فصل: تفسير الآيات رقم (91- 96)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏91- 96‏]‏

‏{‏وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ‏(‏91‏)‏ وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ‏(‏92‏)‏ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏93‏)‏ وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏94‏)‏ وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏95‏)‏ مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏96‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏وقد جعلتم‏}‏‏:‏ حال، و‏{‏أنكاثًا‏}‏‏:‏ حال من الغزل، وهو‏:‏ جمع نِكْث- بالكسر- بمعنى منكوث، أي‏:‏ منقوض‏.‏ و‏{‏أن تكون‏}‏‏:‏ مفعول من أجله، و‏{‏تتخذون‏}‏‏:‏ جملة حالية من ضمير «تكونوا»‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلالة‏:‏ ‏{‏وأوفوا بعهد الله‏}‏؛ كالبيعة للرسول- عليه الصلاة والسلام- وللأمراء، والأيمان، والنذور، وغيرها، ‏{‏إذا عاهدتم‏}‏ الله على شيء من ذلك، ‏{‏ولا تَنقضوا الأيمان‏}‏؛ أيمان البيعة، أو مطلق الأيمان، ‏{‏بعد توكيدها‏}‏؛ بعد توثيقها بذكر الله، أو صفته، أو أسمائه، ‏{‏وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً‏}‏؛ شاهدًا ورقيبًا، بتلك البيعة؛ فإن الكفيل مراع لحال المكفول رقيب عليه، ‏{‏إن الله يعلم ما تفعلون‏}‏ في نقض الأيمان والعهود‏.‏ وهو تهديد لمن ينقض العهد، وهذا في الأيمان التي في الوفاء بها خير، وأما ما كان تركه أولى فيُكَفِّرْ عن يمينه، وليفعل الذي هو خير، كما في بها خير، وأما ما كان تركه أولى فيُكَفِّرْ عن يمينه، وليفعل الذي هو خير، كما في الحديث‏.‏

‏{‏ولا تكونوا كالتي نَقَضَتْ غزلها‏}‏‏:‏ أفسدته ‏{‏من بعد قوة‏}‏ أي‏:‏ إبرام وإحكام؛ ‏{‏أنكاثًا‏}‏ أي‏:‏ طاقات، أي‏:‏ صيرته طاقات كما كان قبل الغزل، بحيث حلت إحكامه وإبرامه، حتى صار كما كان، والمراد‏:‏ تشبيه الناقض بمَن هذا شأنه، وقيل‏:‏ هي «ريطة بنت سعد القرشية»؛ فإنها كانت خرقاء- أي‏:‏ حمقاء- تغزل طول يومها ثم تنقضه، فكانت العرب تضرب به المثل لمن قال ولم يُوف، أو حلف ولم يَبر في يمينه‏.‏ ‏{‏تتخذون أيمانكم دخلا بينكم‏}‏ أي‏:‏ لا تكونوا متشبهين بامرأة خرقاء، متخذين أيمانكم مفسدة ودخلا بينكم‏.‏ وأصل الدخل‏:‏ ما يدخل الشيء، ولم يكن منه، يقال‏:‏ فيه الدخل والدغل، وهو قصد الخديعة‏.‏

تفعلون ذلك النقض؛ لأجل ‏{‏أن تكون أُمةٌ هي أربى من أمةٍ‏}‏‏:‏ بأن تكون جماعة أزيد عدداً وأوفر مالاً، من جماعة أخرى، فتنقضون عهد الأولى لأجل الثانية؛ لكثرتها‏.‏ نزلت في العرب، كانت القبيلة منهم تحالف الأخرى، فإذا جاءها قبيلة أقوى منها، غدرت الأولى، وحالفت الثانية‏.‏ وقيل‏:‏ الإشارة بالأربى هنا إلى كفار قريش؛ إذ كانوا حينئذ أكثر من المسلمين، فحذر من بايع على الإسلام أن ينقضه لما يرى من قوة كفار قريش‏.‏

‏{‏إنما يبلوكم‏}‏‏:‏ يختبركم ‏{‏اللهُ به‏}‏؛ بما أمر من الوفاء بالعهد؛ لينظر المطيع منكم والعاصي‏.‏ أو‏:‏ بكون أمة هي أربى، لينظر أتتمسكون بحبل الوفاء بعهد الله وبيعة رسوله، أم تَغْتَرُّونَ بكثرة قريش وشوكتهم، وقلة المؤمنين وضعفهم‏؟‏ ‏{‏وليُبَيننَّ لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون‏}‏ في الدنيا؛ حين يجازيكم على أعمالكم بالثواب والعقاب‏.‏ ‏{‏ولو شاء اللهُ لجعلكم أمةً واحدة‏}‏؛ أهل دين واحد متفقين على الإسلام، ‏{‏ولكن يُضل من يشاء‏}‏ بعدله، ‏{‏ويهدي من يشاء‏}‏ بفضله، ‏{‏ولتُسألنَّ يوم القيامة‏}‏؛ سؤال تبكيت ومجازاة، ‏{‏عما كنتم تعملون‏}‏ في الدنيا؛ لتُجازوا عليه‏.‏

‏{‏ولا تتخذوا أيمانكم دَخَلاً بينكم‏}‏، كرره؛ تأكيدًا؛ مبالغة في قبح المنهي عنه من نقض العهود، ‏{‏فتزِلَّ قدمٌ‏}‏ عن محجة الإسلام ‏{‏بعد ثُبوتها‏}‏‏:‏ استقامتها عليه، والمراد‏:‏ أقدامهم، وإنما وُحد ونُكِّر؛ للدلالة على أن زلل قدم واحد عظيم، فكيف بأقدام كثيرة‏؟‏ ‏{‏وتذوقوا السُّوءَ‏}‏‏:‏ العذاب في الدنيا ‏{‏بما صددتم عن سبيل الله‏}‏ أي‏:‏ بصدكم عن الوفاء بعهد الله، أو بصدكم غيركم عنه؛ فإن من نقض البيعة، وارتد، جعل ذلك سُنَّة لغيره، ‏{‏ولكم عذابٌ عظيم‏}‏ في الآخرة‏.‏

‏{‏ولا تشتروا بعهد الله‏}‏ أي‏:‏ لا تستبدلوا عهد الله وبيعة رسوله صلى الله عليه وسلم بأخذكم ‏{‏ثمنًا قليلاً‏}‏‏:‏ عرضًا يسيرًا من الدنيا، بأن تنقضوا العهد لأجله‏.‏ قيل‏:‏ هو ما كانت قريش يعدونه لضعفاء المسلمين، ويشترطون لهم على الارتداد، ‏{‏إِنَّما عند الله‏}‏ من النصر والعز، وأخذ الغنائم في الدنيا، والثواب الجزيل في الآخرة، ‏{‏هو خيرٌ لكم‏}‏ مما يعدونكم، ‏{‏إن كنتم تعلمون‏}‏ ذلك فلا تنقضوا، أو إن كنتم من أهل العلم والتمييز‏.‏

‏{‏ما عندكم‏}‏ من أعْرَاضِ الدنيا ‏{‏يَنْفَذُ‏}‏؛ ينقضي ويفنى، ‏{‏وما عند الله‏}‏ من خزائن رحمته، وجزيل نعمته ‏{‏باقٍ‏}‏ لا يفنى، وهو تعليل للنهي عن نقض العهد؛ طمعًا في العَرَضِ الفاني، ‏{‏وليجزين الذين صبروا‏}‏ على الوفاء بالعهود، أو على الفاقات وأذى الكفار، أو مشاق التكاليف، ‏{‏أجرهم بأحسنِ ما كانوا يعملون‏}‏ بما يرجح فعله من أعمالهم، كالواجبات والمندوبات، أو بجزاء أحسن من أعمالهم‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

الإشارة‏:‏ الوفاء بالعهود، والوقوف مع الحدود، من شأن الصالحين الأبرار، كالعباد والزهاد، والعلماء الأخيار‏.‏ وأما أهل الفناء والبقاء من العارفين‏:‏ فلا يقفون مع شيء، ولا يعقدون على شيء، هم مع ما يبرز من عند مولاهم في كل وقت وحين، ليس لهم عن أنفسهم إخبار، ولا مع غير الله قرار‏.‏ يتلونون مع المقادير كيفما تلونت، وذلك من شدة قربهم وفنائهم في ذات مولاهم‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 29‏]‏، فهم يتلونون مع الشؤون البارزة من السر المكنون؛ فمن عقد معهم عقدًا، أو أخذ منهم عهدًا، فلا يعول على شيء من ذلك؛ إذ ليست أنفسهم بيدهم، بل هي بيد مولاهم‏.‏ وليس ذلك نقصًا في حقهم، بل هو كمال؛ لأنه يدل على تغلغلهم في التوحيد حتى هدم عزائمهم، ونقض تدبيرهم واختيارهم‏.‏ ولا يذوق هذا إلا من دخل معهم، وإلاَّ فحسبه التسليم، وطرح الميزان عنهم، إن أراد الانتفاع بهم‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏97‏]‏

‏{‏مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏97‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏مَن عَمِلَ صالحًا‏}‏؛ بأن صحبه الإخلاص، وتوفرت فيه شروط القبول، ‏{‏من ذَكَرٍ أو أنثى وهو مؤمن‏}‏؛ إذ لا اعتداد بأعمال الكفرة في استحقاق الثواب، وإنما المتوقع عليها تحقيق العقاب، ‏{‏فلنحيينَّهُ حياة طيبةً‏}‏ في الدنيا، بالقناعة والكفاية مع التوفيق والهداية‏.‏ قال البيضاوي‏:‏ يعيش عيشًا طيبًا، فإنه، إن كان موسرًا، فظاهر، وإن كان معسرًا يطيبُ عيشه بالقناعة، والرضا بالقسمة، وتوقع الأجر العظيم، بخلاف الكافر، فإنه، إن كان معسرًا فظاهر، وإن كان موسرًا لم يدعه الحرص وخوف الفوات أن يهنأ بعيشه، وقيل‏:‏ في الآخرة، أي‏:‏ في الجنة‏.‏ ه‏.‏ ‏{‏ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون‏}‏ من الطاعة، فيجازيهم على الحسن بجزاء الأحسن‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

الإشارة‏:‏ الحياة الطيبة إنما تتحقق بكمالها عند أهل التجريد؛ حيث انقطعت عنهم الشواغل في الظاهر، والعلائق في الباطن، فاطمأنت قلوبهم بالله، وسكنت أرواحهم في حضرة الله، وتحققت أسرارهم بشهود الله، فدام سرورهم، واتصل حبورهم بحلاوة معرفة محبوبهم، وهذه نتيجة شرب الخمرة الأزلية، كما قال ابن الفارض في مدحها‏:‏

وإنْ خَطَرَتْ يومًا على خاطرِ امرىءٍ *** أقامتْ به الأفراحُ وارتحلَ الهمّ

هذا في الخطور، فما بالك بالسكون ودوام الحضور‏؟‏ وقال أيضًا في شأنها‏:‏

فما سكنَتْ والهمّ يومًا بموضع *** كذلك لا يسكُنْ مع النَّغَم الغَم

وإنما تحقق لهم هذا الأمر العظيم؛ لرسوخ قدمهم في مقام الإحسان، وسكونهم في جنة العرفان، فَهَبَّ عليهم نسيم الرضا والرضوان، وترقت أرواحهم إلى مقام الروح والريحان، فقلوبهم بحار زاخرة لا تكدرها الدلاء، وأرواحهم أنوار ساطعة لا يؤثر فيها ليل القبض والابتلاء، وأسرارهم بأنوار المواجهة مشرقة، فدام سرورها بكل ما يبرز من عنصر القضاء‏.‏ والحاصل‏:‏ أن أهل هذا المقام عندهم من الإكسير والقوة ما يقلبون به الأعيان، فيقلبون الشرِّيات خيريات، والمعاصي طاعات، والإساءة إحسانًا، والجلال جمالاً‏.‏‏.‏‏.‏ وهكذا، فأَنَّى تغير قلوبَ هؤلاء الأكدارُ‏؟‏ وأنى تنزل بساحتهم الأغيارُ، وهم في حضرة الكريم الغفار‏؟‏ نفعنا الله بذكرهم، وخرطنا في سلكهم، آمين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏98- 100‏]‏

