فصل: تفسير الآية رقم (31)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***


تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏31‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ قال نوح لقومه‏:‏ ‏{‏ولا أقول لكم عندي خزائنُ الله‏}‏ حتى أنفق منها متى شئت، فأستغني عن مباشرة الأسباب، بل ما أنا إلا بشر، أو لا أدعي ما ليس لي فتنكروا قولي، أي‏:‏ لا أفوه لكم، ولا أتعاطى غير ما ألهمني الله له، فلست أقول‏:‏ عندي خزائن الله، أي‏:‏ القوة التي توجد بها الأشياء بعد عدمها‏.‏ أو‏:‏ عندي خزائن الله التي يتنزل منها الأشياء، كالريح والمياه ونحوها، كما قال تعالى ‏{‏وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 21‏]‏ فتبرأ عليه السلام من هذه الدعوى‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏ولا أعلمُ الغيبَ‏}‏ أي‏:‏ ولا أقول‏:‏ إني أعلم الغيب، فأعلم من أصحابي ما يسترونه عني في نفوسهم، فسبيلي قبول ما ظهر منهم‏.‏ أو‏:‏ لا أعلم أنهم اتبعوني في بادي الرأي عن غير بصيرة وعقد قلب ‏{‏ولا أقولُ إني ملكٌ‏}‏ حتى تقولوا‏:‏ ما نزال إلا بشراً مثلنا‏.‏ ‏{‏ولا اقول للذين تزدري أعينُكم‏}‏ أي‏:‏ تحتقرهم‏.‏ من زريت على الرجل‏:‏ قصرت به‏.‏ قلبت تاؤه دالاً؛ لتجانس الزاي للتاء، والمراد بهم ضعفاء المؤمنين، أي‏:‏ لا أقول في شأن من احتقرتموهم، لفقرهم‏:‏ ‏{‏لن يُؤتهم الله خيراً‏}‏؛ فإنَّ ما أعد الله لهم في الآخرة خير مما آتاكم في الدنيا‏.‏ ‏{‏والله اعلم بما في أنفسكم‏}‏ من خير أو غيره، ‏{‏إني إِذاً‏}‏ أي‏:‏ إن قلتُ شيئاً من ذلك، ‏{‏لَمِنَ لظالمين‏}‏‏.‏

قال البيضاوي‏:‏ وإسناده إلى الأعين؛ للمبالغة، والتنبيه على أنهم استرذلوهم بادي الرأي من غير روية، مما عاينوه من رثاثة حالهم، وقلة منالهم، دون تأمل في معانيهم وكمالاتهم‏.‏ وقال أيضاً‏:‏ وإنما استرذلوهم لفقرهم؛ لأنهم لمَّا لم يعلموا إلا ظاهراً من الحياة الدنيا كان الأحظ بها أشرف عندهم، والمحروم منها أرذل‏.‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ لا يشترط في وجود الخصوصية ظهور الكرامة؛ فقد تظهر الكرامة على من لم تكمل له الاستقامة، فلا يشترط فيه الاطلاع على خزائن الغيوب، وإنما يشترط فيه التطهير من نقائص العيوب، لا يشترط فيه الإنفاق من الغيب، وإنما يشترط فيه الثقة بما ضمن له في الغيب‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏32- 34‏]‏

‏{‏قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏32‏)‏ قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ‏(‏33‏)‏ وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏إن اردت‏}‏‏:‏ شرط حذف جوابه؛ لتقدم ما يدل عليه، وكذا ‏(‏إن كان الله يريد أن يُغويكم‏)‏، والتقدير‏:‏ إن كان يريد أن يغويكم لا ينفعكم نصحي إن أردت ان أنصح لكم‏.‏ أي‏:‏ فكذلك‏.‏ فهو من تعليق الشرط، كقولك‏:‏ إن دخلتِ الدار، إن كلمت زيداً، فأنتِ طالق‏.‏ فلا تطلق إلا بهما، ثم استأنف‏:‏ ‏(‏هو ربكم‏)‏‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏قالوا يا نوحُ قد جادلتنا‏}‏‏:‏ خاصمتنا ‏{‏فأكثرت جِدالنا‏}‏‏:‏ خصامنا ومخاطبتنا، ‏{‏فأتِنا بما تَعِدُنا‏}‏ من العذاب، ‏{‏إن كنتَ من الصادقين‏}‏ في الدعوى والوعيد، فإن مناظرتك ووعظك لا يؤثر فينا‏.‏ ‏{‏قال‏}‏ نوح عليه السلام‏:‏ ‏{‏إنما يأتيكم به الله‏}‏ دوني ‏{‏إن شاءَ‏}‏ عاجلاً أو آجلاً، ‏{‏وما أنتم بمعجزين‏}‏ بدفع العذاب عنكم، أو الهرب منه حتى تعجزوا القدرة الإلهية، ‏{‏ولا ينفعكم نُصحي إن أردتُ أن أنصح لكم‏}‏، وأراد الله ‏{‏ان يُغويكم‏}‏، فإن النصح مع سابق الشقاء عنت‏.‏ وهذا جواب لما أوهموا من أن جداله كلام لا طائل تحته، وهو دليل على أن إرادة الله تعالى يصح تعلقها بالإغواء، وأن خلا ف مراد الله تعالى محال‏.‏ ولذلك قيل‏:‏ مراد الله من خلقه ما هم عليه‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏هو ربُكمْ‏}‏؛ خالقكم والمتصرف فيكم وفق إرادته‏.‏ ‏{‏وإليه تُرجعون‏}‏ فيجازيكم على أعمالكم‏.‏

الإشارة‏:‏ ينبغي لأهل الوغظ والتذكير أن لا يملوا ولو أكثروا إذا قابلهم الناس بالبعدُ والإنكار، وليقولوا‏:‏ ولا ينفعكم نصحنا إن أردنا ان ننصحكم ‏{‏إن كان الله يريد أن يُغويكم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏أمْ يقولون‏}‏؛ أي‏:‏ كفار قريش‏:‏ هذا الذي يقرؤه محمد علينا، ويقصه من خبر مَن قبلنا ‏{‏افتراه‏}‏ من عنده‏.‏ ‏{‏قل‏}‏ لهم‏:‏ ‏{‏إن افتريتُه‏}‏؛ تقديراً ‏{‏فعليَّ إجرامي‏}‏؛ اي‏:‏ وباله عليَّ دونكم، ‏{‏وأنا بريء مما تُجرمون‏}‏؛ مما ترتكبون من الإجرام بتكذيبكم وكفركم‏.‏

الإشارة‏:‏ ينبغي لمن قوبل بالتكذيب والإنكار أن يكتفي بعلم الله، ويقول لمن كذبه ما قال نبيه صلى الله عليه وسلم لمن كذبه‏:‏ ‏{‏إن افتريته فعلي إجرامي‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ وفي الحِكَم‏:‏ «متى آلمك عدم إقبال الناس عليك، أو توجههم بالذم إليك، فارجع إلى علم الله فيك، فإن كان لا يقنعك علمه فمصيبك بعدم قناعتك بعلمه أشد من مصيبتك بوجود الأذى منهم»‏.‏

قال الشيخ زروق رضي الله عنه‏:‏ وذلك لأن عدم قناعتك بعلمه يُصيبك في قلبك ودينك، وأذاهم يُصيبك في عرضك وبدنك ودنياك، وأيضاً‏:‏ أذاهم يردك إليه، فهو فائدتك، وعدم القناعة بعلمه يردك إليهم، فهو مصيبة توجب ثلاثاً، هي علامة عدم القناعة بعلمه‏:‏ أولها‏:‏ التصنع والمراءاة، والثاني‏:‏ طلب رضاهم بما أمكن في جميع الحالات‏.‏ الثالث‏:‏ إظهار علمه وعمله وحاله، ليعلموا برتبته‏.‏

والقناعة بعلمه علامتها ثلاث‏:‏ أولها قصد الإخلاص في كلٍّ، بحيث لا يبالي أين رآه الخلق، وكيف رأوه‏.‏ الثاني‏:‏ طلب رضاه بالعمل بطاعته، وترك ما لا يرضيه، رضوا بذلك أو سخطوا‏.‏ الثالث‏:‏ الاكتفاء بعلمه فيما يجري عليه من حكمه وحكمته، قال إبراهيم التيمي رضي الله عنه لبعض أصحابه‏:‏ ما يقول الناس فِيّ‏؟‏ فقال‏:‏ يقولون إنه مرائي، فقال‏:‏ الآن طاب العمل‏.‏ قال بشر الحافي‏:‏ اكتفى والله بعلم الله‏.‏ فلم يحب أن يدخل مع علم الله غيره، وقال أيضاً‏:‏ سكون النفس لقبول المدح لها أشد عليها من المعاصي‏.‏ وقال أحمد بن أبي الحواري رضي الله عنه‏:‏ من أحب أن يعرف بشيء من الخير، أو يُذكر به، فقد أشرك مع الله في عبادته؛ لأن من عمل على المحبة لا يحب أن يرى عمله غير محبوبه‏.‏

وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه‏:‏ لا تنشر علمك، ليصدقك الناس، وانشر علمك ليصدقك الله‏.‏ وإن كان لام العلة موجوداً، فَعِلَّةٌ تكون بينك وبين الله من حيث أمرك، خير لك من عِلَّة تكون بينك وبين الناس، من حيث نهاك‏.‏ ولعِلَّةٌ تردك إلى الله خير لك من علة تقطعك عن الله‏.‏ ه‏.‏ المراد منه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 39‏]‏

‏{‏وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آَمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ‏(‏36‏)‏ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ‏(‏37‏)‏ وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ ‏(‏38‏)‏ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ ‏(‏39‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏وأوحي إلى نوح انه لم يؤمن من قومك‏}‏ بعد هذا ‏{‏إلا من قد آمن‏}‏ قبل، وكان هذا الوحي بعد ان مكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله تعالى‏:‏ فكان الرجل منهم يأتيه بابنه، ويقول‏:‏ يا بُني لا تصدق هذا الشيخ، فهكذا عَهد إليَّ أبي وجَدّي‏.‏ فلما نزل الوحي وأيس من إيمانهم دعا عليهم‏.‏ وقال له تعالى ‏{‏رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 26‏]‏‏.‏ قال له تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تبْتئسْ‏}‏‏:‏ تحزن وتغتم ‏{‏بما كانوا يفعلون‏}‏ من التكذيب والإيذاء، أقنطه أولاً من إيمانهم، ونهاه أن يغتم لأجلهم‏.‏

ثم أمره بصنع السفينة، فقال‏:‏ ‏{‏واصنع الفلكَ بأعيُننا‏}‏؛ بحفظنا ورعايتنا، أو بمرأى منا ومسمع غير محتاج إلى آلة حفظ وحرس، ‏{‏ووحينَا‏}‏ إليك، كيف تصنعها، رُوي أنه لما جهل صنعها أوحى الله إليه‏:‏ أن اصنعها على مثال جُؤجؤ الطائر‏.‏ وروي أيضاً‏:‏ انها كانت مريعة الشكل، طويلة في السماء، ضيقة الأعلى، وأن المراد منها إنما كان الحفظ، لا سرعة المشي، والأول أرجح‏:‏ أعني‏:‏ على صورة ظهر الطائر‏.‏ قال في الأساس‏:‏ عملت سفينة نوح عليه السلام من ساج، وهو خشب أسود، رزان، لا تكاد الأرض تبليه، من الهند‏.‏ ه‏.‏ وفي رواية أخرى‏:‏ صنعها نوح عليه السلام، وجبريل يصف له، فكان أسفلها كأسفل السفن وأعلاها كالسقف، وداخلها كالبيت، ولها أبواب في جوانبها‏.‏ ه‏.‏

ثم إن نوحاً عليه السلام لما تحقق هلاك قومه، رق عليهم، فَهَمَّ ان يُراجع الله في شأنهم، فقال له تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تخاطبني‏}‏؛ ولا تراجعني ‏{‏في الذين ظلموا‏}‏، ولا تدع باستدفاع العذاب عنهم؛ ‏{‏إنهم مُغرقون‏}‏‏:‏ محكوم عليهم بالغرق لا محالة‏.‏ فلا سبيل إلى كفه‏.‏

‏{‏ويصنعُ الفلكَ‏}‏، حكي ما وقع بصيغة الحال؛ استحضاراً لتلك الحال العجيبة، ‏{‏وكلمَّا مرَّ عليه ملأٌ‏}‏‏:‏ جماعة ‏{‏من قومه سَخرُوا منه‏}‏‏:‏ استهزؤوا به‏:‏ لأنه كان يعمل السفينة في برية بعيدة من الماء‏.‏ أو أن عزته تنفي صنعته، فكان يضحكون منه، ويقولون له‏:‏ صرت نجاراً بعد أن كنت نبياً‏.‏ ‏{‏قال‏}‏ لهم‏:‏ ‏{‏إنْ تسخروا منا فإنا نسخرُ منكم كما تسخرون‏}‏، فنسخر منكم حين يأخذكم في الدنيا الغرق، وفي الآخرة الحرق‏.‏ ‏{‏فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يُخزيه‏}‏، وهو‏:‏ الغرق، والحرق بعده‏.‏ ‏{‏ويَحِلُّ‏}‏ أي‏:‏ ينزل ‏{‏عليه عذاب مقيمٌ‏}‏‏:‏ دائم، وهو النار يوم القيامة‏.‏

