فصل: تفسير الآيات رقم (61- 77)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏61- 77‏]‏

‏{‏فَلَمَّا جَاءَ آَلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ ‏(‏61‏)‏ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ‏(‏62‏)‏ قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ ‏(‏63‏)‏ وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ‏(‏64‏)‏ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ ‏(‏65‏)‏ وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ ‏(‏66‏)‏ وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ ‏(‏67‏)‏ قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ ‏(‏68‏)‏ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ ‏(‏69‏)‏ قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ ‏(‏70‏)‏ قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ‏(‏71‏)‏ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ‏(‏72‏)‏ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ ‏(‏73‏)‏ فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ ‏(‏74‏)‏ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ‏(‏75‏)‏ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ ‏(‏76‏)‏ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏77‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏وقضينا إليه ذلك الأمر‏)‏، القضاء هنا بمعنى القدر السابق، وضمَّنه معنى أوحينا، فعداه بإلى‏.‏ و‏(‏أنَّ دابر‏)‏‏:‏ بدل من الأمر، وفي ذلك تفخيم الأمر وتعظيم له، و‏(‏مُصبحِين‏)‏‏:‏ حال من «هؤلاء»، أو من ضمير مقطوع، وجمعه؛ للحمل على المعنى؛ لأن دابر بمعنى دوابر، أي‏:‏ قطعنا دوابرهم حال كونهم داخلين في وقت الصباح‏.‏ و‏(‏لعمركَ‏)‏‏:‏ مبتدأ، والخبر محذوف، أي‏:‏ قسمي، قال ابن عزيز‏:‏ عَمْرٌ وعُمْرٌ واحد، ولا يقال في القسم إلا مفتوحاً، وإنما فتح في القسم فقط؛ لكثرة الاستعمال‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏فلما جاء آلَ لوطٍ المرسلين‏}‏، وهم أضياف إبراهيم، فلما دخلوا عليه ولم يعرفهم، ‏{‏قال إنكم قومٌ منكرون‏}‏ لا نعرفهم‏.‏ أو تنكركم نفسي؛ مخافة أن تطرقوني بشيء، ‏{‏قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون‏}‏ أي‏:‏ ما جئناك بما تنكرنا لأجله، بل جئناك بما يسرك، وهو‏:‏ قطع الفاحشة من بلدك، وإتيان العذاب لعدوك الذي توعدناهم، فكانوا يمترون فيه ويشكون في إتيانه، ‏{‏وأتيناك بالحق‏}‏؛ باليقين الثابت، وهو إتيان العذاب لا محالة، ‏{‏وإنَّا لصادقون‏}‏ فيما أخبرناك به‏.‏

‏{‏فأسرِ بأهلك‏}‏‏:‏ فاذهب بهم ‏{‏بقطْعٍ من الليل‏}‏ أي‏:‏ فاخرح بهم في طائفة من الليل، قيل‏:‏ آخره، ‏{‏واتَّبع أدبارَهم‏}‏ أي‏:‏ كن خلفهم في ساقتهم، حتى لا يبقى منهم أحد، أو‏:‏ أمره بالتأخر عنهم؛ ليكونوا قدامه، فلا يشتغل قلبه بهم لو كانوا خلفه؛ لخوفه عليهم، أي‏:‏ ليسرع بهم، ويطلع على أحوالهم‏.‏ ‏{‏ولا يلتفت منكم أحدٌ‏}‏ خلفه، لينظر ما وراءه فيرى من الهول ما لا يطيقه، أو‏:‏ ولا ينصرف أحد منكم، ولا يتخلف لغرض فيصيبه ما أصابهم‏.‏ وقيل‏:‏ نهوا عن الالتفاف ليوطنوا أنفسهم على الهجرة‏.‏ ‏{‏وامضوا حيث تُؤمرون‏}‏ أي‏:‏ إلى حيث أمركم الله، وهو الشام أو مصر، وقال بعضهم‏:‏ «ما من نبي هلك إلا لحق بمكة، وجاور بها حتى مات»‏.‏

‏{‏وقضينا‏}‏‏:‏ أوحينا ‏{‏إليه ذلك الأمر‏}‏، وهو هلاك قومه، ذكره مبهماً ثمَّ فسره بقوله‏:‏ ‏{‏أنَّ دابر هؤلاء مقطوع‏}‏ وهو كناية عن استئصالهم، والمعنى‏:‏ أنهم يستأصلون عن آخرهم حتى لا يبقى منهم أحد، حال كونهم وقت العذاب ‏{‏مُصْبِحين‏}‏‏:‏ داخلين في الصباح‏.‏

‏{‏وجاء أهلُ المدينة‏}‏، وهي سدوم، ‏{‏يستبشرون‏}‏ بأضياف لوط؛ طمعاً فيهم في فعل الفاحشة، والظاهر‏:‏ أن هذا المجيء إليه، وما جرى له معهم من المحاورة، كان قبل الإعلام بهلاكهم، كما تقدم في هود‏.‏ وانظر ابن عطية‏:‏ فلما جاؤوه يراودونه عن ضيفه ‏{‏قال إنَّ هؤلاء ضيفي فلا تَفْضَحُون‏}‏؛ بهتك حرمة ضيفي، فإنَّ من فُضح ضيفه فقد فُضح هو، ومن أًسِيء إلى ضيفه فقد أُسيء إليه، ‏{‏واتقوا الله‏}‏ في ركوب الفاحشة، ‏{‏ولا تُخزُون‏}‏‏:‏ ولا تهينوني بإهانتهم‏.‏ والخزي هو الهوان، أو‏:‏ ولا تخجلون فيهم، من الخزاية وهو الحياء‏.‏

‏{‏قالوا أو لم ننْهكَ عن العالمين‏}‏؛ عن أن تجير منهم أحداً، أو تحول بيننا وبينهم، وكانوا يتعرضون لكل أحد، وكان لوط عليه السلام يمنعهم ويزجرهم عنه بقدر وسعه‏.‏ وذكر السدي‏:‏ إنهم إنما كانوا يفعلون الفاحشة بالغرباء، ولا يفعلونها بعضهم ببعض، فكانوا يعترضون الطرق‏.‏ ه‏.‏ أو‏:‏ أَوْ لم ننهك عن ضيافة العالمين وإنزالهم‏؟‏ ‏{‏قال هؤلاء بناتي‏}‏ تُزَوِّجُوهُنَّ إياكم، وقد كان يمنعهم قبل ذلك لكفرهم، فأراد أن يقي أضيافه بهن‏.‏ ولعله لم يكن حراماً في شريعته، أو يريد بالبنات نساء القوم؛ فإن نبي كل أمة بمنزلة أبيهم، ‏{‏إن كنتم فاعلين‏}‏ قضاء الوطر، أو‏:‏ ما أقول لكم من التزويج، فابوا، ولجوا في عملهم‏.‏

قال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏لَعَمْرُكَ‏}‏‏:‏ لحياتك يا محمد، أقسم بحياته عليه الصلاة والسلام لشرف منزلته عنده‏.‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ «ما خلق الله خلقاً أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم، وما أقسم بحياة أحد إلا بحياته، فقال‏:‏ ‏{‏لَعَمْرُكَ إنهم لَفِي سَكْرتهم يَعمهون‏}‏ قال القرطبي‏:‏ وإذا أقسم الله بحياة نبيه فإنما أراد التصريح لنا أنه يجوز لنا أن نخلف بحياته‏.‏ وقد قال الإمام أحمد فيمن أقسم بالنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ينعقد به يمينه، وتجب الكفارة بالحنث، واحتج بكون النبي صلى الله عليه وسلم أحد ركني الشهادة‏.‏ قال ابن خُوَيْزِ مَنْدَاد‏:‏ هذا إذ استدل من جوّز الحلف به عليه الصلاة والسلام، بأن أيمان المسلمين جرت من عهده صلى الله عليه وسلم حتى إن أهل المدينة إلى يومنا هذا إذا جاء صاحبه قال له‏:‏ احلف لي بما حوى هذا القبر، وبحق ساكن هذا القبر، يعني النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ ه‏.‏

قلت‏:‏ ومذهب مالك أنه لا ينعقد يمين بغير الله، وصفاته، وأسمائه‏.‏ وقيل‏:‏ إن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لعمركَ‏}‏‏:‏ هو من قول الملائكة للوط، أو لحياتك يا لوط، ‏{‏إنهم لَفَي سَكْرتهم يَعمهون‏}‏ أي‏:‏ لفي غوايتهم أو شدة غلمتهم التي أزالت عقولهم وتمييزهم بين الخطأ والصواب، يتحيرون‏.‏ والغلمة‏:‏ شهوة الوقاع‏.‏ والعمه‏:‏ الحيرة، أي‏:‏ إنهم لفي عماهم يتحيرون، فكيف يسمعون نصح من نصحهم‏؟‏ والضمائر لقوم لوط، وقيل‏:‏ لقريش، والجملة‏:‏ اعتراض‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏فأخذتهم الصيحةُ‏}‏، يعني‏:‏ صيحة هائلة مهلكة‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ هذه الصيحة صيحة الرجعة، وليست كصيحة ثمود‏.‏ ه‏.‏ وقيل‏:‏ صاح بهم جبريل فأهلكتهم الصيحة، ‏{‏مُشْرِقينَ‏}‏‏:‏ داخلين في وقت شروق الشمس؛ فاتبدئ هلاكهم بعد الفجر مصبحين، واستوفى هلاكهم مشرقين‏.‏ ‏{‏فجعلنا عاليَها‏}‏ أي‏:‏ عالي المدينة، أو قراها، ‏{‏سافِلَها‏}‏، فصارت منقلبة بهم‏.‏

رُوي أن جبريل عليه السلام اقتلعَ المدينة بجناحيه ورفعها، حتى سمعت الملائكة صراخ الديكة ونباح الكلاب، ثم قلبها وأرسل الكل فمن كان داخل المدينة أو القرى مات، ومن كان خارجاً عنها أرسلت عليه الحجارة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وأمطرنا عليهم حجارةً من سجيل‏}‏‏:‏ من طين متحجر مطبوخ بالنار‏.‏

وقد تقدم في سورة هود مزيد بيان لهذا‏.‏ ‏{‏إنَّ في ذلك لآيات للمتوسِّمِين‏}‏‏:‏ المتفكرين المعتبرين المتفرسين في الأمور، الذين يثبتون في نظرهم حتى يعرفوا حقيقة الشيء بسمته، ‏{‏وإنَّها‏}‏ أي‏:‏ المدينة أو القرى، ‏{‏لَبِسبِيلٍ مُقيم‏}‏‏:‏ لفي طريق ثابت يسلكه الناس، ويمرون به، ويرون آثارها‏.‏ ‏{‏إنَّ في ذلك لآيةٌ‏}‏‏:‏ لعبرة ‏{‏للمؤمنين‏}‏ بالله ورسله؛ فإنهم هم المهتدون للتفكر والاعتبار، دون من غلبت عليه الغفلة والاغترار، كحال الكفار والفجار‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ ما بعث الله داعياً يدعو إليه إلا وكان أول ما يدعوهم إليه بعد الإيمان، الخروج من العوائد والحظوظ النفسانية، وما هلك من هلك من الأمم إلا بالبقاء معها، وعدم الخروج عنها، وما نجى من نجى إلا بالخروج عنها‏.‏ وكذلك في طريق الخصوصية‏:‏ ما بعث الله ولياً مربياً إلا وكان أول ما يأمر‏:‏ بخرق العوايد؛ لاكتساب الفوائد، فلا طريق لخصوصية الولاية إلا منها‏.‏ وفي الحكم‏:‏ «كيف تخرق لك العوائد، وأنت لم تخرق من نفسك العوائد»‏.‏ فمن تربى في الرئاسة والجاه فلا مطمع له في الخصوصية حتى يبدلهما بالخمول والذل، وكذلك من تعود جمع الدنيا واحتكارها، فلا بد من الزهد فيها والخروج عنها، وكذلك سائر العوائد النفسانية، والحظوظ الجسمانية، فمن جاور قوماً منهمكين فيها، ولم يجد من يساعده على خرقها، فليهاجر منها، ويقال له‏:‏ فأسر بأهلك بقطع من الليل واتبع أدبارهم، ولا يلتفت منكم أحد إلى الرجوع، إلا بعد الرسوخ والتمكين في معرفة الحق تعالى، ولميض حيث يجد من ينهض معه إلى الله في نقل عوائدها وعوائقها‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجاء أهل المدينة يستبشرون‏}‏‏:‏ هذه عادة أهل الغفلة، إن جاءهم من يجدون فيه موافقة هواهم، هرعوا إليه مستبشرين، وإن جاء من ينصحهم ويأمرهم بالخروج عن أهوائهم أدبروا عنه، ومقتوه، وربما أخرجوه من بلدهم، قال تعالى في أمثالهم‏:‏ ‏{‏لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون‏}‏‏.‏ وبالله التوفيق