‏{‏فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ‏(‏98‏)‏ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ‏(‏99‏)‏ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ‏(‏100‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏فإِذا قرأتَ القرآنَ‏}‏؛ أردت قراءته، كقوله‏:‏ ‏{‏إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة‏}‏ ‏[‏المَائدة‏:‏ 6‏]‏، ‏{‏فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم‏}‏ أي‏:‏ فسل الله أن يعيذك من وسواسه؛ لئلا يوسوسك في القراءة، فيحرمك حلاوة التلاوة؛ فإنه عدو لا يحب لابن آدم الربح أبدًا، والجمهور على أنه مستحق عند التلاوة، وعن عطاء‏:‏ أنه واجب‏.‏ ومذهب مالك‏:‏ أنه لا يتعوذ في الصلاة‏.‏ وعند الشافعي وأبي حنيفة‏:‏ يتعوذ في كل ركعة؛ تمسكًا بظاهر الآية؛ لأن الحكم المرتب على شرط يتكرر بتكرره، وأخذ مالك بعمل أهل المدينة في ترك التعوذ في الصلاة‏.‏ وهو تابع للقراءة في السر والجهر، وعن ابن مسعود‏:‏ قرأتُ على النبي صلى الله عليه وسلم فقلت‏:‏ أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، فقال‏:‏ «قل‏:‏ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم»‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنه ليس له سلطانٌ‏}‏ أي‏:‏ تسلط وولاية ‏{‏على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون‏}‏ أي‏:‏ لا تسلط له على أولياء الله المؤمنين به، والمتوكلين عليه، فإنهم لا يطيعون أوامره، ولا يصغون إلى وساوسه، إلا فيما يحتقر، على ندور وغفلة‏.‏ ‏{‏إِنما سلطانه‏}‏ أي‏:‏ تَسَلُّطُهُ ‏{‏على الذين يتولونه‏}‏‏:‏ يحبونه ويطيعونه، ‏{‏والذين هم به‏}‏ أي‏:‏ بالله، أو‏:‏ بسبب الشيطان، ‏{‏مشركون‏}‏؛ حيث حملهم على الشرك فأطاعوه‏.‏

الإشارة‏:‏ الاستعاذة الحقيقية من الشيطان هي‏:‏ الغيبة عنه في ذكر الله أو شهوده، فلا ينجح في دفع الشيطان إلا الفرار منه إلى الرحمن‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏ففروا إِلَى الله‏}‏ ‏[‏الذَّاريات‏:‏ 50‏]‏‏.‏ فإن الشيطان كالكلب، كلما اشتغلت بدفعه قوي نبحه عليك، فإما أن يخرق الثياب، أو يقطع الإهاب، فإذا رفعت أمره إلى مولاه كفه عنك‏.‏ وقد قال شيخ شيوخنا سيدي علي الجمل رضي الله عنه‏:‏ عداوة العدو حقًا هو اشتغالك بمحبة الحبيب حقا، وأما إذا اشتغلت بعداوة العدو، فاتتك محبة الحبيب، ونال مراده منك‏.‏ ه‏.‏

فالعاقل هو الذي يشتغل بذكر الله باللسان، ثم بالقلب، ثم بالروح، ثم بالسر، فحينئذ يذوب الشيطان ولا يبقى له أثر قط، أو يذعن له ويسلم شيطانه، فإنما حركه عليك؛ ليوحشك إليه‏.‏ وفي الحكم‏:‏ «إذا علمت أن الشيطان لا يغفل عنك، فلا تغفل أنت عمن ناصيتك بيده»‏.‏ فإذا تعلقْتَ بالقوي المتين، هرب عنك الشيطان اللعين‏.‏ وسيأتي مزيد كلام إن شاء الله عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏فَاطِر‏:‏ 6‏]‏ الآية‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏101- 103‏]‏

‏{‏وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏101‏)‏ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ‏(‏102‏)‏ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ‏(‏103‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏والله أعلمُ بما يُنزَّل‏}‏‏:‏ معترض بين الشرط، وهو‏:‏ ‏{‏إذا‏}‏ وجوابه، وهو‏:‏ ‏{‏قالوا‏}‏؛ لتوبيخ الكفار، والتنبيه على فساد سندهم‏.‏ و‏{‏هدى وبشرى‏}‏‏:‏ عطف على‏:‏ «ليُثبت»‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وإِذا بدّلنا آيةً مكان آيةٍ‏}‏؛ بأن نسخنا الأولى؛ لفظًا أو حكمًا، وجعلنا الثانية مكانها، ‏{‏والله أعلم بما يُنزّل‏}‏ من المصالح، فلعل ما يكون في وقت، يصير مفسدة بعده، فينسخه، وما لا يكون مصلحة حينئذ، يكون مصلحة الآن، فيثبته مكانه‏.‏ فإذا نسخ، لهذه المصلحة، ‏{‏قالوا‏}‏ أي‏:‏ الكفرة‏:‏ ‏{‏إِنما أنت مُفتَر‏}‏‏:‏ كذاب مُتَقوِّل على الله، تأمر بشيء ثم يبدو لك فتنهى عنه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏بل أكثرهم لا يعلمون‏}‏ حكمة النسخ ولا حقيقة القرآن، ولا يميزون الخطأ من الصواب‏.‏

‏{‏قل نزّله روحُ القُدُس‏}‏ يعني‏:‏ جبريل‏.‏ والقدس‏:‏ الطهر والتنزيه؛ لأنه روح مُنزه عن لوث البشرية‏.‏ نزله ‏{‏من ربك‏}‏ ملتبسًا ‏{‏بالحق‏}‏‏:‏ بالحكمة الباهرة، أو مع الحق في أمره ونهيه وإخباره، أو أنزله حقًا، ‏{‏ليُثَبتَ الذين آمنوا‏}‏ على الإيمان؛ لأنه كلام الله، ولأنهم إذا سمعوا الناسخ والمنسوخ، وتدبروا ما فيه من رعاية المصالح، رسخت عقائدهم، واطمأنت قلوبهم‏.‏ ‏{‏و‏}‏ أنزله ‏{‏هدىً وبُشرى للمسلمين‏}‏ المنقادين لأحكامه، أي‏:‏ نزله؛ تثبيتًا وهداية وبشارة للمسلمين‏.‏

‏{‏ولقد نعلم أنهم يقولون إِنما يُعلِّمِه بَشَرٌ‏}‏ يعنون‏:‏ غلامًا نصرانيًا اسمه‏:‏ جبَر، وقيل‏:‏ يعيش‏.‏ قيل‏:‏ كانا غلامين، اسم أحدهما‏:‏ جبَر، والآخر يَسارٌ، وكانا يصنعان السيوف، ويقرآن التوراة والإنجيل، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس إليهما، ويدعوهما إلى الإسلام، فقالت قريش‏:‏ هذان هما اللذان يعلمان محمدًا ما يقول‏.‏ قال تعالى في الرد عليهم‏:‏ ‏{‏لسانُ الذي يُلحدون إِليه أعجمي‏}‏ أي‏:‏ لغة الرجل الذي يُمِيلُون قولَهم عن الاستقامة إليه، وينسبون إليه تعليم القرآن، أعجمي، ‏{‏وهذا‏}‏ القرآن ‏{‏لسانٌ عربي مبين‏}‏؛ ذو بيان وفصاحة‏.‏ قال البيضاوي‏:‏ والجملتان مستأنفتان؛ لإبطال طعنهم، وتقريره يحتمل وجهين؛ أحدهما‏:‏ أن ما سمعه منه كلام أعجمي لا يفهمه هو ولا أنتم، والقرآن عربي تفهمونه بأدنى تأمل، فكيف يكون،- أي‏:‏ القرآن- ما تلقفه منه‏؟‏ وثانيهما‏:‏ هب أنه تلقف منه المعنى باستماع كلامه، لكن لم يتلقف منه اللفظ؛ لأن ذلك أعجمي وهذا عربي، والقرآن، كما هو معجز باعتبار المعنى، معجز باعتبار اللفظ، مع أن العلوم الكثيرة التي في القرآن لا يمكن تعلمها إلا بملازمة معلم فائق في تلك العلوم مدة متطاولة، فكيف يعلم جميع ذلك من غلام سُوقي، سمع منه، بعض أوقات، كليمات عجمية، لعله لم يعرف معناها‏؟‏‏!‏ فطعنهم في القرآن بأمثال هذه الكلمات الركيكة دليل على غاية عجزهم‏.‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ كما وقع النسخ في وحي أحكام، يقع في وحي إلهام؛ فقد يتجلى في قلب الولي شيء من الأخبار الغيبية، أو يأمر بشيء يليق، في الوقت، بالتربية، ثم يُخبر أو يأمر بخلافه؛ لوقوع النسخ أو المحو، فيظن من لا معرفة له بطريق الولاية أنه كذب، فيطعن أن يشك، فيكون ذلك قدحًا في بصيرته، وإخمادًا لنور سريرته، إن كان داخلاً تحت تربيته‏.‏ والله تعالى ىأعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏104- 109‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏104‏)‏ إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ ‏(‏105‏)‏ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏106‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ‏(‏107‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ‏(‏108‏)‏ لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏109‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏من كفر‏}‏‏:‏ شرطية مبتدأ، وكذلك ‏{‏من شرح‏}‏‏.‏ و‏{‏فعليهم غضب‏}‏‏:‏ جواب عن الأولى والثانية؛ لأنهما بمعنى واحد، ويكون جوابًا للثانية، وجواب الأولى‏:‏ محذوف يدل عليه جواب الثانية‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏من كفر‏}‏‏:‏ بدل من ‏{‏الذين لا يؤمنون‏}‏، أو من المبتدأ في قوله‏:‏ ‏{‏أولئك هم الكاذبون‏}‏، أو من الخبر‏.‏ و‏{‏إلا من أكره‏}‏‏:‏ استئناف من قوله‏:‏ ‏{‏من كفر‏}‏‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين لا يؤمنون‏}‏؛ لا يُصدِّقون ‏{‏بآيات الله‏}‏، ويقولون‏:‏ هي من عند غيره، ‏{‏لا يهديهم الله‏}‏ إلى سبيل النجاة، أو إلى اتباع الحق، أو إلى الجنة‏.‏ ‏{‏ولهم عذاب أليم‏}‏ في الآخرة‏.‏ وهذا في قوم عَلِمَ أَنهم لا يؤمنون، كقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 96‏]‏‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ في الآية تقديم وتأخير، والمعنى‏:‏ إن الذين لا يهديهم الله لا يؤمنون بالله‏.‏ ولكنه قدَّم وأخر؛ تهممًا بتقبيح أفعالهم‏.‏ ه‏.‏

قال البيضاوي‏:‏ هددهم على كفرهم، بعد ما أماط شبهتهم، ورد طعنهم فيه، ثم قلب الأمر عليهم، فقال‏:‏ ‏{‏إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله‏}‏؛ لأنهم لا يخافون عذابًا يردعهم عنه، ‏{‏وأولئك هم الكاذبون‏}‏ على الحقيقة، أو الكاملون في الكذب؛ لأن تكذيب آيات الله، والطعن فيها، بهذه الخرافات أعظم الكذب‏.‏ وأولئك الذين عادتهم الكذب لا يصرفهم عنه دين ولا مروءة‏.‏ أو الكاذبون في قولهم‏:‏ ‏{‏إنما أنت مفتر‏}‏، ‏{‏إِنما يعلمه بشر‏}‏‏.‏ ه‏.‏ والكلام كله مع كفار قريش‏.‏

ثم ذكر حكم مَن ارتد عن الإيمان؛ طوعًا أو كرهًا، فقال‏:‏ ‏{‏من كفر بالله من بعد إِيمانه‏}‏ فعليهم غضب من الله، ‏{‏إِلا مَن أُكْرِه‏}‏ على التلفظ بالكفر، أو على الافتراء على الله، ‏{‏وقلبُه مطمئن بالإِيمان‏}‏؛ لم تتغير عقيدته، ‏{‏ولكن من شرح بالكفر صدرًا‏}‏ أي‏:‏ فتحه ووسعه، فاعتقده، وطابت به نفسه، ‏{‏فعليهم غضبٌ من الله ولهم عذاب عظيم‏}‏؛ إذ لا أعظم من جرمه‏.‏

رُوِيَ أن قريشًا أكرهوا عمّارًا وأبويه- وهما ياسر وسمية- على الارتداد، فربطوا سمية بين بعيرين، وطعنوها بحربة في قلبها، وقالوا‏:‏ إنك أسلمت من أجل الرجال، فماتت- رحمة الله عليها- وقتلوا ياسرًا زوجها، وهما أول قتيلين في الإسلام‏.‏ وأعطاهم عمار بلسانه ما أرادوا؛ مُكرهًا، فقيل‏:‏ يا رسول الله؛ إن عمارًا كفر، فقال‏:‏ «كَلا، إن عَمَّارًا مُلئ إيمَانًا من قَرْنِهِ إلى قَدَمِهِ، واخْتَلَطَ الإِيمَانُ بلَحْمِهِ ودَمِهِ» فَأَتَى عمَّار رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَبْكي، فَجَعَلَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم يَمْسَحُ عَيْنَيْه، ويقول‏:‏ «مَا لك، إِنْ عَادُوا لَك فَعُدْ لَهُمْ بِما قُلْتَ»‏.‏

وهو دليل على جواز التكلم بالكفر عند الإكراه‏.‏ وإن كان الأفضل أن يجتنب عنه، إعزازًا للدين، كما فعل أبواه‏.‏

لما رُوي أنَّ مسيلمة أخذ رجلين، فقال لأحدهما‏:‏ ما تقول في محمد‏؟‏ فقال‏:‏ رسول الله‏.‏ وقال‏:‏ ما تقول فيَّ‏؟‏ فقال‏:‏ أنت أيضًا، فخلى سبيله، وقال للآخر‏:‏ ما تقول في محمد‏؟‏ فقال‏:‏ رسول الله، فقال‏:‏ ما تقول فيَّ‏؟‏ فقال‏:‏ أنا أصم، فأعاد عليه ثلاثًا، فأعاد جوابه، فقتله، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ فقال‏:‏ «أما الأول فقد أخذ برخصة الله، وأما الآخر فقد صدع بالحق، فهنيئًا له» ه‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏

