فصل: تفسير الآيات رقم (18- 22)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 22‏]‏

‏{‏مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا ‏(‏18‏)‏ وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ‏(‏19‏)‏ كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ‏(‏20‏)‏ انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا ‏(‏21‏)‏ لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا ‏(‏22‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏لمن نُريد‏}‏‏:‏ بدل من ضمير ‏{‏له‏}‏؛ بدل بعض من كل‏.‏ و‏{‏كُلاًّ‏}‏‏:‏ مفعول ‏{‏نُمد‏}‏، و‏{‏هؤلاء‏}‏‏:‏ بدل منه‏.‏ و‏{‏كيف‏}‏‏:‏ حال، و‏{‏درجات‏}‏ و‏{‏تفضيلاً‏}‏‏:‏ تمييز‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏مَن كان يُريد‏}‏ بعمله الدنيا ‏{‏العاجلةَ‏}‏، مقصورًا عليها همه، ‏{‏عجَّلنا له فيها ما نشاء لمن نُريد‏}‏ التعجيل له‏.‏ قيَّد المعجل والمعجل له بالمشيئة والإرادة؛ لأنه لا يجد كل متمن ما يتمناه، ولا كل واحد جميع ما يهواه‏.‏ قاله البيضاوي‏:‏ ‏{‏ثم جعلنا له‏}‏ في الآخرة ‏{‏جهنم يصلاها‏}‏؛ يدخلها ويحترق بها، حال كونه ‏{‏مذمومًا مدحورًا‏}‏؛ مطرودًا من رحمة الله‏.‏ والآية في الكفار، وقيل‏:‏ في المنافقين، الذين يغزون مع المسلمين لقصد الغنائم‏.‏ والأصح‏:‏ أنها تعم كل من اتصف بهذا الوصف‏.‏

‏{‏ومَن أراد الآخرةَ وسعى لها سعيها‏}‏؛ عمل لها عملها اللائق بها، وهو‏:‏ الإتيان بما أمر به، والانتهاء عما نهى عنه، لا التقرب بما يخترعون بآرائهم‏.‏ وفائدة اللام في قوله‏:‏ «لها»‏:‏ اعتبار النية والإخلاص‏.‏ والحال أن العامل ‏{‏مؤمن‏}‏ إيمانًا صحيحًا لا شرك معه ولا تكذيب، فإنه العمدة، ‏{‏فأولئك‏}‏ الجامعون للشروط الثلاثة ‏{‏كان سعيهم مشكورًا‏}‏ عند الله، مقبولاً مثابًا عليه؛ فإن شُكر الله هو الثواب على الطاعة‏.‏

‏{‏كُلاًّ نُّمدُّ‏}‏ أي‏:‏ كل واحد من الفريقين نُمد بالعطاء مرة بعد أخرى، ‏{‏هؤلاء‏}‏ المريدين للدنيا، ‏{‏وهؤلاء‏}‏ المريدين للآخرة، نُمد كلا ‏{‏من عطاء ربك‏}‏ في الدنيا، ‏{‏وما كان عطاءُ ربك‏}‏ فيها ‏{‏محظورًا‏}‏؛ ممنوعًا من أحد، لا يمنعه في الدنيا مؤمن ولا كافر، تفضلاً منه تعالى‏.‏ ‏{‏انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض‏}‏ في الرزق والجاه، ‏{‏وللآخِرةُ أكبرُ درجاتٍ وأكبرُ تفضيلاً‏}‏ من الدنيا، فينبغي الاعتناء بها دونها، والتفاوت في الآخرة حاصل للفريقين، فكما تفاوتت الدرجات في الجنة تفاوتت الدركات في النار‏.‏

وسبب التفاوت‏:‏ زيادة اليقين، والترقي في أسرار التوحيد لأهل الإيمان، أو الانهماك في الكفر والشرك لأهل الكفران‏.‏ ولذلك قال تعالى‏:‏ ‏{‏لا تجعلْ مع الله إِلهًا آخر‏}‏ تعبده‏.‏ والخطاب لكل سامع، أو للرسول صلى الله عليه وسلم، والمراد أمته، ‏{‏فتقعد‏}‏؛ فتصير حينئذ ‏{‏مذمومًا مخذولاً‏}‏؛ جامعًا على نفسك الذم من الملائكة والمؤمنين، والخذلان من الله‏.‏ ومفهومه‏:‏ أن الموحد يكون ممدوحًا منصورًا في الدارين‏.‏

الإشارة‏:‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ، فَرَّقَ اللهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأتِهِ مِنَ الدُّنْيا إلاَّ مَا قُسِمَ لَهُ‏.‏ وَمَنْ كَانَتِ الآخِرةُ نِيَّتَهُ، جَمَعَ الله عليه أَمْرَهُ، وجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِه، وأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ صَاغِرَةٌ»، واعلم أن الناس على قسمين؛ قوم أقامهم الحق لخدمته، وهم‏:‏ العباد والزهاد، وقوم اختصهم بمحبته، وهم‏:‏ العارفون بالله؛ أهل الفناء والبقاء، قال تعالى‏:‏ ‏{‏كلا نُمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورًا انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض‏}‏؛ في الكرامات والأنوار، وفي المعارف والأسرار‏.‏

وفضلُ العارفين على غيرهم كفضلِ الشمس على سائر الكواكب، هذا في الدنيا، ‏{‏وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً‏}‏، يقع ذلك بالترقي في معارج أسرار التوحيد، وبتفاوت اليقين في معرفة رب العالمين‏.‏ وقال القشيري في تفسير الآية‏:‏ منهم من لا يغيب عن الحضرة لحظة، ثم يجتمعون في الرؤية، ويتفاوتون في النصيبِ لكلٍّ‏.‏ وليس كلُّ أحد يراه بالعين الذي يراه به صاحبه‏.‏ وأنشدوا‏:‏

لو يَسْمَعُون كما سمعتُ حديثها *** خَرُّوا لِعَزَّةَ رُكَّعًا وسجودا

وقال الورتجبي‏:‏ فضَّل العابدين بعضهم على بعض في الدنيا بالطاعات، وفضَّل العارفين بعضهم على بعض بالمعارف والمشاهدات، فالعباد في الآخرة في درجات الجنان متفاوتون، والعارفون في درجات وصال الرحمن متفاوتون‏.‏ وقال القشيري أيضًا‏:‏ من كانت مشاهدته اليوم على الدوام، كانت رؤيته غدًا على الدوام، ومن لا فلا‏.‏ ه‏.‏ وقد تقدم تفاوت الناس في الرؤية بأبسط من هذا، عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 103‏]‏‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 25‏]‏

‏{‏وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ‏(‏23‏)‏ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ‏(‏24‏)‏ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا ‏(‏25‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏قضى‏}‏، هنا، بمعنى حكم وأوجب وأمر، لا بمعنى القضاء؛ إذ لو كان كذلك لما عُبد غير الله‏.‏ وفي مصحف ابن مسعود‏:‏ «ووصى ربك ألا تعبدوا»‏.‏ و‏(‏أن‏)‏‏:‏ مفسرة، أو مصدرية، أي‏:‏ بأن لا تعبدوا، و‏{‏إما‏}‏‏:‏ إن الشرطية دخلت علهيا «ما» المؤكدة‏.‏ و‏{‏فلا تقل‏}‏‏:‏ جوابها‏.‏ وتوحيد ضمير الخطاب في ‏{‏عندك‏}‏، وفيما سبق- مع أن ما سبق ضمير الجمع-؛ للاحتراز عن التباس المراد، فإنَّ المقصود نهي كل أحد عن تأفيف والديه ونهرهما‏.‏ ولو قوبل الجمع بالجمع، أو بالتثنية، لم يحصل هذا المرام‏.‏

و «أفُّ»‏:‏ اسم فعل، معناها‏:‏ قول مكروهُ، يقال عند الضجر ونحوه‏.‏ قال الهروي‏:‏ أي‏:‏ لا تقل لهما ما يكون فيه أدنى تبرم، ويقال لكل ما يضجر منه ويستثقل‏:‏ أُفّ لَهُ‏.‏ وقال في القاموس‏:‏ أَفّ، يَؤُفُّ، ويَئِفُّ‏:‏ تأففَ من كَرْبٍ أوْ ضَجَر‏.‏ وأُفّ‏:‏ كلمة تكره، وأفف تأفِيفًا، وتَأَفَّفَ، قالها، ولغتها أربعون، ثم ذكرها‏.‏ وحركتها للبناء، وتنوينها للتنكير‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وقضى ربُّك‏}‏؛ أَمر أمْرًا مقطوعًا به، ب ‏{‏ألاَّ تعبدوا إِلا إِياه‏}‏؛ لأن غاية التعظيم لا يكون إلا لمن له غاية العظمة ونهاية الإنعام، وهو الله وحده، ‏{‏و‏}‏ أحسنوا ‏{‏بالوالدين إِحسانًا‏}‏؛ لأنهما السبب الظاهر في وجود العبد، وبهما قامت نعمة الإمداد من التربية والحفظ في مظاهر الحكمة، وإلاَّ فما ثَمَّ إلا تربية الحق تعالى، ظهرت في مظاهر الوالدين، لكن أمر بشكر الواسطة؛ «من لم يشكر الناس لم يشكر الله»‏.‏

ثم أمر ببرهما، فقال‏:‏ ‏{‏إِما يبلغنَّ عندك الكبَرَ أحدُهما أو كلاهما‏}‏ أي‏:‏ مهما بلغ زمن الكِبَرِ، وهما عندك في كفالتك، هما أو أحدهما، ‏{‏فلا تقلْ لهما أُفٍّ‏}‏ أي‏:‏ فلا تضجر فيما يستقذر منهما ويستثقل من مؤنتهما، ولا تنطق بأدنى كلمة توجعهما، فأحرى ألا يقول لهما ما فوق ذلك‏.‏ فالنهي عن ذلك يدل على المنع من سائر أنواع الإيذاء؛ قياسًا بطريق الأخرى‏.‏ وقال في الإحياء‏:‏ الأُفّ‏:‏ وسخ الظفر، والتف‏:‏ وسخ الأذن، أي‏:‏ لا تصفهما بما تحت الظفر من الوسخ، فأحرى غيره، وقيل‏:‏ لا تتأذّ بهما كما يتأذى بما تحت الظفر‏.‏ ه‏.‏

‏{‏ولا تنهرهما‏}‏؛ ولا تزجرهما عما لا يعجبك بإغلاظٍ، فإن كان لإرشاد ديني فبرفق ولين‏.‏ ‏{‏وقل لهما قولاً كريمًا‏}‏؛ جميلاً لينًا لا غلظ فيه، ‏{‏واخفض لهما جناحَ الذل‏}‏؛ أَلِنْ لهما جانبك الذليل، وتذلل لهما وتواضع‏.‏ استعار للذل جناحًا، وأضافه إليه؛ مبالغة؛ فإنَّ الطير إذا تذلل أرخى جناحه إلى الأرض، كذلك الولد، ينبغي أن يخضع لأبويه، ويلين جانبه، ويتذلل لهما غاية جهده‏.‏ وذلك ‏{‏مِنَ الرحمة‏}‏ أي‏:‏ من إفراط الرحمة لهما والرقة والشفقة عليهما‏.‏

‏{‏وقل ربِّ ارحمهما‏}‏ أي‏:‏ وادع الله أن يرحمهما برحمته الباقية، ولا تكتف برحمتك الفانية، وإن كانا كافرين؛ لأن من الرحمة أن يهديهما للإسلام، فقل اللهم ارحمهما ‏{‏كما ربياني صغيرًا‏}‏ أي‏:‏ رحمة مثل رحمتهما عليّ وتربيتهما وإرشادهما لي في صغري، وفاء بعهدك للراحمين‏.‏ فالكاف في محل نصب؛ على أنه نعت لمصدر محذوف، أي‏:‏ رحمة مثل تربيتهما، أو مثل رحمتهما لي، على أن التربية رحمة‏.‏ ويجوز أن يكون لهما الرحمة والتربية معًا، وقد ذكر أحدهما في أحد الجانبين والآخر في الآخر، كما يلوح له التعرض لعنوان الربوبية، كأنه قيل‏:‏ رب ارحمهما، ورَبِّهِمَا كما ربياني صغيرا‏.‏ ويجوز أن يكون الكاف للتعليل، كقوله‏:‏ ‏{‏واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 198‏]‏‏.‏

ولقد بالغ الحق تعالى في التوصية بالوالدين؛ حيث شفع الإحسان إليهما بتوحيده سبحانه، ونظمهما في سلك القضاء بعبادته، ثم ضيق في برهما حتى لم يُرخص في أدنى كلمة تتفلت من المتضجر، وختمها بأن جعل رحمته التي وسعت كلَّ شيء مشبهة بتربيتهما‏.‏ وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «رِضَا اللهِ في الوَالِدَين، وَسَخَطُهُ في سَخَطِهِمَا» ورُوي‏:‏ أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن أبَويَّ بَلَغَا مِنْ الكِبَر إلى أنِّي ألي منهما ما وَلَيَا مِنِّي في الصغر، فهل قضيتهما حقهما‏؟‏ قال‏:‏ «لا؛ فإنهما كانا يفعلان ذلك وهما يحبان بقاءك، وأنت تفعل ذلك وأنت تريد موتهما» ورُوي أن شيخًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إن ابني هذا له مال كثير، ولا ينفق عليّ من ماله شيئًا، فنزل جبريل وقال‏:‏ إن هذا الشيخ أنشأ في ابنه أبياتًا، ما قُرعَ سَمْعٌ بمثلها، فاستنشدها، فأنشدها الشيخ، فقال‏:‏

