فصل: تفسير الآيات رقم (204- 209)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏204- 209‏]‏

‏{‏أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ ‏(‏204‏)‏ أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ‏(‏205‏)‏ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ ‏(‏206‏)‏ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ‏(‏207‏)‏ وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ ‏(‏208‏)‏ ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ ‏(‏209‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ توبيخاً لمن اقترح نزول العذاب، كقولهم‏:‏ ‏{‏فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 32‏]‏ ‏{‏أفبعذابنا يستعجلون‏}‏ مع كونهم لا يطيقونه إذا نزل بهم‏؟‏ وتقديم الجار؛ للإيذان بأن مصب الإنكار والتوبيخ هو كون المُسْتَعْجَلِ به عذابَه، مع ما فيه من رعاية الفواصل‏.‏

‏{‏أفرأيتَ‏}‏ أي‏:‏ أخبرني‏.‏ ولما كانت الرؤية من أقوى أسباب الإخبار بالشيء وأشهرها شاع استعمال «أرأيت» في معنى أخبرني‏.‏ والخطاب لكل من يسمع، أي‏:‏ أخبرني أيها السامع‏:‏ ‏{‏إن متعناهم‏}‏؛ إن متعنا هؤلاء الكفرة ‏{‏سنينَ‏}‏ متطاولة بطول الأعمار وطيب المعاش، ثم جاءهم ما كانوا يُوعدون‏}‏ من العذاب، ‏{‏ما أغنى عنهم‏}‏ أي‏:‏ أيُّ سيء أو أيُّ إغناء أغنى عنهم ‏{‏ما كانوا يُمَتَّعُونَ‏}‏ أي‏:‏ كونهم متمتعين ذلك التمتع المديد، أيُّ شيء أغنى في دفع العذاب، و‏(‏ما‏)‏‏:‏ مصدرية، أو‏:‏ ما كانوا يتمتعون به من متاع الحياة الدنيا، على أنها موصولة، حذف عائدها، وأيا ما كان فالاستفهام للإنكار والنفي‏.‏ وقيل‏:‏ ‏(‏ما‏)‏‏:‏ نافية، أي‏:‏ لم يغن عنهم تمتعهم المتطاول في دفع العذاب‏.‏ والأول أرجح‏.‏

‏{‏وما أهلكنا من قريةٍ‏}‏ من القرى المهلكةَ، ‏{‏إلا لها مُنْذِرُون‏}‏؛ قد أنذروا أهلها لتقوم الحجة عليهم، ‏{‏ذِكْرَى‏}‏ أي‏:‏ تذكرة، وهو مصد منذرون؛ لأن أنذر وذكر متقاربان، كأنه قيل‏:‏ لها مُذكرون تذكرة‏.‏ أو مفعول له، أي‏:‏ ينذرونهم لأجل التذكرة والموعظة، أو خبر، أي‏:‏ هذه ذكرى، أو يكون ذكرى متعلقة بأهلكنا؛ مفعولاً له، والمعنى‏:‏ وما أهلكنا من أهل قرية ظالمين إلا بعد ما ألزمناهم الحجة، بإرسال المنذرين إليهم؛ ليكون إهلاكهم تذكرة وعبرة لغيرهم، فلا يعصون مثل عصيانهم، ‏{‏وما كنا ظالمين‏}‏ فنهلك قوماً غير ظالمين، أو قبل إنذارهم‏.‏ والتعبير عن ذلك بنفي الظالمية مع أن إهلاكهم قبل الإنذار ليس بظلم؛ إذ لا يجب عليه تعالى شيء- كما تقرر من قاعدة أهل السنة-؛ لبيان كمال نزاهته تعالى عن ذلك، وتحقيقاً لكمال عدله‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ يقول الحق جل جلاله، في جانب أهل البطالة والغفلة‏:‏ أفرأيت إن متعناهم سنين بالأموال والنساء والبنين، فاشتغلوا بجمع الأموال والدثور، وبناء الغرف وتشييد القصور، ثم جاءهم ما كانوا يوعدون من الموت، والرحيل من الأوطان، ومفارقة الأحباب والعشائر والإخوان، أيُّ شيء أغنى عنهم ما كانوا يتمتعون به، من لذيذ المآكل والمشارب، ومفاخر الملابس والمراكب، هيهات هيهات، قد انقطعت اللذات، وفنيت الشهوات، وما بقي إلا الحسرات، فتأمل أيها العبد فيما مضى من عمرك، فما بقي في يدك منه إلا ما كان في طاعة مولاك، من ذكرٍ،، أو تلاوةٍ، أو صلاةٍ، أو صيام، أو علم نافع، أو تعليم، أو فكرة، أو شهود، وما سوى ذلك بطالة وخسران، فالوقت الذي تصرفه في طاعة مولاك ذخائره موجودة، وكنوزه مَذْخُورة، والوقت الذي تصرفه في هوى نفسك ضائع، تجيد حسرته يوم القيامة، ففي الحديث‏:‏

«ليس يتحسر أهل الجنة إلا على ساعة مضت لهم، لم يذكروا الله تعالى فيها» قال يحيى بن معاذ‏:‏ أشد الناس عذاباً يوم القيامة من اغتر بحياته والْتَذَّ بمراداته، وسكن إلى مألوفاته، والله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏أفرأيت إن متعناهم سنين‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ وعن ميمون بن مهران‏:‏ أنه لقي الحسن في الطواف، وكان يتمنى لقاءه، فقال له‏:‏ عِظني، فلم يزده على تلاوة هذه الآية، فقال‏:‏ لقد وَعظت فأبلغت‏.‏ وعن عمر بن العزيز رضي الله عنه‏:‏ أنه كان يقرؤها عند جلوسه ليحكم بين الناس‏.‏ ه‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏210- 213‏]‏

‏{‏وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ ‏(‏210‏)‏ وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ ‏(‏211‏)‏ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ ‏(‏212‏)‏ فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ ‏(‏213‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏وما تنزلت به‏}‏؛ بالقرآن، ‏{‏الشياطينُ‏}‏، رداً لما يزعمه الكفرة من أنه من قبيل ما تلقيه الشياطين على الكهنة، بعد تحقيق الحق فيه، ببيان أنه نزل به الروح الأمين‏.‏ ‏{‏ما ينبغي لهم‏}‏ أي‏:‏ وما يصح وما يستقيم لهم ذلك، ‏{‏وما يستطيعون‏}‏ إنزاله أصلاً، ‏{‏إنهم عن السمع‏}‏ أي‏:‏ عن استراقة السمع من الملائكة ‏{‏لمعْزولُونَ‏}‏؛ لممنوعون بالشهب، أو‏:‏ لانتفاء المشاركة بينهم وبين الملائكة في قبول الاستعداد؛ لفيضان أنوار الحق، والانتعاش بأنوار العلوم الربانية والمعارف القدسية؛ لأن نفوس الشياطين خبيثة ظلمانية شريرة، ليست مستعدة إلا لقبول ما لا خير فيه، من فنون الشرور، فمن أين لهم أن يحوموا حول القرآن الكريم، المنطوي على الحقائق الرائقة الغيبية، التي لا يمكن تلقيتها إلا من الملائكة الكرام- عليهم السلام‏؟‏‏.‏

‏{‏فلا تدعُ مع الله إلهاً آخر‏}‏؛ كما هو شأن الأنفس الخبيثة الشيطانية، ‏{‏فتكونَ من المعذِّبين‏}‏، تهديد لغيره على سبيل التعريض، وتحريك له على زيادة الإخلاص، وتنبيه لسائر المكلفين على أن الإشراك بلغ من القبح والسوء، بحيث ينهى عنه من لا يمكن صدوره منه، فكيف بمن عداه‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ وحي الإلهام الذي يتنزل على القلوب الصافية من الأغيار، كوحي الأحكام، ما تتنزل به الشياطين، وما ينبغي لهم وما يستطيعون؛ لأنهم ممنوعون من قلوب العارفين؛ لِمَا احتفت به من الأنوار، وما صانها من الأسرار، أعني أنوار التوحيد وأسرار التفريد‏.‏ وقال في لطائف المنن‏:‏ إذا كان الحق تعالى حرس السماء من الشياطين بالشُهب، فقلوب أوليائه أولى بأن يحرسها من الأغيار‏.‏ ه‏.‏ بالمعنى‏:‏ فلا تدع مع الله إلهاً آخر، وهو ما سوى الله، فتكون من المعذبين بوساوس الشياطين والخواطر والشكوك؛ لأن القلب إذا مال إلى غير الله سلط الله عليه الشيطان، فيكون ذلك القلب جراباً للشيطان، يحشو فيه ما يشاء‏.‏ والعياذ بالله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏214- 220‏]‏

‏{‏وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ‏(‏214‏)‏ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏215‏)‏ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏216‏)‏ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ‏(‏217‏)‏ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ ‏(‏218‏)‏ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ‏(‏219‏)‏ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏220‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏وأنَذِرْ‏}‏ يا محمد ‏{‏عشيرتَك الأقربين‏}‏، إنما خصهم بالذكر؛ لئلا يتكلوا على النسب، فَيَدَعُوا ما يجب عليهم، لأن من الواجبات ما لا يشفع فيها، بقوله في تارك الزكاة وقد استغاث به‏:‏ «لا أملك لكم من الله شيئاً»‏.‏ وفي الغالِّ كذلك‏.‏ وقيل‏:‏ إنما خصهم لنفي التهمة؛ إذ الإنسان يساهل قرابته، وليعلموا أنه لا يغني عنهم من الله شيئاً؛ إذ النجاة في اتباعه، لا في قربه منهم‏.‏

ولما نزلت صعد النبي صلى الله عليه وسلم الصَّفا، ونادى الأقربَ فالأقرب، وقال‏:‏ «يا بَني عبد المطلب، يا بني هاشم، يابني عبد مناف، يا عباسُ- عم النبي صلى الله عليه وسلم- يا صفيَّةُ- عمَّة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لا أمْلِكُ لكم من الله شيئاً» وقال ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ صَعدَ النبي صلى الله عليه وسلم الصَّفا، ونادى‏:‏ «يا صباحَاه»؛ فاجتمع الناس، فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «يا بني عبد المطلب، يا بني فهر، إنْ أخبرتُكم أن خَيْلاً بسَفْح هذا الجَبَل، تريد أن تُغير عليكم صدقتُموني‏؟‏ قالوا‏:‏ نَعَمْ‏.‏ قال‏:‏ فإني نذير لكم بين يَدَيْ عَذَاب شديدٍ‏.‏ فقال أبو لهب‏:‏ نبأ لك سائر اليوم، ما جمعتنا إلا لهذا» ‏؟‏ فنزلت‏:‏ ‏{‏تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ‏}‏ ‏[‏المسد‏:‏ 1‏]‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏واخفضْ جناحك‏}‏ أي‏:‏ وألن جانبك وتواضعْ، وأصله‏:‏ أن الطائر إذا أراد أن ينحط للوقوع كسر جناحه وخفضه، وإذا أراد أن ينهض للطيران رفع جناحه، فجعل خفض الجناح مثلاً في التواضع ولين الجانب‏.‏ ويكن ذلك التواضع ‏{‏لِمَنِ اتبعك من المؤمنين‏}‏ من قرابتك وغيرهم‏.‏ ‏{‏فإن عَصَوْكَ فقل إني بريءٌ مما تعملون‏}‏ أي‏:‏ أنذر قومك؛ فإن اتبعوك وأطاعوك فاخفض لهم جناحك، وإن عصوك ولم يتبعوك فتبرأ منهم ومن أعمالهم؛ من الشرك وغيره‏.‏

‏{‏وتوكل على العزيز الرحيم‏}‏ أي‏:‏ على الذي يقهر أعداءك بعزته وينصرك عليهم برحمته، فإنه يكفيك شر من يعاديك‏.‏ ‏{‏الذي يراك حين تقومُ‏}‏ للتهجد، ‏{‏و‏}‏ يرى ‏{‏تقلُّبَكَ في الساجدين‏}‏؛ في المصلين‏.‏ أتبع كونه رحيماً برسوله ما هو من أسباب الرحمة، وهو ذكر ما كان يفعله في جوف الليل، من قيامه للتهجد، وتقلبه في تصفح أحوال المُتَهَجِّدِينَ، ليطلع عليهم من حيث لا يشعرون‏.‏ وقيل‏:‏ معناه‏:‏ ويراك حين تقوم للصلاة بالناس جماعة، وتقلبك في الساجدين‏:‏ تصرفه فيما بينهم، بقيامه وركوعه وسجوده وقعوده إذا أمهم‏.‏ وعن مقاتل‏:‏ أنه سأل أبا حنيفة‏:‏ هل تجد الصلاة بالجماعة في القرآن‏؟‏ فقال‏:‏ لا يحضرني، فتلا له هذه الآية‏.‏ وقيل‏:‏ تقلبه في أصلاب الرجال‏.‏ ورُوي عنه صلى الله عليه وسلم في الآية أنه قال‏:‏ «من نبي إلى نبي حتى أخرجتك نبياً»‏.‏

