فصل: تفسير الآيات رقم (27- 31)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 31‏]‏

‏{‏وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ‏(‏27‏)‏ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ‏(‏28‏)‏ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ‏(‏29‏)‏ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ‏(‏30‏)‏ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ‏(‏31‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَذِّن فِي الناس بالحج يَأْتُوكَ رِجَالاً وعلى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسم الله في أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ على مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأنعام فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ البآئس الفقير ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُواْ بالبيت العتيق ذلك وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ الله فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏وعلى كل ضامر‏}‏‏:‏ حال معطوفة على حال، أي‏:‏ يأتوك حال كونهم رجالاً وركبانًا‏.‏ و‏{‏يأتين‏}‏‏:‏ صفة لكل ضامر؛ لأنه في معنى الجمع‏.‏ وقرأ عبد الله‏:‏ «يأتون»، صفة لرجال‏.‏ و‏{‏رجال‏}‏‏:‏ جمع راجل؛ كقائم وقيام‏.‏

يقول الحقّ جل جلاله‏:‏ لإبراهيم عليه السلام‏:‏ ‏{‏وأذِّن في الناس بالحج‏}‏ أي‏:‏ نادِ فيهم ليحجوا‏.‏ رُوي‏:‏ أنه عليه السلام صعد أبا قبيس، فقال‏:‏ يا أيها الناس، حجوا بيت ربكم، فأسمعه الله تعالى الأرواح، فأجاب من قُدِّر له أن يحج من الأصلاب والأرحام بلبيك اللهم لبيك‏.‏ ‏{‏يأتوك‏}‏ إن أذنت ‏{‏رجالاً‏}‏ أي‏:‏ مشاةً ‏{‏و‏}‏ ركبانًا ‏{‏على كل ضامر‏}‏ أي‏:‏ بعير مهزول، أتعبه بُعدُ الشُقة، فهزّله، أو زاد هزاله‏.‏ وقدّم الرجال على الركبان؛ لفضيلة المشاة، كما ورد في الحديث ‏{‏يأتين‏}‏ تلك الضوامر بركبانها، ‏{‏من كل فج‏}‏؛ طريق ‏{‏عميق‏}‏؛ بعيد‏.‏ قال محمد بن ياسين‏:‏ قال لي شيخٌ في الطواف‏:‏ من أين أنت‏؟‏ فقلت‏:‏ من خُراسان‏.‏ فقال‏:‏ كم بينك وبين البيت‏؟‏ فقلت‏:‏ مسيرة شهرين أو ثلاثة‏.‏ قال‏:‏ فأنتم جيران البيت‏.‏ فقلتُ‏:‏ وأنت من أين سَعيت‏؟‏ فقال‏:‏ من مسيرة خمس سنوات، وخرجت وأنا شاب، فاكتهلت‏.‏ فقلت‏:‏ هذه واللهِ هي الطاعة الجميلة، والمحبة الصادقة، فضحك‏.‏ وقال‏:‏

زُرْ مَن هَوَيْتَ وإن شطتْ بِكَ الدارُ *** وحالَ من دُونه حُجُبٌ وأستارُ

لا يَمْنََعَنَّكَ بُعْدٌ عنْ زِيارته *** إنَّ المُحب لمنْ يهواه زوَّارُ

‏{‏ليشهدوا منافعَ لهم‏}‏ أي‏:‏ يأتوك ليحضروا منافع لهم، دنيوية ودينية، لا تُوجد في غير هذه العبادة؛ كالطواف ونظر الكعبة، وتضعيف أمر الصلاة؛ لأن العبادة شرعت للابتلاء بالنفس كالصلاة والصوم، أو بالمال، وقد اشتمل الحج عليهما، مع ما فيه من تحمل الأثقال وركوب الأهوال، وقطع الأسباب وقطيعة الأصحاب، وهجرة البلاد والأوطان، ومفارقة الأهل والولدان‏.‏ ولذلك ورد أنه يُكفر الذنوب كلها، كما في الحديث‏:‏ «مَنْ حَجَّ هَذا البَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجعَ من ذُنُوبِه كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ»

‏{‏ويذكروا اسمَ الله‏}‏ عند ذبح الضحايا والهدايا ‏{‏في أيام معدوداتٍ‏}‏، وهي أيام النحر عند مالك، وعند الشافعي‏:‏ اليوم الأول والثاني والثالث؛ لأن هذه هي أيام الضحايا عنده‏.‏ ولم يجز ذبحها بالليل؛ لقوله‏:‏ ‏{‏في أيام‏}‏‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ الأيام المعلومات‏:‏ عشر ذي الحجة ويوم النحر، وهو قول ابن عباس رضي الله عنه، وأما الأيام المعدودات، فهي‏:‏ الثلاثة بعد يوم النحر- فيوم النحر معلوم لا معدود-، ورابعه‏:‏ معدود لا معلوم، واليومان بعده‏:‏ معلومان ومعدودان‏.‏

فيذكروا اسم الله ‏{‏على ما رزقهم‏}‏ أي‏:‏ على ذبح ما رزقهم ‏{‏من بهيمة الأنعام‏}‏، وهي الإبل والبقر والغنم، ‏{‏فكُلُوا منها‏}‏؛ من لحومها، والأمر‏:‏ للإباحة، ولإزاحة ما كانت عليه الجاهلية من التحرج‏.‏

قال ابن جزي‏:‏ ويُستحب أن يأكل الأقل من الضحايا، ويتصدق بالأكثر‏.‏ ه‏.‏ وقال النسفي‏:‏ ويجوز الأكل من هَدي التطوع والمتعة والقِران؛ لأنه دم نسك؛ لأنه أشبه الأضحية، ولا يجوز الأكل من بقية الهدايا‏.‏ ه‏.‏ وهو حنفي، وفي مذهب مالك تفصيل يطول ذكره‏.‏

‏{‏وأطعموا البائسَ‏}‏، وهو الذي أصابه البؤس، أي‏:‏ ضرر الحاجة، وقيل‏:‏ المتعفف، وقيل‏:‏ الذي يظهر عليه أثر الجوع، ‏{‏الفقير‏}‏‏:‏ المحتاج الذي أضعفه الإعسار‏.‏

‏{‏ثم لْيَقْضُوا تَفَثَهم‏}‏ أي‏:‏ ليزيلوا عنهم أدرانهم، قاله نفطويه‏.‏ وقيل‏:‏ قضاء التفث‏:‏ قصُ الشارب والأظافر، ونتف الإبط، والاستحداد، وسائر خصال الفطرة‏.‏ وهذا بعد أن يُحلوا من الحج؛ التحلل الأصغر بالنحر‏.‏ ‏{‏ولْيُوفُوا نذورَهم‏}‏ أي‏:‏ ما ينذرونه من البر في الحج وغيره، وقيل‏:‏ مواجب حجهم من فعل أركانه، ‏{‏وليَطّوفوا‏}‏ طواف الإفاضة، الذي هو ركن لا يُجبر بالدم، وبه يتم الحج، ويكون ‏{‏بالبيت العتيق‏}‏‏:‏ القديم؛ لأنه أول بيت وضع للناس، بناه آدم ثم جدَّده إبراهيم، أو الكريم، ومنه‏:‏ عتاق الخيل لكرائمها، أو‏:‏ لأنه عتق من الغرق، أو من أيدي الجبابرة، فكم من جبار رام هدمه فمنعه الله منه‏.‏ وقيل‏:‏ عتيق لم يملكه أحد قطُّ، وهو مَطاف أهل الغبراء، كما أن البيت المعمور مطاف أهل السماء‏.‏

‏{‏ذلك‏}‏ أي‏:‏ الأمر ذلك، وهذا من فضل الكلام، كما يقدم الكاتبُ جملة من الكلام، ثم يقول‏:‏ هذا، وقد كان كذا وكذا وكذا، إذا أراد أن يخرج من كلام إلى كلام آخر، وإن كان له تعلق بما قبله‏.‏ والكلام هنا متصل بتعظيم حرمات البيت، فقال‏:‏ ‏{‏ومن يعظِّم حُرمات الله‏}‏، جمع حرمة، وهو ما لا يحل هتكه من الشريعة، فيدخل ما يتعلق بالحج دخولاً أوليًا، وقيل‏:‏ حرمات الله‏:‏ البيت الحرام، والمشعر الحرام، والبلد الحرام، والشهر الحرام‏.‏ وقيل‏:‏ المحافظة على الفرائض والسنن واجتناب المعاصي، ‏{‏فهو خيرٌ له‏}‏ أي‏:‏ فالتعظيم خير له ثوابًا ‏{‏عند ربه‏}‏، ومعنى التعظيم‏:‏ العلم بوجوب مراعاتها، والعمل بموجبه، والاهتمام بشأنه والتأدب معه‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم ليقضوا تفثهم‏}‏، قال القشيري‏:‏ أي‏:‏ حوائجهم، ويحققوا عهودهم، ويُوفوا نذورهم فيما عقدوه مع الله بقلوبهم، فَمَنْ كان عقدُه التوبةَ؛ فوفاؤه ألاَّ يرجعَ إلى العصيان، ومَنْ كان عَهْدُه اعتناقَ الطاعةِ، فَشَرْطُ وفائه ترك تقصيره، ومن كان عهدُه ألاَّ يرجع إلى طلب مقامٍ وتطلع إكرامٍ، فوفاؤه استقامته على الجملة، التي دخل عليها في هذه الطريق، بألا يرجع إلى استعجال نصيبٍ واقتضاءِ حظ‏.‏

ه‏.‏ قلت‏:‏ ومن كان عقده الوصول إلى حضرة القدس ومحل الأنس، فوفاؤه ألا يرجع عن صحبة من سقاه خمرة المحبة، وحمله إلى درجة المعرفة‏.‏ ثم قال‏:‏ ومَنْ عاهد الله بقلبه، ثم لا يفي بذلك، فهو من جملة قول الزور‏.‏ ه‏.‏ وهو أيضًا ليس بمُعَظِّمٍ لحرمات الله، حيث طلبها ثم تهاون وتركها‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

ولمّا كان الإحرام يُحرم لحوم الصيد، فربما يتوهم أن اللحوم كلها تجتنب، رفعَ ذلك الإبهام، فقال‏:‏

‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنعام إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان واجتنبوا قَوْلَ الزور حُنَفَآءَ للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السمآء فَتَخْطَفُهُ الطير أَوْ تَهْوِي بِهِ الريح فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وأُحِلتْ لكم الأنعامُ‏}‏ أي‏:‏ أكلها، ‏{‏إِلا ما يُتلىَ‏}‏ أي‏:‏ سيتلى ‏{‏عليكم‏}‏ منها في آية المائدة، كالميتة والموقوذة وأخواتهما‏.‏ والمعنى‏:‏ إن الله قد أحل لكم الأنعام إلاَّ ما بيَّن في كتابه، فحافظوا على حدوده، ولا تُحرِّموا شيئًا مما أحلَّ لكم، كتحريم البحيرة وما معها، ولا تُحلوا ما حرَّم، كإحلال المشركين الميتة والموقوذة وغيرهما‏.‏

ثم نهى عن الأوثان التي كانوا يذبحون لها، فقال‏:‏ ‏{‏فاجتنبوا الرجس من الأوثان‏}‏؛ لأن ذلك من تعظيم حرمات الله، و‏{‏من‏}‏‏:‏ للبيان، أي‏:‏ فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان‏.‏ والرجس‏:‏ كل ما يستقذر من الخبث، وسمى الأوثان رجسًا على طريقة التشبيه، أي‏:‏ فكما تنفرون بطباعكم من الرجس، فعليكم أن تنفروا عنها‏.‏ والمراد‏:‏ النهي عن عبادتها، أو عن الذبح تقربًا لها‏.‏ ‏{‏واجتنبوا قولَ الزُّور‏}‏، وهو تعميم بعد تخصيص، فإنَّ عبادة الأوثان رأس الزور، ويدخل فيه الكذب والبهتان وشهادة الزور‏.‏ وقيل‏:‏ المراد شهادة الزور فقط، لِمَا رُوي أنه- عليه الصلاة والسلام- قال‏:‏ «عَدلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ الإِشْرَاكَ بِاللهِ تعالى» ثلاثًا، وتلى هذه الآية‏.‏ والزور من الزّور، وهو الانحراف والميل؛ لأن صاحبه ينحرف عن الحق، ولا شك أن الشرك داخل في الزور؛ لأن المشرك يزعم أن الوثن تحق له العبادة، وهو باطل وزور‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏حنفاءَ لله‏}‏‏:‏ مائلين عن كل دين زائغ إلى دين الحق، مخلصين لله، ‏{‏غير مشركين به‏}‏ شيئًا من الأشياء، ‏{‏ومن يُشرك بالله‏}‏، أظهر الاسم الجليل؛ لإظهار كمال قبح الشرك، ‏{‏فكأنما خَرَّ‏}‏‏:‏ سقط ‏{‏من السماء‏}‏ إلى الأرض؛ لأنه يسقط من أوج الإيمان إلى حضيض الكفر‏.‏ وقيل‏:‏ هو إشارة إلى ما يكون له حين يصعد بروحه عند الموت، فتطرح من السماء إلى الأرض‏.‏ قاله ابن البنا‏.‏ ‏{‏فتخطفه الطير‏}‏ أي‏:‏ تتناوله بسرعة، فالخطف والاختطاف‏:‏ تناول الشيء بسرعة؛ لأن الأهواء المردية كانت توزع أفكاره، ‏{‏أو تَهْوِي به الريحُ‏}‏ أي‏:‏ تسقطه وتقذفه‏.‏ والهوى‏:‏ السقوط‏.‏ ‏{‏في مكان سحيق‏}‏‏:‏ بعيد؛ لأن الشيطان قد طرحه في الضلال والتحير الكبير‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ جعل الحقُّ تعالى شكرَ النعم أمرين‏:‏ طهارة الباطن من شرك الميل إلى السِّوى، ولسانه من زور الدعوى، وهو الترامي على مراتب الرجال قبل التحقق بها، حنيفًا موحدًا، شاكرًا لأنعمه يجتبيه ربه، ويهديه إلى صراط مستقيم‏.‏ ومن يشرك بالله؛ بأن يُحب معه غيره، فقد سقط عن درجة القرب والتحقيق، فتخطفه طيور الحظوظ والشهوات، وتهوي به ريح الهوى، في مكان سحيق‏.‏ والعياذ بالله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏32- 37‏]‏