غَذَوْتُك مَوْلُودًا ومُنْتُك يَافعًا *** تُعلُّ بما أُجْرِي عليك وتَنْهَلُ

إذَا لَيْلةٌ ضَافَتْك بالسُّقْمِ لَم أَبِتْ *** لسُقْمِكَ إلا باكِيًا أَتَملْمَلُ

كَأَنِّي أنا الْمَطْرُوقُ دُونَكَ بالذي *** طُرِقتَ به دُونى وعَيْنِيَ تمْهَلُ

فَلَمَّا بَلَغْتَ السِّنَّ والغَايَةَ الَّتي *** إليْها مَدَى مَا كُنْتُ فِيك أُؤَمِّلُ

جَعَلْتَ جزَائي غلْظَةً وفَظَاظَةً *** كأَنّك أنتَ المُنْعمُ الْمُتَفَضِّلُ

فَلَيْتَكَ إذ لَمْ تَرْعَ حَقَّ أُبوَّتي *** فَعَلْتَ كَمَا الجَارُ المجاورُ يَفْعَلُ

ومن تمام برهما‏:‏ زيارتهما بعد موتهما، والدعاء لهما، والتصدق عليهما، ففي الحديث‏:‏ «إنما الميت في قبره كالغريق، ينتظر دعوة تلحقه من ابنه أو أخيه أو صديقه، فإذا لحقته كانت أحب إليه من الدنيا وما فيها» وروى مالك في الموطأ عن سعيد بن المسيب أنه قال‏:‏ ‏(‏كان يقال‏:‏ إن الرجل ليرفع بدعاء ولده من بعده، وأشار بيده نحو السماء‏)‏، وهو مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ من طريق أبي هريرة قال‏:‏ «إن الله ليرفع العبد الدرجة، فيقول‏:‏ يا رب، أنَّى لي بها‏؟‏‏!‏ فيقول‏:‏ باستغفار ابنك لك»

، وسأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ هل بقي من بر أبويَّ شيء أبرهما به، بعد موتهما‏؟‏ فقال‏:‏ «نعم‏.‏‏.‏‏.‏ الصلاة عليهما- أي‏:‏ الترحم والاستغفار لهما-، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما»‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏ربكم أعلمُ بما في نفوسكم‏}‏ من قصد البر إليهما، واعتقاد ما يجب لهما من التوقير‏.‏ وكأنه تهديد على أن يُضمر لهما كراهة واستثقالاً، ‏{‏إِن تكونوا صالحين‏}‏؛ قاصدين للصلاح، أو طائعين لله، ‏{‏فإِنه كان للأوابين‏}‏‏:‏ التوابين، أو الرجّاعين إلى طاعته، ‏{‏غفورًا‏}‏ لما فرط منهم عند حرج الصدر؛ من إذاية ظاهرة أو باطنة، أو تقصير في حقهما‏.‏ ويجوز أن يكون عامًا لكل تائب، ويندرج فيه الجاني على أبويه اندراجًا أوليًا‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ كل ما أوحى الله تعالى به في حق والدي البشرية، يجري مثله في والد الروحانية، وهو الشيخ، ويزيد؛ لأنه أوكد منه؛ لأنَّ أب البشرية كان السبب في خروجه إلى دار الدنيا، معرضًا للعطب أو السلامة، وأب الروحانية كان سببًا في خروجه من ظلمة الجهل إلى نور العلم والوصلة، وهما السبب في التخليد في النعيم الذي لا يفنى ولا يبيد‏.‏ وقد تقدم في سورة النساء تمام هذه الإشارة‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 30‏]‏

‏{‏وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ‏(‏26‏)‏ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ‏(‏27‏)‏ وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا ‏(‏28‏)‏ وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا ‏(‏29‏)‏ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ‏(‏30‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وآتِ ذا القُربى حقه‏}‏ أي‏:‏ أعط ذا القربة حقه؛ من البر، وصلة الرحم، وحسن المعاشرة‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ إذا كانوا محاويج فقراء‏:‏ أن ينفق عليهم‏.‏ وقيل‏:‏ الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم أن يُؤتى قرابته من بيت المال، ‏{‏و‏}‏ آت ‏{‏المسكينَ‏}‏ حقه ‏{‏وابنَ السبيل‏}‏؛ الغريب، من برهما والإحسان إليهما، ‏{‏ولا تبذرْ تبذيرًا‏}‏؛ بصرف المال فيما لا ينبغي، وإنفاقه على وجه السرف‏.‏ قال ابن عزيز‏:‏ التبذير في النفقة‏:‏ الإسراف فيها، وتفريقها في غير ما أحل الله‏.‏ ه‏.‏ وأصل التبذير‏:‏ التفريق‏.‏ رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لسعد، وهو يتوضأ‏:‏ «مَا هذَا السَّرَفُ» ‏؟‏ فقال‏:‏ أَو فِي الوُضُوءِ سَرَفٌ‏؟‏ فقال‏:‏ «نَعَمْ، وإِنْ كنْتَ عَلَى نَهَرٍ جَارٍ»‏.‏

‏{‏إِنَّ المبذّرين كانوا إِخوانَ الشياطين‏}‏ أي‏:‏ أمثالهم في الشر؛ فإن التضييع والإتلاف شر‏.‏ أو‏:‏ على طريقتهم، أو‏:‏ أصدقاؤهم وأتباعهم؛ لأنهم يطيعونهم في الإسراف، رُوي أنهم كانوا ينحرون الإبل ويتياسرون عليها- أي‏:‏ يتقامرون- من الميسر، وهو القمار- ويُبذرون أموالهم- في السمعة، فنهاهم الله تعالى عن ذلك، وأمرهم بالإنفاق في القرابات‏.‏ ‏{‏وكان الشيطانُ لربِّه كفورًا‏}‏؛ مبالغاً في الكفر، فينبغي ألا يطاع‏.‏

‏{‏وإِما تُعْرِضنَّ عنهم‏}‏ أي‏:‏ وإن أعرضت عما ذكر من ذوي القربى والمسكين وابن السبيل؛ حياء من الرد، حيث لم تجد ما تُعطيهم، ‏{‏ابتغاءَ رحمةٍ من ربك ترجوها‏}‏ أي‏:‏ لطلب رزق تنتظره يأتيك لتعطيهم منه، ‏{‏فقلْ لهم قولاً ميسورًا‏}‏؛ فقل لهم قولاً لينًا سهلاً، بأن تعدهم بالعطاء عند مجيء الرزق، وكان صلى الله عليه وسلم إذا سأله أحد، ولم يجد ما يعطيه، أعرض عنه، حياء منه‏.‏ فَأُمِرَ بحسن القول مع ذلك، مثل‏:‏ رزقنا الله وإياكم، والله يُغنيكم من فضله، وشبه ذلك

ثم أمره بالتوسط في العطاء، فقال‏:‏ ‏{‏ولا تجعل يدكَ مغلولةً إِلى عُنقك‏}‏ أي‏:‏ لا تمسكها عن الإنفاق كل الإمساك، ‏{‏ولا تبسطها كل البسط‏}‏، وهو استعارة لغاية الجود، فنهى الحقُّ تعالى عن الطرفين، وأمر بالتوسط فيهما، كقوله‏:‏ ‏{‏إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏الفُرقان‏:‏ 67‏]‏ الآية‏.‏ ‏{‏فتقعُدَ ملومًا محسورًا‏}‏ أي‏:‏ فتصير، إذا أسرفت، ملومًا عند الله وعند الناس؛ بالإسراف وسوء التبذير، محسورًا‏:‏ منقطعًا بك، لا شيء عندك‏.‏ وهو من قولهم‏:‏ حسر السفر بالبعير‏:‏ إذا أتعبه، ولم يُبْقِ له قوة‏.‏ وعن جابر رضي الله عنه‏:‏ بينا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ، أتاهُ صبي، فقال له‏:‏ إن أُمِّي تَسْتَكْسِيكَ الدِّرْعَ الذي عَليْكَ، فَدَخَلَ دَارَهُ ونَزَعَ قَمِيصَهُ وأعْطَاهُ، وقَعَدَ عُرْيَانًا، وأذَّن بلالٌ، وانتظره للصلاة، فلم يخرُجْ، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏ولا تجعل يدك‏}‏ الآية‏.‏

ثم سلاَّه بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ ربك يبسط الرزق‏}‏؛ يوسعه ‏{‏لمن يشاءُ ويَقْدِرُ‏}‏؛ يضيقه على من يشاء‏.‏

فكل ما يصيبك من الضيق فإنما هو لمصلحة باطنية، ‏{‏إِنه كان بعباده خبيرًا بصيرًا‏}‏؛ يعلم سرهم وعلانيتهم، فيعلم مِنْ مصالحهم ما يخفى عليهم؛ فيرزقهم على حسب مصالحهم، ويضيق عليهم على قدر صبرهم‏.‏ والحاصل‏:‏ أنه يُعطي كل واحد ما يَصلح به، والله أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ أمر الحق- جلّ جلاله- رسوله صلى الله عليه وسلم، وخلفاءه ممن كان على قدمه، أن يعطوا حق الواردين عليهم من قرابة الدين والنسب، والمساكين والغرباء، من البر والإحسان حسًا ومعنى؛ كتعظيم ملاقاته، وإرشادهم إلى ما ينفع بواطنهم، والإنفاق عليهم، من أحسن ما يجد، حسًا ومعنى، وخصوصًا الإخوان في الله‏.‏ فكل ما يُنفق عليهم فهو قليل في حقهم، ولا يُعد سرفًا، ولو أنفق ملء الأرض ذهبًا‏.‏ قال في القوت‏:‏ دعا إبراهيمُ بن أدهم الثوريَّ وأصحابَه إلى طعام، فأكثر منه، فقال له سفيانُ‏:‏ يا أبا إسحاق؛ أما تخاف أن يكون هذا سرفًا‏؟‏ فقال إبراهيم‏:‏ ليس في الطعام سرف‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ هذا إن قدَّمه إلى الإخوان الذاكرين الله؛ قاصدًا وجه الله، وأما إن قدمه؛ مفاخرة ومباهاة دخله السرف‏.‏ قاله في الحاشية الفاسية، ومثله في تفسير القشيري، وأنه لا سَرف فيما كان لله، ولو أنفق ما أنفق‏.‏ بخلاف ما كان لدواعي النفس ولو فلسًا‏.‏ ه‏.‏ وأما الخروج عن المال كله فمذموم، إلا من قوي يقينه، كالصدِّيق، ومن كان على قدمه‏.‏ وكذلك الاستقراض على الله، واشتراؤه بالدَّين من غير مادة معلومة، إن كان قوي اليقين، وجرّب معاملته مع الحق، فلا بأس بفعل ذلك؛ وإلاَّ فليكف؛ لئلا يتعرض لإتلاف أموال الناس فيتلفه الله‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 35‏]‏

‏{‏وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا ‏(‏31‏)‏ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا ‏(‏32‏)‏ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ‏(‏33‏)‏ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا ‏(‏34‏)‏ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ‏(‏35‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏خشية‏}‏‏:‏ مفعول من أجله؛ لأن الخشية قلبية، بخلاف الإملاق، فإنه حسي؛ فَجُرَّ بمن في سورة الأنعام‏.‏ وهذه الآية في أغنياء العرب، الذين كانوا يخشون وقوع الفقر، وما في «الأنعام»‏.‏ وهذه الآية في أغنياء العرب، الذين كانوا يخشون وقوع الفقر، وما في «الأنعام» نزلت في فقرائهم، الذين كان الفقر واقعًا بهم، ولذلك قدَّم هناك كاف الخطاب، وأخَّره هنا، فتأمله‏.‏ و«خِطًا» يقال‏:‏ خطئ خطأ، كأثم إثمًا‏.‏ وقرأ ابن عامر‏:‏ «خَطأً»، بفتحتين، فهو إما اسم مصدر أخطأ، أو لغة في خطئ، كمِثل ومَثل، وحِذر وحَذر‏.‏ وقرأ ابن كثير‏:‏ «خِطاء»؛ بالمد، إما لغة، أو مصدر خاطأ‏.‏ انظر البيضاوي‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ولا تقتلوا أولادكم‏}‏ مخافة الفاقة المستقبلة، وقد كانوا يقتلون البنات- وهو الوأد- مخافة الفقر، فنهاهم، عن ذلك، وضمن لهم أرزاقهم، فقال‏:‏ ‏{‏نحن نرزقهم وإِياكم إِنَّ قتلهم كان خِطأً‏}‏؛ إثمًا ‏{‏كبيرًا‏}‏؛ لما فيه من قطع التناسل وانقطاع النوع وإيلام الروح‏.‏ ‏{‏ولا تقربوا الزنا‏}‏، نهى عن مقاربته بالمقدمات‏.‏ كالعزم والنظر وشبهه، فأحرى مباشرته، ‏{‏إِنه كان فاحشةً‏}‏ أي‏:‏ فعلة ظاهرًا فُحشها وقُبحها، ‏{‏وساء سبيلاً‏}‏؛ قبح طريقًا طريقُهُ، وهو غصب الأبْضاع؛ لما فيه من اختلاط الأنساب وهتك محارم الناس، وتهييج الفتن‏.‏