الإشارة‏:‏ إذا تحقق الولي بإعراض الخلق عنه، وأيس منهم أن يتبعوه، فلا يحزن، ولا يغتم منهم، ففي الله غنى عن كل شيء، وليس يُغني عنه شيء‏.‏ وفي إعراض الخلق راحة لقلب الولي ولبدنه، فإذا سخروا منه فليقل في نفسه‏:‏ إن تسخروا منا اليوم، فنسخر منكم حين تحقق الحقائق، فيرتفع المقربون، وينسفل الباطلون، وكان شيخ أشياخنا سيدي علي العمراني رضي الله عنه كثيراً ما يقول‏:‏ ليت القيامة قامت، حتى يظهر الرجال من غيرهم‏.‏ أو ما هذا معناه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آَمَنَ وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ ‏(‏40‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏حتى‏)‏‏:‏ غاية لقوله‏:‏ ‏(‏ويصنع الفلك‏)‏، أو ابتدائية‏.‏ و‏(‏اثنين‏)‏ مفعول باحمل، و‏(‏أهلك‏)‏‏:‏ عطف عليه‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏حتى إذا جاء أمرُنا‏}‏ بغرقهم، أو أمرنا للأرض بالفوران وللسحاب بالإرسال، ‏{‏وفار التنورُ‏}‏؛ نبع الماء منه وارتفع كالقدر تفور‏.‏ والتنور‏:‏ تنور الخبز، ابتدأ منه النبوع، على خرق العادة، أرادت ابنته أن تسجره ففار الماء في النار، رُوي أنه كان تنور آدم، خلص إلى نوح فكان يوقد فيه، وقيل‏:‏ كان في الكوفة في موضع مسجدها‏.‏ وقيل‏:‏ في الهند، وقيل‏:‏ التنور‏:‏ وجه الأرض‏.‏ قاله ابن عباس‏.‏

فلما فار بالماء ‏{‏قلنا احْمِلْ فيها‏}‏؛ في السفينة، ‏{‏من كل زوجين اثنين‏}‏؛ من كل نوح من الحيوان؛ ذكراُ وأنثى رُوي أن نوحاً عليه السلام وقف على باب السفينة، وحشر إليه الوحوش، فكان الذكر يقع في يمينه، والأنثى في شماله، وهو يُدخل في السفينة‏.‏ وآخر ما دخل الحمار، فتمسك الشيطان بذنبه؛ فزجره نوح فلم ينعق، فدخل معه، فجلس عند مؤخر السفينة‏.‏ ورُوي أن نوحاً عليه السلام آذاه نتن الزبل والعذرة، فأوحى الله إليه‏:‏ أن امسح على ذنب الفيل، فخرج من انفه خنزير وخنزيرة، فكفياه أمر ذلك الأذى‏.‏ ورُوي أن الفأر آذى الناس فاوحى الله إليه‏:‏ أن امسح على جبهة الأسد ففعل، فعطس فخرج منه هرٌّ وهرَّة‏.‏ فكفياه أمر الفأر‏.‏ انظر ابن عطية‏.‏

‏{‏و‏}‏ احمل أيضاً ‏{‏أهْلكَ‏}‏ أي‏:‏ امرأتك وبنيك ونساءهم، ‏{‏إلا من سبقَ عليه القولُ‏}‏‏:‏ أنه من المغرقين يريد‏:‏ ابنه كنعان وأمه وَاعِلة، فإنهما كانا كافرين‏.‏ ‏{‏و‏}‏ احمل ‏{‏من آمن‏}‏ بك‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما آمن معه إلا قليلٌ‏}‏، قيل‏:‏ كانوا تسعةَ وسبعين‏:‏ زوجته المسلمة، وبنوه الثلاثة‏:‏ حام وسام ويافث، ونساؤهم، واثنان وسبعون رجلاً وامرأة من غيرهم‏.‏ وفي بعض الآثار‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «سام أبو العرب، ويافث أبو الروم، وحام أبوالحبش»‏.‏ قاله ابن عطية‏:‏ وسيأتي خلافه في سورة الصافات‏.‏ وهو الراجح‏.‏ وقال البيضاوي‏:‏ رُوي ان نوحاً عليه السلام اتخذ السفينة في سنتين، وكان طولها ثلاثمائة ذراع، وعرضها خمسين، وسمكها ثلاثين‏.‏ وجعل لها ثلاثة بطون‏.‏ فحمل في أسفلها الدواب والوحش، وفي وسطها الإنس، وفي أعلاها الطير‏.‏ ه‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ حتى إذا جاء أمرنا بكمال الطهارة من العيوب، وفار تنور القلب بعلم الغيوب وجرت سفينة الفكرة في بحار التوحيد، وأسرار التفريد، قلنا‏:‏ احمل فيها من كل زوجين اثنين؛ علم الشريعة والحقيقة، وعلم الحكمة القدرة، وعلم الحس والمعنى، وعلم الأشباح والأرواح، وعلم الملك والملكوت‏.‏ وتحمل من تمسك بها من أهل المحبة والوداد، إلا من سبق عليه القول بالمكث في مقام البعاد، وتحمل من آمن بخصوصيتها من العباد، فتقربه من مسلك التوفيق والتسديد، حين يمن الحق تعالى عليها بالقرب من أهل المحبة والوداد‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 43‏]‏

‏{‏وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏41‏)‏ وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ ‏(‏42‏)‏ قَالَ سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ ‏(‏43‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏مَجْريها ومرساها‏)‏‏:‏ مشتقان من الجري والإرسال، أي‏:‏ الثبوت، وهما إما ظرفان زمانيان، أو مكانيان، وإما مصدران، والعامل فيهما‏:‏ ما في ‏(‏بسم الله‏)‏ من معنى الفعل‏.‏ وإعراب «بسم الله»‏:‏ إما حال مقدرة من الضمير في «اركبوا»، أي‏:‏ اركبوا متبركين بسم الله، أو قائلين‏:‏ بسم الله، وقت إجرائها وإرسائها‏.‏ أو ‏(‏مجراها ومرساها‏)‏‏:‏ مبتدأ، و‏(‏بسم الله‏)‏‏:‏ خبر‏:‏ فيوقف على ‏(‏فيها‏)‏؛ أي‏:‏ إجراؤها وإرساؤها حاصل بسم الله‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ وقال نوح لمن كان معه‏:‏ ‏{‏اركبوا‏}‏ في السفينة وسيروا فيها‏.‏ رُوي أنهم ركبوا أول يوم من رجب، وقيل‏:‏ يوم العاشر منه، واستوت على الجودي يوم عاشوراء، ‏{‏بسم الله مَجْريها ومُرْساها‏}‏ أي‏:‏ متبركين بسم الله وقت إجرائها، أو قائلين بسم الله وقت إجرائها وإرسائها، رُوي‏:‏ أنه عليه السلام كان إذا أراد أن يجري السفينة قال‏:‏ بسم الله، فتجري، وإن أراد أن يوقفها قال‏:‏ بسم الله، فتوقف‏.‏ ‏{‏أن ربي لغفور رحيم‏}‏، فلولا مغفرته لما فرط منكم، ورحمته إياكم، لَما أنجاكم‏.‏ فركبوا مسلمين وساروا‏.‏

‏{‏وهي تجري بهم في موج كالجبال‏}‏، والموج‏:‏ ما يرتفع من الماء عند اضطرابه، أي‏:‏ كل موجة من الطوفان كالجبال في تراكمها وارتفاعها، وما قيل من أن الماء أطبق ما بين السماء والأرض، وكانت السفينة تجري في جوفه، لم يثبت‏.‏ وكيف يكون الموج كالجبال‏؟‏ والمشهور أنه علا شوامخ الجبال، خمسة عشر ذراعاً، وإنْ صح ذلك فلعل ارتفاع الموج كالجبال كان قبل التطبيق‏.‏

‏{‏ونادى نوحٌ ابنَه‏}‏، كان كنعمان‏.‏ وقيل‏:‏ كان لغير رشدة، وهو خطأ؛ لأن الأنبياء عُصمت من أن تزني أزواجهم‏.‏ والمراد بالخيانة في قوله ‏{‏فَخَانَتَاهُمَا‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 10‏]‏‏.‏ في الدين‏.‏ ‏{‏وكان في معزلٍ‏}‏؛ في ناحية، عزل نفسه فيها عن أبيه، أو عن دينه، فقال له أبوه‏:‏ ‏{‏يا بُنيَّ اركب معنا‏}‏ في السفينة، ‏{‏ولا تكن مع الكافرين‏}‏ في الدين أو في الأعتزال عنا، وكان يظنه مؤمناً، لإخفاء كفره‏.‏ ‏{‏قال سآوي إلى جبل يعصمُني‏}‏؛ يمنعني ‏{‏من الماء‏}‏، فلا أغرق، ‏{‏قال لا عاصمَ اليوم من أمر الله إلا من رحم ربي‏}‏ أي‏:‏ إلا الراحم، وهو الله فلا عاصم إلا أرحم الراحمين‏.‏ أو‏:‏ ‏{‏لا عاصم‏}‏؛ لا ذو عصمة إلا من رحم الله، فلا معصوم إلا من رحمه الله‏.‏ فالاستثناء حينئذٍ متصل‏.‏ أو‏:‏ لا عاصم اليوم من أمر الله لكن من رحمه الله فهو المعصوم‏.‏ أو‏:‏ لا ذو عصمة لكن الراحم يعصم من شاء، والاستثناء منقطع‏.‏

‏{‏وحال بينهما الموجُ‏}‏؛ بين نوح وابنه، ‏{‏فكان من المغرَقين‏}‏؛ فصار من المهلكين بالماء‏.‏ رُوي أنه صنع بيتاً من زجاج، وحمل معه طعامه وشرابه، وصعد على وجه الماء فسلط الله عليه البول حتى غرق في بوله، والله تعالى أعلم بشأنه‏.‏

الإشارة‏:‏ إذا دخل العارف في بحر الفناء، وغاب عن حسه ورسمه، واتصل معناه ببحر معاني الأسرار، جرت سفينة فكرته في بحر الذات وأنوار الصفات، فقال لأصحابه‏:‏ اركبوا فيها، بسم الله مجريها ومرساها، إن ربي لغفور رحيم، حيث غطى وصفكم بوصفه، ونعتكم بنعته‏.‏ فوصلكم بما منه إليه، لا بما منكم إليه، فصارت سفن الأفكار تجري بهم في موج كالجبال، وهي تيار بحر الذات‏.‏ فالخمرة الأزلية الخفية الصافية بحر لا ساحل له، وما ظهر من أنوار الصفات أمواجه‏.‏ فأنوار الآثار هي أمواج البحار، وما عظم من أمواجه يسمى التيار، ولذلك قيل‏:‏ العارفون يغرقون في بحر الذات، وتيار الصفات، فتراهم إذا غرقوا في بحر الأسرار وتيار الأنوار، وساروا فيها بمدد أسرارهم، تلاطمت عليهم أمواجه‏.‏ وهي تجري بهم في موج كالجبال، فلا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم، فآواه إلى جبل السنة المحمدية فكان من الناجين‏.‏

وآخرون حال بيهم الموج، فكانوا من المغرقين، فالتبس الأمر عليهم، فقالوا بالحلول والاتحاد، أو نفي الحكمة والأحكام‏.‏ وهذا في حق من ركب بلا رئيس ماهر، وإلا رده إلى سفينة النجاة، وهي‏:‏ التمسك بالشريعة المحمدية في الظاهر، والتحقق بالحقيقة الأصلية‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏بعداً‏)‏‏:‏ منصوب على المصدر، أي‏:‏ أبعَدوا بعداً‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏وقيل‏}‏ أي‏:‏ قال الله‏:‏ ‏{‏يا ارضُ ابلعي ماءك‏}‏ الذي خرج منك، فانفتحت أفواهاً، فرجع إليها ما خرج منها، ‏{‏ويا سماءُ أَقلعي‏}‏‏:‏ أمسكي عن الإمطار‏.‏ رُوي أنها أمطرت من كل موضع‏.‏ فبقي ما نزل منها بحاراً على وجه الأرض‏.‏

قال البيضاوي‏:‏ نوديا بما ينادى به أولو العلم، وأُمرا بما يؤمنون به، تمثيلاً لكمال قدرته، وانقيادهما لما يشاء تكوينه فيهما، بالأمر المطاع، الذي يأمر المنقاد لحكمه، المبادر إلى امتثال أمره، مهابة من عظمته، وخشية من أليم عقابه‏.‏ والبلع‏:‏ النشف، والإقلاع‏:‏ الإمساك‏.‏ ه‏.‏

‏{‏وغيض الماءُ‏}‏؛ نقص ولم ينشف ما خرج منها، ‏{‏وقُضِيَ الأمرُ‏}‏‏:‏ وأنجز ما وعد من إهلاك الكافرين، وإنجاء المؤمنين، ‏{‏واستوتْ‏}‏‏:‏ استقرت السفينة ‏{‏على الجُودي‏}‏؛ جبل بالموصل‏.‏ وقيل‏:‏ بالشام‏.‏ وتقدم أنه نزل يوم عاشوراء، فصامه شكراً‏.‏ وبقي ستة أشهر على الماء‏.‏ ‏{‏وقيل بُعداً للقوم الظالمين‏}‏؛ هلاكاً لهم‏.‏ يقال بعد، إذا بعد بعداً بعيداً، بحيث لا يرجى عوده، ثم استعير للهلاك‏.‏ وخص بدعاء السوء‏.‏

