فصل: تفسير الآية رقم (35)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***


تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏35‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إِن المسلمين والمسلماتِ‏}‏ أي‏:‏ الداخلين في الإسلام، المنقادين لأحكام الله قولاً وفعلاً، فالمسلم‏:‏ هو الداخل في السلم بعد الحرب، المنقاد الذي لا يُعاند، أو‏:‏ المفوِّض أمره إلى الله، المتوكل عليه، مِن‏:‏ أسلم وجهه إلى الله، ‏{‏والمؤمنين والمؤمنات‏}‏ المصدِّقين بالله ورسوله، وبما يجب أن يصدّق به، ‏{‏والقانتين والقانتات‏}‏ المداومين على الطاعة، ‏{‏والصادقين والصادقات‏}‏ في النيات، والأقوال، والأفعال، ‏{‏والصابرين والصابرات‏}‏ على الطاعات وترك السيئات، ‏{‏والخاشعين والخاشعات‏}‏ المتواضعين لله بالقلوب والجوارح، أو‏:‏ الخائفين‏:‏ ‏{‏والمتصدِّقين والمتصدِّقات‏}‏ فرضاً ونفلاً، ‏{‏والصائمين والصائمات‏}‏ فرضاً ونفلاً‏.‏ وقيل‏:‏ مَن تصدّق في أسبوع بدرهم فهو من المتصدقين، ومَن صام البيض من كل شهر، فهو من الصائمين، ‏{‏والحافظين فروجَهم والحافظاتِ‏}‏ عما لا يحلّ، ‏{‏والذاكرين الله كثيراً والذاكرات‏}‏ بقلوبهم وألسنتهم، بالتسبيح، والتهليل، والتكبير، وتلاوة القرآن، وغير ذلك من الأذكار، والاشتغال بالعلم لله، ومطالعة الكتب من الذكر‏.‏ وحذف «كثيراً» في حق الذاكرات لدلالة ما تقدم عليه‏.‏

وقال عطاء‏:‏ مَن فوّض أمره إلى الله فهو داخل في قوله‏:‏ ‏{‏إن المسلمين والمسلمات‏}‏، ومَن أقرّ بأن الله ربه، وأن محمداً رسوله، ولم يخالف قلبُه لسانَه، فهو من المؤمنين والمؤمنات، ومَن أطاع الله في الفرض، والرسول في السُنَّة، فهو داخل في قوله‏:‏ ‏{‏والصادقين والصادقات‏}‏، ومَن صلّى فلم يعرف مَنْ عن يمينه وعن شماله، فهو داخل في قوله‏:‏ ‏{‏والخاشعين والخاشعات‏}‏، ومَن صبر على الطاعة وعن المعصية، وعلى الذرية، فهو من ‏{‏الصابرين والصابرات‏}‏، ومَن تصدّق في كل أسبوع بدرهم، فهو من المتصدقين والمتصدقات، ومَن صام في كل شهر أيام البيض، الثالث عشر وما بعده، فهو من الصائمين والصائمات، ومَن حفظ فرجه عما لا يحل؛ فهو من الحافظين فروجهم والحافظات، ومَن صلّى الصلوات الخمس بحقوقها؛ فهو من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ ‏(‏جاء إسرافيل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد‏:‏ سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، عدد ما علم، وزنة ما علم، وملءَ ما علم‏.‏ مَن قالهن كُتبت له ست خصال؛ كتب من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات، وكان أفضل ممن ذكره في الليل والنهار، وكان له عرش في الجنة، وتحاتت عنه ذنوبه، كما تحات ورق الشجر اليابس، وينظر الله إليه، ومَن نظر إليه لم يعذبه‏)‏‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ لا يكون العبد من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات حتى يذكر الله قائماً وقاعداً ومضجعاً‏.‏ ه‏.‏ من الثعلبي‏.‏

وسُئل ابنُ الصلاح عن القَدْر الذي يصير به العبد من الذاكرين الله كثيراً‏؟‏ فقال‏:‏ إذا واظب على الأذكار المأثورة صباحاً ومساءً، وفي الأوقات والأحوال المختلفة، ليلاً ونهاراً، كان من الذاكرين كثيراً‏.‏

ه‏.‏ قلت‏:‏ وقد تتبعت ذلك في تأليف مختصر سميته‏:‏ «الأنوار السنية في الأذكار النبوية»‏.‏

