فصل: تفسير الآية رقم (104)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***


تفسير الآية رقم ‏[‏104‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏104‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ يقال راعى الشيء يراعيه مراعاة‏:‏ انتظره أو التفت إليه‏.‏ ويقال‏:‏ رَعَى إلى الشيء، وراعاه وأرعاه‏:‏ إذا أصغى إليه واستمعه‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا‏}‏ للرسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏رَاعِنَا‏}‏ أي‏:‏ انتظرنا أو أمهل علينا لأن في ذلك ذريعة لسب اليهود، أو قلة أدب، وقولوا‏:‏ ‏{‏انظُرْنَا‏}‏ أي‏:‏ انتظرنا ‏{‏وَلِلْكَافِرِينَ‏}‏ المؤذين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ أي‏:‏ موجع‏.‏

الإشارة‏:‏ حسنُ الخطاب من تمام الآداب، وتمام الآداب هو السبب الموصل إلى عين الصواب، فمن لا أدب له لا تربية له، ومن لا تربية له لا سَيْر له، ومن لا سير له لا وصول له، فمن لا يتربى على أيدي الرجال لا يُربى الرجال، وقد قالوا‏:‏ من أساء الأدب مع الأحباب طُرد إلى الباب، ومن أساء الأدب في الباب طرد إلى سياسة الدواب‏.‏ وقالوا أيضاً‏:‏ اجعل عملك ملحاً، وأدبك دقيقاً‏.‏ وقال آخر‏:‏ إن الإنسان ليبلغ بالخلق وحسن الأدب إلى عظيم الدرجات وهو قليل العمل، ومن حرم الأدب حُرم الخيرَ كله، ومن أُعطي الأدب فقد مُكن من مفاتيح القلوب‏.‏

قال أبو عثمان رضي الله عنه‏:‏ الأدب عند الأكابر وفي مجالس السادات من الأولياء يبلغ بصاحبه إلى الدرجات العلا والخير في الدنيا والعقبى‏.‏ وقال أبو حفص الحداد رضي الله عنه‏:‏ التصوّف كله آدب، لكل وقت أدب، ولكل حال أدب، ولكل مقام أدب، فمن لازم الأدب بلغ مبلغ الرجال، ومن حرم الأدب فهو بعيد من حيث يظن القرب، مردود من حيث يرجوا الوصول‏.‏ وقال ذو النون المصري رضي الله عنه‏:‏ ‏(‏إذا خرج المريد عن استعمال الأدب فإنه يرجع من حيث جاء‏)‏‏.‏ وقيل‏:‏ من لم يتأدب لوقت فوقته مقت‏.‏ وقيل‏:‏ من حَبَسه النسب أطلقه الادب، ومن قل أدبه كثر شغبه‏.‏ وقيل‏:‏ الأدب سند الفقراء، وزينة الأغنياء‏.‏ ه‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏105‏]‏

‏{‏مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ‏(‏105‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ الود‏:‏ محبة الشيء مع تمنيه و‏{‏مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ‏}‏ بيانية كقوله‏:‏ ‏{‏لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ‏}‏، و‏{‏أَن يُنَزَّلَ‏}‏ معمول يود، و‏{‏مِّنْ خَيْرٍ‏}‏ صلة، و‏{‏مِّن رَّبكُمْ‏}‏ ابتدائية‏.‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ما يتمنى ‏{‏الذين كفروا من أهل الكتاب‏}‏ إنزال خير عليكم ‏{‏مِّن رَّبِّكُمْ‏}‏ ولا المشركون حسداً منهم، بل يتمنون أن تبقوا على ضلالتكم وذُلِّكُمْ، ‏{‏والله يختص برحمته‏}‏ كالنوبة والولاية ‏{‏من يشاء‏}‏ من عباده‏.‏ فلا يجب عليه شيء ولا يمتنع عليه ممكن، ‏{‏وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ‏}‏، فَيَمُنُّ بالنبوة أو الولاية على مَن يشاء فضلاً وإحساناً‏.‏

الإشارة‏:‏ في الآية تنبيهان‏:‏ أحدهما‏:‏ أن من كان يحسد أهل الخصوصية وينكر عليهم، فيه نزعة يهودية، وخصلة من خصال المشركين، والثاني‏:‏ أن حسد أهل الخصوصية والإنكار عليهم أمر شائع وسنة ماضية، فليوطن المريد نفسه على ذلك‏:‏ وليعلم انه ما يقال له إلا ما قيل لمن قبله، ‏{‏وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً‏}‏ ‏[‏الأحزَاب‏:‏ 62‏]‏، وما من نعمة إلا وعليها حسود‏.‏

وقال حاتم الطائي‏:‏

ومِنْ حَسَدٍ يَجُورُ عَلَيَّ قَومي *** وأيُّ الدهر ذُو لَمْ يَحْسُدُوني

وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏106- 107‏]‏

‏{‏مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏106‏)‏ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ‏(‏107‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ النسخ في اللغة يطلق على معنيين؛ أحدهما‏:‏ التغيير والتحويل، يقال‏:‏ مسخه الله قرداً ونسخه‏.‏ قال الفراء‏:‏ ومنه نسخ الكتاب، والثاني‏:‏ بمعنى رفع الشيء وإبطاله‏.‏ يقال‏:‏ نَسَخَتِ الشمسُ الظلَّ، أي‏:‏ ذهبت به وأبطلته، وهو المراد هنا‏.‏

والإنساء هو الترك والإذهاب، والنساء هو التأخر‏.‏ و‏{‏مَا‏}‏ شريكة منصوبة بشرطها مفعولاً به‏.‏ و‏{‏نَأْتِ‏}‏ جوابها‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ في الرد على اليهود حيث قالوا‏:‏ انظروا إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه، فأجاب الله عنهم بقوله‏:‏ ‏{‏مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ‏}‏ أي‏:‏ نزيل لفظها أو حكمها أو هما معاً، ‏{‏نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا‏}‏ في الخفة أو في الثواب، ‏{‏أَوْ نُنسِهَا‏}‏ من قلب النبيّ- عليه الصلاة والسلام- بإذن الله، أو نتركها غير منسوخة، أو نؤخر إنزالها أو نسخها‏.‏ باعتبار القراءات، ‏{‏نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلَهَا أَلَمْ تَعْلَمْ‏}‏ يا محمد ‏{‏أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قديرٌ‏}‏ لا يعجزه نسخ ولا غيره ‏{‏أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ‏}‏ يتصرف فيهما كيف يشاء، لا راد لما قضى ولا مُعقِّب لما حكم به وأمضى، ينسخ من شرائع أحكامه ما يشاء، يثبت فيها ما شاء، بحسب مصالح العباد، وما تقضيه الرأفة والوداد‏.‏

وهو جائز عقلاً وشرعاً، فكما نسخت شريعتهم ما قبلها نسخها ما بعدها، فمن تحكم على الله، أو رد على أصفياء الله ممن اطصفاهم لرسالته، فليس له ‏{‏مِّن دُونِ اللّه مِن وَلِيٍّ‏}‏ يمنع من عذاب الله، ‏{‏وَلا نَصِيرٍ‏}‏ ينصره من غضب الله‏.‏

والنسخ إنما يكون في الأوامر والنواهي دون الأخبار، لأنه يكون كذباً، ومعنى النسخ‏:‏ انتهاء العمل بذلك الحكم، ونقل العباد من حكم إلى حكم لمصلحة، فلا يلزم عليه البَدَاءُ كما قالت اليهود، والنسخ عندنا على ثلاثة أقسام‏:‏ نسخ اللفظ والمعنى‏:‏ كما كان يُقْرَأُ‏:‏ «لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر»، ثم نُسخ، ونسخ اللفظ دون المعنى‏:‏ «كالشيخ والشيخة إذا زينا فرجموهما البتة» ثم نسخ لفظه، وبقي حكمه وهو الرجم، ونسخ المعنى دون اللفظ‏:‏ كآية السيف بعد الأمر بالمهادنة مع الكفار‏.‏ الله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه في تفسيرها‏:‏ ما نذهب من بدل إلا ونأت بخير منه أو مثله‏.‏ ه‏.‏ ومعناه‏:‏ ما نذهب بولي إلا ونأت بخير منه أو مثله إلى يوم القيامة، وبهذا يُرَدّ على مَن زعم أن شيخ التربية انقطع؛ فإن قدرة الله عامة، وملك الله قائم، والأرض لا تخلو ممن يقوم بالحجة حتى يأتي أمر الله‏.‏

قال في لطائف المنن‏:‏ وقد سئل بعض العارفين عن أولياء المدد‏:‏ أينقُضون في زمن‏؟‏ فقال‏:‏ لو نقص منهم واحد ما أرسلت السماء قطرها، ولا أبرزت الأرض نباتها، وفساد الوقت لا يكون بذهاب أعدادهم، ولا بنقص إمدادهم، ولكن إذا فسد الوقت كان مراد الله وقوع اختفائهم مع وجود بقائهم، ثم قال‏:‏ وقد قال عليّ- كرّم الله وجهه- في مخاطبته لكميل‏:‏ اللهم لا تخلو الأرض من قائم لك بحجتك، أولئك الأقلون عدداً، الأعظمون عند الله قدراً، قلوبهم معلقة بالمحل الأعلى‏.‏

أولئك خلفاء الله في بلاده وعباده، واشوقاه إلى رؤيتهم‏.‏

وروى الترمذي الحكيم عن ابن عمر رضي الله عنه يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «أمتي كالمَطَرِ لا يُدْرَى أَولهُ خيرٌ أم آخِرُه» وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏108‏]‏

‏{‏أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ‏(‏108‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏أم‏}‏ للإضراب بمعنى بل؛ وهو على قسمين‏:‏ إما إضراب عن المعنى السابق، أو لفظه فقط كما هنا، انظر تفسير ابن عطية، وإضافة الرسول إليهم باعتبار ما في نفس الأمر‏.‏ وهو نص في إرساله إليهم كما أرسل إلى غيرهم‏.‏ والضلال‏:‏ التلف‏.‏ و‏{‏سواء السبيل‏}‏‏:‏ وسط الطريق‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ أتريدون يا معشر اليهود أن قترحوا على نبيكم الذي أرسلت إليكم، وإلى كافة الخلق من غيركم الآيات، وتسألوه أن يريكم المعجزات، كما سألتم موسى من قبل فقلتم‏:‏ ‏{‏أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً‏}‏ ‏[‏النِّساء‏:‏ 153‏]‏ تشغيباً وتعنتاً، وأبيتم عن الإيمان، واستبدلتموه بالكفر والعصيان، ‏{‏ومن يتبدل الكفر بالإيمان‏}‏ فقد تلف عن طريق الحق والسداد، ومأواه جهنم وبئس المهاد‏.‏

الإشارة‏:‏ لا يُشترط في الولي ظهور الكرامة، وإنما يشترط فيه كمال الاستقامة، ولا يشترط فيه أيضً هداية الخلق على يديه؛ إذ لم يكن ذلك للنبيّ فكيف يكون للولي‏؟‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏يُونس‏:‏ 99‏]‏ وقد سَرَى في طبع العوام ما سَرَى في طبع الكفار، قالوا‏:‏ ‏{‏لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُر لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعاً‏}‏ ‏[‏الإسرَاء‏:‏ 90‏]‏ الآية‏.‏ فكثير من العوام لا يقرون الولي حتى يروا له آية أو كرامة، مع أن الولي كلما رسخت قدمه في المعرفة قلَّ ظهور الكرامة على يديه؛ لأن الكرامة إنما هي معونة وتأييد وزيادة إيقان‏.‏ والجبل الراسي لا يحتاج إلى عماد‏.‏

والحق هو ما قاله الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه‏:‏ ‏(‏وإنهما كرامتان جامعتان محيطتان‏:‏ كرامة الإيمان بمزيد الإيقان على نعت الشهود والعيان، وكرامة العمل على السنة والمتابعة، ومجانبة الدعاوى والمخادعة، فمن أُعْطِيَهُمَا ثم اشتاق إلى غيرهما فهو مفتر كذاب، أو ذو خطأ في العلم والفهم، كمن أكرم بشهود الملك على نعت الرضى والكرامة، ثم جعل يشتاق إلى سياسة الدوام وخِلَعِ الرضا‏)‏ أو كما قال رضي الله عنه‏.‏