قال ابن جزي‏:‏ وهذا الحكم فيمن أكره على النُطق بالكفر، وأما الإكراه على فعل وهو كفر، كالسجود للصنم، فاختلف؛ هل يجوز الإجابة إليه أو لا‏؟‏ فأجازه الجمهور، ومنعه قوم‏.‏ وكذلك قال مالك‏:‏ لا يلزم المكره يمين، ولا طلاق، ولا عتاق، ولا شيء فيما بينه وبين الله، ويلزمه ما كان من حقوق الناس، ولا تجوز له الإجابة إليه؛ كالإكراه على قتل أحدٍ أو أخذ ماله‏.‏ ه‏.‏ وذكر ابن عطية أنواعًا من الأمور المكره بها، فذكر عن مالك‏:‏ أن القيد إكراه، والسجن إكراه، والوعيد المخوف إكراه، وإن لم يقع، إذا تحقق ظلم ذلك المتعدي، وإنفاذه فيما يتوعد به‏.‏ ثم ذكر خلافًا في الحنث في حق من حلف؛ للدرء عن ماله، لظالم، بخلاف الدرء عن النفس والبدن، فإنه لا يحنث، قولاً واحدًا، إلا إذا تبرع باليمين، ففي لزومه خلاف‏.‏ وانظر المختصر في الطلاق‏.‏

ثم علل نزول العذاب بهم، فقال‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ الوعيد ‏{‏بأنهم استحبُّوا الحياةَ الدنيا على الآخرة‏}‏ أي‏:‏ بسبب أنهم آثروها عليها، ‏{‏وأنَّ الله لا يهدي القوم الكافرين‏}‏، الذين سبق لهم الشقاء، فلا يهديهم إلى ما يوجب ثبات الإيمان في قلوبهم، ولا يعصمهم من الزيغ‏.‏ ‏{‏أولئك الذين طَبَعَ اللهُ على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم‏}‏؛ فغابت عن إدراك الحق والتدبر فيه، ‏{‏وأولئك هم الغافلون‏}‏ الكاملون في الغفلة، حتى أغفلتهم الحالة الزائفة عن التأمل في العواقب‏.‏ ‏{‏لا جَرَمَ‏}‏‏:‏ لا شك ‏{‏أنهم في الآخرة هم الخاسرون‏}‏؛ حيث ضيعوا أعمارهم، وصرفوها فيما أفضى بهم إلى العذاب المخلد‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏

الإشارة‏:‏ من سبق له البِعاد لا ينفعه الكد والاجتهاد، ومن سبقت له العناية لا تضره الجناية‏.‏ ففي التحقيق‏:‏ ما ثَمَّ إلا سابقة التوفيق‏.‏ فمن كان في عداد المريدين السالكين، ثم أكره على الرجوع إلى طريق الغافلين، ‏{‏فمن أكره وقلبه مطمئن بالإيمان‏}‏، أي‏:‏ بالتصديق بطريق الخصوص، وهو مصمم على الرجوع إليها؛ فلا بأس عليه أن ينطق بلسانه، ما يُرى أنه رجع إليهم‏.‏ فإذا وجد فسحة فرَّ بدينه‏.‏ وكذلك إذا أخذه ضعف أو فشل وقت القهرية، ثم أنهضته العناية، ففرّ إلى الله، التحق بأولياء الله، وأما من شرح صدره بالرجوع عن طريق القوم، وطال مقامه مع العوام، فلا يفلح أبدًا في طريق الخصوص، والتحق بأقبح العوام، إلا إن بقي في قلبه شيء من محبة الشيوخ والفقراء، فلعله يحشر معهم، ودرجته مع العوام‏.‏

قال القشيري‏:‏ إذا عَلِمَ اللهُ صِدْقَ عبده بقلبه، وإِخلاصَه في عَقْدِه، ثم لحقته ضرورة في حاله، خَفَّفَ عنه حُكْمَه، ورفع عنه عناءهَ، فإذا تلفظ بكلمة الكفر؛ مُكْرَهًا، وهو بالتوحيد محقق، عُذر فيما بينه وبين ربه‏.‏ وكذلك الذين عقدوا بقلوبهم، وتجردوا لسلوك طريق الله، ثم اعْتَرَضَت لهم أسبابٌ، فاتفقت لهم أعذارٌ، فنفذ ما يوجبه الحال، وكان لهم ببعض الأسباب اشتغالٌ، أو إلى شيء من العلوم رجوعٌ، لم يقدح ذلك في حجة إرادتهم، ولا يُعَدُّ ذلك منهم شكًا وفَسْخًا لعهودهم، ولا تنتفي عنهم سِمَةُ الفيئة إلى الله‏.‏ ه‏.‏

قلت‏:‏ هذا إن بقوا في صحبة الشيوخ، ملازمين لهم، أو واصلين إليهم، وأما إن تركوا الصحبة، أو الوصول، فلا شك في رجوعهم إلى العمومية‏.‏

ثم قال في قوله‏:‏ ‏{‏ولكن مَن شرح بالكفر صدرًا‏}‏‏:‏ من رجع باختياره، ووضع قدَمًا في غير طريق الله، بحُكْمِ هواه، فقد نَقَضَ عَهْدَ إرادته لله، وفَسَخَ عقد قصده إلى الله، وهو مُسْتَوْجِبٌ الحَجْبَةَ، إلى أن تتداركه الرحمة‏.‏ ه‏.‏ قال شيخ شيوخنا، سيدي عبد الرحمن الفاسي، ما نصه‏:‏ وفي مكاتبة لشيخنا العارف أبي المحاسن يوسف بن محمد‏:‏ فإن اختلفت الأشكال، وتراكمت الفتن والهوال، وتصدعت الأحوال، ربما ظهر على العارف وصف لم يكن معهودًا، وأمر لم يكن بالذات مقصودًا، فيكون معه قصور في جانب الحق، لا في جانب الحقيقة، فلا يضر، إن رجع في ذلك لمولاه؛ فرارًا، وإلى ربه؛ اضطرارًا‏.‏ ‏{‏ففروا إلى الله‏}‏‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏110‏]‏

‏{‏ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏110‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏إن‏}‏ الثانية‏:‏ تأكيد، والخبر للأول‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ثم إِن ربك للذين هاجروا‏}‏ من دار الكفر إلى المدينة ‏{‏من بعد ما فُتنوا‏}‏ أي‏:‏ عُذبوا على الإسلام؛ كعمار بن ياسر، وأشباهه؛ من المعذبين على الإسلام‏.‏ هذا على قراءة الضم‏.‏ وقرأ ابن عامر‏:‏ «فتنوا»؛ بفتح التاء، أي‏:‏ فتنوا المسلمين وعذبوهم، فتكون فيمن عذب المسلمين، ثم أسلم وهاجر وجاهد، كعامر بن الحضرمي، أكره مولاه جبرًا حتى ارتد، ثم أسلما وهاجرا ثم جاهدا، وصبرا على الجهاد وما أصابهم من المشاق، ‏{‏إِن ربك من بعدها‏}‏؛ من بعد الهجرة والجهاد والصبر، ‏{‏لغفور رحيم‏}‏ أي‏:‏ لغفور لما مضى قبلُ، رحيم؛ يجازيهم على ما صنعوا بعدُ‏.‏

الإشارة‏:‏ من نزلت به قهرية، أو حصلت له فترة، حتى رجع عن طريق القوم، ثم تاب وهاجر من موطن حظوظه وهواه، وجاهد نفسه في ترك شواغل دنياه، واستعمل السير إلى من كان يدله على الله؛ ‏{‏إن ربك من بعدها لغفور رحيم‏}‏؛ يغفر له ما مضى من فترته، ويلحقه بأصحابه وأبناء جنسه‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏111‏]‏

‏{‏يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏111‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏يوم‏}‏‏:‏ منصوب باذكر، أو بغفور رحيم‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ واذكر ‏{‏يوم تأتي كلُّ نفس تُجادِلُ عن نفسها‏}‏؛ عن ذاتها، وتسعى في خلاصها، لا يهمها شأن غيرها؛ ‏{‏يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهُ وَبَنِيهِ‏}‏ ‏[‏عَبَسَ‏:‏ 34-36‏]‏، ‏{‏وتُوفَّى كلُّ نفس‏}‏ جزاء ‏{‏ما عملت‏}‏ على التمام، ‏{‏وهم لا يُظلمون‏}‏‏:‏ لا يُنقصون من أجورهم مثقال ذرة‏.‏

الإشارة‏:‏ النفس التي تجادل عن نفسها، وتوفى ما عَمِلَتْ من خير أو شر، إنما هي النفس الأمارة أو اللوامة‏.‏ وأما النفس المطمئنة بالله، الفانية في شهود ذات الله، لا ترى وجودًا مع الله؛ فلا يتوجه عليها عتاب، ولا يترتب عليه حساب؛ إذ لم يبق لها فعل تُحاسب عليه‏.‏ وعلى تقدير وجوده فقد حاسبت قبل أن تحاسَب، بل هي في عداد السبعين ألفًا، الذين يدخلون الجنة بغير حساب، وهم المتوكلون‏.‏ أو تقول‏:‏ هي في عداد من يلقى الله بالله، فليس لها شيء سوى الله، فحجته، يوم تجادل النفوس، هو الله‏.‏ كما قال الشاعر‏:‏

وجهك المحمود حُجتنا *** يوم يأتي الناسُ بالحُجج

وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏112- 113‏]‏

‏{‏وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ‏(‏112‏)‏ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ‏(‏113‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏قرية‏}‏‏:‏ بدل من‏:‏ ‏{‏مثلاً‏}‏‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وضرب اللهُ مثلاً‏}‏، ثم فسره بقوله‏:‏ ‏{‏قريةً‏}‏‏:‏ مكة، وقيل‏:‏ غيرها‏.‏ ‏{‏كانت آمنة‏}‏ من الغارات، لا تُهَاجُ، ‏{‏مطمئنة‏}‏ لا تحتاج إلى الانتقال عند الضيق أو الخوف، ‏{‏يأتيها رزقها‏}‏‏:‏ أقواتها ‏{‏رغدًا‏}‏‏:‏ واسعًا ‏{‏من كل مكان‏}‏ من نواحيها، ‏{‏فكفرتُ بأنعُم الله‏}‏؛ بطرت بها، أو بنبي الله، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ‏{‏فأذاقها اللهُ لباسَ الجوع والخوف‏}‏، استعار الذوق لإدراك أثر الضرر، واللباس لِمَا غشيهم واشتمل عليهم من الجوع والخوف، أما الإذاقة فقد كثر استعمالها في البلايا حتى صارت كالحقيقة، وأما اللباس فقد يستعيرونه لما يشتمل على الشيء ويستره؛ يقول الشاعر‏:‏

غَمْرُ الرِّدَاءِ إِذَا تَبَسَّمَ ضَاحِكًا *** غَلِقَتْ لِضحكَتِهِ رِقَابُ المَالِ

فقد استعار الرداء للمعروف، فإنه يصون عِرْضَ صاحبه صون الرداء؛ لما يلقى عليه، والمعنى‏:‏ أنهم لما كفروا النعم أنزل الله بهم النقم، فأحاط بهم الخوف والجوع إحاطة الثوب بمن يستتر به، فإن كانت مكة، فالخوف من سرايا النبي صلى الله عليه وسلم وغاراته عليهم، وإن كان غيرها، فمن كل عدو، وذلك بسبب ما كانوا يصنعون من الكفر والتكذيب‏.‏

‏{‏ولقد جاءهم رسولٌ منهم‏}‏، يعني‏:‏ محمدًا صلى الله عليه وسلم، والضمير لأهل مكة‏.‏ عاد إلى ذكرهم بعد ذكر مثَلِهم‏.‏ ‏{‏فكذَّبوه فأخذهم العذاب‏}‏‏:‏ الجوع والقحط، ووقعة بدر، ‏{‏وهم ظالمون‏}‏؛ ملتبسون بالظلم، غير تائبين منه‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ ضرب الله مثلاً؛ قلبًا كان آمنًا مطمئنًا بالله، تأتيه أرزاق العلوم والمواهب من كل مكان، فكفر نعمة الشيخ، وخرج من يده قبل كماله، فأذاقه الله لباس الفقر بعد الغنى بالله، والخوف من الخلق، وفوات الرزق، بعد اليقين؛ بسبب ما صنع من سوء الأدب وإنكار الواسطة، ولو خرج إلى من هو أعلى منه؛ لأن من بان فضله عليك وجبت خدمته عليك، ومن رزق من باب لزمه‏.‏ وهذا أمر مُجرب عند أهل الذوق بالعيان، وليس الخبر كالعيان، هذا إن كان أهلاً للتربية، مأذونًا له فيها، جامعًا بين الحقيقة والشريعة، وإلا انتقل عنه إلى من هو أهل لها، وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏114- 118‏]‏

