومن تحزب منهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ‏{‏فالنارُ موعده‏}‏ يدخلها لا محالة، ‏{‏فلا تكُ في مريةٍ‏}‏؛ شك ‏{‏منه‏}‏ أي‏:‏ من ذلك الموعد، أو القرآن، ‏{‏إنه الحقُ من ربك‏}‏ الثابت وقوعه، ‏{‏ولكن أكثرَ الناس لا يؤمنون‏}‏؛ لقلة نظرهم، وإخلال فكرتهم‏.‏

الإشارة‏:‏ لا يكون العبد على بينة من ربه حتى يتحقق فيه أمران، أولهما‏:‏ التوبة النصوح، والثاني‏:‏ الزهد التام‏.‏ فإذا تحقق فيه الأمران كان بينة من ربه‏.‏ وهي درجات؛ أولها‏:‏ بينة ناشئة عن صحيح النظر ولاعتبار، وهي لقوم نظروا في الحجج والبراهين العقلية والدلائل السمعية، فأدركوا وجود الحق من طريق الإيمان بالغيب، وهم‏:‏ أهل الدليل والبرهان‏.‏ وثانيها‏:‏ بينة ناشئة عن الرياضات والمجاهدات والاعتزال في الخلوات، فخرقت لهم العوائد الحسيات فرأوا كرامات وخوارق عادات، فأدركوا وجود الحق على وجه التحقيق والبيان، مع رقة الحجاب والوقوف بالباب‏.‏

وهم‏:‏ العُبّاد، والزهاد، والصالحون من أهل الجد والاجتهاد‏.‏ وثالثها‏:‏ بينة ناشئة عن الذوق والوجدان، والمكاشفة والعيان، وهي لقوم دخلوا في تربية المشايخ، فتأدبوا وتهذبوا، وشربوا خمرة غيبتهم عن حسهم ورسمهم؛ فغابوا عن الأكوان بشهود المكون‏.‏ فهم يستدلون بالله على غيره‏.‏ قَدَّّسُوا الحق أن يحتاج إلى دليل، وهؤلاء هم الأفراد وخواص العباد، وإليهم أشار الشاعر بقوله‏:‏

الطُّرقُ شَتَّى وطَريقُ الحَقِّ مُقفِرَةٌ *** والسَّالكون طَريق الحقّ أَفرادُ

لا يُعرفُون ولا تُدرَى مَسالِكُهم *** فهم على مَهَلٍ يَمشُونَ قُصّادُ

والنَّاسُ في غفلَةٍ عَمَّا يَراد بِهِم *** فَجُلُّهم عَن سَبِيل الحَقِّ رُقَّادُ

وقال في القوت‏:‏ ‏{‏أفمن كان على بينة من ربه‏}‏ أي‏:‏ من شهد مقام الله عز وجل بالبيان، فقام له بشهادة الإيقان، فليس هذا كمن زُين له سُوء عمله، واتبع هواه، فآثره على طاعة مولاه‏.‏ بل هذا قائم بشهادته، متبع لشهيده، مستقيم على محبة معبوده ه‏.‏ وقال الورتجبي‏:‏ تقدير الآية على وجه الاستفهام‏:‏ أفمن كان على بينة من ربه؛ كمن هو في الضلالة والجهالة‏؟‏ أفمن كان على معرفة من ربه، وولاية وسلامة وكرامة، وكل عارف إذا شاهد الحق سبحانه بقلبه وروحه، وعقله وسره، فأدرك فيض أنوار جماله، وقربه، يؤثر ذلك في هيكله حتى يبرز من وجهه نور الله الساطع، ويراه كل صاحب نظر، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ويتلوه شاهد منه‏}‏، والبينة‏:‏ بصيرة المعرفة، والشاهد‏:‏ بروز نور المشاهدة منه‏.‏ وأيضاً‏:‏ البينة‏:‏ كلام المعرفة‏.‏ والشاهد‏:‏ الكتاب والسنة‏.‏ ثم قال عن الجنيد‏:‏ البينة‏:‏ حقيقة يؤيدها ظاهر العلم‏.‏ ه‏.‏

والحاصل‏:‏ أن البينة أمر باطني، وهي‏:‏ المعرفة، إما بالبرهان، أو بالعيان، والشاهد الذي يتلو هو العلم الظاهر، فيتفق ما أدركه العقل أو الذوق مع ما أفاده النقل، فتتفق الحقيقة مع الشريعة‏.‏ كلِّ في محله، الباطن منور بالحقائق، والظاهر مُؤيد بالشرائع‏.‏ وهذا غاية المطلوب والمرغوب‏.‏ رزقنا الله من ذلك الحظ الأوفر بمنِّه وكرمه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 24‏]‏

‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ‏(‏18‏)‏ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ‏(‏19‏)‏ أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ ‏(‏20‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏21‏)‏ لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ ‏(‏22‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏23‏)‏ مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏مثلاً‏)‏‏:‏ تمييز‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏ومن أظلمُ‏}‏ أي‏:‏ لا أحد أظلم ‏{‏ممن افترى على الله كذباً‏}‏؛ بأن أسند إليه ما لم يقله، وكذب بما أنزله، أو نسب لله ما لا يليق بجلاله‏.‏ ‏{‏أولئك يُعرضون على ربهم‏}‏ يوم القيامة، بأن يحسُبوا في الموفق، وتعرض عليهم أعمالهم على رؤوس الأشهاد، ‏{‏ويقول الأشهادُ‏}‏ من الملائكة والنبيين، أو كل من شهد الموقف‏:‏ ‏{‏هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين‏}‏ وهو تهويل عظيم لما يحيق بهم حينئذٍ، لظلمهم بالكذب على الله، ورد الناس عن طريق الله‏.‏

‏{‏الذين يصُدُّون عن سبيل الله‏}‏؛ عن دينه، ‏{‏ويبغونها عِوَجاً‏}‏؛ يصفونها بالانحراف عن الحق والصواب‏.‏ أو يبغون أهلها أن يعرجوا عنها بالردة والكفر، أو يطلبون اعوجاجها بالطعن فيها‏.‏ ‏{‏وهم بالآخرة هم كافرون‏}‏ أي‏:‏ والحال أنهم كافرون بالبعث‏.‏ وتكرير الضمير؛ لتأكيد كفرهم واختصاصهم به‏.‏

‏{‏أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض‏}‏ أي‏:‏ ما كانوا ليعجزوا الله في الدنيا أن يعاقبهم‏.‏ بل هو قادر على ذلك، واخرهم ليوم الموعود، ليكون أشد وأدوم‏.‏ ‏{‏وما كان لهم من دون الله من أولياءَ‏}‏ يمنعونهم من العقاب، ‏{‏يضاعف لهم العذاب‏}‏ بسبب ما اتصفوا به، كما ذكره بقوله‏:‏ ‏{‏ما كانوا يستطيعون السمعَ وما كانوا يبصرون‏}‏؛ لتصاممهم عن الحق، وبغضهم أهله‏.‏ ‏{‏أولئك الذين خسروا أنفسَهم‏}‏ حين اشتروا عبادة الأصنام بعبادة الله، ‏{‏وضل عنهم ما كانوا يفترون‏}‏ من أن الأصنام تشفع لهم، أو خسروا بما بدلوا وضاع عنهم ما أملوا، فلم يبق لهم سوى الحسرة والندامة‏.‏ ‏{‏لا جرم‏}‏ لا شك، أو لا بد ‏{‏أنهم في الآخرة هم الأخسرون‏}‏‏:‏ فلا أحد أكثر خسراناً منهم؛ حيث حرموا النعيم المخلد، واستبدلوا بالعذاب المؤبد‏.‏

ثم ذكر ضدهم فقال‏:‏ ‏{‏إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتُوا‏}‏ أي‏:‏ اطمأنوا أو خشعوا، أو تابوا ‏{‏إلى ربهم أولئك اصحابُ الجنة هم فيها خالدون‏}‏؛ دائمون‏.‏

‏{‏مَثَلُ الفريقين‏}‏ المتقدمين؛ فريق الكافر وفريق المؤمن‏:‏ ‏{‏كالأعمى والأصمّ والبصير والسميع‏}‏، فمثل الكافر كمن جمع بين العمى والصمم، ومثل المؤمن كمن جمع بين السمع والبصر‏.‏ فالواو لعطف الصفات، ويجوز أن يكون شبه الكافر بمن هو أعمى فقط، وبمن هو أصم فقط والمؤمن بضدهما، فهو تمثيل للكافرين بمثالين، قاله ابن جزي‏.‏ وقال البيضاوي‏:‏ يجوز أن يراد به تشبيه الكافر بالأعمى؛ لتعاميه عن آيات الله، وبالأصم لتصاممه عن استماع كلام الله، وتأبيه عن تدبره معانيه‏.‏ أو تشبيه المؤمن بالسميع والبصير؛ لأن أمره بالضد، فيكون كل منهما مشّبهاً باثنين باعتبار وصفين‏.‏ أو تشبيه الكافر بالجامع بين العمى والصمم، والمؤمن بالجامع بين ضديهما، والعاطف لعطف الصفة على الصفة، كقوله‏:‏ فالأدب الصَّابُح فالغانم، فهذا من بيان اللف والطباق‏.‏ ه‏.‏ ‏{‏هل يستويان‏}‏‏:‏ هل يستوي الفريقان‏؟‏ ‏{‏مثلاً‏}‏؛ أي‏:‏ جهة التمثيل، بل لا استواء بينهما، ‏{‏أفلا تذكرون‏}‏؛ تتعظون بضرب الأمثال فترجعون عن غيكم‏.‏