‏{‏إنه هو السميعُ‏}‏ لما تقول، ‏{‏العليمُ‏}‏ بما تنويه وتعمله‏.‏ هَوَّنَ عليه مشاقّ العبادة، حيث أخبره برؤيته له، إذ لا مشقّة على من يعْلَم أنه يعمل بمرأى من مولاه، وهو كقوله في الحديث القدسي‏:‏ «بعيني ما يتحمل المتحملون من أجلي» والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ ينبغي لمن أُهِّلَ للوعظ والتذكير أن يبدأ بالأقرب فالأقرب، ولو علم أنه لا ينتفع به إلا النزر القليل‏.‏ فمن تبعه على مذهبه فَلْيُلِنْ له جانبه وليتواضع له، ومن أعرض عنه واشتغل بهواه فليتبرأ من فعله، ولا ينساه من نصحه، ولذلك قال تعالى‏:‏ ‏{‏فإن عصوك فقل إني بريءٌ مما تعملون‏}‏، ولم يقل‏:‏ «منكم»، وهذا مذهب الجمهور وأن الأخ إذا زلّ إنما يُبغض عمله فقط‏.‏ وعن بعض الصحابة- وقد قيل له في أخيه، فقال‏:‏ إنما أبغض عمله، وإلا فهو أخي، وذُكر مثل ذلك عن أبي الدرداء‏.‏ وأن الأخ في الله لا يُبغض لزلته، ولا يترك لشيء من الأشياء، وإنما يبغض عمله، ووافقه على ذلك سلمان، وتابعهما عمر، وخالف في ذلك أبو ذر، فقال‏:‏ إذا وقعت المخالفة، وانقلب عما كان عليه، فَأَبْغِضْهُ مِنْ حَيْثُ أحببتَهُ‏.‏

قال صاحب القوت‏:‏ وأبو ذر صاحب شدائد، وعزائم، وهذا من عزائمه وشدائده‏.‏ ه‏.‏ وهذا في المؤمن بدليل قول أبي الدرداء‏:‏ الأخ في الله لا يبغض لزلة‏.‏ وأما الكافر فصريح آياته‏:‏ ‏{‏إِنَّا بُرَءآؤاْ مِّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 4‏]‏، ونحوها‏.‏ وحديث ابن عمر وتبرئه من نفاة القدر- كما في مسلم- موجب للبراءة، وليس لكون حكم الأصول أشد من الفروع‏.‏ وذكر في الإحياء تأكيد الإعراض عمن يتعدى أذاه لغيره؛ بظلم، أو غصب، أو غيبة، أو نميمة، أو شهادة زور؛ لأن المعصية شديدة فيما يرجع لأذى الخلق‏.‏ ه‏.‏ من الحاشية‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فتوكل على العزيز الرحيم‏}‏، قيل‏:‏ التوكل‏:‏ تفويض الرجل أمره إلى من يملك أمره، ويقدر على نفعه وضره، وهو الله وحده، والمتوكل من إذا دهمه أمرٌ لم يحاولْ دفعه عن نفسه بما هو معصية‏.‏ وقال الجنيد رضي الله عنه‏:‏ التوكل أن تقبل بالكلية على ربك، وتُعرض بالكلية عمن دونه؛ فإنَّ حاجتك إنما هي إليه في الدارين‏.‏ ه‏.‏

قال القشيري‏:‏ ‏{‏وتقلبك في الساجدين‏}‏ من أصحابك، ويقال‏:‏ تقلبك في أصلاب آبائك من المسلمين، الذين عرفوا الله، فسجدوا له، دون من لم يعرفه‏.‏ ه‏.‏ وفي القوت‏:‏ قيل‏:‏ وتقلبك في أصلاب الأنبياء- عليهم السلام، يقلبك في صلب نبي بعد نبي، حتى أخرجك من ذرية أسماعيل، وروينا معنى ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحاصل‏:‏ أنه من ذرية الأنبياء والمؤمنين الساجدين في الجملة، ولا يقتضي كل فرد من الأفراد‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏221- 227‏]‏

‏{‏هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ ‏(‏221‏)‏ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ‏(‏222‏)‏ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ ‏(‏223‏)‏ وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ‏(‏224‏)‏ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ ‏(‏225‏)‏ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ ‏(‏226‏)‏ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ‏(‏227‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ «أيَّ منقلب»‏:‏ مفعول مطلق لينقلبون، والأصل‏:‏ ينقلبون أيّ انقلاب، وليست «أيا»‏:‏ مفعول «يعلم» لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله‏.‏ وجملة‏:‏ «ينقلبون»‏:‏ مُعَلَّقٌ عنها العامِلُ، فهي محل نصب؛ على قاعدة التعليق، فإنه في اللفظ دون المحل‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏هل أُنَبِّئُكم‏}‏ أي‏:‏ أخبركم أيها المشركون ‏{‏على من تَنزَّلُ الشياطينُ‏}‏، ودخل حرف الجار على «من» الاستفهامية؛ لأنها ليست للاستفهام بالأصالة‏.‏ ثم أخبرهم، فقال‏:‏ ‏{‏تنزّل على كل أفاكٍ‏}‏‏:‏ كثير الإفك، وهو الكذب، ‏{‏أثيم‏}‏؛ كثير الإثم وهم الكهنة والمتنبئة كشق وسطيح ومسيلمة‏.‏ وحيث كانت حالة رسول الله صلى الله عليه وسلم منزهة أن يحرم حولها شيء من ذلك، اتضح استحالة تنزلهم عليه صلى الله عليه وسلم‏.‏

‏{‏يُلْقُون السمعَ‏}‏ وهم الشياطين، كانوا، قبل أن يُحجبوا بالرجم، يلقون أسْماعهم إلى الملأ الأعلى، فيختطفون بعض ما يتكلمون به، مما اطلعوا عليه من الغيوب، ثم يُوحون به إلى أوليائهم‏.‏ ‏{‏وأكثرهم كاذبون‏}‏ فيما يوحون به إليهم؛ لأنهم يسمعونهم ما لم يسمعوا‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «إنهم يخلطون مع ما سمعوا مائة كذبةٍ»، فلذلك يُخطئون ويصيبون، وقيل‏:‏ يلقون إلى أوليائهم السمع أي‏:‏ المسموع من الملائكة‏.‏ وقيل‏:‏ الأفاكون يلقون السمع إلى الشياطين، ثم يبلغون ما يسمعون منهم إلى الناس، ‏{‏وأكثرهُم‏}‏ أي‏:‏ الأفاكون ‏{‏كاذبون‏}‏‏:‏ مفترون على الشياطين ما لم يوحوا إليهم‏.‏ والأفَّاك‏:‏ الذي يذكر يكثر الإفك، ولا يدلّ على أنهم لا ينطقون إلا بالإفك، فأراد أن هؤلاء الأفاكين قلَّ من يصْدُق منهم فيما يحكيه عن الجِنَّةِ‏.‏

ولما ذكر الكهنة ذكر الشعراء وحالهم؛ لينبه على بُعد كلامهم من كلام القرآن، فينتفي كونه كهانة وشعراً، كما قيل فيه، فقال‏:‏ ‏{‏والشعراءُ يتَّبِعُهم الغاوون‏}‏‏:‏ مبتدأ وخبر، أي‏:‏ لا يتبعهم على باطلهم إلا الغاوون، فإنهم يصغون إلى باطلهم وكذبهم، وتمزيق الأعراض والقدح في الأنساب، ومدح من لا يستحق المدح، وهجاء من لا يستحق الهجو، ولا يستحسن ذلك منهم ‏{‏إلا الغاوون‏}‏، أي‏:‏ السفهاء، أو الضالون عن طريق الرشد، الحائرون فيما يفعلون ويذرون، لا يستمرون على وتيرة واحدة فيما يقولون ويفعلون، بخلاف غيرهم من أهل الرشد، المهتدون إلى طريق الحق، الثابتين عليه‏.‏

‏{‏ألم تَرَ أنهم‏}‏ أي الشعراء ‏{‏في كل وادٍ‏}‏ من الكلام ‏{‏يَهِيمُون‏}‏، أو في كل فن من الإفك يتحدثون، أو‏:‏ في كل لغو وباطل يخوضون‏.‏ والهائم‏:‏ الذاهب على وجهه لا مقصد له، وهو تمثيل لذهابهم في كل شِعْبٍ من القول، وهو استشهاد على أن الشعراء إنما يتبعهم الغاوون وتقرير له، والخطاب لكل من تتأتى منه الرؤية، للقصد إلى أن حالهم من الجلاء والظهور بحيث لا تختص به رؤية راء دون الآخر، أي‏:‏ ألم تر أن الشعراء في كل وادٍ من أودية القيل والقال، وفي كل شِعْبٍ من الوهم والخيال؛ وفي كل مسلك من مسالك الغي والضلال، يهيمون‏.‏

‏{‏وأنهم يقولون ما لا يفعلون‏}‏ من الأفاعيل، غير مبالين بما يستتبعه من اللوم، فكيف يتوهم أن ينتظم في سلكهم من تنزهت ساحته عن أن تحوم حوله شائبةُ الاتصافِ بشيء من الأمور المذكورة، واتصف بمحاسن الصفات الجليلة، والأخلاق الحميدة، مستقراً على المنهاج القويم، مستمراً على الصراط المستقيم، ناطقاً بكل أمر رشيد، داعياً إلى صراط العزيز الحميد، مؤيداً بمعجزة قاهرة، وآيات ظاهرة، مشحونة بفنون من الحِكَم الباهرة، وصنوف المعارف الزاخرة، مستقل بنظم رائق، أعجز كل مِنْطِيقٍ ماهر، وبكت كل مُفْلِقٍ ساحر‏.‏

هذا وقد قيل في تنزيهه صلى الله عليه وسلم عن أن يكون من الشعراء‏:‏ أن أتباع الشعراء الغاوون، وأتباع محمد صلى الله عليه وسلم ليسوا كذلك، ولا ريب في أن تعليل عدم كونه صلى الله عليه وسلم منهم بكون أتباعه صلى الله عليه وسلم غير غاوين مما لا يليق بشأنه العلي‏.‏ ه‏.‏ قاله أبو السعود‏.‏

ثم استثنى الشعراء المؤمنين، فقال‏:‏ ‏{‏إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحاتِ‏}‏؛ كعبد الله بن رواحة، وحسّان، وكعب بن زهير، وكعب بن مالك‏.‏ ‏{‏وذكروا الله كثيراً‏}‏ أي‏:‏ كان ذكر الله وتلاوة القرآن أغلب عليهم من الشعر، وإذا قالوا الشعر قالوا في توحيد الله والثناء عليه، والحكمة والموعظة، والزهد والأدب، ومدح الرسول صلى الله عليه وسلم والأولياء‏.‏

وأحق الخلق بالهجاء من كَذَّبَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهجاه‏.‏ وعن كعب بن مالك‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «أهْجُهُمْ، فَوَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَهُو أشدُّ عَلَيْهِمْ مِن رَشْقِ النَّبْلِ»، وكان يقول لحسّان‏:‏ «قل، وروح القدس معك»‏.‏

‏{‏وانتصروا من بعد ما ظُلِمُوا‏}‏ أي‏:‏ ردوا على المشركين، الذين هجوا النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين‏.‏ وروي أنه لما نزلت الآية‏:‏ جاء حسان، وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة، يبكون، فقالوا يا رسول الله‏:‏ أنزل الله تعالى هذه الآية، وهو يعلم أنا شعراء‏؟‏ فقال‏:‏ «اقرؤوا ما بعدها‏:‏ ‏{‏إلا الذين آمنوا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ هم أنتم وانتصروا، هم أنتم»‏.‏

ومرَّ عمر رضي الله عنه وحسان رضي الله عنه ينشد الشعر في المسجد، فَلَحَظَ إليه، فقال‏:‏ كنتُ أُنْشِدُ فيه، وفيه من هو خير منك، ثم التفت إلى أبي هريرة، فقال‏:‏ أَنْشُدُكَ بالله، أسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «أجبْ عني، اللهم أيِّدْه بروح القدس» قال‏:‏ اللهم نعم‏.‏

‏{‏وَسَيَعْلَمُ الَّذِين ظَلَمُوا أيَّ مُنَقلَبٍ يَنقَلِبُونَ‏}‏؛ أيَّ مرجع يرجعون إليه، وهو تهديد شديد، ووعيد أكيد؛ لما في ‏{‏سيعلم‏}‏ من تهويل متعلقة، وفي ‏{‏الذين ظلموا‏}‏ من الإطلاق والتعميم‏.‏

وفي ‏{‏أي منقلب ينقلبون‏}‏ من الإبهام والتهويل‏.‏ وتلاها أبو بكر لعمر رضي الله عنه حين عهد إليه، وكان السلف يتواعظون بها‏.‏ والمعنى‏:‏ سيعلم أهل الظلم ما تكون عاقبتهم، حين يقدمون عليَّ وأيَّ منقلب ينقلبون حين يفدون إليّ‏.‏ اللهم ثبت أقدامنا على المنهاج القويم، حين نلقاك يا أرحم الراحمين‏.‏

الإشارة‏:‏ هل أنبئكم على قَلْبِ مَنْ تَنَزَّلَتْ الشياطينُ، وسكنت فيه، تنزل على قلب كل أفاك أثيم، خارب من النور، محشو بالوسواس والخواطر، يلقون السمع إلى هرج الدنيا وأخبارها، وهو سبب فتنتها؛ فإن القلب إذا غاب عن أخبار الدنيا وأهلها، سكن فيه النور وتأنس بالله، وإذا سكن إلى أخبار الدنيا وأهلها سكنت في الظلمة، وتأنس بالخلق، وغاب عن الحق‏.‏ ولذلك قيل‏:‏ ينبغي للمؤمن أن يكون كالفكرون؛ إذا كان وحده انبسط، وإذا رأى أحداً أدخل رأسه معه وأكثر ما يسمع من هرج الدنيا كذب وإليه الإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏وأكثرهم كاذبون‏}‏، ومن جملة ما يفسد القلب‏:‏ تولهه بالشعر، وفي الحديث‏:‏ «لأنْ يمتلىءَ جوفُ أحدِكُم قَيْحَاً خيرٌ له من أن يَمْتَلِىءَ شِعْراً» أو كما قال صلى الله عليه وسلم، إلا من كان شعره في توحيد الله، أو في الطريق، كالزهد في الدنيا، والترهيب من الركون إليها، والزجر عن الاغترار بزخارفها الغرارة، والافتتان بملاذها الفانية، وغير ذلك، أو في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، والمشايخ الموصلين إليه تعالى، بشرط أن يكون الغالب عليه ذكر الله‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وانتصروا من بعدها ظلموا‏}‏، أي‏:‏ جاروا على نفوسهم بعدما جارت عليهم، وقهروها بعد ما قَهَرَتْهُمْ‏.‏ ‏{‏وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون‏}‏ قال ابن عطاء‏:‏ سيعلم المعرض عنا ما فاته منا‏.‏ ه‏.‏ وفي الحكم‏:‏ «ماذا فقد مَنْ وَجَدَكَ، وما الذي وجد مَنْ فَقَدَكَ‏؟‏ لقد خاب من رضي دونك بدلاً، ولقد خسر من بغى عنك مُتَحَولاً، كيف يُرْجَى سِوَاك وأنت ما قَطَعْتَ الإحسانَ، أم كيف يطلب من غيرك وأنت ما بدلت عادة الامتنان‏؟‏» وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق، وصلى الله على سيدنا محمد وآله‏.‏