‏{‏فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ‏(‏114‏)‏ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏115‏)‏ وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ ‏(‏116‏)‏ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏117‏)‏ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏118‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏الكذب‏}‏‏:‏ مفعول بتقولوا، و‏{‏هذا حلال وهذا حرام‏}‏‏:‏ بدل منه، أي‏:‏ لا تقولوا الكذب، وهو قولكم‏:‏ ‏{‏هذا حلال وهذا حرام‏}‏، و‏{‏ما‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏لما تصف‏}‏؛ ويجوز أن ينتصب الكذب ب ‏{‏تصف‏}‏، ويكون «ما» مصدرية‏.‏ ويكون قوله‏:‏ ‏{‏هذا حلال وهذا حرام‏}‏ معمولاً لتقولوا، أي‏:‏ لا تقولوا‏:‏ هذا كذا وهذا كذا؛ لأجل وصف ألسنتكم الكذب‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏فكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيبًا‏}‏، أمرهم بأكل ما أحل لهم، وشُكر ما أنعم عليهم، بعد ما زجرهم عن الكفر، وهددهم عليه، بما ذكر من التمثيل والعذاب الذي حل بهم؛ صدًا لهم عن صنيع الجاهلية ومذاهبها الفاسدة‏.‏ قاله البيضاوي‏:‏ ‏{‏واشكروا نعمتَ الله‏}‏؛ لتدوم لكم ‏{‏إن كنتم إياه تعبدون‏}‏ فلا تنسبوا نعمه إلى غيره، كشفاعة الأصنام وغيرها‏.‏ ‏{‏إنما حرّم عليكم الميتةَ والدمَ ولحم الخنزيرِ وما أهلّ لغير الله به فمن اضطر غير باغٍ ولا عادٍ فإن الله غفور رحيم‏}‏، تقدم تفسيرها في البقرة والمائدة‏.‏ قال البيضاوي‏:‏ أمرهم بتناول ما أحل لهم، وعدد عليهم محرماته، ليعلم أن ما عداها حل لهم‏.‏ ثم أكد ذلك بالنهي عن التحريم والتحليل بأهوائهم بقوله‏:‏ ‏{‏ولا تقولوا لما تَصفُ ألسنتُكم الكذبَ هذا حلالٌ وهذا حرام‏}‏ لما لم يحله الله ولم يحرمه، كما قالوا‏:‏ ‏{‏مَا فِي بُطُونِ هذه الأنعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أَزْوَاجِنَا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 139‏]‏ الآية‏.‏ ه‏.‏ تقولون ذلك؛ ‏{‏لتفتروا على الله الكذب‏}‏ بنسبة ذلك إليه‏.‏ ‏{‏إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون‏}‏ أبدًا؛ لأنهم تعجلوا فلاح الدنيا بتحصيل أهوائهم، فحُرموا فلاح الآخرة، ولذلك قال‏:‏ ‏{‏متاع قليل‏}‏ أي‏:‏ لهم تمتع في الدنيا قليل، يفنى ويزول‏.‏ ‏{‏ولهم عذاب أليم‏}‏ في الآخرة‏.‏

‏{‏وعلى الذين هادوا حرّمنا ما قصَصنَا عليك من قبل‏}‏ في سورة الأنعام بقوله ‏{‏وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 146‏]‏ الآية، ‏{‏وما ظلمناهم‏}‏ بالتحريم، ‏{‏ولكن كانوا أنفسهم يظلمون‏}‏؛ حيث فعلوا ما عوقبوا به عليه‏.‏ ذكر الحق تعالى ما حرم على المسلمين، وما حرم على اليهود؛ ليعلم أن تحريم ما عدا ذلك افتراء على الله‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ يقول الحق- جلّ جلاله-، لمن بقي على العهد؛ من شكر النعم؛ بالإقرار بفضل الواسطة‏:‏ ‏{‏فكلوا مما رزقكم الله‏}‏ من قوت اليقين وفواكه العلوم، ‏{‏واشكروا نعمة الله‏}‏ إن كنتم تخصونه بالعبادة وإفراد الوجهة‏.‏ إنما حرَّم عليكم ما يشغلكم عنه، كجيفة الدنيا والتهارج عليها، ونجاسة الغفلة، وما يورث القساوة والبلادة، وقلة الغيرة على الحق، وما قبض من غير يد الله، أو ما قصد به غير وجه الله، إلا وقت الضرورة فإنها تبيح المحذور‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏119‏]‏

‏{‏ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏119‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ثم إن ربك للذين عملوا السُّوء‏}‏؛ كالشرك، والافتراء على الله، وغير ذلك، ‏{‏بجهالةٍ‏}‏ أي‏:‏ ملتبسين في حال العمل بجهالة، كالجهل بالله وبعقابه، وعدم التدبر في عواقبه؛ لغلبة الشهوة عليه، ‏{‏ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا‏}‏ عملهم، ‏{‏إن ربك من بعدها‏}‏ أي‏:‏ التوبة، أو الجهالة، ‏{‏لغفور‏}‏ لذلك السوء، ‏{‏رحيمٌ‏}‏ بهم؛ يثيبهم على الإنابة‏.‏

الإشارة‏:‏ كل من أساء الأدب، ثم تاب وأناب، التحق بالأحباب‏.‏ قال بعضهم‏:‏ «كل سوء أدب يثمر أدبًا فهو أدب»‏.‏ والتوبة تتبع المقامات؛ فتوبة العوام‏:‏ من الهفوات، وتوبة الخواص‏:‏ من الغفلات، وتوبة خواص الخواص‏:‏ من الفترات عن شهود الحضرات‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏120- 123‏]‏

‏{‏إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏120‏)‏ شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏121‏)‏ وَآَتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏122‏)‏ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏123‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إِنَّ إِبراهيم كان أُمةً‏}‏ أي‏:‏ إمامًا قدوة؛ قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 124‏]‏، قال ابن مسعود‏:‏ «الأُمة‏:‏ معلّم الناس الخيرَ»، أو أمة وحده، اجتمع فيه ما افترق في غيره، فكان وحده أمة من الأمم؛ لكماله واستجماعه لخصال الكمال التي لا تكاد تجتمع إلا في أشخاص كثيرة، كقول الشاعر‏:‏

ولَيْسَ عَلَى الله بمُسْتَنْكَرٍ *** أنْ يَجْمَعَ العَالَمَ فِي وَاحِد

وهو رئيس الموحدين، وقدوة المحققين، جادل فرق المشركين، وأبطل مذاهبهم الزائفة بالحجج الدامغة‏.‏ ولذلك عقَّب ذكره بتزييف مذاهب المشركين‏.‏ أو‏:‏ لأنه كان وحده مؤمنًا وسائر الناس كفارًا‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏ وكان ‏{‏قانتًا لله‏}‏؛ مطيعًا قائمًا بأوامره، ‏{‏حنيفًا‏}‏؛ مائلاً عن الباطل، ‏{‏ولم يَكُ من المشركين‏}‏، وأنتم يا معشر قريش تزعمون أنكم على دينه، وأنتم مشركون‏.‏

وكان ‏{‏شاكرًا لأنعُمِه‏}‏، لا يخل بشكر قليل منها ولا كثير‏.‏ ولذلك ذكرها بلفظ جمع القلة، ‏{‏اجتباه‏}‏‏:‏ اختاره للنبوة والرسالة والخلة‏.‏ ‏{‏وهداه إلى صراط مستقيم‏}‏؛ التي توصل إلى حضرة النعيم، ودعا إليها، ‏{‏وآتيناه في الدنيا حسنة‏}‏؛ بأن حببناه إلى كافة الخلق، ورزقناه الثناء الحسن في الملل كلها، حتى إِنَّ أرباب الملك والجبابرة يتولونه ويثنون عليه‏.‏ ورزقناه أولادًا طيبة، وعمرًا طويلاً في الطاعة والمعرفة، ومالاً حلالاً‏.‏ ‏{‏وإنه في الآخرة لمن الصالحين‏}‏ لحضرتنا، المقربين عندنا، الذين لهم الدرجات العلا؛ كما سأله ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏وَأَلْحِقْنِي بالصالحين‏}‏ ‏[‏الشُّعَرَاء‏:‏ 83‏]‏‏.‏

‏{‏ثم أوحينا إليك‏}‏ يا محمد ‏{‏أن اتبعْ ملةَ إِبراهيم‏}‏؛ دينه ومنهاجه في التوحيد، والدعوة إليه بالرفق، والمجادلة بالتي هي أحسن، كل واحد بحسب فهمه‏.‏ وكان ‏{‏حنيفًا‏}‏؛ مائلاً عما سوى الله، ‏{‏وما كان من المشركين‏}‏، بل كان قدوة الموحدين‏.‏ كرره؛ ردًا على اليهود والنصارى والمشركين في زعمهم أنهم على دينه مع إشراكهم‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ كل من تمسك بطاعة الله ظاهرًا، أو مال عما سوى الله باطنًا، وشكر الله دائمًا، ودعا الناس إلى هذا الأمر العظيم‏:‏ كان وليًا إبراهيميًا، محمديًا، خليلاً حبيبًا، مقربًا، قد اجتباه الحق تعالى إلى حضرته، وهداه إلى صراط مستقيم، وعاش في الدنيا سعيدًا، ومات شهيدًا، وألحق بالصالحين‏.‏ جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏124‏]‏

‏{‏إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏124‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إِنما جُعِل السبتُ‏}‏ أي‏:‏ فُرض تعظيمه وإفراده للعبادة، ‏{‏على الذين اختلفوا فيه‏}‏ على نبيهم، وهم‏:‏ اليهود؛ أمرهم موسى عليه السلام أن يتفرغوا للعبادة يوم الجمعة، فأبوا وقالوا‏:‏ نريد يوم السبت؛ لأنه تعالى فرغ فيه من خلق السماوات والأرض، فألزمهم الله السبت، وشدَّد عليهم فيه‏.‏ وقيل‏:‏ لما أمرهم بيوم الجمعة، قَبِلَ بعضهم، وأبى أكثرهم، فاختلفوا فيه‏.‏ وقيل‏:‏ اختلافهم‏:‏ هو أن منهم من حرَّم الصيد فيه، ومنهم من أحله، فعاقبهم الله بالمسخ‏.‏ والتقدير على هذا‏:‏ إنما جعل وبال السبت- وهو المسخ-، ‏{‏على الذين اختلفوا‏}‏؛ فأحلوا فيه الصيد تارة، وحرموه أخرى، أو أحله بعضهم، وحرمه بعضهم، وذكرهم هنا؛ تهديدًا للمشركين، كذكر القرية التي كفرت بأنعم الله، ‏{‏وإِن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون‏}‏؛ فيجازي كل فريق بما يستحقه، فيثيب المطيع، ويعاقب العاصي‏.‏

الإشارة‏:‏ الاختلاف على الأكابر؛ كالشيوخ والعلماء، والتقدم بين أيديهم بالرأي والكلام، من أقبح المساوئ، وسوء الأدب يوجب لصاحبه العطب؛ كالقطع عن الله، والبعد من ساحة حضرته‏.‏ قال بعضهم‏:‏ إذا جالست الكبراء؛ فدع ما تعلم لما لا تعلم؛ لتفوز بالسر المكنون‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏125‏]‏

‏{‏ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ‏(‏125‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ادْعُ‏}‏ يا محمد الناسَ ‏{‏إلى سبيل ربك‏}‏؛ إلى طريقه الموصل إليه، وهو‏:‏ الإسلام والإيمان، والإحسان؛ لمن قدر عليه، ‏{‏بالحكمة‏}‏؛ بسياسة النبوة، أو بالمقالة المحكمة، وهو الدليل الموضح للحق المزيح للشبهة، ‏{‏والموعظة الحسنة‏}‏؛ مواعظ القرآن ورقائقه، أو الخطابات المقنعة والعبر النافعة، ‏{‏وجادلهم‏}‏ أي‏:‏ جادل معاندتهم ‏{‏بالتي هي أحسن‏}‏؛ بالطرق التي هي أحسن طرق المجادلة؛ من الرفق واللين، وإيثار الوجه الأيسر، والمقدمات التي هي أشهر؛ فإن ذلك أنفع في تليين لهبهم، وتبيين شغبهم، فالأولى‏:‏ لدعوة خواص الأمة الطالبين للحق‏.‏ والثانية‏:‏ لدعوة عوامهم، والثالثة‏:‏ لدعوة معاندهم‏.‏

قال ابن جزي‏:‏ الحكمة هي‏:‏ الكلام الذي يظهر جوابه، والموعظة‏:‏ هي‏:‏ الترغيب والترهيب‏.‏ والجدال هو‏:‏ الرد على الخصم‏.‏ وهذه الأشياء الثلاثة يسميها أهل العلوم العقلية بالبرهان والخطابة والجدل، وهذه الآية تقتضي مهادنة نُسخت بالسيف‏.‏ وقيل‏:‏ إن الدعاء بهذه الطريقة، من التلطف والرفق، غير منسوخ، وإنما السيف لمن لا تنفعه هذه الموعظة من الكفار، وأما العصاة فهي في حقهم مُحكمة إلى يوم القيامة باتفاق‏.‏ ه‏.‏