والآية كما ترى في غاية الفصاحة؛ لفخامة لفظها وحسن نظمها، والدلالة على كنه الحال مع الإيجاز الخالي عن الإخلال‏.‏ وإيراد الأخبار على البناء للمفعول دلالة على تعظيم الفاعل، وأنه متعين في نفسه، مستغن عن ذكره، إذ لا يذهب الوهم إلى غيره؛ للعلم به، فإن مثل هذه الأفعال لا يقدر عليها سوى الواحد القهار‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏

فإن قلت‏:‏ قد عم الغرق الدنيا كلها، مع أن دعوة نوح عليه السلام لم تكن عامة، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 15‏]‏ ‏؟‏ فالجواب‏:‏ أن الكفر قد كان عم الموجودين في ذلك الزمان، مع تمكنهم من النظر والاستدلال على الصانع وتوحيده، ومع قدرتهم على الإتيان إلى نوح في أمر الشرائع، فقصروا في الجهتين‏.‏ وأيضاً‏:‏ لم تكن الأرض كلها معمورة بالناس، فكل من كان موجوداً سمع بدعوة نوح فجحدها‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏ وانظر ابن عطية عند قوله‏:‏ ‏{‏واصنعِ الفلك‏}‏‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ إذا توالت على القلب الواردات الإلهية السماوية، والأحوال النفسانية المزعجة، خيف على العقل الاختطاف والاصطدام، فقيل‏:‏ يا أرض النفس ابلعي ماءك واسكني، ويا سماء الواردات أقلعي، وغيض الماء، أي‏:‏ نقص هيجان الحال، وقضي الأمر بالاعتدال، واستوت سفينة الفكرة على جبل العقل، فحاز الشرف والكمال؛ لكونه برزخاً بين بحرين، يعطي الحقيقة حقها والشريعة حقها، فيعطي كل ذي حق حقه، ويوفى كل ذي قسط قسطه‏.‏ وقيل‏:‏ بُعداً لمن تخلف عن هذا المقام، وظلم نفسه بإلقائها في سجن الهوى وغيهب الظلام‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 47‏]‏

‏{‏وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ ‏(‏45‏)‏ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ‏(‏46‏)‏ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏47‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏وإنَّ وعدك‏)‏‏:‏ عطف على ‏(‏إن ابني‏)‏‏.‏ و‏(‏أنت أحكم‏)‏‏:‏ حال من الكاف‏.‏ و‏(‏إني أعظك‏)‏‏:‏ مفعول من أجله، أي‏:‏ كراهية أن تكون من الجاهلين‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏ونادى نوحٌ ربَّه‏}‏ بعد تعميم الغرق، أي‏:‏ أراد النداء بدليل عطف قوله‏:‏ ‏{‏فقال ربِّ إنَّ ابني من أهلي‏}‏، فإنه هو النداء، أو تكون فصيحة، جواباً عن مقدر، كأن قائلاً قال‏:‏ ماذا في ندائه‏؟‏ فقال‏:‏ إن ابني من أهلي وقد وعدتني أن تنجيني وأهلي، ‏{‏وإن وعَدَكَ الحقُّ‏}‏ لا يتطرقه الخلف، فما باله غرِق‏؟‏ ‏{‏وأنت أحكمُ الحاكمين‏}‏؛ لأنك أعلمهم وأعدلهم، فلم أعرف وجه حكمك عليه بالغرق‏.‏ أو لأنك أكثر حكمة من ذوي الحكم، فلم أفهم حكمة غرقه‏.‏

‏{‏قال‏}‏ تعالى‏:‏ ‏{‏يا نوح إنه ليس من أهلك‏}‏؛ لأنه خالفك في الدين، ولا ولاية بين الكافر والمؤمن، ‏{‏إنه عملٌ غير صالح‏}‏ أي‏:‏ ذو عمل فاسد‏.‏ جعل ذاته نفس العمل؛ مبالغةً‏.‏ وقرأ الكسائي ويعقوب‏:‏ ‏(‏عَمِلَ‏)‏ بلفظ الماضي‏.‏ أي‏:‏ عمل عملاً فاسداً‏.‏ استحق به البعد عنك‏.‏ أو‏:‏ إنه أي سؤالك عملٌ غير صالح‏.‏ ويقوي هذا قراءة ابن مسعود‏:‏ «إنه عمل غير صالح أن تسألني ما ليس لك به علم، وقراءة الجماعة‏:‏ ‏{‏فلا تسألن ما ليس لك به علمٌ‏}‏ أصواب هو أم لا، حتى تقف على كنهه‏.‏ وإنما سمي نداءه سؤالاً؛ لتضمنه معنى السؤال، بذكر الوعد واستنجازه واستفسار المانع‏.‏

ثم وعظه بقوله‏:‏ ‏{‏إني أعظُكَ أن تكون من الجاهلين‏}‏ أي‏:‏ إني أعظك؛ كراهة أن تكون من الجاهلين الذين يسألون ما لا يوافق القدر‏.‏ وقد استثنيته بقولي‏:‏ ‏{‏إلا من سبق عليه القول‏}‏‏.‏ وليس فيه وصفه بالجهل، بل وعظه لئلا يقع فيه، والحامل له على السؤال، مع أنه استثنى له؛ غلبة الشفقة على الولد؛ مع كونه لم يتحقق أنه ممن سبق عليه القول‏.‏

‏{‏قال‏}‏ نوح‏:‏ يا ‏{‏رب إني أعوذُ بك أن أسألكَ‏}‏ في المستقبل ‏{‏ما ليس لي به علمٌ‏}‏؛ ما لا علم لي بصحته‏.‏ ‏{‏وإلا تغفرْ لي‏}‏ ما فرط مني من السؤال، ‏{‏وترحمني‏}‏ بالتوبة، تفضلاً وإحساناً، وبالتوفيق والعصمة في المستقبل، ‏{‏أَكُن مِّنَ الخاسرين‏}‏ بسوء أدبي معك‏.‏

الإشارة‏:‏ قال الورتجبي‏:‏ أدَّب نبيه نوحاً عليه السلام بأن لا يسأل إلا ما وافق القدر‏.‏ كل دعاء لم يوافق مراده تعالى في سابق علمه لم يؤثر في مراد الداعي‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إنه عمل غير صالح‏}‏ أي‏:‏ ليس عمله على موافقة السنة، ثم وعظه، وقال‏:‏ ‏{‏إني أعظك أن تكون من الجاهلين‏}‏، الجاهل‏:‏ من جهل قدر الله، أي‏:‏ أنزهك عن سوء الأدب في السؤال، على غير قاعدة مرادك‏.‏ ه‏.‏ وقال في الحكم‏:‏» ليس الشأن وجوب الطلب، وإنما الشأن أن ترزق حسن الأدب «‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏48- 49‏]‏

‏{‏قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏48‏)‏ تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏49‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ «تلك»‏:‏ مبتدأ‏.‏ و«من أنباء»‏:‏ خبر‏.‏ و«نُوحيها»‏:‏ خبر ثان، و«ما كنت تعلمها»‏:‏ خبر ثالث، أو حال من الهاء، أي‏:‏ حال كونها مجهولة عندك وعند قومك‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏قيل يا نوحُ اهبط‏}‏ من السفينة إلى عمارة الأرض ‏{‏بسلامٍ منّا‏}‏، أي‏:‏ متلبساً بسلامة من المكاره، من جهة حفظنا ورعايتنا‏.‏ أو مسلماً عليك‏.‏ ‏{‏وبركات عليك‏}‏؛ وزيادات في نسلك حتى تصير آدماً ثانياً، فالبركة هي‏:‏ الخير النامي‏.‏ أو‏:‏ مباركاً عليك، ‏{‏وعلى أمم ممن معكَ‏}‏ أي‏:‏ هم الذين معك، أو ناشئة ممن معك، فقد تشعبت الأمم ممن معه من ذريته‏.‏ والمراد‏:‏ المؤمنون، بدليل قوله‏:‏ ‏{‏وأمم سنُمتعهم‏}‏ في الدنيا، ونوسع عليهم فيها، ‏{‏ثم يمسُّهُم منا عذابٌ أليم‏}‏ في الآخرة، وهم الكفار ممن نشأ من ذريته‏.‏ وقيل‏:‏ هم قوم هود وصالح ولوط وشعيب، والعذاب‏:‏ ما نزل بهم في الدنيا‏.‏

‏{‏تلك‏}‏ القصة، أو خبر نوح عليه السلام، هي‏:‏ ‏{‏من أنباءِ الغيب‏}‏ أي‏:‏ بعض أخبار الغيب ‏{‏نُوحيها إليك‏}‏؛ لا طريق إلى معرفتها إلا الوحي، ‏{‏ما كنتَ تعلمها أنتَ ولا قومُكَ من قبل هذا‏}‏ الوقت لولا إيحاؤنا إليك بها، فهي من دلائل نبوتك؛ لأنك لم تغب عنهم، ولم تخالط غيرهم، فتعين أنه من عند الله‏.‏ فإن كذبوك ‏{‏فاصبرْ إن العاقبة للمتقين‏}‏ وأنت أعظمهم‏.‏ فالعاقبة لك في الدنيا بالنصر والعز، وفي الآخرة بالرفيق الأعلى‏.‏ أو فاصبر على مشاق التبليغ مع إذاية قومك، كما صبر نوح عليه السلام‏.‏ إن العاقبة للمتقين بالنصر في الدنيا والجنة في الآخرة‏.‏

الإشارة‏:‏ يقال للمريد إذا تمكن من الفناء، وارتفعت فكرته عن عالم الأكوان‏:‏ اهبط إلى مقام البقاء؛ لتقوم بآداب العبودية بعد مشاهدة عظمة الربوبية، انزل إلى سماء الحقوق، أو أرض الحظوظ بالإذن والتمكين، والرسوخ في اليقين، لا بقصد متابعة الشهوة والمتعة‏.‏ اهبط بسلام منا؛ أي‏:‏ بسلامة من الرجوع أو الشقاء‏.‏ وبركات عليك وعلى من تبعك‏.‏ ولذلك قيل‏:‏ من رجع إلى البقاء أمن من الشقاء‏.‏ وأمم قد ضلوا عن متابعتك، سنمتعهم في الدنيا بمتابعة الهوى، ثم يمسهم منا عذاب الحجاب وسوء الحساب‏.‏ تلك الواردات الإلهيةُ نُوحيها إليك، ما كنت تعلمها أيها العارف من قبل هذا، أنت ولا من تبعك، فاصبر؛ فإن الجمال مقرون بالجلال، والعاقبة للمتقين‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏50- 52‏]‏

‏{‏وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ ‏(‏50‏)‏ يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏51‏)‏ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ ‏(‏52‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ «أخاهم»‏:‏ عطف على نوح في قوله‏:‏ ‏(‏ولقد أرسلنا نوحاً‏)‏، و‏(‏هوداً‏)‏‏:‏ بدل‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏و‏}‏ أرسلنا ‏{‏إلى‏}‏ قبيلة ‏{‏عادٍ أخاهم هوداً قال يا قوم اعبدوا الله‏}‏ وحده، ‏{‏ما لكم من إله غيرُهُ‏}‏ يستحق أن يعبد، ‏{‏إن أنتم إلا مُفترون‏}‏ على الله، باتخاذ الأوثان آلهة‏.‏ ‏{‏يا قوم لا أسألكم عليه‏}‏‏:‏ على التبليغ ‏{‏أجراً‏}‏ حتى يثقل عليكم، أو تتهموني لأجله ‏{‏إنْ أجْرِيَ إلا على الذي فطرني‏}‏؛ خلقني‏.‏ بهذا خاطب كل رسول قومَه؛ إزاحةً للتهمة، وتمحيصاً للنصيحة، فإنها لا تنجع ما دامت مشوبة بالمطامع‏.‏ ‏{‏أفلا تعقلون‏}‏‏:‏ أفلا تستعملون عقولكم؛ فتعرفوا المحق من المبطل، والصواب من الخطأ‏.‏

‏{‏ويا قوم استغفروا ربكم‏}‏ من الشرك، ‏{‏ثم توبوا إليه‏}‏، ثم ارجعوا إليه بطاعته فيما أمر ونهى‏.‏ أو‏:‏ ثم توبوا من المعاصي؛ لأن التوبة من الذنوب لا تصح إلا بعد الإيمان، والتطهير من الشرك، ‏{‏يُرسل السماء عليكم مدراراً‏}‏ أي‏:‏ كثير الدر، أي النزول، ‏{‏ويَزدْكُم قوة إلى قوتكم‏}‏‏:‏ يضاعف قوتكم، ويزدكم فيها‏.‏ وإنما دعاهم إلى الله، ووعدهم بكثرة المطر، وأعقم أرحام نسائهم ثلاثين سنة؛ فوعدهم هود عليه السلام على الإيمان والتوبة بالأمطار وتضاعف القوة بالتناسل‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏

وقال ابن جزي‏:‏ وفي الآية دليل على أن التوبة والاستغفار سبب لنزول المطر‏.‏ رُوي‏:‏ أن عاداً كان المطر قد حُبس عنهم ثلاث سنين، فأمرهم بالتوبة والاستغفار، ووعدهم على ذلك بالمطر‏.‏ ه‏.‏ ‏{‏ولا تتولَّوا‏}‏‏:‏ ولا تُعرضوا عما أدعوكم إليه، ‏{‏مجرمين‏}‏؛ مصرين على إجرامكم‏.‏