الإشارة‏:‏ كل من ترامى على مراتب الرجال، أو ادعى مقاماً من المقامات وهو لم يدركه، يريد بذلك إمالة وجوه الناس إليه، يُفضح يوم القيامة على رؤوس الأشهاد، ويقال له‏:‏ ‏{‏هؤلاء الذين كَذَبوا على ربهم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ فكل آية في الكفار تجر ذيلها على عُصاة المؤمنين‏.‏ وقد تقدم أمارات من كان على بينة من ربه، فمن ادعى مقاماً من تلك المقامات وهو يعلم أنه لم يصله نادى عليه الآية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 27‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏25‏)‏ أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ ‏(‏26‏)‏ فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ ‏(‏27‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ من قرأ‏:‏ إني؛ بالكسر، فعلى إرادة القول، ومن قرأ بالفتح، فعلى إسقاط الخافض، أي‏:‏ بأني، و‏(‏بادي الرأي‏)‏‏:‏ ظرف ل ‏(‏اتبعك‏)‏، على حذف مضاف أي‏:‏ وقت حدوث أول رأيهم‏.‏ وهو من البدء أي‏:‏ الحدوث، أو من البُدُوِّ، أي‏:‏ الظهور‏.‏ أي‏:‏ اتبعوك في ظاهر الرأي دون التعمق في النظر‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه‏}‏ فقال لهم‏:‏ ‏{‏إني لكم‏}‏، أو بأني لكم ‏{‏نذير مبينٌ‏}‏ أي‏:‏ بين ظاهر، أو أبين لكم موجبات العذاب، ووجه الخلاص منه، قائلاً‏:‏ ‏{‏ألا تعبدوا إلا الله‏}‏، ولا تعبدوا معه غيره، ‏{‏إني أخاف عليكم عذابَ يومٍ أليم‏}‏؛ مُؤلم، وهو في الحقيقة صفة للعذاب، ووصف به زمانه على طريقة ‏[‏جَدَّ جَدُّه، ونهاره صائم‏]‏؛ للمبالغة‏.‏

‏{‏فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نَراك إلا بشراً مثلنا‏}‏؛ لا مزية لك علينا تخصك بالنبوءة ووجوب الطاعة، ‏{‏وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلُنا‏}‏؛ أخساؤنا وسُقَّاطنا؛ جمع ارذل‏.‏ ‏{‏بادِيَ الرأي‏}‏؛ من أول الرأي من غير تفكر ولا تدبر، أي‏:‏ اتبعك هؤلاء بادي الرأي من غير ترو‏.‏ أو ظاهراً رأيهم خفيفاً عقلهم، وإنما استرذلوهم، لأجل فقرهم، جهلاً منهم، واعتقاداً أن الشرف هو المال والجاه‏.‏ وليس الأمر كذلك‏.‏ بل الشرف إنما هو بالإيمان والطاعة، ومعرفة الحق‏.‏ وقيل‏:‏ إنهم كانوا حاكة وحجامين‏.‏ وقيل‏:‏ أراذل في أفعالهم، لقوله ‏{‏وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُون‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 112‏]‏، ثم قالوا‏:‏ ‏{‏وما نَرى لكم‏}‏ أي‏:‏ لك ولمتبعيك ‏{‏علينا من فضلٍ‏}‏ يؤهلكم للنبوءة، واستحقاق المتابعة‏.‏ ‏{‏بل نظنكم كاذبين‏}‏؛ أنت في دعوى النبوءة، وهم في دعوى العلم بصدقك‏.‏ فغلب المخاطب على الغائبين‏.‏