‏{‏إِنَّ ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين‏}‏ أي‏:‏ إنما عليك البلاغ والدعوة‏.‏ وأما حصول الهداية والضلال والمجازاة عليهما فليس من شأنك، بل الله أعلم بالضالين والمهتدين، وهو المجازي للجميع‏.‏

الإشارة‏:‏ الدعاء بالحكمة هو الدعاء بالهمة والحال، يكون من أهل الحق والتحقيق؛ لأهل الصدق والتصديق‏.‏ والدعاء بالموعظة الحسنة هو الدعاء بالمقال من طريق الترغيب والتشويق، يكون لأهل التردد في سلوك الطريق‏.‏ والدعاء بالمجادلة الحسنة هو الدعاء بالوعظ والتذكير‏.‏ وذِكْرُ بيانِ الطريق، وفضيلة علم التحقيق، يكون لأهل الإنكار؛ إن وصلوا إلى أهل التحقيق‏.‏ والحاصل‏:‏ أن الدعاء بالحكمة؛ لأهل المحبة والتصديق‏.‏ والدعاء بالموعظة‏:‏ لأهل التردد في الطريق‏.‏ والدعاء بالمجادلة‏:‏ لأهل الإنكار؛ حتى يعرفوا الحق من الباطل‏.‏ وإن شئت قلت‏:‏ الدعاء بالحكمة هو للعارفين الكبار، والدعاء بالموعظة الحسنة هو لأهل الوعظ والتذكار من الصالحين الأبرار، والدعاء بالمجادلة الحسنة هو للعلماء الأخيار‏.‏ وقد تجتمع في واحد؛ إن جمع بين الظاهر والباطن‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

ولما أمره بالدعوة العامة أمره بالصبر العام؛ لأن الدعوة لا تنفك عن الأذى، فيحتاج صاحبها إلى صبر كبير‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏126- 128‏]‏

‏{‏وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ‏(‏126‏)‏ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ‏(‏127‏)‏ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ‏(‏128‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وإِنْ عاقبتم‏}‏ من آذَاكُمْ ‏{‏فعَاقِبوا بمثل ما عُوقبتم به‏}‏ أي‏:‏ إن صنع بكم صنيع سوء فافعلوا مثله، ولا تزيدوا عليه‏.‏ والعقوبة، في الحقيقة، إنما هي في الثانية‏.‏ وسميت الأولى عقوبة؛ لمشاكلة اللفظ‏.‏ وقال الجمهور‏:‏ إن الآية نزلت في شأن حمزة بن عبد المطلب، لما بَقَر المشركون بطنه يوم أحد، قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لئن أظْفَرَنِي اللهُ بِهمْ لأُمَثِّلَنَّ بسِبْعِينَ منهم» فنزلت الآية، فكفّر النبيّ صلى الله عليه وسلم عن يمينه، وترك ما أراد من المُثْلَةِ‏.‏ ولا خلاف أن المثلة حرام، وقد وردت أحاديث بذلك‏.‏ ومقتضى هذا‏:‏ أن الآية مدنية‏.‏ ويحتمل أن تكون الآية عامة، ويكون ذكرهم حمزة على وجه المثال‏.‏ وتكون، على هذا، مكية كسائر السورة‏.‏

واختلف العلماء فيمن ظلمه رجل في مال، ثم ائتمن عليه، هل يجوز خيانته، في القدر الذي ظلمه فيه‏؟‏ فأجاز ذلك قوم؛ لظاهر الآية، ومنعه مالك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أَدِّ الأَمَانَةَ لِمَنْ ائْتَمَنَك، ولا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ» قاله ابن جزي‏.‏

‏{‏ولئن صبرتم‏}‏، ولم تعاقبوا من أساء إليكم، ‏{‏لهو‏}‏ أي‏:‏ الصبر ‏{‏خيرٌ للصابرين‏}‏؛ فإن العقوبة مباحة، والصبر أفضل من الانتقام، ويحتمل أن يريد بالصابرين هنا العموم، أو يريد المخاطبين، كأنه قال‏:‏ فهو خير لكم‏.‏

ثم صرح بالأمر لرسوله به؛ لأنه أولى الناس به؛ لزيادة علمه بالله، فقال‏:‏ ‏{‏واصبر وما صبرك إِلا بالله‏}‏؛ إلا بتوفيقه وتثبيته‏.‏ رُوي أنه صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه‏:‏ «أما أنا فأصبر كما أمرت، فماذا تصنعون‏؟‏» قالوا‏:‏ نصبر كما ندبنا‏.‏ ‏{‏ولا تحزنْ عليهم‏}‏؛ على الكافرين؛ حيث لم يؤمنوا؛ حِرْصًا عليهم‏.‏ أو على المؤمنين؛ لأجل ما فعل بهم‏.‏ ‏{‏ولا تَكُ في ضيق مما يمكرون‏}‏ أي‏:‏ لا يضيق صدرك بمكرهم، ولا تهتم بشأنم، فأنا ناصرك عليهم‏.‏ والضيق- بفتح الضاد مُخَفَّفًا- من ضَيِّقٍ؛ كَمَيْتِ ومَيِّتٍ‏.‏ وقرئ بالكسر، وهو مصدر‏.‏ ويجوز أن يكون الضيق والضيق مصدريْن، معًا، لِضاق‏.‏

‏{‏إِنَّ الله مع الذين اتقوا‏}‏ الكفر والمعاصي، ‏{‏والذين هم محسنون‏}‏ في أعمالهم، فهو معهم بالولاية والنصر والرعاية والحفظ‏.‏ أو مع الذين اتقوا الله بتعظيم أمره‏.‏ والذين هم محسنون بالشفقة على خلقه‏.‏ أو مع الذين اتقوا ما يقطعهم عن الله، والذين هم محسنون بشهود الله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه» فهو معهم بالمحبة والوداد؛ «فإذا أحببته كنت له»‏.‏ والله تعلى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ من شأن الصوفية‏:‏ الأخذ بالعزائم، والتمسك بالأحسن في كل شيء، متمثلين لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين يَسْتَمِعُونَ القول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ‏}‏ ‏[‏الزُّمَر‏:‏ 18‏]‏‏.‏ ولذلك قالوا‏:‏ الصوفي‏:‏ دمه هدر، وماله مباح؛ لأنه لا ينتصر لنفسه، بل يدفع بالتي هي أحسن السيئة‏.‏

فالصبر دأبهم، والرضى والتسليم خُلقهم‏.‏

وحقيقة الصبر هي‏:‏ حبس القلب على حكم الرب، من غير جزع ولا شكوى‏.‏ ومواطنه أربعة‏:‏ الطاعة، والمعصية، والنعمة، والبلية‏.‏ فالصبر على الطاعة‏:‏ بالمبادرة إليها، وعن المعصية‏:‏ بتركها، وعلى النعمة‏:‏ بشكرها، وأداء حق الله فيها، وعلى البلية‏:‏ بالرضى وعدم الشكوى بها‏.‏

وأقسام الصبر ستة‏:‏ صبر في الله، وصبر لله، وصبر مع الله، وصبر بالله، وصبر على الله، وصبر عن الله‏.‏ أما الصبر في الله‏:‏ فَهُوَ الصبر في طلب الوصول إلى الله، بارتكاب مشاق المجاهدات والرياضات‏.‏ وهو صبر الطالبين والسائرين‏.‏ وأما الصبر لله‏:‏ فهو الصبر على مشاق الطاعات وترك المنهيات ونزول البليات، يكون ذلك ابتغاء مرضاة الله، لا لطلب أجر ولا نيل حظ‏.‏ وهو صبر المخلصين‏.‏ وأما الصبر مع الله‏:‏ فهو الصبر على حضور القلب مع الله، على سبيل الدوام؛ مراقبة أو مشاهدة‏.‏ فالأول‏:‏ صبر المحبين، والثاني‏:‏ صبر المحبوبين‏.‏

وأما الصبر بالله‏:‏ فهو الصبر على ما ينزل به من المقادير، لكنه بالله لا بنفسه، وهو صبر أهل الفناء من العارفين المجذوبين السالكين‏.‏ وأما الصبر على الله‏:‏ فهو الصبر على كتمان أسرار الربوبية عن غير أهلها، أو الصبر على دوام شهود الله‏.‏ وأما الصبر عن الله‏:‏ فهو الصبر على الوقوف بالباب عند جفاء الأحباب، فإذا كان العبد في مقام القرب واجدًا لحلاوة الأنس، مشاهدًا لأسرار المعاني، ثم فقد ذلك من قلبه، وأحس بالبعد والطرد- والعياذ بالله- فليصبر، وليلزم الباب حتى يَمن الكريم الوهاب، ولا يتزلزل، ولا يتضعضع، ولا يبرح عن مكانه، مبتهلاً، داعيًا إلى الله، راجيًا كرم مولاه، فإذا استعمل هذا فقد استعمل الصبر؛ قيامًا بأدب العبودية‏.‏ وهو أشد الصبر وأصعبه، لا يطيقه إلا العارفون المتمكنون، الذين كملت عبوديتهم، فكانوا عبيدًا لله في جميع الحالات، قَرَّبهم أو أبعدهم‏.‏

رُوِيَ أن رجلاً دخل على الشبلي رضي الله عنه، فقال‏:‏ أي صبر أشد على الصابر‏؟‏ فقال له الشبلي‏:‏ الصبر في الله، قال‏:‏ لا، قال‏:‏ الصبر لله، قال‏:‏ لا، قال‏:‏ الصبر مع الله، قال‏:‏ لا، فقال له‏:‏ وأي شيء هو‏؟‏ فقال‏:‏ الصبر عن الله‏.‏ فصاح الشبلي صيحة عظيمة، كادت تتلف فيها روحه‏.‏ ه‏.‏ لأن الحبيب لا يصبر عن حبيبه‏.‏ لكن إذا جفا الحبيب لا يمكن إلا الصبر والوقوف بالباب، كما قال الشاعر‏:‏

إنْ شَكَوْتَ الهَوَى فما أنت مِنَّا *** أحْمِلِ الصَّدَ والجفا يا مُعَنَّا

وقال رجل لأبي محمد الحريري رضي الله عنه‏:‏ كنت على بساط الأنس، وفتح على طريق البسط، فزللت زلة، فحجبت عن مقامي، فكيف السبيل إليه‏؟‏ دلني على الوصول إلى ما كنت عليه‏.‏ فبكى أبو محمد وقال‏:‏ يا أخي، الكل في قهر هذه الخطة، لكني أنشدك أبياتًا لبعضهم، فأنشأ يقول‏:‏

قف بالديار فهذه آثارهم *** تبكي الأحبة حسرة وتشوقا

كم قد وقفتُ بربعها مستخبرا *** عن أهله أو سائلاً أو مشفقا

فأجابني داعي الهوى في رسمها *** فارقْتَ من تهوى فعز الملتقى

ومن هذا المعنى قضية الرجل الذي بقي في الحرم أربعين سنة يقول‏:‏ لبيك‏.‏ فيقول له الهاتف‏:‏ لا لبيك ولا سعديك، وحجك مردود عليك‏.‏ فقيل له في ذلك، فقال‏:‏ هذه بابه، وهل ثَمَّ باب أخرى أقصده منها‏؟‏ فقبله الحق تعالى، ولبى دعوته‏.‏ وكذلك قضية الرجل الذي قيل له، من قِبَلِ الوحي‏:‏ إنك من أهل النار؛ فزاد في العبادة والاجتهاد‏.‏ فهذا كله يصدق عليه الصبر عن الله‏.‏ لكن لا يفهم كماله إلا من كملت معرفته، وتحقق بمقام الفناء، فحينئذ قد يسهل عليه أمره؛ لكمال عبوديته، كما قال القائل‏:‏

وَكُنْتُ قَدِيمًا أَطْلُبُ الوَصْلَ مِنْهُمُ *** فلَمَّا أَتَانِي العِلْمُ وارْتَفَع الجَهْلُ

تيقنت أَنَّ العَبْدَ لا طَلَبٌ لَهُ *** فَإِنْ قَرُبُوا فَضْلٌ وإِنْ بَعُدُوا عَدْلُ

وإنْ أَظْهَرُوا لَمْ يُظْهِرُوا غَيْرَ وَصْفِهِمْ *** وإِنْ سَتَرُوا فالستْرُ مِنْ أَجْلِهِمْ يَحْلُو

وأما من لم تكمل معرفته، فقد ينكره ويذمه، كالعباد والزهاد والعشاق، فإنهم لا يطيقونه، فإما أن يختل عقلهم، أو يرجعون إلى الانهماك في البطالة‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏ وصلى الله عليه سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم‏.‏

سورة الإسراء

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ‏(‏1‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏سبحان‏}‏‏:‏ مصدر غير متصرف، منصوب بفعل واجب الحذف، أي أسبحُ سبحان‏.‏ وهو بمعنى التسبيح، أي‏:‏ التنزيه، وقد يستعمل عَلَمًا له، فيقطع عن الإضافة ويمنع الصرف، كقول الشاعر‏:‏