وقال شيخنا رضي الله عنه‏:‏ ‏(‏الكرامة الحقيقية هي الأخلاق النبوية والعلوم اللدنية‏)‏‏.‏ فمن أنكر أولياء أهل زمانه وطلب منهم الدليل غير ما تقدم فقد ضلّ سواء السبيل، وبقي مربوطاً في سجن البرهان والدليل‏.‏ وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏109- 110‏]‏

‏{‏وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏109‏)‏ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏110‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏لو‏}‏ مصدريةٌ مفعول ‏{‏وَدَّ‏}‏، و‏{‏كفاراً‏}‏‏:‏ مفعول ثان، و‏{‏حسداً‏}‏‏:‏ مفعول له، علة لود، أو حال من الواو، و‏{‏من عند‏}‏ متعلق بود، أي‏:‏ يتمنوا ذلك من عند أنفسهم وتَشهِّيهم، أو بقوله‏:‏ ‏{‏حسداً‏}‏، فالوقف على قوله‏:‏ ‏{‏كفاراً‏}‏، أي‏:‏ حسداً حاصلاً من تلقاء أنفسهم، لم يستندوا فيه إلى شبهة ولا دليل، والعفو‏:‏ ترك العقوبة بالذنب‏.‏ والصفح‏:‏ الإعراض عن المذنب، كأنه يولي عنه صفحة عنقه، فهو أبلغ من العفو‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ في التحذير من اليهود وغيرهم من الكفار‏:‏ تمنّى الذين كفروا من أهل الكتاب وغيرهم لو يصرفونكم عن دينكم و‏{‏يردونكم من بعد إيمانكم‏}‏ بنبيكم ‏{‏كفاراً‏}‏ ضالين، كما كنتم قبل الدخول فيه، وذلك ‏{‏حسداً من‏}‏ تلقاء ‏{‏أنفسهم‏}‏ غيرة أن تكون النبوة في غيرهم، وذلك ‏{‏من بعد ما بين لهم الحق‏}‏ وعرفوه كما يعرفون أبناءهم، ‏{‏فاعفوا‏}‏ عن عتابهم، وأعرضوا عن تشغيبهم ‏{‏حتى يأتي الله بأمره‏}‏ فيهم بالقتل والجلاء‏.‏ ‏{‏إن الله على كل شيء قدير‏}‏، واشتغلوا بما كلفكم به من أداء حقوق العبودية، والقيام بوظائف الربوبية، كإتقان الصلاة وأداة الزكاة، واعلموا أن الله لا يضيع من أعمالكم شيئاً، فما تقدموا لأنفسكم ليوم فقركم تجدوه عند الله وأعظم أجراً، إن الله لا يخفى عليه شيء من أعمالكم وأحوالكم‏.‏

نزلت الآية في عمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان، أتيا بيت المِدْرَاس، فألانوا لهم الكلام، فطمعوا في صرفهما عن دينهما، ففضحهم الله ورد كيدهم في نحرهم، والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ من جملة مَا دَبَّ إلى بعض الطوائف المتجمدين على تقليد أشياخهم‏:‏ التعصب والحمية على طريق أشياخهم، ولو ظهر الحق عند غيرهم، وخصوصاً أولاد الصالحين منهم، فإذا رأوا أحداً ظهرت عليه أنوار الولاية، وأسرار الخصوصية، تمنَّوْا أن يردوهم عن طريق الحق، ويصرفوهم إلى مخالطة الخلق، حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق، فيقال لمن توجه إلى الحق‏:‏ فاعفوا واصفحوا حتى يظهر الحق، ولا تلتفتوا إلى تشغيبهم، ولا تشتغلوا قط بعيبهم فتكونوا أقبح منهم‏.‏

قال بعض العارفين‏:‏ ‏(‏لا تشتغل قط بمن يؤذيك واشتغل بالله يرده عنك، وقد غلط في هذا الأمر خلق كثير، اشتغلوا بمن يؤذيهم فطال الأذى مع الإثم‏.‏ ولو أنهم رجعوا إلى مولاهم لكفاهم أمرهم‏)‏‏.‏ بل ينبغي لمن يُحْسَدُ أو يُؤْذَى أن يغيب عن الحاسد وكيده، ويشتغل بما هو مكلف به من حقوق العبودية وشهود عظمة الربوبية، فإن الله لا يضيع من التجأ إليه، ولا يخيب مقصود من اعتمد عليه‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏111- 112‏]‏

‏{‏وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏111‏)‏ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏112‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏وقالوا‏}‏ عطف على ‏{‏ود الذين كفروا‏}‏، والضمير يعود على أهل الكتاب واليهود والنصارى، أي‏:‏ وقالت اليهود‏:‏ لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً، وقالت النصارى‏:‏ لن يدخل الجنة إلا مَن كان نصارى، و‏{‏هود‏}‏‏:‏ جمع هائد، كبازل وبُزْل وحائل وحُول، و‏{‏الأماني‏}‏‏:‏ جمع أمينة، وهي ما يتمنى المرء ويشتهيه، وأصله أمْنُوية كأضْحُوكَة وأعجوبة، فقلبت الواو ياء وأدغمت، و‏{‏هاتوا‏}‏‏:‏ اسم فعل بمعنى الأمر، ومعناه آتٍ، وأهمل ماضيه ومضارعه، و‏{‏أسلم‏}‏ معناه‏:‏ استسلم وخضع، والخوف مما يتوقع، والحزن على ما وَقع‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ وقالت اليهود‏:‏ ‏{‏لن يدخل الجنة‏}‏ إلا مَن كان يهوديّاً، أي‏:‏ على دينهم، وقالت النصارى‏:‏ لن يدخل الجنة إلا مَن كان نصرانيّاً، وهذه دعاوى باطلة، وأماني فارغة ليس عليها بينة، بل مجرد أمانيهم الكاذبة، ‏{‏قل‏}‏ لهم يا محمد‏:‏ ‏{‏هاتوا برهانكم‏}‏ أنكم مختصون بالجنة ‏{‏إن كنتم صادقين‏}‏ في هذه الأمنية، بل يدخلها غيركم من أهل الإسلام والإحسان، فإن ‏{‏من أسلم وجهه لله‏}‏ أي‏:‏ انقاد بكليته إليه ‏{‏وهو محسن‏}‏ في أفعاله واعتقاده، ‏{‏فله أجره عند ربه‏}‏ وهو دخول النعميم والنظر إلى وجهه الكريم، ‏{‏ولا خوف عليهم‏}‏ من مكروه يُتوقع ‏{‏ولا هم يحزنون‏}‏ على فوات شيء يحتاجون إليه؛ لأنهم في ضيافة الكريم تُساق إليهم المسار وتدقع عنه المضار، وبالله التوفيق‏.‏

الإشارة‏:‏ من جملة ما دخل على بعض الفقراء أنهم يَخُصون الخصوصية بهم وبمن تبع شيخهم، وينفونها عن غيرهم، وهذه نزعة يهودية، وتحكم على القدرة الإلهية فيقال لهم‏:‏ تلك أمانيكم الفارعة، بل ينالها غيركم، فمن قصد الله صادقاً وجده، وأنجز بالوفاء موعده، فمن خضع لله وانقاد لأولياء الله، فله أجره عند ربه، وهو المعرفة به، ولا خوف عليه من القطيعة، ولا يحزن على فوات نصيبه من المعرفة‏.‏ وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏113‏]‏

‏{‏وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏113‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ إخباراً عن مقالات اليهود والنصارى وتقبيحاً لصنيعهم‏:‏ ‏{‏وقالت اليهود‏}‏ في الرد على النصارى‏:‏ ‏{‏ليست النصارى على شيء‏}‏ يعتد به، ‏{‏وقالت النصارى‏}‏ في سَبِّ اليهود، ‏{‏ليست اليهود على شيء‏}‏ يعتمد عليه، والحالة أنهم ‏{‏يتلون الكتاب‏}‏، فاليهود يتلون التوراة وفيها البشارة بعيسى عليه السلام، والنصارى يتلون الإنجيل، وفيه تقرير شريعة التوراة وصحة نبوة موسى عليه السلام، فقد كفرت كلُّ فرقة بكتابها غضباً وتعصباً، ومثل مقالتهم هذه ‏{‏قال الذين لا يعلمون‏}‏ وهم المشركون، فقالوا‏:‏ ليس المسلمون على شيء، ‏{‏فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون‏}‏ فيُدْخل أهلَ الحِقّ الجنةَ وأهلَ الباطل النار، وبالله التوفيق‏.‏

الإشارة‏:‏ كل ما قصه الحق تعالى علينا من مساوئ غيرنا فالمقصود به التنفير والتحذير من مثل ما راتكبوه، والتخلق بضد ما فعلوه، فكل من تراه ينقص الناس ويصّرُهم فهو أصغرهم، وكل من تراه يقول‏:‏ أصحاب سيدي فلان ليسوا على شيء، وأصحاب سيدي فلان ليس عندهم شيء، فليس هو على شيء، وقد ابتلي بعض المتصوفة بهذا الوصف الذميم، ينصب الميزان على الناس، فيسقط ثوماً ويرفع آخرين، وهو يتلو كتاب الله، ويسمع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَجَسَّسُواْ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏الحُجرَات‏:‏ 12‏]‏ الآية‏.‏

وأكثر ما تجد هذا الوصف في بعض الفقهاء المتجمدين على ظاهر الشريعة، يعتقد ألا علم فوق علمه، ولا فهم فوق فهمه، كيف‏؟‏ والله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ ‏[‏الإسرَاء‏:‏ 85‏]‏، ‏{‏وَفَوْقَ كُلِّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏يُوسُفِ‏:‏ 76‏]‏، وقد قال إمام الحرمين‏:‏ ‏(‏لإِنْ أُدْخلَ ألْفَ كَافرٍ في الإسْلامِ بِشُبْهَةٍ خَيْرٌ مِنْ إِخراجِ واحدٍ منْه بشُبْهة‏)‏‏.‏

فالواجب على مَن أراد السلامة أن يُحسن الظن بجميع المسلمين، ويعتقد فيهم أنهم كلهم صالحون، ففي الحديث‏:‏ «خَصْلَتَان لَيْسَ فوقَهُما شَيءٌ منَ الخير‏:‏ حُسْنُ الظن بالله، وحُسْنُ الظن بِعباد الله، وخَصْلَتَان لَيْسَ فوقَهما شيءٌ مِن الشرِّ‏:‏ سُوءُ الظنّ بِالله، وسُوءُ الظنِّ بِعِبادِ اللّه» وبالله التوفيق‏.‏

ثم وبّخ الحق- تعالى- النصارى على منع الناس من بيت المقدس وإيذاء مَن يصلي فيه، وطرح الأقذاء فيه، مع زعمهم أنهم على الحق دون غيرهم، قاله ابن عباس، أو كفار قريش حيث منعوا المسلمين من الصلاة فيه، وصدوا رسول الله عن الوصول إليه، قاله ابن زيد، والتحقيق‏:‏ أن الحق تعالى وبخ الجميع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏114‏]‏

‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏114‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏مَن‏}‏ مبتدأ، و‏{‏أظلم‏}‏ خبر، و‏{‏أن يذكر‏}‏ إما منصوب على إسقاط الخافض وتسلط الفعل عليه، أي‏:‏ من أن يذكر، أو بدل اشتمال من ‏{‏مساجد‏}‏، أو مجرور بالحروف المحذوف، قاله سيبويه‏.‏ و‏{‏خائفين‏}‏ حال من الواو‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ لا أحَد أكثرُ جُرْماً ولا أعظم ظلماً ‏{‏ممن‏}‏ يمنع ‏{‏مساجد الله‏}‏ من ‏{‏أن يذكر‏}‏ اسم الله فيها، جماعة أو فرادى، في صلاة أو غيرها، ‏{‏وسعى في خرابها‏}‏ حيث عطل عمارتها، ‏{‏أولئك ما كان‏}‏ ينبغي ‏{‏لهم أن يدخلوها‏}‏ إلا بخشية وخشوع، فكيف يجترئون على تخريبها‏؟‏ أو ما كان الواجب أن يدخلوها إلا خائفين من المؤمنين أن يبطشوا بهم فضلاً عن أن يمنعوهم منها، أو ‏{‏ما كان لهم‏}‏ في علم الله وقضائه ‏{‏أن يدخلوها إلا خائفين‏}‏، فيكون وعداً أنجزه الله لهم، وقد فتح الله لهم مكة والشام، فكان لا يدخل بيت الله الحرام كافر إلا خفية، خائفاً من القتل، ولا يدخل نصراني بيت المقدس إلا خائفاً من المسلمين، فنالهم ‏{‏في الدنيا خزي‏}‏ وهو قتل الحربي، وضرب الجزية على الذمي، وخزي المشركين قتلهم يوم الفتح، وإذلالهم بدخولها عليهم عنوة، ولمن مات على الكفر ‏{‏في الآخرة عذاب عظيم‏}‏‏.‏

وهذه الآية- وإن نزلت في الكفار- فهي عامة لكل من يمنع الناس من الذكر في المساجد، كيفما كان قياماً أو قعوداً، جماعة أو فرادى، والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ مساجدُ الله هي حضرة القلوب وحضر الأرواح وحضرة الأسرار، فحضرة القلوب لأهل المراقبة من أهل الإيمان، وحضرة الأرواح والأسرار لأهل المشاهدة والمكالمة من أهل الإحسان، فمن منع نفسه من الدخول في هذه الحضرات الثلاث، وسعى في خراب باطنه باتباع الحظوظ والشهوات، ومال إلى الدنيا وزخارفها الغرارات، فلا أحد أظلم منه نفساً، ولا أبخس منه صفقةً‏.‏ فلا ينجعُ في هؤلاء إلا خوف مزعج أو شوق مقلق‏.‏ فإن لم يكن أحد من هذين بقي على غيّه حتى مخايل الموت‏.‏ فيحن إلى الدخول فيها خائفاً، ولا ينفع حينئذٍ الندم، وقد زلت به القدم، له في الدنيا ذلك الفقر والجزع، وله في الآخرة غم الحجاب وسوء الحساب وحسرة العتاب، نسأل الله العافية في الدارين‏.‏ آمين‏.‏ بمنه وكرمه‏.‏

وقال القشيري‏:‏ نفْسُ العابدِ وَطَنُ العبادة، وقلب العارف وطن المعرفة، وروح الواجد وطن المحبة، وسر الموحِّد وطن المشاهدة، ولا أظلم ممن سعى في خراب وطن العابد بالشهوات، وفي وطن المعرفة بالمُنى والعلاقات، وفي وطن المحبة بالحطوط والمساكنات، وفي وطن الموحد بالالتفات إلى القربات‏.‏ ه‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏115‏]‏

‏{‏وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ‏(‏115‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏أينما‏}‏ شرطية، و‏{‏تولوا‏}‏ شَرْطُها، وجملة ‏{‏فثم‏}‏ جوابها، و‏(‏وَلْي‏)‏ يستعمل بمعنى أدبر وبمعنى أقبل، تقول‏:‏ وليت عن كذا أو كذا، والوجه هنا بمعنى الجهة، تقول‏:‏ سافرت في وجه كذا، أي في جهة كذا‏.‏ قاله ابن عطية‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ولله المشرق والمغرب‏}‏، والجهات كلها له، لا يختص ملكه بمكان دون آخر، فإذا مُنعتم من الصلاة في المساجد ففي أي مكان كنتم ووليتم وجهكم إلى القبلة التي أمرتم بالتوجه إليها فثم جهته التي أمر بها، أو فثم ذاته المقدسة، أي‏:‏ عالم مطلع على ما يفعل فيه، ‏{‏إن الله واسع‏}‏ بإحاطته بالإشياء، أو برحمته يريد التوسعة على عباده ‏{‏عليم‏}‏ بمصالحهم وأعمالهم في الأماكن كلها‏.‏

وعن ابن عمر‏:‏ أنها نزلت في صلاة المسار على الراحلة حيثما توجهت به، وقيل‏:‏ في قوم عميت عليهم القبلة فصلوا إلى أنحاء مختلفة، فلما أصبحوا تبينوا خطأهم، وعلى هذا‏:‏ لو أخطأ المجتهد ثم تبين له الخطأ، لم يلزمه التدارك‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏

الإشارة‏:‏ اعلم أن الأماكن والجهات، وكل ما ظهر من الكائنات، قائمة بأنوار الصفات، ممحوة بأحدية الذات، «كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما عليه كان»؛ إذ لا وجود لشيء مع الله، ‏{‏فأينما تولوا فثم وجه الله‏}‏، محق الآثار بإفلاك الأنوار، وانمحت الأنوار بأحدية الأسرار، وانفرد بالوجود الواحد القهار، ولله درّ القائل‏:‏

مُذْ عرَفتُ الإلهَ لم أرَ غيراً *** وكذا الغيرُ عِنْدنَا مَمْنُوعُ

مُذْ تجمعتُ ما خَشِيتُ افتِرقاً *** فأنا اليومَ واصلٌ مجمُوعُ

وقال آخر‏:‏

فالكلُّ دونَ إنْ حَققتَهُ *** عَدم على التفصيلِ والإجمالِ

مَن لاَ وجُودَ لذاتهِ مِنْ ذاتِهِ *** فوجُودُهُ لولاهُ عينُ مُحَالِ

وقال صاحب العينية‏:‏

تَجلَّى حبيبي في مَرَائي جَمَالِهِ *** ففي كلِّ مرئي للحبيبِ طلائعُ

فلما تَبدَّى حُسْنه مُتَنوعاً *** تَسمَّى بأسْماءٍ فهُنَّ مَطالِعُ

وقال الششتري‏:‏

مَحْبوبي قدْ عَمَّ الوجودْ *** وقدْ ظهرَ في بيضٍ وسُودْ

قال بعض السلف‏:‏ ‏(‏دخلت ديراً جاء وقت الصلاة، فقلت لبعض النصارى‏:‏ دُلني على بقعة طاهرة أصلي فيها، فقال لي‏:‏ طهر قلبك عما سواه، وقف حيث شئت، قال‏:‏ فخَجِلت منه‏)‏‏.‏ ويحكى عن أبي يزيد رضي الله عنه أنه كان يصلي إلى جهة شاء، ويتلو هذه الآية، فالوجه عند أهل التحقيق هو عين الذات، يعني أسرار الذات وأنوار الصفات‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏كل شيء هالك إلا وجهه‏}‏ أي‏:‏ كل شيء فانٍ ومستهلك في الحال والاستقبال إلا ذاته المقدسة، وأنشدوا‏:‏

فالعارِفُون فَنَوْا بأَن لَمْ يَشْهَدُوا *** شيئاً سِوَى المتكبر المتَعالِي

ورَأوْا سواهُ على الحقيقةِ هالكاً *** في الحالِ والماضِي والاستقْبالِ

وقلت في تائيتي الخمرية في وصف الخمرة الأزلية‏:‏

تَنَزَّهْت عن حُكْم الحُلُولِ في وَصْفِهِا *** فلَيسَ لهَا في سوى شَكْلهِ حَلَّتِ

تَجلَّتْ عَرُوساً في مَرَائِي جَمَالِها *** وأرْخَتْ سُتُورَ الكبرياءِ بِعزَّةِ

فمَا ظَهَر في الكونٍ غَيْرُ بهائها *** وما احتجبت إلا لحجب سريرة

ولما قالت اليهود‏:‏ عُزَير ابن الله، وقالت النصارى‏:‏ المسيح ابن الله، وقالت المشركون‏:‏ الملائكة بنات الله، ردَّ الله تعالى عليهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏116- 117‏]‏

‏{‏وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ‏(‏116‏)‏ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ‏(‏117‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ هذه الجملة معطوفة على قوله‏:‏ ‏{‏وقالت اليهود‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ، ومن قرأ بغير واو جعلَها مستأنفة، و‏{‏بديع‏}‏‏:‏ بمعنى مُبدِع، والإبداع‏:‏ اختراع الشيء من غير تقدم شيء‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏كن فيكون‏}‏ قَدَّره سبيويه‏:‏ فهو يكون، وقرأ ابن عامر بنصب المضارع، ولَحَّنه بعضُهم؛ لأن المنصوبَ في جواب الأمر لا بد أن يصلح جواباً لشرطه، تقول‏:‏ اضرب زيداً فيستقيم، أي‏:‏ إن تضربه يستقيم‏.‏ ولا يصلح أن تقول هنا‏:‏ إن يكن يكن، وقد يجاب بحمله على المعنى، والتقدير‏:‏ إن قلت كن يكن‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ وقالت اليهود والنصارى والمشركون‏:‏ ‏{‏اتخذ الله ولدا‏}‏ تعالى الله عن قولهم، وتنزه عن ذلك؛ لأنه يقتضي الجنسية والمشابهة والاحتياج، والحق منزَّهٌ عن ذلك‏.‏ بل كل ما استقر في السماوات السبع والأرَضين السبع ملكه وعبيده، فكيف يكون العبد ولداً لمالكه‏؟‏‏.‏ وأيضاً كل ما ظهر في الوجود كله قانت، أي‏:‏ خاضع ومطيع لله، وعابد له، ومقهور تحت حكمه ومشيئته، وذلك مُنافٍ لحال البُنوة‏.‏

وأيضاً‏:‏ كل ما دخل عالم التكوين فهو مُبْدَع ومَخترَع لله، ومصنوع من مصنوعات الله، فلا يصح أن يكون ولداً، وأيضاً‏:‏ الولد يحتاج إلى صاحبة ومعالجة ومهلة، والحق تعالى أمره بين الكاف والنون، بل أسرع من لحظ العيون، فإذا ‏{‏قضى أمراً‏}‏ أي‏:‏ أراده، ‏{‏فإنما يقول له كن فيكون‏}‏، لا يتوقف على لفظة ‏{‏كن‏}‏، وإنما هو كناية عن سرعة الاقتدار‏.‏

قال البيضاوي‏:‏ واعلم أن السبب في هذه الضلالة أن أرباب الشرائع المتقدمة كانوا يطلقون الأب على الله تعالى، باعتبار أنه السبب الأول، حتى قالوا‏:‏ إن الأب هو الرب الأصغر، والله تعالى هو الرب الأكبر، ثم ظنّ الجهلة منهم أن المراد به معنى الولادة، فاعتقدوا ذلك تقليداً، ولذلك كفر قائله ومنع منه مطلقاً حسماً لمادة الفساد‏.‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ اعلم أنك إذا نظرت بعين البصيرة، أو بحق البصيرة، إلى الوجود بأسره، وجدته ذاتاً واحدة، ونسبته من الحق نسبة واحدة، أنوار ظاهرة، وأسرار باطنة، حكمته ظاهرة، وقدرته باطنة حسن ظاهر، ومعنى باطن، عبودية ظاهرية، وأسرار معاني الربوبية باطنة؛ إذا لا قيام للعبودية إلا بأسرار معاني الربوبية، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولاَ‏}‏ ‏[‏فَاطِر‏:‏ 41‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ‏}‏ ‏[‏النُّور‏:‏ 35‏]‏، وقال في الحكم‏:‏ «الأكوان ظاهرها غرة وباطنها عبرة، فالنفس تنظر إلى ظاهر بهجتها، والقلب ينظر إلى باطن عبرتها»‏.‏ فأهل الفَرْقِ يثبتون الأشياء مستقلة مع الله، وربما تغالى بعضهم فأشركها معه في الألوهية، فتعالى الله عن ذلك علواً كبيراً‏.‏

قال محيي الدين الحاتمي‏:‏ من رأى الخلق لا فعلَ لهم فقد فاز، ومن رآهم لا حياة لهم فقد جاز، ومن رآهم بعين العدم فقد وصل‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ ومن أثبتهم بالله فقد تمكن وصاله، وأنشدوا‏:‏

