فصل: تفسير الآيات رقم (18- 20)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 20‏]‏

‏{‏أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ ‏(‏18‏)‏ أَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏19‏)‏ وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏أفمن كان مؤمناً‏}‏ بالله ورسله ‏{‏كمن كان فاسقاً‏}‏؛ خارجاً عن الإيمان ‏{‏لا يستوون‏}‏ أبداً عند الله تعالى‏.‏ وأفرد أولاً؛ مراعاةً للفظ «من»، وجمع ثانياً مراعاة لمعناها‏.‏ ثم فصّل حالهم بقوله‏:‏ ‏{‏أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جناتُ المأوى‏}‏ أي‏:‏ المسكن الحقيقي، وأما الدنيا، فإنها منزل انتقال وارتحال، لا محالة، وقيل‏:‏ المأوى‏:‏ جنة من الجنان‏.‏ قال ابن عطية سميت جنة المأوى لأن أرواح المؤمنين تأوي إليها‏.‏ ه‏.‏ أي‏:‏ في الدنيا؛ لأنها في حواصل طير خضر، كما ورد في الشهداء، وأما الصدِّيقون فإنها تشكل على صور أجسادها، تسرح حيث شاءت‏.‏ ‏{‏نُزُلاً بما كانوا يعملون‏}‏ أي‏:‏ عطاء معجلاً بأعمالهم‏.‏ والنُزُل‏:‏ ما يقدم للنازل، ثم صار عاماً‏.‏

‏{‏وأما الذين فسقوا فمأواهم النارُ‏}‏ أي‏:‏ هي ملجأهم ومنزلُهم، ‏{‏كلما أرادوا أن يخرجوا منها أُعيدوا فيها‏}‏، فلا خروج منها، ولا موت، ‏{‏وقيل‏}‏ لهم‏:‏ ‏{‏ذُوقُوا عذابَ النار الذي كنتم به تُكذِّبون‏}‏، هذا دليل على أن المراد بالفاسق‏:‏ الكافر؛ إذ التكذيب يقابل الإيمان‏.‏ قال ابن جزي‏:‏ فإن قيل‏:‏ لِمَ وصف، هنا، العذاب، وأعاد عليه الضمير، ووصف، في سبأ، النار وأعاد عليها الضمير، فقال‏:‏ ‏{‏عَذَابَ النار التي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 42‏]‏ ‏؟‏ فالجواب من ثلاثة أوجه‏:‏ الأول‏:‏ أنه خص العذاب في السجدة بالوصف؛ اعتناء به؛ لَمَّا تكرر ذكره في قوله‏:‏ ‏{‏لنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر‏.‏‏.‏‏}‏، الثاني‏:‏ أنه تقدم في السجدة ذكر النار، فكان الأصل أن يذكرها بعد ذلك بلفظ المضمر، لكنه جعل الظاهر مكان المضمر، فكما لا يوصف المضمر؛ لم يوصف ما قام مقامه، وهو النار، فوصف العذاب، ولم يصف النار، الثالث- وهو الأقوى‏:‏ أنه امتنع في السجدة وصف النار، فوصف العذاب، وإنما امتنع وصفها؛ لتقدم ذكرها، فإنك إذا ذكرت شيئاً ثم كررت ذكره لم يجز وصفه، كقولك‏:‏ رأيت رجلاً فأكرمت الرجل‏.‏ فلا يجوز وصفه لما يوهم أنه غيره‏.‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ أفمن كان مصدقاً بطريق الخصوص، داخلاً فيها، شارباً من خمرتها، كمن كان فاسقاً خارجاً عنها، مشتغلاً بنفسه، غريقاً في هواه، لا يستوون أبداً‏.‏ أما الذين آمنوا بها، وصدقوا أهلها، ودخلوا في تربيتهم، فلهم جنات المعارف، هي مأواهم ومعشش قلوبهم، إليها يأوون، وفيها يسكنون، وأما الذين فسقوا وخرجوا عن تربيتهم، فمأواهم نار القطيعة، وعذاب الحرص، وغم الحجاب، كلما أرادوا أن يخرجوا منها أُعيدوا فيها؛ إذ لا خروج منها إلا بصحبة أهلها‏.‏ وقيل لهم‏:‏ ذوقوا وبال الإنكار، وحرمان الخصوصية، التي كنتم بها تكذبون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 22‏]‏

‏{‏وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏21‏)‏ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏ولنذيقنَّهم من العذاب الأدنى‏}‏ أي‏:‏ عذاب الدنيا؛ من القتل، والأسر في بدر، أو ما مُحنوا به من السَّنَةِ، سَبْعَ سنين‏.‏ ‏{‏دون العذاب الأكبر‏}‏ أي‏:‏ قبل عذاب الآخرة، الذي هو أكبر، وهو الخلود في النار‏.‏ وعن الداراني‏:‏ العذاب الأدنى‏:‏ الخذلان، والعذاب الأكبر‏:‏ الخلود في النيران‏.‏ وقيل‏:‏ الأدنى‏:‏ عذاب القبر، والأكبر‏:‏ النار‏.‏ ‏{‏لعلهم يرجعون‏}‏؛ يتوبون عن الكفر‏.‏

‏{‏ومن أظلم‏}‏ أي‏:‏ لا أحد أظلم ‏{‏ممن ذُكِّر‏}‏ أي‏:‏ وُعظ ‏{‏بآياتِ ربه‏}‏؛ القرآن، ‏{‏ثم أعرض عنها‏}‏ اي‏:‏ تولى عنها، ولم يتدبر في معناها‏.‏ و«ثم»؛ للاستبعاد؛ فإن الإعراض عن مثل هذه في ظهورها، وإنارتها، وإرشادها إلى سواء السبيل، والفوز بالسعادة العظمى، بعد التذكر بها، مُسْتَبْعَدٌ في العقل، كما تقول لصاحبك‏:‏ وجدت تلك الفرصة ثم لم تنتهِزْها-؛ استبعاداً لتركه الانتهاز‏.‏ ‏{‏إنا من المجرمين منتقمون‏}‏، ولم يقل‏:‏ «منه»، تسجيلاً عليه بإعراضه بالإجرام، ولأنه إذا جعله أظلم مِنْ كل ظالم، ثم توعد المجرمين، عامة، بالانتقام، دلّ على إصابة الأظلم أوفَرُ نصيب الانتقام، ولو قال بالضمير لم يفد هذه الفائدة‏.‏

الإشارة‏:‏ ولنذيقن أهل الغفلة والحجاب، من العذاب الأدنى، وهو الحرص والطمع والجزع والهلع، قبل العذاب الأكبر، وهو غم الحاجب وسوء الحساب‏.‏ قال القشيري‏:‏ قومٌ‏:‏ الأدنى لهم‏:‏ مِحَنُ الدُنيا، والأكبر‏:‏ عقوبة العُقبى‏.‏ وقومٌ‏:‏ الأدنى لهم‏:‏ فترةٌ تُداخلهم في عبادتهم والأكبر‏:‏ قسوةٌ تُصيبهم في قلوبهم‏.‏ وقومٌ‏:‏ الأدنى لهم‏:‏ وقفة مع سلوكهم تمسهم‏.‏ والأكبرُ‏:‏ حَجْبَةٌ عن مشاهدتهم بسرهم- قلت‏:‏ الأول في حق العوام، والثاني‏:‏ في حق الخواص، وهم العباد والزهاد‏.‏ والثالث‏:‏ في حق أهل التربية من الواصلين- ثم قال‏:‏ ويقال‏:‏ الأدنى‏:‏ الخذلان في الزلة، والأكبر‏:‏ الهجران في الوصلة‏.‏ ويقال‏:‏ الأدنى‏:‏ تكدّرُ مَشَارِبِهم، بعد صفوها، والأكبر‏:‏ تَطَاوُلُ أيامِ الحَجْب، من غير تبيين آخرها‏.‏ وأنشدوا‏:‏

تَطَاوَلَ بُعْدُنَا، يا قومُ، حتى *** لقد نَسَجَتْ عليه العنكبوتُ

ه‏.‏ ببعض المعنى‏.‏

أذقناهم ذلك؛ لعلهم يرجعون إلى الله، في الدنيا؛ بالتوبة واليقظة‏.‏ فإن جاء من يُذكِّرهم بالله؛ من الداعين إلى الله، ثم أعرضوا عنه، فلا أحد أظلم منهم، ولا أعظم جُرماً‏.‏ إنا من المجرمين منتقمون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 25‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ‏(‏23‏)‏ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ ‏(‏24‏)‏ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏ولقد آتينا موسى الكتابَ‏}‏؛ التوراة ‏{‏فلا تكن في مِرْيةٍ‏}‏؛ شك ‏{‏من لقائه‏}‏؛ من لقاء موسى الكتاب، أو‏:‏ من لقائك موسى ليلة المعراج، أو‏:‏ يوم القيامة، أو‏:‏ من لقاء موسى ربَّه في الآخرة، كذا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ‏{‏وجعلناه هدى لبني إسرائيل‏}‏؛ وجعلنا الكتاب المنزَّل على موسى عليه السلام هُدىً لقومه ‏{‏وجعلنا منهم أئمةً يَهْدُون‏}‏ الناس، ويدعون إلى الله وإلى ما في التوراة من دين الله وشرائعه، ‏{‏بأمرنا‏}‏ إياهم بذلك، أو بتوفيقنا وهدايتنا لمن أردنا هدايته على أيديهم، ‏{‏لمّا صبروا‏}‏ على مشاق تعليم العلم والعمل به‏.‏ أو‏:‏ على طاعة الله وترك معصيته‏.‏ وقرأ الأَخَوَان‏:‏ بكسر اللام، أي‏:‏ لصبرهم عن الدنيا والزهد فيها‏.‏ وفيه دليل على أن الصبر؛ ثمرته إمامة الناس والتقدم في الخير‏.‏ ‏{‏وكانوا بآياتنا‏}‏؛ التوراة ‏{‏يُوقنون‏}‏؛ يعلمون علماً لا يخالجه شك ولا وَهْم؛ لإمْعانِهم النظر فيها، أو هِبَةٌ من الله تعالى‏:‏ ‏{‏إن ربك هو يَفْصِلُ‏}‏؛ يقضي ‏{‏بينهم يومَ القيامة‏}‏ أي‏:‏ بين الأنبياء وأممهم، أو‏:‏ بين المؤمنين والمشركين، ‏{‏فيما كانوا فيه يختلفون‏}‏ من الدين، فيظنه المُحِقُّ من المبطل‏.‏

الإشارة‏:‏ أئمة الهدى على قسمين‏:‏ أئمة يهدون إلى شرائع الدين، وأئمة يهدون إلى التعرف بذات رب العالمين، أئمة يهدون إلى معرفة البرهان وأئمة يهدون إلى معرفة العيان‏.‏ الأولون‏:‏ من عامة أهل اليمين، والآخرون‏:‏ من خاصة المقربين‏.‏ الأولون صبروا على حبس النفس على ذل التعلم، والآخرون صبروا على حبس النفس على الحضور مع الحق على الدوام‏.‏ صبروا على مجاهدة النفوس، حتى وردوا حضرة القُدُّوس‏.‏ قال القشيري، في شأن القسم الثاني‏:‏ لمّا صبروا على طلبنا؛ سَعِدوا بوجودنا، وتعدّى ما نالوا من أفضالنا إلى متَّبِعِيهم وانبسط شعاعُ شموسهم على جميع أهلِيهم، فهم للخلق هُداةً، وفي الدين عيون، وللمسترشدين نجوم‏.‏ ه‏.‏

وفي الإحياء‏:‏ للإيمان ركنان‏:‏ أحدهما اليقين، والآخر‏:‏ الصبر‏:‏ والمراد باليقين‏:‏ المعارف القطعية، الحاصلة بهداية اللهِ عَبْدَهُ إلى أصول الدين، والمراد بالصبر، العمل بمقتضى اليقين؛ إذ النفس تعرف أن المعصية ضارة والطاعة نافعة‏.‏ ولا يمكن ترك المعصية والمواظبة على الطاعة إلا بالصبر‏.‏ فيكون الصبر نصف الإيمان لهذا الاعتبار‏.‏ ه‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن ربك هو يفصل بينهم‏.‏‏.‏‏}‏ قال القشيري‏:‏ يحكم بينهم، فيُبين المقبول من المردود، والمهجور من الموصول، والرّضي من الغَويّ، والعدو من الوليّ‏.‏ فكم من بَهجةٍ دامت هناك‏!‏ وكم من مهجةٍ ذابت كذلك‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ فاعل «يهد»‏:‏ هو الله، بدليل قراءة زيد عن يعقوب «نهد» بالنون، ولا يجوز أن يكون الفاعل، «كم»؛ لأن الاستفهام له صدر الكلام، فلا يَعْمَلُ فيه بما قَبْله‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏أَوَ لَمْ يَهْدِ لهم‏}‏ أي‏:‏ يُبين لهم الله تعالى ما يعتبرون به، فينظروا ‏{‏كم أهلكنا مِن قبلهِم من القرون‏}‏؛ كعاد وثمود، وقوم لوط، ‏{‏يمشون‏}‏ يعني‏:‏ قريشاً، ‏{‏في مساكنهم‏}‏ حين يمرون على ديارهم، ومنازُلُهمْ، خاوية، في متاجرهم إلى الشام، ‏{‏إن في ذلك لآياتٍ‏}‏ دالة على قدرتنا، وقهريتنا ‏{‏أفلا يسمعون‏}‏ المواعظ، فيتعظون بها‏؟‏‏.‏

الإشارة‏:‏ قال القشيري‏:‏ لم يعتبروا بمنازل أقوام كانوا في حَبْرَةٍ، فصاروا في عَبرةً كانوا في سرورِ، فآلوا إلى ثبور، فجميع ديارهم وتراثِهم صارت لأغيارهم، وصُنوفُ أموالهم عادت إلى أشكالهم، سكنوا في ظِلالهم، ولم يعتبروا بمن مضى من أمثالهم، وفي مثلهم قيل‏:‏