قَدْ أَقُولُ لَمَّا جَاءَني فَخْرُهُ *** سُبْحَانَ مِنْ عَلْقَمَةَ الفَاخِرِ

و ‏{‏ليلاً‏}‏‏:‏ منصوب على الظرفية لأسرى‏.‏ وفائدة ذكره، مع أن السرى هو السير بالليل، ليفيد التقليل، ولذلك نكّره، كأنه قال‏:‏ أسرى بعبده مسيرة أربعين ليلة في بعض الليل، وذلك ابلغ في المعجزة‏.‏ ويقال‏:‏ أسرى وسرى، رباعيًا وثلاثيًا‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏سبحان الذي أسرى بعبده‏}‏ وهو‏:‏ نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أي‏:‏ تنزيهًا له عن الأماكن والحدود والجهات، إذ هو أقرب من كل شيء إلى كل شيء‏.‏ وإنما وقع الإسراء برسوله- عليه الصلاة والسلام- ليقتبس أهلُ العالم العلوي، كما اقتبس منه أهل العالم السفلي، فأسرى به ‏{‏ليلاً من المسجد الحرام‏}‏ بعينه؛ لِمَا رُوي أنه- عليه الصلاة والسلام- قال‏:‏ «بَينَما أَنَا في المسْجِدِ الحَرَامِ في الحِجْر، عِنْدَ البَيْتِ، بَيْنَ النَّائِم واليقْظَانِ، إذْ أَتَانِي جِبْرِيلُ بالبُراقِ»‏.‏

أو‏:‏ من الحرم؛ لِمَا رُوي أنه كان نائمًا في بيت أم هانئ بعد صلاة العشاء، فأُسْرِيَ به، وسماه مسجدًا؛ لأن الحرم كله مسجد‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏ قلت‏:‏ والظاهر أنه وقع مرتين‏:‏ مرة بجسده من البيت، ومرة بروحه من بيت أم هانئ‏.‏ والله تعالى أعلم بما كان‏.‏

قال في المستخْرج من تفسير الغزنوني وغيره‏:‏ قيل‏:‏ كان رؤيا صادقة، وقيل‏:‏ أسرى بروحه، وهو خلاف القرآن، وإن أسند إلى عائشة- رضي الله عنها-، والجمهور على ما رواه عامة الصحابة، دخل كلام بعضهم في بعض، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «أتاني جبريل عليه السلام، وإذا دابة فوق الحمار ودون البغل، خطوها مد بصرها، فمرّ بي بين السماء والأرض إلى بيت المقدس، فَنُشِرَ لي رَهْطٌ من الأنبياء، فصليت بهم‏.‏ وإذا أنا بالمعراج، وهو أحسن ما رأيت، فعرج بي، فرأيت في سماء الدنيا رجلاً أعظم الناس وجهًا وهيكلاً، فقيل‏:‏ هذا أبوك آدم، وفي السماء الثانية شابيْن، فقيل‏:‏ هما يحيى وعيسى، وفي الثالثة رجلاً أفضل الناس حُسنًا، فقيل‏:‏ أخوك يوسف، وفي الرابعة إدريس، وفي الخامسة هارون، وفي السادسة موسى، وفي السابعة إبراهيم- صلوات الله على جميعهم-‏.‏ فانتهيتُ إلى سِدرة المنتهى، فَغَشِيَتْهَا ملائكةٌ، كأنهم جراد من ذهب، فرأيتُ جبريل عليه السلام يتضاءل كأنه صَعْوة- أي‏:‏ عصفور- فتخلف، وقال‏:‏ وما منا إلا له مقام معلوم، فجاوزت سبعين حجابًا، ثم احتملني الرفرف إلى العرش، فنُوديتُ‏:‏ حَيِّ ربك‏.‏ فقلت‏:‏ لا اُحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك»‏.‏

فلما أخبر بما رأى كذَّبه أهل مكة، ولو كان في النوم ما أنكره المشركون‏.‏ وقيل‏:‏ كانا معراجين، بمكة والمدينة، في النوم واليقظة‏.‏ ه‏.‏

قلت‏:‏ وقوع المعراج بالمدينة غريب‏.‏ قال المهدوي‏:‏ مرْتَبة الإسراء بالجسم إلى تلك الحضرات العَلِية خاصة بنبينا، لم يكن لغيره من الأنبياء‏.‏ وعدَّه السيوطي من الخصائص‏.‏ قال ابن جزي‏:‏ وحجة الجمهور‏:‏ أنه لو كان منامًا، لم تُنكره قريش، ولم يكن في ذلك ما يُكَذَّبُ، ألا ترى أن أُم هانئ قالت له- عليه الصلاة والسلام-‏:‏ ‏(‏لا تُخبر بذلك أحدًا‏)‏‏.‏ وحجة من قال إنه كان منامًا‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلْنَا الرؤيا التي أَرَيْنَاكَ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 60‏]‏، وإنما يقال‏:‏ الرؤيا، في المنام، ويقال، فيما يرى بالعين‏:‏ رؤية، وقوله، في آخر حديث الإسراء‏:‏ «فاستيقظتُ وأنا في المسجد الحرام»، ثم قال‏:‏ وقد يجمع بينهما بأنه وقع مرتين‏.‏ ه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلى المسجد الأقصى‏}‏ هو‏:‏ بيت المقدس؛ لأنه لم يكن حينئذ وراءه مسجد، ‏{‏الذي باركنا حوله‏}‏ ببركات الدين والدنيا؛ لأنه مهبط الوحي ومتعبد الأنبياء، ومحفوف بالأنهار والأشجار والثمار‏.‏ أسرينا به؛ ‏{‏لِنُريه من آياتنا‏}‏ الدالة على عجائب قدرتنا، ونكشفَ له عن أسرار ذاتنا، فأَطْلعه الله على عجائب الملكوت، وأراه سَنَا الجبروت‏.‏ رَوَى عكرمةُ عن ابن عباس‏:‏ أنه قال‏:‏ قد رأى محمدٌ ربه، قلت‏:‏ أليس الله يقول‏:‏ ‏{‏لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار‏}‏ ‏[‏الأنعَام‏:‏ 103‏]‏، قال‏:‏ ويحك، ذلك إذا تجلى بنوره الذي هو نوره، وقد رأى ربه مرتين‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ معنى كلامه‏:‏ أنه إذا تجلى بنوره الأصلي، من غير واسطة، لا يمكن إدراكه، وأما إذا تجلى بواسطة المظهر فإنه يُمكن إدراكه، والحاصل‏:‏ أن الحق تعالى إنما يتجلى على قدر الرائي، لا على قدره؛ إذ لا يطيقه أحد‏.‏ وسيأتي، في الإشارة، بقية الكلام عليه، إن شاء الله‏.‏ ‏{‏إِنه هو السميعُ البصير‏}‏ أي‏:‏ السميع لأقوال حبيبه في حال مناجاته، البصيرُ بأحواله، فيكرمه ويُقربه على حسب ذلك‏.‏

الإشارة‏:‏ قال بعض الصوفية‏:‏ إنما قال تعالى‏:‏ ‏{‏بعبده‏}‏، ولم يقل‏:‏ بنبيه‏:‏ ولا برسوله؛ ليدل على أن كل من كملت عبوديته كان له نصيب من الإسراء‏.‏ غير أن الإسراء بالجسد مخصوص به- عليه الصلاة والسلام-، وأما الإسراء بالروح فيقع للأولياء؛ على قدر تصفية الروح، وغيبتها عن هذا العالم الحسي، فتعرج أفكارهم وأرواحهم إلى ما وراء العرش، وتخوض في بحار الجبروت، وأنوار الملكوت، كلٌّ على قدر تخليته وتحليته‏.‏ وإنما خص الإسراء بالليل؛ لكونه محل فراغ المناجاة والمواصلات، ولذلك رتب بعثه مقامًا محمودًا على التهجد بالليل في هذه السورة‏.‏ قاله المحشي‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏سبحان الذي أسرى‏}‏، قال الورتجبي‏:‏ أي‏:‏ تنزه عن إشارة الجهات والأماكن في الفوقية، وما يتوهم الخلق؛ من أنه إذ أوْصل عبده إلى وراء الوراء، أنه كان في مكان، أي‏:‏ لا تتوهموا برفع عبده إلى ملكوت السماوات، أنه رفع إلى مكان، أو هو في مكان، فإن الأكوان والمكان أقل من خردلة في وادي قدرته، أي‏:‏ في بحر عظمته؛ ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏

«الكون في يمين الرحمن أقل من خردلة» والعندية والفوقية منه، ونزّه نفسه عن أوهام المشبّهات، حيث توهموا أنه أسرى به إلى المكان، أي‏:‏ سبحان من تنزه عن هذه التهمة‏.‏ ه‏.‏ وقال القشيري‏:‏ أرسله الحق تعالى؛ ليتعلم أهلُ الأرض منه العبادة، ثم رَقَّاه إلى السماء ليتعلّمَ منه الملائكةُ- عليهم السلام- آدابَ العبادة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏مَا زَاغَ البصر وَمَا طغى‏}‏ ‏[‏النّجْم‏:‏ 17‏]‏، وما التَفَتَ يمينًا ولا شمالاً، ما طمع في مقام، ولا في إكرام، تحرر عن كلِّ طلبٍ وأرَبٍ، تلك الليلة‏.‏ ه‏.‏

قلت‏:‏ ولذلك أكرمه الله تعالى بالرؤية، التي مُنِعَ منها نبيه موسى عليه السلام، حيث وقع منه الطلب «ربما دلهم الأدب على ترك الطلب»، وقال الورتجبي‏:‏ أسرى به عن رؤية فعله وآياته، إلى رؤية صفاته، ومن رؤية صفاته إلى رؤية ذاته، وأشهده مَشاهد جماله، فرأى الحق بالحق، وصار هنالك موصوفًا بوصف الحق، فكان صورتُه روحَه، وروحُه عقلَه، وعقلُه قلبَه، وقلبُه سره، فرأى الحق بجميع وجوده؛ لأن وجوده فانٍ بجميعه، فصار عينًا من عيون الحق، فرأى الحق بجميع العيون، وسمع خطابه بجميع الأسماع، وعرف الحق بجميع القلوب‏.‏ ه‏.‏

وقال، في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلى المسجد الأقصى‏}‏‏:‏ سبب بداية المعراج بالذهاب إلى المسجد الأقصى، لأن هناك الآية الكبرى؛ من بركة أنوار تجليه لأرواح الأنبياء وأشباحهم، وهناك بقربه طور سيناء، وطور زيتا، والمصيصة، ومقام إبراهيم وموسى وعيسى، وفي تلك الجبال مواضع كشوف الحق، ولذلك قال‏:‏ ‏{‏باركنا حوله‏}‏، انظر تمامه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏2- 3‏]‏

‏{‏وَآَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا ‏(‏2‏)‏ ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ‏(‏3‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏ذرية‏}‏‏:‏ منادى، أي‏:‏ يا ذرية من حملنا مع نوح، والمراد‏:‏ بني إسرائيل‏.‏ وفي ندائهم بذلك‏:‏ تلطف وتذكير بالنعم، وقيل‏:‏ مفعول أول بتتخذوا، أي‏:‏ لا تتخذوا ذرية من حملنا مع نوح من دوني وكيلاً، فتكون كقوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الملائكة والنبيين أَرْبَاباً‏}‏ ‏[‏آل عِمرَان‏:‏ 80‏]‏‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وآتينا موسى الكتابَ‏}‏ التوراة ‏{‏وجعلناه‏}‏ أي‏:‏ التوراة ‏{‏هُدًى لبني إِسرائيل‏}‏، وقلنا‏:‏ ‏{‏ألاّ تتخذوا من دوني وكيلاً‏}‏ تُفوضون إليه أموركم، وتُطيعونه فيما يأمركم‏.‏ بل فوضوا أموركم إلى الله، واقصدوا بطاعتكم وجه الله، يا ‏{‏ذريةَ مَنْ حملنا مع نوح‏}‏، فاذكروا نعمة الإنجاء من الغرق، وحملَ أسلافكم في سفينة نوح، ‏{‏إِنه كان عبدًا شكورًا‏}‏؛ يحمد الله ويشكره في جميع حالاته‏.‏ وفيه إيماء بأن إنجاءه ومن معه كان ببركة شكره، وَحَثٌّ للذرية على الاقتداء به‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ المقصود من إرسال الرسل وإنزال الكتب هو، إفراد الوجهة إلى الحق، ورفعُ الهمة عن الخلق، حتى لا يبقى الركون إلا إليه، ولا الاعتماد إلا عليه، وهو مقتضى التوحيد‏.‏ قال تعالى ‏{‏لاَ إله إِلاَّ هُوَ فاتخذه وَكِيلاً‏}‏ ‏[‏المُزمّل‏:‏ 9‏]‏‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 8‏]‏