تفسير الآيات رقم ‏[‏78- 79‏]‏

‏{‏وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ ‏(‏78‏)‏ فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ ‏(‏79‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ «إن» مخففة، واللام فارقة‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏وإن كان أصحابُ الأيكة لظالمين‏}‏، وهم قوم شعيب، كانوا يسكنون غيضة‏.‏ وهي الأيكة‏.‏ والأيكة‏:‏ الشجر الملتف، قيل‏:‏ كانت من الدوح، وقيل‏:‏ من السدر، فكانوا يسكنون فيها، ويرتفقون بها معايشهم، فبعث الله لهم شعيباً عليه السلام، فكفروا به، فسلط الله عليهم الحر سبعة أيام، ثم رأوا سحابة فخرجوا فاستظلوا تحتها، فاضطرمت عليهم ناراً؛ فاحترقوا‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏فانتقمنا منهم‏}‏ بالهلاك بالحر، ‏{‏وإنهما‏}‏ يعني‏:‏ سدوم مدينة قوم لوط، والأيكة قرية شعيب‏.‏ وقيل‏:‏ الأيكة ومدين؛ لأن شعيباً عليه السلام كان مبعوثاً إليهما، وكان ذكر أحدهما مغن عن الآخر، ‏{‏لَبإمامٍ مبينٍ‏}‏‏:‏ لبطريق واضح يسلك منه إلى الشام، فيعتبر كل من وقف بآثارهم‏.‏ والإمام‏:‏ ما يؤتم به، ويوصل إلى المقصود من طريق أو غيره‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏وإنهما‏}‏ أي‏:‏ لوط وشعيب، على طريق من الشرع واضح‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ ما أهلكَ اللهُ قَوماً إلا كانوا عبرة لمن بعدهم، فالعاقل يبحث عن سبب هلاكهم، فيعمل جهده في التحرز منه، والغافل منهمك في غفلته، لا يلقى لذلك بالاً، حتى يأتيه ما يوعد‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏80- 84‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏80‏)‏ وَآَتَيْنَاهُمْ آَيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ ‏(‏81‏)‏ وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آَمِنِينَ ‏(‏82‏)‏ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ ‏(‏83‏)‏ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏84‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏بيوتاً‏)‏‏:‏ مفعول ‏(‏ينحتون‏)‏، بمعنى‏:‏ يتخذون، أو يصنعون‏.‏ و‏(‏آمنين‏)‏‏:‏ حال من فاعل ‏(‏ينحتون‏)‏‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏ولقد كذَّب أصحاب الحجْرِ المرسلين‏}‏؛ هم قوم ثمود، والحِجْر‏:‏ واديهم الذي يسكنونه، وهو بين المدينة والشام، كذبوا صالحاً عليه السلام، ومن كذَّب واحداً من الرسل فكأنما كذَّب الجميع؛ لأنهم جاؤوا بأمر متفق عليه، وهو التوحيد أو يراد به الجنس، كما تقول‏:‏ فلان يركب الخيل، وإنما يركب فرساً واحداً، أو يراد به صالح ومن معه من المؤمنين؛ لموافقتهم له فيما يدعو له‏.‏ ‏{‏وآتيناهم آياتنا‏}‏ يعني‏:‏ الناقة، وما كان فيها من العجائب، كسقيها وشربها ودرها، أو ما نزل على نبيهم من الكتب، أو ما نصب لهم من الأدلة‏.‏ ‏{‏فكانوا عنها معرضين‏}‏‏:‏ لم ينظروا فيها، ولم يعتنوا بأمرها‏.‏

‏{‏وكانوا ينحتون‏}‏‏:‏ يصنعون، والنحت‏:‏ النقر بالمعاول في الحجر والعود وشبهه، فكانوا يتخذون ‏{‏من الجبالِ‏}‏؛ بالنقر فيها، ‏{‏بيوتاً‏}‏ يسكنونها ‏{‏آمنين‏}‏ من الانهدام، ونقب اللصوص، وتخريب الأعداء؛ لوثوقها‏.‏ أو من العذاب؛ لفرط غفلتهم، أو حسبانهم أن الجبال تحميهم منه‏.‏ ‏{‏فأخذتهم الصيحةُ مصبحين‏}‏‏:‏ داخلين في وقت الصباح، ‏{‏فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون‏}‏ من بناء البيوت الوثيقة، واستكثار الأموال والعدد‏.‏

الإشارة‏:‏ من علامة الغفلة عن الله‏:‏ الإنكار على أولياء الله، والإعراض عما خصهم الله تعالى به من الآيات وخوارق العادات، كالعلوم اللدنية والمواهب القدسية، وكمال المعرفة، والرسوخ في اليقين، وشهود رب العالمين مع الأشغال بعمارة هذه الدار، ونسيان دار القرار؛ كأنه أمن من الموت؛ من شدة الاغترار‏.‏ وسبب ذلك‏:‏ عدم التفكر والاعتبار‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏85- 86‏]‏

‏{‏وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ‏(‏85‏)‏ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ‏(‏86‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما‏}‏ من الكائنات ‏{‏إلا بالحقِّ‏}‏ أي إلا خلقاً ملتبساً بالحق، وهو الدلالة على كمال قدرتنا وباهر حكمتنا، فمن كمال القدرة‏:‏ إهلاك أهل الفساد، ودفع شرورهم وإبطال فسادهم، ومن باهر حكمته أنه لم يهلكهم إلا بسبب عتوهم وفسادهم‏.‏ فالحكمة رداء للقدرة، وترتيبها على أسباب وشروط يدل على باهر الحكمة‏.‏ ومن مقتضيات الحكمة‏:‏ ترتيب الجزاء على العمل، بحيث لا يهمل عملاً، فأهل الإكرام يترتب إكرامهم وإنعامهم على عملهم الصالح، واعتقادهم الصحيح، وما قاسوه من المجاهدة والمكابدة‏.‏ وأهل الانتقام يترتب منهم على عملهم الفاسد، واعتقادهم الباطل، وعلى ما قالوا في الدنيا، التي هي مزرعة الآخرة، من الدعة والحظوظ الفانية، ولذلك رتَّب عليه قوله‏:‏

‏{‏وإنَّ الساعة لآتيةٌ‏}‏ فيجازي فيها من يستحق الإكرام، ويعاقب من يستحق الانتقام، وينتقم لك فيها ممن يكذبونك، ‏{‏فاصفح‏}‏ اليوم ‏{‏الصفحَ الجميل‏}‏ ولا تعجل بالانتقام، وعاملهم معاملة الصفوح الحليم‏.‏ وكان هذا قبل الأمر بالقتال‏.‏ ‏{‏أنَّ ربك هو الخلاق‏}‏ الذي خلقك وخلقهم، وبيده أمرك وأمرهم، ‏{‏العليمُ‏}‏ بحالك وبحالهم، فهو الحقيق بأن تنكل عليه حتى يحكم بينك وبينهم‏.‏ أو‏:‏ هو الخلاق لأشباحكم وأرواحكم، العليم بما هو الأصلح لكم في وقت، وقد علم أن الصفح اليوم أصلح‏.‏ والخلاق أبلغ من الخالق باعتبار اللغة، وأفعال الله تعالى كلها عظيمة كثيرة‏.‏

الإشارة‏:‏ ما نصبت لك الكائنات لتراها بعين الفرق، بل لترى فيها مولاها بعين الجمع‏.‏ وما جعل لك هذه الدار لتتخذها دار القرار، وإنما جعلها قنطرة ومعبراً لدار القرار‏.‏ إنما جعل لك الدنيا الفانية مزرعة للدار الباقية‏.‏ وإن الساعة لآتية، فاصبر في هذه الدار اللمحة اليسيرة على شدائد الزمان، وجفوة الإخوان، واصفح الصفح الجميل، حتى ترد النعيم الباقي، والجزاء الجزيل‏.‏ وتخلق بأخلاق الحليم الكريم، إن ربك هو الخلاق العليم، فلا قدرة لك على شيء إلا بقدرة السميع العليم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏87- 99‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ ‏(‏87‏)‏ لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏88‏)‏ وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ ‏(‏89‏)‏ كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ ‏(‏90‏)‏ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآَنَ عِضِينَ ‏(‏91‏)‏ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏92‏)‏ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏93‏)‏ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏94‏)‏ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ‏(‏95‏)‏ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ‏(‏96‏)‏ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ ‏(‏97‏)‏ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ‏(‏98‏)‏ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ‏(‏99‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ السبع المثاني‏:‏ هي الفاتحة عند الجمهور، و‏(‏من المثاني‏)‏‏:‏ للبيان، وعطفُ القرآن عليها من عطف العام على الخاص‏.‏ و‏(‏أنزلنا‏)‏‏:‏ نعت لمفعول النذير، أي‏:‏ أنا النذير عذاباً مثل العذاب الذي أنزل على المقتسمين‏.‏ وقيل‏:‏ صفة لمصدر محذوف يدل عليه‏:‏ ‏(‏ولقد آتيناك‏)‏؛ فإنه بمعنى أنزلنا إليك إنزالاً مثل ما أنزلنا على المقتسمين، وهم، على هذا، أهل الكتاب‏.‏ و‏(‏عِضِين‏)‏‏:‏ جمع عضة‏.‏ وأصله‏:‏ عِضْوة، من عَضَوْتَ الشيء‏:‏ فَرَّقْته، حُذفت لامه، وعوض منها هاء التأنيث، فجمع على عضين، كعزَةٍ وعزين‏.‏ وقيل‏:‏ أصله‏:‏ عضة؛ من عضهته‏:‏ رميته بالبهتان، قال في الصحاح‏:‏ عَضَهَهُ عَضْهاَ‏:‏ رماه بالبهتان‏.‏ وقد أعْضَهْتَ، أي‏:‏ جئت بالبهتان‏.‏ فهما قولان في أصل عِضة‏.‏ هل هو واوي أو هائي‏.‏ والموصول مع صلته نعت للمقتسمين‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ لنبيه عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏{‏ولقد آتيناك سبعاً من المثاني‏}‏، وهي فاتحة الكتاب؛ لأنها سبع آيات، وتثنى أي تكرر في كل صلاة، فالمثاني من التثنية، وقيل‏:‏ من الثناء؛ لأن في الثناء على الله تعالى، وقيل‏:‏ السبع المثاني هي السبع الطوال، وهي البقرة وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال مع براءة‏.‏ ولذلك تركت البسلمة بينهما‏.‏ وكونها مثاني؛ لتثنية قصصها، أو ألفاظها، وقيل‏:‏ هي الحواميم السبع‏.‏ ‏{‏و‏}‏ آتيناك ‏{‏القرآن العظيم‏}‏، ففيه الغنية والكفاية عن كل شيء‏.‏

‏{‏لا تمُدَّن عينيك‏}‏‏:‏ لا تطمح ببصرك طموح راغب ‏{‏إلى ما متعنا به أزواجاً منهم‏}‏ أي‏:‏ أصنافاً من الكفار، من زهرة الحياة الدنيا، فإنه مستحقر بالإضافة إلى ما أوتيته‏.‏ وفي حديث أبي بكر‏:‏ «من أوتي القرآن، فرأى أن أحداً أوتي من الدنيا أفضل مما أوتي، فقد صغر عظيماً وعظم صغيراً»‏.‏ قال ابن جزي‏:‏ لا تنظر إلى ما متعنا به في الدنيا، ومعنى الآية‏:‏ تزهيد في الدنيا، كأنه يقول‏:‏ قد آتيناك السبع المثاني والقرآن العظيم؛ فلا تنظر إلى الدنيا، فإن الذي أعطيناك أعظم منها‏.‏ ه‏.‏

وروي أنه صلى الله عليه وسلم وافى مع أصحابه أذْرِعَات، فرأى سبع قوافل ليهود بني قُرَيْظَة والنَّضير، فيها أنواع البُرِّ، والطيب والجواهر، وسائر الأمتعة، فقال المسلمون‏:‏ لو كانت هذه الأموال لنا لتقربنا بها، ولأنفقناها في سبيل الله، فقال لهم عليه الصلاة والسلام‏:‏ «قد أعطيتم سبع آيات هي خير من هذه السبع القوافل»‏.‏

‏{‏ولا تحزنْ عليهم‏}‏‏:‏ لا تتأسف على كفرهم؛ حيث أنذرتهم فلم ينزجروا ولم يؤمنوا‏.‏ أو‏:‏ حيث متعناهم بالدنيا فلم ينفعوا بها، ولم يصرفوها في مرضاة الله، ‏{‏وأخفض جناحك للمؤمنين‏}‏؛ أي‏:‏ تواضع وألن جانبك للمؤمنين، وارفق بهم‏.‏ والجناح، هنا، استعارة‏.‏ ‏{‏وقل إني انا النذيرُ المبين‏}‏‏:‏ البين الإنذار، أنذرتكم ببيان وبرهان أن عذاب الله نازل بكم إن لم تؤمنوا‏.‏

وفي الحديث‏:‏ «أنا النذير، وأنذرتكم ببيان وبرهان أن عذاب الله نازل بكم إن لم تؤمنوا» وفي الحديث‏:‏ «أنا النذير، والموت مغير، والقيامة الموعد» أو كما قال عليه الصلاة والسلام، وفي حديث آخر‏:‏ «أنا النَّذير العُريَانُ» وكانت العرب إذا رأى أحْدهم جيشاً يقصدهم، تجرد من ثيابه، ثم أنذر قومه ليصدقوه، أي‏:‏ وقل‏:‏ إني أنذرتكم ان ينزل بكم عذابه‏.‏

‏{‏كما أنزلنا على المقتسمين‏}‏، أي‏:‏ مثل العذاب الذي أنزل على المقتسمين، وهم أهل الكتاب، الذين آمنوا ببعض الكتب وكفروا ببعض، فاقتسموا قسمين‏.‏ والعذاب الذي نزل بهم هو الذل والهوان وضرب الجزية، أو تسليط عدوهم عليهم‏.‏ وقيل‏:‏ هم كفار قريش؛ اقتسموا أبواب مكة في الموسم، فوقف كل واحد منهم على باب، وكانوا اثني عشر رجلاً، لينفروا الناس عن الإيمان بالرسول عليه الصلاة والسلام، يقول أحدهم‏:‏ هو ساحر، والآخر‏:‏ هو شاعر، فأهلكهم الله يوم بدر‏.‏ وقيل‏:‏ هم الرهط الذين اقتسموا، أي‏:‏ تقاسموا ليُبيتوا صالحاً، فأسقط الله عليهم الغار الذي كمنوا فيه، فشدخهم‏.‏

أو‏:‏ آتيناك القرآن، وأنزلناه عليك كما أنزلنا التوراة على المقتسمين، وهم اليهود، ‏{‏الذين جعلوا القرآن عِضين‏}‏، أي‏:‏ أجزاء متفرقة، وقالوا فيه أقوالاً مختلفة، فقالوا؛ عناداً وكفراً‏:‏ بعضه موافق للتوراة والأنجيل، وبعضه باطل مخالف لهما‏.‏ وإذا قلنا المقتسمين‏:‏ هم كفارقريش، حيث اقتسموا أبواب مكة، فقد جعلوا القرآن عضين؛ إجزاء متفرقة، فقد قسموه إلى شعر وسحر وكهانة وأساطير الأولين، أو جعلوه بهتاناً متعدداً، على تفسير العضة بالبهت‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم العاضهة والمستعضهة» أي‏:‏ الباهتة، والمستبهتة‏:‏ الطالبة له‏.‏