‏{‏ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ‏(‏32‏)‏ لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ ‏(‏33‏)‏ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ ‏(‏34‏)‏ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ‏(‏35‏)‏ وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏36‏)‏ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي‏:‏ الأمر ذلك، أو امتثلوا ذلك، ‏{‏ومن يُعَظِّمْ شعائرَ الله‏}‏ أي‏:‏ الهدايا، فإنها معالم الدين وشعائره تعالى، كما يُنبئ عنه‏:‏ ‏{‏والبدن جعلناها لكم من شعائر الله‏}‏ وتعظيمها‏:‏ اعتقاد التقرب بها، وأن يختارها سِمَانًا حسانًا غالية الأثمان، رُوي «أنه صلى الله عليه وسلم أَهْدَى مِائَةَ بَدَنَةِ، فِيهَا جَمَلٌ لأَبِي جَهْلٍ، في أنْفِهِ بُرَةٌ مِنْ ذَهَب»‏.‏ وأن عمر رضي الله عنه- أهدى نجيبة طُلبت منه بثلاثمائة دينار-‏.‏ وقيل‏:‏ شعائر الله‏:‏ مواضع الحج، كعرفة ومنى والمزدلفة‏.‏ وتعظيمها‏:‏ إجلالها وتوقيرها، والتقصد إليها‏.‏ وقيل‏:‏ الشعائر‏:‏ أمور الدين على الإطلاق، وتعظيمها‏:‏ القيام بها ومراعاة آدابها‏.‏ ‏{‏فإِنها‏}‏ أي‏:‏ فإن تعظيمها ‏{‏من تقوى القلوب‏}‏ أي‏:‏ من أفعال ذوي تقوى القلوب، فحذفت هذه المضافات‏.‏ أو فإن تعظيمها ناشئ من تقوى القلوب؛ لأنها مراكز التقوى‏.‏

‏{‏لكم فيها منافع‏}‏؛ من الركوب عند الحاجة، ولبنها عند الضرورة، ‏{‏إِلى أجل مسمى‏}‏؛ إلى أن تُنحر‏.‏ ومن قال‏:‏ شعائر الله‏:‏ مواضع الحج، فالمنافع‏:‏ التجارة فيها والأجر، والأجل المسمى‏:‏ الرجوع إلى مكة لطواف الإفاضة‏.‏ ‏{‏ثم مَحِلُّها‏}‏ منتهية ‏{‏إِلى البيت العتيق‏}‏، قال ابن جزي‏:‏ من قال‏:‏ إن الشعائر الهدايا، فمحلها موضع نحرها، وهي مِنى ومكة‏.‏ وخصّ البيت بالذكر؛ لأنه أشرف الحرم، وهو المقصود بالهدي‏.‏ و«ثم»، على هذا، ليست للترتيب في الزمان؛ لأن محلها قبل نحرها، وإنما هي لترتيب الجمل‏.‏ ومن قال‏:‏ إن الشعائر مواضع الحج، فمحلها مأخوذ من إحلال المحرم، أي‏:‏ آخر ذلك كله‏:‏ الطواف بالبيت، أي‏:‏ طواف الإفاضة؛ إذ به يحل المحرم‏.‏ ه‏.‏ أي‏:‏ محل شعائر الحج كلها تنتهي إلى الطواف بالبيت، طواف الإفاضة‏.‏ ومثله في الموطأ‏.‏

‏{‏ولكلِّ أمة‏}‏؛ جماعة مؤمنة قبلكم، ‏{‏جعلنا منسَكًا‏}‏ أي‏:‏ مُتَعبدًا وقربانًا يتقربون به إلى الله- عزّ وجلّ- والمنسك- بالفتح-‏:‏ مصدر، وبالكسر‏:‏ اسم موضع النُسك، أي‏:‏ لكلٍّ حعلنا عبادة يتعبدون بها، أو موضع قربان، يذبحون فيه مناسكهم، ‏{‏ليذكروا اسمَ الله‏}‏ دون غيره، ‏{‏على ما رزقهم من بهيمة الأنعام‏}‏ أي‏:‏ عند نحرها وذبحها، ‏{‏فإِلهكم إِلهٌ واحدٌ‏}‏ أي‏:‏ اذكروا على الذبائح اسم الله وحده؛ فإن إلهكم إله واحد، ‏{‏فله أسلِمُوا‏}‏ أي‏:‏ فإذا كان إلهكم إلهًا واحدًا؛ فأخلصوا له التقرب، أو الذكر خاصة، واجعلوه له سالمًا، لا تشوبوه بإشراك‏.‏

‏{‏وبشر المخبتين‏}‏؛ المطمئنين بذكر الله، أو المتواضعين، أو المخلصين، فإن الإخبات من الوظائف الخاصة بهم‏.‏ والخَبْتُ‏:‏ المطمئن من الأرض‏.‏ وعن ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ هم الذين لا يظلمون، وإذا ظلموا لم ينتصروا‏.‏ وقيل‏:‏ تفسيره ما بعده، وهو قوله‏:‏ ‏{‏الذين إِذا ذُكرَ اللهُ وجِلَتْ قلوبُهم‏}‏‏:‏ خافت منه؛ هيبة؛ لإشراق أشعة جلاله عليها‏.‏

‏{‏والصابرين على ما أصابهم‏}‏ من مشاق التكاليف ومصائب الزمان والنوائب، ‏{‏والمقيمي الصلاة‏}‏ في أوقاتها، ‏{‏ومما رزقناهم يُنفقون‏}‏ في وجوه الخيرات‏.‏

‏{‏والبُدْنَ جعلناها لكم من شعائر الله‏}‏ أي‏:‏ من أعلام دينه، وأضافها إلى نفسه؛ تعظيمًا لها، وهي‏:‏ جمع بدنة، سميت به؛ لعظم بدنها، ويتناول الإبل والبقر والغنم‏.‏ ‏{‏لكم فيها خيرٌ‏}‏ أي‏:‏ منافع دينية ودنيوية، النفع في الدنيا، والأجر في العقبى‏.‏ ‏{‏فاذكروا اسم الله عليها‏}‏ بأن تقولوا عند ذبحها‏:‏ بسم الله، اللهم منك وإليك‏.‏ حال كونها ‏{‏صوافَّ‏}‏ أي‏:‏ قائمات، قد صففن أيديهن وأرجلهن‏.‏ ‏{‏فإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا‏}‏‏:‏ سقطت على الأرض، وسكنت حركتها، من وجب الحائط وجبة‏:‏ سقط، وهي كناية عن الموت‏.‏ ‏{‏فكُلُوا منها‏}‏ إن شئتم ‏{‏وأطعِمُوا القانعَ‏}‏‏:‏ السائل، مِنْ‏:‏ قنع إليه قنوعًا‏:‏ إذا خضع، ‏{‏والمُعْتَرَّ‏}‏؛ الذي يُعَرِّضُ ولا يسأل‏.‏ وقيل‏:‏ القانع‏:‏ الراضي بما عنده وبما يُعطي من غير سؤال، والمعترَّ‏:‏ المتعرض للسؤال‏.‏ ‏{‏كذلك سخرناها لكم‏}‏ أي‏:‏ كما أمرناكم بنحرها سخرناها لكم، أي‏:‏ ذللناها لكم، مع قوتها وعظم أجرامها؛ لتتمكنوا من نحرها، ‏{‏لعلكم تشكرون‏}‏ أي‏:‏ لكي تشكروا إنعام الله عليكم‏.‏

‏{‏لن ينال اللهَ لحومُها‏}‏ المُتَصَدَّقُ بها، ‏{‏ولا دماؤها‏}‏ المهراقة بالنحر، أي‏:‏ لن يصل إلى الله اللحم والدم، ‏{‏ولكن ينالُه التقوى منكم‏}‏؛ فإنه هو الذي طلب منكم، وعليه يحصل الثواب‏.‏ والمراد‏:‏ لن تصلوا إلى رضا الله باللحوم ولا بالدماء، وإنما تصلون إليه بالتقوى، أي‏:‏ الإخلاص لله، وقصد وجه الله، بما تذبحون وتنحرون من الهدايا‏.‏ فعبَّر عن هذا المعنى بلفظ ‏{‏ينال‏}‏؛ مبالغةً وتأكيدًا، كأنه قال‏:‏ لن تصل لحومها ولا دماؤها إلى الله، وإنما يصل إليه التقوى منكم، وقيل‏:‏ كان أهل الجاهلية يلطخون الكعبة بدماء قربانهم، فهم المسلمون أن يفعلوا مثل ذلك، فنزلت الآية‏.‏

‏{‏كذلك سخرها لكم‏}‏ أي‏:‏ البدن، وهو تكرير للتذكير والتعليل، لقوله‏:‏ ‏{‏لتكبِّروا الله على ما هداكم‏}‏ أي‏:‏ لتعرفوا عظمة الله، باقتداره على ما لا يقدر عليه غيره، فتوحدوه بالكبرياء؛ شكرًا على هدايته لكم‏.‏ وقيل‏:‏ هو التكبير عند الذبح ‏{‏وبشر المحسنين‏}‏‏:‏ المخلصين في كل ما يأتون ويذرون في أمور دينهم‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

الإشارة‏:‏ أعظم شعائر الله التي يجب تعظيمها أولياء الله، الدالين على الله، ثم الفقراء المتوجهون إلى الله، ثم العلماء المعلمون أحكام الله، ثم الصالحون المنتسبون إلى الله، ثم عامة المؤمنين الذين هم من جملة عباد الله‏.‏ ويجب تعظيم مَنْ نصبه الله لقيام خطة من الخطط؛ لإصلاح العباد؛ كالسلاطين، ولو لم يعدلوا، والقضاة والقواد، والمقدمين لأمور العامة، فتعظيم هؤلاء كله من تقوى القلوب‏.‏ ويدخل في ذلك‏:‏ الأماكن المعظمة؛ كالمساجد والزوايا، وأما الفقير فَيُعَظِّمُ كل ما خلق الله حتى الكلاب، ويتأدب مع كل مخلوق‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لكم فيها منافع‏}‏ أي‏:‏ لكم في هذه التجليات، إن عظمتموها وعرفتم الله فيها، منافع، ترعَوْن من أنوارها وتشربون من خمرة أسرارها، فتزدادوا معرفة وتكميلاً، إلى أجل مسمى، وهو مقام التمكين، فحينئذ تواجهه أنوار المواجهة، فتكون الأنوار له، لا هو للأنوار، لأنه لله لا لشئ دونه،

‏{‏قُلِ الله ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 91‏]‏‏.‏ ثم محل هذه الأنوار إلى بيت الحضرة، فحينئذ يستغني بالله عن كل ما سواه‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكل أمة جعلنا منسكًا‏}‏ أي‏:‏ لكل عصر جعلنا تربية مخصوصة، والوصول واحد؛ ولذلك قال‏:‏ ‏{‏فإلهكم إله واحد‏}‏‏.‏ وقال القشيري‏:‏ الشرائعُ مختلفةٌ فيما كان من المعاملات، متفقة فيما كان من جملة المعارف‏.‏ ثم قال‏:‏ ذكّرهم الله بأنه هو الذي أمرهم ويُثيبهم، ‏{‏فله أسلموا‏}‏‏:‏ اسْتَسلموا لحكمِه، من غير استكراهٍ من داخل القلب ولا من اللفظ‏.‏ ه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والبدن‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ قال الورتجبي‏:‏ فيه إشارة إلى ذبح النفس بالمجاهدات، وزمها بالرياضات عن المخالفات، وفناء الوجود للمشاهدات، حتى لا يبقى للعارف في طريقه حظ من حظوظه، ويبقى لله مفردًا من جميع الخلائق‏.‏ ه‏.‏

وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاذكروا اسم الله عليها صواف‏}‏، إشارة إلى أن النفس لا تموت إلا بصحبة من ماتت نفسه، فلا تموت النفس مع صحبة أهل النفوس الحية أبدًا‏.‏ فإذا ماتت وسقطت جنوبها، وظفرتم بها؛ فكلوا من أنوار أسرارها وعلومها؛ لأن النفس، إذا ماتت، حييت الروح، وفاضت عليها العلوم اللدنية، فكلوا منها، وأطعموا السائل والمتعرض لنفحاتكم‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لن ينال الله لحومها‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، قال الورتجبي‏:‏ الإشارة فيه إلى جميع الأعمال الصالحة من العرش إلى الثرى، لا يلحق الحق بحق المراد منه، ولكن يصل إليه قلب جريح من محبته، ذُبح بسيف شوقه، مطروح على باب عشقه‏.‏ قال سهل في قوله‏:‏ ‏{‏ولكن يناله التقوى‏}‏‏:‏ هو التبري والإخلاص‏.‏ ه‏.‏