سورة النمل

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏طس تِلْكَ آَيَاتُ الْقُرْآَنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ ‏(‏1‏)‏ هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏2‏)‏ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ‏(‏3‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ ‏(‏4‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏طس‏}‏ أي‏:‏ يا طاهر يا سيد‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ «هو اسم من أسماء الله تعالى»، أقسم به أن هذه السورة آياتها القرآن وكتاب مبين‏.‏ قلت‏:‏ ولعلها مختصرة من اسمه «اللطيف والسميع»‏.‏ وقيل إشارة إلى طهارة سر حبيبه‏.‏ ‏{‏تلك آياتُ القرآن‏}‏، الإشارة إلى نفس السورة، وما في معنى الإشارة من معنى البُعد، مع قرب العهد بالمشار إليه، للإيذان ببُعد منزلته في الفضل والشرف، أي‏:‏ تلك السورة الكريمة التي نتلوها عليك هي آيات القرآن، المعروف بعلو الشأن‏.‏ ‏{‏و‏}‏ آيات ‏{‏كتابٍ‏}‏ عظيم الشأن ‏{‏مُبين‏}‏؛ مظهر بما في تضاعيفه من الحِكَم، والأحكام، وأحوال الآخرة، أو‏:‏ مبين‏:‏ مُفرق بين الرشد والغي، والحلال والحرام، أو‏:‏ ظاهر الإعجاز، على أنه من‏:‏ أبان، بمعنى بان، وعطفه على القرآن كعطف إحدى الصفتين على الأخرى، نحو‏:‏ هذا فعل السخي والجواد‏.‏

ونكّر الكتاب ليكون أفخم له‏.‏ وقيل‏:‏ إنما نكّر الكتاب وعرّفه في الحِجْر، وعرّف القرآن ونكره في الحِجْر؛ لأن القرآن والكتاب اسمان علمان على المنزّل على محمد صلى الله عليه وسلم، ووصفان له؛ لأنه يُقرأ ويكتب، فحيث جاء بلفظ التعريف فهو العلم، وحيث جاء بلفظ التنكير فهو الوصف‏.‏ قاله النسفي‏.‏

وما قيل من أهل الكتاب هو اللوح المحفوظ، وإبانته أنه خُطَّ فيه ما هو كائن، لا يساعده إضافة الآيات إليه‏.‏ والوصف بالهداية والبشارة في قوله‏:‏ ‏{‏هدىً وبُشرى للمؤمنين‏}‏ أي‏:‏ حال كون تلك الآيات هادية ومبشرة للمؤمنين، فهما منصوبان على الحال، من الآيات، على أنهما مصدران بمعنى الفاعل؛ للمبالغة، كأنهما نفس الهداية والبشارة، والعامل فيها ما في «تلك» من معنى الإشارة، أو خبر، أي‏:‏ هي هدى وبشرى للمؤمنين خاصة؛ إذ لا هداية لغيرهم بها‏.‏

‏{‏الذين يقيمون الصلاة‏}‏؛ يُديمون على إقامة فرائضها وسننها، ويحافظون على خشوعها وإتقانها، ‏{‏ويُؤتون الزكاة‏}‏ أي‏:‏ يؤدون زكاة أموالهم، ‏{‏وهم بالآخرة هم يُوقنون‏}‏ حق الإيقان‏.‏ إما من جملة الموصول، وإما استئناف، كأنه قيل‏:‏ هؤلاء الذين يؤمنون ويعملون الصالحات هم الموقنون بالآخرة حق الإيقان، لا من عداهم؛ لأن من تحمل مشاق العبادات، إنما يكون لخوف العقاب، ورجاء الثواب، أولاً، ثم عبودية آخراً، لمن كمل إخلاصه‏.‏

ثم ذكر ضدهم، فقال‏:‏ ‏{‏إنَّ الذين لا يؤمنون بالآخرة‏}‏ أي‏:‏ لا يُصدّقون بها، وبما فيها من الثواب والعقاب، ‏{‏زيَّنَّا لهم أعمالهم‏}‏ الخبيثة، حيث جعلناها مشتهية للطبع، محبوبة للنفس، حتى رأوها حسنة، كقوله‏:‏ ‏{‏أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سواء عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 8‏]‏، ‏{‏فهم يَعْمَهُونَ‏}‏؛ يترددون في ضلالتهم‏.‏ كما يكون حال الضال عن الطريق‏.‏ ‏{‏أولئك الذين لهم سوءُ العذابِ‏}‏ في الدنيا بالقتل والأسر يوم بدر، ‏{‏وهم في الآخرة هم الأخسرون‏}‏؛ أشدّ الناس خسراناً؛ لأنهم لو آمنوا لكانوا من أكرم الناس، شهداء على جميع الأمم يوم القيامة، فخسروا ذلك مع خسران ثواب الله والنظر إليه‏.‏

عائذاً بالله من جميع ذلك‏.‏

الإشارة‏:‏ طس‏:‏ طهر سرك أيها الإنسان، لتكون من أهل العيان، طهر سرك من الأغيار لتشاهد سر الأسرار، وحينئذٍ تذوق أسرار القرآن والكتاب المبين، وتصير هداية وبشارة للمؤمنين‏:‏ فإنَّ من قرأ القرآن وعمل به فقد أدرج النبوة بين كتفيه، كما في الخبر‏.‏ ثم ذكر من امتلأ قلبه بالأكدار فقال‏:‏ ‏{‏إن الذين لا يؤمنون بالآخرة‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إلخ، قال القشيري‏:‏ أغشيناهم فهم لا يُبصِرون، وعَمَّيْنَا عليهم المسالك، فهم عن الطريقة المُثْلَى يَصدون‏.‏ أولئك الذين في ضلالتهم يعمهون، وفي حيرتهم يترددون‏.‏ ‏{‏أؤلئك الذين لهم سوء العذاب‏}‏ هو أن يجد الألم ولا يجد شهود المُبْتَلِي، ولو وجدوه تحمل عنهم ثِقَله بخلاف المؤمنين‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآَنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ ‏(‏6‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏تُلَقَّى‏)‏‏:‏ مبني للمفعول‏.‏ والفاعل هو الله؛ لدلالة ما تقدم عليه، من قوله‏:‏ ‏{‏وإنه لتنزيل رب العالمين‏}‏‏.‏ و‏(‏لقى‏)‏‏:‏ يتعدى إلى واحد، وبالتضعيف إلى اثنين‏.‏ وكأنه كان غائباً فلقيه، فالمفعول الأول صار نائباً‏.‏ و«القرآن»‏:‏ مفعول ثان، أي‏:‏ وإنك ليلقيك الله القرآن‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏وإِنك‏}‏ يا محمد ‏{‏لَتُلَقَّى القرآنَ‏}‏ أي‏:‏ لتؤتاه بطريق التلقية والتلقين ‏{‏من لَدُنْ حكيمٍ عليم‏}‏ أي‏:‏ من عند أيّ حكيم وأيّ عليم، فالتنكير للتفخيم‏.‏ وفي تفخيمه تفخيم لشأن القرآن‏.‏ وتنصيص على علو طبقته- عليه الصلاة والسلام- في معرفته، والإحاطة بما فيه من العلوم والحِكَم والأسرار فإن من تلقى العلوم والحِكَم من الحكيم العليم يكون عَلَماً في إتقان العلوم والحِكَم‏.‏ والجمع بينهما مع دخول العلم في الحكمة؛ لعموم العلم، ودلالة الحكمة على إتقان الفعل، والإشعار بأن ما في القرآن من العلوم، منها ما هو حكمة، كالعقائد والشرائع، ومنها ما ليس كذلك، كالقصص والأخبار الغيبية‏.‏ قاله أبو السعود‏.‏

قال ابن عطية‏:‏ في الآية رد على كفار قريش في قولهم‏:‏ القرآن من تلقاء محمد‏.‏ وقال القرطبي‏:‏ الآية تمهيد لما يريد أن يسوق من الأقاصيص، وما في ذلك من لطائف حكمته ودقائق علمه، ومن آثار ذلك‏:‏ قصة موسى ‏{‏إذ قال لأهله‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إلخ‏.‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ قال أبو بكر بن طاهر‏:‏ وإنك لَتُلَقَّى القرآن من الحق حقيقية، وإن كنت تأخذه في الظاهر عن واسطة جبريل عليه السلام‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏الرحمن عَلَّمَ الْقُرْءَانَ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 1، 2‏]‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ العارفون بالله لا يسمعون القرآن إلا من لَدُنْ حكيم عليم، بلا واسطة، الواسطة محذوفة في نظرهم، فهم يسمعون من الله إلى الله، ويقرؤون بالله على الله، كما قال القائل‏:‏ أنا بالله أنطق، ومن الله أسمع‏.‏ ومما يحقق لك حذف الواسطة‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فاتبع قُرْآنَهُ‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 28‏]‏ وسمعت شيخي البوزيدي رضي الله عنه، يقول‏:‏ لا يكون الإنسان من الراسخين في العلم حتى يقرأ كله وهو مجموع فيه، أي‏:‏ يقرأ بالله ويسمعه من الله‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 11‏]‏

‏{‏إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا سَآَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آَتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ‏(‏7‏)‏ فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏8‏)‏ يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏9‏)‏ وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ ‏(‏10‏)‏ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏11‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ واذكر ‏{‏إِذْ قال موسى لأهله‏}‏؛ زوجته ومن معه، عند مسيره من مدْين إلى مصر‏:‏ ‏{‏إِني آنستُ‏}‏ أي‏:‏ أبصرتُ ‏{‏ناراً سآتيكم منها بخَبَرٍ‏}‏ عن حال طريق التي ضل عنها‏.‏ والسين للدلالة على نوع بُعد في المسافة، وتأكيد الوعد‏.‏ ‏{‏آو آتيكم بشهابٍ قبَسٍ‏}‏ أي‏:‏ شعلة نار مقبوسة، أي مأخوذة‏.‏ ومن نوّن فبدل، أو صفة، وعلى القراءتين فالمراد‏:‏ تعيين المقصود الذي هو القبس، الجامع لمنفعتي الضياء والاصطلاء؛ لأن من النار ما ليس بقبس، كالجمرة‏.‏ وكلتا العِدتين منه عليه السلام بطريق الظن، كما يُفصح عن ذلك ما في سورة طه، من صيغتي الترجي والترديد؛ لأن الراجي إذا قوي رجاؤه يقول‏:‏ سأفعل كذا، وسيكون كذا، مع تجويزه التخلف‏.‏ وأتى بأو؛ لأنه بنى الرجاء على أنه إن لم يظفر بحاجتيه معاً لم يعدم واحدة منهما، إما هداية الطريق، وإما اقتباس النار، ولم يدر أنه ظافر بحاجته الكبرى، وهي عزّ الدنيا والآخرة‏.‏

واختلاف الألفاظ في هاتين السورتين، والقصة واحدة، دليل على نقل الحديث بالمعنى، وجواز النكاح بغير لفظ النكاح والتزويج‏.‏ قاله النسفي‏.‏

‏{‏لعلكم تَصْطَلُون‏}‏؛ تستدفئون بالنار من البرد إذا أصابكم‏.‏

‏{‏فلما جاءها‏}‏ أي‏:‏ النار التي أبصرها ‏{‏نُودِيَ‏}‏ من جانب الطور ‏{‏أن بُورِكَ‏}‏، على أنّ «أنْ» مفسرة؛ لما في النداء من معنى القول‏.‏ أو‏:‏ بأن بورك، على أنها مصدرية، وقيل‏:‏ مخففة، ولا ضرر في فُقدان الفصل ب «لا»، أو قد، أو السين، أو سوف؛ لأن الدعاء يخالف غيره في كثير من الأحكام، أي‏:‏ أنه، أي‏:‏ الأمر والشأن ‏{‏بُورِكَ‏}‏ أي‏:‏ قدّس، أو‏:‏ جعل فيه البركة والخير، ‏{‏مَن في النار ومَنْ حولها‏}‏ أي‏:‏ من في مكان النار، وهم الملائكة، ‏{‏ومَنْ حولها‏}‏ أي‏:‏ موسى عليه السلام، بإنزال الوحي عليه، الذي فيه خير الدنيا والآخرة‏.‏

وقال ابن عباس والحسن‏:‏ ‏(‏بورك من في النار أي‏:‏ قُدِّس من في النار، وهو الله تعالى‏)‏ أي‏:‏ نوره وسره، الذي قامت به الأشياء، من باب قيام المعاني بالأواني، أو‏:‏ من قيام أسرار الذات بالأشياء، بمعنى أنه نادى موسى منها وسمع كلامه من جهتها، ثم نزّه- سبحانه- ذاته المقدسة عن الحلول والاتحاد، فقال‏:‏ ‏{‏وسبحان اللهِ‏}‏ أي‏:‏ تنزيهاً له عن الحلول في شيء، وهو ‏{‏ربّ العالمين‏}‏‏.‏

