فصل: تفسير الآيات رقم (34- 37)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏34- 37‏]‏

‏{‏قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ‏(‏34‏)‏ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ‏(‏35‏)‏ قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ‏(‏36‏)‏ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ ‏(‏37‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏حوله‏)‏‏:‏ ظرف وقع موقع الحال، أي‏:‏ مستقرين حوله‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ فرعونُ، لَمَّا رأى ما بهته وحيّره، ‏{‏للملإِ حولَه‏}‏، وهم أشراف قومه‏:‏ ‏{‏إنَّ هذا لساحِرٌ عليم‏}‏؛ فائق في فن السحر‏.‏ ثم أعدى قومه على موسى بقوله‏:‏ ‏{‏يريد أن يُخرجكم‏}‏ بما صنع ‏{‏من أرضكم بسحره فماذا تأمرون‏}‏؛ تُشيرون في أمره؛ من حبس أو قتل، وهو من المؤامرة، أي‏:‏ المشاورة، أو‏:‏ ماذا تأمرون به، من الأمر، لما بهره سلطان المعجزة وحيّره، حط نفسه عن ذروة ادعاء الربوبية إلى حضيض الخضوع لعبيده- في زعمه- والامتثال لأمرهم، وجعل نفسه مأمورة، أو‏:‏ إلى مقام مؤامرتهم ومشاورتهم، بعد ما كان مستقلاً في الرأي والتدبير‏.‏

‏{‏قالوا‏}‏ له‏:‏ ‏{‏أرْجِهْ وأخاه‏}‏ أي‏:‏ أَخِّرْ أمرهما، ولا تعجل بقتلهما؛ خوفاً من الفتنة أو‏:‏ احبسهما، ‏{‏وابعث في المدائن حاشرين‏}‏ أي‏:‏ شُرَطاً يحشرون السحرة، ‏{‏يأتوك‏}‏ أي‏:‏ الحاشرون ‏{‏بكل سحَّارٍ عليم‏}‏؛ فائق في فن السحر‏.‏ وأتوا بصيغة المبالغة؛ ليُسَكِّنُوا بعض رَوعته‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ المشاورة في الأمور المهمة من شأن أهل السياسة والرأي، وفي الحديث‏:‏ «ما خَابَ مَن اسْتَخَار، ولا نَدِمَ من اسْتَشَار»، فالمشاورة من الأمر القديم، وما زالت الأكابر من الأولياء والأمراء يتشاورون في أمورهم؛ اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 44‏]‏

‏{‏فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ‏(‏38‏)‏ وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ ‏(‏39‏)‏ لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ ‏(‏40‏)‏ فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ ‏(‏41‏)‏ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ‏(‏42‏)‏ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ ‏(‏43‏)‏ فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏فجُمِعَ السحرةُ لميقات يوم معلومٍ‏}‏، وهو ما عيّنه موسى عليه السلام بقوله‏:‏ ‏{‏مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة وَأَن يُحْشَرَ الناس ضُحًى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 59‏]‏‏.‏ والميقات‏:‏ ما وُقت به، أي‏:‏ حُدّ من زمان ومكان‏.‏ ومنه‏:‏ مواقيت الحج‏.‏ ‏{‏وقيلَ للناسِ هل أنتم مُجْتَمِعُون‏}‏ أي‏:‏ اجتمعوا‏.‏ وعبّر بالاستفهام؛ حثّاً على الاجتماع‏.‏ واستبطاء لهم، والمراد‏:‏ استعجالهم إليه، ‏{‏لعلنا نتبعُ السحرةَ‏}‏ في دينهم ‏{‏إن كانوا هم الغالبين‏}‏ أي‏:‏ إن غلبوا موسى، ولا نتبعُ موسى في دينه، وليس غرضهم اتباع السحرة، وإنما الغرض الكلي ألا يتبعوا موسى، فساقوا كلامهم مساق الكناية؛ حملاً لهم على الاهتمام والجد في المغالبة؛ لأنهم إذا اتبعوا السحرة لم يكونوا متبعين لموسى، وهو مرادهم، ولأن السحرة إذا سمعوا ذلك حملهم التروس على الجد في المغالبة‏.‏

‏{‏فلمَّا جاءَ السَّحَرةُ قالوا لفرعون أئِنَّ لنا لأجراً‏}‏ أي‏:‏ جزاء وافراً ‏{‏إِن كُنَّا نَحْنُ الغَالِبِينَ‏}‏ لموسى‏؟‏ ‏{‏قال نعم‏}‏ لكم ذلك، ‏{‏وإنكم‏}‏ مع ذلك، ‏{‏إذاً لمن المقربين‏}‏ عندي في المرتبة والحال، فتكونون أول من يدخل عليّ، وآخر من يخرج عني‏.‏ ولما كان قوله‏:‏ ‏{‏أئِنَّ لنا لأجراً‏}‏، في معنى جزاء الشرط؛ لدلالته عليه، وكان قوله‏:‏ ‏{‏وإنكم إذاً‏}‏‏:‏ معطوفاً عليه، دخلت «إذاً»؛ قارة في مكانها، الذي تقتضيه من الجواب والجزاء‏.‏

‏{‏قال لهم موسى‏}‏ بعد أن قالوا له‏:‏ ‏{‏إِمَّآ أَن تُلْقِىَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ ألقى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 65‏]‏‏:‏ ‏{‏أَلْقُوا ما أنتم مُلْقُونَ‏}‏ من السحر، فسوف ترون عاقبته‏.‏ لم يُرد به الأمر بالسحر والتمويه، بل الإذن في تقديم ما هم فاعلوه البتة؛ توسلاً به إلى إظهار الحق وإبطال الباطل، ‏{‏فَأَلْقَواْ حِبَالَهم وعِصِيَّهُم‏}‏، وكانوا سبعين ألف حبل وسبعين ألف عصاً‏.‏ وقيل‏:‏ كانت الحبال اثنين وسبعين، وكذا العصِيِّ‏.‏ ‏{‏وقالوا‏}‏ بعد الإلقاء، لما رأوها تتحرك وتقبل وتُدبر‏:‏ ‏{‏بعزَّةِ فرعونَ إنا لنحن الغالبون‏}‏، قالوا ذلك؛ لفرط اعتقادهم في أنفسهم، وإتيانهم بأقصى ما يمكن أن يؤتى به من السحر، أقسموا بعزته وقوته، وهو من أيمان الجاهلية‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ السحر على قسمين‏:‏ سحر القلوب إلى حضرة الحق، وسحر النفوس إلى عالم الخلق، أو‏:‏ إلى عالم الخيال‏.‏ فالأول‏:‏ من شأن العارفين بالله، الداعين إلى الله، فهم يسحرون قلوب من أتى إليهم إلى حضرة القدس، ومحل الأنس، فيقال في شأنهم‏:‏ فجمع السحرة بقلوبهم، إلى مقات يوم معلوم، وهو يوم الفتح والتمكين، أو يوم النفحات، عند اتفاق جمعهم في مكان معلوم‏.‏ وقيل للناس، وهم عوام الناس‏:‏ هل أنتم مجتمعون لتفيقوا من سكرتكم، وتتيقظوا من نوم غفلتكم، لعنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين، ولا شك في غلبتهم ونصرهم؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 40‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 51‏]‏

‏{‏فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ‏(‏45‏)‏ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ ‏(‏46‏)‏ قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏47‏)‏ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ ‏(‏48‏)‏ قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏49‏)‏ قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ ‏(‏50‏)‏ إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏51‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏فألقى موسى عصاه‏}‏ من يده، ‏{‏فإِذا هي تلقفُ‏}‏ أي‏:‏ تبتلع بسرعة ‏{‏ما يأفكون‏}‏‏:‏ ما يقلبونه عن وجهه وحقيقته بسحرهم، ويزورونه، فيُخيِّلون في حبالهم وعصيّهم أنها حيات تسعى، ‏{‏فأُلقي السحرةُ ساجدين‏}‏ لما شاهدوا ذلك من غير تلعْثم ولا تردد، غير متمالكين لأنفسهم؛ لعلمهم بأن ذلك خارج عن حدود السحر، وأنه أمر إلهي، يدل على تصديق موسى عليه السلام‏.‏ وعَبَّر عن الخرور بالإلقاء بطريق المشاكلة؛ لقوله‏:‏ ‏{‏ألقو ما أنتم ملقون‏}‏، فألقى، فلما خروا سجوداً، ‏{‏قالوا آمنا بربِّ العالمين‏}‏، قال عكرمة‏:‏ أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء‏.‏ ه‏.‏ ‏{‏ربِّ موسى وهارون‏}‏‏:‏ عطف بيان، أو‏:‏ بدل من ‏{‏رب العالمين‏}‏‏.‏ فدفع توهم إرادة فرعون؛ لأنه كان يدعي الربوبية، فأرادوا أن يعزلوه منها‏.‏ وقيل‏:‏ إن فرعون لما سمع منهم‏:‏ ‏{‏آمنا برب العالمين‏}‏، قال‏:‏ إياي عنيتم‏؟‏ قالوا‏:‏ ‏{‏ربِّ موسى وهارون‏}‏‏.‏

‏{‏قال آمنتم له قبل أنْ آذنَ لكم‏}‏ أي‏:‏ بغير إذن لكم، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 109‏]‏، لا أن الإذن منه ممكن أو متوقع، ‏{‏إنه لكبيرُكم الذي علّمكم السحرَ‏}‏ فتواطأتم على ما فعلتم؛ مكراً وحيلة‏.‏ أراد بذلك التلبيس على قومه؛ لئلا يعتقدوا أنهم آمنوا على بصيرة وظهور حق‏.‏ ثم هَدَّدَهُم بقوله‏:‏ ‏{‏لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلافٍ‏}‏، يداً من جهة ورجلاً من أخرى، أو‏:‏ من أجل خلافٍ ظهر منكم، ‏{‏وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ قيل‏:‏ إنه فعل ذلك، ورُوي عن ابن عباس وغيره، وقيل‏:‏ إنه لم يقدر على ذلك، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَنتُمَا وَمَنِ اتبعكما الغالبون‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 35‏]‏‏.‏

‏{‏قالوا‏}‏ أي‏:‏ السحرة‏:‏ ‏{‏لا ضَيْرَ‏}‏ أي‏:‏ لا ضرر علينا في ذلك، فحذف خبر «لا»، ‏{‏إِنَّا إِلَى رَبِّنَا‏}‏ الذي عرفناه وواليناه ‏{‏منقلبون‏}‏ لا إليك، فيُكرم مثوانا ويُكفر خطايانا، أو‏:‏ لا ضرر علينا توعدتنا به؛ إذ لا بد لنا من الانقلاب إلى ربنا بالموت، فلأن يكون في ذاته وسبب دينه أولى، قال الورتجبي‏:‏ لَمَّا عاينوا مشاهدة الحق سَهُلَ عليهم البلاء، لا سيما أنهم يطمعون أن يصلوا إليه، بنعت الرضا والغفران‏.‏ ه‏.‏ ولذلك قالوا‏:‏ ‏{‏إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا‏}‏ أي‏:‏ لأن كنا ‏{‏أَوَّلَ المؤمنين‏}‏ من أهل المشهد، أو‏:‏ من أَتْبَاعِ فرعون‏.‏

الإشارة‏:‏ من شأن خواص الملك ألا يفعلوا شيئاً إلا بإذنٍ من ملكهم، ولذلك أنكر فرعونُ على السحرة المبادرة إلى الإيمان قبل إذنه، وبه أخذت الصوفية الكبار والفقراء مع أشياخهم، فلا يفعلون فعلاً حتى يستأذنوا فيه الحق تعالى والمشايخ، وللإذن سر كبير، لا يفهمه إلا من ذاق سره‏.‏ وتقدم بقية الإشارة في سورة الأعراف‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏52- 59‏]‏

‏{‏وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ ‏(‏52‏)‏ فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ‏(‏53‏)‏ إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ ‏(‏54‏)‏ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ ‏(‏55‏)‏ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ ‏(‏56‏)‏ فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ‏(‏57‏)‏ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ‏(‏58‏)‏ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ أسرى وسرى‏:‏ لغتان، وقرئ بهما‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏وأَوْحَيْنَا إلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ‏}‏ بقطع الهمزة ووصلها أي‏:‏ سر ‏{‏بعبادي‏}‏ ليلاً‏.‏ وسماهم عباده؛ لإيمانهم بنبيهم، وذلك بعد إيمان السحرة بسنين، أقام بين أظهرهم، يدعوهم إلى الحق ويُظهر لهم الآيات، ثم أمره بالخروج، وقال‏:‏ ‏{‏إِنَّكُم مُّتَّبعُونَ‏}‏ أي‏:‏ يتبعكم فرعونُ وجنوده مصبحين، فأسر بمن معك حتى لا يدركوكم قبل الوصول إلى البحر، فيدخلوا مداخلكم، فأُطبقه عليهم فأُغرقهم‏.‏ رُوي أنه مات في تلك الليلة في كل بيت من بيوت القبط ولد، فاشتغلوا بموتاهم حتى خرج موسى بقومه‏.‏ ورُوي أن الله أوحى إلى موسى‏:‏ أن أجمع بين إسرائيل، كلّ أربعة ابيات في بيت، ثم اذبحوا أولاد الضأن، فاضربوا بدمائها على أبوابكم، فإني سآمر الملائكة فلا تدخل بيتاً فيه دم، وسآمرها فتقتل أبكار القبط، وأخبزوا فطيراً؛ فإنه أسرع لكم، ثم أَسْرِ بعبادي حتى تنتهي إلى البحر فيأتيك أمري‏.‏ ه‏.‏ وحكمة لطخ الدم ليتميز بيوت بني إسرائيل، فلا تقتل الملائكة فيها أحداً‏.‏ عاملهم على قدر عقولهم، وإلا فالملك لا يخفى عليه ما أُمر به‏.‏