قال تعالى في وعيد المقتسمين‏:‏ ‏{‏فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون‏}‏ من التقسيم والتكذيب، أو عن كل ما عملوه من الكفر والمعاصي، وفي البخاري‏:‏ «لنسألنهم عن لا إله إلا الله»‏.‏ فإن قيل‏:‏ كيف يجمع بين هذا وبين قوله ‏{‏فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 39‏]‏ فالجواب‏:‏ أن السؤال المثبت هو على وجه الحساب والتوبيخ، والسؤال المنفي هو على وجه الاستفهام المحض؛ لأن الله تعالى يعلم الأعمال، فلا يحتاج إلى سؤال‏.‏ وقيل‏:‏ في القيامة مواطن وخوارق، فموطن يقع فيه السؤال، وموطن يذهب بهم إلى النار بغير سؤال‏.‏

قال تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏{‏فاصدع بما تؤمر‏}‏‏:‏ فاجهر، وصرح به، وأنْفِذْه، من صدع بالحجة‏:‏ إذا تكلم بها جهاراً‏.‏ أو‏:‏ فَرِّقْ بما تؤمر به، بين الحق والباطل، وأصله‏:‏ الشق والإبانة، و‏{‏ما‏}‏‏:‏ مصدرية، أو موصولة، والعائد محذوف، أي‏:‏ بما تؤمر به من الشرائع‏.‏ ‏{‏وأعرضْ عن المشركين‏}‏ فلا تلتفت إلى ما يقولون، ولا يمنعك ذلك من تبليغ الوحي والصدع به وإظهاره‏.‏

‏{‏إنا كفيناك المستهزئين‏}‏ بك، وبما أنزلنا إليك، بأن أهلكنا كل واحد منهم بمصيبة تخصه، من غير سعي من النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك‏.‏

وكانوا خمسة من أشراف قريش‏:‏ الوليد بن المغيرة، والعاصي بن وائل، وعدي بن قيس، والأسود بن المطلب، والأسود بن يغوث، كانوا يبالغون في إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم، والاستهزاء به، فقال جبريلُ للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أمرتُ بأن أكفيكهم» فأومأ إلى ساق الوليد فمرَّ بنبَّالٍ فتعلق بثوبه سهم، فلم ينعطف لأخذه، تعظماً، فأصاب عرقاً في عقبه فمات‏.‏ وقيل‏:‏ خدش بأسفل رجله فمات من تلك الخدشة‏.‏ وأومأ إلى أخمص العاص؛ فدخلت فيها شوكة، فانتفخت حتى صارت كالرحى، فمات‏.‏ وأشار إلى أنف الحارث فامتخط قيحاً فمات‏.‏ وأومأ إلى الأسود بن عبد يغوث، وهو قاعد في أصل شجرة، فجعل ينطح رأسه بالشجرة، ويضرب وجهه بالشوك حتى مات‏.‏ وقيل‏:‏ استسقى بطنه فمات، ولعله جمع بينهما‏.‏ وأومأ إلى عيني الأسود بن المطلب فعمي‏.‏ وفي السيرة، بدل عدي بن قيس، الحارث بن الطلاطلة، وأن جبريل أشار إلى رأسه فامتخط قيحاً فقتله‏.‏

وقيل‏:‏ هم الذين قُتلوا ببدر؛ كأبي جهل، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط‏.‏ والأول أرجح؛ لأن الله تعالى كفاه أمرهم بمكة قبل الهجرة‏.‏ إلا أن يكون عبّر بالماضي عن المستقبل؛ لتحققه، أي‏:‏ إنا سنكفيك المستهزئين ‏{‏الذين يجعلون مع الله إلهاً آخر‏}‏ يعبدونه من دون الله ‏{‏فسوف يعلمون‏}‏ عاقبة أمرهم في الدارين‏.‏

ثم سلّى نبيه عن أذاهم فقال‏:‏ ‏{‏ولقد نعلمُ أنك يضيق صدرُك بما يقولون‏}‏ في جانبنا؛ من الشرك والطعن في القرآن، والاستهزاء بك، فلا تعبأ بهم، ولا تلتفت إليهم‏.‏

‏{‏فسِّبح بحمد ربك‏}‏ أي‏:‏ فنزه أنت ذاتنا وصفتنا، مكان مقالتهم فينا؛ فإن مثلك منزهنا لا غير، ‏{‏وكن من الساجدين‏}‏؛ أي‏:‏ المصلين، أو‏:‏ فافرغ إلى الله فيما نابك وضاق منه صدرك بالتسبيح والتحميد‏.‏ ‏{‏وكن من الساجدين‏}‏؛ من المصلين، يكفك ويكشف الغم عنك، وعنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أنه كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة»، أو‏:‏ فنزهه عما يقولون، حامداً له على أن هداك للحق، وكن من الساجدين له شكراً‏.‏

‏{‏واعبدْ ربك حتى يأتيك اليقين‏}‏ أي‏:‏ الموت، فإنه متيقن لحاقه، وليس اليقين من أسماء الموت، وإنما العلم به يقين، لا يمتري فيه، فسمي يقيناً؛ تجوزاً‏.‏ أو‏:‏ لما كان يحصل اليقين بعده بما كان غيباً سمي يقيناً‏.‏ والمعنى‏:‏ فاعبده ما دمت حياً، ولا تُخِلّ بالعبادة لحظة‏.‏ وفي بعض الأحاديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال‏:‏ «إن الله لم يُوح إليَّ أن أجمع المال، وأكون من التاجرين، وإنما أوحى إليَّ أن‏:‏ سبح بحمد ربك وكن من الساجدين، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين» أو كما قال عليه الصلاة والسلام‏.‏

الإشارة‏:‏ يقال للعايد، أو الزاهد‏:‏ ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم، تتمتع بحلاوته، وبالتجهد بتلاوته، ففيه كفايتك وغناك، فلا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أصنافاً من أهل الدنيا، الراغبين فيها، المشتغلين بها عن عبادة خالقها‏.‏ قيل‏:‏ لما نزلت هذه الآية قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إياكم والنظر في أبناء الدنيا، فإنه يقسي القلب ويورث حب الدنيا، ولا تكثروا الجلوس مع أهل الثروة، فتميلوا لزينة الدنيا؛ فوالله لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقي الكافر منها جرعة ماء» وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من تواضع لغني لأجل غناه اقترب من النار مسيرة سنة، وذهب ثلثا دينه» هذا إن تواضع بجسمه فقط، فإن تواضع بجسمه وقلبه ذهب دينه كله‏.‏

ويقال للعارف‏:‏ ولقد آتيناك شهود المعاني، وغيبناك عن حس الأواني، حتى شهدت المتكلم بالسبع المثاني، فسمعت القرآن من مُنزله دون واسطة‏.‏ وذلك بالفناء، عن الوسائط، في شهود الموسوط، حتى يفنى عن نفسه في حال قراءته‏.‏

ويقال له‏:‏ لا تمدن عينيك إلى شهود الحس، ولا إلى ما متعنا به أصنافاً من أهل الحس، الواققين مع شهود الحس؛ فإن ذلك يحجبك عن شهود المعاني القائمة بالأواني، بل المفنية للأواني عند سطوع المعاني‏.‏ ولا تحزن عليهم حيث رايتهم منهمكين في الحس؛ فإن قيام عالم الحكمة لا يكون إلا بوجود أهل الحس، واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين بخصوصيتك، وقل‏:‏ إني أنا النذير المبين من الاشتغال بالبطالة، والغفلة، حتى ينزل بأهلهما ما نزل على المقتسمين، الذين جعلوا القرآن عضين؛ اجزاء متفرقة؛ فما كان فيه مما يدل على التسهيل لجواز جمع الدنيا واحتكارها والاشتغال بها أخذوا به، وما كان فيه مما يدل على الزهد فيها، والانقطاع إلى الله عنها، والتجريد عن أسبابها، رفضوه‏.‏ فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون‏.‏

فاصدع، أيها العارف الواعظ يما تُؤمر؛ من الأمر بالزهد، والانقطاع إلى الله، ولرفض كل ما يشغل عن الله، ولا تراقب أحداً في ذات الله، وأعرض عن المشركين، الذين أشركوا في محبة الله سواه، وشهدوا الأكوان موجودة مع الله، وهي ثابتة بإثباته، ممحوة بأحدية ذاته، فلا وجود لها في الحقيقة مع الله‏.‏ فإن استهزؤوا بك، وصغروا أمرك، فسيكفيكهم الله‏.‏ فاشتغل بالله عنهم، فلا يضيق صدرك بما فيه يخوضون‏.‏ ‏(‏فسبح بحمد ربك‏)‏ أي‏:‏ نزهه عن شهود السِّوى معه، حامداً الله على ما أولاك من نعمة توحيده‏.‏ ‏(‏وكن من الساجدين‏)‏ لله شكراً، وقياماً برسم العبودية، أو‏:‏ كن من الساجدين بقلبك في حضرة القدس، حتى يأتيك اليقين‏.‏

وفي الورتجبي، في قوله‏:‏ ‏(‏ولقد نعلم أنك يضيقُ صدرك‏)‏، قال‏:‏ واسى الحقُّ حبيبَه بما سمع من أعدائه، وقال له‏:‏ أنت بمرأىً منا، يضيق صدرك؛ من لطافتك، بما يقول الجاهلون بنا في حقنا، مما لا يليق بتنزيهنا، فنزه أنت صفتنا مكان مقالتهم فينا، فإنَّ مثلك منزهنا لا غير، وكن من الساجدين حتى ترانا بوصف ما علمت منا، وتخرج من ضيق الصدر بما تشاهد من جمالنا، فإذا كنت تعايننا سقط عنك ضيق صدرك من جهة مقالتهم‏.‏ ه‏.‏

وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق

سورة النحل

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏1‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏أتى أمرُ الله‏}‏ أي‏:‏ البعث والحساب‏.‏ وعبّر بالماضي؛ لتحقق وقوعه، أو‏:‏ ثبت أمره وقضاؤه، وقد جفّ القلم بما يكون لا عن سؤال واستعجال، وتدبير من الخلق، ولو كان كذلك لنافى انفراده بتدبير ملكه، ولذلك نزّه نفسه بقوله‏:‏ ‏{‏سبحانه وتعالى عما يشركون‏}‏‏.‏ أو‏:‏ إهلاك الله إياهم يوم بدر، وكانوا يستعجلون ما أوعدهم الرسول من قيام الساعة، وإهلاكهم ونصره عليهم، استهزاء وتكذيباً؛ ولذلك قال‏:‏ ‏{‏فلا تستعجلوه‏}‏، والمعنى‏:‏ أن الأمر الموعود به بمنزلة الماضي، لتحقّق وقوعه من حيث إنه واجب الوقوع؛ فلا تستعجلوا وقوعه، فإنه لا خير لكم فيه، ولا خلاص لكم منه‏.‏

ورُوِيَ لمّا نزل قوله‏:‏ ‏{‏أتى أمر الله‏}‏، وثب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قائماً، ورفع الناس رؤوسهم، فلما قال‏:‏ ‏{‏فلا تستعجلوه‏}‏، سكن‏.‏ وكان المشركون يقولون‏:‏ إن صح ما يقول محمد من قيام الساعة، فالأصنام تشفع لنا وتخلصنا، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏سبحانه وتعالى عما يشركون‏}‏ أي‏:‏ تنزه وجلَّ عن أن يكون له شريك، فيدفع ما أراد بهم‏.‏ ه‏.‏

وقرأ الأخوان بالخطاب، على وفق قوله‏:‏ ‏{‏فلا تستعجلوه‏}‏، والباقون بالغيب، على تلوين الخطاب، أو على أن الخطاب للمؤمنين، أي‏:‏ أتى أمر الله أيها المؤمنون فلا تستعجلوه، سبحانه وتعالى عما يشركه به المشركون‏.‏ أو‏:‏ لهم ولغيرهم‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ إذا أشرق نورُ اليقين في صميم القلوب تحقق وقوع ما وعد الله به من أمر الغيوب، فصار الماضي آتياً، والمستقبل واقعًا‏.‏ وفي الحكم‏:‏ «لو أشرق نور اليقين في قلبك، لرأيت الآخرة أقرب من أن ترحل إليها، ولرأيت الدنيا وكسفةُ الفناء ظاهرةٌ عليها»‏.‏ وكذلك المقادير المستقبلة والمواعيد الغيبية، كلها عند أهل اليقين محققة الوقوع، واجبة الحصول، ينتظرون وقوعها في مواقيتها، شيئًا فشيئًا، ويتلقونها بالمعرفة والأدب؛ فإن كانت جلالية فبالرضى والتسليم، وإن كانت جمالية فبالحمد والشكر، هكذا نظرهم دائمًا إلى ما يبرز من عنصر القدرة، ليس لهم وقت دون ما هم فيه، ولا أمل دون ما أقامهم الحق تعالى فيه، ليس لهم عن أنفسهم إخبار، ولا مع غير الله قرار، ولا يستعجلون ما تأخر وقوعه من أقداره، ولا يشركون مع الله في تدبيره واختياره‏.‏ قد هجم عليهم اليقين، فهم، في عموم أوقاتهم، مستغرقون في شهود المحبوب، غائبون عن كل مرغوب ومطلوب، سوى شهود وجه المحبوب، جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه‏.‏ آمين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ ‏(‏2‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏أن أنذروا‏}‏‏:‏ مفسرة، بمعنى أي؛ لأن الوحي فيه معنى القول‏.‏ أو مصدرية في موضع الجر، بدلاً من الروح، أو النصب بنزع الخافض، أو مخففة من الثقيلة‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لا إله إلا أنا‏}‏ جرى على المعنى، ولم يجر على اللفظ، وإلا لقال‏:‏ لا إله إلا الله‏.‏ انظر ابن عطية‏.‏ قال المحشى الفاسي‏:‏ وسر ذلك هنا‏:‏ التصريح بالمقصود، وأن الإله الواحد هو المتكلم لا غيره، كما قيل في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّاىَ فَارْهَبُونِ‏}‏ ‏[‏النّحل‏:‏ 51‏]‏، أي‏:‏ ولم يقل‏:‏ فإياه فارهبوا، بل نقل الكلام من الغيبة إلى التكلم؛ مبالغة في الترهيب، وتصريحًا بالمقصود، كأنه قال‏:‏ فأنا ذلك الإله الواحد، فإياي فارهبون لا غير‏.‏ ه‏.‏