ثم فسر نداءه، فقال‏:‏ ‏{‏يا موسى إنه‏}‏ أي‏:‏ الأمر والشأن ‏{‏أنا الله العزيزُ الحكيم‏}‏ أو‏:‏ إنه، أي‏:‏ مكلمك، الله العزيز الحكيم، وهو تمهيد لِما أراد أن يظهر على يديه من المعجزات‏.‏ ‏{‏وألقِ عصاك‏}‏ لتعلم معجزتها، فتأنس بها، وهو عطف على ‏(‏بُورك‏)‏ أي‏:‏ نودي أن بورك وأنْ ألق عصاك‏.‏ والمعنى‏:‏ قيل له‏:‏ بورك من في النار، وقيل له‏:‏ أَلقِ عصاك، ‏{‏فلما رآها تهتزُّ‏}‏؛ تتحرك يميناً وشمالاً، ‏{‏كأنها جانٌّ‏}‏؛ حية صغيرة ‏{‏وَلَّى‏}‏ موسى ‏{‏مُدْبِراً‏}‏ أي‏:‏ أدبر عنها، وجعلها تلي ظهره، خوفاً من وثوب الحية عليه، ‏{‏ولم يُعقِّبْ‏}‏؛ لم يرجع على عقبيه، من‏:‏ عقّب المقاتل‏:‏ إذا كرّ بعد الفر‏.‏

والخوف من الشيء المكروه أمر طبيعي، لا يتخلف، وليس في طوق البشر‏.‏

قال له تعالى‏:‏ ‏{‏يا موسى لا تخفْ‏}‏ من غيري، ثقة بي، أو‏:‏ لا تخف مطلقاً ‏{‏إني لايخاف لَدَيَّ المرسلون‏}‏ أي‏:‏ لا يخاف المرسلون عند خطابي إياهم، فإنهم مستغرقون في شهود الحق، لا يخطر ببالهم خوف ولا غيره‏.‏ وأما في غير أحوال الوحي؛ فهم أشد الناس خوفاً منه سبحانه، أو‏:‏ لا يخافون من غيري، لأنهم لديَّ في حفظي ورعايتي‏.‏ ‏{‏إلا من ظَلَمَ‏}‏ أي‏:‏ لكن من ظلَم مِن غيرهم؛ لأن الأنبياء لا يَظلمون قط، فهو استثناء منقطع، استدرك به ما عسى يختلج في العقل، من نفي الخوف عن كلهم، مع أن منهم من فرطت منه صغيرة مما يجوز صدوره عن الأنبياء- عليهم السلام- كما فرط من آدم، وموسى، وداود، وسليمان- عليهم السلام- فحسنات الأبرار سيئات المقربين‏.‏ وقد قصد به التعريض بما وقع من موسى- عليه السلام- ومن وكزه القبطيّ‏.‏ وسماها ظلماً، كقوله عليه السلام في سورة القصص‏:‏ ‏{‏رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فاغفر لِي فَغَفَرَ لَهُ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 16‏]‏‏.‏

قال في الحاشية الفاسية‏:‏ والظاهر في الاستثناء كونه متصلاً، وأطلق الظلم باعتبار منصب النبوة، وإشفاقهم مما لا يشفق منه غيرهم، كما اتفق لموسى في مدافعة القبطي عن الإسرائيلي، مع أن إغاثة المظلوم مشروعة عموماً، ولكن لَمَّا لم يُؤذَن له خصوصاً عُد ذلك ظلماً وذنباً‏.‏ وأما ما سرى من القتل فلم يقصده، وإنما اتفق من غير قصد‏.‏ ه‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏ثم بدّلَ حُسْناً بعد سُوءٍ‏}‏ أي‏:‏ أتبع زلته حسنة محلها، كالتوبة وشبهها، ‏{‏فإني غفور رحيمٌ‏}‏ أقبل توبته، وأغفر حوبته، وأرحمه، فأحقق أمنيَّته‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ تقدم بعض إشارة الآية في سورة طه‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أن بورك من في النار‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ تقدم قول ابن عباس وغيره‏:‏ أن المراد بمن في النار‏:‏ نور الحق تعالى‏.‏ قال بعض العلماء‏:‏ كانت النار نوره تعالى، وإنما ذكره بلفظ النار؛ لأن موسى حسبه ناراً، والعرب تضع أحدهما موضع الآخر‏.‏ ه‏.‏ ومنه حديث‏:‏ «حجُابه النار، لو كشفه لأحرقت سُبُحاتُ وجهه كلَّ شيء ادركه بصره»، أي‏:‏ حجابه النور الذي تجلى به في مظاهر خلقه، فالأواني حجب للمعاني، والمعاني هي أنوارالملكوت، الساترة لأسرار الجبروت، السارية في الأشياء‏.‏

وقال سعيد بن جبير‏:‏ ‏(‏هي النار بعينها‏)‏، وهي إحدى حجب الله تعالى‏.‏ ثم استدل بالحديث‏:‏ «حجابة النار» ومعنى كلامه‏:‏ أن الله تعالى احتجت في مظاهر تجلياته، وهي كثيرة، ومن جملتها النار، فهي إحدى الحجب التي احتجب الحق تعالى بها، وإليه أشار ابن وفا بقوله‏:‏

هو النورُ المحيط بكل كَون *** ولا يفهم هذا إلا أهل الفناء في الذات، العارفون بالله، وحسب من لم يبلغ مقامهم التسليم لِما رمزوا إليه، وإلا وقع الإنكار على أولياء الله بالجهل، والعياذ بالله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 14‏]‏

‏{‏وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آَيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ‏(‏12‏)‏ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آَيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏13‏)‏ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏وأَدْخِلْ يدَكَ‏}‏ يا موسى ‏{‏في جَيْبكَ‏}‏؛ في جيب قميصك‏.‏ والجيب‏:‏ الفتح في الثوب لرأس الإنسان‏.‏ قال الثعلبي‏:‏ إنما أمره بذلك؛ لأنه كان عليه مدرعة صوف، لا كُم لها‏.‏ ‏{‏تخرجْ بيضاءَ من غير سُوءٍ‏}‏؛ من غير آفة، كَبَرَصٍ ونحوه، ‏{‏في تسع آياتٍ‏}‏ أي‏:‏ هاتان الآيتان في جملة تسع آيات، وهي الفلق، والطوفان، والجراد، والقُمل، والضفادع، والدم، والطمس، والجدب في بواديهم، والنقصان في مزارعهم‏.‏ ومن عدّ اليد والعصا من التسع عدّ الاخيرين واحداً، ولم يعد الفلق؛ لأنه لم يبعث به إلى فرعون‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إلى فرعون‏}‏ متعلق بمحذوف، أي‏:‏ مرسلاً، أو‏:‏ ذاهباً إلى فرعون ‏{‏وقومِه إنهم كانوا قوماً فاسقينَ‏}‏؛ خارجين عن أمر الله، كافرين به‏.‏

‏{‏فلما جاءتهم آياتُنا‏}‏؛ معجزاتنا، وظهرت على يد موسى، حال كونها ‏{‏مُبصرةً‏}‏؛ بيّنة واضحة، وهي اسم فاعل، أطلق على المفعول، إشعاراً بأنها لفرط ظهورها كأنها تبصر نفسها؛ مبالغة في وضوحها وإلا فهي مبصرة لمن ينظر ويتفكر فيها‏.‏ أو‏:‏ ذات تبصر؛ لأنها تهدي من يتبصر بها‏.‏ فلما جاءتهم ‏{‏قالوا هذا سحرٌ مبين‏}‏ واضح سحريته‏.‏

‏{‏وجَحَدوا بها‏}‏ أي‏:‏ كذبوا بها ‏{‏و‏}‏ قد ‏{‏اسْتَيقنتها أنفُسُهم‏}‏ أي‏:‏ علمتها علماً يقيناً، فالاستيقان‏:‏ أبلغ من الإيقان‏.‏ يعني‏:‏ أنهم جحدوا بألسنتهم واستيقنوها في قلوبهم‏.‏ ‏{‏ظلماً‏}‏‏:‏ حال من ضمير ‏(‏جحدوا‏)‏ أي‏:‏ ظالمين في ذلك، ولا ظلم أفحش ممن تيقن أنها آيات من عند الله، وسماها سحراً بيّناً، ‏{‏وعُلُوّاً‏}‏؛ تكبراً وترفعاً عن الإيمان بموسى عليه السلام، وهو أيضاً حال، أو‏:‏ علة، ‏{‏فانظر كيف كان عاقبةُ المفسدين‏}‏ وهو الإغراق في الدنيا، والإحراق في الآخرة‏.‏ نسأل الله العافية‏.‏

الإشارة‏:‏ وأدْخِل يد فكرتك في جيب قلبك، تخرج بيضاء شعشعانية، يستولي شعاعها على وجود بشريتك، فتنخنس البشرية تحت أنوار المعاني، ثم يستولي على الوجود بأسره، فيصير كله نوراً ملكوتياً، جبروتياً، متصلاً بالنور الأعظم، والبحر الطام، بعد قطع مقامات التوبة، والتقوى، والإستقامة، والإخلاص، والصدق، والطمأنينة، والمراقبة والمحبة، والمشاهدة، فيكون حينئذٍ آية مبصرة واضحة، من آيات الله، يدلّ على الله، ويدعو إليه على بصيرة منه‏.‏ فمن جحدها انخرط في سلك من قال تعالى في حقه‏:‏ ‏{‏وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعُلُواً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 16‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏15‏)‏ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ ‏(‏16‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏ولقد آتينا داودَ وسليمانَ عِلماً‏}‏ أي‏:‏ أعطينا كل واحد منهما طائفة خاصة به من علم الشرائع والأحكام، وغير ذلك مما يختص به كل واحد منهما، كصنعة الدروع، ومنطق الطير‏.‏ أو‏:‏ علماً لدُنِيا‏.‏ ‏{‏وقالا‏}‏ أي‏:‏ كل واحد منهما، شكراً لما أُوتيه من العلم‏:‏ ‏{‏الحمدُ لله الذي فضَّلنا‏}‏ بما آتانا من العلم ‏{‏على كثيرٍ من عباده المؤمنين‏}‏‏.‏ قال النسفي‏:‏ وهنا محذوف، ليصلح عطف الواو عليه، ولولا تقدير المحذوف لكان الوجه‏:‏ الفاء، كقولك‏:‏ أعطيته فشكر، وتقديره‏:‏ آتيناهما علماً، فعملا به، وعرفا حق النعمة فيه، وقالا‏:‏ ‏{‏الحمد لله الذي فضَّلنا على كثير‏}‏‏.‏ والكثير المفضّل عليه‏:‏ من لم يؤت علماً أو‏:‏ من لم يؤت مثل علمهما‏.‏ وفيه‏:‏ أنهما فُضّلا على كثير وفضل عليهما كثير‏.‏

وفي الآية دليلٌ على شرف العلم، وتقدم حملته وأهله، وأن نعمة العلم من أجلّ النعم، وأن من أوتيه فقد أُوتي فضلاً على كثير من عباده، وما سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورثة الأنبياء إلا لمداناتهم في الشرف والمنزلة؛ لأنهم القوّام بما بُعِثُوا من أجله‏.‏ وفيها‏:‏ أنه يلزمهم لهذه النعمة الفاضلة أن يحمدوا الله تعالى على ما أوتوه، وأن يعتقدَ العالم أنه إذا فُضّل على كثير فقد فُضّل عليه مثلهم‏.‏ وما أحسن قول عمر رضي الله عنه‏:‏ ‏(‏كلّ الناس أفقه من عمر‏)‏‏.‏ ه‏.‏

والعلماء على قسمين‏:‏ علماء بالله وعلماء بأحكام الله‏.‏ فالعلماء بالله هم العارفون به، أهل الشهود والعيان‏.‏ وهم أهل علم الباطن، أعني علم القلوب، والعلماء بأحكام الله هم علماء الشرائع والنوازل‏.‏ وحيث انتهت درجة العلماء بأحكام الله ابتدئت درجة العلماء بالله‏.‏ فنهاية علماء الظاهر بداية علماء الباطن؛ لأن علم أهل الظاهر جله ظني، وعلم أهل الباطن عياني، ذوقي، وليس الخبر كالعيان، مع ما فاقوهم به من المجاهدة والمكابدة، ومقاساة مخالفة النفوس، وقطع المقامات، حتى ماتوا موتات، ثم حييت أرواحهم، فشاهدوا من الأنوار والأسرار ما تعجز عنه العقول، وتكلّ عنه النقول‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وورِثَ سليمانُ داودَ‏}‏‏.‏ وَرِثَ منه النبوة والملك دون سائر بنيه وكانوا تسعة عشر‏.‏ ووراثته للنبوة‏:‏ انتقالها إليه بعد أبيه، وإلا فالنبوة لا تورث‏.‏ ‏{‏وقال يا أيها الناس عُلِّمنا منطلقَ الطير‏}‏ تشهيراً لنعمة الله، واعترافاً بمكانها، ودعاء للناس إلى تصديقه بذكر المعجزة التي هي علم منطق الطير‏.‏

والمنطق‏:‏ كل ما يصوَّت به من المفرد والمؤلّف، والمفيد وغير المفيد‏.‏ وكان سليمان عليه السلام يفهم عنها كما يفهم بعضها بعضاً‏.‏ يُحكى أنه مرَّ على بلبل على شجرة، يحرك رأسه، ويميل ذنبه، فقال لأصحابه‏:‏ أتدرون ما يقول‏؟‏ قالوا‏:‏ الله ونبيه أعلم، قال يقول‏:‏ إذا أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العَفَاء‏.‏