‏{‏فأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ‏}‏ حين أخبر بمسيرهم ‏{‏في المدائن حاشرين‏}‏؛ جامعين للعساكر ليتبعهم، فلما اجتمعوا قال‏:‏ ‏{‏إنّ هؤلاء‏}‏، يريد بني إسرائيل ‏{‏لَشِرْذِمَةٌ‏}‏؛ طائفة قليلة ‏{‏قليلون‏}‏، ذكرهم بالاسم الدالّ على القلة، ثم جعلهم قليلاً بالوصف، ثم جمع القليل فيدل على ان كل حزب منهم قليل‏.‏ أو‏:‏ أراد بالقلة‏:‏ الذلة، لا قلة العدد، أي‏:‏ إنهم؛ لذلتهم، لا يُبالي بهم، ولا يتوقع غلبتهم‏.‏ قال ابن عرفة‏:‏ شرذمة‏:‏ تقليل لهم باعتبار الكيفية، وقليلون‏:‏ باعتبار الكمية، وإنما استقلّ قوم موسى- وكانوا ستمائة ألف وسبعين ألفاً-؛ لكثرة مَن معه، فعن الضحاك‏:‏ كانوا سبعة آلاف ألف، ورُوي أنه أرسل في أثرهم ألفَ ألف وخمسمائة ألف ملِك مُسوّر، مع كل ملِك ألفٌ، وخرج فرعون في جمع عظيم، وكانت مقدمته سبعمائة ألف رجل على حصان، وعلى رأسه بيضة‏.‏ وعن ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ أنه خرج فرعون في ألف ألف حصان، من سوى الإناث‏.‏ ه‏.‏

‏{‏وإنهم لنا لغائظون‏}‏ أي‏:‏ فاعلون ما يغيظنا، وتضيق به صدورنا، وهو خروجهم من مصر، وحملهم حُلينا، وقتلهم أبكارنا، ‏{‏وإنا لجميع حاذِرُون‏}‏ أي‏:‏ ونحن قوم عادتنا التيقظ والحذر واستعمال الحزم في الأمور، فإذا خرج علينا خارج سارعنا إلى إطفاء ثائرته وحسم فساده، وهذه معاذير اعتذر بها إلى أهل المدائن؛ لئلا يظن العجز‏.‏ وقرئ ‏(‏حذرون‏)‏؛ بالمد والقصر، فالأول دال على تجدد الحذر، والثاني على ثبوته‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏فأخرجناهم‏}‏ أي‏:‏ خلقنا فيهم داعية الخروج وحملناهم عليه، ‏{‏من جناتٍ‏}‏؛ بساتين ‏{‏وعيونٍ‏}‏، وأنهار جارية، ‏{‏وكنوز‏}‏؛ أموال وافرة من ذهب وفضة، وسماها كنوزاً؛ لأنهم لم يُنفقوا منها في طاعة الله تعالى شيئاً‏.‏

‏{‏ومَقَامٍ كريم‏}‏ أي‏:‏ منزل رفيع بَهيّ، وعن ابن عباس‏:‏ المنابر‏.‏

‏{‏كذلك‏}‏ أي‏:‏ الأمر كذلك، أو‏:‏ أخرجناهم مثل ذلك الإخراج العجيب، فهو خبر، أو‏:‏ مصدر تشبيهي لأخرجنا‏.‏ ‏{‏وأورثنا بني إسرائيل‏}‏ أي‏:‏ ملكناها إياهم، على طريقة تمليك مال الموروث للوارث؛ لأنهم ملكوها من حين خروج أربابها عنها قبل أن يقبضوها‏.‏ وعن الحسن‏:‏ لما عبروا النهر رجعوا، وأخذوا ديارهم وأموالهم‏.‏ ه‏.‏ قال ابن جزي‏:‏ لم يذكر في التواريخ مُلك بني إسرائيل لمصر، وإنما المعروف أنهم ملكوا الشام، فتأويله على هذا‏:‏ أورثناهم مثل ذلك بالشام‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ بل التحقيق أنهم ملكوا التصرف في مصر، ووصلت حكومتهم إليها، ولم يرجعوا إليها‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ لا ينتصر نبيّ ولا وليّ إلا بعد أن يهاجر من وطنه؛ سُنّة الله التي قد خلت من قبل، ولن تجد لسُنَّة الله تبديلاً، والنصرة مقرونة مع الذلة والقلة؛ ‏{‏ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة‏}‏‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏60- 68‏]‏

‏{‏فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ ‏(‏60‏)‏ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ‏(‏61‏)‏ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ‏(‏62‏)‏ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ‏(‏63‏)‏ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآَخَرِينَ ‏(‏64‏)‏ وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ‏(‏65‏)‏ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ ‏(‏66‏)‏ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏67‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏68‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏فأَتْبَعُوهم‏}‏ أي‏:‏ فأتبع فرعونُ وقومُه بني إسرائيل، أي‏:‏ لحقوا بهم، وقرئ بشد التاء، على الأصل، ‏{‏مُشْرِقين‏}‏؛ داخلين في وقت شروق الشمس، أي‏:‏ طلوعها، ‏{‏فلما تراءى الجمعان‏}‏ أي‏:‏ تقابلا، بحيث يرى كلُّ فريقٍ صاحبَه، أي‏:‏ بنو إسرائيل والقبط، ‏{‏قال أصحابُ موسى إنا لمدْرَكون‏}‏ أي‏:‏ قرب أن يلحقنا عدونا، وأمامنا البحر، ‏{‏قال‏}‏ موسى عليه السلام؛ ثقة بوعد ربه‏:‏ ‏{‏كلاَّ‏}‏ ارتدعوا عن سوء الظن بالله، فلن يُدرككم أبداً، ‏{‏إنَّ معي ربي سيهدين‏}‏ أي‏:‏ سيهديني طريق النجاة منهم‏.‏

رُوي أن موسى عليه السلام لما انتهى إلى البحر هاجت الريح، والبحر يرمي بموج مثل الجبال، فقال يُوشع عليه السلام‏:‏ يا كليم الله، أين أُمرتَ، فقد غَشِيَنَا فرعونُ، والبحرُ أمامنا‏؟‏ قال عليه السلام‏:‏ ها هنا، فخاض يُوشع الماء، وضرب موسى بعصاه البحر، فكان ما كان، وقال الذي كان يكتم إيمانه؛ يا مكلم الله أين أُمرتَ‏؟‏ قال‏:‏ ها هنا‏.‏ فكبح فرسَه بلجامه، ثم أقحمه البحر، فرسب في الماء، وذهب القومُ يصنعون مثل ذلك، فلم يقدروا، فجعل موسى لا يدري كيف يصنع‏؟‏ فأوحى الله إليه‏:‏ ‏{‏أن اضرب بعصاك البحر‏}‏، فضربه، فانفلق، فإذا الرجل واقف على فرسه، لم يبتلَّ لِبْدُه ولا سَرْجه‏.‏

وقال محمد بن حمزة‏:‏ لما انتهى موسى إلى البحر، دعا، فقال‏:‏ يا من كان قبل كل شيء، والمكوّن لكلّ شيء، والكائن بعد كلِّ شيء، اجعل لنا مخرجاً، فأوحى الله إليه‏:‏ أن اضرب بعصاك البحر، وذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحرَ‏}‏ أي‏:‏ القلزم، أو النيل، ‏{‏فانفلق‏}‏ أي‏:‏ فضرب فانفلق وانشقَّ فصار اثني عشر فرقاً على عدد الأسباط‏.‏ ‏{‏فكان كلُّ فِرْقٍ‏}‏ أي‏:‏ جزء من الماء ‏{‏كالطَّوْدِ‏}‏‏:‏ كالجبل المنطاد في السماء ‏{‏العظيم‏}‏، وبين تلك الجبال من الماء مسالك، بأن صار الماء مكفوفاً كالجامد، وما بينها يَبَس، فدخل كل سبط في شعْبٍ منها‏.‏

‏{‏وأَزْلَفْنَا‏}‏ أي‏:‏ قَرَّبْنَا ‏{‏ثَمَّ الآخرين‏}‏ أي‏:‏ فرعون وقومه، حتى دخلوا على أثرهم مداخلهم، ‏{‏وأنجينا موسى ومَن معه أجمعين‏}‏ من الغرق؛ بحفظ البحر على تلك الهيئة، حتى عبروه، ‏{‏ثُمَّ أغرقنا الآخرين‏}‏؛ بإطباقه عليهم‏.‏ قال النسفي‏:‏ وفيه إبطالُ القول بتأثير الكواكب في الآجال وغيرها من الحوادث، فإنهم اجتمعوا في الهلاك، على اختلاف طوالعهم‏.‏ رُوي أن جبريل عليه السلام كان بين بني إسرائيل وبين آل فرعون، فكان يقول لبني إسرائيل‏:‏ ليلحق آخركم بأولكم، ويستقبل القبط فيقول‏:‏ رويدكم، ليلحَق آخركم‏.‏ ه‏.‏

‏{‏إنَّ في ذلك لآيةً‏}‏ أي‏:‏ في جميع ما فصّل؛ مما صدر عن موسى عليه السلام، وما ظهر على يديه من المعجزات القاهرة، وفيما فعل فرعونُ وقومه؛ من الأفعال والأقوال، وما فُعل بهم من العذاب والنكال، لعبرة عظيمة، لا تكاد تُوصف، موجبة لأن يعتبر المعتبرون، ويقيسوا شأن النبي صلى الله عليه وسلم بشأن موسى عليه السلام، وحال أنفسهم بحال أولئك المهلكين، ويجتنبوا تعاطي ما كانوا يتعاطونه من الكفر والمعاصي ومخالفة الرسول، فيؤمنوا بالله تعالى ويطيعوا رسوله، كي لا يحل بهم ما حلّ بأولئك، أو‏:‏ إن فيما فُصل من القصة؛ من حيث حكايته عليه السلام إياها على ما هي عليه، من غير أن يسمعها من أحد، لآية عظيمة دالة على ان ذلك بطريق الوحي الصادق، موجبة للإيمان بالله تعالى، وتصديق من جاء بها وطاعته‏.‏

‏{‏وما كان أكثرُهُم مؤمنين‏}‏ أي‏:‏ وما كان اكثر هؤلاء المكذبين الذين سمعوا قِصَصهم منه- عليه الصلاة والسلام- مؤمنين، فلم يقيسوا حاله صلى الله عليه وسلم بحال موسى، وحال أنفسهم بحال أولئك المهلَكين، ولم يتدبروا في حكايته صلى الله عليه وسلم لقصتهم من غير أن يسمعها من أحد، مع كونه أمياً لا يقرأ، وكل من الطريقين مما يؤدي إلى الإيمان، قطعاً لانهماكهم في الغفلة، فكان؛ على هذا، زائدة، كما هو رأي سيبوبه، فيكون قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَآ أَكْثَرُ الناس وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 103‏]‏ وهو إخبار منه تعالى بعدم إيمانهم في المستقبل، أو‏:‏ وما كان أكثر أهل مصر مؤمنين بموسى عليه السلام، قال مقاتل‏:‏ لم يؤمن من أهل مصر غير رجل وامرأتين؛ حزيقل المؤمن من آل فرعون، وآسية امرأة فرعون، ومريم بنت ياموشى، التي دَلَّتْ على عظام يوسف‏.‏ ه‏.‏

‏{‏وإن ربك لهو العزيز‏}‏؛ الغالب على كل ما يريد من الأمور، التي من جملتها‏:‏ الانتقام من المكذبين، ‏{‏الرحيم‏}‏؛ البالغ في الرحمة، ولذلك أمهلهم ولم يعاجل عقوبتهم، أو‏:‏ العزيز بالانتقام من أعدائه، الرحيم بالانتصار لأوليائه‏.‏ جعلنا الله من خاصتهم بمنِّه وكرمه، آمين‏.‏

الإشارة‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن معي ربي سيهدين‏}‏‏:‏ اعلم أن المعية تختلف باختلاف المقام، فالمعية، باعتبار عامة الخلق، تكون بالإحاطة والقهرية والعلم والإقتدار، وباعتبار الخاصة تكون بالحفظ والرعاية والنصر والمعونة‏.‏ فمن تحقق أن الله معه بعلمه وحفظه ورعايته اكتفى بعلمه، وفوض الأمر إلى سيده، وكلما قوي التفويض والتسليم دلّ على رفع المقام، ولذلك فضَّل ما حكاه الحق تعالى عن حبيبه بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللهَ مَعَنَا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 40‏]‏، على ما حكى عن كليمه بزيادة قوله‏:‏ ‏{‏سيهدين‏}‏ فتأمل‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏69- 82‏]‏

‏{‏وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ ‏(‏69‏)‏ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ ‏(‏70‏)‏ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ ‏(‏71‏)‏ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ ‏(‏72‏)‏ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ ‏(‏73‏)‏ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آَبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ‏(‏74‏)‏ قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ‏(‏75‏)‏ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ ‏(‏76‏)‏ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ ‏(‏77‏)‏ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ‏(‏78‏)‏ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ‏(‏79‏)‏ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ‏(‏80‏)‏ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ ‏(‏81‏)‏ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ‏(‏82‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏واتلُ عليهم‏}‏ أي‏:‏ على المشركين ‏{‏نبأَ إبراهيمَ‏}‏ أي‏:‏ خبره العظيم الشأن، ولم يأمر في قصص هذه السورة بتلاوة قِصَّةٍ إلا في هذه؛ تفخيماً لشأنه، وتعظيماً لأمر التوحيد، الذي دلت عليه‏.‏ ‏{‏إذْ قال‏}‏ أي‏:‏ وقت قوله ‏{‏لأبيه وقومه ما تعبدون‏}‏ أي‏:‏ أيُّ شيء تعبدون‏؟‏ وإبراهيم عليه السلام يعلم أنهم عَبَدة الأصنام، لكنه سألهم؛ ليُعلمهم أن ما يعبدونه لا يستحق العبادة، ‏{‏قالوا نعبد أصناماً‏}‏، وجواب ‏{‏ما تعبدون‏}‏‏:‏ هو قولهم‏:‏ ‏{‏أصناماً‏}‏؛ لأن السؤال وقع عن المعبود لا عن العبادة، فكان حق الجواب أن يقولوا‏:‏ أصناماً، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 219‏]‏، وكقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ الحق‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 23‏]‏‏.‏ لكنهم أطنبوا فيه بإظهار العامل؛ قصداً إلى إبراز ما في نفوسهم الخبيثة من الابتهاج والافتخار بعبادتها، ‏{‏فنظلُّ لها عاكفين‏}‏ أي‏:‏ فنقيم على عبادتها طول النهار‏.‏ وإنما قالوا‏:‏ ‏{‏فنظل‏}‏؛ لأنهم كانوا يعبدونها بالنهار دون الليل‏:‏ أو يراد به الدوام‏.‏