قلت‏:‏ وكأنه قال هنا‏:‏ يُنزل الملائكةَ بالوحي أن أَعلِموا أنه لا يُعبد إلا إله واحد، وأنا ذلك الواحد‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ تحقيقًا لِمَا وعدهم به، وأن ذلك الوعد، مع دنوه وقربه بالوحي، فلا خلف فيه، فقال‏:‏ ‏{‏يُنَزِّلُ الملائكةَ‏}‏ أي‏:‏ جبريل، جمعه؛ تعظيمًا، أو‏:‏ لأنه قد ينزل معه غيره من الملائكة، فيحضرون الوحي؛ حُرّسا له‏.‏ أو‏:‏ لأنه قد ينزل بالوحي غيره من الملائكة، كما في صحيح مسلم‏:‏ «إن سورة الحمد نزل بها ملك لم ينزل إلى الأرض قبل ذلك» وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «إن إسرافيل وُكِّلَ بي في ثلاث سنين، فكان يأتيني بالكلمة والكلمتين، ثم كان جبريل يأتيني بالقرآن في كل وقت» ورُوي أن خالد بن سنان كان نبيًا، وكان يأتيه بالوحي مالك خازن النار، وكان بعد عيسى عليه السلام، ولم يبق في النبوة إلا عشرين يومًا، ثم مات، فلقصر مدته لم يُعد نبيًا، بعد عيسى ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما كانت فترة خمسمائة عام‏.‏ وذكر ابن العربي أن ذا القرنين كان ينزل عليه ملك، يقال له‏:‏ رفائيل، فكان يلقي إليه الوحي، ويطوي له الأرض‏.‏ هكذا نقل الشطيبي عنه في اللباب، فانظره‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بالروح‏}‏ أي‏:‏ بالوحي، أو القرآن؛ فإنه سبب حياة القلوب والأرواح الميتة بالجهل والحجاب، أو سبب حياة الدين بعد موته واندراسه بالكفر؛ فإن الوحي يقوم في الدين مقام الروح من الجسد‏.‏ يُنزل ذلك ‏{‏من أمره‏}‏ أي‏:‏ من أجل أمره وبيان شأنه، أو بأمره وإذنه، ‏{‏على مَن يشاء من عباده‏}‏ أن يصطفيه للرسالة، قائلاً لهم‏:‏ ‏{‏أنْ أنذروا‏}‏‏:‏ خوفوا أهل الشرك، أو أعْلِموا عبادي ‏{‏أنه‏}‏ أي‏:‏ الأمر والشأن، ‏{‏لا إله إلا أنا فاتقون‏}‏؛ بترك الكفر والمعاصي، أي‏:‏ اجعلوا بينكم وبين غضبه وقاية، بأن تُوحدوه، وتطيعوه فيما أمر به‏.‏

قال البيضاوي‏:‏ والآية تدل على أن نزول الوحي بواسطة الملائكة، وأن حاصله‏:‏ التنبيه على التوحيد، الذي هو القوة العلمية، والأمر بالتقوى الذي هو أقصى كمالات القوة العملية‏.‏

وأن النبوة عطائية- أي‏:‏ لا كسبية-، والآيات التي بعدها دليل على وحدانيته، من حيث إنها تدل على أنه تعالى هو الموجد لأصول العالم وفروعه، على وفق الحكمة والمصلحة، ولو كان له شريك لقَدَرَ على ذلك، فيلزم التمانع‏.‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بالروح‏}‏‏:‏ قال الورتجبي‏:‏ الوحي الإلهي، سماه بالروح؛ لأن كلامه صدر من ذاته، وهو حياة قلوب الصديقين من المكلَّمين والمحدَّثين، وهو سبب حياة قلوب المؤمنين، يحييهم بعلمه من موت الجهالة‏.‏ ه‏.‏

وقال القشيري في قوله‏:‏ ‏{‏على مَن يشاء من عباده‏}‏‏:‏ على الأنبياء بالوحي والرسالة، وعلى أسرار أرباب التوحيد، وهم المُحَدَّثُون بالتعريف والعلم‏.‏ فالتعريف للأولياء من حيث الإلهام والخواطر، أي‏:‏ الواردات‏.‏ وإنزال الملائكة على قلوبهم غير ممنوعٍ، ولكنهم لا يُؤْمَرُون أن يتكلموا بذلك، ولا يَحْمِلون الرسالة إلى الخلق‏.‏ ه‏.‏

قلت‏:‏ وكأنه ينظر إلى قوله- عليه الصلاة والسلام-‏:‏ «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل»، فهم يشاركون الأنبياء في الوحي الإلهامي، ولا يبلغون ذلك إلا لمن صدقهم وتبعهم في طريقهم‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏3- 9‏]‏

‏{‏خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏3‏)‏ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ‏(‏4‏)‏ وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ‏(‏5‏)‏ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ‏(‏6‏)‏ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏7‏)‏ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏8‏)‏ وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏والأنعام‏}‏‏:‏ منصوب بمحذوف، يفسره‏:‏ ‏{‏خَلَقَها‏}‏، أو معطوف على «الإنسان» و‏{‏خلقها لكم‏}‏‏:‏ بيان لما خُلقتُ لأجله، وما بعده تفصيل له‏.‏ و‏{‏منها تأكلون‏}‏‏:‏ إنما قدَّم المعمول؛ للمحافظة على رؤوس الآي، أو‏:‏ لأن الأكل منها هو المعتمد عليه في المعاش، وأما الأكل من غيرها من سائر الحيوانات المأكولات فعلى سبيل التداوي والتفكه‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏ قلت‏:‏ ولعله، عند مالك، للاختصاص، أي‏:‏ منها تأكلون لا من غيرها؛ إذ لا يؤكل عنده غيرها من البهائم الإنسية‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لكم‏}‏‏:‏ يحتمل أن يتعلق بما قبلها أو بما بعدها، ويختلف الوقف باختلاف ذلك‏.‏ ‏{‏إلا بشق‏}‏‏:‏ فيه لغتان‏:‏ الكسر والفتح، بمعنى التعب والكلفة، وقيل‏:‏ المفتوح مصدر شَقَّ الأمرُ عليه، أي‏:‏ صَعُبَ، والمكسور بمعنى‏:‏ النصف، كأنه ذهب نصف قُوَّتِهِ بالتعب‏.‏ ‏{‏والخيل‏}‏‏:‏ عطف على «الأنعام»‏.‏ و‏{‏زينة‏}‏‏:‏ مفعول من أجله، عطف على موضع «لتركبوها»‏:‏ أي‏:‏ للركوب والزينة، أو مفعول مطلق، أي‏:‏ لتتزينوا بها زينة‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏خلق السماوات والأرض‏}‏‏:‏ أوجدهما ‏{‏بالحق‏}‏ أي‏:‏ ملتبسًا بالحق؛ لتدل على وحدانية الحق، وكمال قدرته وباهر حكمته، حيث أوجدهما على مقدار مخصوص، وشكل بديع، وأوضاع مختلفة، وهيئات متعددة‏.‏ أو‏:‏ خلقهما بقضائه وتدبيره الحق، لا بمشاركةِ وتدبيرِ أحد معه، ولا بمعاونة شريك ولا ظهير، ولذلك نزه نفسه بقوله‏:‏ ‏{‏تعالى عمّا يشركون‏}‏، كما نزه نفسه، ابتداءً، لَمَّا نفَى الاستعجال؛ لأنه من تدبير الخلق أيضًا والصدور عن رأيهم، وفي معناه‏:‏ تنزيل الوحي على ما يشاء لا على ما يشاء غيره؛ لانفراده أيضًا في ملكه‏.‏ وفي إبرازه ذلك، على ما يخالف آراء الخلق، أدل دليل على وحدانيته في ملكه، وإنما وضع كل شيء ودبره؛ دلالة على وحدانيته وهدايته لخلقه إليه‏.‏

ثم شفع بخلق الإنسان فقال‏:‏ ‏{‏خلق الإنسان‏}‏ أي‏:‏ جنسه ‏{‏من نُطفة‏}‏‏:‏ من ماء مهين يخرج من مكان مهين، ‏{‏فإذا هو خصيم مبين‏}‏‏:‏ مجادل، كثير الجدل والخصام، مبين لحجته، أو‏:‏ خصيم‏:‏ مكافح لخالقه، قائل‏:‏ ‏{‏مَن يحيي العظام وهي رميم‏}‏‏.‏ رُوي أن أُبيّ بن خَلَف أتى النبي صلى الله عليه وسلم بِعَظْمٍ رَمِيم، فقال‏:‏ يا محمد، أترَى الله يُحيِي هذا بعد ما قد رمَّ‏؟‏ فقال‏:‏ «نعم» فنزلت‏.‏ فعلى الأول‏:‏ تكون الآية عامة لكل إنسان، وعلى الثاني‏:‏ خاصة بالكافر‏.‏ والأول أظهر‏.‏

ولمَّا ذكر نعمة الإيجاد ذكر نعمة الإمداد، فقال‏:‏ ‏{‏والأنعامَ‏}‏ وهي‏:‏ الإبل والبقر والغنم، ‏{‏خلقها‏}‏‏:‏ أوجدها ‏{‏لكم فيها دِفءٌ‏}‏؛ ما يُدْفأُ به فيقي البرد، يعني‏:‏ ما يتخذ من جلود الأنعام وأصوافها من الثياب، ‏{‏و‏}‏ لكم فيها أيضًا ‏{‏منافعُ‏}‏ أُخر؛ كنسلها وظهورها‏.‏ وإنما عبَّر بالمنافع؛ ليتناول عِوضها‏.‏ ‏{‏ومنها تأكلون‏}‏ أي‏:‏ تأكلون ما يؤكل منها؛ من اللحوم والشحوم والألبان‏.‏

‏{‏ولكم فيها جَمَالٌ‏}‏ أي‏:‏ زينة وبهجة ‏{‏حين تُريحون‏}‏؛ تردونها من مراعيها إلى مِرَاحِها بالعشي، ‏{‏وحين تسرحون‏}‏؛ تخرجونها إلى المرعى بالغداة؛ فإن الأفنية والمشارعَ والطرق تتزين بها في الذهاب والرواح، ويجل أهلها في أعين الناظرين إليها‏.‏ وقدَّم الإراحة؛ لأن الجمال فيها أظهر؛ لأنها تقبل ملأى البطون، حاملة الضروع، ثم تأوي إلى الحظائر حاضرة لأهلها‏.‏

‏{‏وتحمل أثقالكم‏}‏‏:‏ أحمالكم عليها من الأمتعة وغيرها ‏{‏إلى بلدٍ‏}‏ بعيد، ‏{‏لم تكونوا بالغيه‏}‏ عليها، فضلاً عن أن تحملوها على ظهوركم، ‏{‏إلا بِشِقِّ الأنفس‏}‏؛ إلا بكلفة ومشقة فديحة، أو‏:‏ إلا بذهاب شِقها، أي‏:‏ نصف قوتها من التعب‏.‏ ‏{‏إن ربكم لرؤوف رحيم‏}‏؛ حيث رحمكم بخلقها وذللها للحمل، والركوب عليها، وأنعم عليكم بالكل من لحومها وألبانها‏.‏

‏{‏و‏}‏ خلق لكم ‏{‏الخيلَ والبغال والحميرَ لتركبوها‏}‏، ‏{‏و‏}‏ تتزينوا بها ‏{‏زينةً‏}‏، أو للركوب والزينة‏.‏ قال البيضاوي‏:‏ وتغيير النظم- أي‏:‏ حيث لم يقل‏:‏ وللزينة-؛ لأن الزينة بفعل الخالق، والركوب من فعل المخلوق- أي‏:‏ باعتبار الحكمة-، ولأن المقصود خلقها للركوب، وأما التزين بها فحاصل بالعَرَضِ‏.‏ وقرئ بغير واو، فيحتمل أن يكون علة لركوبها، أو مصدرًا في موضع الحال من الضمير، أي‏:‏ متزينين، أو متزينًا بها‏.‏ واستُدِلَّ به على حرمة لحومها، ولا دليل فيه؛ إذ لا يلزم من تعليل الفعل بما يُقصد منه، غالبًا، ألا يقصد منه غيره أصلاً، ويدل عليه أن الآية مكية‏.‏ وعامة المفسرين والمحدثين أن الحمر الأهلية حرمت عام خيبر‏.‏ ه‏.‏ ‏{‏ويخلق ما لا تعلمون‏}‏ مما لا يُحيط البشرُ بعلمها؛ من عجائب المخلوقات، وضروب المصنوعات، مما يؤكل ومما لا يؤكل، وما خلق في الجنة والنار، مما لا يخطر على قلب بشر‏.‏

‏{‏وعلى الله قصدُ السبيل‏}‏ أي‏:‏ وعلى الله بيان السبيل القصد، أي‏:‏ الطريق الموصل إلى المقصود‏.‏ أو‏:‏ على الله تقويم طريق الهدى؛ بنصب الأدلة وبعث الرسل، فهو من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي‏:‏ السبيل القصد، أي‏:‏ القاصد المستقيم الموصل إلى المطلوب؛ كأنه يقصد الوجه الذي يقصده السالك لا يميل عنه‏.‏ والمراد من السبيل‏:‏ الجنس، ولذلك أضاف إليه المقصد، وقال‏:‏ ‏{‏ومنها جائرٌ‏}‏ عن القصد، أو عن الله، كطريق اليهود والنصارى وغيرهم‏.‏ والسبيل بمعنى الطريق، يُذكر ويؤنث، وأُنِّثَ هنا‏.‏ وتغيير الأسلوب- أي‏:‏ حيث لم يقل‏:‏ قصد السبيل والجائر-؛ لأنه ليس بحق على الله أن يبين طريق الضلالة، ولأن المقصود، بالأصالة، بيان سبيله، وتقسيمُ السبيل إلى القصد والجائر إنما جاء بالعرض‏.‏ ‏{‏ولو شاء لهداكم أجمعين‏}‏ أي‏:‏ ولو شاء هدايتكم أجمعين لهداكم إلى قصد السبيل، هداية مستلزمة للاهتداء‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏

الإشارة‏:‏ هذه العوالم من العرش إلى الفرش كلها نُصبت للآدمي، وخلقت من أجله، السماوات تُظله، والأرض تُقله، والحيوانات تخدمه وتنفعه، يتصرف فيها؛ خليفة عن الله في ملكه‏.‏

فالواجب عليه شكر هذه النعم، وألا يقف معها، ويشتغل بها عن خدمة خالقها‏.‏ يقول الحق تعالى، في بعض كلامه بلسان الحال أو المقال‏:‏ «يا ابنَ آدم، خَلَقْتُ الأَشياءَ مِن أَجْلِكَ، وخَلَقْتُكَ مِنْ أجِلْي، فَلا تَشْتَغِل بما خُلِق لأجلك عَمَّا خُلِقْت لأجْله» والواجب عليه أيضًا من طريق الخصوص‏:‏ ألا يقف مع حس أجرامها، دون النفوذ إلى أسرار معاني خالقها ومُظهرها؛ لئلا يبقى مسجونًا بمحيطاته، محصورًا في هيكل ذاته، بل ينفذ إلى فضاء شهود بحر المعاني، المحيط بالأواني، والمفني لها، بصحبة شيخ كامل، يُخرجه من سجن الأكوان إلى فضاء شهود المُكوِّن‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وعلى الله قصد السبيل‏}‏‏:‏ اعلم أن الحق- جلّ جلاله- بيَّن طريق الوصول إلى نعيمه الحسي والفوز برضوانه، وطريق الوصول إلى حضرة قدسه ومحل شهوده وعيانه، وأرسل الرسل ببيان الطريقين‏.‏ فوكل ببيان الأولى العلماء، ووكل ببيان الثانية الأولياء‏.‏ فالعلماء قاموا ببيان الشرائع الموصلة إلى نعيم الأشباح، والأولياء العارفون قاموا ببيان الحقائق الموصلة إلى نعيم الأرواح، وهو النعيم الأكبر؛ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ‏}‏ ‏[‏التّوبَة‏:‏ 72‏]‏‏.‏ فالرضوان على قسمين‏:‏ قوم نالهم الرضوان من طريق الخطاب مع سدْل الحجاب، وهم أهل الشرائع، وقوم نالهم الرضوان بمكافحة الخطاب ورفع الحجاب، وهم أهل الحقائق، وهم المقربون، نفعنا الله بهم، وخرطنا في سلكهم‏.‏ آمين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 16‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ‏(‏10‏)‏ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏11‏)‏ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ‏(‏12‏)‏ وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ‏(‏13‏)‏ وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏14‏)‏ وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ‏(‏15‏)‏ وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏لكم منه شراب‏}‏‏:‏ يحتمل أن يتعلق بأنزل، أو يكون في موضع خبر ‏{‏شراب‏}‏، أو صفة لماء؛ و‏{‏مواخر‏}‏‏:‏ جمع ماخرة، يقال‏:‏ مخرت السفينة الماء مخرًا‏:‏ شقّته، وقيل‏:‏ المخر‏:‏ صوت جَرْىِ الفلك في البحر من هبوب الريح‏.‏ وقيل‏:‏ معناه‏:‏ تجيء وتذهب بريح واحدة‏.‏ و‏{‏لتبتغوا‏}‏‏:‏ عطف على «لتأكلوا»، و‏{‏أن تميد‏}‏‏:‏ مفعول من أجله، أي‏:‏ كراهة أن تميد بكم‏.‏ و‏{‏أنهارًا وسُبلاً‏}‏‏:‏ مفعول بمحذوف، أي‏:‏ وخلق أو وجعل أنهارًا، وقيل‏:‏ معطوف على «رواسي»؛ لأن ألقى، فيه معنى الجعل، و‏{‏علامات‏}‏‏:‏ عطف على ‏{‏أنهارًا وسبلاً‏}‏، أو نصب على المصدر، أي‏:‏ ألقى ذلك؛ لعلكم تعتبرون، وعلامات دالة على وحدانيته‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏هو الذي أنزل من السماء‏}‏ أي‏:‏ السحاب، أو جانب السماء، ‏{‏ماء‏}‏‏:‏ مطراً ‏{‏لكم منه شراب‏}‏ تشربونه بلا واسطة، أو بواسطة العيون والأنهار والآبار؛ لأنه يُحبس فيها، ثم يشرب منها، لقوله‏:‏ ‏{‏فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِى الأَرْضِ‏}‏ ‏[‏الزُّمَر‏:‏ 21‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏فَأَسْكَنَّاهُ فِى الأَرْضِ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 18‏]‏، ‏{‏ومنه شجرٌ‏}‏ أي‏:‏ ومنه يكون شجر، يعني‏:‏ الشجر الذي ترعاه المواشي، وقيل‏:‏ كل ما نبت على الأرض فهو شجر، ‏{‏فيه تُسِيمُون‏}‏‏:‏ ترعون مواشيكم، من أسام الماشية‏:‏ رعاها، وأصلها‏:‏ السومة، التي هي العلامة؛ لأنها تؤثر بالرعي علامات‏.‏

‏{‏يُنبتُ لكم به الرزعَ‏}‏ وقرأ أبو بكر بالنون؛ على التفخيم، ‏{‏والزيتونَ والنخيلَ والأعناب ومن كل الثمرات‏}‏ أي‏:‏ ومن بعض كل الثمرات؛ إِذْ لم ينبت في الأرض كل ما يمكن من الثمار‏.‏ قال البيضاوي‏:‏ ولعل تقديم ما يسام فيه على ما يؤكل منه؛ لأنه سيصير غذاءً حيوانيًّا هو أشرف الأغذية- يعني اللحم-، ومن هذا‏:‏ تقديم الزرع، والتصريح بالأجناس الثلاثة وترتيبها‏.‏ ه‏.‏

‏{‏إن في ذلك لآية لقوم يتفكّرون‏}‏، فيستدلون على وجود الصانع وباهر قدرته، فإن من تأمل الحبة تقع في الأرض يابسة، ويصل إليها نداوة تنفذ فيها، فينشق أعلاها، ويخرج منه ساق الشجر، وينشق أسفلها فيخرج منه عروقها، ثم ينمو ويخرج منه الأوراق والأزهار، والأكمام والثمار، ويشتمل كل منها على أجسام مختلفة الأشكال والطبائع، مع اتحاد المواد، عَلِمَ أن ذلك ليس إلا بفعل فاعل مختار، مقدس عن منازعة الأضداد والأنداد، ولعل وصل الآية به؛ لذلك‏.‏ قاله البيضاوي باختصار‏.‏

‏{‏وسخَّر لكم الليلَ والنهارَ والشمس والقمرَ والنجومَ‏}‏؛ بأن هيأها لمنافعكم، ‏{‏مسخراتٍ بأمره‏}‏، أي‏:‏ مذللات لما يريد منها، وهو حال من الجميع، أي‏:‏ نفعكم بها حال كونها مسخرات لله، منقادة لحكمه، أو لما خلقن له، ‏{‏إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون‏}‏ أي‏:‏ لأهل العقول السليمة الصافية من ظلمة الغفلة والشهوات، وإنما جمع هنا، دون ما قبله وما بعده؛ لأن الأولى راجعة إلى إنزال المطر، وهو متحد، والثالثة راجعة إلى ما ذرأ في الأرض، وهو متحد في الجنس والهيئة، بخلاف العوالم العلوية، فإنها مختلفة في الجنس والهيئة‏.‏

وقال البيضاوي‏:‏ جمع الآية وذكر العقل؛ لأنها تتضمن أنواعًا من الدلالة ظاهرة لذوي العقول السليمة، غير مُحْوِجَةٍ إلى استيفاء فكر، كأحوال النبات‏.‏ ه‏.‏

‏{‏وما ذرأ‏}‏ أي‏:‏ وسخر لكم ما ذرأ، فهو عطف على الليل، أي‏:‏ سخر لكم ما خلق لكم في الأرض من حيوانات ونبات، ‏{‏مختلفاً ألوانه‏}‏؛ أبيض وأسود، أحمر وأصفر، مع اتحاد المادة، فالماء واحد والزهر ألوان، ‏{‏إن في ذلك لآية لقوم يذّكرون‏}‏؛ يتذكرون أن اختلافها في الألوان والطبائع، والهيئات والمناظر، ليس إلا بصنع صانع حكيم‏.‏

‏{‏وهو الذي سخَّر البحرَ‏}‏‏:‏ ذلله بحيث هيأه للتمكن من الانتفاع به؛ بالركوب فيه، والاصطياد، والغوص، ‏{‏لتأكلوا منه لحمًا طريًّا‏}‏ هو السمك، ووصفة بالطراوة؛ لأنه أرطب اللحوم، فيسرع إليه الفساد، فيسارع إلى أكله طريًّا، ولإظهار قدرته في خلقه؛ عذبًا طريًّا في ماء زُعاق أُجاج، واحْتَج به مالك على أن من حلف ألا يأكل لحمًا حنث بأكل السمك، وأجيب بأن مبني الأيمان على العُرف، وهو لا يُفهم منه عند الإطلاق؛ ألا ترى أن الله سمى الكافر دابة، ولا يحنث من حلف ألا يركب دابة بركوبه‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏ ويجاب بالاحتياط؛ فالحنث يقع بأدنى شيء، بخلاف البِر، لا يقع إلا بأتم الأشياء‏.‏

‏{‏وتستخرجوا منه حِلْيةً‏}‏؛ كاللؤلؤ والمرجان، ‏{‏تلْبسونها‏}‏؛ يلبسها نساؤكم، وأسند اللباس إليهم؛ لأن لباس النساء تزين للرجال، فكأنه مقصودٌ لهم، ‏{‏وترى الفلك‏}‏‏:‏ السفن ‏{‏مواخر فيه‏}‏؛ جواري فيه تمخر الماء، أي‏:‏ تشقه، أو تُصوت من هبوب الريح، ‏{‏ولتبتغوا من فضله‏}‏‏:‏ من سعة رزقه؛ بركوبه للتجارة، أو‏:‏ وترى الفلك جواري فيه؛ لتركبوها، ولتبتغوا من سعة رزقه‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ فيه إباحة ركوب البحر للتجارة وطلب الأرباح‏.‏ ه‏.‏ ‏{‏ولعلكم تشكرون‏}‏ أي‏:‏ تعرفون نعم الله فتقوموا بشكرها‏.‏ ولعل تخصيصه بتعقيب الشكر؛ لأنه أقوى في باب الإنعام؛ من حيث جعل المهالك سببًا للانتفاع، وتحصيل المعاش‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏

‏{‏وألقى في الأرض رواسي‏}‏؛ جبالاً رواسي أرست الأرض؛ كراهة ‏{‏أن تميد بكم‏}‏؛ تميل وتضطرب؛ لأن الأرض قبل أن تُخلق فيها الجبال كانت كرة خفيفة بسيطة، وكان من حقها أن تتحرك كالسفينة على البحر، فلما خُلقت الجبال تقاومت جوانبها؛ بثقلها نحو المركز، فصارت كالأوتاد التي تمنعها عن الحركة‏.‏ وقيل‏:‏ لما خلق الله الأرض جعلت تمور- أي‏:‏ تتحرك- فقالت الملائكة‏:‏ ما يستقر أحد على ظهرها، فأصبحت وقد أرْسيَتْ بالجبال‏.‏ ‏{‏وأنهارًا‏}‏ أي‏:‏ وجعل فيها أنهارًا تطرد؛ لسقي الناس والبهائم، وسائر المنافع، وذكره بعد الجبال؛ لأن الغالب انفجارها منها، ‏{‏وسُبلاً‏}‏ أي‏:‏ وجعل فيها طُرقًا ‏{‏لعلكم تهتدون‏}‏ لمقاصدكم، أو لمعرفة ربكم، بالنظر في دلالة هذه المصنوعات المتقدمة، على صانعها‏.‏

‏{‏و‏}‏ جعل فيها ‏{‏علاماتٍ‏}‏‏:‏ معالم يَسْتَدِلُّ بها السابلة على معرفة الطرق؛ من الجبال، والمناهل، والرياح، وغير ذلك، ‏{‏وبالنجم هم يهتدون‏}‏ إلى الطرق بالليل، في البراري والبحار، والمراد بالنجم‏:‏ الجنس، بدليل قراءة‏:‏ «وبالنُّجُمِ»؛ بضمتين؛ على الجمع‏.‏

وقيل‏:‏ المراد‏:‏ الثريا، والفرقدان وبنات نعش، والجَدْي‏.‏ والضمير لقريش؛ لأنهم كانوا كثيري الأسفار للتجارة، مشهورين بالاهتداء في مسايرهم بالنجوم، وإخراج الكلام عن سنن الخطاب، وتقديم النجم، وإقحام الضمير؛ للتخصيص، كأنه قيل‏:‏ وبالنجم خصوصًا، هؤلاء خصوصًا يهتدون، يعني‏:‏ قريشًا، فالاعتبار بذلك، والشكر عليهم ألزم لهم وأوجب عليهم‏.‏ ه‏.‏ وأصله للزمخشري‏.‏

الإشارة‏:‏ هو الذي أنزل من سماء الغيوب ماء، أي‏:‏ علمًا لدنيًا تحيا به القلوب، وتتطهر به النفوس من أدناس العيوب‏.‏ لكم منه شراب، خمرة تحيا بها الأرواح، وتغيب عن حضرة الأشباح، ويخرج منه على الجوارح أشجار العمل، تثمر بالأذواق، فيه تسيمون، أي‏:‏ في أذواق العمل ترعون بنفوسكم وقلوبكم، ثم ترحلون عنه إلى حلاوة شهود ربكم، فمن وقف مع حلاوة العمل، أو المقامات أو الكرامات، بقي محجوبًا عن ربه، وعليه نبّه صاحب البردة بقوله‏:‏

وَراعِها، وهْيَ في الأعْمَالِ سَائِمَةٌ *** وإنْ هِيَ اسْتَحْلَتِ المَرْعَى فلا تُسِم