مَن أبصرَ الخلقَ كالسرابِ *** فقَد تَرقَّى عن الحجابِ

إلى وُجودٍ تراهُ رتقا *** بِلاَ ابتعادٍ ولا اقْتِرابِ

ولم تُشَاهِدْ به سواهُ *** هناك تهدي إلى الصوابِ

فَلا خِطابَ بِه إليهِ *** وَلا مُشِيرَ إلى الخطابِ

ه‏.‏

ولما قال رافع بن حريملة- من أحبار يهود- للرسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ أسمعنا كلام الله إن كنت رسوله، أو أرنا آية تصدقك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏118- 119‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آَيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ‏(‏118‏)‏ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ ‏(‏119‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ هذه المقالة صدرت من بعض اليهود والمشركين، قالوا ذلك تعنتاً وعناداً، لا طلباً لليقين، فلذلك نفى الله عنهم العلم رأساً، والمقصود في هذه الآيات كلها توبيخ اليهود‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وقال الذين‏}‏ لا علم عندهم‏:‏ هلا ‏{‏يكلمنا الله‏}‏ حتى نسمع منه أنك رسوله، ‏{‏أو تأتينا آية‏}‏ ظاهرة، نراها جهرة تدل على رسالتك، كما كانت لموسى- عليه السلام-‏.‏

وهذه المقالة التي صدرت من اليهود، تَعنتاً وعناداً، قد صدرت ممن قبلهم من أسلافهم، فقالوا‏:‏ ‏{‏أرنا الله جهرة‏}‏، ومن النصارى فقالوا‏:‏ ‏{‏هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَآءِ‏}‏ ‏[‏المَائدة‏:‏ 112‏]‏، ومن المشركين فقالوا‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنهار خِلالَهَا تَفْجِيراً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 90، 91‏]‏ الآية‏.‏ فقد تماثلت قلوبهم في الكفر والعناد، وتشابهت في العتو والفساد، قد أوضحنا لك الآيات البينات، تحقق رسالتك وتقرر اصطفائيتك، لمن طلب مزيد الإيقان، وكشف البيان على نعت العيان، فأعظمُها القرآن، ثم ما أوضحته من شرائع الأحكام، وما بينته من الحلال والحرام، ثم ما أخبرت به من الغيوب، وما كشفته عن القلوب من الكروب، ثم نطق الجمادات والأحجار، كحنين الجذع وانقياد كشفته عن القلوب من الكروب، ثم نطق الجمادات والأحجار، كحنين الجذع وانقياد الأشجار، وتسبيح الحصى، وتسليم الحجر، وقد نبع الماء من بين أصابعه وانهمر، إلى ما لا يعد ولا يحصى‏.‏

فقد ‏{‏أرسلناك بالحق‏}‏، أي‏:‏ متلبساً بالحق ومبيناً له، ‏{‏بشيرا‏}‏ لمن صدقتك واتبعك بالنعيم المقيم، و‏{‏نذيرا‏}‏ لمن خالفك بعذاب الجحيم‏.‏ فلا تسأل عن حالهم إذا أفضوا إليه، فإنه أعظم من أن يذكر، وأفظع من أن يسمع، إذ لا يمكن تفسير حالهم، ولا يستطيع أحد سماع أهوالهم، فالله يعصمنا من موارد الردى، ويوفقنا لاتباع الحق والهدى، أو لا يسألك ربك عنهم فهو أعلم بحالهم، وبالله التوفيق‏.‏

الإشارة‏:‏ طلب الكرامات وظهور الآيات من طبع أهل الجهل والعناد، وليس هو من شيم أهل الهداية والاسترشاد‏.‏ فالطريق واضح لمن طلب السبيل، والحق لائح لمن أبصر الدليل، فمن كحل عين بصرته بإثمد التوحيد الخاص، لم يقع بصره إلا على إلا على الحق، ولا يعرف إلا إياه، ورأى الأشياء كلها قائمة بالله، بل لا وجود لها مع الله، ومن فتح الله سمع قلبه لم يسمع إلا من الحق، ولا يسمع إلا به، كما قال القائل‏:‏ أنا بالله أنطق ومن الله أسمع‏.‏

وقال الجنيد رضي الله عنه‏:‏ ‏(‏لي أربعون سنة أُناجي الحق، والناس يَروْن أني أناجي الخلق‏)‏‏.‏ فالخالق محذوفون عند أهل العلم بالتحقيق، مُثْبَتُونَ عند أهل الجهل والتفريق‏.‏ يقولون‏:‏ لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية، مع أنه يكلمهم في كل وقت وساعة، كذلك قال مَن شاركهم في الجهل بالله، مع وضوح الآيات لمن عرف الله‏.‏ والله يقول الحق وهو يهدي السبيل‏.‏

ولمَّا قالت اليهود والنصارى لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ اجعل بيننا وبينك هُدْنة نتبعك بعدها، وأضمَرُوا في نفوسهم أنهم لا يتبعونه حتى يتبع ملتهم، فضحهم الله تعالى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏120‏]‏

‏{‏وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ‏(‏120‏)‏‏}‏

رضي الله عن>‏:‏ الملّة هي الشريعة، وهي ما شرع الله على لسان أنبيائه ورسله، من أملت الكتاب وأمليته، إذا قرأته‏.‏ والهوى‏:‏ رأى يتبع الشهوة‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ لرسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏ولن ترضى عنك اليهود‏}‏ وتتبع دينك أبداً، ‏{‏ولا النصارى‏}‏ كذلك ‏{‏حتى تتبع ملتهم‏}‏ على فرض المحال، والمقصود قطعُ رجائه من إسلامهم باختيارهم؛ لأن اتباعه ملتهم محال، وكذلك إسلامهم‏.‏ ولعله في قوم مخصوصين‏.‏ ثم زاد في التنفير من اتباعهم فقال‏:‏ ‏{‏ولئن اتبعت أهواءهم‏}‏ الباطلة فرضاً وتقديراً ‏{‏بعد الذي جاءك من العلم‏}‏ بالله وبأحكامه على المنهاج القويم، ‏{‏ما لك من الله من ولي‏}‏ يمنعك منا، ‏{‏ولا نصير‏}‏ ينصرك من غيرنا، أي‏:‏ لا ولي ولا نصير لك إلا نحن؛ حيث واليتنا، وأحببتنا، وأظهرت ملتنا، فنحن لك على ما تحب وترضى‏.‏

الإشارة‏:‏ التماس رضى الناس من علامة الإفلاس، ولن يرضى عنك الناس حتى تتبع أهواءهم، ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما تحققت ما هم فيه، إنك إذاً لمن الظالمين، فمن التمس رضى الناس وقع في سخط الله، ومن التمس رضى الله قطع يأسه من الناس، ولذلك قال بعضهم‏:‏ كل ما سقط من عين الخلق عظم في عين الحق، وكل ما عظم في عين الخلق سقط من عين الحق، وقال آخر‏:‏ إن الذي تكرهون مني هو الذي يشتهيه قلبي‏.‏ ه‏.‏

وقال بعض الصالحين‏:‏ ‏(‏لقيتُ بعض الأبدال، فقلت له‏:‏ دُلَّني على الطريق‏؟‏ فقال‏:‏ لا تخالط الناس‏؟‏ فإن مخالطتهم ظلمة، فقلت‏:‏ لا بد من مخالطتهم وأنا بين أظهرهم‏؟‏ فقال‏:‏ لا تعاملهم، فإن معاملتهم خسران‏.‏ قلت‏:‏ لا بد من معاملتهم‏؟‏ فقال‏:‏ لا تركن إليهم، فإن في الركون إليهم هلكة، فقالت‏:‏ هذا لعله يكون‏؟‏ فقال‏:‏ يا هذا، أتخالط البطالين، وتعامل الجاهلين، وتركن إلى الهلكى، وتحب أن يكون قلبك مع الله‏؟‏ هيهات‏.‏‏.‏‏.‏ هذا لا يكون أبداً، ثم غاب عني ولم أره‏)‏‏.‏

ولما عاتب الله بني إسرائيل ووبخهم استثنى من آمن منهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏121‏]‏

‏{‏الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏121‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ جملة ‏{‏يتلونه‏}‏ حال، و‏{‏أولئك‏}‏ خبر الموصول‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏الذين آتيناهم الكتاب‏}‏، كعبد الله بن سلام وأصحابه، حالتهم ‏{‏يتلونه حق تلاوته‏}‏ غير محرّفين له، ولا كاتمين ما فيه، ‏{‏أولئك‏}‏ هم الذين ‏{‏يؤمنون به‏}‏ حقيقة، وأما غيرهم ممن حرف وكتم صفة الرسول صلى الله عليه وسلم فقد كفر به، ‏{‏ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون‏}‏ أي‏:‏ الكاملون في الخسران، حيث بخسوا أنفسهم من عَزِّ الدارين‏.‏

الإشارة‏:‏ ما قيل في التوراة وأصحابه يقال مثله في القرآن وأهله؛ فمن آتاه الله القرآن، وتلاه حق تلاوته، بحيث جَوَّدَ حروفه وتَدبَّر معانيه، وعمل بما فيه، فأولئك هم المؤمنون به حقّاً، والفائزن بثمار معانيه حلاوة وذوقاً، ومن ترك التدبر في معانيه فقد حرم نفسه ثمار حلاوته، وذلك عين الخسران عند أهل الإيقان‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏122- 123‏]‏

‏{‏يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏122‏)‏ وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ‏(‏123‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ جملة ‏{‏لا تجزي‏}‏‏:‏ نعت ليوم، وحذف العائد، أي‏:‏ لا تجزي فيه نفس، قال المرادي‏:‏ ‏(‏إذا نعت بالجملة اسم زمان جاز حذف عائده‏)‏ ثم استدل بالآية‏.‏ وهل حذف برمته أو بالتدريج‏؟‏ قولان‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يابني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم‏}‏ بأن جعلت الأنبياء تسوسكم، والملوك منكم يدبرون أموركم، و‏{‏فضلتكم‏}‏ على عالم زمانكم، فاشكروا هذه النعم بالإيمان بالرسول الذي أرسلته إليكم، وخافوا أهوال يوم القيامة، الذي لا تغنى فيه ‏{‏نفس عن نفس شيئاً ولا يقبل منها‏}‏ فداء إن أرادت الفداء، ‏{‏ولا تنفعها شفاعة‏}‏ شافع، ولا يدفع عنها أهوال ذلك اليوم ولي ولا ناصر، إلا من اتخذ يداً عند الملك القادر، وبالله التوفيق، وتقدمت إشارة هذه الآية في الآية الأولى‏.‏

ولما أراد الحق تعالى أن ينسخ القبلة ويردها إلى بيت الله الحرام بعد أن كانت إلى بيت المقدس، ذكر خصوصيةَ مَنْ بناه، وكيفية بنائه، وفي ضمن ذلك ذكر شرفه ليكون ذلك داعياً إلى الامتثال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏124‏]‏

‏{‏وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ‏(‏124‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏ابتلى‏}‏ اختبر، و‏{‏إبراهيم‏}‏ مفعول، وفيه أربع لغات، إبراهام وإبراهوم وإبراهيم وبالقصر، و‏{‏ربه‏}‏ فاعل، وقدم المفعول للاهتمام، وقدم المفعول للاهتمام، ولئلا يعود الضمير على بعده لفظاً ورتبة، و‏{‏عهدي‏}‏ فاعل، و‏{‏الظالمين‏}‏ مفعول‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ واذكر يا محمد، أو اذكروا يا بني إسرائيل، حين اختبر ‏{‏إبراهيمَ رَبُّه بكلمات‏}‏ أن يعمل بها، وهي‏:‏ تسليم بدنه للنيران، وولده للقربان، وطعامه للضَّيفان، أو عشر خصال‏:‏ خمس في الرأس‏:‏ المضمضة، والاستنشاق، وقصّ الشارب، والسواك، وفرق الرأس‏:‏ وقيل‏:‏ وإعفاء اللحية، وخمس في الجسد‏:‏ تقليم الظفر، وحلق العانة، ونتف الإبط، والاستنجاء بالماء، والاختتان، أو مناسك الحج أو الخصال التي امتحن بها وهي‏:‏ الكوكب، والقمر، والشمس، والنار، والهجرة، والذبح، والأحسن أنها ثلاث‏:‏ الهجرة من وطنه، ورمي ولده بمكة، وذبح الآخرة حين بلغ أن يسعى معه ‏{‏فأتمهن‏}‏ أي‏:‏ وَفَّى بهن، فلما وَفَّى بهن ‏{‏قال‏}‏ الله تعالى له‏:‏ ‏{‏إني جاعلك للناس إماماً‏}‏، أي‏:‏ قدوة بك في بك في التوحيد، أو في الأصول والفروع، إذ لم يبعث بعده نبي إلا كان من ذريته، ومأمور باتباعه‏.‏