قال القشيري‏:‏ لا عِبْرةً بإظهار الأفعال، سواء كانت بدنيةً أو ماليةً صِرْفًا، أو مما يتعلق بالوجهين، ولكن العبرة بقرائنها من الإخلاص، فإذا انضَافَ إلى الجوارح إخلاص القصود، وتَجَرَّدَتْ عن ملاحظة أصحابِها الأغيار، صَلُحَتْ للقبول، وينال صاحبها القرب، بشهود الحق بنعت التفرد‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏لتكبروا الله على ما هداكم‏}‏ وأرشدكم إلى القيام بحقِّ العبودية على قضية الشرع، ‏{‏وبشر المحسنين‏}‏، الإحسان، كما في الخبر‏:‏ «أنْ تعبد الله كَأنك تراه» وأمارةُ صحته‏:‏ سقوطُ تعب القلب عن صاحِبهِ، فلا يستثقلُ شيئًا ولا يتبرم بشيءٍ‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ خواطر الاستثقال والتبرم لا تضر؛ لأنه طبع بشري، وإنما يضر ما سكن في القلب‏.‏

وقال في الإحياء‏:‏ ليس المقصود من إراقة دم القربان الدم واللحم، بل ميل القلب عن حب الدنيا، وبذلُها؛ إيثارًا لوجه الله تعالى، وهذه الصفة قد حصلت عند جزم النية والهمة، وإن عاق عن العمل عائق‏.‏ فلن ينال الله لحومُها ولا دماؤها، ولكن يناله التقوى منكم، والتقوى ها هنا عمل القلب، من نية القربة، وإرادة الخير، وإخلاص القصد لله، وهو المقصود، وعمل الظاهر مؤكد له، ولذلك كانت نية المؤمن أبلغ من عمله؛ فإنَّ الطاعات غذاء القلوب، والمقصود‏:‏ لذة السعادة بلقاء الله تعالى، والتنعم بها، وذلك فرع محبته والأنس به، ولا يكون إلاّ بذكره، ولا يفرغ إلا بالزهد في الدنيا، وترك شواغلها والانقطاع عنها‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ ‏(‏38‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إِن الله يُدافع‏}‏ يدفع غائلة المشركين ‏{‏عن الذين آمنوا‏}‏؛ فلا يقدرون أن يعوقوهم عن شيء من عبادة الله، بل ينصرهم ويؤيدهم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ‏}‏ ‏[‏غَافر‏:‏ 51‏]‏، وصيغة المفاعلة‏:‏ إمَّا للمبالغة، أو للدلالة على تكرير الدفع، فإنها قد تجرد عن وقوع الفعل المتكرر من الجانبين، فيبقى تكرره من جانب واحد، كما في المحارسة، أي‏:‏ يبالغ في دفع ضرر المشركين وشوكتهم، التي من جملتها صدهم عن سبيل الله، مبالغةَ مَن يغالَبُ فيه، أو يدفعها عنهم مرة بعد أخرى، بحسب تجرد قصد الإضرار بالمسلمين، كما في قوله‏:‏ ‏{‏كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله‏}‏ ‏[‏المَائدة‏:‏ 64‏]‏‏.‏ وقرأ المكي والبصري‏:‏ «يدفع»‏.‏

ثم علّل ذلك الدفع بقوله‏:‏ ‏{‏إِن الله لا يُحب كل خَوّانٍ كفور‏}‏ أي‏:‏ لأنَّ الله يبغض كل خوان في أمانة الله تعالى، وهي‏:‏ أوامره ونواهيه، ومن أعظمها‏:‏ الإيمان بالله ورسوله‏.‏ أو في جميع الأمانات، كفورٌ لنعم الله‏.‏ والمعنى‏:‏ إن الله يدافع عنهم؛ لأنه يبغض أعداءهم، وهم‏:‏ الخونة الكفرة، الذين يخونون الله والرسول، ويخونون أماناتهم‏.‏ وصيغة المبالغة فيها؛ لبيان أنهم كذلك فيهما، لا لتقييد البعض بغاية الجناية؛ فإن الخائن ممقوت مطلقًا‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ إن الله يدفع عن أوليائه، والمتوجهين إليه، كل عائق وشاغل، وغائلة كل غائل، الذين حازوا ذروة الإيمان، وقصدوا تحقيق مقام الإحسان‏.‏ فمن رام صدّهم عن ذلك فهو خائن كفور، ‏{‏إن الله لا يحب كل خَوّانٍ كفور‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏39- 41‏]‏

‏{‏أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ‏(‏39‏)‏ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ‏(‏40‏)‏ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ‏(‏41‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏إلا أن يقولوا‏}‏، قيل‏:‏ منقطع، وقال الزمخشري‏:‏ في محل الجر، بدل من حق‏.‏ ه‏.‏ وهو على طريق قول الشاعر‏:‏

لاَ عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ *** بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِراعِ الكَتَائِبِ

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏أُذِنَ‏}‏ أي‏:‏ رُخص وشرع، أو أَذن اللهُ ‏{‏للذين يُقاتَلون‏}‏ أي‏:‏ يُقاتلهم الكفارُ المشركون، وحذف المأذون فيه؛ لدلالة «يُقاتَلون» عليه، أي‏:‏ في قتالهم، ‏{‏بأنهم ظُلموا‏}‏ أي‏:‏ بسبب كونهم مظلومين، وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان مشركو مكة يؤذونهم أذىً شديدًا، وكانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين مضروبٍ ومشجوج، فيتظلمون إليه، فيقول لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «اصبروا؛ فإني لم أومر بالقتال» حتى هاجر، فنزلت هذه الآية‏.‏ وهي أول آية نزلت في الجهاد، بعد ما نهى عنه في نيف وسبعين آية‏.‏

‏{‏وإِنّ الله على نصرهم لقديرٌ‏}‏‏.‏ وعدٌ لهم بالنصر، وتأكيد لِما مرّ من العِدَة الكريمة بالدفع، وتصريح بأن المراد ليس مجرد تخليصهم من يد المشركين، بل بغلبتهم وإظهارهم عليهم‏.‏ وتأكيده بكلمة التحقيق‏.‏ واللام؛ لمزيد من تحقيق مضمونه، وزيادة توطين نفوس المؤمنين‏.‏

ثم وصف الذين أَذن لهم، أو فسرهم، أو مدحهم بقوله‏:‏ ‏{‏الذين أُخرجوا من ديارهم‏}‏، يعني مكة‏:‏ ‏{‏بغير حق‏}‏؛ بغير ما يوجب إخراجهم ‏{‏إلا أن يقولوا ربنا الله‏}‏ أي‏:‏ بغير موجب سوى التوحيد، الذي ينبغي أن يكون موجبًا للإقرار لا للإخراج‏.‏ ومثله‏:‏ ‏{‏هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بالله‏}‏ ‏[‏المَائدة‏:‏ 59‏]‏‏.‏

‏{‏ولولا دفعُ اللهِ الناسَ‏}‏‏:‏ لولا أن يدفع الله الناس ‏{‏بعضهم ببعض‏}‏؛ بتسليط المؤمنين على الكافرين في كل عصر وزمان، وإقامة الحدود وكف المظالم، ‏{‏لهُدِّمت‏}‏ أي لخربت؛ باستيلاء الكفرة على الملل، ‏{‏صَوَامِعُ‏}‏‏:‏ جمع صومَعة- بفتح الميم-، وهي‏:‏ متعبد النصارى والصابئين منهم، ويسمى أيضًا الدير‏.‏ وسُمي بها موضع الأذان من الإسلام‏:‏ ‏{‏وَبِيَعٌ‏}‏‏:‏ جمع بيعة- بكسر الباء-‏:‏ كنائس النصارى، ‏{‏وصلوات‏}‏‏:‏ كنائس اليهود، سميت بما يقع فيها، وأصلها‏:‏ صلَوتا بالعبرانية، ثم عُربت، ‏{‏ومساجد‏}‏ للمسلمين، ‏{‏يُذْكَرُ فيها اسمُ الله كثيرًا‏}‏ أي‏:‏ ذكرًا كثيرًا، أو وقتًا كثيرًا، صفة مادحة للمساجد، خُصت بها؛ دلالةً على فضلها وفضل أهلها‏.‏ وقيل يرجع للأربع، وفيه نظر؛ فإنَّ ذكر الله تعالى في الصوامع والبيع والكنائس قد انقطع بظهور الإسلام، فَقَصْدُ بيانِه، بعد نسخ شرائعها مما لا يقتضيه المقام، ولا ترتضيه الأفهام‏.‏ وقدمت الثلاثة على المساجد؛ لتقدمها وجودًا، أو لقربها من التهديم‏.‏

‏{‏ولينصرنّ اللهُ مَن ينصره‏}‏ أي‏:‏ وتالله، لينصرن الله من ينصر دينه ونبيه- عليه الصلاة والسلام- وأولياءه‏.‏ ومن نصرِه‏:‏ إشهاره وإظهاره، وتعليمه لمن لا يعلَمه، وإعزاز حامل لوائه من العلماء والأولياء‏.‏

وقد أنجز الله وعده، حيث سلط المهاجرين والأنصارعلى صناديد العرب وأكاسرة العجم وقياصرة الروم، وأورثهم أرضهم وديارهم، ‏{‏إِن الله لقوي عزيز‏}‏‏:‏ غالب على ما يريد، ومن جملته‏:‏ نصرهم وإعلاؤهم‏.‏

ثم وصف الذين أُخرجوا من ديارهم بقوله‏:‏ ‏{‏الذين إِن مكَّناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتُوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونَهوا عن المنكر‏}‏ قلت‏:‏ الصواب ما قاله مكي‏:‏ أنه بدل مِن‏:‏ «مَن ينصره»، في محل نصب‏.‏ قيل‏:‏ المراد بهم‏:‏ الصحابة- رضي الله عنهم-، وقيل‏:‏ الأمة كلها‏.‏ وقيل الخلفاء الأربعة؛ لأنهم هم الذين مُكِّنوا في الأرض بالخلافة، وفعلوا ما وصفهم الله به‏.‏ وفيه دليل صحة أمرِ الخلفاء الراشدين؛ لأن الله- عزّ وجلّ- أعطاهم التمكين، ونفاذ الأمر مع السيرة العادلة‏.‏ وعن عثمان رضي الله عنه‏:‏ ‏(‏هذا، والله، ثناء قبل بلاء‏)‏، يعني‏:‏ أن الله تعالى أثنى عليهم قبل ظهور الشر من الهرج والفتن فيهم‏.‏ ‏{‏ولله عاقِبةُ الأمور‏}‏؛ فإنَّ مرجعها إلى حكمه وتقديره فقط‏.‏ وفيه تأكيد للوعد بإظهار أوليائه وإعلاء كلمته‏.‏

الإشارة‏:‏ إذا اتصل الإنسان بشيخ التربية فقد أذن له في جهاد نفسه، إن أراد الوصول إلى حضرة ربه؛ لأنها ظالمة تحول بينه وبين سعادته الأبدية‏.‏ وإن الله على نصرهم لقدير؛ لأن هِمَّةَ الشيخ تحمله وتنصره بإذن الله‏.‏ وأما إن لم يتصل بشيخ التربية، فإن مجاهدته لنفسه لا تُصيب مَقاتلها؛ لدخولها تحت الرماية، فلا يُصيبها ضربه، وأما الشيخ؛ فلأنه يريه مساوئها ويعينه على قتلها‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق‏}‏؛ هم الذين أُمروا بقتل نفوسهم، فإنهم إذا خرقوا عوائد نفوسهم، وخرجوا عن عوائد الناس، رفضوهم وأنكروهم، وربما أخرجوهم من ديارهم، فقلَّ أن تجد وليًا بقي في وطنه الأول، وما نقموا منهم وأخرجوهم إلا لقصدهم مولاهم، وقولهم‏:‏ ربُّنا الله دون شيء سواه، فحيث خرجوا عن عوائدهم وقصدوا مولاهم، أنكروهم وأخرجوهم من أوطانهم، ولولا دفع الناس بعضهم ببعض؛ بأن شفع خيارهم في شرارهم، لهدمت دعائم الوجود؛ لأنَّ من آذى وليًا فقد آذن بالحرب‏.‏

قال القشيري‏:‏ ‏{‏ولولا دفع الله الناس‏}‏، أي‏:‏ يتجاوز عن الأصاغر لِقَدْرِ الأكابر؛ استبقاء لمنازل العبادة، تلك سُنَّة أجراها‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏الذين إن مكّناهم في الأرض‏}‏، أي‏:‏ لم يشتغلوا في ذلك بحظوظٍ، ولكن قاموا لأداء حقوقنا‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 45‏]‏

‏{‏وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ ‏(‏42‏)‏ وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ ‏(‏43‏)‏ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ‏(‏44‏)‏ فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ ‏(‏45‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وإن يُكذبوك‏}‏ يا مُحمد، أي‏:‏ أهل مكة، فلا تحزن؛ فلست بأول من كُذب، ‏{‏فقد كَذَّبت قبلهم‏}‏ أي‏:‏ قبل قومك ‏{‏قومُ نوح‏}‏ نوحًا، ‏{‏وعادٌ‏}‏ هودًا، ‏{‏وثمودُ‏}‏ صالحًا، ‏{‏وقومُ إِبراهيمَ‏}‏ إبراهيم، ‏{‏وقومُ لوطٍ‏}‏ لوطًا، ‏{‏وأصحابُ مدينَ‏}‏ شعيبًا، ‏{‏وكُذِّب موسى‏}‏؛ كذَّبه فرعونُ والقبط‏.‏ ولم يقل‏:‏ وقوم موسى؛ لأن موسى ما كذبه قومه بنو إسرائيل، وإنما كذبه القبطُ‏.‏ أو‏:‏ كأنه لمَّا ذكر تكذيب كلُّ قوم رسولهم، قال‏:‏ وكُذِّب موسى، مع وضوح آياته وظهور معجزاته، فما ظنك بغيره‏؟‏ ‏{‏فأمليتُ للكافرين‏}‏‏:‏ أمهلتهم وأخرت عقوبتهم، ‏{‏ثم أخذتُهم‏}‏‏:‏ عَاقَبْتُهم على كفرهم، أي‏:‏ أخذت كل فريق من فِرَقِ المكذبين، بعد انقضاء مدة إملائه وإمهاله، ‏{‏فكيف كان نكير‏}‏ أي‏:‏ إنكاري وتغييري؛ حيث أبدلتهم بالنعم نقمًا، وبالحياة هلاكًا، وبالعمارة خرابًا، فكان ذلك في غاية ما يكون من الهول والفظاعة‏.‏