وصاحت فاختة، فأخبر أنها تقول‏:‏ ليت ذا الخلق لم يُخلقوا، وصاح طاووس، فقال‏:‏ يقول‏:‏ كما تدين تدان، وصاح هُدهد، فقال‏:‏ يقول‏:‏ من لا يرحم لا يُرحم، وصاح صُّرَد- وهو طائر ضخم الرأس- فقال‏:‏ يقول‏:‏ استغفروا الله يا مذنبين، وصاح طيطوى، فقال‏:‏ يقول‏:‏ كل حي ميت، وكل جديد بال‏.‏ وصاح خُطَّاف، فقال‏:‏ يقول‏:‏ قَدِّموا خيراً تجدوه‏.‏ وصاح قُمْرِيّ، فأخبر أنه يقول‏:‏ سبحان ربي الأعلى‏.‏ وصاحت رخمة، فقال‏:‏ إنها تقول سبحان ربي الأعلى ملء أرضه وسمائه‏.‏

وفي رواية‏:‏ هدرت حمامة، فقال‏:‏ إنها تقول‏:‏ سبحان ربي الأعلى- مثل الرخمة- وقال‏:‏ الغراب يدعو على العشَّار‏.‏ والحِدَأة تقول‏:‏ كل شيء هالك إلا وجهه‏.‏ والقطاة تقول‏:‏ من سكت سَلِمَ، والببغاء تقول‏:‏ ويل لمن الدنيا همه، والديك يقول‏:‏ اذكروا الله يا غافلين، والنسر يقول‏:‏ يا ابن آدم؛ عش ما شئت، آخرك الموت‏.‏ والعُقاب يقول‏:‏ في البُعد من الناس أُنس‏.‏ والضفدع تقول‏:‏ سبحان ربي القدوس‏.‏ والبازي يقول‏:‏ سبحان ربي وبحمده، المذكور في كل مكان‏.‏ والدراج يقول‏:‏ الرحمن على العرش استوى‏.‏ والقنب يقول‏:‏ إلهي؛ العن مبغض آل محمد، عليه الصلاة والسلام‏.‏

وقيل‏:‏ إن سليمان كان يفهم صوت الحيوانات كلها، وإنما خضّ الطير؛ لأنه معظم جنده‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وأُوتينا من كل شيء‏}‏ أي‏:‏ ما نحتاج إليه‏.‏ والمراد به كثرة ما أُوتي، كما تقول‏:‏ فلان يقصده كل أحد، ويعلم كل شيء، كناية عن كثرة علمه‏.‏ ‏{‏إنَّ هذا لهو الفضلُ‏}‏ والإحسان من الله تعالى ‏{‏المبين‏}‏ أي‏:‏ الواضح، الذي لا يخفى على أحد، أو‏:‏ إن هذا الفضل الذي أوتيته هو الفضل المبين‏.‏ على أنه عليه السلام قاله على سبيل الشكر والمحمدة‏.‏ كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلاَ فَخْرَ» أي‏:‏ أقول هذا القول شكراً، لا فخراً، والنون في ‏(‏عُلمنا‏)‏ و‏(‏أُوتينا‏)‏ نون الواحد المطاع، وكان حينئذٍ ملكاً، فكلم أهل طاعته على الحالة التي كان عليها، وليس فيه تكبر ولا فخر؛ لعصمة الأنبياء من ذلك‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ أشرف العلوم وأعظمها وأعزها العلم بالله، على سبيل الذوق والكشف والوجدان، ولا يكون إلا من طريق التربية على يد شيخ كامل؛ لأنه إذا حصل هذا العلم أغنى عن العلوم كلها، وصغرت في جانبه، حتى إن صاحب العلم بالله يعد الاشتغال بطلب علم الرسوم بطالة وانحطاطاً، ومَثَله كمن عنده قناطير من الفضة، ثم وجد جبلاً من الإكسير، فهل يلتفت صاحبُ الإكسير إلى الفضة أو الفلوس‏؟‏ لأن من كانت أوقاته كلها مشاهدة ونظراً لوجه الملك، كيف يلتفت إلى شيء سواه، ولذلك قال الجنيد رضي الله عنه‏:‏ لو نعلم تحت أديم السماء أشرف من هذا العلم، الذي نتكلم فيه مع أصحابنا، لسعيت إليه‏.‏ ه‏.‏

وقال شيخ شيوخنا، سيدي عبد الرحمن العارف‏:‏ كنت أعرف أربعة عشر علماً، فما أدركت علم الحقيقة، سرطت ذلك كله، ولم يبق إلا التفسير والحديث، نتكلم فيه مع أصحابنا‏.‏ أو قريباً من هذا الكلام‏.‏ وقال شيخ شيوخنا، سيدي عبد الرحمن المجذوب رضي الله عنه‏:‏

أقارئينَ عِلْمَ التْوحِيد *** هُنا البُحُورُ إليَّ تنبي

هَذا مَقامُ أهْل التجريدِ *** الواقِفِينَ مَع ربي

وهذا أمر بيِّن عند أهل هذا الفن، وقال الورتجبي‏:‏ العلم علمان‏:‏ علم البيان وعلم العيان‏.‏ علم البيان ما يكون بالوسائط الشرعية، وعلم العيان مستفاد من الكشوفات الغيبية‏.‏ ثم قال‏:‏ فالعلم البياني معروف بين العموم، والعلم العياني مشهور بين الخصوص، لم يطلع عليه إلا نبي أو وَليّ، لأنه صدر من الحق لأهل شهوده، من المحبين العارفين والموحدين والصديقين، والأنبياء والمرسلين، انظر بقية كلامه‏.‏

وقال أيضاً في قوله‏:‏ ‏{‏عُلِّمنا منطقَ الطير‏}‏‏:‏ أفْهَم أن أصوات الطيور والوحوش وحركات الأكوان جميعاً هي خطابات من الله عز وجل للأنبياء والمرسلين، والعارفين والصديقين، يفهمونها من حيث أحوالهم ومقاماتهم‏.‏ فللأنبياء والمرسلين علم بمناطقها قطعياً‏.‏ ويمكن أن يقع ذلك بوحي، لكن أكثر فهوم الأنبياء أنهم يفهمون من أصواتها ما يتعلق بحالهم، بما يقع في قلوبهم من إلهام الله، لا بأنهم يعرفون لغاتهم بعينها‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ وكذلك الأولياء يفهمون عنها ما يليق بمقاماتهم، من ألفاظ، أو أنس، أو إعلام، أو غير ذلك‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 19‏]‏

‏{‏وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ‏(‏17‏)‏ حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏18‏)‏ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏قالت نملة‏}‏‏:‏ التاء للوحدة، لا للتأنيث‏.‏ قال الرضي‏:‏ تكون التاء للفرق بين المذكر والمؤنث، وتكون لآحاد الجنس، كنحلة ونحل، وثمرة وثمر، وبطة وبط، ونملة ونمل، فيجوز أن تكون النملة مذكراً، والتاء للوحدة، وأنث الفعل باعتبار تأنيث اللفظ‏.‏ ه‏.‏ مختصراً‏.‏ و‏(‏لا يحطمنكم‏)‏‏:‏ يحتمل أن يكون جواباً للأمر، أو‏:‏ نهياً بدلاً من الأمر؛ لتقارب المعنى؛ لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده‏.‏ والضد ينشأ عنه الحطْم، فلا‏:‏ ناهية، ومثله الحديث‏:‏ «فليُمسك بِنَصَالها، لا يعقر مسلماً» ه‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏وحُشِرَ لسليمانَ‏}‏ أي‏:‏ جُمع له ‏{‏جنودُهُ من الجنِ والإِنس والطيرِ‏}‏ بمباشرة مخاطبيه، فإنهم رؤساء مملكته، وعظماء دولته، من الثقلين وغيرهم‏.‏ وتقديم الجن على الإنس للإيذان بكمال قوة ملكه وعزة سلطانه؛ لأن الجن طائفة عاتية، وقبيلة طاغية، ماردة، بعيدة من الحشر والتسخير، ‏{‏فهم يُوزَعون‏}‏ أي‏:‏ يحبس أوائلهم على أواخرهم، أي‏:‏ يوقف سلاف العسكر حتى يلحقهم الثواني، فيكونوا مجتمعين، لا يختلف منهم أحد، وذلك لكثرة العظمة والقهرية‏.‏

قال قتادة‏:‏ فكان لكل صنف منهم وزعة‏.‏ أو‏:‏ لترتيب الصفوف، كما هو المعتاد في العساكر‏.‏ والوزع‏:‏ المنع، ومنه قول الحسن البصري، حين ولي القضاء‏:‏ ‏(‏لا بد للحاكم من وزعة‏)‏ أي‏:‏ شُرط يمنعون الناس من الظلم‏.‏ وتخصيص حبس أوائلهم بالذكر دون سوق أواخرهم مع أن التلاحق يحصل بذلك أيضاً‏:‏ لأن أواخرهم غير قادرين على ما يقدر عليه أوائلهم من السير السريع، وهذا إن لم يكن سيرهم بتسيير الريح في الجو‏.‏ قال محمد بن كعب‏:‏ كان عسكر سليمان مائة فرسخ، خمسة وعشرون للجن، وخمسة وعشرون للإنس، وخمسة وعشرون للطير، وخمسة وعشرون للوحش‏.‏ وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب، فيها ثلاثمائة منكوحة، وسبعمائة سرية‏.‏ وقد نسجت له الجن بساطاً من ذهب وإبريسم، فرسخاً في فرسخ، وكان يوضع منبره في وسطه، وهو من ذهب، فيقعد عليه، وحوله ستمائة ألف كرسي من ذهب وفضة، فتقعد الأنبياء- عليهم السلام- على كراسي الذهب، والعلماء على كراسي الفضة، وحولهم الناس، وحول الناس الجن والشياطين، وتظله الطير بأجنحتها، حتى لا تقع عليه الشمس، وترفع ريح الصبا البساط، فتسير به مسيرة شهر، من الصباح إلى الرواح‏.‏

ورُوي أنه كان يأمر الريح العاصف تحمله، ويأمر الرخاء تُسيِّره، فأوحى الله تعالى إليه، وهو يسير بين السماء والأرض‏:‏ إني زدت في ملكك أنه لا يتكلم أحد بشيء إلا ألقته الريح في سمعك‏.‏ قال وهب‏:‏ حدثني أبي‏:‏ أن سليمان مرّ بحرّاثٍ، فقال‏:‏ لقد أُوتي آلَ داود مُلكاً عظيماً، فالتفت ونزل إلى الحرّاث، فقال‏:‏ إني سمعت قولك، وإنما مشيت إليك لئلا تتمنى ما لا تقدر عليه، لتسبيحة واحدة يقبلها الله منك خير لك مما أوتي آلُ داود‏.‏

ه‏.‏

‏{‏حتى إذا أتوا على وادِ النمل‏}‏ أي‏:‏ فساروا حتى بلغوا وداي النمل، وهو واد بالشام، كثير النمل، قاله مقاتل‏.‏ أو‏:‏ بالطائف، قاله كعب‏.‏ وقيل‏:‏ هو واد يسكنه الجن، والنمل مراكبهم‏.‏ وعدي الفعل ب «على»؛ لأن إتيانهم كان من فوق، فأتى بحرف الاستعلاء‏.‏ ولعلهم أرادوا أن ينزلوا بأعلى الوادي؛ إذ حينئذٍ يخافهم من في الأرض، لا عند سيرهم في الهواء‏.‏ وجواب ‏(‏إذ‏)‏ قوله‏:‏ ‏{‏قالت نملة‏}‏، وكأنها لما رأتهم متوجهين إلى الوادي فرّت منهم، فصاحت صيحة، فنبهت بها ما بحضرتها من النمل‏.‏

قال كعب‏:‏ مرّ سليمان عليه السلام بوادي السدير، من أودية الطائف، فأتى على واد النمل، فقالت نملة، وهي تمشي، وكانت عرجاء تتكاوس، مثل الذئب في العِظَم‏.‏ قال الضحاك‏:‏ كان اسم تلك النملة طاحية، وقيل‏:‏ منذرة، وقيل‏:‏ جرمي‏.‏ وقال نوف الحميري‏:‏ كان نمل وادي سليمان أمثال الذباب‏.‏ وعن قتادة‏:‏ أنه دخل الكوفة، فالتف عليه الناس، فقال‏:‏ سلوني عما شئتم، فسأله أبو حنيفة، وهو شاب، عن نملة سليمان، أكان ذكراً أو أنثى‏؟‏ فأفحم، فقال أبو حنيفة‏:‏ كانت أنثى، فقيل له‏:‏ بم عرفت‏؟‏ فقال‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالت نملة‏}‏ ولو كان ذكراً لقال‏:‏ قال نملة‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ وهو غير صحيح لِمَا تقدم عن الرضي‏.‏

‏{‏قالت نملةٌ يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم‏}‏ لم يقل‏:‏ ادخلن؛ لأنه لَمَّا جعلها قائلة، والنمل مقولاً لهم، كما يكون من العقلاء، أجرى خطابهن مجرى ذوي العقل، ‏{‏لا يَحْطِمَنَّكُمْ‏}‏؛ لا يكسرنّكم‏.‏ والحطم‏:‏ الكسر، وهو في الظاهر نهى لسليمان عن الحطم، وفي الحقيقة نهى لهم عن البروز والوقوف على طريقه، نحو‏:‏ لا أرينك ها هنا، أي‏:‏ لا تتعرضوا فيكسرنكم ‏{‏سليمانُ وجنودُه‏}‏، وقيل‏:‏ أراد‏:‏ لا يحطمنكم جنود سليمان، فجاء بما هو أبلغ‏.‏ ‏{‏وهم لا يشعرون‏}‏ لا يعلمون بمكانكم، أي‏:‏ لو شعروا ما فعلوا‏.‏ قالت ذلك على وجه العذر، واصفةً سليمان وجنوده بالعدل، فحمل الريح قولها إلى سليمان على ثلاثة أميال‏.‏