‏{‏قال‏}‏ إبراهيمُ عليه السلام‏:‏ ‏{‏هل يسمعونكم إذ تَدْعون‏}‏ أي‏:‏ هل يسمعون دعاءكم حين تدعونهم، على حذف مضاف، ‏{‏أو ينفعونكم‏}‏ إن عبدتموها، ‏{‏أو يَضُرُّونَ‏}‏؛ أو يضرونكم إن تركتم عبادتها؛ إذ لا بد للعبادة من جلب نفع أو دفع ضر‏؟‏ ‏{‏قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون‏}‏ فاقتدينا بهم‏.‏ اعترفوا بأن أصنامهم بمعزل عما ذكر؛ من السمع، والمنفعة، والمضرة بالمرة‏.‏ واضطروا إلى إظهار أنهم لا سند لهم سوى التقليد الرديء‏.‏

‏{‏قال‏}‏ إبراهيم‏:‏ ‏{‏أفرأيتم ما كنتم تعبدون‏}‏ أي‏:‏ أنظرتم وأبصرتم وتأملتم فعلمتم ما كنتم تعبدون ‏{‏أنتم وآباؤكم الأقدمون‏}‏ حق الإبصار، أو حق العلم، ‏{‏فإنهم عدو لي‏}‏ أي‏:‏ فاعلموا أنهم أعداء لي، لا أحبهم ولا يحبونني، أو‏:‏ لو عبدتموهم لكانوا أعداء لي يوم القيامة، كقوله‏:‏ ‏{‏سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 82‏]‏، وقال الفراء‏:‏ هو من المقلوب، أي‏:‏ فإني عدو لهم، والعدو يجيء بمعنى الواحد والجماعة؛ لأنه فَعُولٌ، كصبور‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏عدو لي‏}‏، دون «لكم»؛ زيادةُ نصحٍ، لكونه أدعى لهم إلى القبول، ولو قال‏:‏ فإنهم عدو لكم، لم يكن بتلك المثابة، ولم يقبلوه، ‏{‏إلا ربِّ العالمين‏}‏‏:‏ استثناء منقطع، أي‏:‏ لكن رب العالمين ليس كذلك، بل هو حبيب لي‏.‏ وأجاز الزَّجَّاجُ أن يكون متصلاً، على أن الضمير لكل معبود، وكان من آبائهم من عَبَد الله تعالى، وهم أيضاً كانوا يعبدون الله مع أصنامهم‏.‏

ثم وصف الربّ تعالى قوله‏:‏ ‏{‏الذي خلقني‏}‏ بالتكوين في القرار المكين، ‏{‏فهو يَهدين‏}‏ وحده إلى كل ما يُهمني ويُصلحني من أمور الدين والدنيا، هداية متصلة بحين الخلق ونفخ الروح، متجددة على الاستمرار، كما ينبئ عنه صيغة المضارع‏.‏ وعبَّر بالاستقبال، مع سبق الهداية في الأزل؛ لأن المراد ما ينشأ عنها، وهو الاهتداء لما هو الأهم والأفضل والأتم والأكمل، أو‏:‏ والذي خلقني لأسباب خدمته فهو يهدين إلى آداب خُلَّتِهِ‏.‏

ولما كان الخلق لا يمكن أن يدعيه أحد لم يؤكد فيه بهو، بخلاف الهداية والإطعام والسقي، فإنه يكون على سبيل المجاز من المخلوقين، ولذلك أكده بهو؛ ليخصه به تعالى‏.‏

‏{‏والذي هو يُطعمني‏}‏ لا غيره، أصناف الإطعام إلى مُولي الإنعام؛ لأن الركون إلى الأسباب عادة الأَنْعام‏.‏ ‏{‏و‏}‏ هو أيضاً الذي ‏{‏يسقين‏}‏ أي‏:‏ يرويني بمائه‏.‏ وتكرير الموصول في المواضع الثلاثة؛ للإيذان بأن كل واحدة من تلك الصلات نعت جليل له تعالى، مستقل في استيجاب الحكم‏.‏ ‏{‏وإِذا مرضت فهو يَشْفين‏}‏‏:‏ عطف على ‏{‏يُطعمني ويسقين‏}‏، ونظم معهما في سلك الصلة بموصول واحد؛ لأن الصحة والمرض من متبوعات الأكل والشرب في العادة، غالباً‏.‏

وقال في الحاشية‏:‏ ثم ذكر بعد نعمة الخلق والهداية ما تدوم به الحياة وتستمر، وهو الغذاء والشراب، ولمَّا كان ذلك مبنياُ على غلبة إحدى الكيفيات على الآخر، بزيادة الغذاء أو نقصانه، فيحدث بعد ذلك مرض، ذكر نعمته بإزالة ما حدث من السقم‏.‏ ه‏.‏ ونسبة المرض إلى نفسه والشفاء إلى الله تعالى، مع أنهما منه تعالى؛ لمراعاة حسن الأدب، كما قال الخضر عليه السلام‏:‏ ‏{‏فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 79‏]‏، ‏{‏فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 82‏]‏‏.‏

‏{‏والذي يُميتني ثم يُحيينِ‏}‏، ولم يقل‏:‏ وإذا مت؛ لأن الإماتة والإحياء من خصائصه تعالى‏.‏ وأيضاً‏:‏ الموت والإحياء من كمال الكمال؛ لأنه الخروج من سجن الدنيا إلى السرور والهناء، أو‏:‏ الخروج من دار البلاء والفناء إلى دار الهناء والبقاء‏.‏ ‏{‏والذي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفَر لي‏}‏ أي‏:‏ في مغفرته لي ‏{‏خطيئتي يومَ الدين‏}‏، ذكره عليه السلام؛ هضماً لنفسه، وتعليماً للأمة أن يجتنبوا المعاصي، ويكونوا على حذر منها، وطلب مغفرته لما يفرط منهم‏.‏ وقال أبو عثمان‏:‏ أخرج سؤاله على حد الأدب، لم يحكم على ربه بالمغفرة، ولكنه طَمِعَ طَمَعَ العبيد في مواليهم، وإن لم يكونوا يستحقون عليهم شيئاً؛ إذ العبد لا يستحق على مولاه شيئاً، وما يأتيه يأتيه من فضل مولاه‏.‏ ه‏.‏

وقيل‏:‏ أشار إلى قوله‏:‏ ‏{‏إِنّيِ سَقِيم‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 89‏]‏ ‏{‏فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 63‏]‏ وقوله في سارّة‏:‏ «هي أختي»؛ حذراً من الجبار‏.‏ وفيه نظر؛ لأنها مع كونها معاريض، لا من قبيل الخطايا المفتقرة إلى الاستغفار إنما صدرت عنه عليه السلام بعد هذه المقالة الجارية بينه وبين قومه في أول أمره‏.‏ وتعليق مغفرة الخطيئة بيوم الدين، مع كونها إنما تُغفر في الدنيا؛ لأن أثرها إنما يظهر يومئذٍ، ولأن في ذلك تهويلاً له، وإشارة إلى قوع الجزاء فيه، إن لم يغفر‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ ينبغي لك أيها العبد أن تكون إبراهيمياً حنيفياً، فتنبذ جميعَ الأرباب، وتعادي كل من يشغلك عن محبة الحبيب، من العشائر والأصحاب، وتقول لمن عكف على متابعة هواه، ولزم الحرص على جمع دنياه، هو ومن تقدمه‏:‏ أفرأيتم ما كنتم تعبدون، أنتم وآباؤكم الأقدمون، فإنهم عدو لي إلا رب العالمين، الذي خلقني لعبوديته، فهو يهدين إلى معرفته، والذي هو يطعمني طعم الإيمان واليقين والإحسان، ويسقيني من شراب خمرة العيان، وإذا مرضتُ بالذنوب فهو يشفين بالتوبة، أو‏:‏ مرضت بشيء من العيوب فهو يشفين بالتطهير منها‏.‏

أو‏:‏ إذا مرضت برؤية السِّوى، فهو يشفين بالغيبة عنه، والذي أطمع أن يطهرني من البقايا، ويجعلني من المقربين يوم الدين‏.‏ وقال ذو النون رضي الله عنه‏:‏ يطعمني طعام المعرفة، ويسقيني شرا ب المحبة، ثم قال‏:‏

شَرَابُ المَحَبَّةِ خَيْرُ الشَّرابْ *** وكُلُّ شرابٍ سواه سَرَابْ

وقال الشيخ أبو يزيد البسطامي رضي الله عنه‏:‏ إن لله شراباً، يقال له‏:‏ شراب المحبة، ادخره لأفاضل عباده، فإذا شربوا سكروا، وإذا سكروا طاشوا، وإذا طاشوا طاروا وصلوا، وإذا وصلوا اتصلوا، فهم في مقعد صدق عند مليك مقتدر‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ شراب المحبة هو خمرة الفناء والغيبة في الله، بديل قول ابن الفارض رضي الله عنه‏.‏

فَلَمْ تهْوَني ما لم تكنْ فِيَّ فانِياً *** ولمَ تَفْنَ ما لم تجتل فيكَ صورتي

وقال الجنيد رضي الله عنه‏:‏ يُحشر الناس يوم القيامة عراة، إلا من لبس ثياب التقوى، وجياعاً إلا من أكل طعام المعرفة، وعطاشاً إلا من شرب شراب المحبة‏.‏ ه‏.‏ وقد يستغني صاحب طعام المعرفة وشراب المحبة عن الطعام والشراب الحسيين، كما قال صلى الله عليه وسلم، حين كان يواصل‏:‏ «إني أبَيتُ عند ربي يُطعمني ويسقين»‏.‏

قال أبو الوراق في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذي هو يُطعمني ويسقين‏}‏ أي‏:‏ يُطعمني بلا طعام، ويسقيني بلا شراب‏.‏ قال‏:‏ ويدل عليه حديث السَّقَّاء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ ثلاثة أيام‏:‏ ‏{‏وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها‏}‏، فرمى بِقِرْبَتِهِ، فأتاه آتٍ في منامه بقدح من شراب الجنة، فسقاه، قال أنس‏:‏ فعاش بعد ذلك نيفاً وعشرين سنة، ولم يأكل ولم يشرب على شهوة‏.‏ ه‏.‏

وكان عبد الرحمن بن أبي نعيم لا يأكل في الشهر إلا مرة، فأدخله الحجاج بيتاً، وأغلق عليه بابه، ثم فتحه بعد خمسة عشر يوماً، ولم يشك أنهم مات، فوجده قائماً يُصلي، فقال‏:‏ يا فاسق، تصلي بغير وضوء‏؟‏ فقال‏:‏ إنما يحتاج الوضوء من يأكل ويشرب، وأنا على الطهارة التي أدخلتني عليها‏.‏ ه‏.‏ ومكث سفيان الثوري بمكة دهراً، وكان يَسفُّ من السبت إلى السبت كفاً من الرمل‏.‏ ه‏.‏ وهذا من باب الكرامة، فلا يجب طردها، وقد تكون بالرياضة، وطريق المعرفة لا تتوقف على هذا‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏83- 89‏]‏

‏{‏رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ‏(‏83‏)‏ وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ ‏(‏84‏)‏ وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ ‏(‏85‏)‏ وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ ‏(‏86‏)‏ وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ ‏(‏87‏)‏ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ‏(‏88‏)‏ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ‏(‏89‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ حاكياً عن خليله إبراهيم عليه السلام‏:‏ ‏{‏ربِّ هبْ لي حُكماً‏}‏ أي‏:‏ حكمة، أو حُكماً بين الناس، أو نبوة؛ لأن النبي ذو حُكم بين عباد الله‏.‏ ‏{‏وألحِقْني بالصالحين‏}‏ أي‏:‏ الأنبياء، الذين صلحوا لحمل أعباء النبوة والرسالة، وصلحت سرائرهم للحضرة، ولقد أجابه بقوله‏:‏ ‏{‏وإنه في الآخرة لمن الصالحين‏}‏‏.‏ ‏{‏واجعل لي لسانَ صدقٍ في الآخرين‏}‏ أي‏:‏ ثناءً حسناً، وذكراً جميلاً في الأمم التي تجيء بعدي، فأُعطي ذلك، فكل أهل دين يتولونه ويثنون عليه، ووضَعَ اللسانَ موضعَ القول؛ لأن القول يكون به‏.‏ أو‏:‏ واجعلني على طريق قويم، وحال مُرضي، يُقتدى بي فيهما، ويُحمد أثري بعد موتي، كما قيل‏:‏

مَوْتُ التقِيِّ حَيَاةٌ لا فناء لها *** قد مات قومٌ وهم في الناس أَحْيَاءُ

وقد تحقق له جميع ذلك، وخصوصاً في هذه الأمة، حتى أنه مذكور ومقرون في كل صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم‏:‏ سأل أن يجعله صالحاً، بحيث إذا أثنى عليه من بعده لم يكن كاذباً‏.‏ وقيل‏:‏ سأل الإمامة في التوحيد والدين، وقد أجيب بقوله‏:‏ ‏{‏إِنّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 124‏]‏‏.‏

‏{‏وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ‏}‏ أي‏:‏ اجعلني وارثاً من ورثة جنة النعيم، أي‏:‏ الباقين فيها، ‏{‏واغفرْ لأبي‏}‏، أي‏:‏ اجعله أهلاً للمغفرة، بإعطاء الإسلام؛ ‏{‏إنه كان من الضالين‏}‏‏:‏ الكافرين، أو‏:‏ اغفر له على حاله‏.‏ وكان قبل النهي‏.‏ ‏{‏ولا تُخزني يوم يُبعثون‏}‏ أي‏:‏ لا تُهنِّي يوم يبعثون‏.‏ الضمير للعباد؛ لأنه معلوم، أو‏:‏ للضالين، أي‏:‏ لا تخزني في أبي يوم البعث، وهذا من جملة الاستغفار لأبيه، وكان قبل النهي عنه، أي‏:‏ لا تُهِنِّي، ‏{‏يوم لا ينفعُ مالٌ ولا بنونَ‏}‏، أي‏:‏ لا ينفع فيه مال، وإن كان مصروفاً في وجوه البر، ولا بنون، وإن كانوا صُلحاء متأهلين للشفاعة، ‏{‏إلا من أتى الله بقلبٍ سليمٍ‏}‏ من الكفر والنفاق؛ فإنه ينفعه ماله المصروف في طاعة الله، ويشفع فيه بنوه، إن تأهلوا للشفاعة، بأن أَدَّبَهُمْ ودرَّجهم إلى اكتساب الكمالات والفضائل‏.‏