‏{‏فكأيِّن من قريةٍ أهلكناها‏}‏ أي‏:‏ كثيرًا من القرى أهلكناها وخربناها بإهلاك أهلها، ‏{‏وهي ظالمةٌ‏}‏ أي‏:‏ والحال أنها ظالمة بالكفر والمعاصي، ‏{‏فهي خاوية‏}‏‏:‏ ساقطة على ‏{‏عروشها‏}‏، من خوى النجم‏:‏ سقط‏.‏ والمعنى أنها ساقطة على سقوفها، أي‏:‏ خربت سقوفُها على الأرض، ثم تهدمت حيطانها فسقطت فوق السقوف‏.‏ ويجوز أن يكون ‏{‏على عروشها‏}‏‏:‏ خبرًا بعد خبر، أي‏:‏ فهي خالية من السكان، وهي على عروشها، أي‏:‏ قائمة مشرفة على السقوف الساقطة‏.‏ ‏{‏وبئرٍ مُعَطَّلَةٍ‏}‏ أي‏:‏ وكم من بئر متروكة مهملة في البوادي والحواضر، لا يستسقى منها؛ لهلاك أهلها مع توفير مائها، ‏{‏وقصْرٍ مَشيدٍ‏}‏‏:‏ مرفوع البنيان، من شاد البنيان‏:‏ إذا رفعه، أو مجصّص بالشيد، أي‏:‏ الجص، أي‏:‏ مبنيًا بالشيد والجندل‏.‏

وقال الضحاك‏:‏ كانت هذه البئر المعطلة بحضرموت، في بلدة يقال لها‏:‏ حاضوراء، وذلك أن أربعة آلاف ممن آمن بصالح، ونجوا من العذاب، أتوا حضرموت، ومعهم صالح، فلما حضروا ذلك الموضع، مات صالح، فسُمي حضرموت؛ لأن صالحًا لما حضره مات، فبنوا حاضوراء، وقعدوا على هذه البئر، فأقاموا دهرًا طويلاً، وتناسلوا حتى كثروا، ثم عبدوا الأصنام وكفروا، فأرسل الله إليهم نبيًا يقال له‏:‏ «حنظلة بن صفوان»، فقتلوه فأهلكهم الله، وعطلت بئرهم وخربت قصورهم‏.‏ ه‏.‏

وحاصل المعنى‏:‏ وكم قرية أهلكناها، وكم بئر عطلناها عن سقاتها، وقصر مشيد أخليناه عن ساكنه، أي‏:‏ أهلكنا البادية والحاضرة جميعًا، فخلت القصور عن أربابها، والآبار عن روادها‏.‏ فالأظهر أن البئر والقصر على العموم‏.‏

الإشارة‏:‏ ما سلّى به الرسل- عليهم السلام- تسلى به الأولياء- رضوان الله عليهم- فتكذيب أهل الخصوصية سُنَّة ماضية، غير أن مُكذبي الرسل يُعاجَلون بالعقوبة، ومكذبي الأولياء يعاقبون بالبعد والحجاب‏.‏ وقال القشيري‏:‏ ‏{‏وبئر معطلة‏}‏، الإشارة إلى العيون المفجرة من بواطنهم، ‏{‏وقصر مشيد‏}‏؛ الإشارة إلى تعطيل أسرارهم عن ساكنيها، من الهيبة والأنس وسائر المواجيد‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ وكأنه فسر القرية بالقلب، وهلاكه‏:‏ خلاؤه من نور التوحيد، فقلوب الغافلين خاوية على عروش عقولهم، المطموس نورها، وعيون بواطنهم معطلة من الفكرة، وأسرارهم خاربة من نور النظرة‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏46- 48‏]‏

‏{‏أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ‏(‏46‏)‏ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ‏(‏47‏)‏ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ ‏(‏48‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏أفلم‏}‏‏:‏ الفاء عطف على مقدار؛ أي أَغفلوا فلم يسيروا فيعتبروا، ‏{‏فإنها‏}‏‏:‏ ضمير القصة، أو مبهم يُفسره ما بعده‏.‏ و‏{‏لن يخلف الله وعده‏}‏‏:‏ حالية، أي‏:‏ ينكرون مجيء العذاب الموعود، والحال‏:‏ أنه تعالى لا يخلف وعده، أو اعتراضية مُبينة لما ذكر، و‏{‏إنَّ يومًا‏}‏‏:‏ استئنافية، إن كانت الأولى حالية، ومعطوفة، إن كانت اعتراضية سيقت لبيان خطئهم‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏أَفَلَمْ يسيروا في الأرض‏}‏ فيروا مصارعَ من أهلكهم اللهُ بكفرهم، ويشاهدوا آثارهم الدارسة وقصورهم الخالية، وديارهم الخربة، فيعتبروا‏.‏ وهو حث لهم على السفر ليشاهدوا ذلك‏.‏ ‏{‏فتكون لهم‏}‏؛ بسبب ما شاهدوه من مظان الاعتبار ومواطن الاستبصار ‏{‏قلوبٌ يعقلون بها‏}‏ ما يجب أن يُعقل من التوحيد ونحوه، ‏{‏أو آذانٌ يسمعون بها‏}‏ ما يجبُ أن يُسمع من الوحي أو من أخبار الأمم المهلكة ممن يجاورُهم من الناس؛ فإنهم أعرف بحالهم‏.‏ قال ابن عرفة‏:‏ لما تضمن الكلام السابق إهلاك الأمم السالفة، وبقيت آثارهم خرابًا، عقبه بذم هؤلاء في عدم اتعاظهم بذلك‏.‏ والسير في الأرض‏:‏ إمَّا حسي، أو معنوي باعتبار سماع أخبارها من الغير، أو قراءتها في الكتب‏.‏ فقوله‏:‏ ‏{‏فتكون لهم قلوب‏}‏‏:‏ راجع للسير الحسي، وقوله‏:‏ ‏{‏أو آذان‏}‏ للسير المعنوي‏.‏ ه‏.‏

‏{‏فإنها لا تعمى الأبصارُ‏}‏ الحسية، ‏{‏ولكن تعمى القلوبُ‏}‏ عن التفكر والاعتبار، أي‏:‏ ليس الخلل في مشاعرهم، ولكن الخلل في عقولهم، باتباع الهوى والانهماك في الغفلة‏.‏ وذكر الصدور؛ للتأكيد، ونفي توهم التجوز؛ لأن قلب الشيء‏:‏ لبه، فربما يقال‏:‏ إن القلب يراد به هذا العضو، ولكل إنسان أربع أعين‏:‏ عينان في رأسه، وعينان في قلبه، وتسمى البصيرة، فإن انفتح ما في القلب، وعمي ما في الرأس؛ فلا يضر، وإن انفتح ما في الرأس وانطمس ما في القلب لم ينفع، والتحق بالبهائم، بل هو أضل‏.‏

ثم ذكر علامة عمى القلوب، وهو الاستهزاء بالوعد الحق، فقال‏:‏ ‏{‏ويستعجلونك بالعذاب‏}‏ المتوعد به؛ استهزاء وإنكارًا وتعجيزًا، ‏{‏ولن يخلف الله وعده‏}‏ أي‏:‏ يستعجلون به، والحال أنه تعالى لا يخلف وعده أبدًا، وقد سبق الوعد به، فمن لا يخلف وعده فلا بد من مجيئه، ولو بعد حين‏.‏ ‏{‏وإِن يومًا عند ربك كألفِ سنةٍ مما تَعدُّون‏}‏ أي‏:‏ كيف يستعجلونك بعذاب من يومْ واحد من أيام عذابه في طول ألف سنة من سنيكم؛ لأن أيام الشدة طُوال‏.‏ وقيل‏:‏ تطول حقيقة، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «يَدْخُلُ الفُقَرَاءُ الجَنَّةَ قِبْلَ الأَغْنِيَاءِ بِنِصْفِ يَوْم، وذَلِكَ خَمْسِمِائِةِ سَنَةٍ»

‏{‏وكأيِّن من قريةٍ أمليت لها وهي ظالمةٌ ثم أخذتُها‏}‏ أي كثيرًا من أهل قرية كانوا ظالمين مثلكم، قد أمهلتهم حينًا وأمليت لهم، كما أمليت لكم، ثم أخذتهم بالعذاب والنكال بعد طول الإملاء والإمهال‏.‏

والإملاء هو الإمهال مع إرادة المعاقبة‏.‏ ‏{‏وإِليَّ المصيرُ‏}‏ أي‏:‏ المرجع إليَّ، فلا يفوتني شيء من أمر المستعجلين وغيرهم، أو‏:‏ إلى حكمي مَرجع الكل، لا إلى غيري، لا استقلالاً ولا شركة، فأفعل بهم ما يليق بأعمالهم‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ عمى القلوب هو انطماس البصيرة، وعلامة انطماسها أمور‏:‏ إرسال الجوارح في معاصي الله، والانهماك في الغفلة عن الله، والوقيعة في أولياء الله، والاجتهاد في طلب الدنيا مع التقصير فيما طلبه منه الله‏.‏ وفي الحِكَم‏:‏ «اجتهادك فيما ضمن لك، وتقصيرك فيما طلب منك، دليل على انطماس البصيرة منك»‏.‏ وعلامة فتحها أمور‏:‏ المسارعة إلى طاعة الله، واستعمال المجهود في معرفة الله، بصحبة أولياء الله، والإعراض عن الدنيا وأهلها، والأنس بالله، والغيبة عن كل ما سواه‏.‏ واعلم أن البصر والبصيرة متقابلان في أصل نشأتهما، فالبصر لا يُبصر إلا الأشياء الحسية الحادثة، والبصيرة لا تُبصر إلا المعاني القديمة الأزلية، فإذا انطمست البصيرة كان العبد مفروقًا عن الله، لا يرى إلا الأكوان الظلمانية الحادثة‏.‏ وفي ذلك يقول المجذوب رضي الله عنه‏.‏

مَنَ نَظَرَ الكَوْن بِالْكَوْنِ غَرَّهُ في عمى البصيرة *** ومن نظر الكون بالمكون صادق علاج السريرة

وإذا انفتحت البصيرة بالكلية استولى نورها على نور البصر، فانعكس نور البصر إلى البصيرة، فلا يرى العبدُ إلا أسرار المعاني الأزلية، المفنية للأواني الحادثة، فيغيب عن رؤية الأكوان بشهود المكون‏.‏ وعِلاَجُ انفتاحها يكون على يد طبيب ماهر عارف بالله، يقدحها له بمرود التوحيد، فلا يزال يعالجها بإثمد توحيد الأفعال، ثم توحيد الصفات، ثم توحيد الذات، حتى تنفتح‏.‏ فتوحيد الأفعال والصفات يُشهد قُرب الحق من العبد، وتوحيد الذات يُشهد عدمه لوجود الحق، وهو الذي أشار إليه في الحكم بقوله‏:‏ «شعاع البصيرة يشهدك قرب الحق منك، وعين البصيرة يشهدك عدمك لوجوده، وحق البصيرة يشهدك وجود الحق، لا عدمك ولا وجودك‏.‏ كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما عليه كان»‏.‏ فيرى حينئذ من أسرار الذات وأنوار الصفات ما لا يراه الناظرون، ويشاهد ما لا يشاهده الجاهلون‏.‏ وفي ذلك يقول الحلاج‏:‏

قلُوبُ العَارفينَ لَهَا عُيُونٌ *** تَرَى مَا لا يُرَى للنَّاظِرِينَا

وأجْنِحَةٌ تَطِيرُ بِغَيْرِ رِيشٍ *** إلَى مَلَكُوتِ رَبِّ العَالمِينا

وألْسِنَةٌ بأسْرَارٍ تُنَاجِي *** تَغيبُ عن الكِرَامِ الكَاتِبِينا

وقال الورتجبي‏:‏ الجهال يرون الأشياء بأبصار الظواهر، وقلوبهم محجوبة عن رؤية حقائق الأشياء، التي تلمع منها أنوار الذات والصفات، وأعماهم الله بغشاوة الغفلة وغطاء الشهوة‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏49- 51‏]‏

‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏49‏)‏ فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ‏(‏50‏)‏ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ‏(‏51‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏قُل‏}‏ يا محمد‏:‏ ‏{‏يا أيها الناس إِنما أنا لكم نذيرٌ مبينٌ‏}‏ أي‏:‏ أنذركم إنذارًا مبينًا بما أوحي إليَّ من أخبار الأمم المهلَكة، من غير أن يكون لي دخل في الإتيان بما توعَدُونه من العذاب الذي تستعجلونه *** وإنما لم يقل‏:‏ نذير وبشير، مع ذكر الفريقين بعده؛ لأن الحديث مسوق إلى المشركين فقط‏.‏ والمراد بالناس‏:‏ الذين قيل فيهم‏:‏ ‏{‏أفلم يسيروا في الأرض‏}‏، ووصفوا بالاستعجال، وإنما ذكر المؤمنين وثوابهم؛ زيادة في غيظهم‏.‏ ‏{‏فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة‏}‏ لذنوبهم، ‏{‏ورزقٌ كريمٌ‏}‏ أي‏:‏ حسن، وهي الجنة‏.‏ والكريم من كل نعيم‏:‏ ما يجمع فضائله ويجوز كمالاته‏.‏