رُوي أن سليمان قال لها‏:‏ لم حذرت النمل، أَخفتِ ظلمي‏؟‏ أما عَلِمتِ أني نبي عدل، فلِمَ قُلتِ‏:‏ ‏{‏لا يحطمنكم سليمان وجنوده‏}‏ ‏؟‏ فقالت‏:‏ أما سمعتَ قولي‏:‏ ‏{‏وهم لا يشعرون‏}‏، مع أني لم أُرد حَطْم النفوس، وإنما أردت حطم القلوب، خشيتُ أن يتمنينَّ ما أُعطيتَ، ويشغلن بالنظر إليك عن التسبيح، فقال لها سليمان‏:‏ عظيني، فقالت‏:‏ هل علمتِ لِمَ سُمي أبوك داود‏؟‏ قال‏:‏ لا، قالت‏:‏ لأنه داوى جرحَه‏.‏ هل تدري لِمَ سميت سليمان‏؟‏ قال‏:‏ لا، قالت‏:‏ لأنك سليم، ما ركنت إلى ما أوتيت، لسلامة صدرك، وأنَى لك أن تلحق أباك‏.‏ ثم قالت‏:‏ اتدري لِمَ سخر الله لك الريح‏؟‏ قال‏:‏ لا، قالت‏:‏ أخبرك الله أن الدنيا كلها ريح‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ومن هنا «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل أربعة من الدواب‏:‏ الهدهد، والصُّرد، والنحلة، والنملة»‏.‏

‏{‏فتبسم ضاحكاً‏}‏، معجباً ‏{‏من قولها‏}‏ ومِن حَذَرِها، واهتدائها لمصالحها، ونُصحها للنمل، وفرحاً بظهور عدله‏.‏ والتبسم‏:‏ ابتداء الضحك، وأكثر الضحك الأنبياء التبسّم، أي‏:‏ فتبسم ابتداء، ضاحكاً انتهاء‏.‏ ‏{‏وقال ربِّ أوزعني‏}‏، الإيزاع في الأصل‏:‏ الكف، أي‏:‏ كُفَّني عن كل شيء إلا عن شكر نعمتك، ويطلق على الإلهام، أي‏:‏ ألهمني ‏{‏أن أشكرَ نعمتك التي أنعمتَ عليَّ‏}‏ من النبوة والمُلك والعلم، ‏{‏وعلى والديَّ‏}‏؛ لأن الإنعام على الوالدين إنعام على الولد، ‏{‏و‏}‏ ألهمني ‏{‏أن أعمل صالحاً ترضاه‏}‏ في بقية عمري، ‏{‏وأدخِلْني برحمتك‏}‏ أي‏:‏ وأدخلني الجنة برحمتك، لا بصالح عملي؛ إذ لا يدخل الجنة إلا برحمتك كما في الحديث‏.‏ ‏{‏في عبادك الصالحين‏}‏ أي‏:‏ في جملة أنبيائك المرسلين، الذين صلحوا لحضرتك‏.‏ أو‏:‏ مع عبادك الصالحين‏.‏ رُوي أن النملة أحست بصوت الجنود، ولم تعلم أنهم في الهواء فأمر سليمان عليه السلام الريح، فوقفت؛ لئلا يذعرن، حتى دخلن مساكنهن، ثم دعا بالدعوة‏.‏ قاله النسفي‏.‏

الإشارة‏:‏ من أقبل بكليته على مولاه، وأطاعه في كل شيء، سخرت له الأكوان، وأطاعته في كل شيء‏.‏ ومن أعرض عن مولاه أعرض عنه كلُّ شيء، وصعب عليه كلُّ شيء‏.‏ «أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكون، فإذا شهدته كانت الأكوانُ معك»‏.‏ فإذا سخرت له الأشياء، وزهد فيها، وأعرض عنها، واختار مقام العبودية، ارتفع قدره، ولم ينقص منه شيئاً، كحال نبينا- عليه السلام-‏.‏ ومن سخرت له الأشياء، ونظر إليها، انتقص قدره، وإن كان كريماً على الله، ولذلك ورد في الخبر أن سليمان عليه السلام‏:‏ هو آخر من يدخل الجنة من الأنبياء‏.‏ ذكره في القوت‏.‏

وذكر فيه أيضاً‏:‏ أن سليمان عليه السلام لَبِسَ ذات يوماً ثياباً رفيعة، ثم ركب على سريره، فحملته الريح، وسارت به، فنظر إلى عطفيه نظرة، فأنزلته إلى الأرض، فقال لها‏:‏ لِمَ أنزلتني ولَمْ آمرك‏؟‏ فقالت له‏:‏ نطعيك إذا أطعت الله، ونعصيك إذا عصيته‏.‏ فاستغفر وتاب، فحملته‏.‏ وهذا مما يعتب علىلمقربين؛ لِكِبر مقامهم، فكل نعيم في الدنيا ينقص في الآخرة‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 26‏]‏

‏{‏وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ ‏(‏20‏)‏ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ‏(‏21‏)‏ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ‏(‏22‏)‏ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ‏(‏23‏)‏ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ ‏(‏24‏)‏ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ‏(‏25‏)‏ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ‏(‏26‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏وتفقَّدَ‏}‏ سليمانُ ‏{‏الطيرَ‏}‏ أي‏:‏ تعرف أحوال الطير تعرف َالمَلِك لمملكته، حسبما تقتضيه عناية الملك بمملكته، والاهتمام بكل جزء منها، أو‏:‏ تفقده لمعرفته بالماء، أو لغير ذلك على ما يأتي‏.‏ فلما تفقده لم ير الهدهد فيما بينها‏.‏ والتفقد‏:‏ طلب ما غاب عنك‏.‏ ‏{‏فقال ماليَ لا أرى الهدهد‏}‏ أساتر ستره‏؟‏ ‏{‏أم كان من الغائبين‏}‏، و«أم»‏:‏ بمعنى «بل»‏.‏ كأنه قال‏:‏ ما لي لا أراه‏؟‏ ثم بدا له أنه غائب، فأضرب عنه، وقال‏:‏ بل هو من الغائبين‏.‏

‏{‏لأُعذِّبَنَّه عذاباً شديداً‏}‏، قيل‏:‏ كان عذابه للطير‏:‏ نتفه ريشه وتشميسه، أو‏:‏ يجعله مع أضداده في قفص، أو‏:‏ بالتفريق بينه وبين إلفه‏.‏ وعن بعضهم‏:‏ أضيق السجون معاشرة الأضداد، ومفارقة الأحباب‏.‏ أو‏:‏ نتفه، وطرحه بين يدي النحل تلدغه، أو‏:‏ النمل تأكله‏.‏ وحلّ له تعذيب الهدهد لينزجر غيره، ولِما سخرت له الحيوانات- ولا يتم التسخير إلا بالتأديب- حلّ له التأديب‏.‏

‏{‏أو لأذْبحنَّه‏}‏؛ ليعتبر به أبناء جنسه، ‏{‏أو لَيَأْتِيَنِّي بسلطانٍ مبين‏}‏؛ بحُجة تُبين عذره، والحلف في الحقيقة على أحد الأمرين، على تقدير عدم الثالث‏.‏ قال بعضهم‏:‏ وسبب طلبته للهدهد، لإخلاله بالنوبة التي كان ينوبها‏.‏ وقيل‏:‏ كانت الطير تظله، فأصابته لمعة من الشمس، فنظر، فرأى موضع الهدهد خالياً، فتفقده، وقيل‏:‏ احتاج إلى الماء، وكان عِلْمُ ذلك إلى الهدهد، فتفقده، فلم يجده، فتوعده‏.‏

والسبب فيه‏:‏ أن سليمان عليه السلام لَمَّا فرغ من بناء بيت المقدس، عزم على الخروج إلى أرض الحرم، للحج، فتجهز للمسير، وخرج بجنوده- كما تقدم- فبلغ الحرم، وأقام به، وكان ينحر كل يوم بمكة خمسة آلاف ناقة، ويذبح خمسة آلاف ثور، وعشرين ألف شاة، قرباناً‏.‏ وقال‏:‏ إن هذا مكان يخرج منه نبي عزيزُ، صفته كذا وكذا، يُعطَى النصر على جميع من ناوأه، وتبلغ هيبته مسيرة شهر، القريب والبعيد في الحق عنده سواء، لا تأخذه في الله لومة لائم، دينه دين الحنيفية، فطوبى لمن أدركه وآمن به، وبيننا وبين خروجه زهاء ألف عام‏.‏ ثم قضى نسكه، وخرج نحو اليمن صباحاً، يؤم سهيلاً، فوافى صنعاء وقت الزوال، وذلك مسيرة شهر، فرأى أرضاً حسناء، تزهو خضرتها، فأحب النزول بها؛ ليصلي ويتغذى، فطلبوا الماء فلم يجدوه، وكان الهدهد دليله على الماء، كان يرى الماء من تحت الأرض، كما نرى الماء في الزجاجة، فينقر الأرض فتجيء الشياطين يستخرجونه‏.‏ وبحث فيه القشيري بأن الهدهد متعدد في عسكره، إذا فقدوا واحداً بقي آخر، قال‏:‏ اللهم إلا أن يكون ذلك الواحد مخصوصاً بمعرفة ذلك، والله أعلم‏.‏ ه‏.‏

قال سعيد بن جبير‏:‏ لما ذكر ابن عباس هذا الحديث‏:‏ قال له نافع بن الأزرق‏:‏ كيف ينظر الماء تحت الأرض، ولا يبصر الفخ حتى يقع فيه‏؟‏ قال ابن عباس‏:‏ ويحك إذا جاء القدر حال دون البصر‏.‏

ه‏.‏ قلت‏:‏ ونافع هذا هو رأس الخوارج والمعتزلة‏.‏

فلما نزل سليمانُ، قال الهدهد‏:‏ إن سليمان قد اشتغل بالنزول، فارتفع نحو السماء، ونظر طول الدنيا وعرضها، ونظر يميناً وشمالاً، فرأى بستاناً لبلقيس فيه هدهد‏.‏ وكان اسم هدهد سليمان «يعفور» واسم هدهد اليمن «عنفير»‏.‏ فقال هدهد اليمن لهدهد سليمان‏:‏ من أين أقبلتَ وأين تريد‏؟‏ قال‏:‏ أقبلتُ من الشام، مع صاحبي سليمان بن داود، قال‏:‏ ومَن سليمان‏؟‏ قال‏:‏ ملك الجن والإنس والشياطين والطير والوحوش والرياح، فمِن أين أنت‏؟‏ قال من هذه البلد، ملكها امرأة، يقال لها «بلقيس» تحت يديها اثنا عشر ألف قائد، تحت يد كل قائد مائة ألف مقاتل‏.‏ فانطلق معه، ونظر إلى بلقيس ومُلكها، ورجع إلى سليمان وقت العصر‏.‏ وكان سليمان قد فقده وقت الصلاة، فلم يجده، وكان على غير ماء‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ فدعا عريف الطير- وهو النسر- فسأله‏؟‏، فقال‏:‏ ما أدري أين هو، فغضب سليمان وقال‏:‏ ‏(‏لأُعذبنه‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ إلخ، ثم دعا بالعقاب، سيد الطير، فقال‏:‏ عليّ بالهدهد الساعة، فرفع العقاب نفسه نحو السماء، حتى التزق بالهواء، فنظر إلى الدنيا كالقصعة بين يدي أحدكم، فإذا هو بالهدهد مُقبلاً من نحو اليمن، فانقضّ نحوه، فقال له الهدهد‏:‏ بحق الحق الذي قوّاك إلا ما رحمتني، فقال‏:‏ ويلك، إن نبي الله حلف أن يعذبك ويذبحك‏.‏ ثم تلقته النسور والطير في العسكر، وقالوا له‏:‏ لقد توعدك نبيُّ الله‏.‏ قال‏:‏ أوَ ما استثنى‏؟‏ قالت‏:‏ بلى، قال‏:‏ ‏{‏أوْ لَيأتيني بسلطان مبين‏}‏‏.‏ ثم دخل على سليمان، فرفع رأسه، وأرخَى ذنبه وجناحيه يجرهما على الأرض، تواضعاً لله ولسليمان، فقال سليمان‏:‏ أين كنت‏؟‏ لأعذبنَّك‏.‏‏.‏‏.‏ فلما دنا منه أخذ سليمان برأسه، فمده إليه، فقال له الهدهد‏:‏ يا نبي الله؛ اذكر وقوفك بين يدي الله تعالى، بمنزلة وقوفي بين يديك، فارتعد سليمان وعفا عنه‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ إنما صُرف سليمان عن ذبح الهدهد لبره بوالديه، كان يلتقط الطعام ثم يزقه لهما‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَكَثَ غيرَ بعيدٍ‏}‏ أي‏:‏ تفقد مكث سليمان حين تفقد الهدهد، وأرسل من ورائه غير زمان بعيد، وهو من الظهر إلى العصر- كما تقدم- أو‏:‏ فمكث الهدهد في غيبته غير بعيد، خوفاً من سليمان، فالضمير إما لسليمان، أو‏:‏ للهدهد، وهو الظاهر، ويرجحه قراءة‏:‏ ‏(‏فتمكث‏)‏‏.‏ وفي «مكث» لغتان‏:‏ الضم والفتح‏.‏