‏{‏وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا ‏(‏4‏)‏ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا ‏(‏5‏)‏ ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا ‏(‏6‏)‏ إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا ‏(‏7‏)‏ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ‏(‏8‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وقضينا إلى بني إِسرائيل‏}‏ أي‏:‏ أخبرناهم وأوحينا إليهم ‏{‏في الكتاب‏}‏؛ التوراة، وقلنا‏:‏ والله ‏{‏لتُفسدنَّ في الأرض مرتين‏}‏ الخ‏.‏ أو‏:‏ قضينا عليهم ‏{‏في الكتاب‏}‏؛ اللوح المحفوظ، ‏{‏لتُفسدنَّ في الأرض مرتين‏}‏ الخ‏.‏ أو‏:‏ قضينا عليهم ‏{‏في الكتاب‏}‏‏:‏ اللوح المحفوظ، ‏{‏لتُفسدُنَّ في الأرض مرتين‏}‏ أي‏:‏ إفسادتين، أُولاهُمَا‏:‏ مخالفة أحكام التوراة وقتل أشعياء، وقيل‏:‏ أرمياء‏.‏ وثانيتهما‏:‏ قتل زكريا ويحيى، وقَصْدُ قتل عيسى عليه السلام، ‏{‏ولتَعلُنَّ عُلوًّا كبيرًا‏}‏؛ ولتستكبرن عن طاعة الله، أو لتظلمن الناس وتستعلون عليهم علوًا كبيرًا‏.‏

‏{‏فإِذا جاء وعدُ‏}‏؛ عقاب ‏{‏أُولاهما‏}‏ أي‏:‏ أول مرتي الإفساد؛ بأن أفسدوا في الأرض المرة الأولى ‏{‏بعثنا عليكم عبادًا لنا‏}‏؛ بختنصر وجنوده ‏{‏أُولي بأس شديد‏}‏؛ ذوي قوة وبطش في الحرب شديد، ‏{‏فجاسوا‏}‏؛ فترددوا لطلبكم ‏{‏خلال الديار‏}‏؛ وسطه؛ للقتل أو الغارة، فقتلوا كبارهم وسبوا صغارهم، وحرقوا التوراة، وخربوا المسجد‏.‏ وفي التذكرة للقرطبي‏:‏ أنه سلط عليهم في المرة الأولى بخُتنصر، فسباهم، ونقل ذخائر بيت المقدس على سبعين ألف عَجَلَة، وبقوا في يده مائة سنة‏.‏ ثم رحمهم الله تعالى وأنقذهم من يده، على يد ملك من ملوك فارس، ثم عصوا، فسلط عليهم ملك الروم قيصر‏.‏ ه‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وكان وعدًا مفعولاً‏}‏ أي‏:‏ وكان وعد عقابهم وعدًا مقضيًا لا بدّ أن يُفعل‏.‏

‏{‏ثم رددنا لكم الكرّة‏}‏ أي‏:‏ الدولة والغلبة ‏{‏عليهم‏}‏ أي‏:‏ على الذين بُعثوا عليكم، فرجع المُلك إلى بني إسرائيل، واستنقذوا أسراهم، فقيل‏:‏ على يد «بهْمَن بن إسفنديار»؛ ملك فارس، فاستنقذهم، ورد أسراهم إلى الشام، وملَّكَ دَانْيال عليهم، فاستولوا على من كان فيها من أتباع بختنصر، وقيل‏:‏ على يد داود عليه السلام حين قتل جالوت‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثرَ نفيرًا‏}‏ أي‏:‏ عددًا مما كنتم‏.‏ والنفير‏:‏ من ينفر مع الرجل من قومه، وقيل‏:‏ جمع نَفر، وهم‏:‏ المجتمعون للذهاب إلى الغزو‏.‏

ثم قال تعالى لهم‏:‏ ‏{‏إِنْ أحسنتم‏}‏ بفعل الطاعة والعمل الصالح، ‏{‏أَحْسَنْتُمْ لأنفسكم‏}‏؛ لأن ثوابه لها، ‏{‏وإِن أسأتم فلها‏}‏؛ فإنَّ وبالها عليها‏.‏ وذكر باللام للازدواج‏.‏ ‏{‏فإِذا جاء وعدُ الآخرة‏}‏ أي‏:‏ وعد عقوبة المرة الأخيرة، بأن أفسدوا في المرة الآخرة، بعثنا عليكم عبادًا لنا آخرين، أُولي بأس شديد ‏{‏ليَسُؤوا وجوهكم‏}‏، يجعلوها تظهر فيها آثار السوء والشر، كالكآبة والحزن، كقوله‏:‏ ‏{‏سِيئَتْ وُجُوهُ الذين كَفَرُواْ‏}‏ ‏[‏المُلك‏:‏ 27‏]‏ ‏{‏وليدخلوا المسجد‏}‏؛ بيت المقدس ‏{‏كما دخلوه أول مرة وليُتبروا‏}‏؛ وليُهلكوا ‏{‏ما عَلوا‏}‏ عليه ‏{‏تتبيرًا‏}‏؛ إهلاكًا، أو مدة علوهم‏.‏ قال البيضاوي‏:‏ وذلك بأن الله سلَّط عليهم الفرس مرة أخرى، فغزاهم ملكُ بابِل، اسمه «حَرْدُون»، وقيل‏:‏ «حَرْدوس»، قيل‏:‏ دخل صاحب الجيش مَذبح قرابينهم، فوجد دمًا يغلي، فسأل عنه، فقالوا‏:‏ دم قربان لم يُقبل منا‏.‏

فقال‏:‏ ما صدقتموني، فقتل عليه ألوفًا منهم، فلم يهدأَ الدم‏.‏ ثم قال‏:‏ إن لم تصدقوني ما تركت منكم أحدًا، فقالوا‏:‏ دم يحيى، فقال‏:‏ لِمثل هذا ينتقم منكم ربكم، ثم قال‏:‏ يا يحيى، قد علم ربي وربك ما أصاب قومك، فاهدأ بإذن الله، قبل ألاَّ أُبقي منهم أحدًا، فهدأ‏.‏ ه‏.‏

وقال السهيلي في كتاب «التعريف والإعلام»‏:‏ المبعوث في المرة الأولى هم أهل بابل، وكان إذ ذاك عليهم «بختنصر»، حين كذّبوا أرمياء وجرحوه وحبَسوه‏.‏ وأما في المرة الأخيرة‏:‏ فقد اختلف فيمن كان المبعوث عليهم، وأن ذلك كان بسبب قتل يحيى بن زكريا‏.‏ فقيل‏:‏ بختنصر، وهذا لا يصح؛ لأن قتل يحيى كان بعد رفع عيسى، وبختنصر كان قبل عيسى بزمان طويل‏.‏ ه‏.‏ وقول الجلال السيوطي‏:‏ وقد أفسدوا في الأُولى بقتل زكريا، فبعث عليهم جالوت وجنوده، ولا يصح؛ لأنه يقتضي أن داود تأخر عن زكريا، وهو باطل‏.‏

ثم قال تعالى لبني إسرائيل‏:‏ ‏{‏عسى ربُكم أن يرحَمكم‏}‏ بعد المرة الأخرى ويجبر كسركم، ‏{‏وإِن عُدتُم عُدْنَا‏}‏ إلى عقوبتكم، وقد عادوا بتكذيب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وقصد قتله، فعاد إليهم بتسليطه عليهم، فقتل من بني قريظة سبعمائة في يوم واحد، وسبى ذراريهم، وباعهم في الأسواق، وأجلى بني النضير، وضرب الجزية على الباقين‏.‏ هذا في الدنيا، ‏{‏وجعلنا جهنم للكافرين‏}‏ منهم ومن غيرهم ‏{‏حصيرًا‏}‏؛ محبسًا، لا يقدرون على الخروج منها، أبدَ الآباد‏.‏ وقيل‏:‏ بساطًا كبسط الحصير، كقوله‏:‏ ‏{‏لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ‏}‏ ‏[‏الأعرَاف‏:‏ 41‏]‏‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ قد قضى الحقُّ جلّ جلاله ما كان وما يكون في سابق علمه، فما من نفَس تُبديه إلا وله قدر فيك يُمضيه‏.‏ فالواجب على العبد أن يكون ابن وقته، إذا أصبح نظر ما يفعل الله به‏.‏ فأسرار القدر قد استأثر الله بعلمها، وأبهم على عباده أمرَها، فلو ظهرت لبطل سر التكليف‏.‏ ولذلك لما سُئل عنه سيدنا علي- كرم الله وجهه- قال للسائل‏:‏ ‏(‏بحر عميق لا تطيقه‏)‏، فأعاد عليه السؤال، فقال‏:‏ ‏(‏طريق مظلم لا تسلكه‏)‏؛ لأنه لا يفهم سر القضاء والقدر، إلا من دخل مقام الفناء والبقاء، وفرَّق بين القدرة والحكمة، وبين العبودية والربوبية، فإذا تحقق العارف بالوحدة، عِلَمَ أنَّ الحق تعالى أظهر من خلقه مظاهر أَعدهم للإكرام، وأظهر خلقًا أعدهم للانتقام، وأبهم الأمر عليهم، ثم خلق فيهم كسبًا واختيارًا فيما يظهر لهم، وكلفهم؛ لتقوم الحجة عليهم، وتظهر صورة العدل فيهم‏.‏ ‏{‏ولا يظلم ربك أحدًا‏}‏‏.‏ فالقدرة تُبرز ما سبق في الأزل، والحكمة تستر أسرار القدر‏.‏ لكن جعل للسعادة علامات كالتوفيق والهداية للإيمان، وللشقاوة علامات؛ كالخذلان والكفران‏.‏ نعوذ بالله من سوء القضاء وحرمان الرضا‏.‏ آمين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 10‏]‏

‏{‏إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ‏(‏9‏)‏ وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏10‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ «وأنَّ الذين»‏:‏ إما عطف على «أن» الأولى، أو على «ويُبشر» بإضمار يخبر‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إِنَّ هذا القرآن يَهدي للتي‏}‏؛ للطريق التي ‏{‏هي أقومُ‏}‏ الطرق وأعدلها، ‏{‏ويُبشِّرُ المؤمنين الذين يعملون‏}‏ الأعمال ‏{‏الصالحاتِ أنَّ لهم أجرًا كبيرًا‏}‏ وهو‏:‏ الخلود في النعيم المقيم، وزيادة النظر إلى وجهه الكريم‏.‏ ‏{‏و‏}‏ يخبر ‏{‏أنَّ الذين لا يُؤمنون بالآخرة أعتدنا‏}‏ أي‏:‏ أعددنا ‏{‏لهم عذابًا أليمًا‏}‏، أو‏:‏ ويُبشر المؤمنين ببشارتين‏:‏ ثوابهم، وعقاب أعدائهم‏.‏

الإشارة‏:‏ لا شك أن القرآن يهدي إلى طريق الحق؛ إما إلى طريق تُوصل إلى نِعم جنانه، أو إلى طريق تُوصل إلى شهوده ودوام رضوانه، فالأولى طريق الشرائع والأحكام، والثانية طريق الحقائق والإلهام، لكن لا يدرك هذا من القرآن إلا من صفت مرآة قلبه بالمجاهدة والذكر الدائم، ولذلك أمر شيوخُ التربية المريد بالاشتغال بالذكر المجرد، حتى يُشرق قلبه بأنوار المعارف، ويرجع من الفناء إلى البقاء، ثم بعد ذلك يُمر بالتلاوة، ليذوق حلاوة القرآن، ويتمتع بأنواره وأسراره، وقد أنكر بعضُ من لا معرفة له بطريق التربية على الفقراء هذا الأمر- أعني‏:‏ ترك التلاوة في بدايتهم-؛ محتجًا بهذه الآية، ولا دليل فيها عليهم، لأن كون القرآن يهدي للتي هي أقوم يعني‏:‏ التمسك والتدبر في معانيه، دليل فيها عليهم؛ لأن كون القرآن يهدي للتي هي أقوم يعني‏:‏ التمسك والتدبر في معانيه، ولا يصح ذلك على الكمال إلا بعد تصفية القلوب، كما هو مجرب، ولا ينكر هذا إلا من لا ذوق له في علوم القوم، وربما يُذكر وجود التربية من أصلها، ويسد البابَ في وجوه الناس، ولا حول ولا قوة إلا بالله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 14‏]‏

‏{‏وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا ‏(‏11‏)‏ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا ‏(‏12‏)‏ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا ‏(‏13‏)‏ اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ‏(‏14‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏دعاءه‏}‏‏:‏ مفعول مطلق‏.‏ والإضافة في قوله‏:‏ ‏{‏آية الليل‏}‏ و‏{‏آية النهار‏}‏‏:‏ بيانية، أي‏:‏ فمحونا الآية التي هي الليل، وجعلنا الآية التي هي النهار مبصرة‏.‏ وإذا أريد بالآيتين السشمس والقمر؛ تكون للتخصيص، أي‏:‏ وجعلنا نيري الليل والنهار آيتين، أو‏:‏ وجعلنا الليل والنهار ذوي آيتين‏.‏‏.‏‏.‏ الخ، و‏{‏كل شيء‏}‏‏:‏ منصوب بفعل مضمر، يفسره ما بعده، وكذا‏:‏ ‏{‏وكل إنسان‏}‏ و‏{‏يلقاه منشورًا‏}‏‏:‏ صفتان لكتاب‏.‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ويدعُ الإنسانُ‏}‏ على نفسه وولده وماله ‏{‏بالشرِّ‏}‏ عند الغضب والقنط‏.‏ ‏{‏دعاءَهُ بالخير‏}‏؛ مثل دعائه بالخير‏.‏ وهو ذم له يدل على عدم صبره، وربما وافق وقت الإجابة فيهلك، ‏{‏وكان الإِنسانُ عَجُولاً‏}‏؛ يُسارع إلى كل ما يخطر بباله، لا ينظر عاقبته‏.‏ ويجوز أن يريد بالإنسان الكافر، وبالدعاء استعجاله بالعذاب؛ استهزاء، كقول النضر بن الحارث‏:‏ اللهم انصر خير الحزبين؛ ‏{‏اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 32‏]‏ الآية‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالإنسان‏:‏ آدم عليه السلام، فإنه لما انتهى الروح إلى سُرَّته ذهب ليقوم، فسقط، وهو بعيد‏.‏ فإذا نزلت بالإنسان قهرية فلا يقنط ولا يستعجل، فإنَّ وقت الفرج محدود، فالليل والنهار مطيتان، يُقربان كل بعيد، ويبليان كل جديد، ويأتيان بكل موعود‏.‏