ولمّا جعله الله إماماً طلب ذلك لأولاده فقال‏:‏ ‏{‏ومن ذريتي‏}‏ فاجعل أئمة، ‏{‏قال‏}‏ الحق تعالى‏:‏ ‏{‏لا ينال عهدي‏}‏ أي‏:‏ لا يلحق عهدي بالإمامة ‏{‏الظالمين‏}‏ منهم، إذ لا يصلح للإمامة إلا البررة الأتقياء، لأنها أمانة من الله وعهد، والظالم لا يصلح لها، وفيه تنبيه على أنه قد يكون من ذريته ظلمة لا يستحقون الإمامة، وفيه دليل على عصمة الأنبياء قبل البعثة، وأن الفاسق لا يصلح للإمامة‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏

الإشارة‏:‏ إذا أراد الله تعالى أن يجعل وليّاً من أوليائه إماماً يُقتدى به، وداعياً يدعو إليه، ابتلاه، فإن صبر ورضي اصطفاه، ولحضرته اجتباه، فيكون إماماً يُقتدى به، وداعياً يُهتدى به، وهذه سنة الله تعالى في أصفيائه يبتليهم الله تعالى بتسليط الخلق عليهم وأنواع من البلايا، فإذا نقوا من البقايا، وتكلمت فيهم المزايا، أظهرهم للخلق داعين إلى الله ومرشدين إلى طريق الله، وقد تبقى الإمامة ذريتهم إن ساروا على هديهم، ومَن لم يسلك به هذا المسلك فلا يصلح للإمامة، وإن توجه إليها كان ناقصّا في الدعوة، ولذلك قال بعضهم‏:‏ ‏(‏من ادّعى شهود الجمال قبل تأدبه بالجلال، فارفضه فإنه دجال‏)‏‏.‏ ه‏.‏ وكل من اتصف بشيء من ظلم العباد لا ينال عهد الإمام في طريق الإرشاد، وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏125‏]‏

‏{‏وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ‏(‏125‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏المثابة‏}‏‏:‏ المرجع الذي يثُوب الناس إليه كل سنة، و‏{‏اتخذوا‏}‏‏:‏ على قراءة الأمر، محكي بقول محذوف، أي‏:‏ وقلنا اتخذوا، وعلى قراءة الماضي‏:‏ معطوف على ‏{‏جعلنا‏}‏، أي‏:‏ جعلناه مثابة، واتخذه الناس مُصلَّى‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏و‏}‏ اذكر يا محمد ‏{‏إذ جعلنا البيت‏}‏ الحرام‏:‏ أي‏:‏ الكعبة، مرجعاً للناس يرجعون لزيارته والطواف به كل سنة، وجعلناه محل أمن، كل من دخله كان آمناً من عقوبة الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فإنَّ الناس يُتَخطفون من حوله، وأهلُه آمنون، وأمافي الآخرة فلأن الحج يَجُبُّ ما قبله، وهذا يدل على شرف البيت وحرمته‏.‏

وقلنا لهم‏:‏ ‏{‏اتخذوا من مقام إبراهيم‏}‏، وهو الحجر الذي فيه أثر قدميه، ‏{‏مصلى‏}‏ تصلون إليه، وهو الذي يصلون خلفه ركعتي الطواف، ‏{‏وعهدنا‏}‏ أي‏:‏ أوحينا ‏{‏إلى إبراهيم وإسماعيل‏}‏ ولده، بأن قلنا لهما‏:‏ ‏{‏طهرا بيتي‏}‏ من الأدناس والأرجاس والأصنام والأوثان، ‏{‏للطائفين‏}‏ به ‏{‏والعاكفين‏}‏ أي‏:‏ المقيمين فيه، والمصلين فيه الراكعين الساجدين‏.‏ فكان البيت مطهراً في زمانهما وبعدهما زماناً، ثم أدخلت فيه الأصنام فطهّره نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم، وتبقى طهارته حتى يأتي أمر الله، والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ القلب هو بيت الرب، يقول الله تبارك وتعالى لبعض أنبيائه‏:‏ ‏{‏طهر لي بيتاً أسكنه، فقال‏:‏ يا رب أي بيت يسعك‏؟‏ فقال له‏:‏ لن تسعني أرضي ولا سمائي، ووسعني قلب عبدي المؤمن‏}‏ فإذا تطهر القلب من الأغيار وملئ بالأنوار، وتمكنت فيه المعارف والأسرار، كان مرجعاً وملجأ للعباد، كل مَن وصل إليه، وطاف به، كان آمنناً من الزيغ والعناد، ومن خواطر السوء سوء الاعتقاد، ومن دخله والوداد، أَمِن من الطرْد والبعاد، وكان عند الله من أفضل العباد‏.‏ ومقام إبراهيم- عليه السلام- هو الاستغراق في عين بحر الشهود، ورفع الهمة عن ما سوى الملك المعبود‏.‏

وهذا المقام هو الذي اتخذه العارفون كعبة لصلاة قلوبهم، وغاية لمنتهى قصودهم‏.‏

عِبارَاتُهُم شَتَّى، وحُسْنُكَ واحِدٌ، *** وكُلٍّ إلى ذلك الجَمالِ يُشِيرُ

وقد عهد الله تعالى إلى أنبيائه وأصفيائه أن يطهروا قلوبهم من الأغيار، ويرفضوا كل ما سواه من الأكدار، لتتهيأ بذلك لطواف الواردات والأنوار، ولعكوف المعارف والأسرار، وتخضع لهيبتها ظواهرُ الأشباح، وتنقاد لجمال بهجتها القلوبُ والأرواح، وما ذلك على الله بعزيز‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏126‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏126‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ الإشارة تعود إلى المكان، أو البلد، أي‏:‏ اجعل هذا المكان بلداً ذا أمن، قال بعضهم‏:‏ نكَّرَ البلد هنا، وعرَّفه في سورة إبراهيم، لان هذا الدعاء وقع قبل أن يكون بلداً، وفي سورة إبراهيم وقع بعد أن كان بلداً فلذلك عرَّفه، وفيه نظر من جهة التاريخ، وسيأتي تمامه هناك إن شاء الله‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏مَن آمَن‏}‏‏:‏ بدل من ‏{‏أهله‏}‏، بدل البعض للتخصيص، و‏{‏مَن كفر‏}‏‏:‏ معطوف على ‏{‏مَن آمَن‏}‏، على حذف المضارع، أي‏:‏ وارزق من كفر‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏و‏}‏ اذكر ‏{‏إذ قال إبراهيم‏}‏ في دعائه لمكة لما أنزَل ابنَه بها بواد غير ذي زرع، وتركه في يد الله تعالى‏:‏ ‏{‏رب اجعل هذا‏}‏ المكان ‏{‏بلداً آمناً‏}‏ يأمن فيه كل من يأوي إليه، ‏{‏وارزق أهله من‏}‏ أنواع ‏{‏الثمرات‏}‏، كالحبوب وسائر الفواكه، ‏{‏من آمن منهم بالله واليوم الآخر‏}‏ ‏{‏قال‏}‏ الحقّ جلّ جلاله‏:‏ بل وأرزق أيضاً ‏{‏من كفر‏}‏ في الدنيا ‏{‏فأمتعه‏}‏ زمناً ‏{‏قليلاً‏}‏، أو تمتيعاً قليلاً، ‏{‏ثم‏}‏ ألجئه ‏{‏إلى عذاب النار‏}‏ وبئس المرجع مصيره‏.‏

قاس إبراهيم الخليل الرزق على الإمامة، فنبَّه سبحانه وتعالى أن الرزق رحمه دنيوية، تعم المؤمن والكافر، بخلاف الإمامة، والتقدم في الدين، فإنها سبب النعيم الأخروي، ولا ينالها إلا أهلُ الإيمان والصلاح‏.‏

الإشارة‏:‏ دعاء الأنبياء عليهم السلام، كما يصدقُ بالحس يصدق بالمعنى، فيشمل دعاءُ الخيل القلوبَ التي هي بلد الإيمان، والأرواح التي هي معدن الأسرار والإحسان، فتكون آمنة من طوارق الشيطان، ومحفوظة من الوقوف مع رؤية الأكوان، آمنة من الأكدار، محفوظة من رؤية الإغيار، فيرزقها الله من ثمرة العلوم، ويفتح لها من مخازن الفهوم، من آمن منهم بالشريعة الظاهرة، وجاهد نفسه في عمل الطريقة الباطنة، حتى أشرقت عليه أنوار الحقيقة العيانية، وأما من كفر بطريقة الخصوص، ووقف مع ظاهر النصوص، فإنما يُمَتَّع بعلم الرسوم الذي حدُّ حلاوته اللسان، ثم يلجأ إلى عذاب الحجاب، وسوء الحساب، ولم يُفْضِ إلى حلاوة الشهود والعيان، التي يمتع بها الجَنَانُ حتى يُفْضي إلى نعيم الجنَان، فيتم النعيم بالنظر إلى وجهه الكريم، منحنا الله من ذلك حظاً وافراً يمنِّه وكرمه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏127‏]‏

‏{‏وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏127‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏القواعد‏}‏ جمع قاعدة، وهي الأساس، وكأنه مأخوذ من العقود بمعنى الثبات، وأما القواعد من النساء، فجمع قاعد، بلا تاء، لأنه وصف خاص بالنساء، فلا يحتاج إلى تمييز التاء، و‏{‏ربنا‏}‏ منصوب على النداء محكي بحال محذوفة، أي‏:‏ حال كونهم قائلين ربنا‏.‏‏.‏‏.‏ الخ‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ واذكر وقت رفع ‏{‏إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل‏}‏، وبنائهما له، بعد أن درس بالطوفان، وكان بناء آدم عليه السلام لما أُهبط إلى الأرض بإعلام الملائكة، كان إبراهيم عليه السلام يبني، وإسماعيلُ يُناوله الحجارة، فنسب البناء لهما لتعانهما، وقيل‏:‏ كانا يبنيان كُلٍّ في ناحية، حال كونهما قَائِلَيْنِ‏:‏ ‏{‏ربنا تقبل منا‏}‏ علمنا هذا، ‏{‏إنك أنت السميع‏}‏ لدعائنا، ‏{‏العليم‏}‏ بنياتنا وسرائرنا‏.‏

الإشارة‏:‏ ينبغي للعبد أن يرفع قواعد إسلامه، ويشيد دعائمه بتحقيق أركانه، كإتقان الشهادتين بتحقيق معانيها، وإتقان الصلاة بإتقان أركانها الظاهرة والباطنة، وإتقان الزكاة بإخلاص أدائها، وإتقان الصيام بتحصيل آدابه، وإتقان الحج بتحصيل مناسكه بعد وجوبه، ويرفع أيضاً قواعد إيمانه بتحقيق أركانه، وهي‏:‏ الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره، حُلْوِه ومُره، اعتقاداً وذوقاً، ويرفع أيضاً قواعد إحسانه، بتحصيل مراتبه، كتحقيق المشاهدة، وهو أن يعبد الله كأنه يراه، فإن لم يستطع فليعبده كأن الله يراه، وإن شئت قلت‏:‏ رفعُ قواعد الإسلام يكون بتحقيق التوبة والتقوى والاستقامة، ورفع قواعد الإيمان يكون بتحقيق الإخلاص والصدق والطمأنينة، ورفع قواعد الإحسان يكون بالمراقبة والمشاهدة والمعرفة، كما قال الساحلي- رحمه الله-‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏128- 129‏]‏

‏{‏رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ‏(‏128‏)‏ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏129‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ قال ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ لما فرغ إبراهيم وإسماعيل من بناء البيت، دَعَوَا بهذا الدعاء، فقال‏:‏ ‏{‏ربنا واجعلنا مسلمين لك‏}‏ أي‏:‏ منقادين لأوامرك الظاهرة ولأحكامك القهرية‏.‏