وقال ابنُ المسيَبِ‏:‏ القلب السليم هو قلب المؤمن؛ فإن قلب الكافر والمنافق مريض؛ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 10‏]‏‏.‏ وقال أبو عثمان‏:‏ هو القلب الخالي من البدعة، المطمئن على السنة‏.‏ وقال الحسن بن الفضل‏:‏ سليم من آفات المال، والبنين والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ قد استعمل إبراهيم عليه السلام الأدب، الذي هو عمدة الصوفية، حيث قدّم الثناء قبل الطلب، وهو مأخوذ من ترتيب فاتحة الكتاب‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ربِّ هبْ لي حُكماً‏}‏‏:‏ قال القشيري‏:‏ أي‏:‏ على نفسي أولاً، فإن من لا حُكْم له على نَفْسِه لا حُكْمَ له على غيره، ‏{‏وألحقني بالصالحين‏}‏؛ بالقيام بحقك، دون الرجوع إلى طلب الاستقلال لنفسي دون حقك‏.‏ ه‏.‏

ومما اصطلحت عليه الصوفية أن الصالحين‏:‏ من صلحت ظواهرهم، وتطهرت قلوبهم من الأمراض‏.‏ وفوقهم الأولياء، وهم من كُشف عنهم الحجاب، وأفضوا إلى الشهود والعيان، وفوقهم درجة النبوة والرسالة، فقول الخليل ‏{‏وألحقني بالصالحين‏}‏، وكذلك قال الصدِّيق، هو تنزل وتواضع؛ ليعرف جلالة قدر الصالحين، فما بالك بمن فوقهم‏!‏ فهو كقول نبينا صلى الله عليه وسلم‏:‏ «اللهُمَّ أحينِي مِسْكيناً، وأمِتْنِي مِسْكيناً واحْشُرني في زُمْرة المسَاكين» أي‏:‏ اجعل المساكين هم قرابتي، المحدقون بي في المحشر، فقد عَرَّف صلى الله عليه وسلم بفضيلة المساكين، وعظَّم جاههم، بطلبه أن يكونوا في كفالته، لا أنه في كفالتهم، وكذلك الخليل والصدِّيق، عَرَّفا بفضيلة الصالحين من أهل الإسلام، أو أنهما طلبا اللحوق بهم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واجعل لي لسانَ صدْقٍ في الآخرين‏}‏؛ كل من اخلص وجهه لله، وتخلصت سريرته مما سوى الله، وكان إبراهيمياً حنيفياً، جعل الله له لسان صدق فيمن يأتي بعده، وحسن الثناء عليه في حياته وبعد مماته، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذا أحب الله عبداً نادى جبريل‏:‏ إن الله يُحب فلاناً فَأَحِبَّهُ، فَيُحِبُّهُ جبريل، ثم ينادي جبريل في أهل السموات‏:‏ إن الله يحب فلاناً فأحِبُّوه، فيحبُّه أهل السماء، ثم يُوضَع له القَبُول في الأرض» أو كما قال صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واغفر لأبي‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إلخ‏.‏ قال القشيري‏:‏ هذا عند العلماء‏:‏ إنما قاله قبل يأسه من إيمانه، وعن أهل الإشارة‏:‏ ذكره في وقت غَلَبَةِ البَسْط، وتجاوز ذلك عنه، وليس إجابةُ العبد واجبةً عليه في كل شيء، وأكثر ما فيه‏:‏ أنه لا يجيبه في ذلك، ثم لهم أسوة في ذكر أمثال هذا الخطاب، وهذا لا يهتدي إليه كلُّ أحدٍ‏.‏ ه‏.‏

قال المحشي‏:‏ وينظر لما قاله العلماء، وبه الفتوى، قوله‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 114‏]‏، وينظر للسان الإشارة شفاعته له يوم القيامة، وتكلمه فيه بقوله‏:‏ ‏(‏وأيُّ خِزْيٍ أعظم من كون أبي في النار‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث، وكذا قوله‏:‏ ‏{‏وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 36‏]‏، وجاء ذلك من استغراقه في بحر الرحمة، على سعة العلم، ومثله استغفار نبينا صلى الله عليه وسلم لابن أُبَيّ، وصلاته عليه، وانظر الطيبي في آية‏:‏ ‏{‏وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 7‏]‏‏.‏ ه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا من أتى الله بقلب سليم‏}‏، أظهر ما قيل في القلب السليم‏:‏ أنه السالم من الشكوك والأوهام، والخواطر الردية، ومن الأمراض القلبية، ولا يتحقق له هذا إلا بصحبة شيخ كامل، يُخرجه من الأوصاف البشرية، إلى الأوصاف الروحانية، ويحققه بالحضرة القدسية، وإلا بقي مريضاً، حتى يلقى الله بقلب سقيم‏.‏ وفي الإحياء‏:‏ السعادة منوطة بسلامة القلب من عوارض الدنيا، والجودُ بالمال من عوارض الدنيا، فشرط القلب أن يكون سليماً بينهما، أي‏:‏ لا يكون ملتفتاً إلى المال، ولا يكون حريصاً على إمساكه ولا حريصاً على إنفاقه؛ فإن الحريصَ على الإنفاق مصروفُ القلب إلى الإنفاق، كما أن الحريص على الإمساك مصروف القلب إلى الإمساك‏.‏ وكان كمال القلب أن يصفو من الوصفين جميعاً‏.‏ وقال الداراني‏:‏ القلب السليم هو الذي ليس فيه غير الله تعالى‏.‏ ه‏.‏ وقال الجنيد رضي الله عنه‏:‏ السليم في اللغة‏:‏ اللديغ، فمعناه‏:‏ كاللديغ من خوف الله تعالى‏.‏ ه‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏90- 104‏]‏

‏{‏وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏90‏)‏ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ ‏(‏91‏)‏ وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ‏(‏92‏)‏ مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ ‏(‏93‏)‏ فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ ‏(‏94‏)‏ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ ‏(‏95‏)‏ قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ ‏(‏96‏)‏ تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏97‏)‏ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏98‏)‏ وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ ‏(‏99‏)‏ فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ ‏(‏100‏)‏ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ‏(‏101‏)‏ فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏102‏)‏ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏103‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏104‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏وأُزلفت‏)‏‏:‏ عطف على ‏(‏ينفع‏)‏، وصيغة الماضي فيها وفيما بعدها؛ لتحقق الوقوع‏.‏

يقول الحق جل جلاله، في شأن اليوم الذي لا ينفع فيه مال ولا بنون‏:‏ ‏{‏وأُزلفتِ‏}‏ أي‏:‏ قُّربت ‏{‏الجنةُ للمتقين‏}‏، أي‏:‏ تزلف من موقف السعداء، فينظرون إليها، ‏{‏وبُرِّزتِ الجحيمُ‏}‏‏:‏ أُظهرت، حتى يكاد يأخذهم لهبها، ‏{‏للغاوين‏}‏‏:‏ للكافرين، ‏{‏وقيلَ لهم أينَ ما كنتم تعبدون من دون الله هل يَنْصُرونكم‏}‏ بدفع العذاب عنكم، ‏{‏أو ينتصرون‏}‏ بدفعه عن أنفسهم، يوبّخون على إشراكهم، فيقال لهم‏:‏ أين آلهتكم التي عبدتموها، هل ينفعونكم اليوم بنصرتهم لكم‏؟‏ أو‏:‏ هل ينفعون أنفسهم بانتصارهم لها‏؟‏ كلا، بل هم وآلهتهم وَقُودُ النار، كما قوله تعالى‏:‏

‏{‏فكُبْكِبُوا فيها‏}‏ أي‏:‏ أُلقوا في الجحيم على وجوههم، مرة بعد أخرى، إلى أن يستقروا في قعرها‏.‏ وفي القاموس‏:‏ كبّه‏:‏ قَلَبَهُ وصرعه، كأكبه وكبكبه‏.‏ ه‏.‏ أي‏:‏ صُرِعُوا؛ منكبين في الجحيم على وجوههم، ‏{‏هم‏}‏ أي‏:‏ آلهتهم ‏{‏والغاوون‏}‏ أي‏:‏ الذين كانوا يعبدونهم‏.‏

وفي تأخير ذكرهم عن ذكر آلهتهم رمز إلى أنهم مُؤَخِّرُونَ عنها في الكبكبة؛ ليشاهدوا سوء حالها، فيزدادوا غماً على غم، ‏{‏وجنودُ إبليسَ‏}‏ أي‏:‏ يكبكبون معهم ‏{‏أجمعون‏}‏، وهو شياطينه الذين كانوا يقوونهم ويوسوسونهم، ويُسَوِّلُونَ لهم ما هم عليه من عبادة الأصنام، وسائر فنون الكفر والمعاصي، أو‏:‏ متبعوه من عصاة الجن والإنس؛ ليجتمعوا في العذاب، حسبما كانوا مجتمعين فيما يوجبه‏.‏

‏{‏قالوا‏}‏ أي‏:‏ العبدة ‏{‏وهم فيها يختصمون‏}‏ أي‏:‏ قالوا معترفين بخطئهم في انهماكهم في الضلالة؛ متحسرين، والحال‏:‏ أنهم في الجحيم بصدد الاختصام مع من معهم من المذكورين فيجوز أن يُنطق الله الأصنامَ حتى يصح منها التخاصم والتقاول، ويجوز أن يجري ذلك بين العصاة والشياطين‏.‏

قالوا‏:‏ ‏{‏تالله إنْ كُنَّا لفي ضَلاَل مُبِين‏}‏ أي‏:‏ إن الشأن كنا في ضلال واضح، لا خفاء فيه، ‏{‏إذ نسويكم‏}‏؛ نَعْدِلُكُم ‏{‏بربِّ العالمين‏}‏ فنعبدُكم معه، أي‏:‏ تالله لقد كنا في ضلال فاحش وقت تسْويتنا إياكم أيها الأصنام، في استحقاق العبادة، برب العالمين، الذي أنتم أدنى مخلوقاته، وأذلهم وأعجزهم، ‏{‏وما أضَلَّنا إلا المجرمون‏}‏ أي‏:‏ رؤساؤهم، الذين أضلوهم، وإبليس وجنوده، ومن سنَّ الشرك‏.‏ وليس المراد قصر الإضلال على المجرمين دون من عداهم، بل قصر ضلالهم على كونه بسبب إضلالهم، من غير أن يستقلوا به، وهذا كقولهم‏:‏ ‏{‏رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا السبيلا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 67‏]‏‏.‏ وعن السُّدِّي‏:‏ هم الأولون الذين اقتدوا بهم‏.‏ وأيّا ما كان ففيه التعريض للذين قالوا‏:‏ ‏{‏بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون‏}‏‏.‏

ثم قالوا‏:‏ ‏{‏فما لنا من شافعين‏}‏ كما للمؤمنين من الملائكة والأنبياء- عليهم السلام- وغيرهم ممن أُهِّلَ للشفاعة‏.‏ ‏{‏ولا صديقٍ حميم‏}‏ كما لهم أصدقاء؛ إذ لا يتصادق في الآخرة إلا المؤمنون، وأما الكفار فبينهم التعادي كما يأتي في الآية‏.‏

أو‏:‏ ما لنا من شافعين، ولا صديق من الذين كنا نعدهم شفعاء وأصدقاء؛ لأنهم كانوا يعتقدون أن أصنامهم تشفع لهم عند الله، وكان له أصدقاء من شياطين الإنس، فلم ينفعهم شيء من ذلك‏.‏ وجمع الشفعاء ووحّد الصديق؛ لكثرة الشفعاء‏.‏ وأما الصديق، وهو الصادق في ودادك، الذي يهمه ما أهمك، ويسره ما أسرك، فقليل، وسئل حكيم عن الصديق، فقال‏:‏ ‏(‏اسم لا معنى له‏)‏، أي‏:‏ لا وجود له، والبركة لا تنقطع‏.‏

قال القشيري‏:‏ في الخبر‏:‏ يجيء يوم القيامة عَبْدٌ فيُحاسَبُ، فتستوي حسناتُه وسيئاته، ويحتاج إلى حسنة واحدة يرْضى عنه خصومه، فيقول الله سبحانه له‏:‏ عبدي يقيت لك حسنةٌ، إن كانت أَدْخَلْتُك الجنةََ، انْظُرْ، وتَطَلَّبْ من الناس لعلَّ أحداً يهبها لَكَ‏.‏

فيأتي الصفين، فيطلب من أبيه، ثم من أمه، ثم من أصحابه، فلا يجيبه أحدٌ إلا بقوله‏:‏ أنا اليومَ فقيرٌ إلى حسنةٍ واحدة، فيرجع إلى مكانه، فيسأله الحقُّ- سبحانه‏:‏ ما جئتَ به‏؟‏ فيقول‏:‏ يا ربِّ لم يُعْطِني أحد حسنةً، فيقول الله تعالى‏:‏ عبدي‏.‏‏.‏‏.‏ ألم يكن لك صديق‏؟‏ فيتذكر العبدُ، ويقول فلان كان صديقاً لي فيك، فيأتيه ويدل الحق عليه، فيكلِّمه، فيقول‏:‏ بل لي عباداتٌ كثيرة، فإن قَبِلَها الله مني فقد وهبتُها لك، فيُسَرُّ ويجيء إلى موضعه، فيخبر بذلك ربَّه تعالى فيقول قد قَبِلتُها منه ولم أنقص من حقِّه شيئاً وقد غفرت لك وله- فهذا معناه‏.‏ ه‏.‏ ونقل القرطبي عن الحسن قال‏:‏ ما اجتمع ملأ على ذكر الله، فيهم عبد من أهل الجنة، إلا شفَّعه الله فيهم، وإن أهل الإيمان ليشفع بعضهم في بعض، وهم عند الله شافعون مشفعون‏.‏ ه‏.‏