‏{‏والذين سَعَوا‏}‏، يقال‏:‏ سَعَى في أمر فلان‏:‏ إذا أفسده بسعيه، أي‏:‏ أفسدوا ‏{‏في آياتنا‏}‏ أي‏:‏ القرآن؛ بسعيهم في إبطاله، ‏{‏معاجزين‏}‏ أي‏:‏ مسابقين‏.‏ وقرأ المكي والبصري‏:‏ «معجّزين»‏.‏ بالشد، أي‏:‏ مُثبطين الناس عن الإيمان‏.‏ يقال‏:‏ عاجزه‏:‏ سابقه؛ لأنَّ كل واحد منهما يطلب عجز الآخر، واللحوق به، فإذا غلبه، قيل‏:‏ أعجزه وعجزه‏.‏ والمعنى‏:‏ سعوا في معناها بالفساد؛ من الطعن فيها، حيث سمُّوها سحرًا وشعرًا وأساطير الأولين، مسابقين في زعمهم وتقديرهم، طامعين أن كيدهم للإسلام يتم لهم‏.‏ ‏{‏أولئك أصحابُ الجحيم‏}‏ أي‏:‏ ملازمو النار الموقودة‏.‏ وقيل‏:‏ هو اسم دركة من دركاتها‏.‏

الإشارة‏:‏ الدعاة إلى الله تعالى إنما شأنهم التحذير والتبشير، ثم ينظرون ما يفعل الله في ملكه وخلقه، من هداية أو إضلال، وليس من شأنهم طلب ظهور المعجزات، أو الكرامات، ولا الحرص على هداية الخلق بالكد والاجتهاد، إنما شأنهم التذكير، ويردون الأمر إلى الملك القدير، فلا يتأسفون على من تخلف عنهم‏.‏

وكان عليه الصلاة والسلام- يحرص على هداية قومه-، فلما نهاه الحق تعالى عن ذلك، رجع وتأدب بكمال العبودية، وبه اقتدى خلفاؤه من بعده، فكان صلى الله عليه وسلم في أول أمره يتمنى أن ينزل عليه ما يُقارب بينه وبين قومه، لعلهم يتدبرون فيما ينزل عليه فيُسلموا، فقرأ يومًا سُورَةَ النَّجْمِ، فَأُلقِي في مسامعهم ما يدل على مدح آلهتهم، فحزن- عليه الصلاة والسلام- حين نسبوا ذلك له‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏52- 54‏]‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏52‏)‏ لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ‏(‏53‏)‏ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏54‏)‏‏}‏

قال ابن عباس وغيره من المفسرين الأولين- رضي الله عنهم-‏:‏ لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم مباعدة قومه وتوليهم، وشق عليه ذلك تمنى أن يأتيه من الله تعالى ما يُقارب بينه وبين قومه، فجلس يومًا في جمع لهم، فنزلت سورة النجم، فقرأها عليهم، فلما بلغ‏:‏ ‏{‏أَفَرَأَيْتُمُ اللات والعزى وَمَنَاةَ الثالثة الأخرى‏}‏ ‏[‏النّجْم‏:‏ 19، 20‏]‏، ألقى الشيطان على لسانه‏:‏ تلك الغرانيق العُلى وإنْ شفاعتهم لترجى‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ بلى، ألقى ذلك في مسامعهم فقط، ولم ينطق بذلك- عليه الصلاة والسلام- فلما سمعت ذلك قريش فرحوا، ثم سجد النبي صلى الله عليه وسلم في آخر السورة، وسجد المسلمون والمشركون، إلا الوليد بن المغيرة، رفع حفنة من التراب وسجد عليه، فقالت قريش‏:‏ ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر، وقالوا‏:‏ قد عرفنا أن الله يُحيي ويميت، ويخلق ويرزق، ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده، فإذا جعل محمد لها نصيبًا فنحن معه، فلما أمسى أتاه جبريل‏.‏ فقال يا محمد؛ ما صنعتَ فقد تلوتَ على الناس ما لم آتك به‏؟‏ فحزن النبي صلى الله عليه وسلم حزنًا شديدًا، فنزلت الآية؛ تسلية له عليه الصلاة والسلام‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وما أرسلنا من قبلك من رسول‏}‏، يُوحى إليه بشرع، ويُؤمر بالتبليغِ، ‏{‏ولا نبيٍّ‏}‏ يُوحى إليه، ولم يُؤمر بالتبليغ، فالرسول مكلف بغيره، والنبي مقتصر على نفسه، أو الرسول‏:‏ مَن بُعث بشرع جديد، والنبي‏:‏ مَنْ قرر شريعة سابقة، ولذلك شبه صلى الله عليه وسلم علماء أمته بهم، فالنبي أعم من الرسول، وقد سئل- عليه الصلاة والسلام- عن الأنبِيَاءِ، فقال‏:‏ «مِائَةُ أَلْفٍ وأرْبَعَةٌ وعِشْرُونَ ألْفًا، قِيل‏:‏ فَكمِ الرُّسُلُ مِنْهُمْ‏؟‏ قال‏:‏ ثَلاثُمِائةٍ وثلاثَةَ عَشَرَ، جَمًّا غَفِيرًا»

‏{‏إِلاَّ إِذا تَمَنَّى‏}‏؛ هيأ في نفسه ما يهواه؛ كهداية قومه ومقاربتهم له، ‏{‏ألقى الشيطانُ في أُمنيته‏}‏؛ في تشهيه ما يُوجب حصول ما تمناه، أو مقاربته، كما ألقى في مسامع قريش ما يُوجب مقاربتهم له- عليه الصلاة والسلام- ثم ينسخ الله ذلك‏.‏ أو ‏{‏إذا تمنى‏}‏‏:‏ قرأ، كما قال الشاعر‏:‏

تَمَنَّى كِتَابَ اللهِ أَوَّلَ لَيْلَةٍ *** تَمَنَّى دَاوُدَ الزَّبُورَ علَى رِسْلِ

‏{‏ألقى الشيطان في أُمنيته‏}‏‏:‏ في قراءته، حين قرأ سورة النجم بعد قوله‏:‏ ‏{‏ومناة الثالثة الأخرى‏}‏، تلك الغرانيق العُلى، كما تقدم‏.‏

قال القشيري‏:‏ كانت لنبينا صلى الله عليه وسلم سكتات، في خلال قراءته عند قراءة القرآن، عند انقضاء كل آية، فتلفظ الشيطان ببعض الألفاظ، فمن لم يكن له تحصيل توهم أنه من ألفاظ الرسول‏.‏ ه‏.‏ وقال ابن البنا‏:‏ التمني هو التلاوة التي يُتمنى فيها، فيتلو النبي وهو يريد أن يفهم عنه معناها، فيلقي الشيطان في فهوم السامعين غير المعنى المراد، وما قال الزمخشري‏:‏ قرأ تلك الغرانيق العلى، على جهة السهو والغلط، فباطل، لقول الله العظيم‏:‏

‏{‏وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى‏}‏ ‏[‏النّجْم‏:‏ 3، 4‏]‏، فهو معصوم من السهو والغلط في تبليغ الوحي‏.‏ ه‏.‏

قلت‏:‏ فتحصل أنه- عليه الصلاة والسلام- لم ينطق بتلك الكلمات قط، لا سهوًا ولا عمدًا، وإنما أُلقيت في مسامع الكفار ليحصل ما تمناه- عليه الصلاة والسلام- من المقاربة‏.‏ ويدل على هذا أن من حضر من المسلمين لم يسمعوا من ذلك شيئًا‏.‏ فإذا تقرر هذا علمت أن ما حكاه السلف الصالح من المفسرين وأهل السير من أصل القصة في سبب نزول الآية صحيح، لكنه يحتاج إلى نظر دقيق وتأويل قريب، فلا تَحْسُن المبادرة بالإنكار والرد عليهم، وهم عدول، لا سيما حبر هذه الأمة، وإنما يحتاج اللبيب إلى التطبيق بين المنقول والمعقول، فإن لم يمكن، قدَّم المنقول، إن ثبتت صحته، وحكم على العقل بالعجز‏.‏ هذا مذهب المحققين من الصوفية- رضي الله عنهم- ونسبة الإلقاء إلى الشيطان أدب وتشريع؛ إذ لا فاعل في الحقيقة سواه تعالى‏.‏

‏{‏فينسخ اللهُ ما يُلقي الشيطانُ‏}‏ أي‏:‏ يَذهب به ويُبطله، أو يُرشد إلى ما يزيحه، ‏{‏ثم يُحْكِمُ اللهُ آياته‏}‏ أي‏:‏ يُثبتها ويحفظها عن لحوق الزيادة من الشيطان، ‏{‏والله عليمٌ حكيم‏}‏ أي‏:‏ عليم بما يوحى إلى نبيه، حكيم في وحيه، لا يدع الباطل يأتيه من بين يديه ولا من خلفه‏.‏

ثم ذكر حكمة ذلك الإلقاء، فقال‏:‏ ‏{‏ليجعل ما يُلقي الشيطانُ فتنةً‏}‏ أي‏:‏ محنة وابتلاء ‏{‏للذين في قلوبهم مرضٌ‏}‏‏:‏ شك وشرك، ‏{‏والقاسية قلوبهم‏}‏؛ البعيدة من الخير، الخاربة من النور، واليابسة الصلبة، لا رحمة فيها ولا شفقة؛ وهم المشركون المكذبون، فيزدادون به شكًا وظلمة‏.‏ ‏{‏وإِنَّ الظالمين‏}‏ وهم الكفرة المتقدمة، ووضع الظاهر موضع المضمر؛ تسجيلاً عليهم بالظلم، ‏{‏لفي شقاقٍ بعيد‏}‏ أي‏:‏ عداوة شديدة ومخالفة تامة بعيدة عن الحق‏.‏

‏{‏وليعلم الذين أُوتوا العلم‏}‏ بالله ‏{‏أنه‏}‏ أي‏:‏ القرآن ‏{‏الحقُّ من ربك‏}‏ أي‏:‏ النازل من عنده ‏{‏فيُؤمنوا به‏}‏ أي‏:‏ بالقرآن ‏{‏فتُخْبتَ‏}‏‏:‏ تطمئن، أو تخشع ‏{‏له قلوبُهم‏}‏ بالانقياد إليه والإذعان لما فيه، ‏{‏وإِنَّ الله لهادي الذين آمنوا إِلى صراط مستقيم‏}‏ بالنظر الموصل إلى الحق الصريح، فيتأولوا ما تشابه في الدين بالتأويلات الصحيحة، ويطلبوا، لما أشكل منه، المحمل الذي تقتضيه الأصول المحكمة، حتى لا يلحقهم حيرة ولا تعتريهم شبهة‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ إذا وقع التعبير من جانب الحق فكل واحد من المستمعين يسمع ما يليق بمقامه ويقويه فيه‏.‏ فأهل الباطل يسمعون ما يليق بباطلهم ويمدهم فيه، وأهل الحق يسمعون ما يليق بحقهم ويرقيهم، فأهل الإيمان يسمعون ما يقوي إيمانهم ويزيدهم يقينًا، وأهل الوصول يسمعون ما يليق بمقامهم ويرقيهم فيه، وهكذا‏.‏ وتأمل قضية الثلاثة الذين سمعوا قائلاً يقول‏:‏ يا سعترا بري‏.‏ فسمع أحدهم‏:‏ اسْعَ تَر بري، وسمع الآخر‏:‏ الساعة ترى بري *** وسمع الثالث‏:‏ ما أوسع بري، فالأول‏:‏ طالب للوصول، فقال له‏:‏ اسع ترى بري، والثاني‏:‏ سائر مستشرف على الوصول، فقال له‏:‏ الساعة ترى بري، والثالث‏:‏ واصل قد اتسع عليه ميدان النعم، فقال له‏:‏ ما أوسع بري‏.‏ وكل من قَدِمَ على الأولياء فإنما يسمع حسب ما عنده؛ فمن قَدِمَ عليهم بالميزان لا يسمع إلا ما يُبعده، ومن قَدِمَ بالتصديق والتعظيم لا يسمع ولا يرى إلا ما يُقربه من الكمالات والأنوار‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏55- 59‏]‏

‏{‏وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ ‏(‏55‏)‏ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ‏(‏56‏)‏ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏57‏)‏ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ‏(‏58‏)‏ لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ ‏(‏59‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ولا يزال الذين كفروا في مريةٍ‏}‏‏:‏ شك ‏{‏منه‏}‏؛ من القرآن، أو الصراط المستقيم، ‏{‏حتى تأتيهم الساعةُ بغتةً‏}‏‏:‏ فجأة، ‏{‏أو يأتيهم عذاب يومٍ عقيم‏}‏، وهو عذاب يوم القيامة، كأنه قيل‏:‏ حتى تأتيهم الساعة أو عذابها، فزاد «اليوم العقيم»؛ لمزيد التهويل‏.‏ واليوم العقيم‏:‏ الذي لا يوم بعده، كأنَّ كل يوم يلد ما بعده من الأيام، فما لا يوم بعده يكون عقيمًا‏.‏ وقيل‏:‏ اليوم العقيم‏:‏ يوم بدر، فهو عقيم عن أن يكون للكافرين فيه فَرح أو راحة، كالريح العقيم؛ لا تأتي بخير، أو لأنه لا مثل له في عِظم أمره؛ لقتال الملائكة فيه، ولكن لا يساعده ما بعده، من قوله‏:‏ ‏{‏المُلكُ يومئذٍ لله‏}‏ أي‏:‏ السلطان القاهر، والتصرف التام، يومئذ لله وحده، ولا منازع له فيه، ولا تصرف لأحد معه، لا حقيقة ولا مجازاً، ولا صورة ولا معنىً، كما في الدنيا، فإنَّ للبعض فيه تصرفًا مجازيًا صُوريًا‏.‏ ‏{‏يحكم بينهم‏}‏ أي‏:‏ بين فريق أهل المرية وأهل الإيمان‏.‏