واجعل ‏{‏من ذريتنا أمة‏}‏ أي‏:‏ جماعة ‏{‏مسلمة لك‏}‏ ‏؟‏ عَلِمَا- بوحي أو إلهام- أنه يكون من ذريتهما من يكفر بالله، ‏{‏وأرنا‏}‏ أي‏:‏ عرفنا وعلمنا ‏{‏مناسكنا‏}‏ في الحج‏.‏ والنُّسُك في الأصل‏:‏ غاية العبادة، وشاع في الحج لما فيه من المشاق والكلفة، والبعد عن العادة‏.‏ ‏{‏وتب علينا‏}‏ مما لا يليق بحالنا، فسحناتُ الأبرار سيئات المقربين، فلكل مقام ما ينقصه وإن كان كاملاً‏.‏ ولهذا كان عليه الصلاة والسلام يستغفر في الملجس سبعين مرة‏.‏ إذ ما من مقام إلا وقبله ما فيه نقص، فإذا ترقى عنه استغفر منه ‏{‏إنك أنت التواب الرحيم‏}‏ أي‏:‏ كثير القبول والإقبال على التائبين‏.‏

‏{‏ربنا وابعث فيهم‏}‏ أي‏:‏ في الذرية ‏{‏رسولاً منهم‏}‏ وهو مولانا محمد صلى الله عليه وسلم قال- عليه الصلاة والسلام-‏:‏ «أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى»، حال كونه ‏{‏يتلو عليهم‏}‏ أي‏:‏ يبلغهم ‏{‏آياتك‏}‏ الدالة على توحيدك وصدق رسالتك، ‏{‏ويعلمهم الكتاب‏}‏ أي‏:‏ القرآن ‏{‏والحكمة‏}‏ أي‏:‏ الشريعة أو السنة‏.‏ وقال مالك‏:‏ هي الفقه في الدين والفهم فيه، أو نور يضعه في قلب من شاء من عباده، ‏{‏ويزكيهم‏}‏ أي‏:‏ يطهرهم من لوث المعاصي وكدر الحس، ‏{‏إنك أنت العزيز‏}‏ الغالب في حكمه وسلطانه، ‏{‏الحكيم‏}‏ في صنعه وإتقانه، والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ تضمن دعاؤهما عليهما السلام ثلاثة أمور يُطلب التماسها والتحقق بها من كل أحد؛ أولها‏:‏ الانقياد لله في الظاهر والباطن، بامتثال أمره والاستسلام لقهره، حتى يسري ذلك في الأصل إلى فرعه، وهي غاية المنّة، قال في الحكم‏:‏ «متى جعلك في الظاهر ممتثلاً لأمره، وفي الباطن مستسلماً لقهره، فقد أعظم منته عليك»‏.‏ الثاني‏:‏ معرفته الطريق، والسلوك على جادتها، كارتكاب مشاق الطاعات، ومعانقة مخالفة الهوى والشهوات، ورؤية التقصير في ذلك، وطلب التوبة مما هنالك، وهذه هي مناسك حج القلوب، والطريق الموصل إلى عَرَفَةِ حَضْرَةِ الغيوب، والثالث‏:‏ الظفر بالداعي إلى الله والدال عليه، وهو المعلم الأكبر، صحبته تطهر من العيوب، ورؤيته تغني القلوب، وتدخلها إلى حضرة الغيوب، ظاهره قائم بوظائف الحكمة، وباطنه مشاهد لتصاريف القدرة، وهذا هو القائم بالتربية النبوية‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏130- 132‏]‏

‏{‏وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏130‏)‏ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏131‏)‏ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ‏(‏132‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏من‏}‏‏:‏ استفهامية إنكارية، فيها معنى النفي، مبتدأ، و‏{‏يرغب‏}‏ وما بعده خبر، و‏{‏إلا‏}‏ إبطال لنفيها الذي تضمنته، و‏{‏مَن سَفِه‏}‏ بدل من ضمير ‏{‏يرغب‏}‏ على المختار، و‏{‏نفسه‏}‏ مفعول ‏{‏سَفِه‏}‏؛ لتضمنه معنى جهل أو أهلك، قاله الزجاج، أو على التمييز؛ قاله الفراء؛ لأن الضمير فيه معنى الشيوع الذي في ‏{‏مَن‏}‏ فلم يكسب التعريف، أو على إسقاط الجارّ وإيصال الفعل إليه، كقولهم‏:‏ ضرب فلان الظهر والبطن‏.‏ و‏{‏إذ‏}‏ معمول لاصطفيناه، وأوصى ووصى‏:‏ لغتان، إلا أن وصى فيه معنى التكثير‏.‏ وضمير ‏{‏بها‏}‏ يعود على كلمة ‏{‏أسلمت‏}‏، أو الملة، و‏{‏يعقوب‏}‏ معطوف على ‏{‏إبراهيم‏}‏، و‏{‏بني‏}‏ محكي بحال محذوفة، أي‏:‏ قائلين يا بني، أو مبتدأ، والخبر محذوف، أي‏:‏ قال يا بني‏.‏‏.‏‏.‏ الخ، فيوقف على ‏{‏بينه‏}‏‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ومَن‏}‏ هذا الذي ‏{‏يرغب عن ملة إبراهيم‏}‏ الواضحة ‏{‏إلا‏}‏ من جهل قدر ‏{‏نفسه‏}‏ وبسخها حقها‏؟‏ أو إلا من خف رأيه وسفهت نفسه‏؟‏ وكيف يرغب عاقل عنها وقد اخترناه أماماً ‏{‏في الدنيا‏}‏ يقتدي به أهل الظاهر والباطن‏؟‏ ‏{‏وإنه في الآخرة لمن الصالحين‏}‏ لحضرتنا، والساكنين في جوارنا‏.‏

وإنما اخترناه لذلك لأنه حين ‏{‏قال له ربه‏}‏‏:‏ استسلم لحكمنا، وانقد لأمرنا، قال سريعاً‏:‏ ‏{‏أسلمت‏}‏ وجهي ‏{‏لرب العالمين‏}‏، وانقدْتُ بكُلّيتي إليه‏.‏ ‏{‏ووصى‏}‏ بهذه الكلمة أو الملة ‏{‏إبراهيم‏}‏، عند موته، ‏{‏بنيه‏}‏، وكانوا أربعة‏:‏ إسماعيل وإسحاق ومدين ومدان‏.‏ وكذلك حفيده ‏{‏يعقوب‏}‏ أوصى بهذه الكلمة بنيه‏.‏ وكانوا اثني عشر، على ما يأتي في الأسباط، قائلين في تلك الوصية‏:‏ ‏{‏يا بني إن الله‏}‏ اختار لكم ‏{‏الدين‏}‏ الحنيف الواضح المنيف، فتمسكوا به ما عِشْتُّم ولا تموتُن ‏{‏إلا وأنتم مسلمون‏}‏ متمسكون به‏.‏

الإشارة‏:‏ ملة أبينا إبراهيم عليه السلام هي رفع الهمة عن الخلق، وإفراد الوجهة للملك الحق، ورفض الوسائط والأسباب، والتعلق بربّ الأرباب، وفي ذلك يقول الشاعر، وهو الششتري‏:‏

فَرَفْضُ السّويَ فَرْضٌ علينا لأنَّنا *** بملةِ محْوِ الشّركِ والشَّكِّ قدْ دِنَّا

ومِنْ ملته أيضاً‏:‏ تركُ التدبير والاختيار، والاستسلام لأحكام الواحد القهار، فمن تمسك بهذه الخصال على التمام‏.‏ ووصى بها نم لقيه من الأنام، جعله الله في الدنيا إماماً يقتدي بأقواله ويهتدي بأنواره، وإنه في الآخرة لمن الصالحين المقربين مع النبيين والمرسلين، وأما من رَغِبَ عن هذه الملة الحنيفة فقد خسر الدنيا والآخرة‏.‏ نسأل الله الحفظ بمنّه وكرمه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏133- 134‏]‏

‏{‏أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ‏(‏133‏)‏ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏134‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏أم‏}‏‏:‏ منقطعة، والاستفهام فيها للإنكار، أي‏:‏ ما كنتم حاضرين حين حضر يعقوب الموت، وقال لبنيه ما قال، فكيف تدعون اليهودية عليه، و‏{‏إلهاً واحداً‏}‏ بدل من ‏{‏إله آبائك‏}‏، وفائدته التصريح بالتوحيد، ونفي التوهم الناشىء عن تكرير المضاف، لتعذر العطف على المجرور، والتأكيد، أو نصب على الاختصاص أو الحال، وعد إسماعيل من الآباء تغليباً، أو لأنه كالأب؛ لقوله- عليه الصلاة والسلام-‏:‏ «عَمُّ الرُجلِ صِنْوُ أبيه» وقال في العباس‏:‏ «هذا بقية آبائي» قاله البيضاوي‏.‏

يقوله الحق جلّ جلاله‏:‏ في توبيخ اليهود على زعمهم أن اليهودية كانت ملة إبراهيم، وأن يعقوب عليه السلام أوصى بها عند موته، فقال‏:‏ هل كنتم حاضرين عند يعقوب حين حضرته الوفاة حتى أوصى بما زعمتهم‏؟‏ وإنما كانت وصيته أن قال لبنيه‏:‏ ‏{‏ما تعبدون من بعدي‏}‏ أيْ‏:‏ أيّ شيء تعبدونه‏؟‏ أراد به تقريرهم على التوحيد وأخذ ميثاقهم على الثبات عليه، ‏{‏قالوا‏}‏ في جوابه‏:‏ ‏{‏نعبد إلهك‏}‏ المتفق على وجوب وجوده وثبوت ألوهيته الذي هو ‏{‏إلهك وإله آبائك‏}‏ قبلك ‏{‏إبراهيم‏}‏ وولده ‏{‏إسماعيل وإسحاق‏}‏ الذي هو إلهٌ واحدٌ‏.‏ ونحون منقادون لأحكامه، مستسلمون لأمره إلى مماتنا، فلم يوص يعقوب إلا بما سمعتم، فانتسابكم يا معشر اليهود إليهم لا يوجب انتفاعكم بأعمالهم، وإنما تنتفعون بموافقتهم واتباعهم‏.‏

فتلك ‏{‏أمة‏}‏ أي‏:‏ جماعة ‏{‏قد خلت لها ما كسبت‏}‏ من الخير، ‏{‏ولكم ما كسبتم‏}‏ أنتم، ‏{‏ولا تسألون عما كانوا يعملون‏}‏ فلا تؤاخذون بسيئاتهم، كما لا تثابون بحسناتهم‏.‏ وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم لقريش‏:‏ «لا يأتيني الناسُ بأعمَالهِم وتَأتُوني بأنْسَابِكُم»‏.‏

الإشارة‏:‏ يقال لمن حصرَ الخصوصية في أسلافه، ونفاها عن غيرهم‏:‏ هل حضرتم معهم حين أوصوا بذلك‏؟‏ بل ما كانوا يوصون إلا بإخلاص العبودية، وتوحيد الألوهية، ومشاهدة عظمة الربوبية، فمن حصّل هذه الخصال كانت الخصوصية معه أينما كان، ومَن حاد عنها ومال إلى متابعة الهوى انتقلت إلى غيره، ويقال له‏:‏ إن أسلافه قد جَدُّوا ووجَدُوا، وأنت لا تنتفع بأعمالهم في طريق الخصوصية، ‏{‏تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏135‏]‏