ثم قالوا‏:‏ ‏{‏فلو أن لنا كرةً‏}‏ أي‏:‏ رجعة إلى الدنيا ‏{‏فنكون من المؤمنين‏}‏، وجواب ‏{‏لو‏}‏ التَّمْنِيَةِ‏:‏ محذوف، أي‏:‏ لفعلنا كيت وكيت؛ إذ «لو»، في مثل هذا، للتمني، أي‏:‏ فليت لنا كرة فنكون من المؤمنين‏.‏

‏{‏إن في ذلك‏}‏ أي‏:‏ فيما ذكر من الأنباء العجيبة؛ كقصة إبراهيم مع قومه، وما ترتب على ذلك من الوعد والوعيد، ‏{‏لآيةً‏}‏ عظيمة، موجبة للزجر عن عبادة الأصنام، لا سيما لأهل مكة، الذين يدَّعون أنهم على ملة إبراهيم عليه السلام، أو‏:‏ إن في ذكر نبأه، وتلاوته عليهم، على ما هو عليه، من غير أن تسمعه من أحد، لآية عظيمة دالة على أن ما نتلوه عليهم وحْيٌ صادق، نازل من جهته تعالى، موجبة للإيمان به، ‏{‏وَمَا كَانَ أَكْثَرهُمُ مُّؤْمِنِينَ‏}‏ أي‏:‏ وما أكثر هؤلاء، الذين تتلو عليهم هذه الأنباء، مؤمنين، بل هم مُصِرُّون على ما كانوا عليه من الكفر والضلال‏.‏ ولا يحسن رجوعه لقوم إبراهيم، على أن ‏{‏كان‏}‏ أصلية؛ لأنه لم يؤمن من قومه إلا لوط فقط‏.‏

‏{‏وإِن ربك لهو العزيزُ الرحيمُ‏}‏ أي‏:‏ هو القادر على تعجيل العقوبة لقومك، ولكنه يمهلهم بحلمه ورحمته؛ ليؤمن بعض منهم أو من ذريتهم‏.‏

وبالله التوفيق‏.‏

الإشارة‏:‏ وأُزلفت جنة المعارف للمتقين السِّوى، وبرزت جحيم القطيعة للغاوين، المتبعين الهوى‏.‏ وفي الحِكَم‏:‏ «لا يُخَافُ أن تلتبس الطرقُ عليك، إنما يُخَافُ من غلبة الهوى عليك» وقيل لأهل الهوى‏:‏ أين ما كنتم تعبدون من دون الله، من الحاملين لكم على البقاء مع الحظوظ والشهوات، هل ينصروكم أو ينتصرون‏؟‏ فكُبكبوا في الحضيض الأسفل، هم والغاوون لهم، الذين منعوهم من الدخول في حضرة الأولياء، وجنود إبليس أجمعون‏.‏ قالوا- وهم في غم الحجاب ونار القطيهة يختصمون-‏:‏ تالله إن كنا لفي ضلال مبين، إذ نسويكم برب العالمين في المحبة والميل، وما أضلنا إلا المجرمون، الذين حكموا بقطع التربية على الدوام، وسدوا الباب في وجوه الرجال، فما لنا من شافعين، ولا صديق حميم، يشفع لنا حتى نلتحق بالمقربين‏.‏ هيات لا يكون اللحوق بهم إلا بالدخول معهم، في مقام المجاهدة في دار الدنيا، ثم يتمنون الرجوع؛ ليُصدِّقوا بهم، وينخرطوا في سلكهم، فلا يجدون له سبيلاً‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏105- 122‏]‏

‏{‏كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏105‏)‏ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏106‏)‏ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ‏(‏107‏)‏ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏108‏)‏ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏109‏)‏ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏110‏)‏ قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ ‏(‏111‏)‏ قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏112‏)‏ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ ‏(‏113‏)‏ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏114‏)‏ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏115‏)‏ قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ ‏(‏116‏)‏ قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ ‏(‏117‏)‏ فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏118‏)‏ فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ‏(‏119‏)‏ ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ ‏(‏120‏)‏ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏121‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏122‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ اسم الجمع واسم الجنس يُذكر ويُؤنث، كقوم، ورهط، وشجر‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏كذبَتْ قومُ نوحٍ‏}‏، وهو نوح بن لامَك‏.‏ قيل‏:‏ وُلد في زمن آدم عليه السلام، قاله النسفي، وإنما قال‏:‏ ‏{‏المرسلين‏}‏، والمراد‏:‏ نوح فقط؛ لأن من كذَّب واحداً من الرسل فقد كذب الجميع، لاتفاقهم في الدعوة إلى الإيمان، لأن كل رسول يدعو الناس إلى الإيمان بجميع الرسل‏.‏ وقد يُراد بالجمع‏:‏ الواحد؛ كقولك‏:‏ فلان يركب الخيل، ويلبس البرود، وماله إلا فرس واحد وبُرد واحد‏.‏

‏{‏إذ قال لهم‏}‏‏:‏ ظرف للتكذيب، أي‏:‏ كذبوه وقت قوله لهم ‏{‏أخوهم نوحٌ‏}‏؛ نسباً، لا ديناً، وقيل‏:‏ أخوة المجانسة، كما في آية‏:‏ ‏{‏بِلِسَانِ قَوْمِهِ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 4‏]‏‏:‏ ‏{‏ألاَ تتقون‏}‏ خالق الأنام، فتتركوا عبادة الأصنام، ‏{‏إني لكم رسول أمين‏}‏، كان مشهوراً بالأمانة عندهم، كحال نبينا صلى الله عليه وسلم في قريش، ما كانوا يُسمونه إلا محمداً الأمين‏.‏ ‏{‏فاتقوا الله وأطيعونِ‏}‏ فيما آمركم به وأدعوكم إليه من الإيمان‏.‏

‏{‏وما أسألكم عليه‏}‏ أي‏:‏ على ما أنا مُتصدٍ له من الدعاء والنصح، ‏{‏من أجرٍ‏}‏ أصلاً ‏{‏إنْ أجريَ‏}‏ فيما أتولاه ‏{‏إلا على ربِّ العالمين‏}‏؛ لا أطمع في غيره، ‏{‏فاتقوا الله وأطيعون‏}‏، الفاء؛ لترتيب ما بعدها على ما قبلها؛ من تنزيهه عليه السلام عن الطمع، كما أن نظيرتها السابقة؛ لترتيب ما بعدها على أمانته‏.‏ والتكرير؛ للتأكيد، والتنبيه على أن كلا منهما مستقل في إيجاب التقوى والطاعة، فكيف إذا اجتمعا‏؟‏ كأنه قال‏:‏ إذا عرفتم رسالتي وأمانتي فاتقوا الله وأطيعون‏.‏

‏{‏قالوا أَنُؤْمِنُ لك واتبعك‏}‏ والحالة أنه قد تبعك ‏{‏الأرْذَلونَ‏}‏ أي‏:‏ الأرذلون جاهاً ومالاً، والرذالة‏:‏ الدناءة والخسة، وإنما استرذلوهم؛ لاتضاع نسبهم، وقلة نصيبهم من الدنيا، وقيل‏:‏ كانوا من أهل الصناعة الدنيئة، قيل‏:‏ كانوا حاكة وأساكفة- جمع إسكاف- وهو الخَفَّافُ- أي‏:‏ الخراز، وقيل‏:‏ النجار‏.‏ والصناعة لا تزري بالديانة، فالغنى غنى القلوب، والنسب نسب التقوى، والعز عز العلم بالله لا غير، ومرادهم بذلك‏:‏ أنه لا مزية لك في اتباعهم؛ إذ ليس لهم رزانة عقل، ولا إصابة رأي، وقد كان ذلك منهم في بادي الرأي‏.‏ وهذا من كمال سخافة عقولهم، وقصر نظرهم على حطام الدنيا حتى اعتقدوا أن الأشرف مَنْ جَمَعَهَا، والأرذل مَنْ حُرمَها‏.‏ وقد جهلوا بأنها لا تزن عند الله جناح بعوضة، وأن النعيم هو نعيم الآخرة، والأشرف مَنْ فازَ بِه، وسكن في جوار الله، والأرذل من حُرم ذلك‏.‏

قال القشيري‏:‏ ذكر ما لَقِيَ من قومه، وقوله‏:‏ ‏{‏واتبعك الأرذلون‏}‏، وكذلك أتباع الرسل، إنما هم الأضعفون، لكنهم- في حُكم الله- هم المقدّمون الأكرمون، قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «نُصِرْتُ بضعفائكم»، إلخ كلامه‏.‏

‏{‏قال وما عِلْمِي‏}‏ أي‏:‏ وأيّ شيء علمي ‏{‏بما كانوا يعملون‏}‏ من الصناعات، إنما أطلب منهم الإيمان‏.‏

وقيل‏:‏ إنهم طعنوا في إيمانهم، وقالوا‏:‏ لم يؤمنوا عن نظر وبصيرة، وإنما اتبعوك؛ طمعاً في العدة والمال، أي‏:‏ وما وظيفتي إلا اعتبار الظواهر، دون التنقير على بواطنهم، والشق عن قلوبهم، ‏{‏إنْ حسابهم إلا على ربي‏}‏ أي‏:‏ ما محاسبة أعمالهم والتنقير عن كيفياتها إلا على ربي؛ فإنه المطلع على السرائر، ‏{‏لو تشعرون‏}‏ بشيء من الأشياء، أو‏:‏ لو كنتم من أهل الشعور لعلمتم ذلك، ولكنكم كالبهائم أو أضل‏.‏

‏{‏وما أنا بِطَاردِ المؤمنين‏}‏ أي‏:‏ ليس من شأني أن أتبع شهواتكم، فأطرد المؤمنين؛ طمعاً في إيمانكم، وهو جواب عما أوهمه كلامهم من استدعاء طردهم وتعليق إيمانهم بذلك، حيث جعلوا اتباعهم له مانعاً عنه، ‏{‏إنْ أنا إلا نذير مبين‏}‏ وما علي إلا أن أُنذركم إنذاراً بيّناً؛ بالبرهان القاطع، وأنتم أعلم بشأنكم، أي‏:‏ وما أنا إلا رسول مبعوث لإنذار المكلفين، سواء كانوا أعزاء أو أراذل، فكيف يمكنني طرد الفقراء لاستتباع الأغنياء‏؟‏‏.‏ ‏{‏قالوا لئن لم تَنْته يا نوحُ‏}‏ عما تقول ‏{‏لتكوننَّ من المرجومين‏}‏؛ من المقتولين بالحجارة‏.‏ قالوه في آخر أمره‏.‏

‏{‏قال ربِّ إنَّ قومي كذَّبونِ‏}‏؛ تمادوا على تكذيبي، وأصروا عليه، بعد ما دعوتهم هذه الأزمنة المتطاولة، فلم يزدهم دعائي إلا فِراراً، وليس هذا من قبيل الإخبار؛ لأن الله لا يخفى عليه شيء، وإنما هو تضرع وابتهال، بدليل قوله‏:‏ ‏{‏فافتحْ بيني وبينهم فتحاً‏}‏؛ أي‏:‏ احكم بيني وبينهم بما يستحقه كل واحد منا، وهذه حكاية إجمالية، قد فصلت في سورة نوح ‏{‏وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِين‏}‏ من شرهم، أو من شؤم عملهم‏.‏

‏{‏فأنجيناه ومن معه‏}‏ حسب دعائه ‏{‏في الفلك المشحون‏}‏؛ المملوء بهم وبما لا بد لهم منه‏.‏ ‏{‏ثم أغرقنا بَعْدُ‏}‏ أي‏:‏ بعد إنجائهم ‏{‏الباقين‏}‏ من قومه، ‏{‏إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ‏}‏ الممتنع القاهر بإهانة من جحد وأصر‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ قال القشيري‏:‏ أخبر عن كل واحد من الأنبياء بقوله‏:‏ ‏{‏وما أسألكم عليه من أجر‏}‏؛ ليَعْلَمَ الكافةُ أنه من عَمِلَ له فلا ينبغي أن يطلب الأجر من غيره، ففي هذا تنبيهٌ للعلماء- الذين هم ورثة الأنبياء- أن يتأدبوا بآدابهم، وألاّ يطلبوا من الناس شيئاً في بَثِّ علومهم، ولا يرتفقون منهم بتعليمهم، والتذكير لهم، ومن ارتفق من المستمعين في بث فائدة يذكرها من الدين، يَعِظُ بها المسلمين، فلا بارك الله للمسلمين فيما يَسْمعون منه، ولا للعلماءِ أيضاً بركةٌ فيما منهم يأخذون، فيبيعون دينَهم بَعَرَضٍ يسيرٍ، ثم لا بَركضةَ لهم فيه، إذ لا يتقربون به إلى الله، ولا ينتفعون به، ويَحْصُلون على سخط من الله‏.‏ ه‏.‏

قلت‏:‏ أما ما يأخذه العالم من الأحباس فلا يدخل في هذا؛ إذ ليس فيه تكلف من أحد، وكذلك ما يأخذه الواعظ على وجه الزيارة والهدية، من غير استشراف نفسٍ ولا طمعٍ ولا تكلفٍ‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏123- 140‏]‏

‏{‏كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏123‏)‏ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏124‏)‏ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ‏(‏125‏)‏ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏126‏)‏ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏127‏)‏ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً تَعْبَثُونَ ‏(‏128‏)‏ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ‏(‏129‏)‏ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ‏(‏130‏)‏ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏131‏)‏ وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ ‏(‏132‏)‏ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ ‏(‏133‏)‏ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ‏(‏134‏)‏ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏135‏)‏ قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ ‏(‏136‏)‏ إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏137‏)‏ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ‏(‏138‏)‏ فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏139‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏140‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏كذبتْ عادٌ المرسلين‏}‏، وهي قبيلة، ولذلك أنَّث الفعل، وفي الأصل‏:‏ اسم رجل، هو أبو القبيلة‏.‏ ‏{‏إذ قال لهم أخوهم‏}‏؛ نسباً، ‏{‏هودٌ أَلاَ تتقون إني لكم رسول أمين‏}‏، وقد مر تفسيره، ‏{‏فاتقوا الله‏}‏ في تكذيب الرسول الأمين، ‏{‏وأطيعونِ‏}‏ فيما آمركم به وأنهاكم عنه، ‏{‏وما أسألكم عليه من أجرٍ إن أَجْرِيَ إلا على رَبِّ العاَمينَ‏}‏، وتصدير القصص بتكذيب الرسل والأمر بالطاعة؛ للدلالة على أن مبنى البعثة هو الدعاء إلى معرفة الحق، والطاعة فيما يقرب المدعو إلى الثواب، ويُبعده من العقاب، وأنَّ الأنبياء- عليهم السلام- مُجْمِعون على ذلك، وإن اختلفوا في فروع الشرائع، المختلفة باختلاف الأزمنة والأعصار، وأنهم منزهون عن المطامع الدنيئة، والأغراض الدنيوية بالكلية‏.‏