ثم بيّن حكمه فيهم، فقال‏:‏ ‏{‏فالذين آمنوا‏}‏ بالقرآن الكريم ولم يُماروا فيه، ‏{‏وعملوا الصالحات‏}‏ امتثالاً لما أمر به في تضاعيفه ‏{‏في جنات النعيم‏}‏، ‏{‏والذين كفروا‏}‏ بالقرآن وشكوا فيه، أو بالبعث والجزاء، ‏{‏وكذبوا بآياتنا‏}‏ الدالة على كمال قدرتنا أو القرآن، ‏{‏فأولئك لهم عذابٌ مهين‏}‏، يُهينهم ويُخزيهم‏.‏

ثم خص قومًا من الفريق الأول بفضيلة، فقال‏:‏ ‏{‏والذين هاجروا في سبيل الله‏}‏‏:‏ خرجوا من أوطانهم مجاهدين، ‏{‏ثم قتلوا‏}‏ في الجهاد، ‏{‏أو ماتوا‏}‏ حتف أنفهم، ‏{‏لَيَرزقنَّهم الله رزقًا حسنًا‏}‏، وهو ما لا ينقطع من نعيم الجنان‏.‏ ومراتب الحسن متفاوتة، فيجوز تفاوت حال المرزوقين، حسب تفاوت أرزاق الجنة‏.‏ رُوي أن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا‏:‏ يا نَبِي الله؛ هؤُلاَءِ الذين قُتِلُوا في سَبِيل اللهِ قَدْ عَلِمْنَا مَا أعْطَاهُمُ الله مِن الخَيْرِ، ونَحْنُ نُجَاهِدُ مَعَكَ كَما جَاهَدُوا، فَمَا لَنَا مَعَكَ‏؟‏ فنزلت‏:‏ ‏{‏والذين هاجروا ***‏}‏ الآيتين‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في طوائف، خرجوا من مكة إلى المدينة، فتبعهم المشركون فقتلوهم‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإِن الله لهو خير الرازقين‏}‏، فإنه يرزق بغير حساب، مع أنَّ ما يرزقه لا يقدر عليه غيره، ‏{‏لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ‏}‏، وهو الجنة؛ لأنَّ فيه ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، قيل‏:‏ لَمَّا ذكر الرزق ذكر المسكن، ‏{‏وإِن الله لعليمٌ حليمٌ‏}‏، عليم بأحوال من قضى نحبه مجاهدًا، وآمال من مات وهو ينتظره معاهدًا، حليم بإمهال من قاتلهم معاندًا‏.‏

الإشارة‏:‏ من لم يصحب العارفين أهل الرسوخ واليقين، لا يمكن أن تنقطع عنه خواطر الشكوك والأوهام، حتى يلقى الله بقلب سقيم، فيُفضي إلى الهوان المقيم‏.‏ والذين هاجروا في طلب محبوبهم لتكميل يقينهم، ثم قتلوا قبل الوصول، أو ماتوا بعد الوصول، ليرزقنهم الله جميعًا رزقًا حسنًا، وهو لذة الشهود والعيان، في مقعد صدق مع المقربين، ‏{‏وإن الله لهو خير الرازقين‏}‏‏.‏ والمدخل الذي يرضونه‏:‏ هو القرب الدائم، والشهود المتصل‏.‏ جعلنا الله من خواصهم بمنِّه وكرمه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏60- 62‏]‏

‏{‏ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ‏(‏60‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ‏(‏61‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ‏(‏62‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏‏:‏ خبر، أي‏:‏ الأمر ذلك‏.‏ و‏{‏مَن عاقب‏}‏‏:‏ شرط سدّ مسد جوابه، أي‏:‏ من عاقب بمثل ما عُوقب به ينصره الله‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي‏:‏ الأمر ذلك، كما أخبرتك في بيان الفريقين، ثم استأنف فقال‏:‏ ‏{‏ومن عاقب بمثل ما عُوقِبَ به‏}‏ أي‏:‏ لم يزد في القصاص على ما فُعل به، وسمى الابتداء عقابًا؛ للمشاكلة ولملابسته له، من حيث إنه سبب له وهو مسبب عنه‏.‏ ‏{‏ثم بُغِيَ عليه لينصُرَنَّه اللهُ‏}‏ أي‏:‏ من جازى بمثل ما فُعل به من الظلم، ثم ظُلم، بعد ذلك، وبُغي عليه بعد ذلك، فحق على الله أن ينصره؛ ‏{‏إِنَّ الله لعفوٌّ‏}‏ يمحو آثار الذنوب، ‏{‏غفورٌ‏}‏ يستر أنواع العيوب‏.‏

ومناسبة الوصفين لما قبلهما‏:‏ أن المعاقب مأمور بالعفو من عند الله، بقوله ‏{‏فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 40‏]‏، ‏{‏وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 43‏]‏، فحين لم يفعل ذلك، وانتصر لنفسه، فكأنه مُذنب، فمعنى العفو في حقه أنه لا يلزمه على ترك الفضل شيء، وأنه ضامن لنصره في الكرة الثانية، إذا ترك العفو وانتقم من الباغي عليه، وعَرَّضَ، مع ذلك، بما كان أولى به من العفو بذكر هاتين الصفتين‏.‏

ثم ذكر دلائل قدرته على النصر وغيره بقوله‏:‏ ‏{‏ذلك بأن الله يُولج الليلَ في النهار ويُولجُ النهارَ في الليل وأنَّ الله سميع بصيرٌ‏}‏ أي‏:‏ ذلك النصر للمظلوم بسبب أنه قادر على ما يشاء‏.‏ ومن آيات قدرته أنه ‏{‏يُولجُ الليلَ في النهار ويُولجُ النهارَ في الليل‏}‏ أي‏:‏ يُدخل أحدهما في الآخر، فيدخل الليلَ في النهارِ إذا طال النهار، ويُدخل النهارَ في الليل إذا طال الليلُ، فيزيد في أحدهما ما ينقص من الآخر‏.‏ أو بسبب أنه خالق الليل والنهار ومصرفهما، بإدخال أحدهما على الآخر، فلا يخفى عليه ما يجري فيهما على أيدي عباده من الخير والشر، والبغي والإنصاف‏.‏ ‏{‏وأن الله سميع‏}‏ لما يقولون، لا يشغله سمع عن سمع، وإن اختلفت في النهار الأصوات بفُنون اللغات، ‏{‏بصير‏}‏ بما يفعلون، فلا يستتر عنه شيء بشيء في الليالي، وإن توالت الظلمات‏.‏

‏{‏ذلك بأن الله هو الحقُّ‏}‏ الواجب لذاته، الثابت في نفسه، الواحد في صفاته وأفعاله، فإن وجوب وجوده ووحدته يقتضيان كونه مُبديًا لكل ما يوجد من الموجودات، عالمًا بكل المعلومات‏.‏ وإذا ثبت أنه الحق فدينُه حق، وعبادته حق، ‏{‏وأن ما تدعون من دونه‏}‏ إلهًا ‏{‏هو الباطل‏}‏ ي‏:‏ المعدوم في حد ذاته‏.‏ أو الباطل ألوهيته، ‏{‏وأن الله هو العليُّ الكبيرُ‏}‏ أي‏:‏ المتعالي عن مدارك العقول، وعن سمات الحدوث، أو المرتفع على كل شيء بقهريته، أو المتعالي عن الأنداد والأشباه، الكبير شأنًا وعظمةً وكبرياء؛ إذ كل شيء يصغر دون كبريائه، فلا شيء أعلى منه شأنًا وأكبر سلطانًا؛ لأن له الوجود المطلق‏.‏

والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ ومن عاقب نفسه وجاهدها وأدَّبها في أيام اليقظة، بمثل ما عاقبته وجنت عليه وطغت في أيام الغفلة، ثم صرعته بعد ذلك وغلبته؛ لينصرنه الله عليها، حتى يغلبها ويملكها، فكلما هاجت عليه هجم عليها، حتى يملكها؛ ذلك بأن الله يُولج ليلَ المعصية في نهار الطاعة، ويولجُ نهارَ الطاعة في ليلِ المعصية، أي‏:‏ يدخل أحدهما على الآخر، فلا يزال العبد يعصي ويطيع حتى يمنَّ عليه بالتوبة النصوح‏.‏ أو يولج ليل المعصية في نفس الطاعة، فتنقلب الطاعة معصية، إذا صحبها علو واستكبار‏.‏ ويولج نهار الطاعة في عين المعصية، فتنقلب طاعة إذا صحبها ذل وافتقار‏.‏ ذلك بأن الله هو الحق، وأن ما دونه باطل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏63- 65‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ‏(‏63‏)‏ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ‏(‏64‏)‏ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏65‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏فتصبح‏}‏‏:‏ عطف على ‏{‏أنزل‏}‏، والعطف بالفاء أغنى عن الضمير، وإيثار صيغة الاستقبال؛ للإشعار بتجدد أثر الإنزال، وهو الاخضرار واستمراره، أو لاستحضار صورة الاخضرار، وإنما لم ينصب جوابًا للاستفهام؛ لأنه لو نصب لبطل الغرض؛ لأن معناه في الرفع إثبات الاخضرار، فينقلب في النصب إلى نفيه، كما تقول لصاحبك‏:‏ ألم تر أني أنعمت عليك فتشكر، إن نصبته نفيت شكره، وشكوت من تفريطه، وإن رفعته أثبت شكره‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ألم تر‏}‏ يا محمد، أو يا من يسمع، ‏{‏أن الله أنزل من السماء ماءً‏}‏؛ مطرًا ‏{‏فتصبحُ الأرض مخضرةً‏}‏ بالنبات، بعدما كانت مسودة يابسةً، ‏{‏إِنَّ اللهَ لطيفٌ‏}‏ بعباده، أو في ذاته لا يدرك، ‏{‏خبيرٌ‏}‏ بمصالح خلقه ومنافعهم، أو اللطيف المختص بدقائق التدبير، الخبير بكل جليل وحقير، قليل وكثير‏.‏ ‏{‏له ما في السماوات وما في الأرض‏}‏؛ مُلكًا ومِلْكًا، قد أحاط بهم؛ قدرةً وعلمًا، ‏{‏وإِنَّ الله لهو الغني‏}‏ عن كل شيء، المفتقر إليه كل شيء، ‏{‏الحميد‏}‏‏:‏ المحمود بنعمته، قبل ثناء من في السماوات والأرض عليه، أو المستحق للحمد، أعطى أو لم يعط‏.‏

ثم ذكر موجب الحمد من عباده، فقال‏:‏ ‏{‏ألم ترَ أن الله سخَّر لكم ما في الأرض‏}‏ من الأنعام؛ لتأكلوا منها، ومن البهائم؛ لتركبوها في البر، ‏{‏والفُلكَ تجري في البحر بأمره‏}‏‏:‏ بقدرته وإذنه، أي‏:‏ وسخر لكم المراكب حال كونها جارية في البحر بإذنه، ‏{‏ويُمسكُ السماء أن تقعَ على الأرض‏}‏ أي‏:‏ يحفظها من السقوط، بأن خلقها على هيئة متداعية إلى الاستمساك، ‏{‏إِلا بإِذنه‏}‏‏:‏ إلا بمشيئته، وذلك يوم القيامة، وفيه رد لاستمساكها بذاتها؛ فإنها مساوية لسائر الأجسام في الجسمية، فتكون قابلة للميل الهابط قبُولَ غيرها‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله بالناس لرؤوفٌ رحيمٌ‏}‏؛ حيث هيأ لهم هذه الأسباب لقيام معاشهم، وفتح لهم أبواب المنافع، ودفع عنهم أنواع المضار، فأوضح لهم مناهج الاستدلال بالآيات التكوينية والتنزيلية، فله الحمد وله الشكر‏.‏

الإشارة‏:‏ ألم تر أن الله أنزل من سماء المعاني ماء علم الغيوب، وهو علم أسرار الذات وأنوار الصفات، أعني‏:‏ التوحيد الخاص، فإذا نزل على أرض النفوس، اهتزت وربت، واخضرت بالعلوم والمعارف، إن الله لطيف خبير، لطيف؛ لسريان معانيه اللطيفة في كل شيء، خبير ببواطن كل شيء، فمن كوشف بلطيف معانيه وإحاطة علمه في كل شيء، وبكل شيء، حيي قلبه بمعرفة الله، واخضرت أرض نفسه بأنواع العلوم والمعارف‏.‏ ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض، يكون عند أمركم ونهيكم، وفلك الفكرة تجري في بحر التوحيد بأمره، ويُمسك سماء الأرواح أن تقع على أرض الحظوظ إلا بإذنه، بعد الرسوخ في معرفته، والتمكين من الفهم عنه، إن الله بالناس لرؤوف رحيم؛ حيث فتح لهم باب العلوم، وهيأ لهم أسباب الفهوم، وهي الرياضة والتأديب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏66‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ ‏(‏66‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وهو الذي أحياكم‏}‏ بعد أن كنتم جمادًا، عناصر ونطفًا في الأصلاب والأرحام، حسبما فُصل في صدر السورة، ‏{‏ثم يُميتُكم‏}‏ عند مجيء آجالكم، ‏{‏ثم يُحييكم‏}‏ عند البعث، لإيصال جزائكم، ‏{‏إِنَّ الإِنسان لكفور‏}‏‏:‏ لَجَحُود لِمَا أفاض عليه من ضُروب النعم، ودفع عنه من صنوف النقم، أو لا يعرف نعمة الإيجاد المُظهرة للوجود، ولا نعمة الإمداد الممدة بعد الوجود، ولا نعمة الإفناء المقربة إلى الموعود، ولا نعمة الإحياء الموصلة إلى المقصود، وهو التنعم في جوار الملك الودود، فله الحمد دائمًا وله الشكر‏.‏