الإشارة‏:‏ في تكرير القصص والأخبار وَعظ وتذكير لأهل الاعتبار، وزيادة إيقان لأهل الاستبصار، وتهديد وتخويف لأهل الإصرار، وحث على المبادرة إلى التوبة والاستغفار‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه‏}‏، أي‏:‏ استغفروا ربكم من الشرك الخفي، ثم توبوا إليه من النظر إلى وجودكم، ورؤية أعمالكم، يرسل سحاب الواردات الإلهية والعلوم الإلهامية على قلوبكم وأسراركم، مدراراً، ويزدكم قوة في شهود الذات إلى قوتكم في شهود الصفات، ولا تتولوا عن شهوده بشهود أثره، مجرمين معدودين في زمرة المجرمين المصرين على الكبائر، وهم لا يشعرون‏.‏

وقال الورتجبي‏:‏ استغفروا من النظر إلى غيري، وتوبوا إليَّ من نفوسكم، ورؤية طاعتكم وأعواضها، يرسل سماء القدم على قلوبكم مدرار أنوار تجليها، ويزدكم، أي‏:‏ يزد قوة أرواحكم في طيرانها‏.‏ انظر تمامه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏53- 57‏]‏

‏{‏قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آَلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ‏(‏53‏)‏ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آَلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ‏(‏54‏)‏ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ ‏(‏55‏)‏ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏56‏)‏ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ‏(‏57‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏إن نقول إلا اعتراك‏)‏‏:‏ الاستثناء مفرغ، و«اعتراك»‏:‏ مقول لقول محذوف، أي‏:‏ ما نقول إلا قولنا اعتراك، و‏(‏ما من دابة‏)‏‏:‏ «ما» نافية، و«من» صلة و«دابة» مبتدأ مجرور بمن الزائدة، وجملة ‏(‏إلا هو آخذ‏)‏‏:‏ خبر‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ قالوا يا هود ما جئتنا ببينة؛ بمعجزة واضحة تدل على صدق دعواك، وهذا كذب منهم وجحود؛ لفرط عنادهم وعدم اعتدادهم بما جاءهم من المعجزات‏.‏ وفي الحديث «ما مِنْ نَبي إلاَّ أُوتي من المعجزات ما مثلُهُ آمنَ عَليه البشَرُ، وإَنَّما كَانَ الذِي أُوتيتُه وحياً أُوحي إلي، فأرجُوا أن أكُون أكثرهم تَابِعاً يوم القِيَامةِ»‏.‏ كما في الصحيح‏.‏ ويحتمل أن يريدوا‏:‏ ما جئتنا بآية تضطر إلى الأيمان بك، وإن كان قد أتاهم بآية نظرية‏.‏ ولم يذكر في القرآن معجزة معينة لهود عليه السلام، مع الاعتقاد أنه لم يخل من معجزة؛ لما في الحديث‏.‏

ثم قالوا‏:‏ ‏{‏وما نحن بتاركي آلهتنا‏}‏؛ بتاركي عبادتهم ‏{‏عن قولك‏}‏ أي‏:‏ بسبب قولك أو صادرين عن قولك، ‏{‏وما نحن لك بمؤمنين‏}‏ أبداً، وهو إقناط له عن الإجابة والتصديق‏.‏ ‏{‏إن نقول إلا اعتراك‏}‏؛ أصابك ‏{‏بعض آلهتنا بسوء‏}‏؛ بجنون؛ لما سببْتها، ونهيت عن عبادتها، ولذلك صرت تهذو وتتكلم بالخرافات‏.‏

‏{‏قال‏}‏ هود عليه السلام‏:‏ ‏{‏إني أُشهد الله‏}‏ على براءتي من شرككم، ‏{‏واشهدوا أني بريء مما تُشركون من دونه فكيدوني‏}‏ أي‏:‏ اقصدوا كيدي وهلاكي، ‏{‏جميعاً‏}‏، أنتم وشركاؤكم، ‏{‏ثم لا تنظرون‏}‏؛ لا تؤخرون ساعة‏.‏ وهذا من جملة معجزاته، فإن مواجهة الواحد الجم الغفير من الجبابرة، والفتاك العِطاش إلى إراقة دمه، بهذا الكلام، ليس إلا لتيقنه بالله، ومنعُهم من إضراره ليس إلا لعصمته إياه‏.‏ ولذلك عقبه بقوله‏:‏ ‏{‏إني توكلتُ على الله ربي وربكم‏}‏، فهو تقرير له‏.‏ والمعنى‏:‏ أنكم وإن بذلتم غاية وسعكم لم تضروني؛ فإني متوكل على الله، واثق بكلاءته، وهو مالكي ومالككم، لا يحيق بي ما لم يُرده، ولا تقدرون على ما لم يُقدره‏.‏

ثم برهن عليه بقوله‏:‏ ‏{‏ما من دابة إلا هو آخذٌ بناصيتها‏}‏‏:‏ إلا وهو مالك لها، قادرٌ عليها، يصرفها على ما يريد بها‏.‏ والأخذ بالنواصي تمثيل لذلك‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏ وقال ابن جزي‏:‏ أي‏:‏ هي في قبضته وتحت قهره، وهذه الجملة تعليل لقوة توكله على الله، وعدم مبالاته بالخلق‏.‏ ه‏.‏ ‏{‏إن ربي صراط مستقيم‏}‏ أي‏:‏ إنه على الحق والعدل، ولا يضيع عنده معتصم ولا يفوته ظالم‏.‏ وقال في القوت‏:‏ أخبر عن عدله في محله، وقيام حكمته، وأنه وإن كان آخذاً بنواصي العباد في الخير والشر، والنفع والضر؛ لاقتداره، فإن ذلك مستقيم في عدله، وصواب من حكمه‏.‏

ه‏.‏

‏{‏فإن تولَّوا‏}‏ أي‏:‏ فإن تتولوا وتُعرضوا عما جئتكم به، ‏{‏فقد أبلغتُكم ما أرسلتُ به إليكم‏}‏‏.‏ أي‏:‏ فقد أديت ما عليّ من الإبلاغ، فلا تفريط مني، ولا عذر لكم؛ فقد جاءكم النذير، وقامت الحجة عليكم، وما بقي إلا هلاككم‏.‏ ‏{‏ويستخلفُ ربي قوماً غيركم‏}‏ يسكنون دياركم، ويعمرون بلادكم، فإن عتوا وطغوا سلك بهم مسلككم، ‏{‏ولا تضرونَه‏}‏ بتوليكم عن الإيمان به، ‏{‏شيئاً‏}‏ من الضرر‏.‏ أو لا تضرونه شيئاً إذا أهلككم واستخلف غيركم، ‏{‏إن ربي على كل شيء حفيظٌ‏}‏؛ رقيب فلا يخفى عليه أعمالكم، ولا يغفل عن مجازاتكم‏.‏ أو حافظ مستول عليه، فلا يمكن أن يضره شيء‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏

الإشارة‏:‏ ما يقال للأولياء إلا ما قيل للرسل، فإذا توجه العبد إلى مولاه، وسقط على من هو أهل للتربية، وترك ما كان عليه قبل من الانتساب إلى غيره، وخرق عوائد نفسه، أو إصابة شيء من المكاره، قال الناس‏:‏ ما اعتراه إلا بعض الصالحين بسواء، فيقول لهم‏:‏ إني أُشهد الله، واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه‏.‏ فإن أجمعوا على إضراره أو قتله قال لهم‏:‏ فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون‏.‏

‏{‏إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها‏}‏، وأنتم دواب مقهورون تحت قبضة الحق، ‏{‏إن ربي على صراط مستقيم‏}‏؛ لا ينتقم إلا من أهل الانتقام، «من عاد لي ولياً فقد آذنته بالحرب»، فإن ذكرهم بالله ودلهم على الطريق، فكذبوه وأعرضوا عنه، قال‏:‏ عسى أن يذهب بكم، ويستخلف قوماً غيركم، يكونون متوجهين إليه أكثر منكم، ولا تضرونه شيئاً‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏58- 60‏]‏

‏{‏وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ‏(‏58‏)‏ وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ‏(‏59‏)‏ وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ ‏(‏60‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ إنما قال هنا وفي قصة شعيب‏:‏ ‏(‏ولما‏)‏، بالواو، وفي قصة صالح ولوط‏:‏ ‏(‏فلما‏)‏، بالفاء؛ لأن قصة صالح ولوط ذكرهما بعد الوعيد، في الفاء التي تقتضي التسبب، كما تقول‏:‏ وعدته فما جاء الوعيد كان‏.‏‏.‏ الخ، بخلاف قصة هود وشعيب لم يتقدم ذلك فيهما، فعطف بالواو، قاله الزمخشري‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏ولما جاء أمرُنا‏}‏‏:‏ عذابنا، أو أمرنا بالعذاب، ‏{‏نجينا هوداً والذين آمنوا معه برحمة منا‏}‏، وكانوا أربعة آلاف، ‏{‏ونجيناكم من عذابٍ غليظ‏}‏، وهو ريح السموم، وكانت تدخل أنوف الكفرة وتخرج من أدبارهم فتقطع أمعاءهم‏.‏ والتكرير؛ لبيان ما نجاهم منه، وإعلاماً بأنه عذاب غليظ، وتعديداً للنعمة في نجاتهم‏.‏ ويحتمل أن يريد النجاة الأولى‏:‏ من عذاب الدنيا، وهو الريح الذي نزل بقومهم، وبالنجاة الثانية‏:‏ عذاب الآخرة، وهو العذاب الغليظ، ولذلك عطفه على النجاة الأولى التي أراد بها النجاة من الريح‏.‏

‏{‏وتلك عادٌ‏}‏؛ الإشارة إلى القبيلة، أو إلى قبورهم وآثارهم؛ تهويلاً وتهديداً، ‏{‏جحدوا بآيات ر بهم‏}‏؛ كفروا بها، ‏{‏وعَصوا رسله‏}‏، والجمع إما لأنَّ من عصى رسولاً فكأنما عصى الكل؛ لأنهم متفقون في الدعوة، مع أنهم أُمروا بطاعة كل رسول‏.‏ وإمَّا على إرادة الجنس كقولك‏:‏ فلان يركب الخيل، وإن يركب إلا فرساً واحداً‏.‏ ‏{‏واتبعوا أمرَ كل جبارٍ عنيد‏}‏ يعني‏:‏ كبراءهم الطاغين، والعنيد‏:‏ الطاغي، والمعنى‏:‏ عصوا من دعاهم إلى الإيمان وما ينجيهم، وأطاعوا من دعاهم إلى الكفر وما يرديهم، ‏{‏وأُتبعوا في هذه الدنيا لعنةً ويومَ القيامة‏}‏ أي‏:‏ جعلت اللعنة تابعة لهم في الدارين؛ في الدنيا أهلكتهم، وفي الآخرة أحرقتهم‏.‏

‏{‏ألا إن عاداً كفروا ربَّهم‏}‏؛ جحدوه، أو كفروا نعمه‏.‏ وفيه تشنيع لكفرهم وتهويل لأمرهم، بالإتيان بحرف التنبيه، وتكرار اسم عاد؛ ‏{‏ألا بعداً لعادٍ‏}‏ أي‏:‏ هلاكاً لهم، دعا عليهم بالهلاك بعد أن هلكوا؛ للدلالة على أنهم كانوا مستحقين له، مستوجبين لما نزل بهم؛ بسبب ما حكي عنهم‏.‏ وإنما كرر «ألا» وأعاد ذكرهم؛ تفظيعاً لأمرهم، وحثاً على الاعتبار بحالهم‏.‏ ثم بيَّنهم بقوله‏:‏ ‏{‏قوم هود‏}‏‏.‏ فهو عطف بيان لعاد، وفائدته‏:‏ تمييزهم عن عاد الثانية التي هي عاد إرم، والإيمان إلى استحقاقهم للبعد، بما جرى بينهم وبينه‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏

الإشارة‏:‏ من أراد سلامة الدارين والظفر بقرة العين، فليتمسك بالإيمان بالله، وبكل رسول أتى من عند الله، وليتبع من يدعو إلى الله‏.‏ وهم أهل المحبة والوداد، السالكون مناهج الرشاد والسداد‏.‏ وليتجنب كل جبار عنيد، وهو‏:‏ كل من يحول بينك وبين الله، ويغفلك عن ذكر الله‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏(‏أَلا بُعداً لعاد‏)‏ وأخواتها، فيها تخويف لأهل القرب والوصال‏.‏

قال في الإحياء‏:‏ ولخصوص المحبين مخاوف في مقام المحبة، ليست لغيرهم، وبعض مخاوفهم أشد من بعض، فأولها‏:‏ خوف الإعراض، وأشد منه‏:‏ خوف الحجاب، وأشد منه خوف الإبعاد، وهذا المعنى من سورة هود هو الذي شيب سيد المحبين، أنه سمع‏:‏ ‏(‏ألا بُعداً لعاد‏)‏، ‏(‏ألا بُعداً لمدين‏)‏، وإنما تعظم هيبةُ البُعد وخوْفُه في قلب من ألف القرب وذاقه، وتنعَّم به‏.‏ ثم قال‏:‏ ثم خوف الوقوف وسلب المزيد، فإنا قَدَّمنا‏:‏ أن درجات القرب لا نهاية لها‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏61- 63‏]‏