ثم وبَّخهم بقوله‏:‏ ‏{‏أتَبْنونَ بكل رِيعٍ‏}‏‏:‏ مكان مرتفع، ومنه‏:‏ ريع الأرض؛ لارتفاعها، وفيه لغتان‏:‏ كسر الراء وفتحها‏.‏ ‏{‏آيةً‏}‏؛ علَماً للمارة، كانوا يصعدونه ويسخرون بمن يمر بهم‏.‏ وقيل‏:‏ كانوا يسافرون ولا يهتدون إلا بالنجوم، فبنوا على الطريق أعلاماً ليهتدوا بها؛ عبثاً، وقيل‏:‏ برج حمام، دليله‏:‏ ‏{‏تَعْبَثُون‏}‏ أي‏:‏ تلعبون ببنائها، أو‏:‏ بمن يمر بهم على الأول، ‏{‏وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ‏}‏، مآخذ الماء، أو قصوراً مشيدة، أو حصوناً، وهو جمع مصنع، والمصنع‏:‏ كل ماصنع وأتقن في بنيانه، ‏{‏لعلكم تَخْلُدُونَ‏}‏ أي‏:‏ راجين الخلود في الدنيا، عاملين عمل من يرجو ذلك، أو كأنكم تخلدون‏.‏

‏{‏وإذا بطشتم‏}‏ بسوط او سيف، أو أخذتم أحداً لعقوبة ‏{‏بطشتم جبارين‏}‏؛ مسلطين، قاسية قلوبكم، بلا رأفة ولا رقة، ولا قصد تأديب، ولا نظراً للعواقب‏.‏ والجبار الذي يضرب أو يقتل على الغضب‏.‏ ‏{‏فاتقوا الله‏}‏ في البطش، ‏{‏وأطيعونِ‏}‏ فيما أدعوكم إليه؛ فإنه أنفع لكم، ‏{‏وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ‏}‏ من ألوان النعماء وأصناف الآلاء‏.‏ ثم فصّلها بقوله‏:‏ ‏{‏أمدَّكم بأنعامٍ وبنين‏}‏؛ فإن التفصيل بعد الإجمال أدخل في القلب‏.‏ وقرن البنين بالأنعام؛ لأنهم يعينونهم على حفظها والقيام بها‏.‏

‏{‏وجناتٍ‏}‏؛ بساتين ‏{‏وعيونٍ‏}‏‏:‏ أنهار خلال الجنات، ‏{‏إنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ‏}‏ إن عصيتموني، أو‏:‏ إن لم تقوموا بشكرها؛ فإن كفران النعم مستتبع للعذاب، كما أن شكرها مستلزم لزيادتها، قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 7‏]‏‏.‏

‏{‏قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ تَكُن مِّنَ الْوَاعِظِينَ‏}‏؛ فإنّا لن نرعوي عما نحن عليه، ولا نقبل كلامك ودعوتك، وعظت أو سكت‏.‏ ولم يقل‏:‏ أم لم تعظ؛ لرؤوس الآي‏.‏ ‏{‏إنْ هَذَا إِلا خُلق الأولين‏}‏ بضم اللام، أي‏:‏ ما هذا الذي نحن عليه؛ من ألاَّ بعث ولا حساب، إلا عادة الأولين وطبيعتهم واعتقادهم، أو‏:‏ ما هذا الذي نحن عليه؛ من الموت والحياة إلا عادة قديمة، لم يزل الناس عليها، ولا شيء بعدها، أو‏:‏ ما هذا الذي أنكرت علينا؛ من البنيان والبطش، إلا عادة مَنْ قَبْلَنَا، فنحن نقتدي بهم، وما نُعَذَّبُ على ذلك‏.‏

وبسكون اللام، أي‏:‏ ما هذا الذي خوفتنا به ‏{‏إلا خَلْق الأولين‏}‏ أي‏:‏ اختلاقهم وكذبهم، أو‏:‏ ما خَلْقُنا هذا إلا كخلْقهم، نحيا كما حيوا، ونموت كما ماتوا، ولا بعث ولا حساب، ‏{‏وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ‏}‏ على ما نحن عليه من الأعمال‏.‏

‏{‏فَكَذَّبُوهُ‏}‏ أي‏:‏ أصروا على تكذيبه، ‏{‏فأهلكناهم‏}‏ بسبب ذلك بربح صَرْصَرٍ، تقدم في الأعراف كيفيته، ‏{‏إنّ في ذلك لآيةً وما كان أكْثَرُهُمْ‏}‏ أي‏:‏ قوم هود ‏{‏مؤمنين‏}‏؛ ما أسلم معه ثلاثمائة ألف‏.‏‏.‏‏.‏ وأهلك باقيهم‏.‏ قاله المحشي الفاسي‏.‏ وقيل‏:‏ وما أَكْثَرُ قَوْمِكَ بمؤمنين بهذا، على أن ‏{‏كان‏}‏‏:‏ صلة‏.‏ ‏{‏وإن ربك لهو العزيزُ الرَّحِيمُ‏}‏؛ العزيز بالانتقام من أعدائه، الرحيم بالانتصار لأوليائه‏.‏

الإشارة‏:‏ أنكر هود عليه السلام على قومه أمرين مذمومين، وهما من صفة أهل البُعد عن الله؛ الأول؛ التطاول في البنيان، والزيادة على الحاجة، وهي ما يُكن من البرد، ويقي من الحر، من غير تمويه ولا تزويق، والزيادةُ على الحاجة في البنيان من علامة الرغبة في الدنيا، وهو من شأن الجهال رعاء الشاه، كما في الحديث، وفي خبر أخر‏:‏ «إذاعلا العبد البناء فوق ستة أذْرُعٍ ناداه ملك‏:‏ إلى أين يا أفْسَقَ الفاسِقينَ‏؟‏»‏.‏

والثاني‏:‏ التجبر على عباد الله، والعنف معهم، من غير رحمة ولا رقة، وهو من قساوة القلب، والقلب القاسي بعيد من الله، وفي الخبر عن عيسى عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا تُكثِرُوا الكلام بغير ذكر الله، فتقسو قلوبكم؛ فإن القلبَ القاسِيَ بعيدٌ من الله، ولكن لا تشعرون‏)‏‏.‏ وفي الحديث عن نبينا صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا تنظُرُوا إلى عيوب الناس كأنكم أربابٌ، وانظروا إلى عيوبكم كأنكم عَبِيدٌ، فإنما الناس مُبْتَلى ومُعَافىً، فارحموا أهل البلاء وسلو الله العافية» وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏141- 159‏]‏

‏{‏كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏141‏)‏ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏142‏)‏ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ‏(‏143‏)‏ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏144‏)‏ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏145‏)‏ أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آَمِنِينَ ‏(‏146‏)‏ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ‏(‏147‏)‏ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ ‏(‏148‏)‏ وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ ‏(‏149‏)‏ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏150‏)‏ وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ ‏(‏151‏)‏ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ ‏(‏152‏)‏ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ‏(‏153‏)‏ مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآَيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏154‏)‏ قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ‏(‏155‏)‏ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏156‏)‏ فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ ‏(‏157‏)‏ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏158‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏159‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏كَذَّبَتْ ثمودُ المرسَلين إذ قال لهم أخوهم‏}‏؛ نسباً، ‏{‏صالحٌ ألا تتقون‏}‏ الله تعالى، فتوحدونه، ‏{‏إني لكم رسولٌ أمين‏}‏‏:‏ مشهور فيكم بالأمانة، ‏{‏فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على ربِّ العالمين أَتُتْركون فيما ها هنا آمنين‏}‏ أي‏:‏ أتطمعون أن تتركوا فيما ها هنا من النعمة والتَّرَفُّهِ، آمنين من عقاب الله وعذابه، وأنتم على كفركم وشرككم، كلا، والله لنختبرنكم ببعث الرسول، فإن كفرتم عاجلتكم بالعقوبة‏.‏

ثم فسّر ما هم فيه من النعمة بقوله‏:‏ ‏{‏في جناتٍ وعيونٍ وزروعٍ ونخلٍ‏}‏ هو دخل فيما قبله، وخصه بالذكر؛ شرفاً له‏.‏ أو‏:‏ في جنات بلا نخل، ‏{‏طَلْعُهَا هَضِيمٌ‏}‏، والطلع‏:‏ عنقود التمر في أول نباته، باقياً في غلافه‏.‏ والهضيم‏:‏ اللطيف اللين؛ للطف الثمر، أو‏:‏ لأن النخل أنثى وطلع الأنثى ألطف، أو‏:‏ لنضجه، كأنه‏:‏ قيل‏:‏ ونخل قد أرطب ثمره‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ إذا أينع فهو هضيم‏.‏ وقال أيضاً‏:‏ هضيم‏:‏ طيب، وقال الزجاج‏:‏ هو الذي رطبه بغير نوى، أو‏:‏ دَانٍ من الأرض، قريب التناول‏.‏

‏{‏وتَنْحِتُون‏}‏ أي‏:‏ تنقبون ‏{‏من الجبال بيوتاً فارِهين‏}‏؛ حال من الواو، أي‏:‏ حاذقين، أو‏:‏ ناشطين، أو‏:‏ أقوياء، وقيل‏:‏ أَشِرينَ بَطِرِينَ‏.‏ قيل‏:‏ كانوا في زمن الشتاء يسكنون الجبال، وفي زمن الربيع والصيف ينزلون بمواشيهم إلى الريف ومكان الخصب‏.‏ ‏{‏فاتقوا الله وأطيعون ولا تُطيعوا أمرَ المسرفين‏}‏؛ الكافرين المجاوزين الحد في الكفر والطغيان، أي‏:‏ لا تنقادوا لأمرهم، ولا تتبعوا رأيهم، وهم ‏{‏الذين يُفسدون في الأرض‏}‏ بالإسراف بالكفر والمعاصي، ‏{‏ولا يُصلحُونَ‏}‏ بالإيمان والطاعة‏.‏ والمعنى‏:‏ أن فسادهم خالص، لا يشوبه شيء من الصلاح، كما تكون حال بعض المفسدين مخلوطة ببعض الصلاح‏.‏

‏{‏قََاُلوا إِنَّما أَنتَ مِنَ الْمُسَحِّرِينَ‏}‏؛ الذين سُحِرُووا، حتى غَلَبَ على عقلهم السحرُ ‏{‏وما أنت إلا بشرٌ مثلنا فأتِ بآيةٍ إن كنت من الصادقين‏}‏ في دعوى الرسالة، ‏{‏قال هذه ناقةٌ‏}‏، قالها بعدما أخرجها الله تعالى من الصخرة بدعائه عليه السلام، ‏{‏لها شِرْبٌ‏}‏؛ نصيب من الماء، فلا تُزاحموها فيه، ‏{‏ولكم شِرْبُ يومٍ مَعْلومٍ‏}‏ لا تزاحمكم فيه‏.‏ رُوي أنهم قالوا‏:‏ نُريد ناقة عُشَرَاءَ، تخرج من هذه الصخرة، فتلد سَقْباً- والسقب‏:‏ ولد الناقة- فقعد صالح يتفكر، فقال له جبريل عليه السلام‏:‏ صَلِّ ركعتين، وسَلْ رَبَّك الناقة، ففعل، فخرجت الناقة، ونتجت سقباً مثلها في العِظم، وصدرها ستون ذراعاً- أي‏:‏ طولها- وإذا كان يوم شربها شربت ماءهم كله، وإذا كان يوم شربهم لا تشرب فيه‏.‏

‏{‏ولا تَمَسُّوها بِسُوءٍ‏}‏؛ بضرب، أو عقر، أو غير ذلك، ‏{‏فيأخذَكم عذابُ يومٍ عظيم‏}‏، وصف اليوم بالعظم؛ لعظم ما يحل فيه، وهو أبلغ من تعظيم العذاب، ‏{‏فعقروها‏}‏ عَقَرَها «قَدَّار»، وأسند العقر إلى جميعهم؛ لأنهم راضون به‏.‏

رُوي أن عاقرها قال‏:‏ لا أعقرها حتى ترضوا أجمعين‏.‏ وكانوا يدخلون على المرأة في خدرها، فيقولون‏:‏ أترضين بعقر الناقة‏؟‏ فتقول‏:‏ نعم، وكذلك صبيانهم، ‏{‏فأصبحوا نادمين‏}‏ على عقرها؛ خوفاً من نزول العذاب بهم، لا ندم توبة؛ لأنهم طلبوا صالحاً ليقتلوه لَمَّا أيقنوا بالعذاب، وندموا حين لا ينفع الندم، وذلك حين مُعَايَنَةِ العذاب‏.‏

‏{‏فأخذهم العذابُ‏}‏ أي‏:‏ صيحة جبريل، فتقطعت قلوبهم، ‏{‏فأصبحوا في ديارهم جاثمين‏}‏‏:‏ ميتين، صغيرهم وكبيرهم، ‏{‏إنّ في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين‏}‏‏.‏ رُوي أنه أسلم منهم ألفان وثلاثمائة رجل وامرأة‏.‏ وقيل‏:‏ كانوا أربعة آلاف، وقال كعب‏:‏ كان قوم صالح اثني عشر ألفاً، من سوى النساء والذرية‏.‏ ولقد كان قوم عاد مثلهم ست مرات‏.‏ قاله القرطبي‏:‏ قيل‏:‏ في نفي الإيمان عن أكثرهم إيماءٌ إلى أنه لو آمن أكثرهم أو‏:‏ شطرهم لما أُخذوا بالعذاب، وأن قريشاً إنما عُصموا من تعجيل العذاب ببركة من آمن منهم‏.‏ وعلى أن ‏(‏كان‏)‏ زائدةٌ يكون الضمير لقريش، كما تقدم‏.‏ ‏{‏وإن ربك لهو العزيز الرحيم‏}‏‏.‏