نِعَمٌ، كانت على قو *** مٍ زمانا، ثم فاتت،

هكذا النعمةُ والإح *** سانُ قد كانت وكانت‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 30‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ ‏(‏27‏)‏ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏28‏)‏ قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ‏(‏29‏)‏ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏أوَلَمْ يَرَوا أَنَّا نسوقُ الماءَ‏}‏‏:‏ المطر ‏{‏إلى أرض الجُرُز‏}‏ أي‏:‏ التي جُرِزَ نباتها، أي‏:‏ قُطِعَ، ولم يَبْقَ منه شيء؛ إما لعدم الماء، أو لأنه رُعِيَ‏.‏ يقال‏:‏ جرزت الجراد الزرع؛ إذ استأصلته، وفي القاموس‏:‏ وأرض جرز‏:‏ لا تنبت، أو أكل نباتها، أو لم يصبها مطر‏.‏ ثم قال‏:‏ وأرض جارزة‏:‏ يابسة غليظة، وفيه أربع لغات‏:‏ جُرْز وجُرُز وجَرَز وجُرَز‏.‏ ولا يقال للتي لا تنبت؛ كالسباخ‏:‏ جرز، بدليل قوله‏:‏ ‏{‏فنُخرج به‏}‏ أي‏:‏ بالماء، ‏{‏زرعاً تأكل منه‏}‏ أي‏:‏ الزرع، ‏{‏أنعامُهم‏}‏؛ كالتبن والورق، ‏{‏وأنفسُهم‏}‏؛ كالحب والتمر، المراد بالزرع‏:‏ كل ما يُزرع ويُستنبت، ‏(‏أفلا يُبصرون‏)‏، فيستدولون به على قدرته على إحياء الموتى‏؟‏‏.‏

‏{‏ويقولون متى هذا الفتحُ‏}‏ أي‏:‏ النصر، أو الفصل بالحكومة؛ من قوله ‏{‏رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 89‏]‏‏.‏ وكان المسلمون يقولون‏:‏ إن الله سيفتح لنا على المشركين، أو يفتح بيننا وبينهم، فإذا سمع المشركون، قالوا‏:‏ متى هذا الفتح‏؟‏ أي‏:‏ في أي وقت يكون ‏{‏إن كنتم صادقين‏}‏ في أنه كائن‏؟‏‏.‏

‏{‏قل يومَ الفتح‏}‏ أي‏:‏ يوم القيامة هو يوم الفصل بين المؤمنين وأعدائهم‏.‏ أو‏:‏ يوم نصرهم عليهم‏.‏ أو‏:‏ يوم بدر، أو يوم فتح مكة، ‏{‏لا ينفعُ الذين كفروا إيمانُهم‏}‏؛ لفوات محله، الذي هو الإيمان بالغيب، ‏{‏ولا هم يُنْظَرون‏}‏؛ يُمْهِلون، وهذا الكلام لم ينطبق؛ جواباً عن سؤالهم؛ ظاهراً، ولكن لمّا كان غرضهم في السؤال عن وقت الفتح استعجالاً منهم، على وجه التكذيب والاستهزاء، أُجيبوا على حسب ما عُرف من غرضهم من سؤالهم، فقيل لهم‏:‏ لا تستعجلوا به ولا تستهزئوا، فكأني بكم وقد حصلتم في ذلك اليوم وآمنتم، فلم ينفعكم الإيمان، واستنظرتم عند درك العذاب فلم تُمهلوا‏.‏ ومن فسره بيوم بدر أو بيوم الفتح، فهو يريد المقتولين منهم؛ فإنهم لا ينفعهم إيمانهم في حال الفعل، كما لم ينفع فرعون إيمانه عند دَرَك الغرق‏.‏ ‏{‏فأَعْرِضْ عنهم وانتظرْ‏}‏ النصر وهلاكهم، ‏{‏إنهم مُنتظِرون‏}‏ الغلبة عليكم وهلاككم‏.‏

قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «من قرأ ‏{‏الم تَنزِيلُ‏}‏ في بيته، لم يدخل الشيطان به ثلاثة أيام»‏.‏

الإشارة‏:‏ أولم يروا أنا نسوق الماء الذي تحيا به القلوب على يد المشايخ، إلى القلوب الميتة بالجهل والغفلة، فنخرج به ثمار الهداية إلى الجوارح، تأكل منه، من لذة حلاوته، جوارحُهم وقلوبُهم أفلا يبصرون‏؟‏‏.‏ ويقول أهل الإنكار لوجود هذا الماء‏:‏ متى هذا الفتح، إن كنتم صادقين في أنه موجود‏؟‏ قل‏:‏ يوم الفتح الكبير- وهو يَوْمَ يَرْفَعُ اللهُ أولياءه في أعلى عليين- لا ينفع الذين كفروا بالخصوصية، في دار الدنيا، إيمانُهم في الالتحاق بهم، ولا هم يُمهلون حتى يعلموا مثل عملهم، فأعرض عنهم اليوم، واشتغل بالله، وانتظر هذا اليوم، إنهم منتظرون لذلك‏.‏

قال القشيري‏:‏ «أو لم يروا‏.‏‏.‏» الآية‏.‏ الإشارة فيه‏:‏ نَسْقي حَدَائِقَ وصلهم، بعد جفاف عُودِها، فيعود عُودُها مورِقاً بعد ذبوله، حاكياً حالُه حالَ حصوله، ‏(‏ويقولون متى هذا الفتح‏.‏‏.‏‏)‏ استبعدوا يومَ التلاق، وجحدوه، فأخبرهم أنه ليس لهم إلا الحسرة والمحنة إذا شهدوه‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأعرض عنهم‏.‏‏.‏‏}‏ أي‏:‏ باشتغالك بنا، وإقبالك علينا، وانقطاعك إلينا، وانتظر زوائد وَصْلِنا وعوائدَ لطفنا، إنهم منتظرون هواجِمَ مقتنا وخفايا مكرنا‏.‏ وعن قريب وَجَدَ كُلٌّ مُنْتَظَرَهُ مُخْتَضَراً ه‏.‏ وبالله التوفيق، وصلى الله على سيدنا محمد، عين الوصول إلى التحقيق، وعلى آله المبينين سواء الطريق، وسلم‏.‏

سورة الأحزاب

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏1‏)‏ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ‏(‏2‏)‏ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ‏(‏3‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يا أيها النبي‏}‏ أي‏:‏ المُشرِّف؛ حالاً، المفخم؛ قدراً، العلي؛ رتبة؛ لأن النبوة مشتقة من النَّبْوَةَ، وهو الارتفاع‏.‏ أو‏:‏ يا أيها المخبرُ عنا، المأمون على وحينا، المبلغ خطابنا إلى أحبابنا‏.‏ وإنما لم يقل‏:‏ يا محمد، كما قال‏:‏ «يا آدم، يا موسى»؛ تشريفاً وتنويهاً بفضله، وتصريحُه باسمه في قوله‏:‏ ‏{‏مُّحَمَدٌ رَّسُولُ اللهِ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 29‏]‏، ونحوه، ليعلم الناس بأنه رسول الله‏.‏ ‏{‏اتقِ الله‏}‏ أي‏:‏ اثبت على تقوى الله، ‏{‏ولا تُطع الكافرين والمنافقين‏}‏؛ لا تساعدهم على شيء، واحترس منهم؛ فإنهم أعداء لله وللمؤمنين‏.‏

رُوي أن أبا سُفيان بن حرب، وعكرمة بن أبي جهل، وأبا الأعور السُّلمي، نزلوا المدينة على ابن أُبيّ، رأس المنافقين، بعد أُحد، وقد أعطاهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم الأمان على أن يكلموه، فقام معهم عبد الله بن أبي سَرْح، وطُعْمَة بن أُبيْرق، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم، وعنده عمر بن الخطاب‏:‏ ارفض ذكر آلهتنا؛ اللات، والعزى، ومناة، وقل‏:‏ إن لها شفاعة ومنفعة لِمن عَبَدَها، وندعك وَرَبَّك‏.‏ فشقّ على النبي صلى الله عليه وسلم قولهم، فقال عمر‏:‏ ائذن لنا، يا رسول الله، في قتلهم، فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إني قد أعطيتهم الأمان» فقال عمر‏:‏ اخرُجوا في لعنة الله وغضبه، فخرجوا من المدينة، فنزلت‏.‏

أي‏:‏ اتق الله في نقض العهد، ولا تُطع الكافرين من أهل مكة، كأَبي سفيان وأصحابه، والمنافقين من أهل المدينة، فيما طلبوا، ‏{‏إن الله كان عليماً‏}‏ بخبث أعمالهم، ‏{‏حكيماً‏}‏ بتأخير الأمر بقتالهم‏.‏

‏{‏واتبع ما يوحى إليك من ربك‏}‏ في الثبات على التقوى، وترك طاعة الكافرين والمنافقين‏.‏ أو‏:‏ كل ما يوحى إليك من ربك، ‏{‏إن الله كان بما تعملون خبيراً‏}‏ أي‏:‏ لم يزل عالماً بأعمالهم وأعمالكم‏.‏ وقيل‏:‏ إنما جمع؛ لأن المراد بقوله‏:‏ «اتبع»‏:‏ هو وأصحابه، وقرأ بالغيب، أبو عمرو، أي‏:‏ بما يعمل الكافرون والمنافقون، من كيدهم لكم ومكرهم‏.‏ ‏{‏وتوكل على الله‏}‏؛ أَسْنِدْ أمرك إليه، وكِلْهُ إلى تدبيره‏.‏ ‏{‏وكفى بالله وكيلاً‏}‏؛ حافظاً موكولاً إليه كل أمر‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ لفظه، وإن كان لفظ الخبر، فالمعنى‏:‏ اكتفِ بالله وكيلاً‏.‏

الإشارة‏:‏ أُمر بتقوى الله، وبالغيبة عما يشغل عن الله، وبالتوكل على الله، فالتقوى أساس الطريق، والغيبة عن الشاغل‏:‏ سبب الوصول إلى عين التحقيق، والتوكل زاد رفيق‏.‏ قال القشيري بعد كلام‏:‏ يا أيها المُرقَّى إلى أعلى المراتب، المُتَلقَّى بأسنى القُرَب والمناقب؛ اتقِ الله أن تلاحظ غَيْراً معنا، أو تُساكِن شيئاً دوننا، أو تُثبت شيئاً سوانا، ‏{‏ولا تطع الكافرين‏}‏؛ إشفاقاً منك عليهم، وطمعاً في إيمانهم، بموافقتهم في شيء مما أرادوه منك‏.‏ والتقوى رقيب على الأولياء، تمنعهم، في أنفاسهم وسكناتهم وحركاتهم، أن ينظروا إلى غيره، أو يُثْبِتُوا معه سواه، إلا منصوباً بقدرته، مصرَّفاً بمشيئته، نافذاً فيه حُكْمُ قضيته‏.‏

التقوى لجامٌ يمنعك عمَّا لا يجوز، زمامٌ يقودك إلى ما تُحب، سوطٌ يسوقك إلى ما أمر به، حِرْزٌ يعصمك من تَوَصُّل عقابه إليك، عوذَةٌ تشفيك من داء الخطايا‏.‏ التقوى وسيلةٌ إلى ساحة كرمه، ذريعةٌ يُتَوصَّلُ بها إلى عفوه وجوده‏.‏ ‏{‏واتبع ما يوحى إليك‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏؛ لا تبتدع، واقتِد بما نأمرك، ولا تقتدِ، باختيارك، غَيْرَ ما نختار لك، ولا تُعَرِّج- أي‏:‏ تقم- في أوطان الكسل، ولا تجنجْ إلى ناحية التواني، وكن لنا لا لك، وقم بنا لا بِكَ‏.‏ «وتوكل» انسلخْ عن إهابك لنا، واصدق في إيابك إلينا، وتشاغلك عن حُسْبَانِكَ معنا، واحذرْ ذهابَكَ عنا، ولا تُقَصِّرْ في خطابك معنا‏.‏ ويقال‏:‏ التوكل‏:‏ تَخلُّقُ، ثم تَخلُّقٌ، ثم تَوَثُقٌ، ثم تَمَلُّقٌ، تحققٌ في العقيدة، وتخلقٌ بإقامة الشريعة، وتَوثُّقٌ بالمقسوم من القضية، وتملقٌ بين يديه بحُسْن العبودية‏.‏ ويقال‏:‏ التوكل‏:‏ استواءُ القلب في العدم والوجود‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 5‏]‏

‏{‏مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ‏(‏4‏)‏ ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آَبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏5‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ما جعل اللهُ لرجلِ من قلبين في جوفه‏}‏؛ فيؤمن بأحدهما ويكفر بالآخر، أو‏:‏ يتقي بأحدهما ويعصي بالآخر، أو‏:‏ يُقبل على الله بأحدهما ويُقبل على الدنيا بالآخر، بل ما للعبد إلا قلب واحد، إن أقبل به على الله؛ أدبر عمن سواه، وإن أقبل به على الدنيا، أدبر عن الله‏.‏ قيل‏:‏ الآية مثل المنافقين، أي‏:‏ إنه لا يجتمع الكفر والإيمان، وقيل‏:‏ لا تستقر التقوى ونقض العهد في قلب واحد‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ يظهر من الآية، بجملتها، أنها نفي لأشياء كانت العرب تعتقدها في ذلك القوت، وإعلام بحقيقة الأمر فيها، فمنها‏:‏ أن العرب كانت تقول‏:‏ الإنسان له قلب يأمره وقلب ينهاه، وكان تَضَادُّ الخواطر يحملها على ذلك‏.‏‏.‏ الخ كلامه‏.‏