‏{‏ولا تقتلوا النفسَ التي حرَّم اللهُ إِلا بالحق‏}‏؛ إلا بإحدى ثلاث‏:‏ كفر بعد إيمان، وزنى بعد إحصان، وقتل مؤمن معصوم؛ عمدًا، كما في الحديث‏.‏ ويلحق بها أشياء في معناها‏:‏ كالحِرَابَةِ، وترك الصلاة، ومنع الزكاة‏.‏ ‏{‏ومن قُتل مظلومًا‏}‏ أي‏:‏ غير مستوجب للقتل ‏{‏فقد جعلنا لوَليِّه‏}‏ أي‏:‏ الذي يلي أمره بعد وفاته، وهو الوارث، ‏{‏سُلطانًا‏}‏؛ تسلطًا بالمؤاخذة بمقتضى القتل بأخذ الدية، أو القصاص، وقوله‏:‏ ‏{‏مظلومًا‏}‏‏:‏ يدل على أن القتل عمد؛ لأن الخطأ لا يُسمى ظلمًا‏.‏ أو‏:‏ جعلنا له حجة غالبة، ‏{‏فلا يُسرفْ في القتل‏}‏؛ بأن يقتل من لا يحق قتله، أو بالمثلة، أو قتل غير القاتل، ‏{‏إِنه‏}‏ أي‏:‏ الولي ‏{‏كان منصورًا‏}‏؛ حيث وجب القصاص له، وأمر الولاة بمعونته‏.‏ أو‏:‏ إنه، أي‏:‏ المقتول، كان منصورًا في الدنيا؛ بثبوت القصاص ممن قتله، وفي الآخرة بالثواب‏.‏

‏{‏ولا تقربُوا مالَ اليتيم‏}‏ فضلاً عن أن تتصرفوا فيه ‏{‏إِلا بالتي هي أحسنُ‏}‏؛ إلا بالطريقة التي هي أحسن، كالحفظ والتنمية، ‏{‏حتى يبلغ أشُدَّه‏}‏؛ حتى يتم رشده، ثم يدفع له، فإن دفعه لمن يتصرف فيه بالمصلحة فلا بأس، ‏{‏وأوفُوا بالعهد‏}‏ إذا عاهدتم الله أو الناس، ‏{‏إِن العهد كان مسؤولاً‏}‏ أي‏:‏ مطلوبًا الوفاء به، فيطلب من المعاهد ألا يُضيعه، أو‏:‏ مسؤولاً عنه، فيُسأل عنه الناكث ويُعاتب عليه، أو‏:‏ يُسأل العهد نفسُه لِمَ نكثْتَ، تبكيتًا للناكث، ‏{‏وأوفوا الكيل إِذا كِلْتُم‏}‏ ولا تبخسوا فيه، ‏{‏وزِنُوا بالقسطاس المستقيم‏}‏؛ بالميزان السّوي‏.‏

والقسطاس‏:‏ لغة رومية، ولا يقدح ذلك في عربية القرآن؛ لأن غير العربي، إذا استعملته العرب، فأجرته مجرى كلامهم في الإعراب والتعريف والتنكير، صار عربيًا‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏ ‏{‏ذلك خيرٌ وأحسنُ تأويلاً‏}‏ أي‏:‏ أحسن عاقبة ومآلاً‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ ولا تقتلوا ما أنتجته الأفكار الصافية من العلوم؛ بإهمال القلوب في طلب رزق الأشباح، خشية لحوق الفقر، فإنَّ الله ضامن لرزق الأشباح والأرواح‏.‏ ولا تميلوا إلى الحظوظ، التي تُخرجكم عن حضرة الحق؛ فإن ذلك من أقبح الفواحش‏.‏ ولا تقتلوا النفس بتوالي الغفلة والجهل، التي حرَّم الله قتلها وإهمالها، وأمر بإحيائها بالذكر والعلم، ومن قُتل بذلك مظلومًا؛ بحيث غلبته نفسه، ولم تساعده الأقدار، فقد جعلنا لعقله سلطانًا، أي‏:‏ تسلطًا عليها؛ بمجاهدتها وقتلها وردها إلى مولاها، فلا يُسرف في قتلها، بل بسياسة وحيلة، كما قال القائل‏:‏

واحْتَلْ عَلَى النَّفْسِ فرُبَّ حِيلَهْ *** أَنْفَعُ فِي النُّصْرِ منْ قَبِيلهْ

إنه كان منصورًا، إن انتصر بمولاه، وآوى بها إلى شيخ كامل، قد فرغ من تأديب نفسه وهواه‏.‏ وقد تقدم باقي الإشارة في سورة الأنعام وغيرها‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 40‏]‏

‏{‏وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ‏(‏36‏)‏ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا ‏(‏37‏)‏ كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا ‏(‏38‏)‏ ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا ‏(‏39‏)‏ أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا ‏(‏40‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ قفا الشيء يقفوه‏:‏ تبعه‏.‏ والضمير في «عنه»‏:‏ يجوز أن يعود لمصدر «لا تَقْفُ»، أو لصاحب السمع والبصر‏.‏ وقيل‏:‏ إن «مسؤولاً» مسند إلى «عنه» كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين‏}‏ ‏[‏الفَاتِحَة‏:‏ 7‏]‏، والمعنى‏:‏ يسأل صاحبه عنه، وهو خطأ؛ لأن الفاعل وما يَقوم مقامه لا يتقدم‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏

قال ابن جزي‏:‏ الإشارة في «أولئك»‏:‏ إلى السمع والبصر والفؤاد، وإنما عاملها معاملة العقلاء في الإشارة بأولئك؛ لأنها حواس لها إدراك، والضمير في «عنه»‏:‏ يعود على «كل»، ويتعلق «عنه» بمسؤُولاً‏.‏ ه‏.‏ وضمير الغائب يعود على المصدر المفهوم من «مسؤولاً»‏.‏ و‏{‏مَرَحًا‏}‏‏:‏ مصدر في موضع الحال‏.‏ و‏{‏مكروهًا‏}‏‏:‏ نعت لسيئة، أو بدل منها، أو خبر ثان لكان‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ولا تَقْفُ‏}‏؛ تتبع ‏{‏ما ليس لك به علمٌ‏}‏، فلا تقل ما لا تحقيق لك به؛ من ذم الناس ورميهم بالغيب‏.‏ فإذا قلت‏:‏ سمعتُ كذا، أو رأيت كذا، أو تحقق عندي كذا، مما فيه نقص لأحد، فإنك تُسأل يوم القيامة عن سند ذلك وتحقيقه‏.‏ وهذا معنى قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ السمعَ والبصرَ والفؤادَ كلُّ أولئك كان عنه مسؤولاً‏}‏‏.‏ قال البيضاوي‏:‏ ولا تتبع ما لم يتعلق علمك به؛ تقليدًا، أو رجمًا بالغيب‏.‏ واحتج به من منع اتباع الظن، وجوابه‏:‏ أن المراد بالعلم هو الاعتقاد الراجح المستفاد من سند، سواء كان قطعيًا أو ظنيًا؛ إذ استعماله بهذا المعنى شائع‏.‏ وقيل‏:‏ إنه مخصوص بالعقائد‏.‏ وقيل‏:‏ بالرمي وشهادة الزور، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من قَفَا مُؤْمنًا بِمَا لَيْسَ فِيهِ، حَبَسَهُ اللهُ فِي رَدْغَةِ الخَبَالِ، حَتَّى يَأتِيَ بِالمَخْرَجِ» ‏{‏إِن السمعَ والبصرَ والفؤاد كلُّ أولئك‏}‏ أي‏:‏ كل هذه الأعضاء الثلاثة ‏{‏كان عنه مسؤولاً‏}‏؛ كل واحد منها مسؤول عن نفسه، يعني‏:‏ عما فعل به صاحبه‏.‏ ه‏.‏ مختصرًا‏.‏

‏{‏ولا تمشِ في الأرض مرحًا‏}‏ أي‏:‏ ذا مرح، وهو‏:‏ التكبر والاختيال، ‏{‏إِنك لن تخرق الأرضَ‏}‏؛ لن تجعل فيها خرقًا؛ لشدة وطأتك ‏{‏ولن تبلغ الجبال طُولاً‏}‏؛ تتطاول عليها؛ عزّا وعلوا، وهو تهكم بالمختال، وتعليل للنهي، أي‏:‏ إذا كنت لا تقدر على هذا، فلا يناسبك إلا التواضع والتذلل بين يدي خالقك، ‏{‏كلُّ ذلك‏}‏ المذكور، من قوله‏:‏ ‏{‏لا تجعل مع الله إلهًا آخر‏}‏ إلى هنا، وهي‏:‏ خَمْسٌ وعشرون خصلة، قال ابن عباس‏:‏ ‏(‏إنها المكتوبة في ألواح موسى‏)‏، فكل ما ذكر ‏{‏كان سَيّئة عند ربك‏}‏ أي‏:‏ خصلة قبيحة ‏{‏مكروهًا‏}‏ أي‏:‏ مذمومًا مبغوضًا‏.‏ والمراد بما ذكر‏:‏ من المنهيات دون المأمورات‏.‏

‏{‏ذلك مما أَوحى إِليك ربُّك من الحكمة‏}‏؛ التي هي علم الشرائع، أو معرفة الحق لذاته، والعلم للعمل به‏.‏

‏{‏ولا تجعلْ مع الله إلهًا آخر‏}‏، كرره، للتنبيه على أن التوحيد مبدأ الأمر ومنتهاه، وأنه رأس الحكمة وملاكها، ومن عُدِمَهُ لم تَنْفَعْهُ علومه وحِكمه، ولو جمع أساطير الحكماء، ولو بلغت عنان السماء‏.‏ والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، والمراد‏:‏ غيره ممن يتصور منه ذلك‏.‏ ورتب عليه، أولاً‏:‏ ما هو عاقبة الشرك في الدنيا، وهو‏:‏ الذم والخذلان، وثانيًا‏:‏ ما هو نتيجته في العقبى‏.‏ فقال‏:‏ ‏{‏فتُلقى في جهنم ملومًا‏}‏؛ تلوم نفسك، وتلومك الملائكة والناس، ‏{‏مدحورًا‏}‏؛ مطرودًا من رحمة الله‏.‏

ثم قبَّح رأيهم في الشرك، فقال‏:‏ ‏{‏أفأصفاكُم رَبُّكم بالبنين‏}‏، وهو خطاب لمن قال‏:‏ الملائكة بنات الله‏.‏ والهمزة للإنكار، أي‏:‏ أفخصَّكم ربكُم بأفضل الأولاد، وهم البنون، ‏{‏واتخذَ من الملائكة إِناثًا‏}‏؛ بناتٍ لنفسه، ‏{‏إِنكم لتقولون قولاً عظيمًا‏}‏ أي‏:‏ عظيم النكر والشناعة، لا يُقْدَرُ قَدْرُهُ في إيجاب العقوبة؛ لخرمه لقضايا العقول، بحيث لا يجترئ عليه أحد؛ حيث تجعلونه تعالى من قبيل الأجسام المتجانسة السريعة الزوال، ثم تضيفون إليه ما تكرهونه، وتُفضلون عليه أنفسكم بالبنين، ثم جعلتم الملائكة، الذين هم أشرف الخلق، أدونهم، تعالى الله عن قولكم علوًا كبيرًا‏.‏

الإشارة‏:‏ ينبغي للإنسان الكامل أن يكون في أموره كلها على بينة من ربه، فَيُحَكِّمُ على ظاهره الشريعة المحمدية، وعلى باطنه الحقيقة القدسية، فإذا تجلى في باطنه شيء من الواردات أو الخواطر فليعرضه على الكتاب والسُنَّة، فإن قبلاه أظهره وفعله، وإلاَّ رده وكتمه، كان ذلك الأمر قوليًا أو فعليًا، أو تركًا او عقدًا؛ فقد انعقد الإجماع على أنه لا يحل لامرئٍ مسلم أن يقدم على أمر حتى يعلم حكم الله فيه، وإليه الإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏ولا تَقْفُ ما ليس لك به علم‏}‏، فإن لم يجد نصًا في الكتاب أو السنة فليستفت قلبه، إن صفا من خوض الحس، وإن لم يَصْفُ فليرجع إلى أهل الصفاء، وهم أهل الذكر‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏فاسألوا أَهْلَ الذكر إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏النّحل‏:‏ 43‏]‏، ولا يستفت أهل الظنون، وهم أهل الظاهر، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الظن لاَ يُغْنِي مِنَ الحق شَيْئاً‏}‏ ‏[‏يُونس‏:‏ 36‏]‏‏.‏

وقال القشيري في تفسير الآية هنا‏:‏ ‏{‏ولا تَقْفُ ما ليس لك به علم‏}‏ أي‏:‏ جانب محاذاة الظنون، وما لم يُطْلِعْكَ الله عليه، فلا تتكلف الوقوف عليه من غير برهان‏.‏ فإذا أُشْكِلَ عليك شيءٌ في حكم الوقت، فارجعْ إلى الله، فإِنْ لاحَ لقلبك وَجْهٌ من التحقيق فكن مع ما أريد، وإن بقي الحال على حدِّ الالتباس فَكِلْ عِلْمَه إلى الله، وقِفْ حيثما وقفت‏.‏ ويقال‏:‏ الفرق بين من قام بالعلم، ومن قام بالحق‏:‏ أنَّ العلماء يعرفون الشيء أولاً، ثم يعملون بعلمهم، وأصحابُ الحقائق يجْرِي، بحكم التصريف عليهم، شيءٌ، ولا عِلمَ لهم به على التفصيل، وبعد ذلك يُكْشَف لهم وجههُ، فربما يجري على لسانهم شيءٌ لا يدرون وَجْهَه، ثم بعد فراغهم من النطق به يظهر لقلوبهم برهانُ ما قالوه من شواهد العلم؛ إذ يتحقق ذلك بجريان الحال في ثاني الوقت‏.‏ انتهى‏.‏ قلت‏:‏ وإلى هذا المعنى أشار في الحكم العطائية بقوله‏:‏ «الحقائق ترد في حال التجلي مُجْمَلَةً، وبعد الوعي يكون البيان، ‏{‏فإذا قرأناه فاتبع قرآنه‏}‏»‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تمشِ في الأرض مرحًا‏}‏، ورد في بعض الأخبار، في صفة مشي الصوفية‏:‏ أنهم يدبون على أقدامهم دبيب النمل، متواضعين خاشعين، ليس فيه إسراع مُخل بالمروءة، ولا اختيال مُخل بالتواضع‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا ‏(‏41‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ولقد صَرَّفنا‏}‏؛ بيَّنا ‏{‏في هذا القرآن‏}‏ من الأمثال والعبر، والوعد والوعيد؛ ‏{‏ليذَّكروا‏}‏؛ ليتعظوا به، ‏{‏وما يزيدُهم‏}‏ ذلك ‏{‏إِلا نفورًا‏}‏ عن الحق وعنادًا له‏.‏