ولما قدِمَ من غيبته، أحضر بين يديه، على الهيئة المتقدمة، ثم سأله عن غيبته، ‏{‏فقال أَحطتُ بما لم تُحِطْ به‏}‏ أي‏:‏ أدركت علماً لم تُحط به أنت، أَلهم الله الهدهدَ فكافح سليمانَ بهذا الكلام، مع ما أوتي من فضل النبوة والعلوم الجمة، ابتلاء له عليه السلام في علمه، وتنبيهاً على أن في أدنى خلقه اضعفهم من أحاطه الله علماً بما لم يُحط به؛ لتتصاغر إليه نفسه، ويصغر في عينه وعلمه، في جانب علم الله، رحمة به ولُطفاً في ترك الإعجاب، الذي هو فتنة العلماء‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وجئتك من سبأ‏}‏- بالصرف- اسماً للحيّ، أو‏:‏ للأب الأكبر، وبعدمه اسماً للقبيلة‏.‏ ‏{‏بنبأٍ يقين‏}‏، والنبأ‏:‏ الخبر الذي له شأن‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏من سبأ بنبإٍ‏}‏ من محاسن الكلام ويسمى البديع‏.‏ وقد حسن وبرع لفظاً ومعنىً، حيث فسر إبهامه بأبدع تفسير، وأراه أنه كان بصدد إقامة خدمة مهمة‏.‏ وعبّر عما جاء به بالنبأ، الذي هو الخبر الخطير والشأن الكبير، ووصفه بما وصفه به‏.‏ ‏{‏وإني وجدتُ امرأةَ تملكهم‏}‏؛ هو استئناف لبيان ما جاء به من النبأ، وتفسير له إثر الإجمال‏.‏ وهي بلقيس بنت شراحيل بن مالك بن ريان‏.‏ وكان أبوها ملك أرض اليمن كلها، ورث الملك من أربعين أباً‏.‏ وقيل‏:‏ كان أبوها- اسمه الهدهاد- ملكاً عظيم الشأن، ملك أرض اليمن كلها، وأبى أن يتزوج منهم، فزوجوه امرأة من الجن، يقال لها «ريحانة» فولدت له بلقيس، ولم يكن له ولد غيرها‏.‏

قال أبو هريرة‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «كان أحد أبوي بلقيس جنياً» فمات أبوها، فاختلف قومه فرقتين، وملّكوا أمرهم رجلاً قائماً بسيرته، حتى فجَر بحرم رعيته، فأدركت بلقيس الغيرة، فعرضت عليه نفسها، فتزوجته، فسقته الخمر، فسكر، فجزت رأسه، ونصبته على باب دارها فملكوها‏.‏

‏{‏وأُوتِيَتْ من كل شيءٍ‏}‏ تحتاج إليه الملوك، من العدة والآلة، ‏{‏ولها عرشٌ عظيم‏}‏‏:‏ كبير، قيل‏:‏ كان ثلاثين ذراعاً في ثلاثين عرضاً، وقيل‏:‏ كان ثمانين ذراعاً في ثمانين، وطوله في الهواء‏:‏ ثمانون‏.‏ وكان من ذهب وفضة، مرصعاً بأنواع الجواهر، وقوائمه من ياقوت أحمر وأخضر، ودرّ، وزبرجد، وعليه سبعة أبيات، في كل بيت باب مغلق‏.‏ واستصغر الهدهد حالها إلى حال سليمان، فلذلك عظّم عرشها‏.‏ وقد أخفى الله تعالى ذلك على سليمان؛ لحكمة، كما أخفى مكان يوسف على يعقوب، ليتحقق ضعف العبودية في جانب علم الربوبية‏.‏

وكانت بلقيس مجوسية، فلذلك قال‏:‏ ‏{‏وجدتُها وقومَها يسجدون للشمس من دون الله‏}‏ أي‏:‏ يعبدونها متجاوزين عبادة الله‏.‏ ‏{‏وزيَّن لهم الشيطانُ أعمالهم‏}‏ التي هي عبادة الشمس، ونظائرها من أصناف الكفر والمعاصي، ‏{‏فصدَّهم عن السبيل‏}‏؛ عن سبيل الرشد والصواب، وهو التوحيد ‏{‏فهم لا يهتدون‏}‏ إليه‏.‏ ولا يَبْعد من الهدهد التهدّي إلى معرفة الله، ووجوب السجود له، وحرمة السجود للشمس، إلهاماً من الله له، كما ألهمه وغيره من الطيور وسائر الحيوانات والمعارف اللطيفة، التي لا يكاد العقلاء، الراجحة العقول، يهتدون إليها‏.‏ وهذا من أسرارالربوبية، التي سرت في الأشياء، فوحّدَت الله تعالى، ولهجت بحمده‏.‏

‏{‏ألاَّ يسجدوا‏}‏ بالتشديد، أي‏:‏ فصدّهم عن السبيل لئلا، فحذف الجار، أي‏:‏ لأجل ألا يسجدوا لله‏.‏ ويجوز أن تكون «لا» مزيدة، أي‏:‏ فهم لا يهتدون إلى أن يسجدوا‏.‏ وقرئ‏:‏ هلا يسجدون‏.‏ ومن قرأ بالتخفيف‏.‏ فالتقدير عنده‏:‏ ألا يا هؤلاء؛ اسجدوا، فألاَ للتنبيه، والمنادي محذوف، فمن شدّد لم يقف على ‏{‏يهتدون‏}‏، ومن خفف وقف ثم استأنف‏:‏ ألا يا هؤلاء اسجدوا ‏{‏لله الذي يُخرجُ الخَبْءَ‏}‏؛ الشيء المخبوء المستور ‏{‏في السماوات والأرض‏}‏، قال قتادة‏:‏ خبء السموات‏:‏ المطر، وخبء الأرض‏:‏ النبات‏.‏ واللفظ أعم من ذلك، ‏{‏ويعلم ما يُخفون وما يُعلنون‏}‏ عطف على «يخرج»، إشارة إلى أنه تعالى يُخرج ما في العالم الإنساني من الخفايا، كما يُخرج ما في العالم الكبير من الخبايا‏.‏

‏{‏الله لا إله إلا هو ربُّ العرش العظيم‏}‏ الذي هو أول الأجرام وأعظمهما‏.‏ ووصفُ الهدهد عرشَ الله بالعظم تعظيم له بالنسبة إلى سائر ما خلق من السموات والأرض‏.‏ وفي الخبر‏:‏ «إن السموات والأرض في جانب العرش كحلقة في فلاة» ووصفه عرش بلقيس تعظيم له بالنسبة إلى عروش أبناء جنسها من الملوك‏.‏ هذا آخر كلام الهدهد‏.‏ ثم دلهم على الماء فحفروا وشربوا، وملؤوا الركايا، والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ هُدهد كل إنسان نفسه، فإذا تفقدها فوجدها غائبة عن الله، في أودية الغفلة، هددها بالعذاب الشديد، وبذبحها بأنواع المخالفة، حتى تأتيه بحجة واضحة، تعذر بها، فإن لم تأت بحجة عذَّبها وذبحها، بإدخالها في كل ما تكره ويثقل عليها، فتمكث غير بعيد، فتأتيه بالعلوم اللدنية، والأسرار الربانية، التي لم يحط بها علماً قبل ذلك، وتجيئه بالخبر اليقين، في العلم بالله، من عين اليقين، أو حق اليقين، فتخبره عن أحوال عامة أهل الحجاب، فتقول‏:‏ إني وجدت إمرأة تملكهم، وهي نفسهم الأمارة، وأوتيت من كل شيء تشتهيه وتهواه، من غير وازع ولا قامع، ولها عرش عظيم، وهو سرير الغفلة والانهماك في حب الدنيا والشهوات‏.‏ أو‏:‏ لها تسلط كبير على من ملكته، وجدتها وقومها يسجدون للسّوى، ويخضعون للهوى من دون الله، وزيّن لهم الشيطانُ ذلك، فصدهم عن طريق الوصول، فهم لا يهتدون إلى الوصول إلى الحضرة أبداً ما داموا كذلك؛ لأن حضرة ملك الملوك محرمة على من هو لنفسه مملوك‏.‏ ألا يسجدوا بقلوبهم لله وحده، فإنه مطلع على خبايا القلوب والأسرار، وعلى ما يُسرون من الإخلاص، وما يُعلنون من الأعمال، التي توجب الاختصاص‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 34‏]‏

‏{‏قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ‏(‏27‏)‏ اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ ‏(‏28‏)‏ قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ ‏(‏29‏)‏ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ‏(‏30‏)‏ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ‏(‏31‏)‏ قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ ‏(‏32‏)‏ قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ ‏(‏33‏)‏ قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ سليمانُ للهدهد‏:‏ ‏{‏سننظرُ‏}‏ أي‏:‏ نتأمل فيما أخبرتَ، فتعلمُ ‏{‏أَصَدَقْتَ أم كنتَ من الكاذبين‏}‏، وهو أبلغُ من‏:‏ أَكَذَبْتَ؛ لأنه إذا كان معروفاُ بالانخراط في سلك الكاذبين كان كاذباً، لا محالة، وإذا كان كاذباً اتّهم فيما أخبر به، فلا يُوثق به، ثم كتب‏:‏ من عبد الله، سليمان بن داود، إلى بلقيس ملكة سبأ؛ بسم الله الرحمن الرحيم، السلام على من اتبع الهدى، أما بعد‏:‏ فلا تعلوا عليّ وأتوني مسلمين‏.‏ قال منصور‏:‏ كان سليمان أبلغ الناس في كتابه، وأقلهم كلاماً فيه‏.‏ ثم قرأ‏:‏ ‏{‏إنه من سليمان‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إلخ، والأنبياء كلهم كذلك، كانت تكتب جُملاً، لا يُطيلون ولا يُكثرون‏.‏ وقال ابن جريج‏:‏ لم يزد سليمان على ما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنه من سليمان‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إلخ‏.‏ ثم طَيَّبه بالمسك، وختمه بخاتمه، وقال للهدهد‏:‏ ‏{‏اذهب بكتابي هذا فَأَلْقِه إِليهم‏}‏ أي‏:‏ إلى بلقيس وقومها؛ لأنه ذكرهم معها في قوله‏:‏ ‏{‏وجدتها وقومها‏}‏، وبنى الخطاب على لفظ الجمع لذلك‏.‏ ‏{‏ثم تولّ عنهم‏}‏ أي‏:‏ تنح عنهم إلى مكان قريب، بحيث تراهم ولا يرونك، ليكون ما يقولون بمسمع منك، ‏{‏فانظرْ ماذا يرجعون‏}‏ أي‏:‏ ما الذي يردُّون من الجواب، أو‏:‏ ماذا يرجع بعضهم إلى بعض من القول‏.‏

فأخذ الهدهدُ الكتابَ بمنقاره، ودخل عليها من كوّة، فطرح الكتاب على نحرها، وهي راقدةٌ، وتوارى في الكوة‏.‏ وقيل‏:‏ نقرها، فانتبهت فزعة، أو‏:‏ أتاها الجنود حولها، فوقف ساعة يرفرف فوق رؤوسهم، ثم طرح الكتاب في حجرها، وكانت قارئة، فلما رأت الخاتم ‏{‏قالت‏}‏ لأشرف قومها وهي خائفة‏:‏ ‏{‏يا أيها الملأ إني أُلقي إليَّ كتابٌ كريمٌ‏}‏، وصفتْه بالكرم لكرم مضمونه؛ إذ هو حق، أو‏:‏ لأنه من ملك كريم، أو‏:‏ لكونه مختوماً‏.‏ قال- عليه الصلاة والسلام-‏:‏ «كَرَمُ الكتابِ خَتْمُهُ» أو‏:‏ لكونه مصدراً بالتسمية، أو‏:‏ لغرابة شأنه، ووصوله إليها على وجه خرق العادة‏.‏

ومضمونه والمكتوب فيه‏:‏ ‏{‏إنه من سليمانَ وإنه بسم الله الرحمن الرحيم‏}‏، وهذا تبيين لما أُلقي إليها كأنها لما قالت‏:‏ ‏{‏أُلقي إليّ كتاب كريم‏}‏ قيل لها‏:‏ ممن هو وما هو‏؟‏ فقالت‏:‏ ‏{‏إنه من سليمانَ وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلُوا عليَّ‏}‏ «إن»‏:‏ مفسرة، أي‏:‏ لا تترفعوا عليّ ولا تتكبروا، كما يفعل جبابرة الملوك، ‏{‏وأْتُوني مسلمين‏}‏‏:‏ مؤمنين، أو‏:‏ منقادين، وليس فيه الأمر بالإسلام‏.‏ وقيل‏:‏ إقامة الحجة على رسالته؛ لأن إلقاء الكتاب على تلك الصفة معجزة باهرة‏.‏

‏{‏قالت يا أيها الملاُ‏}‏، كررت حكاية قولها إيذاناً بغاية اعتنائها بما في حيزه‏:‏ ‏{‏أفتُوني في أمري‏}‏ أي‏:‏ أجيبوني في أمري، الذي حزبني وذكرتُه لكم، وعبّرت عن الجواب بالفتوى، الذي هو الجواب عن الحوادث المشكلة غالباً؛ تهويلاً للأمر، ورفعاً لمحلهم، بالإشعار بأنهم قادرون على حل المشكلات الملمة‏.‏

ثم قالت‏:‏ ‏{‏ما كنتُ قاطعةً أمراً‏}‏ من الأمور المتعلقة بالمملكة ‏{‏حتى تََشهدُونِ‏}‏ بكسر النون، ولا يصح الفتح؛ لأنه يُحذف للناصب‏.‏ وأصله‏:‏ تشهدونني، فحذفت الأولى للناصب وبقي نون الوقاية، أي‏:‏ تحضروني، وتشهدوا أنه على صواب، أي‏:‏ لا أقطع أمراً إلا بمحضركم‏.‏ وقيل‏:‏ كان أهل مشورتها ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، كل واحد على عشرة آلاف‏.‏