قال النسفي‏:‏ والمعنى‏:‏ أنه تعالى لم يجعل للإنسان قلبين؛ لأنه لا يخلو‏:‏ إما أن يفعل بأحدهما مثل ما يفعل بالآخر من أفعال القلوب، فأحدهما فَضْلَةٌ، غير مُحْتاَج إليه، وإما أن يفعل بهذا غير ما يفعل بذلك، فيؤدي إلى اتصاف الجملة بكونه مريداً كارهاً، عالماً ظانّاً، موقناً شاكّاً في حالة واحدة‏.‏ ه‏.‏

وكانت العرب تعتقد أيضاً أن المرأة المظاهَرَ منها‏:‏ أُمًّا، فردّ ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏وما جعل أزواجَكم اللائي تُظاهرون منهن أمهاتِكم‏}‏ أي‏:‏ ما جمع الزوجية والأمومة في امرأة واحدة؛ لتضاد أحكامهما؛ لأن الأم مخدومة، والمرأة خادمة‏.‏

وكانت تعتقد أن الدّعي ابن، فردّ عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏وما جعل أدعياكم أبناءكم‏}‏ أي‏:‏ لم يجعل المُتَبَنَّى من أولاد الناس ابناً لمَن تبناه؛ لأن البنوة أصالة في النسب، والدعوة إلصاق عارض بالتسمية، لا غير، ولا يجتمع في شيء واحد أن يكون أصيلاً وغير أصيل‏.‏

ونزل هذا في «زيد بن حارثة»، وهو رجل من كلب، سُبي صغيراً، فاشتراه حكيم بن حزام، لعمته خديجة، فلما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهبته له، فطلبه أبوه وعمه، وجاءا بفدائه، فخُيَّر، فاختار رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فاعتقه وتبنّاه‏.‏ وكانوا يقولون‏:‏ زيد بن محمد، فلما تزوج النبيُّ صلى الله عليه وسلم زينب؛ وكانت تحت زيد- على ما يأتي- قال المنافقون‏:‏ تزوج محمد امرأة ابنه وهو ينهى عنه، فأنزل الله هذه الآية‏.‏

وقيل‏:‏ كان المنافقون يقولون‏:‏ لمحمد قلبان، قلب معكم، وقلب مع أصحابه‏.‏ وقيل‏:‏ كان «أبو مَعْمَر» أحفظ العرب، فقيل‏:‏ ذو القلبين، فأكذب اللهُ قولَهم‏.‏ والتنكير في رجل، وإدخال «مِن» الاستغراقية على «قلبين»، وذكر الجوف للتأكيد‏.‏ و«اللائي»‏:‏ جمع «التي»‏.‏ وفيها قراءات‏:‏ «اللاء»؛ بالهمزة مع المد والقصر، وبالتسهيل، وبالياء، بدلاً من الهمز‏.‏

وأصل ‏{‏تظاهرون‏}‏‏:‏ تتظاهرون، فأدغم‏.‏ وقرأ عاصم بالتخفيف؛ منْ‏:‏ ظَاَهَر‏.‏ ومعنى الظهار‏:‏ أن تقول للزوجة‏:‏ أنت عليّ كظهر أمي‏.‏ مأخوذ من الظهر، وتعديته بمن؛ لتضمنه معنى التجنُّب؛ لأنه كان طلاقاً في الجاهلية‏.‏ وهو في الإسلام يقتضي الحرمة حتى يُكفَّر، كما يأتي في المجادلة‏.‏ والأدعياء‏:‏ جمع دعي، فقيل‏:‏ بمعنى مفعول، وهو الذي يُدعى ولداً، وجمعه على أَفْعِلاَء‏:‏ شاذ؛ لأن بابه ما كان منه بمعنى فاعل؛ كتقي وأتقياء، وشقي وأشقياء‏.‏ ولا يكون في ذلك نحو رَمِيَّ وسَمي، على الشذوذ‏.‏ وكأنه شبهه بفعيل بمعنى فاعل، فَجُمِعَ جَمْعَهُ‏.‏

‏{‏ذلكم قولُكُم بأفواهكم‏}‏؛ إذ إن قولكم للزوجة‏:‏ أُمًّا، والدعيّ‏:‏ هو ابن، قول تقولونه بألسنتكم لا حقيقة له، إذ الابن يكون بالولادة، وكذا الأم‏.‏ ‏{‏واللهُ يقولُ الحقِّ‏}‏؛ ما له حقيقة عينية، مطابقة له ظاهراً وباطناً ‏{‏وهو يهدي السبيلَ‏}‏؛ سبيل الحق‏.‏

ثم بيّن ذلك الحَقَّ، وهدى إلى سبيله، فقال‏:‏ ‏{‏أدعوهم لآبائهم‏}‏؛ انسبوهم إليهم‏.‏ ‏{‏هو‏}‏، أي‏:‏ الدعاء ‏{‏أقْسَطُ‏}‏؛ أعدل ‏{‏عند الله‏}‏‏.‏ بيّن أن دعاءهم لآبائهم هو أدخل الأمرين في العدل‏.‏ وقيل‏:‏ كان الرجل في الجاهلية إذا أعجبه ولد الرجل؛ ضمّه إليه، وجعل له مثل نصيب الذكر من أولاده، من ميراثه‏.‏ وكان ينسب إليه، فيقال‏:‏ فلان بن فلان‏.‏ ‏{‏فإن لم تعلموا آباءهم‏}‏ أي‏:‏ فإن لم تعلموا لهم آباء تنسبونهم إليهم، ‏{‏فإِخوانُكُم في الدين ومواليكم‏}‏ أي‏:‏ فهم إخوانكم في الدين، وأولياؤكم فيه‏.‏ فقولوا‏:‏ هذا أخي، وهذا مولاي، ويا أخي، ويا مولاي، يريد الأخوة في الدين والولاية فيه، ‏{‏وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به‏}‏ أي‏:‏ لا إثم عليكم فيما فعلتموه من ذلك، مخطئين جاهلين، قبل ورود النهي، أو بعده، نسياناً‏.‏ ‏{‏ولكن ما تعمَّدَتْ قلوبُكم‏}‏ أي‏:‏ ولكن الإثم فيما تعمِّدتموه بعد النهي‏.‏ أو‏:‏ لا إثم عليكم إذا قلتم لولد غيركم‏:‏ يا بنيّ، على سبيل الخطأ، أو‏:‏ الشفقة، ولكن إذا قلتموه متعمدين على وجه الانتساب‏.‏ ‏{‏وكان الله غفوراً رحيماً‏}‏؛ لا يؤاخذكم بالخطأ، ويقبل التوبة من المعتمِّد‏.‏

الإشارة‏:‏ العبد إنما له قلب واحد، إذا أقبل به على مولاه؛ أدبر عن ما سواه، وملأه اللهُ تعالى بأنواع المعارف والأسرار، وأشرقت عليه الأنوار، ودخل حضرة الحليم الغفار، وإذا أقبل به على الدنيا؛ أدبر عن الله، وحُشي بالأغيار والأكدار، وأظلمت عليه الأسرار، وطبع فبه صور الكائنات، فّحُجِبَ عن المُكَوِّنِ‏.‏ وكان مأوى للخواطر والوساوس، فلم يَسْوَ عند الله جناح بعوضة‏.‏ قال القشيري‏:‏ القلب إذا اشتغل بشيء؛ اشتغل عما سواه، فالمشتغلُ بما مِنَ العَدَمِ؛ منفصلٌ عَمن له القِدَمُ، والمتصل بقلبه بِمَنْ نَعْتُهُ القِدَم؛ مشتغلٌ عمِّا من العدم، والليل والنهار لا يجتمعان، والغيبُ والغيرُ لا يلتقيان‏.‏ ه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما جعل أزواجكم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، يمكن أن تكون الإشارة فيها إلى أنَّ مَنْ ظاهَرَ الدنيا، وتباعد عنها؛ لا يحل له أن يرجع، ويتخذّها أُمًّا؛ في المحبة والخدمة‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما جعل أدعياءكم أبناءكم‏.‏‏.‏‏}‏‏:‏ تشير إلى أنه لا يحل أن يَدَّعِيَ الفقيرُ حالاً، أو مقاماً، ما لم يتحقق به، وليس هو له، أوْ‏:‏ يَنْسِبَ حِكْمَةً أوْ عِلْماً رفيعاً لنفسه، وهو لغيره، ‏{‏ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله‏}‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين‏.‏‏.‏‏}‏‏:‏ إخوان الدين أّوْلَى، وإخوان الطريق أحب وأصفى‏.‏ قال القشيري‏:‏ وقرابةُ الدين، في الشكلية، أولى من قرابة النَّسَب، وأنشدوا‏.‏

وَقَالُوا‏:‏ قَرِيبٌ مِنْ أبٍ وَعُمُومَةٍ *** فَقُلْتُ‏:‏ وَإخْوَانُ الصَّفَاءِ الأقارِبُ

مَنَاسِبُهُمْ شَكْلاً وَعِلْماً وأُلفة *** وَإنْ بَاعَدَتْنَا فِي الأُصُولِ التَّنَاسُبُ

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ‏(‏6‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏النبيُّ أولى بالمؤمنين‏}‏ أي‏:‏ أحق بهم في كل شيء من أمور الدين والدنيا، وحكمه أنفذ عليهم ‏{‏من أنفسهم‏}‏، فإنه لا يأمرهم، ولا يرضى منهم إلا بما فيه صلاحهم ونجاحهم، فيجب عليهم أن يبذلوها دونه‏.‏ ويجعلوها فداء منه‏.‏ وقال ابن عباس وعطاء‏:‏ يعني‏:‏ «إذا دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى شيء، ودعتهم أنفسهم إلى شيء، كانت طاعةُ النبي صلى الله عليه وسلم أولى‏)‏‏.‏ أو‏:‏ هو أولى بهم، أي‏:‏ أرأف، وأعطف عليهم، وأنفع لهم، كقوله‏:‏ ‏{‏بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 128‏]‏ وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام‏:‏» ما من مؤمن إلا وأنَا أوْلَى الناس به في الدنيا والاخرة، اقرؤوا إن شئتم‏:‏ ‏{‏النبيُّ أوْلَى بالمؤمنين من أنْفُسِهِمْ‏}‏ فأيُّمَا مُؤْمِن هَلَكَ، وتركَ مالاً؛ فلورَثَته ما كانوا، ومَن تَرَكَ دَيْناً أو ضَيَاعاً فليَأتني، فإني أنا مَوْلاه «‏.‏

وفي قراءة ابن مسعود» النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم «‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ كل نبي أبو أمته، ولذلك صار المؤمنون إخوة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أبوهم في الدين، وأزواجه أمهاتهم، في تحريم نكاحهن ووجوب تعظيمهن، وهن فيما وراء ذلك- كالإرث وغيره- كالأجنبيات، ولهذا لم يتعدَّ التحريم إلى بناتهن‏.‏

‏{‏وأولوا الأرحام‏}‏ أي‏:‏ ذوو القرابات ‏{‏بعضهم أوْلى ببعض‏}‏ في المواريث‏.‏ وكان المسلمون في صدر الإسلام يتوارثون بالولاية في الدين وبالهجرةِ، لا بالقرابة، ثم نسخ، وجعل التوارث بالقرابة‏.‏ ذلك ‏{‏في كتاب الله‏}‏ أي‏:‏ في حُكْم الله وقضائه، أو‏:‏ في اللوح المحفوظ، أو‏:‏ فيما فرض الله، فهم أولى بالميراث، ‏{‏من المؤمنين‏}‏ بحق الولاية في الدين، ‏{‏و‏}‏ من ‏{‏المهاجرين‏}‏ بحق الهجرة‏.‏ وهذا هو الناسخ‏.‏ قال قتادة‏:‏ كان المسلمون يتوارثون بالهجرة، ولا يرث الأعرابي المسلم من المهاجر شيئاً‏.‏ فنزلت‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ آخى النبيُّ صلى الله عليه وسلم بين الناس، فكان يؤاخي بين الرجلين، فإذا مات أحدهما ورثه الآخر، دون عصبته، حتى نزلت‏:‏ ‏{‏وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله‏}‏؛ في حكمه، ‏{‏من المؤمنين والمهاجرين‏}‏، ويجوز أن يكون ‏{‏من المؤمنين‏}‏‏:‏ بياناً لأولي الأرحام، أي‏:‏ وأولو الأرحام، من هؤلاء بعضهم أولى بأن يرث بعضاً من الأجانب، ‏{‏إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً‏}‏ أي‏:‏ لكن فعلكم إلى أوليائكم معروفاً، وهو أن تُوصوا لمَن أحببتم من هؤلاء بشيء، فيكون له ذلك بالوصية، لا بالميراث؛ فالاستثناء منقطع‏.‏ وعَدّى» تفعلوا «بإلى، لأنه في معنى تُسْنِدُوا، والمراد بالأولياء‏:‏ المؤمنون، والمهاجرون‏:‏ المتقدمون الذين نسخ ميراثهم‏.‏ ‏{‏كان ذلك‏}‏ أي‏:‏ التوارث بالأرحام ‏{‏في الكتاب مسطوراً‏}‏ أي‏:‏ اللوح المحفوظ، أو‏:‏ القرآن‏.‏ وقيل‏:‏ في التوراة‏.‏

الإشارة‏:‏ متابعته عليه الصلاة والسلام، والاقتباس من أنواره، والاهتداء بهديه، وإيثار محبته، وأمره على غيره؛ لا ينقطع عن المريد أبداً، بدايةً ونهايةً؛ إذ هو الواسطة العظمى، وهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأرواحهم وأسرارهم‏.‏