الإشارة‏:‏ وهو الذي أحياكم باليقظة بعد الغفلة، وبالعلم بعد الجهل، ثم يميتكم عن حظوظ نفوسكم وهواها، ثم يُحييكم بالمعرفة به، حياةٌ لا موت بعدها، فمن لم يعرف هذا فهو كنود‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏67- 71‏]‏

‏{‏لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ ‏(‏67‏)‏ وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏68‏)‏ اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ‏(‏69‏)‏ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ‏(‏70‏)‏ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ‏(‏71‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏لكل أمةْ‏}‏ من الأمم الخالية والباقية ‏{‏جعلنا‏}‏ أي‏:‏ وضعنا، وعَيَّنا ‏{‏منسَكًا‏}‏‏:‏ شريعة خاصة يتمسكون بها، أي‏:‏ عيّنا كل شريعة لأمة معينة من الأمم، بحيث لا تتخطى أمة منهم شريعتها المعينة لها إلى شريعة أخرى، لا استقلالاً ولا اشتراكًا، فكل جيل لهم شرع مخصوص، ‏{‏هم ناسكوه‏}‏‏:‏ عاملون به، فالأمة التي كانت من مبعث موسى إلى مبعث عيسى- عليهما السلام- منسكهم التوراة، هم عاملون به لا غيرهم‏.‏ والتي كانت من مبعث عيسى عليه السلام إلى مبعث النبي صلى الله عليه وسلم منسكهم الإنجيل، هم ناسكوه وعاملون به‏.‏ وأما الأمة الموجودة عند مبعث النبي- عليه الصلاة والسلام- ومن بعدهم إلى يوم القيامة؛ فهم أمة واحدة، منسكهم القرآن، ليس إلا‏.‏

والفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فلا ينازعنك في الأمر‏}‏ لترتيب ما بعدها على ما قبلها؛ فإن تعيين كل أمة بشرع مخصوص، يجب اتباعه، يُوجب اتباع هؤلاء الموجودين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعدم منازعتهم له في أمر الدين، أي‏:‏ فلا يجادلنك في أمر الدين، بل يجب عليهم الاستسلام والانقياد لكل أمر ونهي‏.‏ أو‏:‏ فلا تلتفت إلى قولهم، ولا تمكنهم من أن ينازعوك في الأمر، أي‏:‏ أمر الدين أو أمر الذبائح‏.‏ قيل‏:‏ نزلت حين قال المشركون للمسلمين‏:‏ ما لكم تأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون ما قتله الله‏؟‏ يعني‏:‏ الميتة، فأمر الله بالغيبة عنهم، وعدم الالتفات إلى قولهم‏.‏ ‏{‏وادعُ إلى ربك‏}‏ أي‏:‏ دم على الدعاء إلى الله، والتمسك بدينه القويم؛ ‏{‏إِنك لعلى هُدىً مستقيم‏}‏‏:‏ طريق قويم موصل إلى الحق‏.‏

‏{‏وإن جادلوك‏}‏ بعد ظهور الحق؛ مِراء وتعنتًا، كما يفعله السفهاء، بعد اجتهادك ألاَّ يكون بينك وبينهم تَنازع وجدال، ‏{‏فقل اللهُ أعلمُ بما تعملون‏}‏ أي‏:‏ فلا تجادلهم، وادفعهم بهذا القول، والمعنى‏:‏ إن الله عالم بأعمالكم وما تستحقون عليها من الجزاء، فهو يُجازيكم به‏.‏ وهذا وعيد وإنذار، ولكن برفق ولين، يُجيب به العاقلُ كلَّ متعنت سفيه‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏اللهُ يحكمُ بينكم يومَ القيامةِ فيما كنتم فيه تختلفون‏}‏ من أمر الدين، وهو خطاب من الله تعالى للمؤمنين والكافرين، تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما كان يلقى منهم‏.‏

‏{‏ألم تعلم أن الله يعلمُ ما في السماء والأرض‏}‏، الاستفهام للتقرير، أي‏:‏ قد علمت أن الله يعلم كل ما يحدث في السماء والأرض، ولا يخفى عليه شيء من الأشياء، ومن جملتها‏:‏ ما تقوله الكفرة وما يعملونه، ‏{‏إِنَّ ذلك في كتاب‏}‏؛ في اللوح المحفوظ، ‏{‏إِنَّ ذلك على الله يسير‏}‏ أي‏:‏ علمه بجميع ذلك عليه يسير، فلا يخفى عليه معلوم، ولا يعسُر عليه مقدور‏.‏ ‏{‏ويعبدونَ من دون الله‏}‏ أي‏:‏ متجاوزين إياه، مع ظهور دلائل عظمته وقدرته وتوحيده، ‏{‏ما لم يُنزل به سلطانًا‏}‏‏:‏ حجة وبرهانًا، ‏{‏وما ليس لهم به علمٌ‏}‏ أي‏:‏ وما ليس لهم بجواز عبادته علم؛ من ضرورة أو استدلال، أي‏:‏ لم يتمسكوا في عبادتهم لها ببرهان سماوي من جهة الوحي، ولا حملهم عليها دليل عقلي، بل لمجرد التقليد الرديء، ‏{‏وما للظالمين من نصير‏}‏ أي‏:‏ وما للذين ارتكبوا مثل هذا الظلم العظيم من أحد ينصرهم، أو يصوب مذهبَهم، أو يدفع العذاب عنهم، حين يعتريهم بسبب ظلمهم‏.‏

والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ كما اختلفت الشرائع باختلاف الملل، اختلفت التربية باختلاف الأشخاص والأعصار، وقد تقدم عند قوله ‏{‏لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 48‏]‏‏.‏ وجملتها ترجع إلى الهمة والحال، وبهما كانت التربية في الصدر الأول، فكانت الملاقاة والصحبة تكفي، ويحصل التهذيب والتصفية وكمال المعرفة‏.‏ وذلك في زمان الصحابة والتابعين إلى القرن الثالث؛ لقربهم من النور النبوي‏.‏ فلما بَعُد الأمر، وأظلمت القلوب، أحدثوا تربية الاصطلاح، وهو التزيي بزي مخصوص، كالمرقعة وحمل السبحة في العنق، والركوة، وغير ذلك من مسائل التجريد، وترتيب أمور تموت بها النفوس وتعالج بها القلوب، واستعمال أوراد مخصوصة، فكانت التربية حينئذ بالهمة والحال والاصطلاح‏.‏ وقد تحصل التربية لمن له الهمة والحال بغير اصطلاح، إذا رآه ينجع فيه ذلك، فبقي الأمر كذلك إلى القرن التاسع، فتصدى للتربية بالاصطلاح قوم مُدَّعُون، لا همة لهم ولا حال، فقال الحضرمي حسمًا لهذه الدعوى‏:‏ قد انقطعت التربية بالاصطلاح، وما بقي إلا الهمة والحال، فعليكم بالكتاب والسنة، أي‏:‏ بظاهر الكتاب والسنة من غير زيادة ولا نقصان، يعني طريق الأحوال والاصطلاح‏.‏ ومراده بذلك‏:‏ قطع التربية بالاصطلاح من غير همة ولا حال‏.‏ وأما من له الهمة والحال فلا يقصد الحضرمي قطع تربيته بالاصطلاح‏.‏ والحاصل‏:‏ أن الحضرمي ما حكم إلا على وقته؛ لِمَا رأى من الفساد الذي دخل في التربية‏.‏ وق وُجد بعده رجال مُربون بالاصطلاح مع الهمة والحال‏.‏ والمراد بالهمة‏:‏ العلم بالله على نعت الشهود والعيان، وبالحال‏:‏ إنهاض القلوب عند رؤيته لذكر الله؛ لقوله- عليه الصلاة والسلام-‏:‏ «خَيْرُكُمْ مَنْ إِذا رُؤوا ذُكر اللهُ» ولا بد من إذن خاص من الشيخ، أو من يقوم مقامه، وإلا فلا تنجح تربيته، ولا ينهض حاله‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

فإن تأهلتَ للتربية بإذن خاص، فلا ينازعنك في الأمر، أي‏:‏ لا تلفت إلى من ينازعك ويحتج عليك بانقطاع التربية؛ تعنتًا وعنادًا‏.‏ وادع إلى ربك، إنك لعلى هدى مستقيم‏.‏ قال القشيري‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏وإن جادلوك ***‏}‏ الخ، أي‏:‏ كِلْهُم إلينا، عندما راموا أمر الجدال، ولا تتكل على ما تختاره من الاحتيال، واحذر جنوحَ قلبك إلى الاستغاثة بالأمثال والأشكال؛ فإنهم قوالبُ خاويةٌ‏.‏ وأشباحٌ من رؤية المعاني خالية‏.‏ ه‏.‏ ويوم القيامة يظهر المحق من المبطل، ويقال في شأن من يعبد هواه‏:‏ ‏{‏ويعبدون من دون الله ***‏}‏ الآية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏72‏]‏

‏{‏وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏72‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏وإذا تُتلى‏}‏‏:‏ عطف على ‏{‏يعبدون‏}‏، وصيغة المضارع؛ للدلالة على الاستمرار التجددي‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وإِذا تُتلى عليهم‏}‏ أي‏:‏ على المشركين ‏{‏آياتُنا‏}‏ القرآنية، حال كونها ‏{‏بيناتٍ‏}‏‏:‏ واضحات الدلالة على العقائد الحقية، والأحكام الصادقة، ‏{‏تعرِفُ في وجوه الذين كفروا المنكَر‏}‏ أي‏:‏ الإنكار بالعبوس والكراهة، فالمُنكَر‏:‏ مصدر بمعنى الإنكار‏.‏ ‏{‏يكادون يَسطُون‏}‏‏:‏ يبطشون، والسطو‏:‏ الوثب والبطش، أي‏:‏ يثبون على الذين ‏{‏يتلُون عليهم آياتنا‏}‏؛ من فرط الغيظ والغضب، والتالون هم‏:‏ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه‏.‏ ‏{‏قلْ‏}‏ لهم‏:‏ ‏{‏أفأنبئُكُم بشرٍّ من ذلكم‏}‏؛ من غيظكم على التالين وسطوكم عليهم، أو مما أصابكم من الكراهة والضجر، بسبب ما يتلى عليكم، هو ‏{‏النارُ وَعَدها اللهُ الذين كفروا‏}‏ مثلكم، ‏{‏وبئس المصيرُ‏}‏ النار، التي ترجعون إليها مخلدين‏.‏

الإشارة‏:‏ من شأن أهل العتو والتكبر أنهم إذا وعظهم الفقراء عنفوا واستنكفوا، ويكادون يسطون عليهم من شدة الغضب، فما قيل لكبراء الكفار يجرُ ذيله على من تشبّه بهم من المؤمنين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏73- 74‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ‏(‏73‏)‏ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ‏(‏74‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يا أيها الناس ضُرب مثلٌ‏}‏ أي‏:‏ يُبين لكم حالٌ مستغربة، أو قصة بديعة رائقة حقيقة بأن تسمى مَثَلاً، وتنشر في الأمصار والأعصار، ‏{‏فاستمعوا له‏}‏؛ لضرب هذا المثل؛ استماع تدبر وتفكر، وهو‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين تدْعُون‏}‏، وعن يعقوب‏:‏ بياء الغيبة، أي‏:‏ إن الذين تدعونهم آلهة وتعبدونهم ‏{‏من دون الله لن يخلقُوا ذُبابًا‏}‏ أي‏:‏ لن يقدروا على خلقه أبدًا، مع صغره وحقارته‏.‏ و‏{‏لن‏}‏‏:‏ لتأبيد النفي، فتدل على استحالته، ‏{‏ولو اجتمعوا له‏}‏ أي‏:‏ الذباب‏.‏ ومحله‏:‏ نصب على الحال، كأنه قال‏:‏ لا يقدرون على خلقه مجتمعين له، متعاونين عليه، فكيف إذا كانوا منفردين‏؟‏‏!‏ وهذا أبلغ ما أنزل في تجهيل قريش، حيث وَصَفوا بالألوهية- التي من شأنها الاقتدار على جميع المقدورات، والإحاطة بكل المعلومات- صُورًا وتماثيل، يستحيل منها أن تقدر على أضعف ما خلقه الله تعالى وأذله، ولو اجتمعوا له‏.‏

‏{‏وإِن يسلبْهُمُ الذبابُ شيئًا‏}‏ من الطيب وغيره، ‏{‏لا يستنقذوه منه‏}‏ أي‏:‏ هذا الخلق الأرذل الأضعف، لو اختطف منهم شيئًا فاجتمعوا على أن يستخلصوه منه، لم يقدروا وعن ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ أنهم كانوا يطلُونها بالعسل والطيب، ويغلقون عليها الأبواب، فيدخل الذبابُ من الكُوِي فيأكله، فتعجز الأصنام عن أخذه‏.‏ ‏{‏ضَعُفَ الطالبُ‏}‏‏:‏ الصنمُ بطلب ما سُلب منه، ‏{‏والمطلوبُ‏}‏‏:‏ الذباب بما سَلَب‏.‏ وهذا كالتسوية بينهم وبين الذباب في الضعف، ولو حققت لوجدت الطالب أضعفَ وأضعفَ؛ فإنَّ الذباب حيوان والصنم جماد‏.‏