وقال في الحكم‏:‏ «ربما وقفت القلوب مع الأنوار، كما حُجِبَت النفوس بكثائف الأغيار»‏.‏

وقال الششتري‏:‏

وقد تحْجُبُ الأنوار للعبْدِ مثْل ما *** تبعد من إظلام نفْس حوَتْ ضِغنا

يُنبت بذلك العلم طعام نَفوسكم من قوت الشريعة، ومصباح قلوبكم من عمل الطريقة، وثمرة الأعمال في عوالم الحقيقة، وفواكه العلوم من مخازن الفهوم‏.‏ وسخر لكم ليل القبض، ونهار البسط؛ لتسكنوا فيه؛ لِمَا خصكم فيه من مقام التسليم والرضا، ولتبتغوا من فضله؛ من فيض العلوم وكشف الغطاء، فتشرق حينئذ شمس العرفان، ويستنير قمر الإيمان، وتطلع نجوم العلم، كل مسخر في محله، لا يستتر أحد بنور غيره، وهذا مقام أهل التمكين، يستعملون كل شيء في محله‏.‏ وما ذرأ لكم في أرض نفوسكم من أنواع العبادات وأحوال العبودية، متلونة باعتبار الأزمنة والأمكنة، وهو الذي سخر بحر المعاني؛ لتأكلوا منه لحمًا طريًا؛ علمًا جديدًا لم يخطر على قلب بشر، وتستخرجوا منه جواهر ويواقيت من الحِكَم، تلبسونها وتتزين قلوبكم وألسنتكم بها‏.‏

وترى الفلك، أي‏:‏ سفن الفكرة، فيه مواخر؛ عائمة في بحر الوحدة، بين أنوار الملكوت وأسرار الجَبروت؛ لتبتغوا من فضله، وهي معرفة الحق بذاته وأسمائه وصفاته، ولعلكم تشكرون، فتقيدوا هذه النعم الجسام؛ لئلا تزول‏.‏ وألقى في أرض البشرية جبال العقول؛ لئلا يلعب بها ريحُ الهوى، وأجرى عليها أنهارًا من العلوم حين انزجرت عن هواها، وجعل لها طُرقًا تهتدي بها إلى معرفة ربّها، فَتهتدي أولاً إلى نجم الإسلام، ثم إلى قمر توحيد البرهان، ثم إلى شهود شمس العرفان‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 23‏]‏

‏{‏أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏17‏)‏ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏18‏)‏ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ‏(‏19‏)‏ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ ‏(‏20‏)‏ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ‏(‏21‏)‏ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ ‏(‏22‏)‏ لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏وما يشعرون أيان يبعثون‏}‏، الضمير الأول للأصنام، والثاني للكفار الذين عبدوهم، وقيل‏:‏ للأصنام فيهما، وقيل‏:‏ للكفار فيهما، و‏{‏لا جرم‏}‏‏:‏ إما أن يكون بمعنى لا شك، أو لا بدّ، أو تكون «لا» نفيًا لِمَا تقدم‏.‏ و«جَرَم»‏:‏ فعل، بمعنى وجب، أو حق، و‏{‏أن الله‏}‏‏:‏ فاعل بجَرَم‏.‏

‏{‏يقول الحقّ جلّ جلاله‏}‏‏:‏ ‏{‏أفمن يَخلُقُ‏}‏ كل شيء، ويَقدر على كل شيء، ‏{‏كمن لا يَخْلُق‏}‏ شيئًا، ولا يقدر على شيء، بل هو أعجز من كل شيء‏؟‏ وهو إنكار على من أشرك مع الله غيره، بعد إقامة الدلائل المتكاثرة على كمال قدرته، وباهر حكمته، بذكر ما تقدم من أنواع المخلوقات وبدائع المصنوعات، وكان حق الكلام‏:‏ أفمن لا يخلق كمن يخلق، لكنه عكس؛ تنبيهًا على أنهم، بالإشراك بالله، جعلوه من جنس المخلوقات العجزة، شبيهًا بها‏.‏ والمراد بمن لا يخلق، كل ما عُبد من دون الله، وغلب أولي العلم منهم، فعبَّر بمن، أو يريد الأصنام، وأجراها مجرى أولي العلم؛ لأنهم سموها آلهة، ومن حق الإله أن يعلم، أو للمشاكلة بينه وبين من يخلق‏.‏ ‏{‏أفلا تذكَّرون‏}‏؛ فتعرفوا فساد ذلك؛ فإنه لظهوره كالحاصل للعقل الذي يحضر عنده بأدنى تذكر والتفات‏.‏

ولما ذكر أنواعًا من المخلوقات على وجه الاستدلال على وحدانيته- وفي ضمنها‏:‏ تعداد النِعَم على خلقه- أعقبها بقوله‏:‏ ‏{‏وإن تعدوا نِعمةَ الله لا تُحصوها‏}‏ أي‏:‏ لا تطيقوا عدها، فضلاً أن تطيقوا القيام بشكرها‏.‏ ثم أعقبها بقوله‏:‏ ‏{‏إنَّ الله لغفور رحيم‏}‏؛ تنبيهًا على أن العبد في محل التقصير، لولا أن الله يغفر له تقصيره في أداء شكر نعمه، ويرحمه ببقائها مع تقصيره في شكرها‏.‏

‏{‏والله يعلم ما تُسِرُّون وما تُعلنون‏}‏ من عقائدكم وأعمالكم، وهو وعيد لمن كفر النعم وأشرك مع الله غيره، سرًا أو علانية، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏والذين تدعون‏}‏ أي‏:‏ والأصنام الذين تعبدونهم ‏{‏من دون الله لا يَخْلُقون شيئًا‏}‏؛ لظهور عجزهم‏.‏ لَمَّا نفى المشاركة بين من يخلق ومن لا يخلق، بيَّن أنها لا تخلق شيئًا؛ ليتحقق نفي الألوهية عنها؛ ضرورةً‏.‏ ثم علل عجزها، وعدم استحقاقها للألوهية بقوله‏:‏ ‏{‏وهم يُخْلقون‏}‏ أي‏:‏ وهم مخلوقون مفتقرون في وجودهم إلى التخليق، والإله لا بدّ أن يكون واجب الوجود‏.‏

وهم، أيضًا، ‏{‏أمواتٌ غير أحياء‏}‏ أي‏:‏ لم تكن لهم حياة قط، ولا تكون، وذلك أغرق في موتها ممن تقدمت له حياة، ثم مات‏.‏ والإله ينبغي أن يكون حيًا بالذات لا يعتريه الممات‏.‏ ‏{‏وما يشعرون أيّان يُبعثون‏}‏ أي‏:‏ لا يعلمون وقت بعثهم، أو بعثِ عَبَدَتِهِمْ، فكيف يكون لهم وقت يجازون فيه من عبدهم، والإله ينبغي أن يكون عالمًا بالغيوب، قادرًا على الجزاء لمن عبده‏؟‏ وفيه تنبيه على أن البعث من توابع التكليف‏.‏

قاله البيضاوي‏.‏

قال ابنُ جُزَيْ‏:‏ نفى عن الأصنام صفة الربوبية، وأثبت لهم أضدادها؛ وهي أنهم مخلوقون غير خالقين، وغير أحياء، وغير عالمين وقت البعث، فلما قام البرهان على بطلان ربوبيتهم، أثبت الربوبية لله وحده، فقال‏:‏ ‏{‏إلهكم إله واحد‏}‏‏.‏ ه‏.‏ وهو تصريح بما أقام عليه الحجج والبراهين بما تقدم‏.‏

ثم ذكر سبب إصرارهم على الكفر- وهو إنكار البعث والتكبر- فقال‏:‏ ‏{‏فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم مُنْكِرةٌ وهم مستكبرون‏}‏ أي‏:‏ فالمنكرون للبعث قلوبهم منكرة لوحدانيته تعالى، وهم مستكبرون عن اتّباع الرسل فيما جاؤوا به، والخضوع لهم؛ لأن المؤمن بالآخرة يكون طالبًا للدلائل، متأملاً فميا يسمع، فينتفع به، خاضعًا للحق، متبعًا لمن جاء به، بخلاف الكافر، يكون حاله بالعكس؛ منهمكًا في الغفلة، متبعًا للهوى، يُنكر بقلبه ما لا يعرف إلا بالبرهان، اتّباعًا للأسلاف، وتقليدًا لهم، وركونًا إلى المالوف‏.‏

قال تعالى‏:‏ تهديدًا لمن هذا وصفه‏:‏ ‏{‏لا جَرَمَ‏}‏‏:‏ لا بدّ، أو لا شك، أو حَقٌّ ‏{‏أنَّ الله يعلم ما يُسرون وما يعلنون‏}‏، فيجازيهم عليه؛ ‏{‏إنه لا يحب المستكبرين‏}‏ مطلقًا، فضلاً عن الذين استكبروا عن توحيده واتّباع رسوله‏.‏ ومفهومه‏:‏ أنه يحب المتواضعين الخاضعين للحق، ولمن جاء به، وهم المؤمنون‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ قد تضمنت الآية ثلاث خصال من خصال أهل التوحيد‏:‏ الأولى‏:‏ رفع الهمة عن الخلق، وتعلقها بالخالق في جميع المطالب والمآرب؛ إذ لا يترك العبد من هو خالق كل شيء، قادر على كل شي، دائم لا يموت، ويتعلق بعبد عاجز ضعيف، لا يقدر على نفع نفسه، فكيف ينفع غيره‏؟‏ ‏{‏أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون‏}‏، ‏{‏والذين تدعون من دون الله لا يَخلقون شيئًا وهم يُخلقون أموات غير أحياء‏}‏‏.‏ وأنشدوا في هذا المعنى‏:‏

حَرَامٌ على مَنْ وَحَّد الله رَبَّهُ *** وأفْرَدَهُ أَنْ يَحْتَذِي أحدًا رِفْدَا

فَيَا صَاحِبي قفْ بي عَلَى الحَقِّ وَقْفةً *** أَمُوتُ بها وَجْدًا وأحْيَا بِها وَجْدا

وقُلْ لمُلوكِ الأرْضِ تَجْهَدُ جُهدها *** فَذَا المُلك مُلكٌ لا يُباع ولا يُهدى

والخصلة الثانية‏:‏ تذكر البعث وما بعده، وتقريبُه وجعله نصب العين؛ إذ بذلك يحصل الزهد في هذه الدار الفانية، والاستعداد والتأهب للدار الباقية، وبه تلين القلوب، وتتحقق بعلم الغيوب، وبه يحصل الخضوع للحق، والتعظيم لمن جاء به‏.‏ بخلاف من أنكره، أو استبعده، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون‏}‏‏.‏

الخصلة الثالثة‏:‏ التواضع والخضوع لله، ولمن دعا إلى الله، وهو سبب المحبة من الله، ورفع الدرجات عند الله؛ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «مَنْ تَوَاضَعَ للهِ رَفَعَهُ، ومَنْ تَكَبر وَضَعَهُ الله» وقال أيضًا‏:‏ «مَنْ تَوَاضَعَ دُون قَدْره، رَفَعَهُ فوق قَدْره» بخلاف المتكبر؛ فإنه ممقوت عند الله، مطرود عن باب الله؛ قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنه لا يحب المستكبرين‏}‏‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «لاَ يَدْخُلُ الجنَّةَ مَنْ في قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ خَرْدلٍ مِنْ كِبْرٍ»، أو كما قال صلى الله عليه وسلم، «والتكبر‏:‏ بَطَرُ الحق وغَمْطُ الناس»، أي‏:‏ جحد الحق، واحتقار الناس‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 29‏]‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏24‏)‏ لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ‏(‏25‏)‏ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏26‏)‏ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ ‏(‏27‏)‏ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏28‏)‏ فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏ماذا‏}‏، يجوز أن يكون اسمًا واحدًا مركبًا منصوبًا ب ‏{‏أَنزل‏}‏، وأن تكون ‏(‏ما‏)‏‏:‏ استفهامية في موضع رفع بالابتداء، و‏(‏ذا‏)‏‏:‏ بمعنى «الذي»‏:‏ خبر، وفي أنزل ضميرٌ محذوف، أي‏:‏ ما الذي أنزله ربكم‏؟‏ واللام في ‏{‏ليحملوا‏}‏‏:‏ لام العاقبة والصيرورة، أي‏:‏ قالوا‏:‏ هو أساطير الأولين؛ فأوجب ذلك أن يحملوا أوزارهم وأوزار غيرهم، وقيل‏:‏ لام الأمر، و‏{‏بغير علم‏}‏‏:‏ حال من المفعول في ‏{‏يُضلونهم‏}‏، أو من الفاعل، و‏{‏تُشاقُّون‏}‏‏:‏ من قرأه بالكسر؛ فالمفعول‏:‏ ضمير المتكلم، وهو الله تعالى، ومن قرأه بالفتح؛ فالمفعول محذوف، أي‏:‏ تشاقون المؤمنين من أجلهم‏.‏ و‏{‏ظالمي أنفسهم‏}‏‏:‏ حال من ضمير المفعول في‏:‏ «تتوفاهم»‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وإذا قيل لهم‏}‏ أي‏:‏ كفار قريش‏:‏ ‏{‏ماذا أنزل ربكم‏}‏ على رسوله محمد- عليه الصلاة والسلام-‏؟‏ ‏{‏قالوا‏}‏‏:‏ هو ‏{‏أساطير الأولين‏}‏ أي‏:‏ ما سطره الأولون وكتبوه من الخرافات‏.‏ وكان النضر بن الحارث قد اتخذ كتب التواريخ، ويقول‏:‏ إنما يُحدِّث مُحمدٌ بأساطير الأولين، وحديثي أجمل من حديثه‏.‏ والقائل لهم هم المقتسِمُون، وتسميته، حينئذ، مُنزلاً؛ إما على وجه التهكم، أو على الفَرض والتقدير، أي‏:‏ على تقدير أنه منزل، فهو أساطير لا تحقيق فيه‏.‏ ويحتمل أن يكون القائل لهم المؤمنين، فلا يحتاج إلى تأويل‏.‏