فكل مدد واصل إلى العبد فهو منه صلى الله عليه وسلم، وعلى يده، وكل ما تأمر به الأشياخ من فعل وترك في تربية المريدين، فهو جزء من الذي جاء به‏.‏ وهم في ذلك بحسب النيابة عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم خلفاء عنه‏.‏ وكل كرامة تظهر فهي معجزة له صلى الله عليه وسلم، وكل كشف ومشاهدة فمن نوره صلى الله عليه وسلم، قال ابن العربي الحاتمي رضي الله عنه‏:‏ اعلم أن كل وَليّ لله تعالى إنما يأخذ ما يأخذ بِوَاسِطَةِ رُوحَانِيَّةِ النبي صلى الله عليه وسلم، فمنهم مَن يعرف ذلك، ومنهم مَن لا يعرفه، ويقول‏:‏ قال لي الله، وليس إلا تلك الروحانية‏.‏ ه‏.‏ وهو موافق لما أشار إليه الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه، حيث قال‏:‏ الوليّ إنما يكاشف بالمثال، كما يرى مثلاً البدر في الماء بواسطته، وكذلك الحقائق الغيبية، والأمور الإشهادية مجلوة وظاهرة في بصيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وله عياناً لا مثالاً‏.‏ والوليّ لقربه منه ومناسبته له؛ لهديه بهديه، ومتابعته له يُكاشف بمثال ذلك فيه، فظهر الفرق وثبتت مزية النبي صلى الله عليه وسلم، وانتفى اللبس بين النبوة والولاية‏.‏ قاله شيخ شيوخنا سيدي «عبد الرحمن العارف»‏.‏

قال القشيري‏:‏ ‏{‏النبي أَوْلَى بالمؤمنين من أنفسهم‏}‏ الإشارة‏:‏ تقديم سُنّته على هواك، والوقوف عند إشارته دون ما يتعلقُ به مُناك، وإيثار مَن تتوسل به نسباً وسبباً على أعِزَّتكَ ومَن والاك، ‏{‏وأولوا الأرحام‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ ليكنْ الأجانبُ منك على جانب، ولتكن صلتك للأقارب وصلةُ الرحم ليس لمقاربة الدار وتعاقب المزار، وليكن بموافقة القلوب، والمساعدة في حالتي المكروه والمحبوب‏.‏

أرْوَاحُنا في مكانٍ واحد، وإن كانت *** أشْبَاحُناَ بِشَآمٍ أوْ خُرَاسَانِ‏.‏ ه

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 8‏]‏

‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ‏(‏7‏)‏ لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏8‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏و‏}‏ اذكر ‏{‏إذ أخذنا‏}‏؛ حين أخذنا ‏{‏من النبيين ميثاقهم‏}‏ بتبليغ الرسالة، والدعاء إلى الدين القيم، وإرشاد العباد ونصحهم‏.‏ وقيل‏:‏ أخذه عليهم في عالم الذر‏.‏ قال أُبيّ بن كعب‏:‏ لما أخرج الله الذرية، كانت الأنبياء فيهم مثل السُرُج، عليهم النور، فخُصُّوا بميثاقٍ وأخذ الرسالة والنبوة، وقال القشيري‏:‏ أخذ الميثاق الأوَل وقت استخراج الذرية من صُلب آدم، عوندَ بعثة كل رسول، ونُبُوَّة كل نبيٍّ، أخذ ميثاقه، وذلك على لسان جبريل عليه السلام، ومنَ اختصه بإسماعه كَلاَمَهُ بلا واسطة ملك كنبينا ليلة المعراج، وموسى- عليهما السلام- فأخذ الميثاق منهم بلا واسطة، وكان لنبينا- عليه الصلاة والسلام- زيادة حال؛ بأن كان مع سماع الخطاب كشف الرؤية‏.‏ ثم أخذ المواثيق من العباد بقلوبهم وأسرارهم‏.‏ ه‏.‏

قال في الحاشية‏:‏ والذي يظهر‏:‏ أن أخذ الميثاق منهم مباشرة لا بوحي، وذلك في الغيب، ولذلك قدّم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه النور الأول قبل آدم، ثم انتقل إلى ظهره، وحينئذ، فأخذ الميثاق هنا غيبي، ولذلك قدّمه‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 13‏]‏؛ في عالم الظهور، فلذلك قدّم نوحاً، وثنَّى بنبينا؛ لأن نوحاً أول أُولي العزم، ونبينا خاتمهم‏.‏ والله أعلم‏.‏ ه‏.‏ والحاصل‏:‏ أن أخذ الميثاق كان مرتين؛ في عالم الغيب وفي عالم الشهادة‏.‏ وهل المراد به هنا الأول أو الثاني‏؟‏ قولان‏.‏

‏{‏ومنك ومن نوحٍ وإبراهيمَ وموسى وعيسى ابنِ مريم‏}‏، قال النسفي‏:‏ وقدَّم رسول الله صلى اله عليه وسلم على نوح ومَن بعده؛ لأن هذا العطف لبيان فضيلة هؤلاء؛ لأنهم أولو العزم، وأصحاب الشرائع، فلمَّا كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أفضل هؤلاء قُدّم عليهم، ولولا ذلك لقدّم مَن قدمه زمانه‏.‏ ه ‏{‏وأخذنا منهم ميثاقا غليظاً‏}‏؛ وثيقاً‏.‏ وأعاد ذكر الميثاق؛ لانضمام الوصف إليه‏.‏

وإنما فعلنا ذلك ‏{‏ليَسْألَ‏}‏ اللهُ ‏{‏الصادقين‏}‏ أي‏:‏ الأنبياء‏:‏ ‏{‏عن صِدْقِهم‏}‏؛ عما قالوه لقومهم، وهل بلغوا ما كلفهم به‏.‏ وفيه تبكيت للكفار، كقوله‏:‏ ‏{‏فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 6‏]‏، أو‏:‏ ليسأل المصدّقين للأنبياء عن تصديقهم‏:‏ هل كان بإخلاص أم لا‏؟‏ لأن مَن قال للصادق‏:‏ صدقت؛ كان صادقاً في قوله‏.‏ أو‏:‏ ليسأل الأنبياء‏:‏ ما الذي أجابتهم أممهم‏؟‏ وهو كقوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 109‏]‏، ‏{‏وأعَدَّ للكافرين‏}‏ بالرسل ‏{‏عذاباً أليماً‏}‏، وهو عطف على «أخذنا»، لأن المعنى‏:‏ أن الله تعالى أخذ على الأنبياء العهد بالدعوة إلى دينه؛ لأجل إثابة المؤمنين، وأعَدَّ للكافرين عذاباً أليماً‏.‏ أو‏:‏ على ما دلّ عليه‏:‏ ‏{‏ليسأل الصادقين‏}‏، كأنه قال‏:‏ فأثاب المؤمنين، وأعدَّ للكافرين عذاباً أليماً‏.‏

الإشارة‏:‏ كما أخذ الله الميثاق على الأنبياء والرسل؛ أخذ الميثاق على العلماء والأولياء‏.‏

أمل العلماء؛ فعلى تبيين الشرائع وتغيير المناكر، وألا تأخذهم في الله لومة لأئم، وأما أخذه على الأولياء؛ فعلى تذكير العباد وإرشادهم إلى معرفة الله، وتربية مَن تعلّق بهم، وسياسة الخلق، ودلالتهم على الحق، فمَن قصَّر من الفريقين استحق العتاب‏.‏ قال القشيري‏:‏ فلكلِّ من الأولياء والأكابر حال، على ما يؤهلهم له؛ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لقد كان في الأمم مُحَدِّثون، وإن يكُن في أمتي فَعُمر»، وغير عُمَر مشارك لعُمر في خواص كثيرة، وذلك سر بينهم وبين ربِّهم‏.‏

ثم قال‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليَسْأل الصادقين عن صدقهم‏}‏؛ سؤال تشريف لا تعنيف، وإيجاب لا عتاب، والصدقُ‏:‏ ألا يكون في أحوالك شَوْبٌ، ولا في اعتقادك ريب، ولا في عملك عَيْبٌ، ويقال‏:‏ من أمارات الصدق في المعاملة‏.‏ وجودُ الإخلاص من غير ملاحظة، وفي الأحوال‏:‏ تصفيتُها ‏[‏من غير مداخلة الحجاب‏]‏، وفي القول‏:‏ سلامته من المعاريض، فيما بينك وبين نفسك‏.‏ وفيما بينك وبين الناس‏:‏ تباعدٌ في التلبيس والتدليس، وفيما بينك وبين الله‏:‏ إدامة التبرَّي من الحَوْل والقوة، ومواصلة الاستقامة، وحفظ العهود معه على الدوام‏.‏ في التوكل‏:‏ عدَم الانزعاج عند الفَقْدِ، وزوالِ الْبِشْر بالوجد، وفي الأمر بالمعروف‏:‏ التحرُّز من تخلل المداهنة، قليلها وكثيرها، وألاَّ يترك ذلك لِفَزَعٍ ولا طَمَع، ولكن تَشْرَبُ مما تَسْقي، وتتصف بما تأمر، وتنتهي عما تَزْجُر‏.‏ ويقال‏:‏ الصدق‏:‏ أن يهتدي إليك كل أحد، ويكون عليك، فيما تقول وتضمر، اعتماد‏.‏ ويقال‏:‏ الصدق‏:‏ ألا تجنحَ إلى التأويلات‏.‏ انتهى كلام القشيري‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 11‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ‏(‏9‏)‏ إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا ‏(‏10‏)‏ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا ‏(‏11‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمةَ الله عليكم‏}‏، أي‏:‏ ما أنعم الله به عليكم يوم الأحزاب، وهو يوم الخندق، وكان بعد حرب أُحد بِسَنَةٍ‏.‏ ‏{‏إذ جاءتكُمْ جنودٌ‏}‏ أي‏:‏ الأحزاب، وهم قريش، وغطفان، ويهود قريظة والنضير، وهو السبب في إيتانهم، ‏{‏فأرسلنا عليهمْ ريحاً‏}‏ أي‏:‏ الصَّبَا، قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «نُصرت بالصَّبَا، وأُهْلكَتْ عاد بالدَّبُور» قيل‏:‏ كانت هذه الريح معجزة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين كانوا قريباً منها، ولم يكن بينهم إلا عُرض الخندق، وكانوا في عافية منها‏.‏ ‏{‏و‏}‏ لا شعور لهم بها‏.‏ وأرسلنا عليهم ‏{‏جنوداً لم تروها‏}‏ وهو الملائكة، وكانوا ألفاً، فقلعت الأوتاد، وقطعت الأطناب، وأطفأت النيران، وأكفأت القدور‏.‏

وكان سبب غزوة الأحزاب‏:‏ أن نفراً من اليهود، منهم ابن أَبي الحقيق، وحُيَي بن أخطب، في نفر من بني النضير، لَمَّا أجلاهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم من بلدهم، قَدِموا مكة فحرّضوا قريشاً على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم خرجوا إلى غطفان، وأشجع، وفزارة، وقبائلَ مِنَ العرب، يُحرضونهم على ذلك، على أن يعطوهم نصف تمر خَيْبَرَ كل سنة‏.‏ فخرجت قريش، وقائدها أبو سفيان، وخرجت غطفان، وقائدها عيينة بن حِصن، والحارث بن عوف في مُرة، وسعد بن رخيلة في أشجع، وعامر بن الطفيل في هوازن‏.‏

فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم بهم، ضرب الخندق على المدينة، برأي سليمان‏.‏ وكان أول مشهد شهده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يؤمئذ حُر‏.‏ وقال‏:‏ يا رسول الله‏:‏ إنا كنّا بفارس، إذا حُوصرنا‏:‏ خَنْدَقْناَ علينا، فحفر الخندق، وباشر الحفر معهم بيده صلى الله عليه وسلم‏.‏ فنزلت قريش بمجتمع الأسيال من الجُرُفِ والغابة، في عشرة آلاف من أحابيشهم‏.‏ ونزلت عطفان وأهل نجد بذنب نَقَمَي، إلى جانب أُحد‏.‏ فخرج النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون حتى جعلوا ظهورهم إلى سَلْع، في ثلاثة آلاف من المسلمين، فضرب هناك عسكره، والخندق بينه وبين القوم، وأمر بالذراري والنساء فرفعوا في الآطام‏.‏

واشتد الخوف، فأقام النبي صلى الله عليه وسلم، وأقام المشركون، بِضعاً وعشرين ليلة، ولم يكن حرب غير الرمي بالنبل والحصى‏.‏ فلما اشتد البلاء بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى عُيينة بن حصن، والحارث بن عوف، وأعطاهما ثلث ثمار المدينة، على أن يرجعا بمَن معهما، وكتبوا الكتاب ولم يقع الإشهاد، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، فقال سعد بن معاذ‏:‏ أشيء أمرك الله به، لا بدّ من العمل به، أم شيء تُحبه فتصنعه، أم شيء تصنعه لنا‏؟‏ قال‏:‏ «لا، بل شيء أصنعه لكم، أردتُ أن أكْسِر عنكم شوكتهم»

فقال سعد‏:‏ يا رسول الله؛ لقد كنا مع القوم على شرك وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطعمون أن يأكلوا منها تمرة، إلا قِرىً، أو شراءً، أفحين أكرمنا الله بالإسلام، وأعزَّنا بك، نعطيهم أموالنا‏!‏ لا نعطيهم إلا السيف‏.‏ فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «فأنت وذاك»، فمحا سعدُ ما في الكتاب، وقال‏:‏ ليجهدوا علينا‏.‏

ثم إن الله تعالى بعث عليهم ريحاً باردة، في ليلة شاتية، فأحصرتهم، وأحثت الترابَ في وجوههم، وأمر الملائكة فقلعت الأوتاد، وقطعت الأطناب، وأكفأت القدور، وأطفأت النيران، وجالت الخيل بعضها في بعض‏.‏ وأرسل الله تعالى عليهم الرُعب، وكثر تكبير الملائكة في جوانب عسكرهم، حتى كان سيد كل خباء يقول‏:‏ يَا بَني فلان، علمُّوا، فإذا اجتمعوا إليه قال‏:‏ النَّجا، النَّجا، أوتيتم‏.‏ فانهزموا من غير قتال‏.‏