الإشارة‏:‏ من شأن القلوب الصافية‏:‏ إذا سمعت كلام الحبيب فرحت واهْتَزت، أو خشعت واقشعرت من هيبة المتكلم، كلٌّ على ما يليق بمقامه، ومن شأن القلوب الخبيثة المكدرة‏:‏ نفورها من كلام الحق؛ إذ الباطل لا يُقاوم الحق، ولا يطيق مواجهته‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 44‏]‏

‏{‏قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آَلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا ‏(‏42‏)‏ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا ‏(‏43‏)‏ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ‏(‏44‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏قلْ‏}‏ يا محمد‏:‏ ‏{‏لو كان معه‏}‏ في الوجود ‏{‏آلهةٌ‏}‏ تستحق أن تُعبد، ‏{‏كما تقولون‏}‏ أيها المشركون، أو كما يقول المشركون أيها الرسول، ‏{‏إِذًا لابتَغَوا‏}‏؛ لطلبوا ‏{‏إلى ذي العرش سبيلاً‏}‏؛ طريقًا يقاتلونه‏.‏ وهذا جواب عن مقالتهم الشنعاء‏.‏ والمعنى‏:‏ لطلبوا إلى من هو ملك الملك طريقًا بالمعاداة، كما تفعل الملوك بعضهم مع بعض‏.‏ وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 91‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ لابتغوا إليه سبيلاً بالتقرب إليه والطاعة؛ لعلمهم بقدرته، وتحققهم بعجزهم، كقوله‏:‏ ‏{‏أولئك الذين يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الوسيلة‏}‏ ‏[‏الإسرَاء‏:‏ 57‏]‏‏.‏ ثم نزّه نفسه عن ذلك فقال‏:‏ ‏{‏سبحانه‏}‏؛ تنزيهًا له ‏{‏وتعالى‏}‏؛ ترافع ‏{‏عمّا يقولون‏}‏ من الشركاء، ‏{‏عُلوًا‏}‏؛ تعاليًا ‏{‏كبيرًا‏}‏ لا غاية وراءه‏.‏ كيف لا؛ وهو تعالى في أقصى غاية الوجود‏!‏ وهو الوجوب الذاتي، وما يقولونه؛ من أنَّ له تعالى شركاء وأولادًا، في أبعد مراتب العدم، أعني‏:‏ الامتناع؛ لأنه من خواص المحدثات الفانية‏.‏

‏{‏يسبح له السماواتُ السبعُ‏}‏ أي‏:‏ تنزهه، ‏{‏والأرضُ ومَن فيهن‏}‏ كلها تدل على تنزيهه عن الشريك والولد، ‏{‏وإِنْ من شيء إِلا يُسبح بحمده‏}‏؛ ينزهه عما هو من لوازم الإمكان، وتوابع الحدوث، بلسان الحال، حيث تدل بإمكانها وحدوثها على الصانع القديم، الواجب لذاته‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏ وظاهره‏:‏ أن تسبيح الأشياء حَالِيُّ لا مقالي، والراجح أنه مقالي‏.‏ ثم مع كونه مقالياً لا يختص بقول مخصوص، كما قال الجلال السيوطي، أي‏:‏ تقول‏:‏ سبحان الله وبحمده‏.‏ بل كل أحد يُسبح بما يناسب حاله‏.‏ وإلى هذا يرشد كلام أهل الكاشف، حتى ذكر الحاتمي‏:‏ أن من لم يسمعها مختلفة التسبيح لم يسمعها، وإنما سمع الحالة الغالبة عليه‏.‏ وورد في الحديث‏:‏ «ما اصطيد حوت في البحر، ولا طائر يطير، إلاَّ بما ضيع من تسبيح الله تعالى» وفي الحديث أيضًا‏:‏ «ما تطلع الشمس فيبقى خلق من خلق الله، إلا يسبح الله بحمده، إلا ما كان من الشيطان وأعتى بني آدم»‏.‏

ومذهب أهل السنة‏:‏ عدم اشتراط البِنية للعلم والحياة، فيصح الخشوع من الجماد، والخشية لله والتسبيح منه له‏.‏ وقد قال ابن حجر على حديث حنين الجذع‏:‏ فيه دلالة على أن الجمادات قد يخلق الله لها إدراكًا كالحيوان، بل كأشرف الحيوان، وفيه تأييد لمن يحمل قوله‏:‏ ‏{‏وإِن من شيء إِلا يُسبح بحمده‏}‏ على ظاهره‏.‏ ه‏.‏

وقال ابن عطية‏:‏ اختلف أهلُ العلم في هذا التسبيح؛ فقالت فرقة‏:‏ هو تجوز، ومعناه‏:‏ أن كل شيء تبدو فيه صفة الصانع الدالة عليه، فتدعو رؤية ذلك إلى التسبيح من المعتبر‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏من شيء‏}‏‏:‏ لفظه عموم، ومعناه الخصوص في كل حي ونام، وليس ذلك في الجمادات الميتة‏.‏

فمن هذا قول عكرمة‏:‏ الشجرة تُسبح، والاسطوانة لا تُسبح‏.‏ قال يزيد الرقاشي للحسن- وهما في طعام، وقد قدّم الخِوان-‏:‏ أيسبح هذا الخوان يا أبا سعيد‏؟‏ فقال‏:‏ قد كان يُسبح مدة‏.‏ يريد أن الشجرة، في زمان نموها واغتذائها، تُسَبح‏.‏ وقد صارت خوانًا أو نحوه، أي‏:‏ صارت جمادًا‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ هذا التسبيح حقيقة، وكل شيء، على العموم، يُسبح تسبيحًا لا يسمعه البشر ولا يفقهه، ولو كان التسبيح ما قاله الآخرون؛ من أنه أثر الصنعة، لكان أمرًا مفهومًا، والآية تنطق بأنه لا يُفقه، وينفصل عنه؛ بأن يريد بقوله‏:‏ ‏{‏لا تفقهون‏}‏‏:‏ الكفار والغفلة، أي‏:‏ أنهم يُعرضون عن الاعتبار؛ فلا يفقهون حكمة الله في الأشياء‏.‏ ه‏.‏

قال شيخ شيوخنا؛ سيدي عبد الرحمن العارف‏:‏ وربما يدل للعموم تسبيح الحصى في يده- عليه الصلاة والسلام-، وكذا حنين الجذع ومحبة أُحد، وكذا تسبيح الطعام‏.‏ وأما التخصيص بالناميات؛ من نبات غير يابس، وحجر متصل بموضعه، فهو خصوص تسبيح بالاستمداد إلى الحياة، ولا ينتفي مطلق الاستمداد؛ لأن الجماد يستمد الوجود وبقاءه من الله، فهو عام، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏ياجبال أَوِّبِي مَعَهُ‏}‏ ‏[‏سَبَأ‏:‏ 10‏]‏، وتدبر حنين الجذع‏.‏ ه‏.‏ وسيأتي في الإشارة بقية كلام عليه، وقال البيضاوي أيضًا في قوله‏:‏ ‏{‏ولكن لا تفقهون تسبيحهم‏}‏ أيها المشركون؛ لإخلالكم بالنظر الصحيح الذي به يفهم التسبيح‏.‏ ويجوز أن يحمل التسبيح على المشترك من اللفظ والدلالة؛ لإسناده إلى ما يتصور منه اللفظ، وإلى ما لا يتصور منه، وعليهما، أي‏:‏ ويحمل- عند من جوز إطلاق اللفظ على معنييه‏.‏ ه‏.‏

‏{‏إِنه كان حليمًا‏}‏؛ حيث لم يُعاجلكم بالعقوبة، مع ما أنتم عليه من موجباتها؛ من الإعراض عن النظر في الدلائل الواضحة، الدالة على التوحيد، والانهماك في الكفر والإشراك، ‏{‏غفورًا‏}‏ لمن تاب منكم‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

الإشارة‏:‏ كل ما دخل عالم التكوين من العرش إلى الفرش، أو ما قُدر وجوده من غيرهما؛ كله قائم بين حس ومعنى، بين عبودية وربوبية، بين قدرة وحكمة‏.‏ فالحس محل العبودية، فيه تظهر قهرية الربوبية، والمعنى هو أسرار الربوبية القائمة بالأشياء، فالأشياء كلها تنادي بلسان معناها، وتقول‏:‏ سبحانه ما أعظم شأنه، ولكن لا يفقه هذا التسبيح إلا من خاض بحار التوحيد، وغاص في أسرار التفريد‏.‏

فالأشياء ثابتة بإثباته، ممحوة بأحدية ذاته، قائمة من حيث حسها، ممحوة من حيث معناها، ولا وجود للحس من ذاته، وإنما هو رداء لكبرياء ذاته‏.‏ وفي الحديث، في وصف أهل الجنة‏:‏ «وليس بينهم وبين أن ينظروا إلى الرحمن إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن» فمن خرق حجاب الوهم، وفنى عن دائرة الحس في دار الدنيا، لم يحتجب الحق تعالى عنه في الدارين طرفة عين‏.‏ فتحصل أن الأشياء كلها تُسبح من جهة معناها بلسان المقال، ومن جهة حسها بلسان الحال، وتسبيحها كما ذكرنا‏.‏ ولا يذوق هذا إلا من صحب العارفين الكبار، حتى يخرجوه عن دائرة حس الأكوان إلى شهود المكون‏.‏ وحسب من لم يصحبهم التسليم، كما قال القائل‏:‏

إذا لَمْ تَرَ الْهِلاَلَ فَسَلِّمْ *** لأُناسٍ رَأَوْهُ بِالأبْصارِ

والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 49‏]‏

‏{‏وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا ‏(‏45‏)‏ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآَنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا ‏(‏46‏)‏ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا ‏(‏47‏)‏ انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا ‏(‏48‏)‏ وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا ‏(‏49‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏أن يفقهوه‏}‏‏:‏ مفعول من أجله، أي كراهة أن يفقهوه، و‏{‏نفورًا‏}‏‏:‏ مصدر في موضع الحال‏.‏ والضمير في ‏{‏به‏}‏‏:‏ يعود على «ما»، أي‏:‏ نحن أعلم بالأمر الذي يستمعون به من الاستهزاء والسخرية‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وإِذا قرأتَ القرآنَ‏}‏ الناطق بالتنزيه والتسبيح، ودعوتهم إلى العمل بما فيه؛ من التوحيد، ورفض الشرك، وغير ذلك من الشرائع، ‏{‏جعلنا‏}‏ بقدرتنا ومشيئتنا المبنية على دواعي الحِكَمِ الخفية ‏{‏بينَك وبين الذين لا يُؤمنون بالآخرة‏}‏، خَصَّ الآخرة بالذكر من بين سائر ما كفروا به؛ دلالة على أنها معظم ما أمروا بالإيمان به، وتمهيدًا لما سينقل عنهم من إنكار البعث، أي‏:‏ جعلنا بينك وبينهم ‏{‏حجابًا‏}‏ يمنعهم عن فهمه والتدبر فيه، ‏{‏مستورًا‏}‏ عن الحس، خفيًا، معنويًا، وهو الران الذي يَسْبَحُ على قلوبهم من الكفر، والانهماك في الغفلة‏.‏ أو‏:‏ ذا ستر، كقوله‏:‏ ‏{‏وَعْدُهُ مَأْتِيًّا‏}‏ ‏[‏مريَم‏:‏ 61‏]‏، أي‏:‏ آتيًا، فهو ساتر لقلوبهم عن الفهم والتدبر‏.‏

نَفَى عنهم فقه الآيات، بعد ما نفى عنهم فقه الدلالات المنصوبة في الأشياء؛ بيانًا لكونهم مطبوعين على الضلالة، كما صرح به في قوله‏:‏ ‏{‏وجعلنا على قلوبهم أَكِنَّةً‏}‏؛ أغطيةً تكنها، وتحول بينها وبين إدراك الحق وقبوله‏.‏ فعلنا ذلك بهم؛ كراهة ‏{‏أنْ يفقهوه‏}‏، ‏{‏و‏}‏ جعلنا ‏{‏في آذانهم وقرًا‏}‏؛ ثقلاً وصممًا يمنعهم من استماعه‏.‏ ولمَّا كان القرآن معجزًا من حيث اللفظ والمعنى، أثبت لمنكريه ما يمنع عن فهم المعنى وإدراك اللفظ‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏

‏{‏وإِذ ذكرتَ ربك في القرآن وحده‏}‏ أي‏:‏ واحدًا غير مشفوع به آلهتهم، ‏{‏وَلَّوْا على أدبارهم نُفورًا‏}‏؛ هَرَبا من استماع التوحيد، والمعنى‏:‏ وإذا ذكرت في القرآن وحدانية الله تعالى، فرَّ المشركون عن ذلك؛ لما في ذلك من رفض آلهتهم وذمها‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏نحن أعلم بما يستمعون به‏}‏ أي‏:‏ بالأمر الذي يستمعون به؛ من الاستهزاء، وكانوا يستمعون القرآن على وجه الاستهزاء، ‏{‏وإِذْ هم نجوى‏}‏ أي‏:‏ ونحن أعلم بغرضهم، حين همَّ جماعة ذات نجوى، يتناجون بينهم ويخفون ذلك‏.‏ ثم فسر نجواهم بقوله‏:‏ ‏{‏إذْ يقول الظالمون‏}‏، وضع الظالمين موضع الضمير؛ للدلالة على أن تناجيهم بقولهم هذا محض ظلم، أي‏:‏ إذ يقولون‏:‏ ‏{‏إِن تتبعون إِلا رجلاً مسحورًا‏}‏؛ مجنونًا قد سُحر حتى زال عقله‏.‏

‏{‏انظر كيف ضربوا لك الأمثال‏}‏، مثلوك بالساحر، والشاعر، والكاهن، والمجنون، ‏{‏فضلُّوا‏}‏ عن الحق في جميع ذلك، ‏{‏فلا يستطيعون سبيلاً‏}‏ إلى الهدى، أو إلى الطعن فيما جئتَ به بوجه؛ فهم يتهافتون، ويخبطون، كالمتحير في أمره لا يدري ما يفعل‏.‏ ونزلت في الوليد بن المغيرة وأصحابه من الكفار‏.‏

‏{‏وقالوا أئذا كنا عظامًا ورُفاتًا أئنا لمبعوثون خلقًا جديدًا‏}‏، أنكروا البعث، واستبعدوا أن يجعلهم خلقًا جديدًا، بعد فنائهم وجعلهم ترابًا‏.‏ والرفات‏:‏ الذي بلي، حتى صار غبارًا وفتاتًا‏.‏ و«أئذا»‏:‏ ظرف، والعامل فيه‏:‏ ما دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏لمبعوثون‏}‏، لا نفسه؛ لأن ما بعد «إن» والهمزة، لا يعمل فيما قبله، أي‏:‏ أنُبعث إذا كنا عظامًا‏.‏‏.‏‏.‏ الخ‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ قد تقدم في سورة «الأنعام» تفسير الأكنة التي تمنع من فهم القرآن والتدبر فيه، والتي تمنع من الشهود والعيان، فراجعه، إن شئت‏.‏ وفي الآية تسلية لمن أوذي من الصوفية فرُمِيَ بالسحر أو غيره‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏50- 52‏]‏

‏{‏قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا ‏(‏50‏)‏ أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا ‏(‏51‏)‏ يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏52‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏قريباً‏}‏‏:‏ خبر كان، أو ظرف له؛ على أن «كان» تامة، أي‏:‏ عسى أن يقع في زمن قريب‏.‏ و‏{‏أن يكون‏}‏‏:‏ إما‏:‏ اسم «عسى» وهي تامة، أو خبرها، والاسم مضمر، أي‏:‏ عسى أن يكون البعث قريبًا، أو‏:‏ عسى أن يقع في زمن قريب‏.‏ و‏{‏يوم يدعوكم‏}‏‏:‏ منصوب بمحذوف؛ اذكروا يوم يدعوكم‏.‏ أو‏:‏ بدل من «قريب»؛ على أنه ظرف‏.‏ انظر أبا السعود‏.‏ و‏{‏بحمده‏}‏‏:‏ حال من ضمير ‏{‏تستجيبون‏}‏، أي‏:‏ منقادين له، حامدين له، لما فعل بكم‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏قلْ‏}‏ يا محمد لمن أنكر البعث‏:‏ ‏{‏كُونوا حجارة أو حديدًا أو خلقًا‏}‏ آخر ‏{‏ممَا يكْبُرُ‏}‏ أي‏:‏ يعظم ‏{‏في صدوركم‏}‏ عن قبول الحياة، فإنكم مبعوثون ومُعادون لا محالة، أي‏:‏ لو كنتم حجارة أو حديدًا، أو شيئًا أكبر عندكم من ذلك، وأبعد من الحياة، لقدرنا على بعثكم؛ إذ القدرة صالحة لكل ممكن‏.‏ ومعنى الأمر هنا‏:‏ التقدير، وليس للتعجيز، كما قال بعضهم‏.‏ انظر ابن جزي، ‏{‏فسيقولون مَن يُعيدنا‏}‏ إلى الحياة مرة أخرى، مع ما بيننا وبين الإعادة، من مثل هذه المباعدة‏؟‏ ‏{‏قل الذي فطركم أول مرةٍ‏}‏ ولم تكونوا شيئًا؛ لأن القادر على البدء قادر على الإعادة، بل هي أهون، ‏{‏فسيُنْغِضُون‏}‏؛ يُحركون ‏{‏إِليك رؤوسَهم‏}‏؛ تعجبًا واستهزاءً، ‏{‏ويقولون‏}‏؛ استهزاء‏:‏ ‏{‏متى هو‏}‏ أي‏:‏ البعث، ‏{‏قل عسى أن يكون قريبًا‏}‏، فإنَّ كل ما هو آتٍ قريب‏.‏

واذكروا ‏{‏يومَ يدعوكم‏}‏؛ يناديكم من القبور على لسان إسرافيل، ‏{‏فتستجيبونَ‏}‏ أي‏:‏ فتبعثون من القبور ‏{‏بحمده‏}‏؛ بأمره، أو ملتبسين بحمده، حامدين له على كمال قدرته، عند مشاهدة آثارها، ومعاينة أحكامها، كما قيل‏:‏ إنم يقومون ينفضون التراب عن رؤوسهم، ويقولون‏:‏ سبحانك اللهم وبحمدك، ‏{‏وتظنون إِن لبثتم‏}‏؛ ما لبثتم في الدنيا ‏{‏إِلا قليلاً‏}‏؛ لما ترون من الهول، أو تستقصرون مدة لبثكم في القبور، كالذي مرَّ على قرية‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ مَن كان قلبه أقسى من الحجارة والحديد، واستغرب أن يُنقذه الله من شهوته، وأن يخرجه من وجود جهالته وغفلته، فقُل لهم‏:‏ كونوا حجارة أو حديدًا، أو خلقًا أكبر من ذلك، فإن الله قادر على أن يُحيي قلوبكم بمعرفته، ويُلينها بعد القساوة، بسبب شرب خمرته‏.‏ فسيقولون‏:‏ من يُعيدنا إلى هذه الحالة‏؟‏ قل‏:‏ الذي فطركم على توحيده أول مرة، حين أقررتم بربوبيته، يوم أخذ الميثاق‏.‏ فسَيُنْغضون إليك رؤوسهم؛ تعجبًا واستغرابًا، ويقولون‏:‏ متى هو هذا الفتح‏؟‏‏!‏ قل‏:‏ عسى أن يكون قريبًا؛ يوم يدعوكم إلى حضرته بشوق مقلق، أو خوف مزعج، بواسطة شيخ عارف، أو بغير واسطة، فتستجيبون بحمده ومنته، وتظنون إن لبثتم في أيام الغفلة إلا قليلاً؛ فتلين قلوبكم، وتطمئن نفوسكم، وتنشرح صدوركم، وتحسن أخلاقكم، فلا تخاطبون العباد إلا بالتي هي أحسن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏53- 55‏]‏

‏{‏وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا ‏(‏53‏)‏ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا ‏(‏54‏)‏ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ‏(‏55‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وقل لعبادي‏}‏ المؤمنين‏:‏ ‏{‏يقولوا‏}‏ للمشركين الكلمة ‏{‏التي هي أحسنُ‏}‏ ولا تخاشنوهم، ‏{‏إِن الشيطان يَنْزَغُ بينهم‏}‏؛ يهيج بينهم الجدال والشر، فلعل المخاشنة لهم تُفضي إلى العناد وازدياد الفساد‏.‏ وكان هذا بمكة، قبل الأمر بالقتال، ثم نُسخ‏.‏ وقيل‏:‏ في الخطاب من المؤمنين بعضهم لبعض، أمرهم أن يقولوا، فيما بينهم، كلامًا لينًا حسنًا‏.‏ ‏{‏إِن الشيطانَ ينزَغ بينهم‏}‏ العداوة والبغضاء؛ ‏{‏إِنَّ الشيطان كان للإِنسان عدوًا مبينًا‏}‏؛ ظاهر العداوة‏.‏

يقولون لهم في المخاطبة الحسنة‏:‏ ‏{‏ربكم أعلمُ إِن يشأ يرحمْكُم‏}‏ بالتوبة والإيمان، ‏{‏أو إِن يشأ يُعذِّبكُم‏}‏ بالموت على الكفر‏.‏ وهذا تفسير للكلمة التي هي أحسن، وما بينهما اعتراض، أي‏:‏ قولوا هذه الكلمة ونحوها، ولا تصرحوا بأنهم من أهل النار؛ فإنه يثير الشر، مع أن ختام أمرهم غيب‏.‏ ‏{‏وما أرسلناك عليهم وكيلاً‏}‏؛ موكولاً إليك أمرهم، فتجبرهم على الإيمان، وإنما أَرْسلْنَاكَ مبشرًا ونذيرًا، فَدارهِم، ومُر أصحابك باحتمال الأذى منهم‏.‏ رُوي أن المشركين أفرطوا في إيذائهم؛ فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت، وقيل‏:‏ شتم رجل عمر رضي الله عنه، فهمَّ به، فأمره الله بالعفو‏.‏

‏{‏وربك أعلمُ بمن في السماوات والأرض‏}‏ وبأحوالهم، فيختار منهم لنبوته وولايته من يشاء‏.‏ وهو رد لاستبعاد قريش أن يكون يتيم أبي طالب نبيًا، وأن يكون العُراة الجياع أصحابه‏.‏ ‏{‏ولقد فضّلنا بعض النبيين على بعض‏}‏ بالفضائل النفسانية، والتفرغ من العلائق الجسمانية، لا بكثرة الأموال والأتباع، حتى يستبعدوا نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لقلة ماله، وضعف أصحابه؛ فإن سيدنا داود عليه السلام كان مثله في قلة ماله وأتباعه، ثم قواه بالملك والنبوة‏.‏ ولذا قال‏:‏ ‏{‏وآتينا داود زبورًا‏}‏؛ وقيل‏:‏ هو إشارة إلى تفضيل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإنه مذكور في الزبور، وهو أنه خاتم الأنبياء، وأمته خير الأمم، وأنهم يرثون الأرض بالفتح عليهم؛ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور مِن بَعْدِ الذكر أَنَّ الأرض يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصالحون‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 105‏]‏‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ من أوصاف الصوفية- رضي الله عنهم- أنهم هينون لينون كلَّفة حرير، لا ينطقون إلا بالكلام الحسن، ولا يفعلون إلا ما هو حسن، ويفرحون ولا يحزنون وينبسطون ولا ينقبضون‏.‏ من رأوه مقبوضًا بسطوه، ومن رأوه حزينًا فرّحوه، ومن رأوه جاهلاً أرشدوه بالتي هي أحسن‏.‏ وهم متفاوتون في هذا الأمر، مفضل بعضهم على بعض في الأخلاق والولاية، فكل من زاد في الأخلاق الحسنة زاد تفضيله عند الله‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «إنَّ الرَّجلُ لَيُدرِكُ؛ بحُسْن الخلُق، دَرَجََة الصَائِم النهار، القَائِمِ اللَّيْل» وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏56- 57‏]‏

‏{‏قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا ‏(‏56‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا ‏(‏57‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏‏:‏ مبتدأ، و‏{‏الذين يدعون‏}‏‏:‏ صفته، و‏{‏يبتغون‏}‏‏:‏ خبره‏.‏ وضمير «يدعون»‏:‏ للكفار، وفي «يبتغون»‏:‏ للآلهة المعْبُودين، وقيل‏:‏ الضمير في «يدعون» و«يبتغون»‏:‏ للأنبياء المذكورين قبلُ في قوله‏:‏ ‏{‏فضَّلنا بعض النبيين على بعض‏}‏، والوسيلة‏:‏ ما يتوسل به ويتقرب إلى الله، و‏{‏أيهم‏}‏‏:‏ بدل من فاعل ‏{‏يبتغون‏}‏، و«أيّ»‏:‏ والوسيلة‏:‏ ما يتوسل به ويتقرب إلى اللهِ، و‏{‏أيهم‏}‏‏:‏ بدل من فاعل ‏{‏يبتغون‏}‏، و«أيّ»‏:‏ موصولة، أي‏:‏ يبتغي من هو أقرب إليه تعالى-الوسيلة-، فكيف بمن دونه‏؟‏ أو ضمَّنَ معنى يبتغون‏:‏ يحرصون، أي‏:‏ يحرصون أيهم يكون إليه تعالى أقرب‏؟‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏قلْ‏}‏ لهم‏:‏ ‏{‏ادعوا الذين زعمتم‏}‏ أنهم آلهة تعبدونهم ‏{‏من دونه‏}‏ كالملائكة والمسيح وعُزير، أو كالأصنام والأوثان، ‏{‏فلا يملكون‏}‏؛ لا يستطيعون ‏{‏كشف الضر عنكم‏}‏، كالمرض والفقر والقحطِ، ‏{‏ولا تحويلاً‏}‏ لذلك عنكم إلى غيركم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك الذين يدعون‏}‏ أنهم آلهة، هم في غاية الافتقار إلى الله والتوسل إليه، كلهم ‏{‏يبتغون إِلى ربهم الوسيلةَ‏}‏ أي‏:‏ التقرب بالطاعة، ويحرصون ‏{‏أيهم أقربُ‏}‏ إلى الله من غيره، فكيف يكونون آلهة‏؟‏ أو‏:‏ أولئك الذين يدعونهم آلهة، يطلبون إلى ربهم الوسيلة بالطاعة، يطلبها أيهم أقرب، أي‏:‏ الذي هو أقرب، فكيف بغير الأقرب‏؟‏ ‏{‏ويرجون رحمته ويخافون عذابه‏}‏ كسائر العباد، فكيف يزعمون أنهم آلهة‏؟‏ ‏{‏إن عذاب ربك كان محذورًا‏}‏؛ مخوفًا، أي‏:‏ حقيقًا بأن يحذره كل أحد، حتى الرسل والملائكة‏.‏ أعاذنا الله من جميعه‏.‏ رمين‏.‏