‏{‏ما قَدَروا الله حقَّ قدره‏}‏‏:‏ ما عرفوه حق معرفته، حيث جعلوا هذا الصنم الضعيف شريكًا له، ‏{‏إِن الله لقويٌّ عزيز‏}‏ أي‏:‏ قادر غالب، فكيف يتجه أن يكون العاجز المغلوب شبيهًا له‏!‏ أو لقوي ينصر أولياءه، عزيز ينتقم من أعدائه‏.‏ بَعْدَ أن ذكر تعالى أنهم لم يقدروا له قدرًا؛ حيث عبدوا معه من هو منسلخ من صفاته، وسموه باسمه مع عجزه‏.‏ ختم بصفتين منافيتين لصفات آلهتهم؛ وهي القوة والغلبة‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ كل من تعلق في حوائجه بغير الله أو ركن بالمحبة إلى شيء سواه، فقد أشرك مع الله أضعف شيء وأقله‏.‏ فماذا يجدي تعلقُ العاجزُ بالعاجز، والضعيف بالضعيف، ضَعف الطالبُ والمطلوب‏.‏ فما قدر الله حقَ قدره من تعلق في أموره بغيره‏.‏ قال الورتجبي‏:‏ بيَّن سبحانه- بعد ذكر عجز الخلق والخليقة- جلال قدره الذي لا يعرفه غيره، بقوله‏:‏ ما قدروا الله حق قدره، قال‏:‏ وهذه شكاية عن إشارة الخلق إليه بما هو غير موصوف به، فذكر غيرته؛ إذ أقبلوا إلى غير من هو موصوف بالقوة الأزلية والعزة السرمدية‏.‏ ألا ترى كيف قال‏:‏ ‏{‏إن الله لقويٌ عزيزٌ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏75- 76‏]‏

‏{‏اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ‏(‏75‏)‏ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ‏(‏76‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏الله يصطفي‏}‏‏:‏ يختار ‏{‏من الملائكة رُسلاً‏}‏ يرسلهم إلى صفوة خلقه، كجبريل وميكائيل وإسرافيل وغيرهم، ‏{‏ومن الناسِ‏}‏، كإبراهيم وموسى وعيسى ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم يُعرِّفون بجلال الله ومعرفة قدره، حتى يقدروه حق قدره باعتبارهم لا باعتباره؛ فإنَّ الله تعالى لا يمكن لأحد أن يقدرُه حق قدره‏.‏ قال سيد العارفين‏:‏ «لا أُحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك»‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت؛ ردًا لما أنكروه من أن يكون الرسول من البشر، وبيانًا أن رُسل الله على ضربين‏:‏ ملك وبشر‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في قولهم‏:‏ ‏{‏أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذكر مِن بَيْنِنَا‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 8‏]‏‏.‏ ‏{‏إِن الله سميع بصير‏}‏ أي‏:‏ سميع لقولهم، بصير بمن يختاره للرسالة‏.‏ أو سميع لأقوال الرسل، بصير بأحوال الأمم في الردِّ والقبول‏.‏ ‏{‏يعلم ما بين أيديهم‏}‏‏:‏ ما مضى، ‏{‏وإِلى الله تُرجع الأمورُ‏}‏ أي‏:‏ إليه مرجع الأمور كلها، وليس لأحد أن يعترض عليه في حكمه وتدبيره واختياره مَن شاء من رُسلِه‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ شرب الخمرة، وهي المحبة الحقيقية والمعرفة الكاملة، لا تكون إلاَّ على أيدي الوسائط، والنادر لا حكم له، فالأنبياء وسائطهم الملائكة، والأولياء وسائطهم خلفاء الأنبياء، وهم أهل العلم بالله الذوقي العِيَاني‏.‏ وقال الورتجبي- إثر ما تقدم عنه-‏:‏ فالملائكة وسائط الأنبياء، والأنبياء وسائط العموم، والأولياء للأولياء خاصة‏.‏ ه‏.‏ وتوسيط الأنبياء للعموم في مطلق المحبة، وتعليم ما يقرب إليها، وأما المحبة الحقيقية فهي خاصة بالأولياء للأولياء، كما قال‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏77- 78‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏77‏)‏ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ‏(‏78‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏ملة أبيكم‏}‏‏:‏ منصوب بمحذوف، أي‏:‏ اتبعوا ملة إبراهيم‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا‏}‏ في صلاتكم، وكانوا أول ما أسلموا يصلون بلا ركوع وسجود، فأمروا أن تكون صلاتهم بركوع وسجود، وفيه دليل على أن الأعمال ليست من الإيمان، وأن هذه السجدة للصلاة لا للتلاوة، قاله النسفي‏.‏ ‏{‏واعبدوا ربكم‏}‏ أي‏:‏ واقصدوا بعبادتكم وجه الله، وأخلصوا فيها، أو هو عطف عام على خاص؛ فإن العبادة أعم‏.‏ ‏{‏وافعلوا الخير‏}‏ كله‏.‏ قيل‏:‏ لما كان للذكر مزية على غيره دعا المؤمنين أولاً للصلاة التي هي ذكر خالص؛ لقوله‏:‏ ‏{‏وَأَقِمِ الصلاة لذكريا‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 14‏]‏، ثم إلى العبادة بغير الصلاة، كالصوم والحج، ثم عم بالحث على سائر الخيرات‏.‏ وقال ابن عرفة‏:‏ وافعلوا الخير‏:‏ راجع للعبادة المتعدية، وما قبله يختص بالقاصرة‏.‏ قال المحشي‏:‏ وفيه نظر؛ لشمول العبادة لِمَا هو متعدي النفع، كتعليم العلم، والصدقة ونحو ذلك، بل أمر أولاً بالصلاة، وهي نوع من العبادة، وثانيًا بالعبادة، وهي نوع من فعل الخير، وثالثًا بفعل الخير، وهو أعم من العبادة‏.‏ فبدأ بخاص ثم عام ثم بأعم‏.‏ ه‏.‏ ‏{‏لعلكم تُفلحون‏}‏‏:‏ كي تفوزوا، أي‏:‏ افعلوا هذا كله، وأنتم راجون للفلاح غير مستيقنين، فلا تتكلوا على أعمالكم‏.‏

‏{‏وجاهدوا في الله‏}‏ أي‏:‏ في ذات الله ومن أجله ‏{‏حقَّ جهاده‏}‏، أمرٌ بالغزو وبمجاهدة النفس والهوى، وهو الجهاد الأكبر، ومنه‏:‏ كلمة حق عند أمير جائر‏.‏ قال- عليه الصلاة والسلام-‏:‏ «أعمال البر كلها، إلى جنب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كنفثة إلى جنب البحر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى جنب الجهاد في سبيل الله عزّ وجلّ كنفثة في بحر، والجهاد في سبيل الله عزّ وجلّ إلى جنب مجاهدة النفس عن هواها في اجتناب النهي، كنفثة في جنب بحر لجيّ» وهذا على معنى الخبر الذي جاء‏:‏ «جئتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» يعني‏:‏ مجاهدة النفس‏.‏ قاله في القوت‏.‏

قال القشيري‏:‏ حق الجهاد ما يوافق الأمر في القَدْرِ والوقتِ والنوعِ، فإذا حَصَل في شيءٍ منه مخالفة فليس حَقَّ جهاده‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ موافقة القَدْر، في جهاد النفس، أن يكون بغير إفراط ولا تفريط، فالإفراط يُمل، والتفريط يُخل، وموافقة الوقت أن يكون قبل حصول المشاهدة؛ إذ لا تجتمع مجاهدة ومشاهدة في وقت واحد‏.‏ والنوع أن يجاهدها بما يُباح في الشرع، لا بمحرم ولا مكروه‏.‏ وقال في الحاشية‏:‏ هو الوفاء بالمشروع مع رفع الحرج، بدليل ما بعده، فهو موافق لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاتقوا الله مَا استطعتم‏}‏ ‏[‏التّغَابُن‏:‏ 16‏]‏، ومما هو ظاهر في الآية‏:‏ الذب عن دينه وتغيير المناكر‏.‏ ه‏.‏

‏{‏هو اجتباكم‏}‏‏:‏ اختاركم لدينه بإظهاره والذب عنه، وهو تأكيد للأمر بالجهاد، أي‏:‏ وجب عليكم أن تجاهدوا؛ لأنَّ الله اختاركم لإظهار دينه، ‏{‏وما جعل عليكم في الدين من حَرجٍ‏}‏‏:‏ ضيقٍ، بل وسع عليكم من جميع ما كلفكم به، من الطهارة، والصلاة والصوم والحج، بالتيمم والإيماء، وبالقصر في السفر، والإفطار لعذر، وعدم الاستطاعة في الحج‏.‏

فاتبعوا ‏{‏ملةَ أبيكم إِبراهيم‏}‏؛ فإن ما جاءكم به رسولكم موافق لملته في الجملة، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «جئتكم بالحنيفية السمحة»‏.‏

وسماه أبًا، وإن لم يكن أبًا للأمة كلها؛ لأنه أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أبًا لأمته؛ لأن أمة الرسول في حكم أولاده‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنَمَّا أَنَا لكُمْ مِثْلُ الوَالِدِ»‏.‏

‏{‏هو سماكم المسلمين‏}‏ أي‏:‏ الله، بدليل قراءة أُبي‏:‏ «الله سماكم» أو إبراهيم لقوله‏:‏ ‏{‏وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ‏}‏ ‏[‏البَقَرَة‏:‏ 128‏]‏ ‏{‏من قبلُ‏}‏ أي‏:‏ سماكم من قبل ظهورهم في الكتب السالفة، ‏{‏وفي هذا‏}‏ أي‏:‏ القرآن، فقد فضلكم على سائر الأمم، وسماكم بهذا الاسم الأكرم، ‏{‏ليكون الرسولُ شهيدًا عليكم‏}‏ أنه قد بلغكم رسالة ربكم، ‏{‏وتكونوا شهداء على الناس‏}‏ بتبليغ الرسل رسالات الله إليهم‏.‏ وإذا خصكم بهذه الكرامة والأثرة ‏{‏فأقيموا الصلاة‏}‏ بواجباتها، ‏{‏وآتوا الزكاة‏}‏ لشرائطها، ‏{‏واعتصموا بالله‏}‏ أي ثقوا به وتوكلوا عليه، لا بالصلاة والزكاة‏.‏ أو‏:‏ ثقوا به في جميع أموركم، ولا تطلبوا الإعانة والنصر إلا منه‏.‏ ‏{‏هو مولاكم‏}‏‏:‏ مالككم وناصركم ومتولي أموركم، ‏{‏فنعم المولى‏}‏؛ حيث لم يمنعكم رزقكم بعصيانكم، ‏{‏ونعمَ النصير‏}‏ أي‏:‏ الناصر؛ حيث أعانكم على طاعتكم ومجاهدة نفوسكم وأعدائكم‏.‏

الإشارة‏:‏ يا أيها الذين آمنوا تقربوا إليَّ بأنواع الطاعات وبالمسارعة إلى الخيرات، لعلكم تفوزون بمعرفة أسرار الذات وأنوار الصفات، وجاهدوا نفوسكم بأنواع المجاهدات، كي أجتبِيكم وأنزهكم في أسرار ذاتي، فإني قد اجتبيتكم قبل كونكم في أزل أزلي‏.‏ وكأنه يشير إلى قوله‏:‏ «لا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أُحبه، فإذا أحببتُه كنت سمعه الذي يسمع به‏.‏‏.‏‏.‏» الحديث‏.‏

والمأمورُ به من التقرب والمجاهدة قدر الاستطاعة، من غير تشديد ولا تعقيد، لقوله‏:‏ ‏{‏وما جعل عليكم في الدين من حَرج‏}‏؛ لأن مبني الشرع الكريم على السهولة، فالذي يتوصل إلى رضوانه أو صريح معرفته، لا يشترط أن يستغرق كنه إمكان العبد فيه‏.‏ «لو كنت لا تصل إليه إلا بعد فناء مساوئك ومحو دعاويك، لم تصل إليه أبدًا، ولكن إذا أراد أن يُوصلك إليه غطى وصفك بوصفه، ونَعْتَكَ بنعته، فوصلك بما منه إليك، لا بما منك إليه»‏.‏ كما في الحِكَم‏.‏

وقال الورتجبي‏:‏ ‏{‏وما جعل‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، أي‏:‏ إذا شاهدتم مشاهد جمالي سهل عليكم فناؤكم في جلالي، وسهل عليكم بذل مهجكم إليه‏.‏ ألا ترى كيف قال‏:‏ ‏{‏ملة أبيكم إبراهيم‏}‏، ومن ملته‏:‏ الاستسلام والانقياد، وبذل الوجوه بنعت السخاء والكرم، يا أسباط خليلي، رأى أبوكم استعداد هذه المراتب الشريفة فيكم، قبل وجودكم بنور النبوة، فسماكم المسلمين، أي‏:‏ منقادين بين يديَّ، عارفين بوحدانيتي‏.‏

وفيما ذكرنا من أوصافكم، حبيبي شاهد عليكم، يعرف هذه الفضائل منكم، وهو بلغكم نشر فضائلي عليكم‏.‏ ثم قال‏:‏ اطلبوا الاعتصام مني، استعينوا لأقويكم في طاعتي‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏فنعم المولى‏}‏ حيث لا مولى غيره، ‏{‏ونعم النصير‏}‏ حيث لا يُخذل من نصره؛ فإن الله عزيز ممتنع من نقائص النقص‏.‏ قال جعفر في قوله‏:‏ ‏{‏حق جهاده‏}‏‏:‏ ألاَّ تختارَ عليه شيئًا، كما لم يختر عليك؛ لقوله‏:‏ ‏{‏هو اجتباكم‏}‏‏.‏ ه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتكونوا شهداء على الناس‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، أي‏:‏ اجتباكم واختاركم وسماكم مسلمين، لتكونوا مرضيين عدولاً، تشهدون على الأمم، كما يشهد محمد صلى الله عليه وسلم عليكم ويزكيكم، فهو كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ‏}‏ ‏[‏البَقَرَة‏:‏ 143‏]‏ الخ‏.‏ وإذ قد خصكم بهذه الكرامة والأثرة فاعبدوه وثقوا به، ولا تطلبوا الولاية والنصرة إلا منه فهو خير ولي وناصر، ومن كان الله تعالى مولاه وناصره فقد أفلح وفاز، ولذلك افتتح السورة التي تليها به‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏ وهو الهادي إلى سواء الطريق‏.‏