‏{‏وكان الله بما تعملون بصيراً‏}‏، أي‏:‏ بصيراً بعملكم، من حَفر الخندق، ومعاونة النبي صلى الله عليه وسلم، والثبات معه، فيجازيكم عليه، وقرأ أبو عمرو‏:‏ بالغيب، أي‏:‏ بما يعمل الكفار؛ من البغي، والسعي في إطفاء نور الله، ‏{‏إِذ جاؤوكم‏}‏ هو بدل من‏:‏ ‏(‏إذ جاءتكم‏)‏، ‏{‏من فوقكم‏}‏؛ من أعلى الوادي، من قِبَل المشرق‏.‏ وهم بنو غطفان‏.‏ ‏{‏ومن أسفل منكم‏}‏؛ من أسفل الوادي من قِبَل المغرب، وهو قريش‏.‏ ‏{‏وإذْ زاغتِ الأبصارُ‏}‏؛ مالت عن مستوى نظرها؛ حَيْرَةً وشخوصاً‏.‏ أو‏:‏ مالت إلى عدوها، لشدة الخوف، ‏{‏وبلغت القلوبُ الحناجرَ‏}‏؛ رُعباً‏.‏ والحنجرة‏:‏ رأس الغَلْصَمَة، وهي منتهى الحلقوم، الذي هو مدخل الطعام والشراب‏.‏ قالوا‏:‏ إذا انتفخت الرئة، من شدة الفزع والغضب، رَبَتْ، وارتفع بارتفاعها إلى رأس الحنجرة‏.‏ وقيل‏:‏ هو مثل في اضطراب القلوب، وإن لم تبلغ الحناجر حقيقة‏.‏

رُوي أن المسلمين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ هل من شيء نقوله، فقد بلغت القلوب الحناجر‏؟‏ قال‏:‏ «نعم، قولوا‏:‏ اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا»‏.‏

‏{‏وتظنون بالله الظنُونا‏}‏؛ الأنواع من الظن‏.‏ والمؤمنون أصناف؛ منهم الأقوياء، ومنهم الضعفاء، ومنهم المنافقون‏.‏ فظنّ الأقوياء، المخلصون، الثُبْتُ القلوب؛ أن ينجز الله وعده في إعلاء دينه، ويمتحنهم، فخافوا الزلل وضعْفَ الاحتمال، وأما الآخرون؛ فظنُّوا ما حكى عنهم، وهو الذين زاغت أبصارهم، وبلغت قلوبهم الحناجر، دون الأقوياء رضي الله عنهم، وقرأ أبو عمرو وحمزة‏:‏ ‏{‏الظنون‏}‏؛ بغير ألف، وهو القياس‏.‏ وبالألف فيهما‏:‏ نافع، والشامي، وشعبة؛ إجراء للوصل مجرى الوقف‏.‏ والمكيّ، وعليّ، وحفص‏:‏ بالألف في الوقف‏.‏ ومثله‏:‏ ‏{‏الرَّسُولاْ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 66‏]‏ و‏{‏السَّبِيلاَْ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 67‏]‏، زادوها في الفاصلة، كما زادوها في القافية، كقوله‏:‏

«أقِلّي اللَّوْمَ، عَاذِلَ؛ والعِتابا» *** وهو في الإمام‏:‏ بالألف‏.‏

‏{‏هنالك ابْتُلي المؤمنون‏}‏ أي‏:‏ اختبروا، فظهر المخلص من المنافق، والثابت من المزلزل، ‏{‏وزُلزلوا زلزالاً شديداً‏}‏؛ وحُركوا بالخوف، تحريكاً شديداً‏.‏

الإشارة‏:‏ يا أيها الذين آمنوا إيمان الخصوص؛ اذكروا نعمة الله عليكم بالتأييد والنصر، فحين تَوَجَّهْتُمْ إليّ، ودخلتم في طريق ولايتي، رفضتكم الناس، ونكرتكم، ورمتكم عن قوس واحدة، فجاءتكم جنود الخواطر والوساوس من كل جانب، حتى هممتم بالرجوع أو الوقوف‏.‏

وإذ زاغت الأبصار‏:‏ مالت عن قصدها؛ بالاهتمام بالرجوع، وبلغت القلوبُ الحناجرَ، ممن كان ضعيف الإرادة واليقين، وتظنون بالله الظنونا، فمنهم مَن يظن الامتكان بعد الامتحان، فيفرحون بالبلاء، ومنهم مَن يظن أنه عقوبة‏.‏‏.‏‏.‏ إلى غير ذلك، هنالك ابتلي المؤمنون المتوجهون؛ ليظهر الصادق، في الطلب، من الكاذب فيه، فعند الامتحان يعز المرء أو يُهان، ويظهر الخَوّافون من الشجعان، وزُلزلوا زلزالاً شديداً؛ ليتخلصوا ويتمحصوا، كما يتخلص الذهب والفضة من الناس، ومَن عرف ما قصد؛ هان عليه ما ترك‏.‏

قال القشيري‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم‏.‏‏.‏‏}‏ يعني‏:‏ بمقابلتها بالشكر، وتَذَكُّرِ ما سَلَفَ من الذي دفع عنك، يهون عليك مقاساة البلاءِ في الحال‏.‏ وبذكرك لما أولاك في الماضي؛ يقرب من الثقة بوصول ما تؤمِّلهُ في الاستقبال‏.‏ فمن جملة ما ذكّرهم قوله‏:‏ ‏{‏إذ جاءتكم جنود‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ كم بلاء صَرَفَه عن العبد وهو لا يشعر، وكم شغل كنت بصدده، فصدّه عنك ولم تعلم، وكم أمر صرفه، والعبد يضج، وهو- سبحانه- يعلم أن في تيسيره هلاكَه، فيمنعه منه؛ رحمة عليه، والعبد يتهمه ويضيق به صَدْرُه‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 14‏]‏

‏{‏وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا ‏(‏12‏)‏ وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا ‏(‏13‏)‏ وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآَتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا ‏(‏14‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏و‏}‏ اذكر ‏{‏إذ يقولُ المنافقون والذين في قلوبهم مرض‏}‏ عطف تفسير؛ إذ هو وصف المنافقين، كقول الشاعر‏:‏

إلى المَلِكِ القَرْمِ، وابنِ الهُمَامِ *** ولَيْثَ الكتيبةِ في المُزْدَحَمْ

فابن الهمام هو القَرْمُ، والقرم- بالراء-‏:‏ السيد‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏الذين في قلوبهم مرض‏}‏، هم الذين لا بصيرة بهم في الدين من المسلمين، كان المنافقون يستميلونهم بإدخال الشُّبه عليهم، قالوا، عند شدة الخوف‏:‏ ‏{‏ما وَعَدَنَا اللهُ ورسولهُ إلا غُروراً‏}‏‏.‏

رُوي أن مُعَتِّبَ بن قُشَيْرٍ، المنافق حين رأى الأحزاب قال‏:‏ إن محمداً يَعِدُنا فتح فارس والروم، وأحدُنا لا يقدر أن يتبرّز، خوفاً، ما هذا إلا وعد غرور‏.‏ ه‏.‏

‏{‏وإذ قالت طائفةٌ منهم‏}‏؛ من المنافقين، وهم عبد الله بن أُبيّ وأصحابه‏:‏ ‏{‏يا أهلَ يثربَ‏}‏، وهم أهل المدينة، ‏{‏لا مقَام لكم‏}‏ أي‏:‏ لا قرار لكم هنا، ولا مكان تقيمون فيه- وقرأ حفص‏:‏ بضم الميم- اسم مكان، أو مصدر، ‏{‏فارجعوا‏}‏ من عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة؛ هاربين، أو‏:‏ إلى الكفر، فيمكنكم المقام بها، أو‏:‏ لا مقام لكم على دين محمد، فارجعوا إلى الشرك وأظهروا الإسلام لتسلموا، ‏{‏ويستأذن فريقٌ منهم النبيَّ‏}‏ أي‏:‏ بنو حارثة، ‏{‏يقولون إن بيوتنا عورةٌ‏}‏‏:‏ ذات عورة، أي‏:‏ خالية غير حصينة، وهي مما يلي العدو‏.‏ وأصلها‏:‏ الخلل‏.‏ وقرأ ابن عباس؛ بكسر الواو‏:‏ ‏(‏عَوِرَة‏)‏، يعني‏:‏ قصيرة الجدران، فيها خلل‏.‏ تقول العرب‏:‏ دار فلان عورة؛ إذا لم تكن حصينة، وعَوِرَ المكان‏:‏ إذا بَدا فيه خلل يُخاف منه العدو والسارق، ويجوز أن يكون عَوْرَة‏:‏ تخفيفَ عَوِرة‏.‏

اعتذروا أن بيوتهم عُرضة للعدو والسارق؛ لأنها غير محصنة، فاستأذنوا ليحصنوها ثم يرجعوا إليه، فأكذبهم الله تعالى بقوله‏:‏ ‏{‏وما هي بعوْرةٍ‏}‏، بل هي حصينة، ‏{‏إن يريدون إلا فراراً‏}‏ من القتل‏.‏

‏{‏ولو دُخِلَت عليهم‏}‏ مدينتهم، أو‏:‏ بيوتهم‏.‏ من قولك‏:‏ دخلت على فلان داره‏.‏ ‏{‏من أَقْطارها‏}‏، من جوانبها، أي‏:‏ ولو دَخلت هذه العساكر المتحزبة- التي يفرَّون؛ خوفاً منها- مدينتَهم، أو بيوتهم، من نواحيها كلها؛ ناهبين سارقين، ‏{‏ثم سُئِلوا‏}‏؛ عند ذلك الفزع، ‏{‏الفتنةَ‏}‏ أي‏:‏ الردة والرجعة إلى الكفر ومقاتلة المسلمين، أو‏:‏ القتال في العصبية، وهو أحسن؛ لأنهم مسلمون، ‏{‏لأتوها‏}‏؛ لجاؤوها وفعلوا‏.‏ ومَن قرأ بالمد فمعناه‏:‏ لأعطوها من أنفسهم، ‏{‏وما تلبثوا بها‏}‏؛ بإجابتها وإعطائها، أي‏:‏ ما احتبسوا عنها ‏{‏إلا يسيراً‏}‏، أو‏:‏ ما لبثوا بالمدينة، بعد ارتدادهم، إلا زماناً يسيراً، ثم يهلكهم الله؛ لأن المدينة كالكير؛ تنفي خبثها، وينصع طيبها، والمعنى أنهم يتعلّلون بإعوار بيوتهم؛ ليفرُّوا عن نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وعن مصافة الأحزاب الذين ملأوهم رُعباً، وهؤلاء الأحزاب كما هم؛ لو سألوهم أن يقاتلوا؛ فتنة وعصيبة؛ لأجابوهم، وما تعلّلوا بشيء، وما ذلك إلا لضعف إيمانهم، والعياذ بالله‏.‏

الإشارة‏:‏ وإذ قالت طائفة من شيوخ التربية لأهل الفناء‏:‏ لا مقام تقفون معه؛ إذ قد قطعتم المقامات، حين تحققتم بمقام الفناء، فارجعوا إلى البقاء؛ لتقوموا بآداب العبودية، وتنزلون في المقامات ثم ترحلون عنها، كما تنزل الشمس في بروجها، فكل وقت يبرز فيه ما يقتضي النزول إلى مقامه‏.‏ فتارة يبرز ما يقتضي التوبة، وتارة ما يقتضي الخوف والهيبة، أي‏:‏ خوف القطيعة، وتارة ما يقتضي الرجاء والبسط، وتارة ما يقتضي الشكر، وتارة الصبر، وتارة ما يقتضي الرضا والتسليم، وتارة ما يهيج المحبة أو المراقبة أو المشاهدة‏.‏ وهكذا ينزل في المقامات ويرحل عنها، ولا يقيم في شيء منها‏.‏ ويستأذن بعض المريدين في الرجوع إلى مقامات الإيمان أو الإسلام، أو شيء من أمور البدايات، يقولون‏:‏ إن بيوت تلك المقامات لم نُتقنها، بل فيها عورة وخلل، وما هي بعورة، ما يريدون إلا فراراً من ثِقَل أعباء الحضرة‏.‏ ولو دُخلت بيوت قلوبهم من أقطارها، ثم سئلوا الرجوع إلى الدنيا لأتوها؛ لأنها قريبةُ عَهْدٍ بتركها، وما تلبّثوا بها إلا زماناً يسيراً، بل يبغتهم الموت، ويندمون، قل متاع الدنيا قليل، والآخرة خير لمَن اتقى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 17‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا ‏(‏15‏)‏ قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏16‏)‏ قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ‏(‏17‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ولقد كانوا عاهدوا اللهَ من قَبلُ‏}‏ أي‏:‏ قبل غزوة الخندق، وهو يوم أحد‏.‏ والضمير في «كانوا» لبني حارثة، عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد، حين فشلوا، ثم تابوا ألا يعودوا لمثله، وقالوا‏:‏ ‏{‏لا يُوَلُّونَ الأدبارَ‏}‏؛ منهزمين أبداً، ‏{‏وكان عهدُ الله مسؤولاً‏}‏ عن الوفاء له، مُجازىً عليه، أو‏:‏ مطلوباً مقتضى حتى يوفى به‏.‏ ‏{‏قل لن ينفعَكُم الفرارُ إن فَررتُم من الموت أو القتل‏}‏، فإنه لا بد لكل شخص من حتفِ أنفه، أو‏:‏ قتل في وقت معين سبق القضاء وجرى به القلم، ‏{‏وإذاً لا تُمتَّعُون إلا قليلاً‏}‏ أي‏:‏ إن حضر أجلكم لم ينفعكم الفرار، وإن لم يحضر، وفررتم، لن تُمتعوا في الدنيا إلا زماناً قليلاً، وهو مدة أعماركم، وهو قليل بالنسبة إلى ما بعد الموت الذي لا انقضاء له‏.‏