الإشارة‏:‏ كل ما دخل عالم التكوين لزمته القهرية والعبودية، فهو عاجز عن إصلاح نفسه، فكيف يصلح غيره‏؟‏ ولا يستطيع أن يدفع عن نفسه، فكيف يدفع عن غيره‏؟‏ فارفع همتك، أيها العبد، إلى مولاك، وأنزل حوائجك كلها به دون أحد سواه، فكل ما سواه مفتقر إليه، والفقير المضطر لا ينفع نفسه، فكيف ينفع غيره‏؟‏ والله يتولى هداك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ‏(‏58‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وإِن من قرية‏}‏ أي‏:‏ أهلها، ‏{‏إلا نحن مُهلكوها قبلَ يوم القيامة‏}‏؛ بالموت والاستئصال، ‏{‏أو مُعذبوها عذابًا شديدًا‏}‏؛ بالقتل وغيره، ‏{‏كان ذلك في الكتاب‏}‏؛ في اللوح المحفوظ ‏{‏مسطورًا‏}‏؛ مكتوبًا‏.‏ وقال في المستخرج‏:‏ وإن من قرية إلا نحن مهلكوها؛ الصالحة بالإفناء، والطالحةُ بالبلاء، أو معذبوها بالسيف؛ إذا ظهر فيهم الزنى والربا‏.‏ ه‏.‏ قال ابن جزي‏:‏ رُوي أن هلاك مكة بالحبشة، والمدينة بالجوع، والكوفة بالترك، والأندلس بالخيل‏.‏ ثم قال‏:‏ وأما هلاك قرطبة وأشبيلية وطُليطلة وغيرها، فبأخذ الروم لها‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ قد استولى العدو على الأندلس كلها فهو خرابها‏.‏ أعاد الله عمارتها بالإسلام‏.‏ آمين‏.‏

وقال في حُسْن المحاضرة‏:‏ وأخرج الحاكم في المستدرك عن كعب قال‏:‏ الجزيرة آمنة من الخراب حتى تخرب أرمينية- والجزيرة أرض بالبصرة، وموضع باليمامة، لا جزيرة الأندلس- ثم قال‏:‏ ومصر آمنة من الخراب حتى تخرب الجزيرة‏:‏ والكوفة آمنة من الخراب حتى تخرب مصر، ولا تكون الملحمة حتى تخرب الكوفة، ولا تفتح مدينة الكفر حتى تكون الملحمة، ولا يخرج الدجال حتى تُفتح مدينة الكفر‏.‏ قال‏:‏ وأخرج الديلمي في مسند الفردوس، وأورده القرطبي في التذكرة من حديث حذيفة مرفوعًا‏:‏ يبدو الخراب في أطراف الأرض، حتى تخرب مصر، ومصر آمنة من الخراب حتى تخرب البصرة، وخراب البصرة من العراق، وخراب مصر من جفاف النيل، وخراب مكة من الحبشة، وخراب المدينة من الجوع، وخراب اليمن من الجراد، وخراب الأُبُلَّةِ من الحِصار، وخراب فارس من الصعاليك، وخراب الترك من الديلم، وخراب الديلم من الأرمن، وخراب الأرمن من الخَرز، وخراب الخرز من الترك، وخراب الترك من الصواعق، وخراب السند من الهند، وخراب الهند من الصين، وخراب الصين من الرمل، وخراب الحبشة من الرجفة، وخراب العراق من القحط‏.‏ ه‏.‏

قلت‏:‏ وسكت عن المغرب، ولعله المعنِيُّ بقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الحَقِّ حَتَّى يَأتِي أمْرُ اللهِ» زاد في رواية‏:‏ وهم أهل المغرب، ورجحه صاحب المدخل، قال‏:‏ لأنهم متمسكُون بالسنة أكثر من المشرق‏.‏ والله تعالى أعلم بغيبه‏.‏

الإشارة‏:‏ القرية محل تقرر السر، وهو القلب، فإما أن يُهلكه الله بالتلف والضلال، وإما أن يُعذبه عذابًا شديدًا؛ بالمجاهدات والمكابدات، ثم ينعمه نعيمًا كبيرًا بالمشاهدات والمناجاة‏.‏ كان ذلك في الكتاب مسطورًا، فريق في الجنة وفريق في السعير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

‏{‏وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآَيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآَتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا ‏(‏59‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏أنْ نرسل‏}‏‏:‏ مفعول «منعنا»، و‏{‏إلا أن كَذَّب‏}‏‏:‏ فاعل‏.‏ يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ وما صَرَفَنَا عن إرسال الآيات التي اقْتَرَحَتْهَا قريش بقولهم‏:‏ اجعل لنا الصّفَا ذَهَبًا، إلا تكذيب الأولين بها، فهلكوا، وهم أمثالهم في الطبع، كعاد وثمود، وأنها لو أرسلت لكذبوها، فيهلكوا أمثالهم، كما مضت به سنتُنا، وقد قضينا في أزلنا ألا نستأصلهم؛ لأن فيهم من يُؤمن، أو يلد من يؤمن‏.‏

ثم ذكر بعض الأمم المهلكة بتكذيب الآيات المقترحة فقال‏:‏ ‏{‏وآتينا ثمودَ الناقةَ‏}‏ بسبب سؤالهم، ‏{‏مُبصرةً‏}‏؛ بينة ذات إبصار، أو بصائر واضحة الدلالة، يُدركها كلُّ من يبصرها‏.‏ ‏{‏فظلموا بها‏}‏؛ فكفروا بها، أو‏:‏ فظلموا أنفسهم بسبب عقرها، فهلكوا، ‏{‏وما نُرسل بالآياتِ‏}‏ المقترحة ‏{‏إِلا تخويفًا‏}‏ من نزول العذاب المستأصِلِ، فإن لم يخافوا نزل بهم، أو‏:‏ وما نرسل بالآيات غير المقترحة، كالمعجزات وآيات القرآن، إلا تخويفًا بعذاب الآخرة؛ فإن أمر من بعث إليهم مؤخر إلى يوم القيامة‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏

قال في الحاشية‏:‏ ومقتضى حديث الكسوف، وقوله فيه‏:‏ «ذلك يُخوف بهما عبادة»‏:‏ أن التخويف لا يختص بالخوارق، بل يعم غيرها، مما هو معتاد نفيه، ويأتي غِبا‏.‏ وفي الوجيز‏:‏ ‏(‏بالآيات‏)‏ أي‏:‏ العبر والدلالات‏.‏ وفي الورتجبي‏:‏ الآيات هي‏:‏ الشباب والكهولة والشيبة، وتقلب الأحوال بك، لعلك تعتبر بحال، أو تتعظ بوقت‏.‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ إمساك الكرامات عن المريد السائر أو الولي‏:‏ رحمة واعتناء به، فلعله؛ حين تظهر له، يقف معها ويستحسن حاله، أو يزكي نفسه ويرفع عنها عصا التأديب، فيقف عن السير، ويُحرم الوصول إلى غاية الكمال، وفي الحكم‏:‏ «ما أرادت همة سالك أن تقف عندما كشف لها، إلاّ نادته هواتف الحقيقة‏:‏ الذي تطلب أمامك»‏.‏ وقال الششتري رضي الله عنه‏:‏

ومهما ترى كلَّ المراتِبِ تجتلي *** عليْكَ فحُلْ عنها فعَن مِثْلها حُلْنا

وقُلْ ليْس لي في غَيْر ذاتِكَ مَطْلبٌ *** فلا صورةٌ تُجْلى ولا طُرْفَةٌ تُجْنى

ولما نزّه تعالى نفسه في أول السورة عن الجهة، التي تُوهمها قضيةُ الإسراء، صَرَّحَ هنا بأنه محيط بكل مكان وزمان، لا يختص بمكان دون مكان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآَنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا ‏(‏60‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وإِذْ قلنا لك‏}‏ فيما أوحينا إليك ‏{‏إِنَّ ربك أحَاطَ بالناس‏}‏ علماً وقدرة، وأسراراً وأنواراً، كما يليق بجلاله وتجليه، فلا يختص بمكان ولا زمان، بل هو مظهر الزمان والمكان، وقد كان ولا زمان ولا مكان، وهو الآن على ما عليه كان، ‏{‏وما جعلنا الرؤيا التي أريناك‏}‏ في قضية الإسراء، قال ابن عباس‏:‏ «هي رؤيا عين» حيث رأى أنوار جبروته في أعلى عليين، وشاهد أسرار ذاته أريناك ذلك في ذلك المكان ‏{‏إلا فتنةً للناس‏}‏؛ اختباراً لهم، من يصدق بذلك ولا يكيف، ومن يجحده من الكفرة‏.‏ ومن يقف مع ظاهره، فيقع في التجسيم والتحييز، ومن تنهضه السابقة إلى التعشق؛ فيجاهد نفسه حتى تعرج روحه إلى عالم الملكوت، فتكاشف بإحاطة أسرار الذات بكل شيء‏.‏

وإنما خص الحق تعالى إحاطته بالناس، مع أنه محيط بكل شيء، كما في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏أَلآ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطُ‏}‏ ‏[‏فُصِّلَت‏:‏ 54‏]‏؛ لأنهم المقصودون بالذات من هذا العالم، وما خلق إلا لأجلهم‏.‏ فاكتفى بالإحاطة بهم عن إحاطته بكل شيء‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏والشجرة الملعونة في القرآن‏}‏ وهي‏:‏ شجرة الزقوم، أي‏:‏ ما جعلناها إلا فتنة للناس‏.‏ وذلك أن قريشاً لما سمعوا أن في جهنم شجرة الزقوم، سخروا من ذلك، فافتتنوا بها، حيث أنكروها، وكفروا بالقرآن، وقالوا‏:‏ كيف تكون شجرة في النار، والنار تحرق الشجر‏؟‏‏!‏ وقفوا مع الإلف والعادة، ولم ينفذوا إلى عموم تعلق القدرة‏.‏ ومن قدر على حفظ وبر السَّمَنْدَل منها، وهو يمشي فيها، قدر على أن يخلق في النار شجرة، ولم تحرقها‏.‏ وقال أبو جهل‏:‏ ما أعرف الزقوم إلا التمر بالزبد‏.‏ فإن قيل‏:‏ أين لُعِنت شجرة الزقوم في القرآن‏؟‏ فالجواب‏:‏ أن المراد لعنة آكلها، وقيل‏:‏ إن اللعنة هنا بمعنى الإبعاد، وهي في أصل الجحيم‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏ونُخوِّفهم‏}‏ بأنواع التخويف، أو بالزقوم، ‏{‏فما يزيدُهُم إِلا طغيانًا كبيرًا‏}‏؛ عنوًا مجاوزاً للحد‏.‏

الإشارة‏:‏ الأكوان ثابتة بإثباته، ممحوة بأحدية ذاته‏.‏ فإذا انمحت الأكوان ثبتت وحدة المكون‏.‏ «كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما كان عليه»، من قامت به الأشياء، وهو وجودها ونور ذاتها، ومحيط بها، كيف تحصره، أو تحيزه، أو تحول بينه وبين موجوداته‏؟‏ قيل لسيدنا علي- كرم الله وجهه-‏:‏ يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أين كان ربنا قبل خلق الأشياء‏؟‏ فتغير وجهه، وسكت، ثم قال‏:‏ قولكم‏:‏ أين‏؟‏ يقتضي المكان، وكان الله ولا زمان ولا مكان، وهو الآن على ما عليه كان‏.‏ ه‏.‏

وقال الشيخ الشاذلي‏:‏ ‏(‏قيل لي‏:‏ يا عليّ؛ بي قُلْ، وعليّ دُل، وأنا الكل‏)‏‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «لاَ تَسُبُّوا الدَهْرَ، فَإنَّ الله هُوَ الدَّهْرُ، بِيَده الليْلُ والنَّهَار»، ولا يفهم هذا على التحقيق إلا أهل الذوق، بصحبة أهل الذوق‏.‏ وإلا فسلِّم تسلم، واعتقد التنزيه وبطلان التشبيه‏.‏ وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏61- 64‏]‏