هذا وعطف الإناث على الذكور لاختلاف الجنسين‏.‏ وهو ضروري كقوله‏:‏ ‏{‏ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 5‏]‏‏.‏ وعطف الزوجين على الزوجين لتغاير الوصفين، وليس بضروري، ولو قال‏:‏ «إن المسلمين والمسلمات المؤمنين والمؤمنات» بغير واو لجاز، كقوله‏:‏ ‏{‏مسلمات مؤمنات قانتات‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ، وهو مِن عطف الصفة، ومعناه‏:‏ إن الجامعين والجامعات لهذه الصفات‏.‏ ‏{‏أَعَدَّ اللهُ لهم مغفرة‏}‏ لِما اقترفوا من السيئات، ‏{‏وأجراً عظيماً‏}‏ على طاعتهم‏.‏ قال البيضاوي‏:‏ والآية وعد لهن، ولأمثالهن، على الطاعة والتدرّعُ بهذه الخصال‏.‏ رُوي أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قلن‏:‏ ذكر الرجال في القرآن بخير فما فينا خير، فنزلت‏.‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ اعلم أن اصطلاح الصوفية أن ما يتعلق بعمل الجوارح الظاهرة يُسمى إسلاماً، وما يتعلق بعمل القلوب الباطنية يُسمى إيماناً، وما يتعلق بعمل الأرواح والأسرار يُسمى إحساناً‏.‏ قال في البغية‏:‏ فالإسلام يشتمل على وظائف الظاهر، وهي الغالبة عليه، ذلك من عالم الشهادة، والإيمان يشتمل على وظائف الظاهر، وهي الغالبة عليه، وذلك من عالم الغيب، وهي الأعمال الغيبية، ولمّا انفتح لها باب من الأعمال الظاهرة للعبادة، وأشرقت عليها من ذلك أنوار، وتعلقت همتها بعالم الغيب، مالت إلى الوفاء بالأعمال الباطنية، ثم لمّا تمكنت في الأعمال الباطنة، واطلعت على عالَمها، وأشرفت على طهارتها، وتعلقت همتها بعالم الملكوت، مالت إلى الوفاء بالأسرار الإحسانية، ومن هناك تدرك غاية طهارتها وتصفيتها، والاطلاع على معارف الحقائق الإلهية‏.‏ ثم قال‏:‏ فإذا تبين هذا، فالإسلام له معنى يخصه، وهو انقياد الظاهر بما تكلف به من وظائف الدين، مع ما لا بد منه من التصديق‏.‏ والإيمان له معنى يخصه، وهو تصديق القلب بجميع ما تصمنه الدين من الأخبار الغيبية، مع ما لا بد منه من شُعبه‏.‏ والإحسان له معنى يخصه، وهو تحسين جميع وظائف الدين الإسلامية والإيمانية، بالإتيان بها على أكمل شروطها، وأتم وظائفها، خالصة من جميع شوائب عِللها، سالمة من طوارق آفاتها‏.‏ ه‏.‏

قلت‏:‏ ولا يكفي في مقام الإحسان تحسين الوظائف فقط، بل لا بد فيه من كشف حجاب الكائنات، حتى يُفضي إلى شهود المكوِّن، فيعبد الله على العيان‏.‏ كما في الحديث‏:‏ «أن تعبد الله كأنك تراه» فإذا تقرّر هذا؛ فالآية مشتملة على تدريج السلوك؛ فأول مقامات المريد‏:‏ الإسلام، ثم الإيمان، كما في الآية، ثم يكون من القانتين المداومين على الطاعة، ثم يكون من الصادقين في أقواله، وأفعاله، وأحواله، صادقاً في طلب مولاه، غائباً عن كل ما سواه، ثم من الصابرين على مجاهدة النفس، ومقاساة الأحوال، وقطع المقامات والمفاوز‏.‏ وقال القشيري‏:‏ من الصابرين على الخصال الحميدة وعن الخصال الذميمة، وعند جريان مفاجآت القضية‏.‏

ه‏.‏ ثم من الخاشعين الخاضعين لهيبة الجلال، مشاهداً لكمال أنوار الجمال‏.‏ قال القشيري‏:‏ الخشوعُ‏:‏ إطراق السريرة عند بوادِه الحقيقة‏.‏ ه‏.‏