‏{‏قل مَن ذَا الذي يَعصِمُكُم من الله‏}‏ أي‏:‏ يمنعكم مما أراد الله إنزاله بكم؛ ‏{‏إن أراد بكم سوءاً‏}‏ في أنفسكم، من قتل أو غيره، ‏{‏أو أراد بكم رحمةً‏}‏ أي‏:‏ أراد بكم إطالة عمر في عافية وسلامة‏.‏ أو‏:‏ مَن يمنع الله من أن يرحمكم، إن أراد بكم رحمة، فَحُذِفَ؛ سوءاً، أو يصيبكم بسُوء، إن أراد بكم رحمة، فاختصر الكلام‏.‏ ‏{‏ولا يجدون لهم من دون الله ولياً‏}‏ ينفعهم، ‏{‏ولا نصيراً‏}‏ يدفع العذاب عنهم‏.‏

الإشارة‏:‏ ولقد كان عاهدَ الله؛ مَنْ دخل في طريق القوم، ألاَّ يولي الأدبارَ، ويرجع إلى الدنيا والاشتغال بها حتى يتفتّر عن السير، وكان عهد الله مسؤولاً، فيسأله الحق تعالى عن سبب رجوعه عن الإرداة، ولماذا حَرَمَ نَفْسَهُ من لذيذ المشاهدة‏؟‏ قل- لمَن رجع، ولم يقدر على مجاهدة نفسه‏:‏ لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت لنفوسكم، أو القتل؛ بمجاهدتها وتجميلها بعكس مرادها، وتحميلها ما يثقل عليها، وإذا لا تُمتعون إلا قليلاً، ثم ترحلون إلى الله، في غم الحجاب وسوء الحساب‏.‏ قل‏:‏ مَن ذا الذي يعصمكم من الله، إن أراد بكم سوءاً‏؟‏ وهو البُعد والطرد، أو‏:‏ مَن يمنعكم من رحمته، إن أراد بكم رحمة، وهي التقريب إلى حضرته، فلا أحد يعصمكم من إبعاده، ولا أحد يمنعكم من إحسانه؛ إذ لا وليّ ولا ناصر سواه‏.‏ اللهم انصرنا بنصرك المبين، وارحمنا برحمتك الخاصة، حتى تُقَرِّبَنَا إلى حضرتك، بفضل منك وجودك، يا أرحم الراحمين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 19‏]‏

‏{‏قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏18‏)‏ أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ‏(‏19‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏قد يعلم اللهُ المعوِّقين منكم‏}‏ أي‏:‏ يعلم مَنْ يُعوِّقُ عن نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويَمْنَعُ، وهم المنافقون والمثبطون للناس عن الخروج إلى الغزو، ‏{‏والقائلين لإخوانهم‏}‏ في الظاهر؛ من ساكني المدينة من المسلمين‏:‏ ‏{‏هَلُمَّ إلينا‏}‏؛ تعالوا إلينا، ودعُوا محمداً‏.‏ ولغة أهل الحجاز في «هلم»‏:‏ أنهم يُسوون فيه بين الواحد والجماعة‏.‏ وأما بنو تميم فيقولون‏:‏ هلم يا رجل، وهلموا يا رجال‏.‏‏.‏ وهكذا‏.‏ ‏{‏ولا يأتون البأسَ‏}‏؛ الحرب ‏{‏إلا قليلاً‏}‏؛ إلا إتياناً قليلاً، أو يحضرون ساعةً، رياءً، ويقفون قليلاً، مقدار ما يرى شهودهم ثم ينصرفون‏.‏ ‏{‏أشِحَّةٌ عليكم‏}‏؛ جمع شحيح، وهو البخيل، نُصب على الحال من ضمير ‏{‏يأتون‏}‏ أي‏:‏ لا يأتون الحرب؛ بُخلاً عليكم بالمعاونة أو بالنفقة في سبيل الله، أو‏:‏ في الظفر والغنيمة، أي‏:‏ عند الظفر وقَسْم الغنيمة‏.‏ ‏{‏فإذا جاء الخوفُ‏}‏ من قِبَلَ العدو، أو‏:‏ منه صلى الله عليه وسلم، ‏{‏رأيتهم ينظرون إليك‏}‏؛ في تلك الحالة، ‏{‏تدور أعينُهم‏}‏ يميناً وشمالاً ‏{‏كالذي يُغْشى عليه من الموت‏}‏؛ كما ينظر المغشي عليه معالجة سكرات الموت؛ حذراً وخوفاً ولِواذاً بك‏.‏

‏{‏فإذا ذهبَ الخوفُ‏}‏ أي‏:‏ زال ذلك الخوف وأمِنوا، وحيزت الغنائم ‏{‏سلقوكم بألسنةٍ حِدَادٍ‏}‏؛ خاطبوكم مخاطبة شديدة، وآذوكم بالكلام، يقال‏:‏ خطيب سِلق‏:‏ فصيح، ورجل مِسْلق وسَلاَّق‏:‏ مبالغ في الكلام‏.‏ يعني‏:‏ بسطوا ألسنتهم فيكم، وقت قسم الغنيمة، ويقولون‏:‏ أعطنا؛ فإنا قد شهدنا معكم، وبمكاننا غَلبتم عدوكم‏.‏ ‏{‏أشِحَّةً على الخير‏}‏ أي‏:‏ خاطبوكم؛ أشحة على المال والغنيمة‏.‏ فهو حال من فاعل سلقوكم، فهم أشح القوم عند القسم، وأجبنهم عند الحرب، ‏{‏أولئك لم يؤمنوا‏}‏ في الحقيقة، بل بالألسنة فقط، ‏{‏فأحبط اللهُ أعمالهم‏}‏؛ أبطلها، بإضمار الكفر مع ما أظهروا من الأعمال الخبيثة، ‏{‏وكان ذلك‏}‏ الإحباط ‏{‏على الله يسيراً‏}‏؛ هيناً‏.‏

الإشارة‏:‏ هذه صفة منافقي الصوفية، يدخلون معهم على تذبذب، فإذا رأوا قوماً توجهوا لخرق عوائدهم وتخريب ظواهرهم، أو‏:‏ أرادوا الخروج عن دنياهم، عَوَّقُوهُمْ عن ذلك، وثبطوهم، وكذلك إذا تواجهوا في سفر لشُقة بعيدة؛ ليستتروا بهم، وقالوا لأخوانهم في الطريق‏:‏ هلم إلينا، ولا يأتون مكان حرب أنفسهم إلا قليلاً‏.‏ أشحةً بأنفسهم عليكم، فإذا جاء الخوف، وتجلّى لهم الحق تعالى باسمه الجليل؛ بأن نزلت بالفقراء محنة، رأيْتَهُمْ ينظرون إليك، تدور أعينهم، نظر المغشي عليه من الموت، فإذا ذهب الخوف، وجاء النصر والعز؛ سلقوكم بألسنة حداد، وقالوا‏:‏ إنا كنا معكم، أولئك لا نصيب لهم مما للقوم من الخصوصية‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏20‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يَحْسَبُون‏}‏ أي‏:‏ هؤلاء المنافقون ‏{‏الأحزابَ‏}‏، يعني‏:‏ قريشاً وغطفان، الذين تحزّبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي‏:‏ اجتمعوا، أنهم ‏{‏لم يذهبوا‏}‏ ولم ينصرفوا؛ لشدة جُبنهم، مع أنهم انصرفوا‏.‏ ‏{‏وإن يأتِ الأحزابُ‏}‏ كرة ثانية؛ ‏{‏يودُّوا لو أنهم بادون في الأعراب‏}‏، والبادون‏:‏ جمع باد، أي‏:‏ يتمنى المنافقون- لجُبنهم- أنهم خارجون من المدينة إلى البادية، حاصلون بين الأعراب؛ ليأمنوا على أنفسهم، ويعتزلوا مما فيه الخوف من الحرب، ‏{‏يسألون‏}‏ كل قادم منهم من جانب المدينة‏.‏ وقرئ ‏{‏يَسَاءلون‏}‏، بالشد‏.‏ أي‏:‏ يتساءلون، بعضهم بعضاً ‏{‏عن أنبائكم‏}‏؛ عن أخباركم وعما جرى عليكم، ‏{‏ولو كانوا‏}‏ أي‏:‏ هؤلاء المنافقون ‏{‏فيكم‏}‏ أي‏:‏ حاضرون في عسكركم، وَضَرَ قِتَالٌ، ‏{‏ما قاتلوا إلا قليلاً‏}‏؛ رياءً وسمعة، ولو كان لله؛ لكان كثيراً؛ إذ لا يقل عمل لله‏.‏

الإشارة‏:‏ الجبان يخاف والناس آمنون، والشجاع يأمن والناس خائفون، ولا ينال من طريق القوم شيئاً جبانٌ ولا مستحي ولا متكبر‏.‏ فمن أوصاف الضعفاء‏:‏ أنهم، إذا نزلت بالقوم شدة أو محنة- كما امْتُحِنَ الجنيد وأصحابه- يتمنون أنهم خارجون عنهم، وربما خرجوا بالفعل، وإن ذهبت شوكتهم؛ يحسبون أنهم لم يذهبوا؛ لشدة جزعهم‏.‏ ومن أوصافهم‏:‏ أنهم يكثر سؤالهم عن أخبار القوم، والبحث عما جرى بهم؛ خوفاً وجزعاً، ولو مضوا معهم لم يغنوا شيئاً‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 24‏]‏

‏{‏لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ‏(‏21‏)‏ وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ‏(‏22‏)‏ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ‏(‏23‏)‏ لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏24‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏لقد كان لكم في رسول الله‏}‏؛ محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏أسوَةٌ حَسَنَة‏}‏؛ خَصْلَةٌ حسنة، من حقها أن يُؤتسى بها؛ كالثبات في الحرب، ومقاساة الشدائد، ومباشرة القتال‏.‏ أو‏:‏ في نفسه قدوة يحسن التأسي به‏.‏ كما تقول‏:‏ في البيضة عشرون رطلاً من حديد، أي‏:‏ هي في نفسها عشرون‏.‏ وفيه لغتان‏:‏ الضم والكسر، كالعِدوة والعُدوة، والرِشوة والرُشوة‏.‏ وهي ‏{‏لمَن كان يرجو اللهَ واليوم الآخر‏}‏ أي‏:‏ يخاف الله ويخاف اليوم الآخر، أو‏:‏ لأجل ثواب الله ونعيم اليوم الآخر‏.‏ و«لمن»‏:‏ قيل‏:‏ بدل من ضمير «لكم»، وفيه ضعف؛ إذ لا يبدل من ضمير المخاطب إلا ما يدل على الإحاطة‏.‏ وقيل‏:‏ يتعلق بحسنة، أي‏:‏ أسوة حسنة كائنة لمَن آمن، ‏{‏وذكر الله كثيراً‏}‏ أي‏:‏ في الخوف والرجاء، والشدة والرخاء، فإن المؤتسِي بالرسول يكون كذلك‏.‏

‏{‏ولمَّا رأى المؤمنون الأحزابَ‏}‏ قد أقبلوا عليهم؛ ليستأصلوهم، وقد وعدهم الله أن يسلط عليهم المحن، ويُزَلْزَلُوا حتى يستغيثوا ويستنصروا بقوله‏:‏ ‏{‏أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 214‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 214‏]‏، فلما جاء الأحزاب واضطربوا؛ ‏{‏قالوا هذا ما وعدنا اللهُ ورسولهُ وصدق اللهُ ورسولهُ‏}‏، وعَلِمُوا أن الجنة والنصرة قد وجبت لهم‏.‏ وعن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه‏:‏ «إنَّ الأحزاب سائِرون إليكم، في آخر تِسْع ليال، أو عشر»، فلما رأوهم قد أقبلوا للميعاد، قالوا ذلك‏.‏ و‏{‏هذا‏}‏‏:‏ إشارة إلى الخطب والبلاء، أي‏:‏ هذا الخطب الذي وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله، ‏{‏وما زادهم‏}‏، ما رأوا من اجتماع الأحزاب ومجيئهم، ‏{‏إلا إيماناً‏}‏ بالله وبمواعيده ‏{‏وتسليماً‏}‏ لقضائه وأقداره‏.‏

‏{‏من المؤمنين رجال صَدَقوا ما عاهدوا اللهَ عليه‏}‏ أي‏:‏ صدقوا فيما عاهدوه، فحذف الجار، وأوصل المفعول إلى «ما»؛ وذلك أن رجالاً من الصحابة نَذَرُوا أنهم إذا لقوا حرباً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبتوا، وقاتلوا حتى يُسْتَشْهَدُوا، وهم‏:‏ عثمان بن عفان، وطلحة، وسعيد بن زيد، وحمزة، ومصعب، وأنس بن النضر، وغيرهم‏.‏ ‏{‏فمنهم مَن قضى نَحْبهُ‏}‏؛ نذره؛ بأن قاتل حتى استشهد؛ كحمزة، ومصعب، وأنس بن النضر‏.‏ والنَّحْبُ‏:‏ النذر، واستعير للموت؛ لأن كل حي من المحدثات لا بد له أن يموت، فكأنه نذرٌ لازم في رقبته، فإذا مات؛ فقد قضى نحبه، أي‏:‏ نذره‏.‏ وقال في الصحاح‏:‏ النحب‏:‏ النذر، ثم قال‏:‏ والنَّحْبَ‏:‏ المدة والوقت‏.‏ يقال‏:‏ قضى فلان نَحْبَه، إذا مات‏.‏ ه‏.‏ فهو لفظ مشترك بين النذر والموت‏.‏ وصحح ابنُ عطية أن النحب الذي في الآية ليس من شرطه الموت‏.‏ بل معناه‏:‏ قَضَى نذره الذي عاهد الله عليه من نصرة الدين، سواء قُتل أو بقي حيًّا‏.‏