ولذا قال تعالى إثره‏:‏ ‏{‏وجعلنا الليلَ والنهارَ آيتين‏}‏ دالتين على كمال قدرتنا، وباهر حكمتنا، يتعاقبان على الإنسان، يُقربان له كل بعيد، ويأتيان له بكل موعود‏.‏ ‏{‏فمحونا آيةَ الليل‏}‏ أي‏:‏ فمحونا الآية التي هي الليل؛ بأن جعلناها مظلمة، لتسكنوا فيه، ‏{‏وجعلنا آية النهار مُبصرةً‏}‏ أي‏:‏ مضيئة مشرقة لتبتغوا؛ من فضله، أو‏:‏ وجعلنا نيري الليل والنهار آيتين، وهما‏:‏ الشمس والقمر، ‏{‏فمحونا آية الليل‏}‏، وهو القمر؛ بأن جعلناه أطلس، لا نور فيه من ذاته، بل نوره مستمد من نور الشمس، ‏{‏وجعلنا آية النهار‏}‏، وهي الشمس ‏{‏مبصرةً‏}‏ للناس، أو مبصرًا فيها بالضوء الذاتي، ‏{‏لتبتغوا فضلاً من ربكم‏}‏؛ لتطلبوا في بياض النهار أسباب معاشكم، ‏{‏ولتعلموا‏}‏؛ باختلافهما وبحركتهما، ‏{‏عددَ السنينَ والحسابَ‏}‏؛ وحساب الأوقات من الأشهر والأيام، في معاملتكم وتصرفاتكم، ‏{‏وكلَّ شيء‏}‏ تفتقرون إليه في أمر الدين والدنيا ‏{‏فصَّلناه تفصيلاً‏}‏؛ بيَّناه تبيينًا لا لبس فيه، أو‏:‏ وكل شيء يظهر في الوجود، فصّلناه وقدّرناه في اللوح المحفوظ تفصيلاً، فلا يظهر في عالم الشهادة إلا ما فُصل في عالم الغيب‏.‏

‏{‏وكل إِنسانٍ ألزمناه طائره‏}‏ أي‏:‏ حظه وما قُدر له من خير وشر، فهو لازم ‏{‏في عُنقه‏}‏؛ لا ينفك عنه‏.‏ ويقال لكل ما لزم الإنسان‏:‏ قد لزم عنقه‏.‏ وإنما قيل للحظ المقدر في الأزل من الخير والشر‏:‏ طائر؛ لقول العرب‏:‏ جرى لفلان الطائر بكذا من الخير والشر، على طريق الفأل والطيرة، فخاطبهم الله بما يستعملون، وأعلمهم أن ذلك الأمر الذي يجعلونه بالطائر هو ملزم لأعناقهم، لا محيد لهم عنه، كالسلسلة اللازمة للعنق، يُجر بها إلى ما يُراد منه‏.‏

ومثله‏:‏ ‏{‏ألآا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ الله‏}‏ ‏[‏الأعرَاف‏:‏ 131‏]‏، وقال مجاهد‏:‏ «ما من مولود يولد إلا في عنقه ورقة، مكتوب فيها شقي أو سعيد»‏.‏ أو‏:‏ وكل إنسان ألزمناه عمله؛ يحمله في عنقه، ‏{‏ونُخرج له يوم القيامة كتابًا‏}‏ مكتوب فيه عمله، وهو صحيفته‏.‏ ‏{‏يلقاه منشورًا‏}‏، ويقال له‏:‏ ‏{‏اقرأ كتابك كفى بنفسك اليومَ عليك حسيبًا‏}‏؛ محاسبًا، لا تحاسبك إلا نفسك، أو‏:‏ رقيبًا وشهيدًا علىعملك، أو‏:‏ لا يَعُد عليك أعمالك إلا نفسك‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ ينبغي للإنسان أن يكون داعيًا بلسانه، مفوضًا لله في قلبه، لا يعقد على شيء من الحظوظ والمآرب، فقد يدعو بالخير في زعمه، وهو شر في نفس الأمر في حقه، وقد يدعو بالشر وهو خير‏.‏ وقد تأْتيه المضار من حيث يرتقب المسار، وقد تأتيه المسار من حيث يخاف الضرر؛ ‏{‏والله يعلم وأنتم لا تعلمون‏}‏‏.‏ فالتأني والسكون من علامة العقل، والشَّرَّةُ والعَجَلَة من علامة الحمق‏.‏ فما كان من قسمتك لا بدّ يأتيك في وقته المقدر له، وما ليس من قسمتك لا يأتيك، ولو حرصت كل الحرص‏.‏ فكل شيء سبق تفصيله وتقديره، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلوم إلا نفسه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 17‏]‏

‏{‏مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ‏(‏15‏)‏ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ‏(‏16‏)‏ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ‏(‏17‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏مَن اهتدى‏}‏ وآمن بالله وبما جاءت به الرسل ‏{‏فإِنما يهتدي لنفسه‏}‏؛ لأن ثواب اهتدائه له، لا يُنجي اهتداؤه غيره، ‏{‏ومن ضلَّ‏}‏ عن طريق الله ‏{‏فإِنما يضلُّ عليها‏}‏؛ لأن إثم إضلاله على نفسه، لا يضر به غيره في الآخرة ‏{‏ولا تزر‏}‏ أي‏:‏ لا تحمل نفس ‏{‏وازرةٌ‏}‏؛ آثمة ‏{‏وِزرَ‏}‏ نفس ‏{‏أخرى‏}‏ أي‏:‏ ذنوب نفس أخرى، بل إنما تحمل وزرها، إلا من كان إمامًا في الضلالة، فيحمل وزره ووزر مَن تبعه، على ما يأتي في آية أخرى‏:‏ ‏{‏وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 13‏]‏‏.‏

ومن كمال عدله تعالى‏:‏ أنه لا يُعذِّب حتى يُنذر ويُعذر على ألسنة الرسل، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما كنا مُعذبين‏}‏ أحدًا في الدنيا ولا في الآخرة ‏{‏حتى نبعث رسولاً‏}‏ يُبين الحجج ويمهد الشرائع، ويلزمهم الحجة‏.‏

وفيه دليل على أن لا حُكم قبل الشرع، بل الأمر موقوف إلى وروده، فمن بلغته دعوته، وخالف أمره، واستكبر عن أتباعه، عذبناه بما يستحقه‏.‏ وهذا أمر قد تحقق بإرسال آدم عليه السلام ومن بعده من الأنبياء الكرام- عليهم السلام- في جميع الأمم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 36‏]‏، ‏{‏وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 24‏]‏، فإن دعوتهم إلى الله قد انتشرت، وعمت الأقطار، واشتهرت، انظر إلى قول قريش الذين لم يأتهم نبي بعد إسماعيل عليه السلام‏:‏ ‏{‏مَا سَمِعْنَا بهذا فِى الملة الآخرة‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 7‏]‏؛ فإنه يُفهم منه أنهم سمعوه في الملة الأولى، فمن بلغته دعوة أحد منهم، بوجه من الوجوه فقصَّر، فهو كافر مستحق للعذاب‏.‏ فلا تغتر بقول كثير من الناس بنجاة أهل الفترة، مع إخبار النبي صلى الله عليه وسلم أن آباءهم، الذين مضوا في الجاهلية، في النار، وأن ما يدحرج من الجُعَل، خير منهم، إلى غير ذلك من الأخبار‏.‏ قاله البقاعي‏.‏

وقال الإمام أبو عبد الله الحليمي- أحد أجلاء الشافعية، وعظماء أئمة الإسلام- في أول منهاجه، في باب‏:‏ «من لم تبلغه الدعوة»‏:‏ وإنما قلنا‏:‏ إن من كان منهم عاقلاً مميزًا إذا رأى ونظر، إلا أنه لا يعتقد دينًا فهو كافر؛ لأنه، وإن لم يكن سمع دعوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فلا شك أنه سمع دعوة أحد من الأنبياء قبله، على كثرتهم وتطاول أزمان دعوتهم، ووفور مُددِ الذين آمنوا واتبعوهم، والذين كفروا بهم وخالفوهم، فإنَّ الخبر قد يبلغ على لسان المخالف، كما يبلغ على لسان الموافق، وإذا سمع آيَّةَ دعوة كانت إلى الله تعالى، فترك أن يستدل بعقله، كان مُعْرِضًا عن الدعوة فكفر، والله أعلم‏.‏ وإن أمكن أن يكون لم يسمع قط بدين، ولا بدعوة نبي، ولا عرف أن في العالم من يُثبت إلهًا، وما نرى أن ذلك يكون، فأمره على الاختلاف، يعني‏:‏ عند من يُوجب الإيمان بمجرد العقل، ومن لا يُوجبه إلا بانضمام النقل‏.‏

ه‏.‏

وقال الزركشي، في آخر باب النيات، من شرحه على المنهاج‏:‏ وقد أشار الشافعي إلى عسر تصور عدم بلوغ الدعوة، حيث قال‏:‏ وما أظن أحدًا إلا بلغته الدعوة، إلا أن يكون قوم من وراء النهر‏.‏ وقال الدميري‏:‏ وقال الشافعي‏:‏ ولم يبق أحد لم تبلغه الدعوة‏.‏ انتهى؛ على نقل شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي رضي الله عنه‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإِذا أردنا أن نُهلك قريةً‏}‏ أي‏:‏ تعلقت إرادتنا بإهلاكها؛ لإنفاذ قضائنا السابق، ودنا وقتُ إهلاكها، ‏{‏أمرنا مُتْرفيها‏}‏؛ منعميها، بمعنى رؤسائها؛ بالطاعة على لسان رسول بعثناه إليهم، ويدل على ذلك ما قبله وما بعده، فإن الفسق هو الخروج عن الطاعة، لقوله‏:‏ ‏{‏ففسقُوا فيها‏}‏؛ خرجوا عن أمرنا‏.‏ وقيل‏:‏ أمرناهم‏:‏ ألهمناهم الفسق وحملناهم عليه، أو‏:‏ جعلنا لهم أسباب حملهم على الفسق؛ بأن صببنا عليهم من النعم ما أبطرهم، وأفضى بهم إلى الفسوق، ‏{‏فحقَّ عليها القولُ‏}‏؛ وجب عليها كلمة العذاب السابق بحلوله، أو بظهور معاصيهم‏.‏ ‏{‏فدمرناها تدميرًا‏}‏؛ أهلكناها بإهلاك أهلها وتخريبها‏.‏ ‏{‏وكم أهلكنا‏}‏ أي‏:‏ كثيرًا أهلكنا ‏{‏من القُرون‏}‏ أي‏:‏ الأمم ‏{‏من بعد نوح‏}‏؛ كعاد وثمود وأصحاب الأيكة، ‏{‏وكفى بربك بذنوب عباده خبيرًا بصيرًا‏}‏؛ عالمًا ببواطنها وظواهرها، فيعاقب عليها أو يعفو‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

الإشارة‏:‏ من اهتدى إلى حضرة قدسنا فإنما يهتدي لينعم نفسه بأسرار قدسنا، ومن ضل عنها فإنما يضل عليها؛ حيث حرمها لذيذ المعرفة‏.‏ فإن كان في رفقة السائرين، ثم غلبه القضاء، فلا يتعدى وبال رجوعه إلى غيره، بل ما كان يصل إليه من المدد يرجع إلى أصحابه، وما كنا معذبين أحدًا؛ بإسدال الحجاب بيننا وبينه، حتى نبعث من يُعَرِّف بنا، ويكشف الحجاب بيننا وبين من يريد حضرتنا‏.‏ والمراد بالحجاب‏:‏ حجاب الوهم؛ بإثبات حس الكائنات، فلو انهتك حجاب الوهم لوقع العيان على فقد الأعيان، ولو أشرق نورُ الإيقان لغطى وجودَ الأكوان‏.‏ وإذا أردنا أن نتلف قلوبًا أمرنا أربابها بالتنعم بالحظوظ والشهوات، فخرجوا عن طريق المجاهدة والرياضة، فحق عليها القول بغم الحجاب، فدمرناها تدميرًا، أي‏:‏ تركناها تجول في أودية الخواطر والشكوك، فتلفت وهلكت، نعوذ بالله من شر الفتن ودرك المحن‏.‏