ثم يتحقق بأوصاف الكمال؛ كالسخاء والكرم، فيبذل ما عنده في مرضاة ربه، فيكون من المتصدقين بأموالهم وأنفسهم، حتى لا يكون لأحد معهم خصومة فيما أخذوا منهم وقالوا فيهم، ثم يصوم عن شهود السِّوى، ثم يحفظ فرجه عن وِقاع الشهوة والهوى، فلا ينزل إلى سماء الحقوق، أو أرض الحظوظ، إلا بالإذن والتمكين، والرسوخ في اليقين‏.‏ ثم يكون من المُسْتَهتَرين بذكر الله، أعني ذكر الروح والسر، وهو مقام الإحسان، الذي هو محل العيان، فيكون ذاكراً بالله، مذكوراً في حضرة الله، مشهوراً في ملكوت الله‏.‏ جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 39‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ‏(‏36‏)‏ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ‏(‏37‏)‏ مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا ‏(‏38‏)‏ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ‏(‏39‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيرة مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً وَإِذْ تَقُولُ للذي أَنعَمَ الله عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ واتق الله وَتُخْفِي فِي نِفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ وَتَخْشَى الناس والله أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وما كان لمؤمن ولا مؤمنةٍ‏}‏ أي‏:‏ ما صحّ لرجل مؤمن، ولا امرأة مؤمنة، ‏{‏إِذَا قضى اللهُ ورسولُه أمراً‏}‏ من الأمور ‏{‏أن يكون لهم الخِيرَةُ من أمرهم‏}‏ أي‏:‏ أن يختاروا من أحدهم شيئاً، بل الواجب عليهم أن يجعلوا رأيهم تبعاً لرأيه، واختيارهم تلواً لاختياره‏.‏

نزلت في زينب بنت جحش، وأخيها عبد الله بن جحش‏.‏ وكانت زينب بنت أميمةَ بنت عبد المطلب، عمة النبي صلى الله عليه وسلم، فخطبها عليه الصلاة والسلام لمولاه زيد بن حارثة، فلما خطبها، ظنت أنه يخطبها لنفسه، فرضيت، فلما علمت أنه خطبها لزيد كرهت وأبت، وقالت‏:‏ أنا أم نساء قريش، وابنة عمتك، فلم أكن أرضه لنفسي، وكذلك قال أخوها‏.‏ وكانت بيضاء جميلة، وكان فيها بذاذة، فأنزل الله الآية، فأعلمهم أنه لا اختيار لهم على ما قضى اللهُ ورسولُه‏.‏ فلما نزلت الآية إلى قوله‏:‏ ‏{‏مبيناً‏}‏ قالت‏:‏ رضيتُ يا رسول الله، وجعلت أمرها بيد النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك أخوها، فأنكحها صلى الله عليه وسلم زيداً، فدخل بها، وساق إليها النبي صلى الله عليه وسلم عشرة دنانير، وستين درهماً، وملحفة، ودرعاً، وإزاراً، وخمسين مدًّا من طعام، وثلاثين صاعاً من تمر‏.‏ وقيل نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي مُعَيط، وكانت من أول مَن هاجر من النساء، فوهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فقبلها، وقال‏:‏ زوجتها من زيد، فسخطت هي وأخوها، وقالا‏:‏ إنما أردنا النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فنزلت‏.‏ والأول أصح‏.‏

وإنما جمع الضمير في «لهم»، وكان من حقه أن يُوحَّد؛ لأن المذكورين وقعا نكرة في سياق النفي، فعمَّا كل مؤمن ومؤمنة، فرجع الضمير إلى المعنى، لا إلى اللفظ‏.‏ والخيرة‏:‏ ما يُتخير، وفيه لغتان‏:‏ سكون الياء، وفتحها، وتؤنث وتذكَّر باعتبار الفعل؛ لمجاز تأنيثها‏.‏

‏{‏ومن يَعْصِ اللهَ ورسولَه‏}‏ فيما اختار وقضى ‏{‏فقد ضلَّ ضلالاً مبيناً‏}‏ بيِّن الانحراف عن الصواب‏.‏ فإن كان العصيانُ عصيانَ رد وامتناع عن القبول فهو ضلال كفر، وإن كان عصيانَ فعلٍ، مع قبول الأمر، واعتقاد الوجوب، فهو ضلال فسق‏.‏