الإشارة‏:‏ تكذيب الصادقين سنة ماضية، وأتباع الخصوص موسومون بالذلة والقلة، وهم أتباع الرسل والأولياء وهم أيضاً جُل أهل الجنة؛ لأن المصطفى صلى الله عليه وسلم قال «أَهلُ الجَنَّة كُلُّ ضَعِيفٍ مُستَضعَفٍ»‏.‏ وقالت الجنة‏:‏ مَا لِيَ لا يَدخُلُني إلا سُقَّطُ الناس «فقال لها الحق تعالى‏:‏» أنتِ رَحمَتي أَرحَمُ بِك مَنْ أَشاء «حسبما في الصحيح‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ «أنلزمكموها»‏:‏ يصح في الضمير الثاني الوصل والفصل؛ لتقدم الأخص‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ نوح لقومه‏:‏ ‏{‏يا قوم أرأيتم‏}‏‏:‏ أخبروني، ‏{‏إن كنت على بينة من ربي‏}‏؛ على طريقة واضحة من عند ربي، أو حجة واضحة شاهدة بصحة دعواي، ‏{‏وآتاني رحمة من عنده‏}‏ النبوة، ‏{‏فعميت‏}‏؛ خفيت ‏{‏عليكم‏}‏ فلم تهتدوا إليها، ‏{‏أنلزمكموها‏}‏؛ أنكرهكم على الاهتداء بها ‏{‏وأنتم لها كارهون‏}‏ لا تختارونها ولا تتأملون فيها‏.‏ ولم يؤمر بالجهاد، بل تركهم حتى نزل بهم العذاب‏.‏

الإشارة‏:‏ طريقة أهل التذكير الذين هم على بينة من ربهم أنهم يُذكرون الناس، ولا يكرهون أحداً على الدخول في طريقهم، إذا عميت عليهم، والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 30‏]‏

‏{‏وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ‏(‏29‏)‏ وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏، حاكياً عن نوح عليه السلام‏:‏ ‏{‏ويا قوم لا أسألكم عليه‏}‏؛ على التبليغ المفهوم من السياق، ‏{‏مالاً‏}‏‏:‏ جُعلاً انتفع به، ‏{‏وإن أجري إلا على الله‏}‏؛ فإنه المأمول منه‏.‏ ثم طلبوا منه طرد الضعفاء ليجالسوه، فقال لهم‏:‏ ‏{‏وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقو ربهم‏}‏ فيخاصموني إن طردتهم، أو‏:‏ إنهم ملاقوه فيفوزون بقربه، فكيف أطردهم‏؟‏ ‏{‏ولكني أراكم قوماً تجهلون‏}‏ لقاء ربكم، أو بأقدارهم، أو تسفهون عليهم فتدعُوهم أرذال، أو قوماً جُهالاً استحكم فيكم الجهل وشختم فيه، فلا ينفع فيكم الوعظ والتذكير‏.‏ ‏{‏ويا قوم من ينصرني من الله‏}‏‏:‏ من يدفع انتقامه عني ‏{‏إن طردتهم‏}‏ وهم بتلك الصفة الكاملة من الإيمان والخوف منه‏؟‏ ‏{‏أفلا تذكرون‏}‏ فتعلموا أن التماس طردهم، وتوقيف الإيمان عليه ليس بصواب‏.‏

الإشارة‏:‏ قال القشيري‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا أسألكم عليه مالاً‏}‏، فيه تنبيه للعلماء الذين هم ورثة الأنبياء أن يتأدبوا بأنبيائهم، وألا يطلبوا من الناس شيئاً في بث علومهم، ولا يرتفقوا منهم بتعليمهم، والتذكير لهم، وما ارتفق من المستمعين في بث فائدة يذكر بها من الدين، ويعظ بها المسلمين فلا يبارك الله فيما يُسمعون به عن الله، ولا ينتفعون به، ويحصلون به على سخط من الله‏.‏ ه‏.‏

قلت‏:‏ هذا إن كان له تشوف وتطلع بذلك، بحيث لو لم يعط لم يُعلم، أو لم يُذكر‏.‏ وأما إن كان يعلم ويذكر لله، ثم يتصدق عليه لله، فلا بأس به إن شاء الله‏.‏ وما زالت الأشياخ والأولياء يقبضون زيارات الفقراء، وكل من يأتيهم ويذكرونهم ويعرفونهم بالله، لأن ذلك ربح للمعطي وتقريب له، وما ربح الناس إلا من فلسهم ونفسهم؛ بذلوها لله، فأغناهم الله‏.‏ وقد تقدم عند قوله ‏{‏خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 103‏]‏ بعض الكلام على هذا المعنى، والله تعالى أعلم‏.‏