‏{‏وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ ‏(‏61‏)‏ قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ‏(‏62‏)‏ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ ‏(‏63‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ قال الشطيبي‏:‏ صالح‏:‏ هو ابن عبيد بن عابرَ بن أرْفَخْشد بن سام بن نوح‏.‏ وثمود هم أولاد ثمود بن عوص بن عاد بن إرم بن سام بن نوح‏.‏ ه‏.‏ وفيه نظر؛ فقد ذكر البيضاوي في سورة الأعراف أن بين صالح ونوح تسعة أجداد، فانظره‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏و‏}‏ أرسلنا ‏{‏إلى ثمودَ أخاهم صالحاً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيرُه هو أنشأكم من الأرض‏}‏ كونكم من الأرض؛ لأنه خلق آدم منها، والنطف التي هي مواد نسله أصها منها، ‏{‏واستعمركم‏}‏؛ عمركم ‏{‏فيها‏}‏ وجعلكم تعمرونها بعد من مضى قبلكم، ثم تتركونها لغيركم‏.‏ أو استبقاكم فيها مدة أعماركم، ثم ترحلون عنها‏.‏ ‏{‏فاستغفروه ثم توبوا إليه، أن ربي قريبٌ‏}‏ من كل شيء ‏{‏مجيبٌ‏}‏ لمن دعاه‏.‏

‏{‏قالوا يا صالحُ قد كنت فينا مرجُواً قبل هذا‏}‏ أي‏:‏ كنا نرجو أن ننتفع بك؛ لما نرى فيك من مخايل الرشد والسداد، فتكون لنا سيداً، أو مُستشاراً في الأمور، وإن توافقنا على ديننا، فلما سمعنا هذا القول منك انقطع رجاؤنا منك؛ ‏{‏أتنهانا أن نعبدَ ما يعبد آباؤنا‏}‏ قبلنا لتصرفنا عن ديننا، ‏{‏وإننا لفي شكٍّ مما تدعونا إليه‏}‏ من التوحيد، والتبري من الأوثان‏.‏ ‏{‏مُريب‏}‏‏:‏ موقع في الريبة؛ مبالغة في الشك، ‏{‏قال يا قوم أرأيتُم إن كنتُ على بينة‏}‏؛ طريقة واضحة ‏{‏من ربي‏}‏ وبصيرة نافذة منه، ‏{‏وآتاني منه رحمةٌ‏}‏‏:‏ نبوة، ‏{‏فمن ينصرني من الله‏}‏؛ من يمنعني من عذابه ‏{‏إن عصيته‏}‏ وأطعتكم في ترك التبليغ، وموافقتكم في الدين الفاسد، ‏{‏فما تزيدونني‏}‏ باستتباعكم ‏{‏غير تَخسير‏}‏ بترك ما منحني الله به، والتعرض لغضبه، أو فما تزيدونني بما تقولون لي غير تخسير لكم؛ لأنه يجركم إلى الخسران‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ كل من وجهه الحق تعالى يدعو إلى الله فإنما يدعو إلى خصلتين‏:‏ إفراد الحق بنعوت الألوهية، والقيام بوظائف العبودية؛ شكراً لنعمة الإيجاد، وتوالي الإمداد‏.‏ فقول صالح عليه السلام‏:‏ ‏{‏اعبدوا الله ما لكم من إله غيره‏}‏، هذا إفراد الحق بالربوبية، وقوله‏:‏ ‏{‏هو أنشأكم من الأرض‏}‏، هذه نعمة الإيجاد‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏واستعمركم فيها‏}‏ هي‏:‏ نعمة الإمداد، وقوله‏:‏ ‏{‏فاستغفروه ثم توبوا إليه‏}‏، وهو القيام بوظائف العبودية؛ شكراً لتلك النعمتين‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏إن ربي قريب مجيب‏}‏‏:‏ ترهيب وترغيب‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجواً قبل هذا‏}‏‏:‏ يؤخذ من الآية‏:‏ أن شُعاع الخصوصية، وآثارها، تظهر على العبد قبل شروق أنوارها، وهو جار في خصوص النبوة والولاية، فلا تظهر على العبد في الغالب حتى يتقدمها آثار وأنوار، من مجاهدة أو أنس، أو اضطرار أو انكسار، أوعِرْق طيب‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏ وكل من واجهه منهم تكذيب أو إنكار يقول‏:‏ ‏{‏أرأيتم إن كنتُ على بينة من ربي‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏64- 68‏]‏

‏{‏وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ ‏(‏64‏)‏ فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ‏(‏65‏)‏ فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ‏(‏66‏)‏ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ‏(‏67‏)‏ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ ‏(‏68‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ «آية»‏:‏ نصبت على الحال، والعامل فيها‏:‏ معنى الإشارة‏.‏ و‏(‏لكم‏)‏‏:‏ حال منها، تقدمت عليها لتنكيرها‏.‏ و‏(‏من خزي يومئذٍ‏)‏ حذف المعطوف، أي‏:‏ ونجيناهم من خزي يومئذٍ، ومن قرأ بكسر الميم أعربه، ومن قرأ بالفتح بناه؛ لاكتساب المضاف البناء من المضاف إليه‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏ وقال في الألفية‏:‏

وابْن، أَو اعربْ ما كَإِذْ قَدْ أُجرِيا *** واختَرْ بنَا متَلُو فعْل بُنيا

وقَبل فعْل معرب أو مُبْتَدأ *** أعربْ، ومنْ بَنَى فَلَنْ يُفنَّدا

وثمود‏:‏ اسم قبيلة، يصح فيه الصرف باعتبار الحي أو الأب الأكبر، وعدمه باعتبار القبيلة‏.‏ وقد جاء بالوجهين في هذه الآية‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ قال صالح لقومه بعد ظهور آية الناقة، وقد تقدم في الأعراف قصتها‏:‏ ‏{‏هذه ناقةُ الله لكم آيةً‏}‏ تدل على صدقي، ‏{‏فذرُوها تأكل في أرض الله‏}‏؛ أي‏:‏ ترعى نباتها وتشرب ماءها، ‏{‏ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذابٌ قريب‏}‏‏:‏ عاجل، لا يتأخر عن مسكم لها بالسوء إلا ثلاثة أيام‏.‏ ‏{‏فعقروها‏}‏ وقسموا لحمها؛ ‏{‏فقال‏}‏ لهم‏:‏ ‏{‏تمتعوا‏}‏‏:‏ عيشوا ‏{‏في داركم‏}‏؛ منازلكم ‏{‏ثلاثة ايام‏}‏؛ الأربعاء والخميس والجمعة‏.‏ وقيل‏:‏ عقروها يوم الأربعاء، وتأخروا الخميس والجمعة والسبت، وهلكوا يوم الأحد‏.‏ ‏{‏ذلك وعدٌ غيرُ مكذوب‏}‏ فيه «، بل هو حق‏.‏

‏{‏فلما جاء أمرْنا‏}‏‏:‏ عذابنا، أو أمرنا بهلاكهم، ‏{‏نجينا صالحاً والذين آمنوا معه‏}‏، قيل‏:‏ كانوا ألفين وثمانمائة رجل وامرأة‏.‏ وقيل أربعة آلاف، وقال كعب‏:‏ كان قوم صالح أربعة عشر ألفاً، سوى النساء والذرية، ولقد كان قوم عاد مثلهم ست مرات‏.‏ انظر القرطبي‏.‏ قلت‏:‏ وقول كعب‏:‏ كان قوم صالح‏.‏‏.‏‏.‏ الخ، لعله يعني الجميع‏:‏ من آمن ومن لم يؤمن، فآمن ألفان وثمانمائة، وهلك الباقي‏.‏ وكذا هود، أسلم أربعة آلاف، وهلك الباقي‏.‏

قال تعالى‏:‏ فنجينا ‏{‏صالحاً‏}‏ ومن معه ‏{‏برحمة منا‏}‏؛ ونجيناهم ‏{‏من خِزْي يؤمئذٍ‏}‏ وهو‏:‏ هلاكهم بالصيحة، أو من هوان يوم القيامة، ‏{‏إن ربك هو القوي العزيز‏}‏؛ القادر على كل شيء، الغالب عليه، ‏{‏وأخذ الذين ظلموا الصيحةُ فأصبحوا في ديارهم جاثمين‏}‏؛ باركين على ركبهم ميتين، ‏{‏كأن لم يغنوا‏}‏‏:‏ يعيشوا، أو يقيموا ‏{‏فيها‏}‏ ساعة، ‏{‏ألا إن ثمودَ كفروا ربهم‏}‏؛ جحدوه، ‏{‏أَلا بُعْداً لثمود‏}‏؛ هلاكاً وسحقاً لهم‏.‏

الإشارة‏:‏ ما رأينا أحداً ربح من ولي وهو يطلب منه إظهار الكرامة، بل إذا أراد الله أن يوصل عبداً إليه كشف له عن سر خصوصيته، بلا توقف على كرامة‏.‏ وقد يظهرها الله له بلا طلب؛ تأييداً له، وزيادةً في إيقانه، فإن طلب الكرامة، وظهرت له، ثم أعرض عنه، فلا أحد أبعدُ منه‏.‏ قال تعالى، في حق من رأى المعجزة ثم أعرض‏:‏ ‏{‏ألا بعداً لثمود‏}‏‏.‏ وبالله التوفيق

تفسير الآيات رقم ‏[‏69- 73‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ ‏(‏69‏)‏ فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ ‏(‏70‏)‏ وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ‏(‏71‏)‏ قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ ‏(‏72‏)‏ قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ‏(‏73‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ «سلاماً»‏:‏ منصوب على المصدر، أي‏:‏ سلمنا سلاماً‏.‏ ويجوز نصبه بقالوا؛ لتضمنه معنى ذكروا‏.‏ ‏(‏قال سلام‏)‏‏:‏ إما خبر، أي‏:‏ أمرنا سلام، أو جواب سلام، وإما مبتدأ، أي‏:‏ عليكم سلام‏.‏ وكسر السين‏:‏ لغة، وإنما رفع جوابه ليدل على ثبوت سلامة؛ فيكون قد حياهم بأحسن مما حيوه به‏.‏ ‏(‏فما لبث أن جاء‏)‏؛‏.‏ «ما»‏:‏ نافية و«أن جاء»‏:‏ فاعل «لبث»‏.‏ ونكر وأنكر بمعنى واحد‏.‏ والإيجاس‏:‏ الإدراك أو الإضمار‏.‏ و‏(‏من وراء إسحاق يعقوب‏)‏‏:‏ من قرأ بالنصب فبفعل دل عليه الكلام، أي‏:‏ ووهبنا لها يعقوب‏.‏ ومن رفعه فمبتدأ، أي‏:‏ ويعقوب مولود من بعده‏.‏ و‏(‏شيخاً‏)‏‏:‏ حال، والعامل فيه‏:‏ الإشارة، أي‏:‏ أشير إليه شيخاً‏.‏ و‏(‏أهل البيت‏)‏‏:‏ نصب على المدح والاختصاص، أو على النداء‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏ولقد جاءت رسُلنا إبراهيمَ‏}‏، وهم الملائكة، وقيل‏:‏ ثلاثة جبريل وميكائيل وإسرافيل‏.‏ وقيل‏:‏ تسعة جاؤوه ‏{‏بالبُشرى‏}‏؛ بالولد‏.‏ فلما دخلوا عليه ‏{‏قالوا سلاماً‏}‏ أي‏:‏ سلمنا عليك سلاماً، أو ذكروا سلاماً، ‏{‏قال سلام‏}‏ أي‏:‏ عليكم سلام، ‏{‏فما لبثَ‏}‏ أي‏:‏ أبطأ، ‏{‏أن جاء بعجل حَنيذ‏}‏؛ مشوي بالرضف، أي‏:‏ بالحجر المحمي‏.‏ وقيل‏:‏ حنيذ بمعنى يقطر ودكه‏.‏ كقوله‏:‏ ‏{‏بِعِجْلٍ سَمِينٍ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 26‏]‏، فامتنعوا من أكله، ‏{‏فلما رأى أيديَهم لا تصل إليه‏}‏؛ لا يمدون إليه أيديهم، ‏{‏نَكرهم‏}‏ أي‏:‏ أنكر ذلك منهم، ‏{‏وأوجس‏}‏‏:‏ أدرك، أو أضمر ‏{‏منهم خفيةً‏}‏ أي‏:‏ خوفاً، خاف أن يريدوا به مكروهاً؛ لامتناعهم من طعامه، وكان من عادتهم إذا مس من يطرقهم طعامهم أمنوه، وإلا خافوه‏.‏

والظاهر أنه أحسن بأنهم ملائكة ونكرهم؛ لأنه تخوف أن يكون نزولهم لأمر أنكره الله عليه فأمنوه، وقالوا‏:‏ ‏{‏لا تخفْ إنا‏}‏ ملائكة ‏{‏أرسلنا إلى قوم لوطٍ‏}‏ لنعذبهم، وإنما لم نأكل طعامك؛ لأنا لا نأكل الطعام‏.‏ ‏{‏وامرأته قائمة‏}‏ من وراء ستر تسمع محاورتهم، أو على رؤوسهم للخدمة، ‏{‏فضحكتْ‏}‏ سروراً بزوال الخيفة، أو بهلاك أهل الفساد، أو بإصابة رأيها، فإنها كانت تقول لإبراهيم‏:‏ اضمم إليك لوطاً، فإني لأعلم أن العذاب نازل بهؤلاء القوم‏.‏ وقيل‏:‏ معنى ضحكت‏:‏ حاضت‏.‏ يقال‏:‏ ضحكت الشجرة‏:‏ إذا سال صَمغُها‏.‏ وقيل‏:‏ ضحكت سروراً بالولد الذي بُشرت به‏.‏ فيكون في الكلام تقديم وتأخير، أي‏:‏ فبشرناها فضحكت، وهو ضعيف‏.‏