ثم إن زينب مكثتْ عند زيد زماناً، فأتى عليه الصلاة والسلام ذات مرة دار زيد، لحاجة، فأبصرها في درع وخمار، فوقعت في نفسه، وذلك لِمَا سبق في علم الله من كونها له‏.‏

فقال‏:‏ «سبحان مقلِّب القلوب»، وكانت نفسه قبل ذلك تنفر منها، لا تُريدها، فانصرف، وسمعت زينب بالتسبيحة، فذكرتها لزيد، ففَطِنَ، وأُلقي في نفسه كراهيتُهَا والرغبة عنها في الوقت، وقال‏:‏ يا رسول الله؛ إني أُريد فراق صاحبتي‏؟‏ فقال‏:‏ «ما لك، أَرَابَكَ منها شيء‏؟‏» فقال‏:‏ لا والله، ما رأيت منها إلا خيراً، إلا أنها تتعظم عليَّ، لشرفها، وتؤذيني بلسانها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أمسك عليك زوجك واتقِ الله»‏.‏

وهذا معنى قوله‏:‏ ‏{‏وإِذ تقول للذي أنْعَمَ اللهُ عليه‏}‏ بالإسلام الذي هو من أجلّ النعم ‏{‏وأنْعَمْتَ عليه‏}‏ بالإعتاق والتبني، فهو متقلب في نعمة الله ونعمة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو زيد بن حارثة‏:‏ ‏{‏أمسِكْ عليك زوجك‏}‏ زينب، ‏{‏واتقِ اللهَ‏}‏ فلا تطلقها، وهو نهي تنزيه، أو‏:‏ اتقِ الله، فلا تذمها بالنسبة إلى الكِبْر وأذى الزوج، ‏{‏وتخفي في نفسك ما الله مُبْديهِ‏}‏ أي‏:‏ تُخفي في نفسك نكاحها إن طلقها زيد، وقد أبداه الله وأظهره، وقيل‏:‏ الذي أخفاه في نفسه‏:‏ تعلُّق قلبه بها، ومودة مفارقة زيد إياها‏.‏

قال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي‏:‏ والصواب أن المعنى‏:‏ وتُخفي في نفسك ما اطلعت عليه؛ من مفارقة زيد لها، وتزوجك إياها بعده، فإن هذا هو الذي أبداه سبحانه وأظهره بعد ذلك‏.‏ وأما قوله‏:‏ ‏{‏وتخشى الناسَ واللهُ أحقُّ أن تخشاه‏}‏ فإنما يعني به الحياء من الناس في أن يقابلهم بما يسوؤهم، وهو إخبار زيد بما أطلعه الله عليه من صيرورة زوجته زينب له، بعد مفارقة زيد لها، لأنه لم يؤمر بإفشاء ذلك، وإلا لبلَّغ من غير رَوية ولا حشمة، سالكاً في ذلك سُنَّة مَن خلا قبله من الأنبياء، الذين لا يخشون في التبليغ أحداً إلا الله‏.‏

وقال القشيري‏:‏ أي‏:‏ تخشى عليهم أن يقعوا في الفتنة في قصة زيد ‏[‏والفتنة التي يقعون فيها هي ظنهم أنه عليه الصلاة والسلام عشقها، وأمره بطلاقها‏]‏ وكانت تلك الخشية إشفاقاً منه عليهم، ورحمة لهم ألا يُطيقوا سماع هذه الحالة، بأن يخطر ببالهم ما ليس في وسعهم‏.‏ وأما قوله‏:‏ ‏{‏أمسك عليك‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية مع علمه بما يؤول إليه الأمر في العاقبة، بما أطلعه الله عليه من فراقه لها فإقامة الشريعة‏.‏ ه‏.‏ ملخصاً‏.‏