‏{‏وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا ‏(‏61‏)‏ قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏62‏)‏ قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا ‏(‏63‏)‏ وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ‏(‏64‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏طينًاً‏}‏‏:‏ منصوب على إسقاط الخافض، أو‏:‏ حال من الراجع إلى الموصول، و‏{‏أرأيتك‏}‏‏:‏ الكاف للخطاب، لا موضع لها‏.‏ وتقدم الكلام عليه في سورة الأنعام‏.‏ و‏{‏هذا‏}‏‏:‏ مفعول «أرأيت»، و‏{‏جزاء‏}‏‏:‏ مصدر، والعامل فيه‏:‏ «جزاؤكم»، فإنَّ المصدر ينصب بمثله أو فعله أو وصفه، وقيل‏:‏ حال موطئة لقوله‏:‏ «موفورًا»‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏و‏}‏ اذكر ‏{‏إِذْ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إِلا إِبليسَ‏}‏ امتنع، و‏{‏قال أأسجدُ لمن خلقتَ طينًا‏}‏ أي‏:‏ من طين؛ فهو أصله من الطين، وأنا أصلي من النار، فكيف أسجد له وأنا خير منه‏؟‏‏!‏ ثم ‏{‏قال‏}‏ إبليس‏:‏ ‏{‏أَرَأيْتكَ هذا الذي كرمتَ عليَّ‏}‏ أي‏:‏ أخبرني عن هذا الذي كرمته عليّ؛ بأمري بالسجود له، لِمَ كرمتَه عليّ‏؟‏ ‏{‏لئن أخرتنِ‏}‏ أي‏:‏ والله لئن أخرتنِ ‏{‏إِلى يوم القيامة لأَحْتَنِكَنّ‏}‏؛ لأستأصلن؛ من احتنكت السَّنةُ أموالَهم؛ أي‏:‏ استأصلتها‏.‏ أي‏:‏ لأهلكن ‏{‏ذريتَه‏}‏؛ بالإغواء والإضلال، ‏{‏إِلا قليلاً‏}‏؛ أو‏:‏ لأميلنهم وأَقُودَنَّهُمْ، مأخوذ من تحنيك الدابة، وهو أن يشد على حنكها بحبل فتنقاد‏.‏ أي‏:‏ لأقودنهم إلى عصيانك، إلا قليلاً، فلا أقدر أن أقاوم شكيمتهم؛ لمَا سبق لهم من العناية‏.‏

قال ابن عطية‏:‏ وحَكَمَ إبليس على ذرية آدم بهذا الحكم؛ من حيث رأى الخِلْقَةَ مجوفةً مختلفةَ الأجزاءِ، وما اقترن بها من الشهوات والعوارض؛ كالغضب ونحوه، ثم استثنى القليل؛ لعلمه أنه لا بد أن يكون في ذريته من يصلب في طاعة الله‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ إنما يحتاج إلى هذا‏:‏ من وقف مع ظاهر الحكمة في عالم الحس، وأما من نفذ إلى شهود القدرة في عالم المعاني‏:‏ فلا‏.‏

‏{‏قال‏}‏ تعالى‏:‏ ‏{‏اذهبْ‏}‏؛ امض لما قصدته، وهو طرد وتخلية لما بينه وبين ما سولت له نفسه‏.‏ ‏{‏فمن تبعك منهم فإِنَّ جهنم جزاؤكم‏}‏؛ التفت إلى الخطاب، وكان الأصل أن يقال‏:‏ جزاؤهم، بضمير الغيبة؛ ليرجع إلى ‏{‏من تبعك‏}‏، لكنه غلب المخاطب؛ ليدخل إبليس معهم، فتُجازون على ما فعلتم ‏{‏جزاء موفورًا‏}‏؛ وافرًا مكملاً، لا نقص فيه‏.‏ ‏{‏واستفزز‏}‏؛ استخفف، أو اخدع ‏{‏مَن استطعتَ منهم‏}‏ أن تستفز ‏{‏بصوتك‏}‏؛ بدعائك إلى الفساد، ‏{‏وأَجْلِبْ عليهم‏}‏ أي‏:‏ صِحْ عليهم، من الجلبة، وهي‏:‏ الصياح، ‏{‏بخَيْلكَ ورَجِلكَ‏}‏؛ أي‏:‏ بأعوانك؛ من راكب وراجل، قيل‏:‏ هو مجاز، أي‏:‏ افعل بهم جهدك‏.‏ وقيل‏:‏ إن له من الشياطين خيلاً ورجالاً‏.‏ وقيل‏:‏ المراد‏:‏ بيان الراكبين في طلب المعاصي، والماشين إليها بأرجلهم‏.‏ ‏{‏وشارِكْهمْ في الأموال‏}‏؛ بحملهم على كسبها وجمعها من الحرام، والتصرف فيها على ما لا ينبغي، كإنفاقها في المعاصي، ‏{‏والأولادِ‏}‏؛ بالحث على التوصل إلى الولد بالسبب الحرام، كالزنى وشبهه من فساد الأنكحة، وكتسمية الولد عبد شمس وعبد الحارث وعبد العُزّى‏.‏

وقال في الإحياء‏:‏ قال يونس بن زيد‏:‏ بلغنا أنه يُولد مع أبناء الإنس من أبناء الجن، ثم ينشأون معهم‏.‏

قال ابن عطية‏:‏ وما أدخله النّقَّاشُ؛ من وطء الجن، وأنه يحبل المرأة من الإنس، فضعيف كله‏.‏ ه‏.‏ قال في الحاشية‏:‏ وضَعْفُهُ ظاهر، والآية مشيرة لرده؛ لأنها إنما أثبتت المشاركة في الولد، لا في الإيلاء، فإنه لم يرد، ولو قيل به لكان ذريعة لفساد كبير، ولكان شبهة يُدْرَأُ بها الحد، ولا قائل بذلك‏.‏ وانظر الثعالبي الجزائري؛ فقد ذكر حكاية في المشاركة في الوطء عمن اتفق له ذلك، فالله أعلم‏.‏ وأما عكس ذلك؛ إيلاء الإنسي الجنية، فأمر لا يحيله العقل، وقد جاء الخبر به في أمر بلقيس‏.‏ قاله المحشي الفاسي‏.‏

‏{‏وعِدْهُمْ‏}‏ بأن لا بعث ولا حساب، أو المواعد الباطلة؛ كشافعة الآلهة‏.‏ والاتّكال على كرامة الآباء، وتأخير التوبة، وطول الأمل، ‏{‏وما يعدُهم الشيطانُ إِلا غرورًا‏}‏ وباطلاً‏.‏ والغرور‏:‏ تزيين الخطأ بما يُوهم أنه صواب‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏

الإشارة‏:‏ ينبغي لك أيها الإنسان أن تكون مضادًا للشيطان، فإذا امتنع من الخضوع لآدم فاخضع أنت لأولاد آدم؛ بالتواضع واللين، وإذا كان هو مجتهدًا في إغواء بني آدم بما يقدر عليه، فاجتهد أنت في نصحهم وإرشادهم، وتعليمهم ووعظهم وتذكيرهم، بقدر ما يمكنك، واستعمل السير إليهم بخيلك ورجلك، حتى تنقذهم من غروره وكيده‏.‏ وإذا كان هو يدلهم على الشرك الجلي والخفي، في أموالهم وأولادهم، فدُلَّهم أنت على التوحيد، والإخلاص، في اعتقادهم وأعمالهم وأموالهم‏.‏ وإذا كان يعدهم بالمواعد الكاذبة، فعدهم أنت بالمواعد الصادقة؛ كحسن الظن بالله، إن صحبه العمل بما يرضيه‏.‏ فإن فعلت هذا كنت من عباد الله الذين ليس له عليهم سلطان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏65- 69‏]‏

‏{‏إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا ‏(‏65‏)‏ رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ‏(‏66‏)‏ وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا ‏(‏67‏)‏ أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا ‏(‏68‏)‏ أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا ‏(‏69‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏أفأمنتم‏}‏‏:‏ الهمزة للتوبيخ، والفاء للعطف على محذوف، أي‏:‏ أنجوتم من البحر فأمنتم‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إِنَّ عبادي‏}‏ المخلصين، الذين يتوكلون عليَّ في جميع أمورهم، ‏{‏ليس لك عليهم سلطانٌ‏}‏ أي‏:‏ تسلط وقدرة على إغوائهم؛ حيث التجأوا إليَّ، واتخذوني وكيلاً؛ ‏{‏وكفى بربك وكيلاً‏}‏؛ حافظاً لمن توكل عليه، فيحفظهم منك ومن أتباعك‏.‏

ثم ذكر ما يحث على التعلق به، والتوكل عليه في جميع الأحوال الدينية والدنيوية، فقال‏:‏ ‏{‏ربكم الذي يُزجي‏}‏؛ يجري ‏{‏لكم الفلك‏}‏ ويسيرها ‏{‏في البحر لتبتغوا من فضله‏}‏ بالتجارة والربح، وجَلْبِ أنواع الأمتعة التي لا تكون عندكم، ‏{‏إِنه كان بكم رحيمًا‏}‏ في تسخيرها لكم؛ حيث هيأ لكم ما تحتاجون إليه في سيرها، وسهل عليكم ما يعسر من أسباب معاشكم ومعادكم‏.‏

‏{‏وإِذا مسَّكم الضرُّ في البحر‏}‏ يعني‏:‏ خوف الغرق، ‏{‏ضَلَّ‏}‏؛ غاب عنكم ‏{‏من تَدْعُون‏}‏؛من تعبدون من الآلهة‏.‏ أو‏:‏ من تستغيثون به في حوادثكم، ‏{‏إِلا إِيَّاه‏}‏ وحده، فإنكم حينئذ لا يخطرُ ببالكم سواه، ولا تدعون، لكشفه، إلا إياه، فكيف تعبدون غيره، وأنتم لا تجدون في تلك الشدة إلا إياه‏؟‏ ‏{‏فلما نجَّاكم‏}‏ من الغرق ‏{‏إِلى البر أعرضتم‏}‏ عن التوحيد، أو عن شكر النعمة، ‏{‏وكان الإِنسانُ كفورًا‏}‏ بالنعم، جحودًا لها، إلا القليل، وهو كالتعليل للإعراض‏.‏

‏{‏أفأمِنْتُم‏}‏ أي‏:‏ أنجوتم من البحر، وأمنتم ‏{‏أن يَخْسف بكم جانبَ البرِّ‏}‏؛ بأن يقلبه عليكم وأنتم عليه، أو يخسف بكم في جوفه، كما فعل بقارون، ‏{‏أو يُرسلَ عليكم حاصبًا‏}‏ أي‏:‏ ريحًا حاصبًا، يرميكم بحصباء كقوم لوط، ‏{‏ثم لا تجدوا لكم وكيلاً‏}‏؛ حافظاً لكم منه، فإنه لا رادّ لفعله‏.‏ ‏{‏أم أمنتم أن يُعيدكم فيه تارةً أخرى‏}‏؛ بأن يخلق فيكم دواعي تحملكم إلى أن ترجعوا لتركبوا فيه؛ ‏{‏فيُرسلَ عليكم قاصِفًا من الريح‏}‏ أي‏:‏ ريحًا شديدة، لا تمر بشيء إلا قصفته، أي‏:‏ كسرته، ‏{‏فيُغرقكم‏}‏، وعن يعقوب‏:‏ «فتغرقكم»؛ على إسناده إلى ضمير الريح‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو‏:‏ بنون التكلم في الخمسة‏.‏ يفعل ذلك بكم ‏{‏بما كفرتم‏}‏؛ بكفركم، أي‏:‏ بسبب إشراككم، أو كفرانكم نعمة الإنجاء، ‏{‏ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعًا‏}‏؛ مطالبًا يتبعنا بثأركم، كقوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 15‏]‏، أو‏:‏ لا تجدوا نصيرًا ينصركم منه‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ العباد الذين ليس للشيطان عليهم سلطان، هم الذين أضافهم إلى نفسه؛ بأن اصطفاهم لحضرة قدسه، وشغلهم بذكره وأُنسه، لم يركنوا إلى شيء سواه، ولم يلتجئوا إلاَّ إلى حماه‏.‏ فلا جرم أنه يحفظهم برعايته، ويكلؤهم بسابق عنايته‏.‏ فظواهرهم قائمة بآداب العبودية، وبواطنهم مستغرقة في شهود عظمة الربوبية‏.‏ فلمَّا قاموا بخدمة الرحمن، حال بينهم وبين كيد الشيطان، وقال لهم‏:‏ ربكم الذي يُزجي لكم فلك الفكرة في بحر الوحدة؛ لتبتغوا الوصول إلى حضرة الأحدية، إنه كان بكم رحيمًا‏.‏

ثم إذا غلب عليكم بحر الحقيقة، وغرقتم في تيار الذات، غاب عنكم كل ما سواه، وطلبتم منه الرجوع إلى بر الشريعة، فلما نجاكم إلى البر أعرضتم عن شهود السِّوى، وجحدتم وجوده، لكن القلوب بيد الرحمن، يُقلبها كيف شاء؛ فلا يأمن العارف من المكر، ولو بلغ ما بلغ، ولذلك قال‏:‏ أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر؛ فتغرقون في الحس، وتشتغلون بعبادة الحس، أو يُرسل عليكم حاصباً‏:‏ وارداً قَهَّارِيًّا، يُخرجكم عن حد الاعتدال، أم أمنتم أن يُعيدكم في بحر الحقيقة، تارة أخرى، بعد الرجوع للبقاء، فيرسل عليكم واردًا قهاريًا يُخرجكم عن حد الاعتدال، ويحطكم عن ذروة الكمال، ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعًا‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏70‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ‏(‏70‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ولقد كرَّمنا بني آدم‏}‏ قاطبة، برهم وفاجرهم، أي‏:‏ كرمناهم بالصورة الحسنة، والقامة المعتدلة، والتمييز بالعقل، والإفهام بالكلام، والإشارة والخط، والتهدي إلى أسباب المعاش والمعاد، والتسلط على ما في الأرض، والتمتع به، والتمكن من الصناعات، وغير ذلك مما لا يكاد يُحيط به نطاق العبارة‏.‏ ومن جملته‏:‏ ما ذكره ابن عباس رضي الله عنه؛ من أن كل حيوان يتناول طعامه بفيه، إلا الإنسان يرفعه إليه بيده، وأما القرد فيده بمنزلة رجله؛ لأنه يطأ بها القاذورات؛ فسقطت حرمتها‏.‏