‏{‏قالوا‏}‏ في جوابها‏:‏ ‏{‏نحنُ أولو قوةٍ وأولو بأس شديد‏}‏ أي‏:‏ نجدة وشجاعة، فأرادوا بالقوة‏:‏ قوة الأجساد والآلات، وبالبأس‏:‏ النجدة والبلاء في الحرب‏.‏ ‏{‏والأمرُ إليك‏}‏ أي‏:‏ هو موكل إليك ‏{‏فانظري ماذا تأمرين‏}‏، فنحن مطيعون إليك، فمُرينا بأمرك، نمتثل أمرك، ولا نخالفك‏.‏ كأنهم أشاروا عليها بالقتال، أو أرادوا‏:‏ من أبناء الحرب، لا من أبناء الرأي والمشهورة، وأنت ذات الرأي والتدبير، فانظري ماذا تأمرين نتبع رأيك‏.‏

فلما أحسنت منهم الميلَ إلى المحاربة مالتْ إلى المصالحة، فزيفت رأيهم، حيث ‏{‏قالت إنَّ الملوك إِذا دخلوا قريةً‏}‏ على منهاج المقاتلة والحرب، أو عنوة وقهراً ‏{‏أفسدوها‏}‏ بتخريب عمارتها، وإتلاف ما فيها من الأموال، ‏{‏وجعلوا أَعِزَّةَ أهلها أذلةً‏}‏ بالقتل والاسر والإجلاء، وغير ذلك من فنون الإهانة؛ ليستقيم لهم مُلْكُهم وحدهم‏.‏ ثم قالت‏:‏ ‏{‏وكذلك يفعلون‏}‏ أي‏:‏ وهذه عادتهم المستمرة التي لاتتغير، لأنها كانت في بيت المملكة قديماً، أباً عن أب، فجربت الأمور، أو‏:‏ يكون من قول الله تعالى، تصديقاً لقولها، أي‏:‏ قال الله تعالى‏:‏ وكذلك شأن الملوك إذا غلبوا وقهروا أفسدوا‏.‏ وأنشدوا في هذا المعنى‏:‏

إِنَّ الْمُلُوكَ بَلاَءٌ حَيثُمَا حَلُّوا *** فَلاَ يَكُن بكَ فِي أَكْنَافِهِمْ ظلُّ

مَاذَا يُؤمَّل مِن قَوْمٍ إِذَا غَضِبُوا *** جَارُوا عَلَيْكَ وَإِن أَرْضَيْتهمُ مَلوا

وَإِن صدقتهم خالوك تخدعهم *** واستثقلُوكَ كَمَا يُسْتَثْقَلُ الكُلّ

فَاسْتَغْنِ بالله عن أبْوابِهِمْ أبداً *** إِنَّ الْوُقُوفَ عَلَى أَبْوَابِهِم ذُلُّ

ففي صحبة الملوك خطير كبير، وتعب عظيم، فمن قوي نوره، حتى يغلب على ظلمتهم، بحيث يتصرف فيهم، ولا يتصرفون فيه، فلا بأس بمعرفتهم، إن كان فيه نفع للناس بالشفاعة والنصيحة، وقد أقيم في هذا المقام الشيخ أبو حسن الشاذلي، وشيخ شيخنا مولاي العربي الدرقاوي- رضي الله عنهما- وكان تلميذاهما الشيخ أبو العباس المرسي، وشيخنا سيدي محمد البوزيدي الحسني- رضي الله عنهما- يفران من صحبتهم، أشد الفرار وهو أسلم‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ قال صاحب الخصوصية لنفسه‏:‏ سننظر أَصدقتِ في الخصوصية أم أنتِ من الكاذبين، اذهب بما معك من العلم، وذكّر به عباد الله، وألقه إليهم، ثم تولّ عنهم، وانظر ماذا يرجعون، فإن تأثروا بوعظك، وانتقش فيهم قولك، فأنتِ صادقة في ثبوت الخصوصية لديك؛ لأن أهل العلم بالله إذا تكلموا وقع كلامهم في قلوب العباد، فحييت به قلوبهم وأرواحهم‏.‏ ومن لا خصوصية له صدت كلامه الآذان‏.‏ قالت حين أرادت التذكير‏:‏ يا أيها الملاُ إني أُلقي إليّ في قلبي كتابٌ كريمٌ، وعلمٌ عظيم، فلا تعل عليّ وأتوني مسلمين، منقادين لما آمركم به، وقالت- لَمَّا تطهرت من الأكدار، وتحررت من الأغيار، وأحدقت بها جنود الأنوار‏:‏ يا أيها الملأ- تعني جنود الأنوار- أفتوني في أمري الذي أريد ان أفعله، ما كنت قاطعة أمراً من الأمور، التي تتجلى في القلب، حتى تشهدون، وتشهدوا أنه رشد وحق، قالو‏:‏ نحن أولو قوة وأولو بأس شديد، والأمر إليك، حيث تطهرت، فانظري ماذا تأمرين؛ لأن النفس إذا تزكت وتخلصت وجب تصديقها فيما تهتم به، قالت‏:‏ إن الملوك- أي‏:‏ الواردات الإلهية التي تأتي من حضرة القهار، إذا دخلوا قرية، أي‏:‏ قلب نفس، أفسدوا ظاهرها بالتخريب والتعذيب، وجعلوا أعزةَ أهلها أذلة، أي‏:‏ أبدلوا عزها ذُلاً، وجاهها خمولاً، وغناها من الدنيا فقراً، وكذلك يفعلون‏.‏

وفي الحِكَم العطائية‏:‏ «متى وردت الواردات الإلهية عليك هدمت العوائد لديك، إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها، وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون»‏.‏ فكل وارد نزل بالإنسان ولم يغير عليه عوائده فهو كاذب، قال في الحِكَمِ‏:‏ «لا تزكين وارداً لم تعلم ثمرته، فليس المراد من السحابة الأمطار، وإنما المراد منها وجود الأثمار»‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏35- 37‏]‏

‏{‏وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ ‏(‏35‏)‏ فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آَتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آَتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ‏(‏36‏)‏ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ في حكاية بلقيس- وكانت سيسة، قد سيست وساست، فقالت لقومها‏:‏ ‏{‏وإني مُرْسِلَةً إِليهم‏}‏؛ سليمان وقومه، ‏{‏بهديةٍ‏}‏ أُصانعه بذلك عن ملكي، وأختبره، أملك هو أم نبي‏؟‏ ‏{‏فناظرة‏}‏؛ فمنتظرة ‏{‏بمَ يرجعُ المرسلون‏}‏؛ بأي شيء يرجعون، بقبولها أم بردها؛ لأنها عرفت عادة الملوك، وحسن موقع الهدايا عندهم، فإن كان مَلِكاً قَبِلَها وانصرف‏.‏ وإن كان نبياً ردها ولم يَقبل منا إلا أن نتبعه على دينه، فبعثت خمسمائة غلام، عليهم ثياب الجواري وحُليهنِ، راكبين خيلاً، مغشاة بالديباج، محلاة اللجم والسروج بالذهب المرصع بالجوهر، وخمسمائة جارية على رِمَاك في زي الغلمان، وألف لبنة من ذهب وفضة، وتاجاً مكللاً بالدر والياقوت، وحُقاً فيه دُرة عذراء، وخرزة جزعية مثقوبة، معوجّة الثقب، وأرسلت رسلاً، وأمّرت عليهم المنذر بن عمرو وكتبت كتاباً فيه نسخة الهدية‏.‏ وقالت فيه‏:‏ إذ كنتَ نبياً فميّز بين الوصفاء والوصائف، وأخْبِر بما في الحُقّ، واثقب الدرّة ثقباً مستوياً، واسلك في الخرزة خيطاً‏.‏ ثم قالت للمنذر‏:‏ إن نظر إليك نظر غضب فهو ملك، فلا يهولنك منظره، وإن رأيته ليناً لطيفاً فهو نبيّ‏.‏

فأقبل الهدهد، فأخبر سليمان الخبر كله، فأمر سليمانُ الجن فضربوا لبِنَات الذهب والفضة، وفرشوها في الميدان بين يديه طوله سبعة فراسخ، وجعلوا حول الميدان حائطاً، شرفه من الذهب والفضة، وأمر بأحسن الدواب في البر والبحر، فربطوها عن يمين الميدان ويساره، على اللبنات‏.‏ وأمر بأولاد الجن- وهم خلقٌ كثير- فأُقيموا عن اليمين واليسار، ثم قعد على سريره، والكراسي من جانبيه، واصطفت الشياطين صفوفاً فراسخ، والإنس صفوفاً فراسخ، والوحش والسباع والطيور والهوام كذلك فلما دنا القوم، ونظروا، بُهتوا، ورأوا الدواب تروث على اللبن، فتقاصرت إليهم أنفسهم، ورموا بما معهم من الهدايا‏.‏

ولما وقفوا بين يديه، نظر إليهم سليمان بوجهٍ طَلْقٍ، فأعطوه كتاب الملكة، فنظر فيه، فقال‏:‏ أين الحُق‏؟‏ فأتى به، فحرّكه، وأخبره جبريل عليه السلام بما فيه‏.‏ فقال لهم‏:‏ إن كان فيه كذا وكذا‏.‏ ثم أمر بالأرضَة فأخذت شعرة، ونفذت في الدرّة، فجعل رزقها في الشجر‏.‏ وأخذت دودة بيضاء الخيط بفيها ونفذت في ثقب الجزعة فجعل رزقها في الفواكه‏.‏ ودعا بالماء، وأمرهم أن يغسلوا وجوههم وأيديهم، فكانت الجارية تأخذ الماء بيدها فتجعله في الأخرى، ثم تضرب به وجهها، والغلام كما يأخذ الماء يضرب به وجهه فيميزهم بذلك‏.‏ ثم ردّ الهدية‏.‏

ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما جاء سليمانَ‏}‏ أي‏:‏ جاء رسولها المنذرُ بن عمرو إليه ‏{‏قال أتمدُّونَنِ بمالٍ‏}‏، توبيخ وإنكار لإمدادهم إياه بالمال، مع علو شأنه وسعة سلطانه‏.‏ والتنكير للتحقير، والخطاب للرسول ومن معه، أو للرسول والمرسل تغليب للحاضر‏.‏ ‏{‏فما آتانيَ الله‏}‏ من النبوة والمُلك الذي لا غاية وراءه ‏{‏خير مما آتاكم‏}‏ أي‏:‏ من المال الذي من جملته ما جئتم به، فلا حاجة لي إلى هديتكم، ولا وقْعَ لها عندي، ولعله عليه السلام إنما قال لهم هذه المقالة‏.‏

‏.‏‏.‏ إلخ بعد ما جرى بينه وبينهم ما حكي من قصة الحُقّ وغيرها، لا أنه عليه السلام خاطبهم بها أول ما جاؤوه‏.‏

ثم قال لهم‏:‏ ‏{‏بل أنتم بهديتِكم تفرحون‏}‏‏.‏ الهدية‏:‏ اسم للمُهدَى، كما أن العطية اسم للمُعطَى، فتضاف إلى المُهْدِي والمهدَى له‏.‏ والمعنى‏:‏ أن ما عندي خير مما عندكم، وذلك أن الله تعالى آتاني الدين والمعرفة به، التي هي الغنى الأكبر، والحظ الأوفر، وأتاني من الدنيا ما لا يستزاد عليه، فكيف يرضى مثلي بأن يُمد بمال من قِبلكم‏؟‏ بل أنتم قوم لا تعلمون إلا ظاهراً من الحياة الدنيا، فلذلك تفرحون بما تزدادون ويُهدى إليكم؛ لأنَّ ذلك مبلغ همتكم، وحالي خلاف ذلكم، فلا أرضى منكم بشيء، ولا أفرح إلا بالإيمان منكم، وترك ما أنتم عليه من المجوسية‏.‏ والإضراب راجع إلى معنى ما تقدم، كأنه قيل‏:‏ أنا لا أفرح بما تمدونني به بل أنتم‏.‏

ثم قال للرسول‏:‏ ‏{‏ارجعْ إليهم‏}‏؛ إلى بلقيس وقومها، وقل لهم‏:‏ ‏{‏فلَنَأْتينَّهم بجنودٍ لا قِبَلَ‏}‏‏:‏ لا طاقة ‏{‏لهم بها‏}‏‏.‏ وحقيقة القِبَل‏:‏ المقابلة والمقاومة، أي‏:‏ لا يقدرون أن يقابلوهم، ‏{‏ولنُخْرجنّهم منها‏}‏ أي‏:‏ من سبأ ‏{‏أذلةً وهم صاغرون‏}‏‏:‏ أسارى مهانون‏.‏ فالذل‏:‏ أن يذهب عنهم ما كانوا فيه من العز والملك، والصغار‏:‏ أن يبقوا في أسر واستعباد‏.‏ فلما رجع إليها رسولها بالهدايا، وقصّ عليها القصة، قالت‏:‏ هو نبي، وما لنا به طاقة‏.‏ ثم تجهزت للقائه، على ما يأتي إن شاء الله‏.‏

الإشارة‏:‏ إذا توجه المريد إلى مولاه، توجهت إليه نفسه بأجنادها، وهي الدنيا، والجاه، والرئاسة، والحظوظ، والشهوات، فتُمده أولاً بمالٍ وجاه، تختبره، فإن علت همته، وقويت عزيمته، أعرض عن ذلك وأنكره، وقال‏:‏ أتمدونني بمال حقير، وجاهٍ صغير، فلما آتاني الله من معرفته والغنى به خير مما آتاكم‏.‏ ثم يقول للوارد بذلك‏:‏ ارجع إليهم- أي‏:‏ للنفس وجنودها- فلنأتينهم بجنود من الأنوار لا قِبَل لهم بها، ولنخرجنهم منها- أي‏:‏ قرية القلب- أذلة وهم صاغرون‏.‏ والله تعالى أعلم بأسرار كتابه‏.‏