وفي الوجيز‏:‏ ‏{‏وتخشى الناس‏}‏ أي‏:‏ تكره مقالة الناس لو قلت طَلِّقْها، فيقال‏:‏ أمر رجلاً فطلّق امرأته ثم تزوجها‏.‏ وقد نقل في نوادر الأصول عن عليّ بن الحسين‏:‏ أن الله أعلم نبيه أنها تكون من أزواجه، فأخفى ذلك‏.‏ فلما جاء زيد يشكوها؛ قال له‏:‏ اتقِ الله، وأمسك عليك زوجك، قال‏:‏ فعليُّ بن حسين جاء بها من خزانة العلم، جوهراً من الجواهر، ودرًّا من الدرر، وأنه إنما عتب الله عليه في أنه قد أعلمه، ثم قال بعد ذلك لزيد‏:‏ أمسك‏.‏

‏.‏ رعاية لِما يقال، وتركاً لتدبير الله، مع كونه أحق بالرعاية، وكيف، وفي ذلك تشريع لئلا يكون على المؤمنين حرج وضيق فيما فرض الله له فيما أعلمه‏.‏ ثم قال‏:‏ والحاصل أنه عليه الصلاة والسلام لم يلمّ بخطيئة، بدليل أنه لم يؤمر بتوبة ولا استغفار، وإنما أخبره بما أضمر في نفسك، خشية افتتان الغير، والله أحق أن يخشى، بأن يبتهل إليه؛ ليزيل عنهم ما يخشى فيهم‏.‏

قال ابن عرفة‏:‏ الصواب‏:‏ أن ما أخفاه في نفسه هو‏:‏ أن الله أخبره أن سيتزوجها‏.‏ وما قاله ابن عطية لا يحل أن يقال، لأنه تنقيص لم يرد في حديث صحيح‏.‏ وإنما ذكره المفسرون‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ إنما يكون تنقيصاً إذا كان ذلك الواقع في القلب ثابتاً، وأما إن كان خاطراً مارًّا فلا نقص؛ إذ ليس في طوق البشر؛ لأنه من أوصاف العبودية، بل الكمال في دفعه بعد هجومه‏.‏

ثم قال ابن عرفة، على قوله‏:‏ ‏{‏وتخشى الناس‏}‏ هو تمهيد لعذره، وإن كان لمجرد أمر الله له بذلك، ولا ينبغي حمله على أنه خاف الناس فقط‏.‏ بل المراد‏:‏ عتابه على خلط خوفه من الله بخوفه من الناس، وأَمَرهُ ألا يخاف إلا من الله فقط، خوفاً غير مشوب بشيء‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ إذا فسرنا الخشية بالحياء لا يحتاج إلى هذا التعسُّف، مع أن الخوف من الخَلْق مذموم، وحده أو مع خوف الله، والنبي صلى الله عليه وسلم منزَّه عن ذلك، أي‏:‏ تستحي من الناس أن يقولوا‏:‏ نكح امرأة ابنه، وكان عليه الصلاة والسلام أشد الناس حياء من العذراء في خدرها‏.‏ والحياء ممدوح عند الخاص والعام‏.‏ وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله أحقُّ أن تخشاه‏}‏ فتنبيه على أن الحياء في بعض المواضع تركه أَولى، فهو ترقية له، وتربية لوقت آخر‏.‏ أو‏:‏ وتخشى أن يفتتن الناس بذلك، والله أرحم بهم من غيره، فالله أحق أن تَخشى، فتبتهل إليه في زوال ذلك عنهم‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ في الآية الأولى حث على التفويض وترك الاختيار، مع ما أمر به الواحد القهّار‏.‏ وفي الحِكَم‏:‏ «ما ترك من الجهل شيئاً مَن أراد أن يظهر في الوقت غير ما أظهر الله»‏.‏ فالواجب على العبد أن يكون في الباطن مستسلماً لقهره، وفي الظاهر متمثلاً لأمره، تابعاً لسُنَّة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولِمَا يُوجب رضاه ومحبته‏.‏ وفي الآية الثانية تنبيه على أن خواص الخواص يُعاتبون على ما لا يُعاتب عليه الخواص‏.‏ والخواص، يُعاتبون على ما لا يعاتب عليه العوام، فكلما علا المقام، واشتد القرب، اشتدت المطالبة بالأدب، ووقع العتاب على أدنى ما يخل بشيء من الأدب، على عادة الوزراء مع الملك‏.‏ وذلك أمر معلوم، مذوق عند أهل القلوب‏.‏