‏{‏ليحملوا أوزارهَم كاملةً يوم القيامة‏}‏ أي‏:‏ قالوا ذلك؛ ليُضلوا الناس، فكان عاقبتهم أن حملوا أوزار ضلالهم كاملة، ‏{‏ومن أوزارِ الذين يُضلونهم‏}‏‏:‏ وبعض أوزار ضلال من كانوا يضلونهم- وهو حصة التسبب في الوقوع في الضلال- حال كونهم ‏{‏بغير علم‏}‏ أي‏:‏ يضلون من لا يعلم أنهم ضُلاّل‏.‏ وفيه دليل على أن الجاهل في العقائد غير معذور؛ إذ كان يجب عليه أن يبحث عن الحق وأهله، وينظر في دلائله وحُججه‏.‏

قال البيضاوي‏:‏ ‏{‏بغير علم‏}‏‏:‏ حال من المفعول؛ أي‏:‏ يضلون من لا يعلم أنهم ضُلاّل، وفائدتها‏:‏ الدلالة على أن جهلهم لا يعذرهم؛ إذ كان عليهم أن يبحثوا، ويميزوا بين المحق والمبطل‏.‏ ه‏.‏ وقال المحشي‏:‏ ففيه ذم تقليد المبطل، وأن مقلده غير معذور، بخلاف تقليد المحق الذي قام بشاهد صدقه المعجزة، أو غير ذلك، كدليل العقل والنقل فيما تعتبر دلالته‏.‏ ه‏.‏

قلت‏:‏ ويجوز أن يكون حالاً من الفاعل، أي‏:‏ يُضِلُّونَ في حال خلوهم من العلم، فقد جمعوا بين الضلال والإضلال‏.‏

قال تعالى في شأن أهل الإضلال‏:‏ ‏{‏ألا سَاءَ ما يَزِرُون‏}‏، أي‏:‏ بئس شيئًا يزرونه فعلهم هذا‏.‏

‏{‏قد مكر الذين من قَبلِهم‏}‏ أي‏:‏ دبروا أمورًا ليمكروا بها الرسل، ‏{‏فأتى اللهُ بُنيانهم من القواعد‏}‏ أي‏:‏ قصد ما دبروه من أصله، فهدمه، ‏{‏فخرَّ عليهم السَّقْفُ من فوقهم‏}‏، وصار ما دبروه، وبنوه من المكر، سبب هلاكهم، ‏{‏وأتاهم العذابُ من حيث لا يشعرون‏}‏؛ لا يحتسبون ولا يتوقعون، وهو على سبيل التمثيل‏.‏

وقال ابن عباس وغيره‏:‏ المراد به نمرود بن كنعان، بنى الصرح ببابل، سُمْكُهُ خمسة آلاف ذراع؛ ليترصّد أمر السماء، فبعث الله ريحًا فهدمته، فخرَّ عليه وعلى قومه، فهلكوا، وقيل‏:‏ إن جبريل عليه السلام هدمه، فألقى أعلاه في البحر، وانجعف من أسفله‏.‏

‏{‏ثم يَوْمَ القيامة يُخزيهم‏}‏‏:‏ يذلهم ويعذبهم بالنار، ‏{‏ويقول أين شركائِيَ‏}‏، أضافها إلى نفسه؛ استهزاء، أو حكاية لإضافتهم إياها إليه في الدنيا؛ زيادةً في توبيخهم، أي‏:‏ أين الشركاء ‏{‏الذين كنتم تُشاقون فيهم‏}‏‏:‏ تعادون المؤمنين في شأنهم، أو تشاقونني في شأنهم؛ فإن مُشاقة المؤمنين كمشاقته، أو تحاربون وتخارجون، فتكونون في شق والحق في شق، ‏{‏قال الذين أُوتوا العلم‏}‏؛ وهم الأنبياء والعلماء الذين كانوا يدعونهم إلى التوحيد، فيشاققونهم ويتكبرون عليهم، أو الملائكة‏:‏ ‏{‏إنّ الخزي اليوم والسُّوءَ‏}‏‏:‏ الذلة والعذاب ‏{‏على الكافرين‏}‏‏.‏ وفائدة قولهم ذلك لهم‏:‏ إظهارُ الشماتة وزيادة الإهانة، وحكايته، ليكون لطفاً لمن سمعه من المؤمنين، فيزيد حذرًا وحزمًا في الطاعة، وقال الواحدي‏:‏ إن الخزي اليوم والسوء عليهم لا علينا‏.‏ ه‏.‏ أي‏:‏ فيقولونه؛ اعترافًا واستبشارًا بإنجاز ما وعدهم الله، كما قالوا‏:‏ الحمد لله الذي هدانا لهذه الهداية‏.‏

ثم وصفهم بقوله‏:‏ ‏{‏الذين تتوفاهم الملائكةُ‏}‏؛ تقبض أرواحهم ‏{‏ظالمي أنفسِهِم‏}‏؛ بأن عرضوها للعذاب المخلد، ‏{‏فألقَوُا السَّلَمَ‏}‏ أي‏:‏ استسلموا، وألقوا القياد من أنفسهم، حين عاينوا الموت، قائلين‏:‏ ‏{‏ما كنا نعملُ من سُوء‏}‏‏:‏ من كفر وعدوان، يحتمل أن يكون قولهم ذلك قصدوا به الكذب؛ اعتصامًا به، كقولهم‏:‏ ‏{‏والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعَام‏:‏ 23‏]‏، أو يكونوا أخبروا على حساب اعتقادهم في أنفسهم، فلم يقصدوا الكذب، ولكنه كذب في نفس الأمر‏.‏ قال الحسن‏:‏ هي مواطن، فمرة يُقرون على أنفسهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَشَهِدُواْ على أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعَام‏:‏ 130‏]‏، ومرة يجحدون كهذه الآية، فتجيبهم الملائكة بقولهم‏:‏ ‏{‏بلى‏}‏ قد كنتم تعملون السوء والعدوان، ‏{‏إن الله عليم بما كنتم تعملون‏}‏ فهو يجازيكم عليه‏.‏ وقيل‏:‏ إن قوله‏:‏ ‏{‏فألقَوُا السَّلَمَ‏}‏ إلى آخر الآية، راجع إلى شرح حالهم يوم القيامة، فيتصل في المعنى بقوله عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏أين شركائي الذين كنتم تُشاقون فيهم‏}‏ إلخ، فيكون الرَّادُ عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏بلى‏)‏، هو الله تعالى، أو‏:‏ أولو العلم، ويُقوي هذا قوله بعده ‏{‏فادخلوا أبواب جهنم‏}‏؛ لأن دخولها لا يكون إلا بعد البعث والحساب، لا بعد الموت؛ إذ لا يكون بعد الموت إلا العرض عليها غُدوًا وعشيًا، والمراد بدخول أبوابها، أي‏:‏ التي تفضي إلى طبقاتها، التي هي بعضها على بعض، وأبوابها كذلك، كل صنف يدخل من بابه المُعَدِّ له، ‏{‏خالدين فيها فلبئس مثوى‏}‏ أي‏:‏ مقام ‏{‏المتكبرين‏}‏ جهنم‏.‏

الإشارة‏:‏ وإذا قيل لأهل الغفلة والإنكار‏:‏ ماذا أنزل ربكم، على قلوب أولياء زمانكم؛ من المواهب وأسرار الخصوصية‏؟‏ قالوا‏:‏ أساطير الأولين، ثم عَوَّقُوا الناس عن الدخول في طريقهم؛ لتطهير قلوبهم، فيحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة؛ حيث ماتوا مصرين على الكبائر وهم لا يشعرون‏.‏

ويحملون من أوزار الذين يضلونهم عن طريق الخصوص بغير علم، بل جهلاً وعنادًا وحسدًا، ألا ساء ما يزرون‏.‏

قلت‏:‏ الذي أتلف العوام عن الدين ثلاثة أصناف‏:‏ علماء السوء، وفقراء السوء- وهم أهل الزوايا والنسبة-، وقراء السوء؛ لأن هؤلاء هم المقتدى بهم، والمنظور إليهم، فإذا رأوهم أقبلوا على الدنيا، وقصروا في الدين، تبعوهم على ذلك؛ فضلوا معهم، فقد ضلوا وأضلوا، وإذا أنكروا على أولياء الله، ومكروا بهم، اقتدوا بهم في ذلك فيتولى الله حفظ أوليائه، ويهدم مكرهم؛ قال تعالى‏:‏ ‏{‏فأتى الله بنيانهم من القواعد‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ الآية، فإذا كان يوم القيامة أبعدهم عن حضرته، وأسكنهم مع عوام خلقه‏.‏ فإذا أنكروا ما فعلوا في الدنيا، يقال لهم‏:‏ ‏{‏بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون‏}‏، فيخلدون في عذاب القطيعة والحجاب، فبئس مثوى المتكبرين‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 32‏]‏

‏{‏وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ ‏(‏30‏)‏ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ ‏(‏31‏)‏ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏32‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏خيراً‏}‏‏:‏ منصوب بفعل محذوف، أي‏:‏ أنزل خيرًا، فهو مطابق للسؤال؛ لأن المؤمنين معترفون بالإنزال، بخلاف قوله‏:‏ ‏{‏أساطير الأولين‏}‏؛ فهو مرفوع على الخبر؛ لأنهم لا يُقرون بالإنزال، فلا يصح تقدير فعله‏.‏ وإنما عدلوا بالجواب عن السؤال؛ لإنكارهم له، وقالوا‏:‏ هو أساطير الأولين ولم ينزله الله‏.‏ و‏{‏للذين‏}‏‏:‏ خبر، و‏{‏حسنة‏}‏‏:‏ مبتدأ، والجملة‏:‏ بدل من ‏{‏خيرًا‏}‏، أو تفسير الخير الذي قالوه، والظاهر أنه استئناف من كلام الحق‏.‏ ‏{‏جنات عدن‏}‏‏:‏ يحتمل أن يكون هو المخصوص بالمدح، فيكون مبتدأ، وخبره فيما قبله، أو خبر ابتداء مضمر، أو مبتدأ، وخبره‏:‏ ‏{‏يدخلونها‏}‏، أو محذوف، أي‏:‏ لهم جنات عدن‏.‏ و‏{‏طيبين‏}‏‏:‏ حال من مفعول «توفاهم»‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وقيل للذين اتقوا‏}‏ الشرك، وهم المؤمنون‏:‏ ‏{‏ماذا أنزل ربكم قالوا خيرًا‏}‏، أي‏:‏ أنزل خيرًا، مقرين بالإنزال، غير مترددين فيه ولا متلعثمين عنه، على خلاف الكفرة؛ لمَّا ذكر الحق تعالى مقالة الكفار الذين قالوا‏:‏ أساطير الأولين، عادل ذلك بذكر مقالة المؤمنين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأوجب لكل فريق ما يستحق من العقاب أو الثواب، رُوي أن العرب كانوا يبعثون أيام الموسم من يأتيهم بأخبار النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا جاء الوفد، وسأل المقتسمين، من الكفار، قالوا له‏:‏ أساطير الأولين، وإذا سال المؤمنين‏:‏ ماذا أنزل ربكم‏؟‏ قالوا‏:‏ خيرًا‏.‏ فنزلت الآية في شأن الفريقين‏.‏

ثم ذكر جزاء المؤمنين فقال‏:‏ ‏{‏للذين أحسنوا في هذه الدنيا‏}‏ بالإِيمان والطاعة، ‏{‏حسنة‏}‏ أي‏:‏ حالة حسنة؛ من النصر، والعز، والتمكين في البلاد، مع الهداية للمعرفة والاسترشاد‏.‏ ‏{‏ولَدارُ الآخرةِ خيرٌ‏}‏ أي‏:‏ ولثواب الآخرة خير مما قدَّم لهم في الدنيا؛ لدوامه، وصفائه، وعظيم شأنه، وعن أنس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنَّ الله لا يَظْلِمُ المُؤْمِنَ حَسَنةً، يُثَابُ عَلَيها الرزْقَ فِي الدُّنيَا، ويُجَازَى بِهَا فِي الآخِرَة» ‏{‏ولنعم دارُ المتقين‏}‏ دار الآخرة، حذفت، لتقدم ذكرها، أو هي‏:‏ ‏{‏جناتُ عدنٍ يدخلونها‏}‏ على الأبد، ‏{‏تجري من تحتها الأنهارُ لهم فيها ما يشاؤونَ‏}‏ من أنواع المشتهيات؛ حسية ومعنوية، وفي تقديم الظرف في قوله‏:‏ ‏{‏فيها‏}‏؛ تنبيه على أن الإنسان لا يجد جميع ما يريد إلا في الجنة‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏

‏{‏كذلك يَجزي اللهُ المتقين‏}‏ الذين قالوا خيرًا وفعلوا خيرًا، وأحسنوا في دار الدنيا حتى ماتوا على الإحسان، كما قال‏:‏ ‏{‏الذين تتوفاهم الملائكة طيبين‏}‏‏:‏ طاهرين من ظُلم أنفسهم بالكفر والمعاصي؛ لأنه في مقابلة ظالمي أنفسهم، وقيل‏:‏ فرحين؛ لبشارة الملائكة إياهم بالجنة، أو طيبين بقبض أرواحهم؛ لتوجه نفوسهم بالكلية إلى الحضرة القدسية‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ ‏{‏طيبين‏}‏‏:‏ عبارة عن صلاح حالهم، واستعدادهم للموت‏.‏ وهذا بخلاف ما قال في الكفرة‏:‏

‏{‏ظالمي أَنْفُسِهِم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 97؛ والنحل‏:‏ 28‏]‏، والطيب لا خبث معه، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏طِبْتُمْ فادخلوها‏}‏ ‏[‏الزُّمَر‏:‏ 73‏]‏‏.‏ ه‏.‏

وقال الترمذي الحكيم‏:‏ ‏{‏طيبين‏}‏ أي‏:‏ مستعدين للقاء، يُسلَّم عليهم، ويقال لهم‏:‏ ادخلوا الجنة بلا هول ولا حساب، بخلاف غير المستعد للقاء، فإنما يسلم عليه، ويقال له‏:‏ ادخل الجنة بعد أهوال القبر وأهوال القيامة‏.‏ ه‏.‏ وهذا معنى قوله‏:‏ ‏{‏يقولون سلام عليكم‏}‏؛ لا يلحقكم بعدُ مكروهٌ‏.‏ وهذا لأجل الاستعداد كما تقدم‏.‏ ثم تقول لهم‏:‏ ‏{‏ادخلُوا الجنة‏}‏ بعد بعثكم، أو بأرواحكم في عالم البرزخ، إن كانوا من الشهداء أو الصديقين، ‏{‏بما كنتم تعملون‏}‏ في دار الدنيا‏.‏