‏{‏وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏135‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ الضمير في ‏{‏قالوا‏}‏ لأهل الكتاب، و‏{‏أو‏}‏ للتفصيل، أي‏:‏ قالت اليهود‏:‏ كونوا هوداً، وقالت الصنارى‏:‏ كونوا نصارى‏.‏ و‏{‏تهتدوا‏}‏ جواب الأمر، و‏{‏ملة‏}‏ منصوب بفعل محذوف، على حذف مضاف، أي‏:‏ بل نكون أهل ملة إبراهيم، أو نتبع او نلزم ملة إبراهيم، و‏{‏حنيفاً‏}‏ حال من المضاف إليه، لأنه كجزئه، أي‏:‏ مائلاً عن الباطل، إلى الحق‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ وقالت اليهود للمسلمين‏:‏ ‏{‏كونوا‏}‏ معنا هوداً ‏{‏تهتدوا‏}‏؛ فإن ديننا أقدم، وقالت النصارى لهم أيضاً، كونوا ‏{‏نصارى‏}‏ معنا ‏{‏تهتدوا‏}‏ فإن ديننا أصوب، ‏{‏قل‏}‏ لهم يا محمد‏:‏ ‏{‏بل‏}‏ نلزم ‏{‏ملة إبراهيم‏}‏ الذي كان مائلاً عن الباطل متبعاً للحق، ومشاهداً له وحده‏.‏ ولم يكن من المشركين كما أشركتم بعُزير وعيسى وغيرهما، تعالى الله عن قولكم علواً كبيراً‏.‏

الإشارة‏:‏ قد سرى هذا الطبع في بعض المنتسبين، يُرَغِّبُون الناس في طريقهم، ويحرصون على اتباعهم والدخول معهم، وينقصون طريق غيرهم، وهو وصف مذموم، بل الواجب أن ينظر الإنسان بعين البصيرة، فمن وجده يدل على الله ويغيب عما سواه، ينهض حاله ويدل على الله مقاله، اتبعه وحطَّ رأسه له، ولزم ملته وطريقه إينما كان، وكيفما كان‏.‏ ومن وجده على غير هذا الوصف، أعرض عنه، والتمس غيره، وليس من شأن الدعاة إلى الله الحرص على الناس، أو الترغيب في اتباعهم، بل هم أزهد الناس في شأن الدعاة إلى الله الحرص على الناس، أو الترغيب في اتباعهم، بل هم أزهد الناس في الناس، من أتاهم دلّوه على الله، ومن لقيهم نصحوه في الله، هم على قدَم الرسول صلى الله عليه وسلم وقد قال له الحقّ تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏يُونس‏:‏ 99‏]‏‏.‏ ‏{‏لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 22‏]‏، ‏{‏لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏الشُّعَرَاء‏:‏ 3‏]‏ فكان صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يدل على الله وينظر ما يفعل الله‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏136- 138‏]‏

‏{‏قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ‏(‏136‏)‏ فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏137‏)‏ صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ ‏(‏138‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ الأسباط‏:‏ الأحفاد، والسِّبطُ في بني إسرائيل بمنزلة القبيلة في ولد إسماعيل، والباء في ‏{‏بمثل‏}‏‏:‏ يحتمل أن تكون زائدة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏جَزَآءُ سَيِّئَةِ بِمِثْلِهَا‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 27‏]‏، أو ‏{‏مثل‏}‏ مُقْحَم، أي‏:‏ فإن آمنوا بما آمنتم به، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِى إِسْرَاءِيلَ عَلَى مِثْلِهِ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 10‏]‏‏.‏ والشقاق‏:‏ المخالفة، كأن كل واحد من المتخالفين في شق غير شق الآخر، و‏{‏صبغة الله‏}‏‏:‏ مصدر مؤكد لآمنا؛ لأن الإيمان ينصبغ في القلوب، ويظهر أثره على الجوارح ظهور الصبغ على المصبوغ، ويتداخل في قلوبهم تداخل الصبغ للثوب‏.‏ أي‏:‏ آمنا وصبغنا الله به صبغة‏.‏

وهي فطرة الله التي فطر الناس عليها، وعبَّر عنها بالصبغ للمشاكلة؛ فإن النصارى كانوا يغمسون أولادهم في ماء أصفر يسمونه المعمودية، ويقولون‏:‏ هو تطهير لهم، وبه تحق نصرانيتهم، فردَّ الله تعالى عليهم بأن صبغة، الله أحسن من صبغتهم وقيل‏:‏ نصب على البدل من ‏{‏ملة إبراهيم‏}‏، أو على الإغراء، أي‏:‏ الزموا صبغة الله‏.‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏قولوا‏}‏ يا معشر المسلمين في تحقيق إيمانكم‏:‏ ‏{‏آمنا بالله‏}‏ أي‏:‏ صدقنا بوجوده متصفاً بصفة الكمال، منزّهاً عن النقائص، ‏{‏و‏}‏ بما ‏{‏أُنزل إلينا‏}‏ وهو القرآن، ‏{‏و‏}‏ بما ‏{‏أُنزل‏}‏ من الصحف ‏{‏إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب‏}‏ ولد إسحاق، ‏{‏والأسباط‏}‏ أولاد يعقوب عليه السلام وهم‏:‏ روبيل وشمعون ولاوى ويهوذا وربالون ويشحُرْ، ودنية بنته، وأمهم لَيَا، ثم خلف على أختها راحيل، فولدت له يوسف وبنيامين، وَوُلد له من سرِّيَّتينِ‏:‏ دان ونفتالى وجاد وآشر‏.‏

قال ابن حجر‏:‏ اختلف في نبوتهم، فقيل‏:‏ كانوا أنبياء، وقيل‏:‏ لم يكن فيهم نبيّ، وإنما المراد بأسباط قبائل من بني إسرائيل، فقد كان فيهم من الأنبياء عدد كثير‏.‏ ه‏.‏ وممن صرّح بنفي نبوتهم عياض وجمهور المفسرين‏.‏ انظر‏:‏ المحشي الفاسي‏.‏

وقولوا‏:‏ آمنا بما أنزل إلى ‏{‏موسى‏}‏ وهو التوراة، ‏{‏وعيسى‏}‏ وهو الإنجيل، وبما ‏{‏أوتي النبيون‏}‏ كلهم ‏{‏من ربهم‏}‏ من عرفنا منهم ومن لم نعرف، ‏{‏لا نفرق بين أحد‏}‏ واحد ‏{‏منهم‏}‏ كما فرقت اليهود والنصارى، فقد آمنا بالله وبجميع أنبيائه ‏{‏ونحن له مسلمون‏}‏ أي‏:‏ منقادون لأحكامه الظاهرة والباطنة‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏فإن آمنوا‏}‏ أي‏:‏ أهل الكتاب إيماناً مثل إيمانكم، ‏{‏فقد اهتدوا‏}‏ إلى الحق والصواب، وإن أعرضوا عن ذلك فاتركهم حتى نأمرك فيهم، ‏{‏فإنما هم في شقاق‏}‏ وخلاف لك، فلا تهتم بشأنهم، ‏{‏فسيكفيكهم الله‏}‏ أي سيكفيك شرهم وينصرك عليهم، ‏{‏وهو السميع‏}‏ لدعائكم، ‏{‏العليم‏}‏ بإخلاصكم، فالزموا ‏{‏صبغة الله‏}‏ التي صُبغتم بها، هي الإيمان بما ذكرت لكم؛ فإنه لا أحسن صبغة من صبغة الله، ‏{‏و‏}‏ قولوا‏:‏ ‏{‏نحن له عابدون‏}‏‏.‏

الإشارة‏:‏ كما أوجب الله تعالى الإيمان بجميع الرسل في طريق العموم، كذلك أوجب الله التصديق بكل من ثبتت ولايته في طريق الخصوص، فمن فرق بينهم فقد كفر بطريقهم، ومن كفر بطريقهم طُرد عن بابهم، ومن طرد عن بابهم طرد عن باب الله، لأن إسقاطه من الولاية إيذاء له، ومن آذى ولياً فقد آذن الله بالحرب، فالواجب، على مَن أراد أن يرد مناهلهم، أن يصدق بجميعهم، ويعظم من انتسب إليهم، حتى تتصبغ في قلبه حلاوة الإيمان، وتشرق عليه شموس العرفان، فمن فعل هذا فقد اهتدى إلى الحق والصواب، واستحق الدخول مع الأحباب، ومن أعرض عن هذا فإنما هو في شقاق، وربما يخاف عليه من شؤم الكفر والنفاق، فسيكفي الله أولياءه سوءَ شره، والله غالب على أمره‏.‏

قال القشيري‏:‏ فللقلوب صبغة، وللأرواح صبغة، وللسرائر صبغة، وللظواهر صبغة، فصبغة الأشباح والظواهر بآثار التوفيق، وصبغة الأرواح والسرائر بأنوار التحقيق‏.‏ ه‏.‏ وقال الورتجبي‏:‏ صبغة الله‏:‏ صفته الخاصة التي خلق آدم عليها، وأورثت ذلك في أرواح ذريته من الأنبياء والأولياء‏.‏ ثم قال‏:‏ وسقاها من شراب الزلفة، وألهمها خصائص علوم الربوبية، فاستنارت بنور المعرفة، وخاضت في بحر الربوبية، وخرجت منها تجليات أسرار الوحدانية، وتكوّنت بصبغ الصفات‏.‏ ه‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏139- 141‏]‏

‏{‏قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ ‏(‏139‏)‏ أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏140‏)‏ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏141‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ الذي يظهر أن ‏{‏أم‏}‏ منقطعة، بمعنى بل، على قراءة الخطاب والغيبة؛ لأن المقصود إنكار وقوع الأمرين معاً، لا أحدهما‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ يا محمد لأهل الكتاب‏:‏ أتخاصموننا ‏{‏في الله‏}‏ وتقولون‏:‏ أنتم أولى به منا ‏{‏وهو ربنا وربكم‏}‏، لا يختص به واحد دون آخر، ‏{‏ولنا أعمالنا‏}‏ نتقرب بها إليه، ‏{‏ولكم أعمالكم‏}‏ تتقربون بها أيضاً، فكيف تختصون به دوننا ‏{‏ونحن له مخلصون‏}‏ في أعمالنا وقلوبنا دونكم فإنكم؛ أشركتم به غيره، فإن قلتم‏:‏ إن الإنبياء كلهم منكم وعلى ملتكم فقد كذبتم، أتقولون ‏{‏إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب‏}‏ وأولاده ‏{‏الأسباط كانوا هوداً‏}‏ على دينكم يا معشر اليهود، ‏{‏أو نصارى‏}‏ على ملتكم يا معشر النصارى‏.‏

‏{‏قل‏}‏ لهم يا محمد‏:‏ ‏{‏أأنتم أعلم أم الله‏}‏ وقد نفى الأمرين معاً عن إبراهيم فقال‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِمَاً‏}‏ ‏[‏آل عِمران‏:‏ 67‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَمَآ أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ‏}‏ ‏[‏آل عِمرَان‏:‏ 65‏]‏، وهؤلاء المعطوفون عليه‏:‏ أتباعه في الدين، فليسوا يهوداً ولا نصارى، فكيف تدعون أنهم كلهم منكم، وعلى دينكم، وأنتم تشهدون أنهم لم يكونوا على دينكم‏؟‏ ‏{‏ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله‏}‏، وهي شهادة الحق لإبراهيم بالحنيفية، والبراءة من اليهودية والنصرانية، أي‏:‏ لا أحد أظلم منه، وليس الله تعالى ‏{‏بغافل عما تعملون‏}‏، بل يجازيكم على النقير والقطمير، فإن اعتمدتم على نسبكم إليهم فقد اغتررتم‏.‏

‏{‏تلك أمة‏}‏ قد مضت، ‏{‏لها ما كسبت‏}‏ لا ينتفع به غيرها، ‏{‏ولكم ما كسبتم‏}‏ لا ينفعكم غيره، ولا تسألون عن عملهم كما لا يسألون عن أعمالكم، قال البيضاوي‏:‏ كرره للمبالغة في التحذير، والزجر عما استحكم في الطباع من الافتخار بالآباء، والاتكال عليهم، وقيل‏:‏ الخطاب فيما سبق لهم، وفي هذه الآية لنا، تحذيراً عن الاقتداء بهم، وقيل‏:‏ المراد بالأمة في الأولى الأنبياء، وفي الثانية أسلاف اليهود والنصارى‏.‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ كل من أقامه الحقّ في وجهه، ووجهه إليها، فهو عامل لله فيها، قائم بمراد الله منها، وما اختلفت الأعمال إلى من جهة المقاصد، وما تفاوت الناس إلى من جهة الإخلاص‏.‏ فالخلق كلهم عبيد للملك المجيد، وما وقع الاختصاص إلا من جهة الإخلاص‏.‏ فمن كان أكثر إخلاصاً لله كان أولى من غيره بالله، وبقدر ما يقع للعبد من الصفاء يكون له من الاصطفاء، فالصوفية والعلماء والعباد والزهاد وأهل الأسباب على اختلاف أنواعهم كلهم عاملون لله، ليس أحد منهم بأولى من غيره بالله إلا من جهة الإخلاص وإفراد القلب لله، فمن ادعى الاختصاص بالله من غير هذه الوجهة فهو كاذب، ومن اعتمد على عمل غيره فهو مغرور، يقال له‏:‏ ‏{‏تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون‏}‏‏.‏