قال تعالى ‏{‏فبشرناها بإسحاقَ ومن وراء إسحاق يعقوبَ‏}‏ ولد ولدها‏.‏ وتوجيه البشارة إليها؛ لأنه من نسلها، ولأنها كانت عقيمة حريصة على الولد، ‏{‏قالت يا ويلتا‏}‏؛ يا عجباً، وأصله في الشر، فأطلق على كل أمر فظيع‏.‏ وقرئ بالياء على الأصل، أي‏:‏ يا ويلتي ‏{‏أألدُ وأنا عجوزٌ‏}‏ ابنة تسعين، أو تسع وتسعين ‏{‏وهذا بَعْلِي‏}‏‏:‏ زوجي، وأصله‏:‏ القائم بالأمر، ‏{‏شيخاً‏}‏؛ ابن مائة أو مائة وعشرين سنة، ‏{‏إنَّ هذا لشيء عجيب‏}‏ يتعجب منه؛ لكونه نشأ الولد من هرمين‏.‏

وهو استغرب من حيث العادة، لا من حيث القدرة، ولذلك قالوا‏:‏ ‏{‏أتعجبينَ من أمر الله‏}‏؛ منكرين عليها، فإن خوارق العادات باعتبار أهل بيت النبوة، ومهبط الوحي ومظهر المعجزات‏.‏ وتخصيصهم بمزيد النعم والكرامات ليس ببدع، ولذلك قالوا‏:‏ ‏{‏رحمةُ الله وبركاته عليكم أهل البيت‏}‏ أي‏:‏ بيت إبراهيم، فلا تستغرب ما يظهر منهم من خوارق العادات، ولا سيما من نشأت وشابت في ملاحظة الآيات، ‏{‏إنه‏}‏ تعالى ‏{‏حميدٌ‏}‏؛ فاعل ما يستوجب به الحمد، أو محمود على كل حال ‏{‏مجيد‏}‏؛ كثير الخير والإحسان‏.‏ أو ممجَّد بمعنى العلو والشرف التام‏.‏ قال ابن عطية هنا‏:‏ إن في الآية دليلاً على ان الذبيح إسماعيل لا إسحاق‏.‏ وفيه نظر‏.‏ وسيأتي في سورة الصافات ما هو الحق، إن شاء الله تعالى‏.‏

الإشارة‏:‏ من شأن أهل الكرم والامتنان‏:‏ المبادرة إلى من أتاهم بالبر والإحسان؛ إما بقوت الأرواح، أو بقوت الأشباح‏.‏ من أتاهم لقوت الأرواح بادروه بإمداد الروح من اليقين والمعرفة، ومن أتاهم لقوت الأشباح بادروه بالطعام والشراب، كُلاً ما يليق به، ومن شأن الضيف اللبيب المبادرة إلى أكل ما قُدِّمَ إليه، من غير اختبار، إلا لمانع شرعي أو عادي‏.‏ ومن شأن أهل التحقيق والتصديق ألا يتعجبوا مما يظهر من القدرة من الخوارق؛ إذ القدرة صالحة لكل شيء، حاكمة على كل شيء، هي تحكم على العادة، لا العادة تحكم عليها‏.‏ وهذا شأن الصديقين؛ لا يتعجبون من شيء؛ ولا يستغربون شيئاً، ولذلك توجه الإنكار إلى سارة من الملائكة، ولم يتوجه إلى مريم؛ حيث سألت؛ استفهاماً، ولم تتعجب، ووصفت بالصديقية دون سارة‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏74- 76‏]‏

‏{‏فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ ‏(‏74‏)‏ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ ‏(‏75‏)‏ يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آَتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ ‏(‏76‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ «لما»‏:‏ حرف وجود لوجود، تفتقر للشرط والجواب‏.‏ فشرطها‏:‏ «ذهب»، وجوابها‏:‏ محذوف أي‏:‏ جعل يجادلنا‏.‏ والتأوه‏:‏ التفجع والتأسف، ومنه قول الشاعر‏:‏

إِذا ما قمتُ أرحَلُهَا بليلٍ *** تأوّهُ آهةَ الرجل الحزين

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏فلما ذهب عن إبراهيمَ الرَّوعُ‏}‏، وهو ما أوجس في نفسه من الخيفة، ‏{‏وجاءته البشرى‏}‏ بدل الروع، جعل ‏{‏يُجادلنا‏}‏ أي‏:‏ يخاصم رسلنا ‏{‏في‏}‏ شأن ‏{‏قوم لوطٍ‏}‏، ويدفع عنهم، قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 32‏]‏، ‏{‏إنَّ إبراهيمَ لحليمٌ‏}‏، غير عجول من الانتقام إلى من أساء اليه‏.‏ ‏{‏أواهٌ‏}‏؛ كثير التأوه والتأسف على الناس، ‏{‏منيب‏}‏، راجع إلى الله‏.‏ والمقصود من ذلك‏:‏ بيان الحامل له على المجادلة، وهي‏:‏ رقة قلبه وفرط ترحمه‏.‏ قال تعالى على لسان الملائكة‏:‏ ‏{‏يا إبراهيمُ أعرضْ عن هذا‏}‏، الجدال؛ ‏{‏إنه قد جاء أمرُ ربك‏}‏ بهلاكهم، ونفذ قضاؤه الأزلي فيهم، ولا مرد لما قضى، ‏{‏وإنهم آتيهم عذاب غير مردود‏}‏؛ غير مصروف بجدال ولا دعاء، ولا غير ذلك‏.‏

الإشارة‏:‏ قال الورتجبي‏:‏ قوله تعالى ‏{‏إن أبراهيم لحليم أواه‏}‏؛ حليم بأنه كان لا يدعو على قومه، بل قال ‏{‏فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 36‏]‏ وتأوه زفرة قلبه من الشوق إلى جمال ربه، هكذا وصْف العاشقين‏.‏ ثم قال‏:‏ ومجادلته كمال الانبساط، ولم يكن جهلاً، ولكن كان مُشفقاً، باراً كريماً، رأى مكانة نفسه في محل الخلة والاصطفائية القديمة، وهو تعالى يُحب غضب العارفين، وتغير المحبين، ومجادلة الصديقين، وانبساط العاشقين حتى يحثهم على ذلك‏.‏

وفي الحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لما أُسري بي رأيت رجلاً في الحضرة يتذمر، فقلت لجبريل‏:‏ من هذا‏؟‏ فقال‏:‏ أخوك موسى يَتَذَمَّرُ عَلَى ربهِ أي‏:‏ يجترئ عليه انبساط فقلت‏:‏ وهل يليق له ذلك‏؟‏ فقال‏:‏ يعرفه؛ فيتحمل عنه» ثم قال‏:‏ ولا يجوز الانبساط إلا لمن كان على وصفهم‏.‏ ه‏.‏ قال في الصحاح‏:‏ يَتَذَمَّرُ على فلان‏:‏ إذا تَنَكَّرَ له وأَوعَدَهُ‏.‏ قاله المحشي‏.‏

والحاصل أن إبراهيم عليه السلام حملته الشفقة والرحمة، حتى صدر، منه ما صدر مع خلته واصطفائيته، فالشفقة والرحمة من شأن الصالحين والعارفين المقربين، غير أن العارفين بالله مع مراد مولاهم، يشفقون على عباد الله، ما لم يتعين مراد الله، فالله أرحم بعباده من غيره‏.‏ ولذلك قال لخليله، لما تعين قضاؤه‏:‏ ‏{‏يا أبراهيم أعرض عن هذا‏}‏‏.‏ فالشفقة التي تؤدي إلى معارضة القدر لا تليق بأهل الأقدار، وفي الحكم «ما ترك من الجهل شيئاً من أراد أن يحدث في الوقت غير ما أظهره الله»‏.‏ ولهذا قالوا‏:‏ الشفقة لا تليق بالأولياء‏.‏

قال جعفر الصادق رحمه الله‏:‏ ست خصال لا تحس بستة رجال‏:‏ لا يحسن الطمع في العلماء، ولا العجلة في الأمراء، ولا الشح في الأغنياء، ولا الكبر في الفقراء، ولا الشفقة في المشايخ، ولا اللؤم في ذوي الأحساب‏.‏ وقولنا‏:‏ الشفقة لا تليق بالأولياء، يعني إذا تعين مراد الله، أو إذا ظهرت المصلحة في عدمها، كأمر الشيخ المريد بما تموت به نفسه، فإذا كان الشيخ يحن على الفقراء في هذا المعنى لا تكمل تربيته‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏77- 83‏]‏

‏{‏وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ ‏(‏77‏)‏ وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ ‏(‏78‏)‏ قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ ‏(‏79‏)‏ قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آَوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ‏(‏80‏)‏ قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ‏(‏81‏)‏ فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ ‏(‏82‏)‏ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ‏(‏83‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏سيء‏)‏‏:‏ مبني للمفعول، صلة‏:‏ سَوِئ، نُقلت حركة الواو إلى السين بعد ذهاب حركتها، ثم قلبت الولو ياء‏.‏ و‏(‏ذرعاً‏)‏‏:‏ تمييز محول عن الفاعل، أي‏:‏ ضاق ذرعه، وهو كناية عن شدة الانقباض عن مدافعة الأمر المكروه، وعجزه عن مقاومته‏.‏ و‏(‏لو أن لي بكم قوة‏)‏‏:‏ إما للتمني فلا جواب له، أو محذوف، أي‏:‏ لدفعت‏.‏

وفي ‏(‏أَسْرَ‏)‏ لغتان‏:‏ قطع الهمزة من الإسراء، ووصلها من السُّرى، وقرئ بهما معاً، و‏(‏إلا امرأتك‏)‏ الرفع؛ بدل من ‏(‏أحد‏)‏، وبالنصب؛ منصوب بالاستثناء من ‏(‏فأسر بأهلك‏)‏‏.‏ ومنشأ القراءتين‏:‏ هل أخرجها معه، فالتفتت أم لا‏؟‏ فمن رفع ذهب إلى أنه أخرجها‏.‏ ومن نصب ذهب إلى أنه لم يسر بها، وهما روايتان‏.‏

يقول الحق جلاله‏:‏ ‏{‏ولما جاءت رسلُنا‏}‏، وهم الملائكة المتقدمون، ‏{‏لوطاً سِيءَ بهم‏}‏ ساءه مجيئهم؛ لأنهم أتوه في صورة غلمان حسان الوجوه، فظن أنهم بشر، فخاف عليهم من قومه أن يقصدوهم للفاحشة، ولا يقدر على مدافعتهم، ‏{‏وضاقَ بهم ذرعاً‏}‏ أي‏:‏ ضاق صدره بهم، ‏{‏وقال هذا يومٌ عصيبٌ‏}‏‏:‏ شديد من عصبه‏:‏ إذا شده، ورُوي أن الله تعالى قال لهم‏:‏ لا تهلكوا قومه حتى يشهد عليهم لوط أربع شهادات، فلما مشى معهم منطلقاً بهم إلى منزله، قال لهم‏:‏ أما بلغكم أمر هذه القرية‏؟‏ قالوا‏:‏ وما أمرهم‏؟‏ قال‏:‏ أشهد بالله أنها شرُّ قرية في الأرض عملاً‏.‏ قال ذلك أربع مرات‏.‏ فدخلوا منزله، ولم يعلم بذلك أحد، فخرجت امرأته فأخبرتهم، ‏{‏وجاءه قومُه يُهرَعُون‏}‏؛ يُسرعون ‏{‏إليه‏}‏ كأنهم يُدفعون إليه دفعاً، لطلب الفاحشة من أضيافه‏.‏ ‏{‏ومن قبل‏}‏ ذلك الوقت ‏{‏كانوا يعملون السيئات‏}‏؛ الفواحش، كاللواطة، وغيرها، مستمرين عليها مجاهرين بها، حتى لم يستحيوا وجاؤوا يهرعون إليها‏.‏

‏{‏قال يا قوم هؤلاء بناتي‏}‏ تزوجوهن، وكانوا يطلبونهن قبل، فلا يجيبهم لخبثهم، وعدم كفاءتهم، لا لحرمة المسلمات على الكفار، فإنه شرع طارئ؛ قال ابن جزي‏:‏ وإنما قال لهم ذلك؛ ليقي أضيافه ببناته‏.‏ قيل‏:‏ إن اسم بناته، الواحدة‏:‏ ريثا، والأخرى‏:‏ غوثاً‏.‏ ه‏.‏ ولم يذكر الثالثة، فعرضهن عليهم، وقال‏:‏ ‏{‏هنَّ أطهرُ لكم‏}‏؛ أحل لكم، أو أقل فحشاً، كقولك‏:‏ الميتة أطيب من المغضوب، ‏{‏فاتقوا الله‏}‏ بترك الفواحش، ‏{‏ولا تُحزون‏}‏؛ لا تفضحوني ‏{‏في ضيفي‏}‏؛ في شأنهم، فإن افتضاح ضيف الرجل خزي له‏.‏ ‏{‏أليس منكم رجلٌ رشيدٌ‏}‏؛ عاقل يهتدي إلى الحق ويرعوي عن القبيح‏.‏

‏{‏قالوا لقدْ علمتَ ما لنا من بناتك من حقٍّ‏}‏؛ من حاجة، ‏{‏وإنك لتعلم ما نُريد‏}‏ وهو إتيان الذكران، ‏{‏قال لو أن لي‏}‏؛ ليت لي ‏{‏بكم قوةً‏}‏ طاقة على دفعكم بنفسي، ‏{‏أو آوي إلى ركن شديد‏}‏؛ أو ألجأ إلى أصحاب أو عشيرةٍ يحمونَني منكم، شبه ما يتمتع بهم بركن الجبل في شدته، قال صلى الله عليه وسلم