الإشارة‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏أَتُتركون فيما ها هنا آمنين‏}‏؛ أنكر عليهم ركونهم إلى الدنيا وزخارفها الغرارة، واطمئنانهم إليها، وهو غرور وحمق؛ إذ الدنيا كسحابة الصيف، تظل ساعة ثم ترتحل، فالدنيا عرض حائل، وظل آفل، فالكيِّس من أعرض عنها، وتوجه بكليته إلى مولاه، صبر قليلاً وربح كثيراً، والأحمق من وقع في شبكتها، حتى اختطفته منيته، وفي الحديث‏:‏ «الدُّنْيَا دَارُ مَنْ لا دَارَ لَهُ، ومالُ من لا مَالَ له، لَهَا يجمعُ من لا عقل له، وعليها يُعادي من لا علم عنده»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏160- 175‏]‏

‏{‏كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏160‏)‏ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏161‏)‏ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ‏(‏162‏)‏ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏163‏)‏ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏164‏)‏ أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ ‏(‏165‏)‏ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ ‏(‏166‏)‏ قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ ‏(‏167‏)‏ قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ ‏(‏168‏)‏ رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ ‏(‏169‏)‏ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ ‏(‏170‏)‏ إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ ‏(‏171‏)‏ ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآَخَرِينَ ‏(‏172‏)‏ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ ‏(‏173‏)‏ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏174‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏175‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إلخ، وهو ظاهر، ثم قال ‏{‏أتأتون الذُّكْرَان من العالمين‏}‏، أراد بالعالمين‏:‏ الناس، أي‏:‏ أتطؤون الناس مع كثرة الإناث، أو‏:‏ أتطؤون أنتم من بين سائر العالمين الذكران، وتختصون بهذه الفاحشة ‏{‏وتذرُون ما خلقَ لكم ربكم‏}‏ من الإناث‏:‏ أو‏:‏ ما خلق لكم؛ لأجل استمتاعكم من الفروج، ‏{‏مِن أزواجكم‏}‏، فَمِنْ للبيان، إن أريد ب «ما»‏:‏ جنس الإناث، وهو الظاهر، وللتبعيض، إن أريد بها العضو المباح منهن، تعريضاً بأنهم يفعلون ذلك بنسائهم أيضاً، وفيه دليل تحريم أدبار الزوجات والمملوكات، ومن أجاز ذلك قد أخطأ خطأ عظيماً‏.‏ ‏{‏بل أنتم قومٌ عَادُون‏}‏ أي‏:‏ متعدون‏.‏ والعادي‏:‏ المتعدي في ظُلْمِهِ، المتجاوز فيه الحد، أي‏:‏ أنتم قوم أحقَّاء بأن توصفوا بالعدوان؛ حيث ارتكبتم مثل هذه العظيمة، التي لم يرتكبها أحد قبلكم، ولو من الحيوانات البهيمية‏.‏

‏{‏قالوا لئن لم تنتهِ يا لوطُ‏}‏ عن إنكارك علينا وتقبيح أمرنا ‏{‏لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ‏}‏ من بلدنا، أي‏:‏ من جملة من أخرجناه من بين أظهرنا، وطردناه من بلدنا‏.‏ ولعلهم كانوا يُخرجون من أخرجوه على أسوأ حال‏.‏ ‏{‏قال إني لِعَمَلِكُم من القَالين‏}‏؛ من المبغضين غاية البغض، كأنه يقلي الفؤاد والكبد من شدته‏.‏ والقِلَى‏:‏ أَشَدُّ البغض، وهو أبلغ من أن يقول‏:‏ لعملكم قالٍ، فقولك‏:‏ فلان من العلماء، أبلغ من قولك‏:‏ فلان عالم؛ لأنك تشهد بأنه مساهم لهم في العلم‏.‏ وفي الآية دليل على قبح معصية اللواط؛ ولذلك أفتى مالك بقتل فاعلها‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏رَبِّ نَجّنِي وأهلي مما يعملون‏}‏؛ من عقوبة عملهم، ‏{‏فنجَّيناه وأهله أجمعين‏}‏ يعني‏:‏ بناته، ومن آمن معه، ‏{‏إلا عجوزاً‏}‏ هي امرأته، وكانت راضية بذلك، والراضي بالمعصية في حكم العاصي، ولو لم يحضر‏.‏ واستثناؤها من الأهل؛ لأنها داخلة فيه- ولو لم تكن مؤمنة-؛ لاشتراكها في الأهلية بحق الزواج‏.‏ بقيت ‏{‏في الغابرين‏}‏؛ في الباقين في العذاب، وهي صفة لها‏.‏ والغابر في اللغة‏:‏ الباقي، كأنه قيل‏:‏ إلا عجوزاً غابرة، أي‏:‏ مُقَدَّراً غبورها؛ إذ الغبور لم يكن صفتها وقت نجاتهم‏.‏

‏{‏ثم دمَّرنا الآخَرِين‏}‏ أي‏:‏ أهلكناهم أشد إهلاك وأفظعه، ‏{‏وأمطرنا عليهم مطراً‏}‏ أي‏:‏ مطراً غير معهود‏.‏ وعن قتادة‏:‏ أمطر الله على شُذّاذ القوم، أي‏:‏ الخارجين عن البلد- حجارة من السماء فأهلكهم، وقلب المدينة بمن فيها‏.‏ وقيل‏:‏ لم يرض بالقلب فقط حتى أتبعهم مطراً من حجارة، ‏{‏فساءَ مطرُ المنذَرين‏}‏ أي‏:‏ قَبُحَ مَطَرُ المنذرين مطرهم، فالمخصوص محذوف‏.‏ ‏{‏إن في ذلك لآيةً وما كان أكثرُهم مؤمنين‏}‏، بل لم يؤمن به إلا بناته وناس قليلون‏.‏ أو‏:‏ ما كان أكثر قريش بمؤمنين بهذا، ‏{‏وإِن ربَّك لهو العزيز‏}‏ الغالب، ‏{‏الرحيم‏}‏؛ حيث لم يُعاجل بالعقوبة لمن استحقها‏.‏

الإشارة‏:‏ من شناعة هذه المعصية حذر الصوفية من مخالطة الشبان، وكذلك النساء‏.‏

وما أُولِعَ فقيرٌ بمخالطتهما فأفلح أبداً، إن سلم من الفاحشة اتُّهِمَ بها، ولا يحل لامرئ يُؤمن بالله واليوم الآخر أن يقف مواقف التهم‏.‏ والنظر إلى محاسن النساء والشبان فتنة، وهي كالعقارب، الصغيرة تلدغ، والكبيرة تلدغ، فالسلامة البُعد عن ساحتهن، إلا على وجهٍ أباحته الشريعة، كالتعليم أو التذكير، مع غَضِّ البصر، أو حجابٍ بينه وبينهن، وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏176- 191‏]‏

‏{‏كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏176‏)‏ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏177‏)‏ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ‏(‏178‏)‏ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏179‏)‏ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏180‏)‏ أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ ‏(‏181‏)‏ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ‏(‏182‏)‏ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ‏(‏183‏)‏ وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ ‏(‏184‏)‏ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ‏(‏185‏)‏ وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ ‏(‏186‏)‏ فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏187‏)‏ قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏188‏)‏ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏189‏)‏ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏190‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏191‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ‏}‏ وهي‏:‏ الغيضة التي تنبت الشجر، والمراد بها‏:‏ غيضة بقرب مدين، يسكنها طائفة منهم، وكانوا ممن بعث إليهم شعيب عليه السلام، وكان أجنبياً منهم، ولذلك قيل‏:‏ ‏{‏إذ قال لهم شُعيبٌ‏}‏ ولم يقل‏:‏ أخوهم، بخلاف مدين، فإنه منهم، ولذلك قال‏:‏ ‏{‏أَخَاهُمْ شُعَيْباً‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 85 وهود‏:‏ 84 والعنكبوت‏:‏ 36‏]‏ وقيل‏:‏ الأيكة‏:‏ الشجر الملتف، وكان شجرهم المقل، وهو الدوم‏.‏ قال قتادة‏:‏ بعث الله شعيباً إلى أمتين؛ أصحاب الأيكة وأصحاب مدين‏.‏ فأهلك الله أصحابَ الأيكة بالظُلة، وأما أهل مدين فصاح بهم جبريل صيحة فهلكوا‏.‏ وقرئ‏:‏ «لَيْكَةِ»؛ بحذف الهمزة، وإلقاء حركتها على اللام، وإنما كتبت هنا وفي «ص» باللام؛ اتباعاً للفظ‏.‏

‏{‏إِذْ قَالَ لهم شُعيبٌ أَلا تَتَّقُون‏}‏ الله، فتوحدوه ولا تُطففوا، ‏{‏إني لكم رسول امين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه‏}‏ أي‏:‏ التبليغ؛ ‏{‏من أجرٍ إنْ أجريَ إلا على رب العالمين، أوْفُوا الكَيْلَ‏}‏ أي‏:‏ أتموه ‏{‏ولا تكونوا من المخْسِرين‏}‏ أي‏:‏ حقوق الناس بالتطفيف، ‏{‏وزِنُوا‏}‏ أشياءكم التي تبيعونها ‏{‏بالقِسْطَاسِ المستقيم‏}‏ السوي‏.‏ والقسطاس- بضم القاف وكسرها‏:‏ الميزان، فإن كان من القسط- وهو العدل، وجعلت العين مكررة- فوزنه‏:‏ فُعْلاَس، وإلا فهو رباعي، ووزنه‏:‏ فُعْلاَلٌ‏.‏ وقيل‏:‏ عجمي‏.‏

‏{‏ولا تبخسوا الناس أشياءَهم‏}‏ أي‏:‏ لا تنقصوا شيئاً من حقوقهم، أيّ حق كان، يقال‏:‏ بخسه حقه‏:‏ إذا انتقصه‏.‏ وقيل‏:‏ نهاهم عن نقص الدراهم والدنانير بقطع أطرافها‏.‏ فالكيل على ثلاثة أقسام‏:‏ واف، وزائد وناقص‏.‏ فأمر الحق تعالى بالوافي، ونهى عن الناقص، وسكت عن الزائد، فَتَرْكُهُ دَليلٌ على أنه إن فعله كان أحسن، وإن تركه فلا عليه‏.‏ ‏{‏ولا تَعْثَوا في الأرض مفسدين‏}‏؛ ولا تبالغوا فيها بالإفساد، وذلك نحو قطع الطريق، والغارة، وإهلاك الزروع‏.‏ وكانوا يفعلون ذلك فنهُوا عنه، يقال‏:‏ عَثِيَ كفرح، وعثا يعثو، كنصر‏.‏

‏{‏واتقوا الذي خلقكم و‏}‏ خلق ‏{‏الجِبلّة الأولين‏}‏ أي‏:‏ الخلق الماضين، وهم من تقدمهم من الأمم، ‏{‏قالوا إنما أنتَ من المسحَّرِين وما انت إلا بشرٌ مثلنا‏}‏، أدخل الواو بين الجملتين هنا؛ لدلالةٍ على أن كلا من التسحير والبشرية مناف للرسالة؛ مبالغة في التكذيب، فتكذيبهم أقبح من ثمود حيث تركه فدل على معنى واحد وهو كونه مسحوراً وقرره بكونه بشراً‏.‏ ثم قالوا‏:‏ ‏{‏وإنْ نظنك‏}‏ «إن»‏:‏ مخففة، أي‏:‏ وإنه، أي‏:‏ الأمر والشأن لنظنك ‏{‏لمن الكاذبين‏}‏ فيما تدعيه من النبوة‏.‏

ثم استعجلوا العذاب بقولهم‏:‏ ‏{‏فَأَسْقِطْ علينا كِسفاً من السماء‏}‏ أي‏:‏ قطعاً، جمع كِسْفة، وقرئ بالسكون‏.‏ أي‏:‏ جُزءاً منه، والمراد بالسماء‏:‏ إما السحاب، أو‏:‏ السماء المظلة، ‏{‏إن كنت من الصادقين‏}‏ في دعواك الرسالة، ولم يكن طلبهم ذلك إلا لتصميمهم على الجحود والتكذيب، وإلا لما أخطروه ببالهم فضلاً عن أن يطلبوه‏.‏

‏{‏قال‏}‏ شعيب عليه السلام‏:‏ ‏{‏ربي أعلمُ بما تعملون‏}‏ من الكفر والمعاصي، وبما تستحقونه من العذاب، فينزله عليكم في وقته المقدر له لا محالة، ‏{‏فكذّبوه‏}‏ أي‏:‏ فتمادوا على تكذيبه، وأَصروا عليه ‏{‏فأخذهم عذابُ يومِ الظُّلَّة‏}‏ حسبما اقترحوه‏.‏ وذلك بأن سلط عليهم الحر سبعة أيام بلياليها، فأخذ بأنفاسهم، فلم ينفعهم ظل ولا ماء ولا شرب، فاضطروا إلى أن خرجوا إلى البرية، فأظلتهم سحابة، وجدوا فيها برداً ونسيماً، فاجتمعوا تحتها، فأمطرت عليهم ناراً فاحترقوا جميعاً‏.‏ وقيل‏:‏ رفع لهم جبل، فاجتمعوا تحته، فوقع عليهم، وهو الظلة‏.‏ وقيل‏:‏ لما ساروا إلى السحابة صيح بهم فهلكوا‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يومٍ عظيمٍ‏}‏ أي‏:‏ في الشدة والهول، وفظاعة ما وقع فيه من الطامة والداهية التامة‏.‏

‏{‏إن في ذلك لآيةً وما كان أَكْثرُهُمْ مؤمنين‏}‏ قيل‏:‏ آمن بشعيب من القِسْمَيْنِ- مدين والأيكة- تسعمائة إنسان، أو‏:‏ وما أكثر قريش بمؤمنين بهذا، ‏{‏وإن ربك لهو العزيز الرحيم‏}‏‏.‏