ولمّا أراد الله تعالى أن ينسخ القبلة من جهة الشام ويردها إلى الكعبة، أخبر أنه سيكرها قومٌ خَفَّتْ أحلامُهم، وفسدت بالتقليد الردي عقولُهم، وهم أحبار اليهود والمنافقون والمشركون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏142‏]‏

‏{‏سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏142‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏سيقول السفهاء من الناس‏}‏ الذين لا عقل لهم ولا دين، حين تحول القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة‏:‏ ما صرفهم ‏{‏عن قبلتهم التي كانوا عليها‏}‏، فلو دام عليها لاتبعناه‏.‏ ‏{‏قل‏}‏ لهم يا محمد‏:‏ ‏{‏لله المشرق والمغرب‏}‏ لا يختص ملكه بمكان دون مكان بخاصية ذاتيه تمنع من إقامة غيره مقامه، بل الأماكن عند الله سواء‏:‏ والخلق في حقه سواء، ‏{‏يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم‏}‏، ويضل مَن يشاء عن المنهاج القويم «لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ» ‏[‏الأنبيَاء‏:‏ 23‏]‏، والصراط المستقيم‏:‏ ما ترتضيه الحكمة وتقتضيه المصلحة من التوجه إلى بيت المقدس تارة، والكعبة أخرى، وفائدة تقديم الإخبار به‏:‏ توطين النفس وإعداد الجواب‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏

قال بعض العارفين‏:‏ ‏(‏لي أربعون سنة ما أقامني الحق في شيء فكرهته، ولا نقلني إلى غيره فسخطته‏)‏‏.‏ بخلاف السفهاء من الجهال، فشأنهم الإنكار عند اختلاف الأحوال، فمن رأوه تجرد عن الأسباب وانقطع إلى الكريم الوهاب، قالوا‏:‏ ما ولاَّه عن حاله الذي كان عليه‏؟‏ وأكثروا من الاعتراض والانتقاد عليه، وكذلك من رأوه رجع إلى الأسباب بعد الكمال، قالوا‏:‏ قد انحط عن مراتب الرجال‏.‏ وهو إنما زاد في مراتب الكمال‏.‏ فالملك كله لله، يهدي مَن يشاء إلى الصراط مستقيم، ويضلّ مَن يشاء بعدله الحكيم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏143‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏143‏)‏‏}‏

‏{‏وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ قلت‏:‏ ‏{‏الوسط‏}‏ هو العدل الخيّر الفاضل، وهو في الأصل اسم للمكان الذي تستوي إليه المساحة من الجوانب، ثم استعير للخصال المحمودة؛ لوقعوها بين طرفي إفراط وتفريط، كالجود بين الإسراف والبخل، والشجاعة بين التهور والجبن، ثم أطلق على المتصف بها مستوياً فيه الواح والجمع، والمذكر والمؤنث‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ وكما جعلناكم مهتدين إلى الصراط المستقيم، وجعلنا قبلتكم أفضل الجهات، جعلناكم أمة أفضل الأمم، خياراً عدولاً مزكَّين بالعلم والعمل، لتصلحوا للشهادة على غيركم، فتكونوا يوم القيامة ‏{‏شهداء على الناس‏}‏، ويزكيكم نبيكم فيشهد بعدالتكم‏.‏

قال البيضاوي‏:‏ رُوِيَ ‏(‏أن الأمم يوم القيامة يجحدون تبليغ الأنبياء، فيُطالبُهم الله ببينة التبليغ وهو أعلم بهم، إقامة للحجة على المنكرين، فيُؤتَى بأُمة مُحَمّدٍ صلى الله عليه وسلم فيشهدُون، فتقُول الأمم‏:‏ مِنْ أَيْنَ عرفتُمْ‏؟‏ فيقولُون‏:‏ عَلِمْنَا ذلك بإخْبَار الله في كِتَابِهِ النَّاطِقِ عَلَى لسانِ نبيه الصَّادِقِ‏.‏ فيُؤتى بمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَيُسألُ عن حَالِ أُمته فَيشْهَدُ بعَدَالتِهمْ‏)‏‏.‏

وهذه الشهادة، وإن كانت لهم، لكن لمّا كان الرسول كالرقيب المهيمن على أمته عُدّيِ بِعَلَى، وقُدِّمت الصلة للدلالة على اختصاصهم بكون الرسول شهيداً عليهم‏.‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ التفاضل بين الرجال إنما يكون بالعلم والحال، فمن قَويَ علْمُه بالله كان أعظم قدراً عند الله، والعلم الذي به الشرف عند الله هو العلم بذات الله وبصفاته وأسمائه، وكذا العلم بأحكام الله إذا حصل معه العلم بالله، فكلما انكشف الحجاب عن القلب كان أقرب إلى الرب، وانكشاف الحجاب يكون على قدر التخلية والتحلية، فبقدر ما يتخلّى القلب عن الرذائل، ويبعد عن القواطع والشواغل، ويتحلّى بأنواع الفضائل، ينكشف عنه الحجاب ويدخل مع الأحباب، وبقدر ما يتراكم على القلب من الخواطر والشواغل، ويدخل عليه من المساوئ والرذائل، يقع البعد عن الله، ويطرد العبد عن باب الله، فلا يدل على كمال العبد كثرة الأعمال، وإنما يدل على كماله علو الهمة والحال، وعلو الهمة على قدر اليقين، وقدر اليقين على قدر المعرفة، والمعرفة على قدر التوجه والتصفية، والتوجه تابع للقسمة الأزلية‏.‏ وذلك فضل الله يؤتيه مَن يشاء‏.‏

ثم إن العلماء بأحكام الله إذا لم يحصل لهم الكشف عن ذات الله يكونون حجة على عباد الله‏.‏ والعلماء بالله الذين حصل لهم الكشف عن ذات الله حتى حصل لهم الشهود والعيان يكونون حجة على العلماء بأحكام الله‏.‏ فكما أن الأمة المحمدية تشهد على الناس، والرسول يشهد عليهم ويزكيهم، فكذلك العلماء يشهدون على الناس، والأولياء يشهدون على العلماء، فيزكون من يستحق التزكية، ويردون مَن لا يستحقها؛ لأن العارفين بالله عالمون بمقامات العلماء أهل الظاهر، لا يخفى عليهم شيء من أحوالهم ومقاماتهم، بخلاف العلماء، لا يعرفون مقامات الأولياء، ولا يشمون لها رائحة، كما قال القائل‏:‏

تركنا البُحُورَ الزاخِراتِ ورَاءنَا *** فَمِنْ أينَ يَدْرِي الناسُ أينَ توجَّهْنَا

قال القشيري‏:‏ ‏(‏جعل هذه الأمة خيار الأمم، وجعل هذه الطائفة خيار هذه الأمة فهم خيار الخيار‏.‏ وكما أن هذه الأمة شهداء على الأمم في القيامة؛ فهذه الطائفة هم المدار وهم القطب وبهم يحفظ الله جميع الأمة‏.‏ وكل مَن قبلته قلوبهم فهو المقبول، ومن ردَّته قلوبهم فهو المردود‏.‏ فالحكم الصادق لفراستهم، والصحيح حكمهم، والصائب نظرهم، عصم جميع الأمة من الاجتماع على الخطأ، وعصم هذه الطائفة من الخطأ في النظر والحكم والقبول والرد، ثم إن بناء أمرهم مستند إلى سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فكل مَن لا يكون له اقتداء بالرسول فهو عندهم مردود، وصاحبه كلا شيء‏)‏‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

ثم ذكر الحق تعالى حكمة نسخ القبلة، فقال143 ‏:‏

‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ وَمَا جَعَلْنَا القبلة التي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرسول مِمَّن يَنقَلِبُ على عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الذين هَدَى الله وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ‏(‏143‏)‏‏}‏ قلت‏:‏ ‏{‏جعل‏}‏ تصييرية، و‏{‏القبلة‏}‏ مفعول أول، و‏{‏التي‏}‏ صفة للمفعول الثاني المحذوف، أي‏:‏ وما جعلنا القبلة الجهة التي كانت عليها وهي بيت المقدس، ثم وجهناك إلى الكعبة إلا لنعلم الثابت على الإيمان من غيره، أو‏:‏ وما صيّرنا القبلة الجهة التي كنت عليها بمكة وهي الكعبة، فإنه كان- عليه الصلاة والسلام- يصلي إليها بمكة‏.‏

وقيل‏:‏ كان يستقبل بيت المقدس ويجعل الكعبة بينه وبينها، كما قال ابن عباس، و‏{‏إن‏}‏ مخففة، واللام فارقة‏.‏ أي‏:‏ وإنه، أي‏:‏ الأمر والشأن‏:‏ كانت التحويلة لشاقة على الناس، والرأفة‏:‏ شدة العطف، فهي أبلغ من الرحمة‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ وما نسخنا حكم القبلة وجعلناها الجهة التي كنت عليها بمكة دون التي كانت بالمدينة، وهي بيت المقدس، ‏{‏إلا لنعلم‏}‏ علم ظهور وشهادة ‏{‏من يتبع الرسول‏}‏ في التحويل إليها ‏{‏ممن ينقلب على عقبيه‏}‏ لضعف إيمانه وقلة إيقانه، فإن التحويلة عن القبلة الأولى والرجوع إلى الثانية شاق على النفوس، إلا من سبقت له الهداية وحفت به الرعاية، فإنه يدور مع مراد الله أينما دار، ويتبع رسوله أينما سار‏.‏ ومن مات قبل التحويل إلى الكعبة فإن الله لا يضيع أجر عمله ‏{‏وما كان الله ليضيع إيمانكم‏}‏ أي‏:‏ صلاتكم إلى بيت المقدس؛ ‏{‏إن الله بالناس لروؤف رحيم‏}‏‏.‏

الإشارة‏:‏ الخروج عن العادات وترك الأمور المألوفات كلاهما شاق على النفوس، إلا على الذين هدى الله، ولذلك كان خرق الوائد هو الفصل بين الخصوص والعموم، ومفتاح لمخازن العلوم والفهوم، فمن لم يخرق عوائد نفسه فلا يطمع أن يدخل حضرة قدسه‏.‏

«كيف يخرق لك العوائد وأنت لم تخرق من نفسك العوائد»‏.‏ وهو الميدان الذي تحقق به سير السائرين‏.‏ «لولا ميادين النفوس ما تحقق سير السائرين»‏.‏ وهو عند شيوخ التربية ميزان يتميز به من يتبع الرسول ويلزم طريقه إلى الوصول، ممن ينقلب على عقبيه، فمن رأوه خرق عوائد نفسه، زهد في ملبسه وجنسه، تحققوا بدخوله حضرة قدسه، إلا مَن سبق له الحرمان والعياذ بالله من الخذلان، ومن رأوه وقف مع العادات، وركن إلى المألوفات، ومال إلى الرُّخَص والتأويلات، علموا أن مقامه مقام أهل الحجاب، يأخذ أجره من وراء الباب، ولا نصيب له في الدخول مع الأحباب‏.‏

وأيضاً عند تخالف الآثار وتنقلات الأطوار، يظهر الإقرار من الإنكار‏.‏ أهلُ الإقرار عارفون في كل حال، يدورون مع رياح الأقدار حيث سارت، ويسيرون معها حيث سارت، وأهل الإنكار جاهلون بالله في كل حال، معترضون عليها عند اختلاف الأحوال، نعوذ بالله من الضلال‏.‏