«رَحِمَ اللَّهُ أَخي لُوطاً لقد كَانَ يأوي إِلى رُكنٍ شَديدٍ» يعني‏:‏ الله تعالى‏.‏

رُوي أنه أغلق بابه دون أضيافه، وأخذ يجادلهم من وراء الباب، فتسوروا الجدار، فلما رأت الملائكة ما على لوط من الكرب، ‏{‏قالوا يا لوطُ إنا رُسلُ ربك لن يصلُوا إليك‏}‏‏:‏ لن يصلوا إلى إضرارك بإضرارنا، فهو عليك ودَعْنا وإياهم‏.‏ فخلاهم، فلما دخلوا ضرب‏.‏ جبريل عليه السلام بجناحيه وجوههم، فطمس أعينهم، وأعمالهم، فخرجوا يقولون‏:‏ النجاء؛ النجاء في بيت لوط سحرة، فقالت الملائكة للوط عليه السلام‏:‏ ‏{‏فأسرٍ بأهلك‏}‏؛ سِر بهم ‏{‏بقطع من الليل‏}‏‏:‏ بطائفة منه، ‏{‏ولا يلتفت منكم أحدٌ‏}‏‏:‏ لا يتخلف، أو لا ينظر إلى ورائة؛ لئلا يرى ما يهوله‏.‏ والنهي في المعنى يتوجه إلى لوط، وإن كان في اللفظ مسنداً إلى أحد‏.‏

‏{‏إلا امرأتك‏}‏، اسمها‏:‏ واهلة، أي‏:‏ فلا تسر بها، أو‏:‏ ولا ينظر أحد منكم إلى ورائه إلا امرأتك؛ فإنها تنظر‏.‏ رُوي أنها خرجت معه، فلما سمعت صوات العذاب التفتت وقالت‏:‏ يا قوماه؛ فأدركها حجر فقتلها، ولذلك قال‏:‏ ‏{‏أنه مُصيبُها ما أصابهم‏}‏ من العذاب، ‏{‏إن موعدَهُم‏}‏ وقت ‏{‏الصُّبحُ‏}‏ في نزول العذاب بهم، فاستبطأ لوط وقتَ الصبح، وقال‏:‏ هلا عُذبوا الأن‏؟‏ فقالوا‏:‏ ‏{‏أليس الصبح بقريب‏}‏‏.‏

‏{‏فلما جاء أمرنا‏}‏؛ عذابنا، أو أمرنا به، ‏{‏جعلنا‏}‏ مدائنهم ‏{‏عاليَها سافلَها‏}‏، رُوي أن جبريل عليه السلام أدخل جناحه تحت مدائنهم، ورفعها إلى السماء، حتى سمع أهل السماء نباح الكلاب، وصياح الديكة، ثم قلبها بهم‏.‏

‏{‏وأمطرنا عليهم‏}‏؛ على المدائن، أي‏:‏ أهلها، أو على ما حولها‏.‏ رُوي أنه من كان منهم خارجَ المدائن أصابته الحجارة من السماء، وأما من كان في المدائن، فهلك لمّا قلبت‏.‏ فأرسلنا عليهم‏:‏ ‏{‏حجارة من سجيل‏}‏‏:‏ من طين طبخ بالنار، أو من طين متحجر كقوله‏:‏ ‏{‏حِجَارَةً مِّن طِينٍ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 33‏]‏، وأصلها‏:‏ سنكِين، ثم عرب، وقيل‏:‏ إنه من أسجله إذا أرسله، أي‏:‏ من مثل الشيء المرسل، وقيل‏:‏ أصله من سجين، أي جهنم، ثم أبدلت نونه لاماً، ‏{‏منضود‏}‏‏:‏ مضموم بعضه فوق بعض، معداً لعذابهم، أو متتابع يتبع بعضه بعضاً في الإرسال، كقطر الأمطار‏.‏

‏{‏مُسَوّمةً‏}‏ أي‏:‏ معلمة للعذاب، وقيل‏:‏ معلمة ببياض وحمرة، أو بسيما تتميز به عن حجارة الأرض، أو باسم من يرمي به؛ فكل حجارة كان فيها اسم من ترمى به، وقوله‏:‏ ‏{‏عند ربك‏}‏، أي‏:‏ في خزائن علمه وقدرته، ‏{‏وما هي من الظالمين ببعيد‏}‏ بل هي قريبة من كل ظالم‏.‏

قال ابن جزي‏:‏ الضمير للحجارة، والمراد بالظالمين‏:‏ كفار قريش، فهذا تهديد لهم، أي‏:‏ ليس الرمي بالحجارة ببعيد منهم؛ لأجل كفرهم، وقيل‏:‏ الضمير للمدائن، أي‏:‏ ليس مدائنهم ببعيد منهم؛ أفلا يعتبرون بها‏.‏ كقوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى القرية التي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السوء‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 40‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ الظالمين على العموم‏.‏ ه‏.‏ وقال البيضاوي‏:‏ وعنه عليه الصلاة والسلام‏:‏ «أَنَّهُ سَأَلَ جِبريل، فَقَال» يَعني‏:‏ ظَالِمي أُمتِكَ، مَا مِنْ ظَالمٍ منهم؛ إِلاَّ هوَ معرض لحَجَرٍ يَسقُط مَنْ سَاعَةٍ إلى ساعة «

ه‏.‏ الإشارة‏:‏ الاعتناء بشأن الأضياف، وحفظ حرمتهم‏:‏ من شأن الكرام، والاستخفاف بحقهم، والتجاسر عليهم، من فعل اللئام‏.‏ وفي الحديث‏:‏» مَن كَانَ يُؤمِنُ باللَّهِ واليَومِ الآخر فَليُكرمْ ضَيفَهُ «والإسراع إلى الفواحش من علامة الهلاك، لا سيما اللواطَ والسفاح‏.‏ والإيواء إلى الله والاعتصام به من علامة الفلاح، والبعد عن ساحة أهل الفساد من شيم أهل الصلاح، وكل من اشتغل بالظلم والفساد فالرمي بالحجارة إليه بالمرصاد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏84- 86‏]‏

‏{‏وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ ‏(‏84‏)‏ وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ‏(‏85‏)‏ بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ‏(‏86‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ «مفسدين»‏:‏ حال مؤكده لمعنى عاملها، وهو‏:‏ «لا تعثوا»‏.‏ وفائدة ذكره‏:‏ إخراج ما يُقصد به الإصلاح، كما فعله الخضر عليه السلام‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏و‏}‏ أرسلنا ‏{‏إلى مَدْيَنَ أخاهم شعيباً‏}‏، أراد أولاد مدين بن إبراهيم عليه السلام أو أهل مدين، وهي بلدهُ، فسميت باسمه، ‏{‏قال يا قوم اعبدوا الله‏}‏ وحده؛ ‏{‏ما لكم من إله غيره ولا تَنقُضوا المكيالَ والميزان‏}‏، وكانوا مطففين‏.‏ أمرهم أولاً بالتوحيد؛ فإنه رأس الأمر، ثم نهاهم عما اعتادوا من‏:‏ البخس المنافي للعدل، المخل بحكمة المعاوضة، ثم قال لهم‏:‏ ‏{‏إني اراكم بخيرٍ‏}‏؛ بسعة كرخص الأسعار، وكثرة الأرزاق، فينبغي أن تشكروا عليها، وتتعففوا بها عن البخس، لا أن تنقضوا الناس حقوقهم، أو بسعة ونعمة، فلا تزيلوها بما أنتم عليه؛ فإن من لم يشكر النعم فقد تعرض لزوالها، ‏{‏وإني أخاف عليكم عذابَ يوم محيط‏}‏؛ يوم القيامة، فإنه محيط بكل ظالم، أو عذاب الاستئصال في الدنيا، ووصف اليوم بالإحاطة، وهي صفة العذاب؛ لاشتماله عليه‏.‏

‏{‏ويا قوم أوفوا الميكالَ والميزان بالقسط‏}‏؛ بالعدل من غير زيادة ولا نقصان‏.‏ صرح بالأمر بالاستيفاء بعد النهي عن ضده؛ مبالغةً، وتنبيهاً على أنهم لا يكفيهم الكف عن تعمد التطفيف، بل يلزمهم السعي في الإيفاء ولو بالزيادة، حيث لا يتأتى دونها، وقد تكون الزيادة محظورة، ولذلك أمرهم بالعدل في قوله‏:‏ ‏(‏بالقسط‏)‏، بلا زيادة ولا نقصان‏.‏

‏{‏ولا تبخسوا الناسَ أشياءهم‏}‏ لا تنقصوهم حقهم، وهو تعميم بعد تخصيص، فإنه أعم من أن يكون في الميزان والمكيال وفي غيره، وكذا قوله‏:‏ ‏{‏ولا تَعْثَوا في الأرض مفسدين‏}‏؛ فإن العثو وهو الفساد يعم تنقيص الحقوق وغيره من أنواع الفساد‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالبخس‏:‏ المكس، كأخذ العشور في المعاملات، والعثو‏:‏ السرقة وقطع الطريق والغارة، وأكد بقوله‏:‏ ‏{‏مفسدين‏}‏ وفائدته‏:‏ إخراج ما يقصد به الإصلاح، كما فعل الخضر عليه السلام، وقيل‏:‏ معناه‏:‏ مفسدين أمر دينكم ومصالح آخرتكم‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏

‏{‏بقيةُ اللَّهِ‏}‏؛ أي‏:‏ ما أبقاه لكم من الحلال بعد التنزه عن الحرام، ‏{‏خيرٌ لكم‏}‏ مما تجمعون بالتطفيف، ‏{‏إن كنتم مؤمنين‏}‏؛ فإن الإيمان يقتضي الاكتفاء بالحلال عن الحرام‏.‏ أو إن كنتم مؤمنين فالبقية خير لكم، فإن خيريتها تظهر باعتبار الثواب والنجاة من العذاب، وذلك مشروط بالإيمان، أو‏:‏ إن كنتم مصدقين لي في قولي لكم‏.‏ وقيل‏:‏ البقية‏:‏ الطاعة، كقوله ‏{‏والباقيات الصالحات‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 46‏]‏‏.‏ وقرئ‏:‏ «تقية الله»؛ أحفظ عليكم أعمالكم، وأجازيكم عليها، إنما أنا نذير وناصح مبلغ، وقد أعذرت حين أنذرت‏.‏ أو‏:‏ أحفظكم عن القبائح وأمنعكم منها‏.‏ أو‏:‏ لست بحافظ عليكم نعم الله إن سُبلت عنكم بسوء صنيعكم‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ كما أمر الحق تعالى بالوفاء في الموازين أمر بالوفاء في الأعمال والأحوال والمقامات‏.‏ ولذلك قيل للجنيد في النوم‏:‏ أفضل ما يُتقرب به إلى الله عمل خفي، بميزان وفي، فالوفاء في الأعمال‏:‏ إتقانها في الظاهر، باستيفاء شروطها وآدابها، وإخلاصها في الباطن مع حضور القلب فيها‏.‏ والوفاء في الأحوال‏:‏ ألا تخرج عن قواعد الشريعة، بأن لا تكون محرمة ولا مكروهة، وأن يقصد بها موت النفوس وحياة الأرواح، والوفاء في المقام‏:‏ ألا ينتقل عن مقام إلى غيره حتى يتحقق بالمقام الذي أنزل فيه‏.‏ وفيه خلاف بين الصوفية‏:‏ هل يصح الانتقال عن مقام قبل التحقق به، ثم يحققه في المقام الذي بعده، أم لا‏؟‏‏.‏

والمقامات التي ينزل فيها المريد‏:‏ التوبة، الخوف، الرجاءُ، والورع، والزهد، والتوكل، والصبر، والرضى، والتسليم، والمحبة، والمراقبة، والمشاهدة بالفناء ثم البقاء، أو الإسلام، ثم الإيمان، ثم الإحسان‏.‏ فلا ينتقل من مقام إلى ما بعده حتى يحقق المقام الذي هو فيه، ذوقاً وحالاً‏.‏ وقيل‏:‏ يجوز أن ينتقل إلى ما بعده إذا كان ذا قريحة فتحقق له ما قبله‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏ وطريق الشاذلية مختصرة، تطوي عن المريد هذه المقامات، فينزل في أول قدم في مقام الإحسان، شعر أم لا، ثم يحصل الفناء ثم البقاء، إن وجد شيخاً كاملاً تربى على يد شيخ كامل، وإلا فلا‏.‏

وقول الجنيد رضي الله عنه‏:‏ ‏(‏عمل خفي‏)‏، اعلم أن الخفاء على ثلاثة أقسام‏:‏ خفاء عوام الصالحين، وهو‏:‏ إخفاء الأعمال عن الناس مخافة الرياء‏.‏ وخفاء المريدين، وهو‏:‏ الإخفاء عن ملاحظة الخلق ومراقبتهم، ولو كانوا بين أظهرهم، فإخفاؤهم قلبي لا قالبي‏.‏ وخفاء العارفين الواصلين، وهو‏:‏ الإخفاء عن رؤية النفس، فهم يغيبون عن أنفسهم ووجودهم، في حال أعمالهم، فليس لهم عن نفوسهم إخبار، ولا مع غير الله قرار‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏87‏]‏