بدليل قوله- عليه الصلاة والسلام- في طلحة‏:‏ «هذا ممن قَضَى نَحْبَه» ه‏.‏

‏{‏ومنهم مَن ينتظرُ‏}‏ أي‏:‏ الموت على الشهادة؛ كعثمان وطلحة، ‏{‏وما بدّلوا‏}‏؛ العهد ‏{‏تبديلا‏}‏؛ ولا غيَّروه، لا المسْتَشْهَد، ولا مَن ينتظر الشهادة‏.‏ وفيه تعريض بمَن بدّل من أهل النفاق، كقوله تعالى فيما مر‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 15‏]‏‏.‏ ‏{‏ليجزي اللهُ الصادقين بصدقهم‏}‏؛ بوفائهم بالعهد، ‏{‏ويُعذِّب المنافقين إن شاء‏}‏ إذا لم يتوبوا، ‏{‏أو يتوبَ عليهم‏}‏ إن تابوا ‏{‏إن الله كان غفوراً‏}‏ بقبول التوبة، ‏{‏رحيماً‏}‏ بعفو الحوبة‏.‏

الإشارة‏:‏ قد تقدّم ما يتعلق بالاقتداء بالرسول- عليه الصلاة والسلام- والاهتداء بهديه، وأنه منهاج الأكابر‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولَمَّا رأى المؤمنون الأحزاب‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ كذلك الأقوياء من هذه الطائفة، إذا رأوا ما يهولهم ويروعهم زادهم ذلك إيماناً وتسليماً، ويقيناً وطمأنينة، وتحققوا بصحة الطريق؛ إذ هو منهاج السائرين والأولياء الصادقين، وسنة الأنبياء والمرسَلين‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 2‏]‏ الآية‏.‏ وتقدم في إشارتها ما يتعلق بهذا المعنى‏.‏

قال بعضهم‏:‏ نحن كالنجوم، كلما اشتدت الظلمة قَوِيَ نُورُنَا‏.‏ وقال القشيري‏:‏ كما أن المنافقين اضطربت عقائدهمُ عند رؤية الأعداء، فالمؤمنون وأهل اليقين زادوا ثِقَةٌ، وعلى الأعداء جرأةً، ولحكم الله استسلاماً‏.‏ وفي الله قوة‏.‏ ثم قال‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من المؤمنين رجال صدقوا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، شَكَرَ صنيعَهم في المِرَاسَ، ومدح يقينهم عند شهود الناس، وسمّاهم رجالاً؛ إثباتاً لهم بالخصوصية في الرتبة، وتمييزاً لهم من بين أشكالهم بعلوِّ الحال، فمنهم مَنْ خرج من دنياه على صِدْقه، ومنهم مَنْ ينتظر حكم الله في الحياة والممات، وحقيقة الصدق‏:‏ حفْظُ العهد وترك مجاوزة الحدَّ‏.‏ ويقال‏:‏ استواءُ السِّرِّ والجهر‏.‏ ويقال‏:‏ هو الثبات عندما يكون الأمر جدًّا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ ليجزي الله الصادقين بصدقهم‏.‏‏.‏‏}‏ في الدنيا بالتمكين، والنصرة على العدو، وإعلاء الرتبة، وفي الآخرة بجزيل الثواب، وجميل المآب، والخلودِ في النعيم المقيم، والتقدم على الأشكال بالتكريم والتعظيم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ويُعذب المنافقين إن شاء‏}‏ يقال‏:‏ إذا لم يجَزم بعقوبة المنافق، وتعلَّق القول فيه على الرجاء، فبالحريّ ألا يُخيِّبَ المؤمنَ في رجائه‏.‏ انتهى كلام القشيري‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 27‏]‏

‏{‏وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ‏(‏25‏)‏ وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا ‏(‏26‏)‏ وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ‏(‏27‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وَرَدَّ اللهُ الذين كفروا‏}‏ أي‏:‏ الأحزاب ‏{‏بغَيْظِهم‏}‏؛ ملتبسين بغيظهم، فهو حال كقوله‏:‏ ‏{‏تَنبُتُ بِالدُّهنِ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 20‏]‏ أي‏:‏ ردهم غائظين ‏{‏لم ينالوا خيراً‏}‏؛ ظفراً، أي‏:‏ لم يظفروا بالمسلمين‏.‏ وسمّاه «خيراً» بزعمهم، وهو أيضاً حال، أي‏:‏ غير ظافرين، ‏{‏وكفى اللهُ المؤمنين القتال‏}‏ بالريح، والملائكة، ‏{‏وكان اللهُ قوياً عزيزاً‏}‏؛ قادراً غالباً، فقهرهم بقدرته وغلبهم بقهريته‏.‏ ‏{‏وأنزل الذين ظاهروهم‏}‏‏:‏ عاونوا الأحزاب وجاؤوا بهم ‏{‏من أهلِ الكتاب‏}‏، يعني بني قريظة، أنزلهم ‏{‏من صَياصِيهم‏}‏؛ من حصونهم‏.‏ والصيصة‏:‏ ما يتحصّن به‏.‏ قال الهروي‏:‏ وكل ما يتحصّن به فهو صيصة، ويقال لقرون البقر والظبي‏:‏ صَيَاصي؛ لأنها تتحصن بها، وفي وصف أصحاب الدجال‏:‏ «شواربهم كالصياصي»، لطولها، وفتلها، فصارت كالقرون‏.‏ ه‏.‏

رُوي أن جبريل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم صبيحة الليلة التي انهزم فيها الأحزاب، ورجع المسلمون إلى المدينة- على فَرَسه الحيزوم، والغُبار على وجه الفَرَس والسَّرْج، فقال‏:‏ ما هذا جبريلُ‏؟‏ فقال‏:‏ من مُتَابعةِ قُريش‏.‏ ثم قال‏:‏ إن الله يأمرك بالمسير إلى بني قريظة، وأنا عائدٌ إليهم، فإن الله داقهُمْ دَقَّ البيض على الصَّفا، وهم لكم طُعْمةٌ‏.‏

وفي رواية‏:‏ لَمَّا رجع- عليه الصلاة والسلام- ودخل مغتسله، جاءه جبريل بعمامة من استبرق، على بغلة، عليها قطيفة من ديباج، فقال‏:‏ قد وضعتَ السِّلاح، والله ما وضعت الملائكةُ السلاحَ، وما رجعت إلا من طلب القوم، وإن الله يأمرك بالمسير إلى بني قريظة‏.‏ فأذّن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس‏:‏ أنَّ من كان سَامِعاً مُطيعاً فلا يُصلَّين العَصْرَ إلا في بني قُريظة‏.‏ فخرج إليهم، فحاصرهُم خمساً وعشرين ليلةٌ‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ تنزلُون على حُكْمي‏؟‏ فأبَوْا، فقال‏:‏ تنزلون على حكم سَعد بن مُعاذِ‏؟‏ فرضوا به‏.‏ فقال سعد‏:‏ نحكم فيهمْ‏:‏ أن تُقتل مقاتِلتَهُم، وتُسبى ذَرارِيهمْ ونساؤُهُم‏.‏ فكبَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ «لقد حكم فيهم بحكم الله من فوق سبع أرقعة»‏.‏

ثم استنْزلهم، وخَنْدَق في سوق المدينة خندقاً، وقدَّمَهُم، فضرب أعناقَهُم‏.‏ وهم من ثمانمائة إلى تسعمائة‏.‏ وقيل‏:‏ كانوا ستمائة مقاتل، وسبعمائة أسير، فقتل المقاتلة، وقسم الأسارى، وهم الذراري والنساء‏.‏ وكان عليّ والزبير رضي الله عنهما يضربان أعناق بني قريظة‏.‏ والنبي صلى الله عليه وسلم جالس هناك‏.‏ والقصة مطولة في كتب السير‏.‏

‏{‏وقذَفَ في قلوبهم الرعبَ‏}‏ الخوف‏.‏ وفيه السكون والضم، ‏{‏فريقاً تقتلون‏}‏ وهم الرجال ‏{‏وتأسرون فريقاً‏}‏ وهم النساء والذراري‏.‏ قالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ لم يقتل صلى الله عليه وسلم من نساء بني قريظة امرأة إلا واحدة، قتلها بخلاد بن سويد، كانت شدخت رأسه بِحجَر من فوق الحصن‏.‏

‏{‏وأورثكم أرضَهم وديارَهم وأموالهم‏}‏ كالمواشي والنقود والأمتعة‏.‏ رُوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل عقارهم للمهاجرين دون الأنصار، وقال لهم‏:‏ «إنكم في منازلكم» ‏{‏و‏}‏ أورثكم ‏{‏أرضاً لم تطؤوها‏}‏ بعدُ، قيل‏:‏ خيبر، ولم يكونوا نالوها، أو‏:‏ مكة، أو‏:‏ فارس والروم، أو‏:‏ كل أرض لم تُفتح إلى يوم القيامة، فمكّنهم الله من ذلك كله، وفتح عليهم مشارق الأرض ومغاربها‏.‏ ‏{‏وكان الله على كل شيءٍ قديراً‏}‏ فيقدر على جميع ذلك‏.‏

الإشارة‏:‏ هذه عادة الله مع خواصه، أن يُخوفهم ثم يُؤمنهم، ويذلهم ثم يعزهم، ويفقرهم ثم يغنيهم، ويجعل دائرة السوء على مَن ناوأهم، ويكفيهم أمرهم من غير محاربة ولا قتال، ‏{‏وكفى الله المؤمنين القتال‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ ثم يكون لهم التصرف في الوجود بأسره، أمرهم بأمر الله، وحكمهم بحكمه، والله غالب على أمره‏.‏

ولَمَّا نصر الله رسولَه، وفرّق الأحزاب، وفتح عليه قريظة والنضير، ظنّ أزواجه أنه اختص بنفائس أموال اليهود وذخائرهم، فقعدن حوله وقلن‏:‏ يا رسول الله؛ بنات كسرى وقيصر في الحلي والحلل والإماء والخول ونحن على ما تراه من الفاقه والضيق، وآلمن قلبه- عليه الصلاة والسلام- لمطالبتهن له بتوسعة الحال، وأن يعاملهن به بما يعامل به الملوكُ والأكابرُ أزواجَهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏28- 29‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا ‏(‏28‏)‏ وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآَخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏29‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يا أيها النبي قلْ لأزواجك‏}‏ وكن تسعاً؛ خمساً من قريش‏:‏ عائشة بنت الصدّيق، وحفصة بنت الفاروق، وأم حبيبة بنت سفيان، وسَوْدة بنت زمعة، وأم سلمة بنت أبي أُمية، وصفية بنت حيي الخيبرية، من بني إسرائيل، من ذرية هارون عليه السلام، وميمونة بنت الحارث الهلالية، وزينب بنت جحش الأسدية، وجويرية بنت الحارث المصطلقيّة‏.‏ أي‏:‏ فقل لهن ‏{‏إن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحياةَ الدنيا وزينتَها‏}‏ أي‏:‏ التوسعة في الدنيا وكثرة الأموال والحُلل، ‏{‏فتعالين‏}‏ أي‏:‏ أَقبلن بإرادتكن واختياركن‏.‏ وأصل «تعال» أن يقوله مَن في المكان المرتفع لمَن في المكان الأدنى، ثم كثر استعماله في كل أمر مطلوب‏.‏ ‏{‏أُمتِّعكُنّ‏}‏ أي‏:‏ أُعطِكُن متعة الطلاق‏.‏ وتستحب المتعة لكل مطلقة إلا المفوّضة قبل الوطء مع أخواتها، كما في كتب الفقه‏.‏ ‏{‏وأسرِّحكُنَّ‏}‏ أُطلقكن ‏{‏سَراحاً جميلاً‏}‏ لا ضرر فيه‏.‏

وقيل‏:‏ سبب نزولها‏:‏ أنهن سألنه زيادة النفقة، وقيل‏:‏ آذينه بغيرة بعضهن من بعض، فاغتمّ عليه الصلاة والسلام لذلك‏.‏ وقيل‏:‏ هجرهن شهراً، فنزلت، وهي آية التخيير‏.‏ فبدأ بعائشة رضي الله عنها وكانت أحبهن إليه، فخيّرها، وقرأ عليها القرآن، فاختارت اللهَ ورسولَه والدارَ الآخرة، فرؤي الفرحُ في وجهه صلى الله عليه وسلم، ثم اختارت جميعهُنّ اختيارها‏.‏ وروي أنه قال لعائشة‏:‏ «إِنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْراً، ولاَ عَلَيكِ ألا تَعْجَلِي فيه حَتَّى تَسْتَأْمرِي أَبَوَيْكِ» ثُمَّ قرأ عليها الآية، فقالت‏:‏ أَفي هذا أسْتَأُمِرُ أَبَويّ‏؟‏ فَإِني أُريدُ الله ورسوَلهُ والدَّارَ الآخِرَةَ‏.‏

وحكم التخيير في الطلاق‏:‏ أنه إذا قال لها‏:‏ اختاري، فقالت‏:‏ اخترتُ نفسي، أن تقع تطليقة واحدة بائنة، وإذا اختارت زوجها؛ لم يقع شيء‏.‏ قاله النسفي‏.‏ وقال ابن جزي‏:‏ وإذا اختارت المرأة الطلاق؛ فمذهب مالك‏:‏ أنه ثلاث، وقيل‏:‏ طلقة بائنة‏.‏ وقيل‏:‏ رجعية‏.‏ ووصف السراح بالجميل؛ يحتمل أن يريد أنه دون الثلاث، أو‏:‏ يريد الثلاث، وجماله‏:‏ حسن المرعى، والثناء، وحفظ العهد‏.‏ ه‏.‏