وبالله التوفيق‏.‏

ثم ذكر تزوجه عليه الصلاة والسلام لزينب بعد مفارقة زيد، فقال‏:‏

‏{‏فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ في أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً مَّا كَانَ عَلَى النبي مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ الله لَهُ سُنَّةَ الله فِي الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ الله قَدَراً مَّقْدُوراً الذين يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ الله وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ الله وكفى بالله حَسِيباً‏}‏‏.‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏فلما قضى زيدٌ منها وَطَراً‏}‏ حاجة، بحيث ملَّها ولم تبقَ له فيها حاجة‏.‏ والوطر‏:‏ الحاجة، فإذا بلغ البالغ حاجته من شيء له فيه همّة، يقال‏:‏ قضى منه وطراً، أي‏:‏ فلما قضى حاجته منها، وطلقها، وانقضت عدّتها، ‏{‏زوجناكَها‏}‏‏.‏ رُوي أنها لما اعتدت قال عليه الصلاة والسلام لزيد‏:‏ «ما أجد أحداً أوثقُ في نفسي منكَ، ايت زينبَ فاخطبها لي» قال زيدٌ‏:‏ فأتيتُها وولَّيتُها ظهْرِي، إعظاماً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وقلت‏:‏ يا زينبُ إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم يخطبُك، فَفَرحَتْ، وقالت‏:‏ ما أنا بصانعةٍ شيئاً حتى أؤامِرَ ربِّي، فقامت إلى مسجدها، فنزَلَ القرآنُ‏:‏ ‏{‏فلما قضى زيد‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، فتزوجها عليه الصلاة والسلام، ودخل بها حينئذ، ومَا أوْلَمَ على امْرأةٍ ما أوْلَمَ عليها، ذبح شاةٍ، وأطعمَ الناسَ الخبزَ واللحمَ حتى امتد النهار‏.‏

وقيل‏:‏ زوّجه الله تعالى إياها بلا واسطة عقد، ويؤيده‏:‏ أنها كانت تقول لسائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن الله زوجني من فوق سبع سماوات، وأنتن زوَّجَكُنَّ أولياؤكُنَّ‏.‏ وكانت تقول للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إني لأدُلّ عليك بثلاث، ما من نسائك امرأة تدِل عليك بهنّ‏:‏ جدّي وجدّك واحد، وإياي أنكحك الله من السماء، وإن السفير لي جبريل‏.‏

ثم علل تزويجه إياها، فقال‏:‏ ‏{‏لكيلا يكون على المؤمنين حرجٌ في أزواج أدعيائهم‏}‏ الذين يتبنونهم ‏{‏إِذا قَضَوْا منهنَّ وَطَراً‏}‏ قال الحسن‏:‏ ظنت العرب أن حُرمة المتبني مشتبكة كاشتباك الرحم، فبيّن اللهُ تعالى الفرق بينهما، وأن حلائل الأدعياء غير محرمة‏.‏ وليست كحلائل أبناء الصلب‏.‏ قال البيضاوي‏:‏ وفيه دليل على أن حكمه وحكم الأَمة واحد، إلا ما خصّه الدليل‏.‏ ه‏.‏ ‏{‏وكان أمرُ اللهِ‏}‏ الذي يريد أن يكونه ‏{‏مفعولاً‏}‏ مكوناً لا محالة، كما كان تزويج زينب‏.‏

‏{‏ما كان على النبيّ من حرجٍ فيما فَرَضَ اللهُ له‏}‏ أي‏:‏ حلّ له، أو‏:‏ قسم له، من قولهم‏:‏ فرض له في الديوان كذا، وفروض العساكر، لأرزاقهم‏.‏ أي‏:‏ لا حرج على النبي فيما حلّ له وأمر به، كتزويج زينب، أو‏:‏ قسم له من عدد النساء بلا حدّ، ‏{‏سُنَّة الله‏}‏ مصدر مؤكد لِما قبله من قوله‏:‏ ‏{‏ما كان على النبي من حرج‏}‏ أي‏:‏ سُنَّ ذلك سُنَّة في الأنبياء الماضين، وهو‏:‏ ألا حرج عليهم في الإقدام على ما أحلّ لهم ووسع عليهم في باب النكاح وغيره‏.‏