‏{‏وحملناهم‏}‏ أي‏:‏ بني آدم، ‏{‏في البر والبحر‏}‏؛ على الدواب والسفن؛ فيمشون محمولين في البر والبحر‏.‏ يقال‏:‏ حملته حملاً‏:‏ إذا جعلت له ما يركب‏.‏ ‏{‏ورزقناهم من الطيبات‏}‏؛ من فنون النعم، وضروب المستلذات ممَّا يحصل بصُنعهم وبغير صنعهم، ‏{‏وفضلناهم‏}‏ بالعلوم والإدراكات، مما رَكَّبْنَا فيهم ‏{‏على كثير ممن خلقنا‏}‏ وهم‏:‏ من عدا الملائكة- عليهم السلام-‏.‏ ‏{‏تفضيلاً‏}‏ عظيمًا، فحق عليهم أن يشكروا هذه النعم ولا يكفروها، ويستعملوا قواهم في تحصيل العقائد الحَقِّيَّةِ، ويرفضوا ما هم عليه من الشرك، الذي لا يقبله أحد ممن له أدنى تمييز، فضلاً عمن فُضّل على من عدا الملأ الأعلى، والمستثنى جنس الملائكة، أو الخواص منهم، ولا يلزم من عدم تفضيل الجنس؛ عدم تفضيل جنس بني آدم على الملائكة، عدم تفضيل بعض أجزائه؛ كالأنبياء والرسل، فإنهم أفضل من خواص الملائكة، وخواص الملائكة- كالمقربين مثلاً- أفضل من خواص بني آدم، كالأولياء، والأولياء أفضل من عوام الملائكة‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ قد كرَّم الله هذا الآدمي، وشرفه على خلقه؛ بخصائص جعلها فيه، منها‏:‏ أنه جعله نسخة من الوجود، فيه ما في الوجود، وزيادة، قد انطوت فيه العوالم بأسرها، من عرشها إلى فرشها، وإلى هذا المعنى أشار ابن البنا، في مباحثه، حيث قال‏:‏

يا سابقًا في مَوْكب الإِبْداع *** ولاحِقًا في جَيْش الاخْتِراع

اعْقِل فَاَنْتَ نُسْخَةُ الوُجُود *** لله ما أعلاَك مِن مَوْجُود

أَلَيْس فِيك العرشُ والكرسِيُّ *** والعالم العُلْويُّ والسُّفْلِيُّ

ما الكونُ إِلا رَجلٌ كبيرُ *** وأنتْ كونٌ مِثْلُه صَغِيرُ

وقال آخر‏:‏

إذا كنتَ كُرْسِيًّا وعَرْشًا وَجنَّةً *** وَنارًا وأَفْلاَكًا تدَوُر وأَمْلاَكا

وكُنْتَ من السِّرِّ المَصُون حَقِيقة *** وأَدْرَكْتَ هذا بالحقِيقَةِ إِدْرَاكا

فَفِيمَ التَّأَنِّي فِي الحَضِيضِ تُثَبُّطًا *** مُقِيمًا معَ الأسْرَى أمَا آن إِسْرَاكَا

ومنها‏:‏ أنه جعله خليفة في ملكه، وجعل الوجود بأسره خادمًا له، ومنتفعًا به، الأرض تُقله، والسماء تُظله، والجهات تكتنفه، والحيوانات تخدمه، والملائكة تستغفر له، إلى غير ذلك مما لا يعلمه الخلق‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض جَمِيعاً مِّنْهُ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 13‏]‏‏.‏

ومنها‏:‏ أن جعل ذاته مشتملة على الضدين‏:‏ النور والظلمة، الكثافة واللطافة، الروحانية والبشرية، الحس والمعنى، القدرة والحكمة، العبودية وأسرار الربوبية، إلى غير ذلك‏.‏

ولذلك خصه بحمل الأمانة‏.‏

ومنها‏:‏ أنه جعله قلب الوجود، هو المنظور إليه من هذا العالم، وهو المقصود الأعظم من إيجاد هذا الكون، فهو المنعَّم دون غيره، إن أطاع الله، ألا ترى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَرَى الملائكة حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ العرش‏}‏ ‏[‏الزُّمَر‏:‏ 75‏]‏، فنعيم الجنان خاص بهذا الإنسان، أو‏:‏ من التحق به من مؤمني الجان‏.‏ وقال الورتجبي‏:‏ كرامة الله تعالى لبني آدم سابقة على كون الخلق جميعًا؛ لأنها من صفاته، واختياره، ومشيئته الأولية‏.‏ أوجد الخلق برحمته، وخلق آدم وذريته بكرامته، الخلق كلهم في حيزِ الرحمة، وآدم وذريته في حيز الكرامة‏.‏ الرحمة للعموم، والكرامة للخصوص‏.‏ خلق الكلَّ لآدم وذريته، وخلق آدم وذريته لنفسه، ولذلك قال‏:‏ ‏{‏واصطنعتك لِنَفْسِي‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 41‏]‏، جعل آدم خليفته، وجعل ذريته خلفاء أبيهم، الملائكة والجن في خدمتهم، والأمر والنهي والخطاب معهم، والكتاب أُنزل إليهم، والجنة والنار والسماوات والأرض والشمس والقمر والنجوم، وجميع الآيات، خُلِقَ لهم‏.‏ والخلق كلهم طُفيل لهم، ألا ترى الله يقول لحبيبه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لولاك ما خلقت الكون» ‏؟‏ ولهم كرامة الظاهر، وهي‏:‏ تسوية خلقهم، وظرافة صورهم، وحسن نظرتهم، وجمال وجوههم، حيث خلق فيها السمع والأبصار والألسنة، واستواء القامة، وحسن المشي، والبطش، وإسماع الكلام، والتكلم باللسان، والنظر بالبصر، وجميع ذلك ميراث فطرة آدم، التي صدرت من حسن اصطناع صورته‏.‏ الذي قال‏:‏ ‏{‏خَلَقْتُ بِيَدَيَّ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 75‏]‏، فنور وجوههم من معادن نور الصفة، وأنوار الصفات نوَّرت آدم وذريته، فتكون نورًا من حيث الصفات والهيئات، والحسن والجمال، متصفون متخلقون بالصفات الأزلية، لذلك قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «خلَقَ آدَم على صُورَتِهِ»، من حيث التخلق لا من حيث التشبيه‏.‏ انظر تمامه‏.‏ والحاصل أنه فضلهم بالخلْق والخلُق، وذلك يجمع محاسن الصورة الظاهرة والباطنة‏.‏ ه‏.‏ قاله المحشي الفاسي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏71- 72‏]‏

‏{‏يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ‏(‏71‏)‏ وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا ‏(‏72‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ يجوز في ‏{‏أعمى‏}‏- الثاني-‏:‏ أن يكون وصفًا كالأول، وأن يكون من أفعل التفضيل، وهو أرجح؛ لعطف «وأضل» عليه، الذي هو للتفضيل‏.‏ وقال سيبويه‏:‏ لا يجوز أن يقال‏:‏ هو أعمى من كذا، وإنما يقال‏:‏ هو أشد عمى، لكن إنما يمتنع ذلك في عمى البصر، لا في عمى القلب‏.‏ قاله ابن جزي‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ واذكر ‏{‏يوم ندعو كلَّ أناس بإِمامهم‏}‏؛ بنبيهم‏.‏ فيقال‏:‏ يا أُمَّةَ فلان، يا أمة فلان، احضروا للحساب‏.‏ أو‏:‏ بكتاب أعمالهم، فيقال‏:‏ يا صاحب الخير ويا صاحب الشر، فهو مناسب لقوله‏:‏ ‏{‏فمن أُوتي‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ‏.‏

وقال محمد بن كعب القرظي‏:‏ بأسماء أمهاتهم، فيكون جمع «أم»، كخف وخفاف، لكن في الحديث‏:‏ «إِنكُم تُدْعَوْنَ يَوْمَ القِيَامَةِ بأسمَائِكُمْ وأسمَاءِ آبَائِكًمْ»، ولعل ما قاله القرظي مخصوص بأولاد الزنا‏.‏ وفي البيضاوي‏:‏ قيل‏:‏ بأمهاتهم، والحكمة في ذلك‏:‏ إجلال عيسى وإظهار شرف الحسن والحسين، وألا يُفتضح أولاد الزنى‏.‏ ه‏.‏

وقال أبو الحسن الصغير‏:‏ قيل لأبي عمران‏:‏ هل يدعى الناس بأمهاتهم يوم القيامة أو بآبائهم‏؟‏ قال‏:‏ قد جاء في ذلك شيء أنهم يدعون بأمهاتهم فلا يفتضحوا‏.‏ وفي البخاري- باب يدعى الناس بآبائهم-، وساق حديث ابن عمر‏:‏ «يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ القِيَامَةِ‏.‏ يُقَالُ‏:‏ هَذِهِ غَدْرَةُ فُلاَنٍ ابنُ فُلاَن»، فظاهر الحديث أنهم يدعون بآبائهم، وهو الراجح، إلا فيمن لا أب له‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏فمن أوتي كتابه بيمينه‏}‏ أي‏:‏ فمن أوتي صحيفة أعماله، يومئذ، من أولئك المدعوين بيمينه؛ إظهارًا لخطر الكتاب، وتشريفًا لصاحبه، وتبشيرًا له من أول الأمر، ‏{‏فأولئك يقرؤون كتابهم‏}‏ المؤتى لهم‏.‏ والإشارة إلى «مَن»‏:‏ باعتبار معناها؛ لأنها واقعة على الجمع؛ إيذانًا بأنهم حزب مجتمعون على شأنٍ جليل، وإشعارًا بأن قراءتهم لكتبهم يكون على وجه الاجتماع، لا على وجه الانفراد؛ كما في حال الدنيا‏.‏ وأتى بإشارة البعيد؛ إشعارًا برفع درجاتهم، أي‏:‏ أولئك المختصون بتلك الكرامة، التي يُشْعِرُ بها الإيتاء المذكور، يقرأون كتابهم ‏{‏ولا يُظلمون فتيلاً‏}‏؛ ولا ينقصون من أجور أعمالهم المرسومة في صحيفتهم أدنى شيء، فإن الفتيل- وهو‏:‏ قشر النواة- مَثلٌ في القلة والحقارة‏.‏

ثم ذكر أهل الأخذ بالشمال فقال‏:‏ ‏{‏ومَن كان في هذه‏}‏ الدنيا، التي فَعَل بهم ما فعل من فنون التكريم والتفضيل، ‏{‏أعمى‏}‏؛ فاقد البصيرة، لا يهتدي إلى رشده، ولا يعرف ما أوليناه من نعمة التكرمة والتفضيل، فضلاً عن شكرها والقيام بحقوقها، ولا يستعمل ما أودعنا فيه؛ من العقل والقوى، فيما خلق له من العلوم والمعارف، ‏{‏فهو في الآخرة أعمى‏}‏ كذلك، لا يهتدي إلى ما ينجيه مما يرديه؛ لأن النجاة من العذاب والتنعم بأنواع النعم الأخروية مرتب على العمل في الدنيا، ومعرفة الحق، ومن عمي عنه في الدنيا فهو في الآخرة أشد عمى عما ينجيه، ‏{‏وأضلُّ سبيلاً‏}‏ عنه؛ لزوال الاستعداد الممكن لسلوك طريق النجاة‏.‏

وهذا بعينه هو الذي أخذ كتابه بشماله، بدلالة ما سبق من القبيل المقابل، ولعل العدول عن التصريح به إلى ذكره بهذا العنوان؛ للإشعار بالعلة الموجبة له، فإنَّ العمى عن الحق والضلال هو السبب في الأخذ بالشمال، وهذا كقوله في الواقعة‏:‏ ‏{‏وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ المكذبين الضآلين‏}‏ ‏[‏الواقِعَة‏:‏ 92‏]‏، بعد قوله‏:‏ ‏{‏وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ اليمين‏}‏ ‏[‏الواقِعَة‏:‏ 90‏]‏‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ يدعو الحق تعالى، يوم القيامة، الأمم إلى الحساب بأنبيائها ورسلها، ثم يدعوهم، ثانيًا، للكرامة بأشياخها وأئمتها التي كانت تدعوهم إلى الحق على الهَدْي المحمدي‏.‏ فيقال‏:‏ يا أصحاب فلان، ويا أصحاب فلان، اذهبوا إلى الجنة، لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون‏.‏ وهذا في حق أهل الحق والتحقيق، الدالين على سلوك الشريعة، والتمسك بأنوار الحقيقة؛ ذوقًا وكشفًا، فكل من تبعهم وسلك منهاجهم، كان من السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب، وهم‏:‏ أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون‏.‏ وأما من لم يكن من حزبهم، ولم يدخل تحت تربيتهم، فإن استعمل عقله وقُواه فيما يُنجيه يوم القيامة؛ كان من الذين يُؤتون كتابهم بيمينهم، ولا يظلمون فتيلاً‏.‏ ومن أهمل عقله واستعمل قواه في البطالة والهوى، كان من القبيل الذي عاش في الدنيا أعمى، ويكون في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً، والعياذ بالله‏.‏