‏{‏قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ‏(‏87‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ «تأمرك أن نترك»‏:‏ على حذف مضاف، أي‏:‏ تأمرك بتكليف أن نترك؛ لأن الرجل لا يُؤمر بفعل غيره‏.‏ و‏(‏أن نفعل‏)‏‏:‏ عطف على ‏(‏ما‏)‏؛ أي‏:‏ أو نترك فعلنا في أموالنا ما نشاء‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏قالوا يا شعيب أصلواتك‏}‏ التي تُكثر منها هي التي ‏{‏تأمرك‏}‏ أن تأمرنا ‏{‏أن نترك ما يعبد آباؤنا‏}‏ من الأصنام، وندخل معك في دينك المحدث، أجابوا به ما أمرهم به من التوحيد بقوله‏:‏ ‏{‏ما لكم من إله غيره‏}‏، على وجه التهكم والاستهزاء بصلواته‏.‏ وكان كثير الصلاة، ولذلك جمعوها وخصوها بالذكر‏.‏ وقرأ الأخوان وحفص بالإفراد المراد به الجنس‏.‏

ثم أجابوه عن نهيهم عن التطفيف وأمرهم بالإيفاء، فقالوا‏:‏ ‏{‏أو‏}‏ نترك ‏{‏أن نفعل في أموالنا ما نشاء‏}‏ من البخس وغيره‏؟‏ وقيل‏:‏ كانوا يقطعون الدراهم والدنانير، فناهم عن ذلك‏.‏‏.‏ ‏{‏إنك لأنت الحليم الرشيد‏}‏، تهكموا به وقصدوا وصفه بضده، من خفة العقل والسفه؛ لأن العاقل عندهم هو الحرص على جمع الدنيا وتوفيرها، وهو الحمق عند العقلاء، أو إنك موسوم بالحلم والرشد؛ فلا ينبغي لك أن تنهانا عن تنمية أموالنا والتصرف فيها‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ الإنكار على من أمر بالخروج عن العوائد والتقلل من الدنيا من طبع أهل الكفر والجهل، وكذلك رميه بالحمق والسفه‏.‏ فلا تجد الناس اليوم يعظمون إلا من أقرهم على توفير دنياهم ورئاستهم‏.‏ والتكاثر منها، وأما من زهدهم فيها وأمرهم بالقناعة، فإنهم يرفضونه، ويحمقونه‏.‏ وهذا طبع من طبع الأمم الخالية، الجاهلة بالله، وبما أمر به، وفي الحديث‏:‏ «لَتَتبعُنَّ سَننَ مَن قَبلِكُم شِبراً بِشبر، وذرَاعاً بِذرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلْوا جُحْرَ ضَبٍّ لدخَلتُمُوه» وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏88- 90‏]‏

‏{‏قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ‏(‏88‏)‏ وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ ‏(‏89‏)‏ وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ‏(‏90‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ جواب «إن كنت»‏:‏ محذوف، أي‏:‏ فهل ينبغي أن أخون في وحيه وأخالفه في أمره‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ شعيب لقومه‏:‏ ‏{‏يا قوم أرأيتم إن كنتم على بينةٍ من ربي‏}‏، وهي النبوة والعلم والحكمة، ‏{‏ورزقني منه‏}‏؛ من عنده، وبإعانته، بلا كد في تحصيله، ‏{‏رزقاً حسناً‏}‏‏:‏ حلالاً، إشارة إلى من آتاه من المال الحلال‏.‏ فهل يسع لِي بعد هذا الإنعام، الجامع للسعادات الروحانية والجسمانية، أن أخون في وحيه، وأخالفه في أمره ونهيه، حتى لا أنهاكم عن عبادة الأوثان، والكف عن العصيان، والأنبياء لا يبعثون إلا بذلك، وهذا منه اعتذار لما أنكروا عليه من الأمر بالخروج عن عوائدهم، وترك ما ألفوه من دينهم الفاسد، أي‏:‏ كيف أترك ما أمرني به ربي من تبليغ وحيه، وأنا على بينة منه، وقد أغناني الله عنكم وعن غيركم‏.‏ ولذلك قال إثره‏:‏ ‏{‏وما أريدُ أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه‏}‏ أي‏:‏ وما أريد أن آتي ما أنهاكم عنه؛ لأَستبد به دونكم، فتتهموني إن أردت الاستبداد به‏.‏ يقال‏:‏ خالفني فلان إلى كذا‏:‏ إذا قصده، وأنت مول عنه، وخالفني عنه‏:‏ إذا ولى عنه وأنت قاصده‏.‏ ‏{‏إن أريدُ إلا صلاحَ ما استطعت‏}‏ أي‏:‏ ما أريد إلا أن أصلحكم بأمري لكم بالمعروف، ونهيي لكم عن المنكر جهد استطاعتي‏.‏

قال البيضاوي‏:‏ ولهذه الأجوبة الثلاثة على هذا النسق شأن، وهو التنبيه على أن العاقل يجب أن يراعي في كل ما يأتيه ويذره أحد حقوق ثلاثة‏:‏ أهمها وأعلاها‏:‏ حق الله تعالى‏.‏ وثانيها‏:‏ حق النفس، وثالثها‏:‏ حق الناس‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ فحق الله‏:‏ كونه على بينة من ربه، وحق النفس‏:‏ تمكينه من الرزق الحسَن‏.‏ وحق الناس‏:‏ نصحهم من غير طمع، ولا حظ‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وما توفيقي إلا بالله‏}‏؛ وما توفيقي لإجابة الحق، والصواب إلا بهدايته ومعونته، ‏{‏عليه توكلتُ‏}‏؛ فإنه القادر على كل شيء، وما عداه عاجز بل معدوم، ساقط عن درجة الاعتبار‏.‏ وفيه إشارة إلى محض التوحيد، الذي هو أقصى مراتب العلم بالله‏.‏ ‏{‏وإليه أُنيب‏}‏؛ أرجع في جميع أموري‏.‏ ‏{‏ويا قوم لا يجرمنكم‏}‏‏:‏ لا يُكسبنكم ‏{‏شقاقي‏}‏‏:‏ معاداتي، ‏{‏أن يُصيبكم مثل ما أصاب قومَ نوح‏}‏ من الغرق، ‏{‏أو قومَ هودٍ‏}‏ من الريح، ‏{‏أو قومَ صالحٍ‏}‏ من الصيحة، والمعنى‏:‏ لا تخالفوني فيجركمْ ذلك إلى الهلاك كما هلك الأمم قبلكم، ‏{‏وما قومُ لوطٍ منكم ببعيدٍ‏}‏؛ زماناً ولا مكاناً، فإن لم تعتبروا بمن قبلكم، فاعتبروا بهم؛ إذ هم ليسوا ببعيد منكم في الكفر والمساوئ، فلا يبْعد عنكم ما أصابهم‏.‏ وإنما أفرد «بعيد»؛ لأن المراد‏:‏ وما إهلاكهم، أو وما هم بشيء بعيد‏.‏

‏{‏واستغفروا ربَّكم ثم تُوبوا إليه‏}‏ عما أنتم عليه؛ ‏{‏إن ربي رحيم‏}‏؛ عظيم الرحمة للتائبين ‏{‏ودود‏}‏؛ متودد إليهم، فاعل بهم من اللطف والإحسان ما يفعل البليغ بمن يوده، وهو وعد على التوبة بعد الوعيد على الإصرار‏.‏

قاله البيضاوي‏.‏

الإشارة‏:‏ قد تضمنت خطبة شعيب عليه السلام ست خصال، من اجتمعت فيه فاز بسعادة الدارين‏:‏ الأولى‏:‏ فتح البصيرة، ونفوذ العزيمة، وتنوير القلب بمعرفة الله، حتى يكون على بينة من ربه‏.‏

الثانية‏:‏ تيسير الرزق الحلال، من غير تعب ولا مشقة، يستعين به على طاعة ربه، ويقوم به بمؤنة أمره‏.‏

الثالثة‏:‏ السعي في إصلاح عباد الله وإرشادهم، ودعاؤهم إلى الله من غير طمع ولا حرف، ويكون حاله يصحح مقاله، فلا يترك ما أمر به، ولا يفعل ما نهى عنه‏.‏

الرابعة‏:‏ الاعتماد على الله والرجوع إليه في توفيقه وتسديده، وفي أمر دنياه ودينه، بحيث لا يرجو إلا الله، ولا يخاف إلا منه‏.‏

الخامسة‏:‏ الحذر والتحذير من مخالفة ما جاءت به الرسل من عند الله، والتمسك بما أمروا به من طاعة الله، والاعتذار بمن هلك قبله ممن خالف أمر الله‏.‏

السادسة‏:‏ تحقيق التوبة والانكسار، والإكثار من الذكر والاستغفار‏.‏ فذلك سبب المودة من الكريم الغفار‏.‏ ولأجل هذه الخطبة سُمي شعيب خطيب الأنبياء‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏91- 93‏]‏

‏{‏قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ ‏(‏91‏)‏ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ‏(‏92‏)‏ وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ ‏(‏93‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ «سوف تعلمون»‏:‏ ذكره هنا بغير فاء، وفي الأنعام بالفاء، لأن الكلام في سورة الأنعام مع الأمة المحمدية، فأتى بالفاء لمطلق السببية، وهنا مع قوم شعيب عليه السلام، فحذفها؛ لأنه أبلغ في التهويل‏.‏ فكأن الجملة بيانية لجواب سائل قال‏:‏ فما يكون بعد ذلك‏؟‏ فقال‏:‏ سوف تعلمون‏.‏‏.‏‏.‏ الخ‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏قالوا يا شعيبُ ما نفقه‏}‏؛ ما نفهم ‏{‏كثيراً مما تقول‏}‏ من أمر التوحيد، وترك التبخيس، وما ذكرت من الدليل عليها؛ وذلك لانهماكم في الهوى، وقصور عقلهم وعدم تفكرهم‏.‏ وقيل‏:‏ قالوا ذلك استهانة بكلامه، أو لأنهم لم يلقوا إليه أذهانهم لشدة نفرتهم‏.‏ ثم قالوا‏:‏ ‏{‏وإنا لنراك فينا ضعيفاً‏}‏؛ لا قوة لك تمتنع بها منا إن أردنا بك سوءاً، أو‏:‏ نراك ناحل البدن، أو‏:‏ ضرير البصر‏.‏ وضعفه ابن عطيه‏.‏ ‏{‏ولولا رهطُك‏}‏ أي‏:‏ قومك، الذين هم باقُون على ما ملتنا، وكونهم في عزة عندنا، ‏{‏لرجَمْنَاكَ‏}‏‏:‏ لقتلناك بالحجارة‏.‏ أو بأصعب وجه، ‏{‏وما أنت علينا بعزيز‏}‏؛ فتمنعنا عزتك من رجمك‏.‏

قال البيضاوي‏:‏ وهذا ديدن السفيه المحجوج، يقابل الحجج والآيات بالسب والتهديد‏.‏ وفي إيلاء ضميره حرف النفي تنبيه على أن الكلام فيه لا في ثبوت العزة، وأن المانع لهم من إيذائه عزة قومه‏.‏ ولذلك قال‏:‏ ‏{‏يا قوم أرَهْطِي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءَكم ظِهْرياً‏}‏، وجعلتموه كالمنسي المنبوذ وراء الظهر، بإشراككم به، والإهانة لرسوله‏.‏ وهو يحتمل الإنكار والتوبيخ والرد والتكذيب‏.‏ والظهري‏:‏ منسوب إلى الظهر، والكسر من تغيير البناء‏.‏ ه‏.‏ قال ابن جزي‏:‏ فإن قيل‏:‏ إنما وقع الكلام فيه وفي وهطه، بأنهم هم الأعزة دونه، فكيف طابق جوابه كلامهم‏؟‏ فالجواب‏:‏ أن تهاونهم به، وهو رسول الله، تهاون الله‏.‏ فلذلك قال‏:‏ ‏{‏أرهطي أعز عليكم من الله‏}‏‏.‏ ه‏.‏

‏{‏إن ربي بما تعملون محيط‏}‏ فلا يخفى عليه شيء منها، فيجازي عليها بتمامها‏.‏ ‏{‏ويا قوم اعملوا على مكانتكم‏}‏‏:‏ على حالتكم من تمكنكم في الدنيا، وعزتكم فيها، ‏{‏إني عامل‏}‏ على حالي، ‏{‏سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه‏}‏، يُهينه في الدنيا والآخرة، ‏{‏و‏}‏ سوف تعلمون ‏{‏من هو كاذب‏}‏ مني ومنكم، ‏{‏وارتقبوا‏}‏؛ وانتظروا ما أقول لكم، ‏{‏إني معكم رقيب‏}‏‏:‏ مرتقب لذلك‏.‏ وهو فعيل بمعنى فاعل، كالصريح والرفيع‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ لا يفقه المواعظ والتذكير إلا أهل الإيمان والتنوير‏.‏ وأما القلب القاسي بالكفر والمعاصي فلا يسمع إلا ما تسمعه البهائم من الناعق والراعي‏.‏ فبقدر ما يرق القلب يتأثر بالمواعظ، وبقدر ما يغلظ باتباع الحظوظ والهوى؛ يغيب عن تدبر المواعظ‏.‏ وسبب تنوير القلب ورقته‏:‏ قربه من الله، وتعظيمه لحرمات الله، وتعظيم من جاء من عند الله من أنبيائه ورسله، وورثتهم القائمين بحجته، كالأولياء والعلماء الأتقياء‏.‏ وسبب ظلمة القلب وقساوته‏:‏ بعده من الله، وإهانته لحرمات الله، واتخاذه أمره ظهرياً، وجعل ذكره نسياً منسياً‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