‏{‏وإن كنتنّ تُردنَ اللهَ ورسوله والدارَ الآخرةَ فإِن الله أعدَّ للمحسنات منكنَّ‏}‏ «من»‏:‏ للبيان، ‏{‏أجراً عظيماً‏}‏ فاخترن رضي الله عنهن ما هو مناسب لحاله عليه الصلاة والسلام حين خُيّر بَيْن أن يكون نبيّاً عبداً، أو نبيًّا مَلِكاً، فاختار أن يكون نبيًّا عبداً، لا مَلِكاً‏.‏ فاخترن العبودية، التي اختارها عليه الصلاة والسلام‏.‏

الإشارة‏:‏ ينبغي لمَن قلّده الله نساء متعددة أن يخيِّرهن، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ لا يخلو من حال الغيرة، فإذا خَيّرهن فينبغي أن يغيب عن تشغيبهن، ولم يصغ بأُذُنه إلى حديثهن، ولا ينبغي أن يغتم من أجل الغيرة، فإنها طبع لازم للبشر، وليُقدِّر في نفسه‏:‏ أنه إذا تزوجت زوجته غيره، وهي في عصمته، هل يقْدِر على ذلك أم لا، فالأمر واحد‏.‏ والله أعلم‏.‏

قال القشيري‏:‏ لم يُرِد أن يكون قلبُ واحد من المؤمنين والمؤمنات منه في شُغل، أو يعود إلى واحد منهم أذى، أو تعب من الدنيا، فَخيَّرَ صلى الله عليه وسلم بأمر ربه نساءَه، ووفق اللهُ عائشةَ، حتى أخبرتُ عن صدق قلبها، وكمال دينها ويقينها، وما هو المنتظر من أصلها ونيتها‏.‏ والباقيات جرَيْن على منهاجها، ونَسَجْنَ على منوالها‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 31‏]‏

‏{‏يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ‏(‏30‏)‏ وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا ‏(‏31‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يا نساءَ النبيّ من يأتِ منكن بفاحشةٍ‏}‏ بسيئة بليغة في القُبح ‏{‏مُبَيِّنَة‏}‏ ظاهرٌ فحشها، من‏:‏ بيّن، بمعنى‏:‏ تبيّن‏.‏ وقرأ المكي وشعبة بفتح الياء، وهي عصيانهنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، ونشوزهن‏.‏ قال في المقدمات‏:‏ كل فاحشة نُعتت في القرآن بالبينة فهي بالنطق، والتي لم تُنعت بها زنى‏.‏ ه‏.‏ ‏{‏يُضَاعَفْ لها العذابُ ضِعْفين‏}‏ أي‏:‏ ضِعفي عذاب غيرهنّ من النساء؛ لأن الذنب منهن أقبح؛ فإنَّ قُبح الذنب يتبع زيادة فضل المذنب والنعمة عليه، ولذلك قيل‏:‏ ليست المعصية في القُرب كالمعصية في البُعد‏.‏ وليس لأحد من النساء مثل فضل النساء النبي صلى الله عليه وسلم، ولذا كان الذم للعاصي العالم أشدّ منه للعاصي الجاهل؛ لأن المعصية من العالِم أقبح، وفي الحديث‏:‏ «أشدُّ الناس عذاباً يومَ القيامة عالمٌ لم ينفعه الله بعلمه»؛ لقوة الجرأة في العالم دون غيره‏.‏ ولهذا أيضاً فضل حدّ الأحرار على العبيد، ولم يرجح الكافر‏.‏ ‏{‏وكان ذلك‏}‏ أي‏:‏ تضعيف العذاب عليهن ‏{‏على الله يسيراً‏}‏ هيناً‏.‏

‏{‏ومن يَقْنُتْ منكن‏}‏ أي‏:‏ يدم على الطاعة ‏{‏لله ورسوله وتعمل صالحاً نُؤْتِها أجْرَها مرتين‏}‏ أي‏:‏ مثل ثوابي غيرها، مرة على الطاعة، ومرة على طلبهن رضا النبي صلى الله عليه وسلم، بالقناعة، وحسن المعاشرة‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي بالغيب على لفظ «من»، ‏{‏وأعتدنا لها رِزقاً كريماً‏}‏ جليل القدر، وهو الجنة‏.‏

الإشارة‏:‏ من شأن الملِك أن يُعاتب الوزراء بما لا يعاتب غيرهم، ويهددهم بما لا يهدد به غيرهم، ويعطيهم من التقريب والكرامة ما لا يُعطي غيرهم، فإن هفوا وزلُّوا عاتبهم، ثم يردهم إلى مقامهم، وربما سمح وأغضى‏.‏ والغالب‏:‏ أن الحق تعالى يعجل عتاب خواصه، في الدنيا قبل الآخرة، بمصائب وأهوال، تصفيةً وتطهيراً، ولا يُبعدهم من حضرته بما اقترفوا‏.‏ قال القشيري‏:‏ زيادةُ العقوبة على الجُرْمِ من أمارات الفضيلة، كحدّ الحر والعبد، وتقليل ذلك من أمارات النقص، ولَمَّا كانت منزلتُهن في الشرف تزيد وتربو على منزلة جميع النساء، تضاعفت عقوبتهن على أجْرامهن، وتضاعف ثوابَهن على طاعتِهن، فقال‏:‏ ‏{‏ومن يقنت منكن لله‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏لستن كأحد من النساء‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية ه‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏32- 34‏]‏

‏{‏يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا ‏(‏32‏)‏ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ‏(‏33‏)‏ وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ‏(‏34‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يا نساء النبي لستُنَّ كأحدٍ من النساء‏}‏ أي‏:‏ لستن كجماعة من جماعات النساء، أي‏:‏ إذا تقصيت أمة النساء، جماعةً جماعةً، لم توجد منهن جماعة واحدة تُساويكن في الفضل، فكما أنه عليه الصلاة والسلام ليس كأحد من الرجال، كما قال‏:‏ «إني لسْتُ كَأَحَدِكُمْ‏.‏‏.‏‏.‏» كذلك زوجاته التي شرُفن به‏.‏ وأصل «أحد»‏:‏ وَحَدٍ، بمعنى‏:‏ واحد، فوضع في النفي العامّ، مستوياً فيه المذكّر والمؤنّث، والواحد وما وراءه، أي‏:‏ لستن في الشرف كأحد من النساء، ‏{‏إنِ اتقيْتنَّ‏}‏ مخالفةَ الله ورضا رسوله، ‏{‏فلا تَخْضَعْنَ بالقولِ‏}‏ أي‏:‏ إذا كلمتن الرجال من وراء الحجاب، فلا تجئنَ بقولكنّ خاضعاً، أي‏:‏ ليناً خنثاً مثل قول المُريبات، ‏{‏فيَطْمَع الذي في قلبه مرضٌ‏}‏ ريبة، وفجور، وهو جواب النهي، ‏{‏وقُلْنَ قولاً معروفاً‏}‏ حسناً مع كونه خشيناً‏.‏

‏{‏وقَرْنَ في بُيُوتِكُنَّ‏}‏ أي‏:‏ استكِن فيه، والْزَمن بيوتكن من غير خروج‏.‏ وقرأ نافع وعاصم بالفتح، وهو من‏:‏ قرَر يَقْرَرُ، لغة في قرّ بالمكان، وأصله‏:‏ اقرَرن، فحذفت الراء، تخفيفاً، وألقيت فتحتها على ما قبلها‏.‏ وقيل‏:‏ من‏:‏ قار يقار‏:‏ إذا اجتمع‏.‏ والباقون بالكسر، من‏:‏ قرّ بالمكان يقِرّ بالكسر، وأصله‏:‏ اِقْررْن، فنقلت كسرة الراء إلى القاف، وحذفت الراء‏.‏ وقيل‏:‏ من‏:‏ وَقَر يَقِر وقاراً‏.‏

‏{‏ولا تبرَّجْنَ تبرجَ الجاهليةِ الأُولى‏}‏ أي‏:‏ لا تتبخترن في المشي تبختر أهل الجاهلية، فالتبرُّج‏:‏ التبختر في المشي وإظهار الزينة، أي‏:‏ ولا تبرجن تبرجاً مثل ‏{‏تبرج الجاهلية الأولى‏}‏ أي‏:‏ القديمة، وهو الزمان الذي وُلد فيه إبراهيم عليه السلام، فكانت المرأة تتخذ فيه الدرع من اللؤلؤ، وتعرض نفسها على الرجال، زمان نمرود الجبار، والناس كلهم كفار‏.‏ أو‏:‏ ما بين آدم ونوح عليهما السلام ثمانمائة سنة‏.‏ وكان نساؤهم أقبح ما يكون، ورجالهم حِسَان، فتريده المرأة على نفسها‏.‏ أو‏:‏ زمن داود وسليمان عليهما السلام، وكان للمرأة قميص من الدرّ، غير مخيط الجانبين، فتظهر صورتها فيه‏.‏ والجاهلية الأخرى‏:‏ ما بين عيسى ومحمد عليهما السلام أو‏:‏ الجاهلية الأولى‏:‏ جاهلية الكفر قبل الإسلام، والجاهلية الأخرى‏:‏ جاهلية الفسوق والفجور في الإسلام‏.‏

‏{‏وأقِمْنَ الصلاةَ وآتينَ الزكاة‏}‏ خصهما بالذكر؛ تفضيلاً لهما؛ لأن مَن واظب عليهما جرتاه إلى غيرهما‏.‏ ‏{‏وأَطِعْنَ اللهَ ورسولَه‏}‏ في سائر ما أمرَكن به، ونهاكن عنه‏.‏

‏{‏إِنما يُريد اللهُ ليُذهبَ عنكم الرجسَ أهلَ البيت‏}‏ أي‏:‏ يا أهل البيت، أو‏:‏ أخص أهل البيت‏.‏ وفيه دليل على أن نساءه من أهل بيته‏.‏ قال البيضاوي‏:‏ وتخصيص أهل البيت بفاطمة وعلي وابنيهما، لِما رُوي أنه عليه الصلاة والسلام خرج ذات غدوة عليه مِرْطٌ مُرَحَّل من شعر أسود، فجاءت فاطمة، فأدخلها، ثم جاء عليّ، فأدخله فيه، ثم جاء الحسن والحسين، فأدخلهما فيه، فقال‏:‏

«إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهلَ البيت‏.‏‏.‏‏.‏» والاحتجاج بذلك على عصمتهم، وكون اجتماعهم حجة، ضعيف؛ لأن التخصيص بهم لا يناسب ما قبل الآية وما بعدها، والحديث يقتضي أنهم من أهل البيت، لا أنه ليس غيرهم‏.‏ ه‏.‏ وإنما قال‏:‏ ‏{‏عنكم‏}‏ لأنه أُريد الرجال والنساء‏.‏ والرجس‏:‏ كل ما يدنس، من ذنب، أو عيب، أو غير ذلك، وقيل‏:‏ الشيطان‏.‏

‏{‏ويُطهركم تطهيراً‏}‏ من نجاسات الآثام والعيوب، وهو كالتعليل لِمَا قبله، فإنما أَمَرَهن، ونهاهن، ووعظهن؛ لئلا يقارف أهل البيت ما يدنس، من المآثم، وليتصوّنوا عنها بالتقوى‏.‏ واستعار للذنب الرجس، وللتقوى الطُهر؛ لأن عِرض المقترف للمستقبحات يتلوث بها كما يتلوث بدنه بالأرجاس وأما مَن تحصّن منها فعرضه مصون، نقي كالثوب الطاهر‏.‏ وفيه تنفير لأُولي الألباب عن كل ما يدنس القلوب من الأكدار، وترغيب لهم في كل ما يطهر القلوب والأسرار، من الطاعات والأذكار‏.‏

‏{‏واذْكُرْنَ ما يُتلى في بيوتِكُنَّ من آياتِ الله‏}‏ القرآن ‏{‏والحكمةِ‏}‏ السُنَّة، أو‏:‏ بيان معاني القرآن، أو‏:‏ ما يُتلى عليكن من الكتاب الجامع بين الأمرين‏.‏ ‏{‏إِن الله كان لطيفاً‏}‏ عالماً بغوامض الأشياء، ‏{‏خبيراً‏}‏ عالماً بحقائقها، أو‏:‏ هو عالم بأقوالكن وأفعالكن، فاحذرن مخالفة أمره ونهيه، ومعصية رسوله صلى الله عليه وسلم‏.‏

الإِشارة‏:‏ علَّق الحق تعالى شرف نساء النبي صلى الله عليه وسلم وتفضيلهن على سبعة أمور، ويقاس عليهن غيرهن من سائر النساء، فمَن فعل هذه الأمور حاز شرف الدنيا والآخرة‏.‏ الأول‏:‏ تقوى الله في السر والعلانية، وهي أساس الشرف‏.‏ الثاني‏:‏ التحصُّن مما يُوجب مَيْل الرجال إليهن؛ من التخنُّث في الكلام وغيره‏.‏ الثالث‏:‏ لزوم البيوت والقرار بها‏.‏ وقد مدح الله نساء الجنة بذلك فقال‏:‏ ‏{‏حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 72‏]‏‏.‏ الرابع‏:‏ عدم التبرُّج، وهو إظهار الزينة حيث يحضر الرجال‏.‏ الخامس‏:‏ إقامة الصلاة وإتقانها وإيتاء الصدقة‏.‏ السادس‏:‏ طاعة الله ورسوله، ويدخل فيه طاعة الزوج‏.‏ السابع‏:‏ لزوم ذكر الله، وتلاوة كتابه لمن تُحسن ذلك في بيتها‏.‏ فمَن فعلت من النساء هذه الأمور؛ أذهب الله عنها دنس المعاصي والعيوب، وطهّرها تطهيراً، وأبدلها بمحاسن الأخلاق والشيم الكريمة‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