فإن قلت‏:‏ كيف التوفيق بين الآية وبين الحديث‏:‏ «لن يَدْخُل أحدُكُم الجَنَّة بعَمَلِهِ، قالوا‏:‏ ولا أَنْتَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ولا أَنَا، إِلاَّ أنْ يَتَغَمَّدَنِي اللهُ بِرَحْمَتِه» ‏؟‏ فالجواب‏:‏ أن الهداية لصالح العمل، والتوفيق له، هو برحمة الله أيضًا، فالعمل الصالح رحمة من رحمات الله، فما دخل أحد الجنة إلا برحمته، فرجعت الآية إلى الحديث‏.‏ ومقصد الحديث‏:‏ نفي وجوب ذلك على الله تعالى بالعقل، كما ذهب إليه فريق من المعتزلة‏.‏ وهنا جواب آخر صوفي؛ وهو الجمع بين الحقيقة والشريعة، فنسبة العمل إلى العبد شريعة، ونفيه عنه، بإجراء الله ذلك عليه، حقيقة‏.‏ فالآية سلكت مسلك الشريعة في نسبة العمل للعبد؛ فضلاً ونعمة؛ «من تمام نعمته عليك أن خلق فيك ونسب إليك»‏.‏ والحديث سلك مسلك الحقيقة؛ لأن الدين كله دائر بين حقيقة وشريعة، فإذا شرَّع القرآنُ حققته السُّنة، وإذا شرَّعت السُّنةُ حققها القرآن‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ وقيل للذين اتقوا التقوى الكاملة‏:‏ ماذا أنزل ربكم من المقادير‏؟‏ قالوا‏:‏ خيرًا، فكل ما ينزل بهم من قدر الله وقضائه، جلاليًا كان أو جماليًا، جعلوه خيرًا، وتلقوه بالرضا والتسليم‏.‏ يقولون‏:‏ إذا كنتَ أنتَ المُبْتَلِي فافعل ما شئت، لا يتضعضعون ولا يسأمون، ولا يشكون لأحد سوى محبوبهم؛ لأن الشكوى تنافي دعوى المحبة، كما قال الشاعر‏:‏

إِنْ شَكَوْتَ الهَوَى فما أنت منّا *** احْمِلِ الصَّدَ والجفا يا مُعَنَّا

تَدَّعِي مَذْهبَ الهَوى ثم تَشْكُو *** أين دَعْوَاك في الهَوَى قَل لِيَ أيْنَا‏؟‏

لَو وَجَدْنَاكَ صابرًا لِهَوانا *** لأعْطيناك كُلَّ ما تتمنى

وإنما قالوا، في كل ما ينزل بهم‏:‏ خيرًا، أو جعلوه لطفًا وبرًا؛ لما يجدون في قلوبهم، بسببه، من المزيد والألطاف، والتقريب وطي مسافة النفس، ما لا يجدونه في كثير من الصلاة والصيام سنين؛ لأن الصلاة والصيام من أعمال الجوارح، وما يحصل في القلب من الرضا والتسليم، وحلاوة القرب من الحبيب، من أعمال القلوب، وذرة منها خير من أمثال الجبال من أعمال الجوارح‏.‏

وفي الخبر‏:‏ «إذَا أحَبَّ اللهُ عَبْد ابْتَلاَهُ، فَإِنْ صَبَرَ اجْتَبَاهُ، وإِنْ رَضِيَ اصْطَفَاه» وفي صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

«عَجَبًا لأمر المُؤْمن، إنَّ أمرَهُ كُلَّهُ له خَيرٌ، وليْسَ ذلِكَ لأحَدٍ إلاَّ للمُؤْمِنِ‏.‏ إن أصَابَتْهُ سَرَّاءُ شكَرَ، فَكَانَ خَيرًا لََهَ، وإنْ أصَابَتْه ضَرَّاءُ صَبَرَ، فَكَانَ خَيرًا لَهُ» وفي البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «ما يُصيب المؤمنَ من وَصَبٍ، ولا نَصَبٍ، ولا سَقَمٍ، ولا حَزَنٍ، حتى الهَمُّ يُهِمُّه، إلا كفّر له من سيئاته» وقال أيضًا صلى الله عليه وسلم‏:‏ «مَا مِنْ مُسْلِم يُصِيبُهُ أَذىً من مرض فَمَا سَواه، إلا حَطَّ به عنه سَيِّئاتِهِ كَمَا تَحُطَّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا» ورُوي عن عيسى عليه السلام أنه كان يقول‏:‏ لا يكون عالمًا من لم يفرح بدخول المصائب والأمراض على جسده وماله؛ لِمَا يرجو بذلك من كفارة خطاياه‏.‏ ه‏.‏ فتحصل أن ما ينزل بالمؤمن كُلَّهُ خير، فإذا سئل‏:‏ ماذا أنزل ربكم‏؟‏ قال خيرًا‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏للذين أحسنوا في هذه الدنيا‏}‏؛ أي‏:‏ بالرضا عني في جميع الأحوال، والاشتغال بذكري في كل حال، لهم في الدنيا ‏{‏حسنةٌ‏}‏‏:‏ حلاوة المعرفة، ودوام المشاهدة، ‏{‏ولدارُ الآخرة خيرٌ‏}‏؛ لصفاء المشاهدة فيها، واتصالها بلا كدر؛ إذ ليس فيها من شواغل الحس ما يكدرها، بخلاف الدنيا؛ لأن أحكام البشرية لا ينفك الطبع عنها، كغلبة النوم، وتشويش المرض وغيره، بخلاف الجنة، ليس فيها شيء من الكدر، ولذلك مدحها بقوله‏:‏ ‏{‏ولَنِعْمَ دارُ المتقين‏}‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏كذلك يجزي الله المتقين‏}‏ لكل ما يشغل عن الله؛ الذين تتوفاهم الملائكة طيبين، طاهرين، مطهرين من شوائب الحس، ودنس العيوب، طيبة نفوسُهم بحب اللقاء، قد طيبوا أشباحهم بحسن المعاملة، وقلوبهم بحسن المراقبة، وأرواحهم بتحقيق المشاهدة‏.‏ تقول لهم الملائكة الكرام‏:‏ سلام عليكم، ادخلوا جنة المعارف إثر موتكم، وجنة الزخارف إثر بعثكم؛ بما كنتم تعملون من تطهير أجسامكم من الزلات، وتطهير قلوبكم من الغفلات، وتطهير أرواحكم من الفترات‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 37‏]‏

‏{‏هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏33‏)‏ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏34‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ‏(‏35‏)‏ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ‏(‏36‏)‏ إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏هل ينظرون‏}‏ أي‏:‏ ما ينظر هؤلاء الكفرة، الذين قالوا فيما أنزل الله من الوحي‏:‏ هو أساطير الأولين، ‏{‏إلا أن تأتيهُم الملائكةُ‏}‏؛ لقبض أرواحهم، ‏{‏أو يأتي أمرُ ربك‏}‏‏:‏ قيام الساعة، أو العذاب المستأصِل لهم في الدنيا، ‏{‏كذلك‏}‏ أي‏:‏ مثل ذلك التكذيب والشرك، ‏{‏فعل الذين من قبلهم‏}‏، فأصابهم ما أصابهم، ‏{‏وما ظلمهم الله‏}‏ بإهلاكهم، ‏{‏ولكن كانوا أنفسهم يظلمون‏}‏؛ لكفرهم ومعاصيهم، المؤدية إلى عذابهم‏.‏ ‏{‏فأصابهم‏}‏ جزاء ‏{‏سيئات ما عملوا‏}‏ من الكفر والمعاصي، وهو العذاب، ‏{‏وحاقَ‏}‏ أي‏:‏ وأحاط ‏{‏بهم ما كانوا به يستهزئون‏}‏ أي‏:‏ نزل بهم العذاب الذي كانوا يستهزئون به‏.‏ والحيْق لا يكون إلا في الشر‏.‏

‏{‏وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرَّمنا من دونه من شيء‏}‏؛ كالبحائر والسوائب والحوامي‏.‏ قالوا ذلك على وجه المجادلة والمخاصمة، والاحتجاج على صحة فعلهم، أي‏:‏ إنَّ فِعْلَنَا هو بمشيئة الله، فهو صواب، ولو شاء الله ألا نفعله ما فعلناه‏.‏ والجواب‏:‏ أن الاحتجاج بالقدر لا يصح في دار التكليف، وقد بعث الله الرسل بالنهي عن الشرك، وتحريم ما أحل الله، ونحن مكلفون باتباع الشريعة، لا بالنظر إلى فعل الحقيقة من غير شريعة؛ فإنه زندقة؛ فالشريعة رداء الحقيقة، فمن خرق رداء الشريعة، وتمسك بالحقيقة وحدها، فقد استحق العقاب، ولذلك قال تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك فعل الذين من قَبلهم‏}‏؛ فأشركوا بالله، وحرموا ما أحل الله، وردوا رسله‏.‏ ‏{‏فهل على الرسلِ إلا البلاغُ المبين‏}‏ أي‏:‏ الإبلاغ الموضح للحق؛ فمن تمسك بما جاؤوا به فهو على صواب، ومن أعرض عنه فهو على ضلال، ولا ينفعه تمسكه بالحقيقة من غير اتباع الشريعة‏.‏ والحقيقة هي أنه لا يقع في ملكه إلا ما يريد، طاعة كان أو معصية، كفرًا أو إيمانًا، لكن الأمر غير تابع للإرادة، ونحن مكلفون باتباع الأمر فقط‏.‏

ثم بيَّن أن البعثة أمر جرت به السنة الإلهية في الأمم الماضية، جعلها سببًا لهدى من أراد اهتداءه، وزيادة الضلال لمن أراد إضلاله، كالغذاء الصالح، فإنه ينفع المزاج السوي- أي‏:‏ المعتدل- ويقويه، ويضر المزاج المنحرف ويعييه، فقال‏:‏ ‏{‏ولقد بعثنا في كل أمةٍ رسولاً‏}‏ قائلاً‏:‏ ‏{‏أن اعبدُوا الله واجتنبوا الطاغوت‏}‏؛ أي‏:‏ يأمر بعبادة الله وحده واجتناب ما سواه، ‏{‏فمنهم من هدى الله‏}‏؛ وفقهم للإيمان وأرشدهم إليه، ‏{‏ومنهم من حقتْ عليه الضلالةُ‏}‏؛ فلم يوفقهم، ولم يُرد إرشادهم؛ فليس كل من تمسك بشيء وأمْهل فيه يدل أنه على صواب، كما ظن المشركون، بل النظر إلى ما جاءت به الرسل من الشرائع، وكلها متفقة على وجوب التوحيد وإبطال الشرك‏.‏

ثم أمرهم بالنظر والاعتبار بحال من أشرك وكذب الرسل، فقال‏:‏ ‏{‏فسيروا في الأرض‏}‏ يا معشر قريش، ‏{‏فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين‏}‏؛ كعاد وثمود وغيرهم، لعلكم تعتبرون‏.‏

ثم نهى نبيه عن الحرص عليهم فقال‏:‏ ‏{‏إنْ تَحرِصْ‏}‏ يا محمد ‏{‏على هُداهم فإن الله لا يَهْدي من يُضِلُّ‏}‏ أي‏:‏ من يريد إضلاله وقضى بشقائه؛ وهو الذي حقت عليه الضلالة، وقرأ غير الكوفيين بالبناء للمفعول، وهو أبلغ، أي‏:‏ فإن الله لا يُهدي من يضله، أي‏:‏ لا يهدي غيرُ الله من يريد اللهُ إضلاله‏.‏ ‏{‏وما لهم من ناصرين‏}‏؛ ليس لهم من ينصرهم؛ يدفع العذاب عنهم‏.‏

الإشارة‏:‏ هل ينظر مَن عكف على دنياه، وأكب على متابعة حظوظه وهواه، إلا أن تنزل الملائكة لقبض روحه، فيندم حيث لا ينفع الندم، وقد زلت به القدم، فيتمنى ساعة تُزاد في عمره فلا يجدها، أو يأتي أمر ربك؛ أمرٌ يحول بينه وبين العمل الصالح كمرض مزمن، أو فتنة مضلة‏.‏ كذلك فعل من قبله، اغتر بدنياه حتى اختطف لأخراه‏.‏ وما ظلمهم الله، بل بعث الرسل وأخلفهم بأهل الوعظ والتذكير، فحادوا عنهم، فأصابهم جزاء سيئات ما عملوا من الغفلة والبطالة، وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون، من وبال التقصير، وفوات مقام أهل الجد والتشمير‏.‏

وقال الذين أشركوا في محبة الله سواه؛ من الحظوظ وزهرة الدنيا‏:‏ لو شاء الله ما فعلنا ذلك، محتجين بالقدر، مع الإقامة على البطالة والخذلان‏.‏ كذلك فعل مَنْ قَبْلَهُمْ من أهل الغفلة، فهل على الرسل وخلفائهم إلا البلاغ المبين‏؟‏ فقد حذَّروا من متابعة الدنيا، وبلَّغوا أن الله غيور لا يُحب من أشرك معه غيره في محبته، فقد بعث في كل أمة وعصر نذيرًا، يأمر بعبادة الله وحده، واجتناب كل ما سواه؛ فمنهم من هداه الله، فاختاره لحضرته، فلم يُحب سواه‏.‏ ومنهم من حقت عليه الضلالة عن مقام الخصوص، فبقي في مقام البعد؛ مُكَذِّبًا بطريق الخصوص‏.‏ فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين؛ كان عاقبتهم الحرمان ولزوم الخذلان‏.‏ ويقال للعارف المذكِّر لمثل هؤلاء‏:‏ ‏{‏إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ الآية‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