هذا آخر القصص السبع التي أُوحيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لصرفه- عليه الصلاة والسلام- عن الحرص على إسلام قومه ودفع تحسر فواته، تحقيقاً لمضمون ما مر في مطلع السورة الكريمة من قوله‏:‏ ‏{‏لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 3‏]‏‏.‏ إلخ، ‏{‏وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرحمن مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُواْ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 5، 6‏]‏ الآية، فإن كل واحدة من هذه القصص ذكر متجدد النزول، قد أتاهم من جهته تعالى، بموجب رحمته الواسعة‏.‏

‏{‏وما كان أكثرهم مؤمنين‏}‏ بعد ما سمعوها على التفصيل، قِصَّةً بعد قصةٍ، ليتدبروا فيها، ويعتبروا بما في كل واحدة من الدواعي إلى الإيمان، والزجر عن الكفر والطغيان، وبأن يتأملوا في شأن الآيات الكريمة، الناطقة بتلك القصص، على ما هي عليه، مع علمهم بأنه- عليه الصلاة والسلام- لم يسمع شيئاً من ذلك من أحدٍ أصلاً، فلم يفعلوا شيئاً من ذلك واستمروا على ما كانوا عليه من الكفر والضلال‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

الإشارة‏:‏ كما أمر الله تعالى بوفاء المكيال، أمر بالوفاء في الأعمال، ووفاؤها‏:‏ إتقانها وإخلاصها، وتخليصها من شوائب النقص، في الظاهر والباطن‏.‏ وكما أمر بالعدل في الميزان الحسي بقوله‏:‏ ‏{‏وزنوا بالقسطاس المستقيم‏}‏، أمر بالعدل في الميزان المعنوي، وهو وزن الخواطر بالقسطاس الشرعي، فكل خاطر يخطر بالقلب يريد أن يفعله أو يتكلم به، لا يُخرجه، حتى يزنه بميزان الشرع، فإن كان فيه نفع أخرجه كما كان، أو غيَّره، وإن كان فيه ضررٌ بادَرَ إلى محوه من قلبه، قبل أن يصير هماً أو عزماً، فيعسر رده‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏192- 203‏]‏

‏{‏وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏192‏)‏ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ‏(‏193‏)‏ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ‏(‏194‏)‏ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ‏(‏195‏)‏ وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ ‏(‏196‏)‏ أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آَيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ ‏(‏197‏)‏ وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ ‏(‏198‏)‏ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ ‏(‏199‏)‏ كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏200‏)‏ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ‏(‏201‏)‏ فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏202‏)‏ فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ ‏(‏203‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ «آية» خبر «كان»، و«أَنْ يعلمه»‏:‏ اسمها، ومن قرأ «آية»؛ بالرفع؛ فآية اسمها، و‏{‏أن‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إلخ‏:‏ خبر أو «كان»‏:‏ تامة، و«آية»‏:‏ فاعل، و«أن يعلمه»‏:‏ بدل منه‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏وإنه‏}‏ أي‏:‏ القرآن المشتمل على القصص المتقدمة، وكأنه تعالى عاد إلى ما افتتح به السورة من إعراض المشركين عما يأتيهم من الذكر، ليتناسب المفتتح والمختتم، أي‏:‏ وإن القرآن الكريم ‏{‏لتنزيلُ ربِّ العالمين‏}‏ أي‏:‏ منزل من جهته‏.‏ ووصفه تعالى بربوبية العالمين؛ للإيذان بأن تنزيله من أحكام ربوبيته للعالمين ورأفته للكل‏.‏

‏{‏نَزَلَ به‏}‏ أي‏:‏ أنزله ‏{‏الروحُ الأمين‏}‏ أي‏:‏ جبريل عليه السلام، لأنه أمين على الوحي الذي فيه روح القلوب، ومن قرأ بالتشديد‏:‏ فالفاعل هو الله، والروح‏:‏ مفعول به أي‏:‏ جعل الله تعالى الروح الأمين نازلاً به‏.‏ والباء؛ للتعدية نزل به ‏{‏على قلبك‏}‏ أي‏:‏ حفظك وفهمك إياه، وأثبته في قلبك إثبات ما لا يُنْسَى، كقوله‏:‏ ‏{‏سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 6‏]‏‏.‏

‏{‏لتكونَ من المُنْذرِين‏}‏ بما فيه من العقوبات الهائلة والمواعظ الزاجرة، ‏{‏بلسان عربي‏}‏؛ بلغة قريش وجُرْهُم، فصيح بليغ، والباء‏:‏ إما متعلق بمنذرين، أي‏:‏ لتكون من الذين أَنْذَرُوا بهذا اللسان؛ وهم هود وصالح وشعيب وإسماعيل عليهم السلام أو‏:‏ بنزل، أي‏:‏ نزله بلسان عربي؛ لتُنذر به، لأنه لو نزل بلسان أعجمي لتجافوا عنه، ولقالوا‏:‏ ما نصنع بما لا نفهمه‏؟‏ فيتعذر الإنذار به‏.‏ وهذا أحسن لعمومه؛ أي‏:‏ لتكون من جملة من أنذر قبلك، كنوح وإبراهيم وموسى، وغيرهم من الرسل، عربيين أو عجمين، وأشد الزواجر تأثيراً في قلوب المشركين‏:‏ ما أنذره إبراهيم؛ لانتمائهم إليه، وادعائهم أنهم على ملته‏.‏

‏{‏وإنه‏}‏ أي‏:‏ القرآن ‏{‏لفي زُبُرِ الأَوَّلِينَ‏}‏ يعني‏:‏ أنه مذكور في سائر الكتب السماوية‏.‏ وقيل‏:‏ ثبت فيها معناه، فإن أحكامه التي لا تحتمل النسخ والتبديل، بحسب تبدل الأعصار، من التوحيد وسائر ما يتعلق بالذات والصفات مسطورة فيها، وكذا ما في تضاعيفه من المواعظ والقصص‏.‏ قال النسفي‏:‏ وفيه دليل على أن القرآن إذا ترجم عنه بغير العربية بقي قرآناً، ففيه دليل على جواز قراءة القرآن بالفارسية في الصلاة‏.‏ ه‏.‏ وهو حنفي المذهب، وأما مذهب مالك‏:‏ فلا‏.‏

‏{‏أوَ لمْ يكن لهم آيةً‏}‏ أي‏:‏ أغفلوا ولم يكن لهم آية دالة على أنه تنزيل رب العالمين حقاً، ‏{‏أن يعلمه علماءُ بني إسرائيل‏}‏، كعبد الله بن سلام، وغيره، لوجود ذكره في التوراة‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا يتلى عَلَيْهِمْ قالوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الحق مِن رَّبِّنَآ إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 53‏]‏‏.‏ والمعنى‏:‏ أَوَ لَمْ يكفهم دليلاً على كون القرآن من عند الله عَلِم أَحْبَارِ بني إسرائيل به‏.‏

ومعرفتهم له، كما يعرفون أبناءهم؛ لموافقته لما عندهم في كثير من القصص والأخبار، حتى إن سورة يوسف مذكورة في التوراة بمعنى واحد، وترتيب واحد، وما اختلف مع القرآن فيها إلا في كلمة واحدة‏:‏ «وجاؤوا على قميصه بدم كذب»، عندهم في التوراة‏:‏ وجاؤوا على قميصه بدم جدي‏.‏ وكذا سورة طه‏:‏ جُلهَا في التوراة‏.‏ وقد تقدم الحديث‏:‏ «أوتيت طه والطواسين والحواميم من ألواح موسى» وقد فسر بعض علماء هذه الأمة القرآن العظيم كله بالكتب المتقدمة، ينقل في كل آية ما يوافقها من الكتب السماوية‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولو نزَّلناه على بعض الأَعْجَمِينَ‏}‏ أي‏:‏ ولو نزلناه كما هو بنظمه الرائق على بعض من لا يفهم العربية، ولا يقدر على التكلم بها، ‏{‏فقرأه عليهم‏}‏ قراءة صحيحة، خارقة للعادة، ‏{‏ما كانوا به مؤمنين‏}‏ مع انضمام إعجاز القراءة إلى إعجاز المقروء؛ لفرط عنادهم، وشدة شكيمتهم، قال النسفي‏:‏ والمعنى‏:‏ إنّا أنزلنا هذا القرآن على رجل عربيٍّ مبين، ففهموه، وعرفوا فصاحته وأنّه معجز، وانضم إلى ذلك اتفاق علماء أهل الكتاب قبله على البشارة بإنزاله، وصفته في كتبهم، وقد تضمّنت معانيه وقصصه، وصح بذلك أنها من عند الله، وليست بأساطير كما زعموا، فلم يؤمنوا به، وسمّوه شعراً تارة، وسحراً أخرى‏.‏ ولو نزلناه على بعض الأعاجم، الذي لا يحسن العربية، فضلاً أن يقدر على نظم مثله، ‏{‏فقرأه عليهم‏}‏ هكذا معجزاً، لكفروا به، ولتمحّلوا لجحودهم عذراً، ولسموه‏:‏ سحراً‏.‏ ه‏.‏

والأعجمين‏:‏ جمع الأعجمي، فإن أفعل، إذا كان للتفضيل، يجمع جمع سلامة إذا لم يكن معناه للتفضيل كأحمر، وأصل الأعجمين‏:‏ الأعجمين، فحذفت ياؤه، وقيل‏:‏ جمع أعجم، فلا حذف‏.‏

‏{‏كذلك سَلَكْنَاه‏}‏ أي‏:‏ أدخلنا التكذيب والكفر، وهو مدلول قوله‏:‏ ‏{‏ما كانوا به مؤمنين‏}‏، ‏{‏في قلوب المجرمين‏}‏‏:‏ الكافرين الذين علمنا منهم اختيار الكفر والإصرار عليه‏.‏ يعني‏:‏ مثل هذا السَّلْكِ الغريب سلكناه في قلوبهم وقررناه فيها، فلا سبيل إلى أن يتغيروا عما هم عليه، من التكذيب والإصرار عليه، وهو حجتنا على المعتزلة في خلق أفعال العباد؛ خيرها وشرها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لا يؤمنون‏}‏ توضيح وتقرير لما قبله‏.‏ ويجوز أن يكون حالاً، أي‏:‏ سلكناه فيها غير مؤمنين به، أو‏:‏ مثل ذلك السلك البديع سلكناه، أي‏:‏ أدخلنا القرآن في قلوب المجرمين، ففهموا معانيه، وعرفوا فصاحته وبلاغته، وأنه خارج عن القوة البشرية، من حَيْثُ النَّظْم المعجز والأخبار الغيبية‏.‏ وقد انضم إليه اتفاق علماء أهل الكتاب على اتفاقه لما في أيديهم من الكتب السماوية‏.‏ ومع ذلك ‏{‏لا يؤمنون به‏}‏، ولا يتأثرون بأمثال تلك الأمور الداعية إلى الإيمان، بل يستمرون على ما هم عليه، ‏{‏حتى يَرَوُا العذابَ الأليم‏}‏ الملجئ إلى الإيمان، حين لا ينفعهم الإيمان، ‏{‏فيأتيهم بَغْتَةً‏}‏؛ فجأة في الدنيا والآخرة ‏{‏وهم لا يشعرون‏}‏ بإتيانه، ‏{‏فيقولون هل نحن مُنْظَرُون‏}‏؛ مُؤَخَّرُون ساعة‏.‏

قالوه تَحَسُّراً على ما فات من الإيمان، وتمنياً للإمهال؛ لتلافي ما فرضوه‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ إذا تطهر القلب من الأكدار والأغيار، وملئ بالمعارف والأسرار، كان مَهْبِطاً لوحي الإلهام ووحي الإعلام، ومحلاً لتنزل الملائكة الكرام، إذ كل ما أعطى للرسول كان لوارثه الحقيق منه شِرْبٌ ونصيب؛ ليكون من الواعظين بلسان عربي مبين، يُفصح عن جواهر الحقائق، ويواقيت العلوم، وما ينطق به من العلوم يكون موافقاً لما في زُبُر الأولين، وإن كان أمياً؛ لأن علوم الأذواق لا تختلف‏.‏ أو لم يكن لهم آية على ولايته أن يعلمه علماء أهل فنه من المحققين‏.‏

وقال الورتجبي على هذه الآية‏:‏ أخبر الله سبحانه أن قلب محمد صلى الله عليه وسلم محل نزول كلامه الأزلي؛ لأنه مصفى من جميع الحدثان، بتجلي مشاهدة الرحمن، فكان قلبه عليه الصلاة والسلام صَدَف لآلِئَ خطابِ الحق، يسْبَح في بحار الكرم، فيتلقف كلام الحق من الحق بلا واسطة، وذلك سر عجيب وعلم غريب؛ لأنه يجمع كلام الحق وما اتصل به، وكلامه لم ينفصل عنه، وكيف تفارق الصفات الذات، لكن أبقى في قلبه ظاهره وعلمه وسره، فجبريل عليه السلام في البين‏:‏ واسطة لجهة الحرمة، وذكر ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏نزل به الروح الأمين على قلبك‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏؛ لأن القلب معدن الإلهام والوحي والكلام والرؤية والعرفان، به يحفظ الكلام‏.‏ وفائدة ذلك‏:‏ الإعلام بسر وجود الإنسان، وأنه ليس شيء يليق بالخطاب ونزول الأنباء إلا قلبه، وكل قلب مسدود بعوارض البشرية لا يسمع خطاب الحق، ولا يرى جمال الحق‏.‏ قال أبو بكر بن طاهر‏:‏ ما أنزله على جبريل جعله محلاً للإنذار، لا التحقيق، والحقيقة هو ما تلقفه من الحق، فلم يخبر عنه، ولم يشرف عليه خلق من الجن والإنس والملائكة؛ لأنه ما أطاق ذلك أحد سواه‏.‏ وما أنزل جبريل جعله للخلق، فقال‏:‏ ‏{‏لتكون من المنذرين‏}‏ بما نزل به جبريل على قلبك المتحقق، فإنك متحقق بما كافحناك به، وخاطبناك على مقامٍ لو شاهدك فيه جبريل لاحترق‏.‏ ه‏.‏ على تصحيف في النسخة‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