وكانت تحتهم المهائر والسراري، وكانت لداود عليه السلام مائة امرأة، وثلاثمائة سُرِّية‏.‏ ‏{‏في الَّذين خَلَواْ مِن قبلُ‏}‏ في الأنبياء الذين مضوا من قبله، ‏{‏وكان أمرُ الله قَدَراً مقدوراً‏}‏ أي‏:‏ قضاءً مقضياً، وحكماً مثبوتاً مبرماً، لا مرد له‏.‏

‏{‏الذين يُبلِّغون رسالاتِ الله‏}‏ هو صفة ل ‏{‏الذين خلوا من قبل‏}‏، أو‏:‏ بدل منه، أو‏:‏ مدح لهم منصوب، أو‏:‏ مرفوع، أي‏:‏ هم الذين، أو‏:‏ أعني الذين يُبلغون رسالات الله، ‏{‏ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله‏}‏ ونبينا صلى الله عليه وسلم من جملتهم ومن أشرافهم، ‏{‏وكفى بالله حسيباً‏}‏ للمخاوف، أو‏:‏ محاسباً، فينبغي ألا يُخشى إلا منه تعالى‏.‏

الإشارة‏:‏ إذا تمكن العبدُ مع مولاه وتحققت محبته فيه، كانت حوائجه مقضية، وهمته كلها نافذة، إذا اهتم بشيء، أو خطر على قلبه شيء، مكّنه الله منه، وسارع في قضائه، كما فعل مع حبيبه، حين خطر بباله تزوج زينب، أعلمه أنه زوَّجه إياها‏.‏ وأهل مقام الفناء جُلهم في هذا المقام، إذا اهتموا بشيء كان، إذا ساعدتهم المقادير، وإلا فسوابقُ الهمم لا تخرق أسوارَ الأقدار، ولذلك قال هنا‏:‏ ‏{‏وكان أمر الله مفعولاً‏}‏، ‏{‏وكان أمر الله قَدَراً مقدُوراً‏}‏‏.‏ وصفة أهل الهمم القاطعة‏:‏ أنهم لا يخافون إلا الله، ولا يخشون أحداً سواه، لا يخافون في الله لومة لائم، ذِكْرُهم لله دائم، وقلبُهم في الحضرة هائم‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ‏(‏40‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ما كان محمدٌ أَبَا أحدٍ من رجالكم‏}‏ أي‏:‏ لم يكن أبا رجل منكم حقيقة، حتى يثبت بينه وبينه ما يثبت بين الأب وولده؛ من حرمة الصهر والنكاح، والمراد‏:‏ من رجالكم البالغين، وأما أولاده‏:‏ القاسم، والطيب، والطاهر، فماتوا قبل أن يكونوا رجالاً، وأما الحسن والحسين، فأحفاد، لا أولاد‏.‏ ‏{‏ولكن‏}‏ كان ‏{‏رسولَ اللهِ‏}‏ وكل رسول أبو أمته، فيما يرجع إلى وجوب التوقير والتعظيم له عليهم، ووجوب الشفقة والنصيحة لهم عليه، لا في سائر الأحكام الثابتة بين الآباء والأبناء‏.‏ وزيد واحد من رجالكم، الذين ليسوا بأولاد حقيقة، فكان حكمُه حكمهم‏.‏ والتبني من باب الاختصاص والتقريب، لا غير‏.‏ ‏{‏و‏}‏ كان أيضاً صلى الله عليه وسلم ‏{‏خاتمَ النبيين‏}‏ أي‏:‏ آخرهم الذي ختمهم، أو‏:‏ ختموا به على قراءة عاصم‏.‏ بفتح التاء، بمعنى‏:‏ الطابع، كأنه طبع وختم على مقامات النبوة، كما يختم على الكتاب لئلا يلحقه شيء‏.‏ فلا نبي بعده‏.‏ وعيسى ممّن نُبىء قبله، وحين ينزل ينزل عاملاً على شريعته صلى الله عليه وسلم، كأنه بعض أمته‏.‏ ومَن قرأ بكسر التاء، فمعناه‏:‏ فاعل الختم، كما قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «أنا خاتم النبيين فلا نبي بعدي» ويصح أن يكون بمعنى الطابع أيضاً؛ إذ فيه لغات؛ خاتِم بالفتح والكسر وخاتام، وخَيْتام‏.‏ ‏{‏وكان الله بكل شيءٍ عليماً‏}‏ فيعلم مَن يليق بأن يختم به النبوة، وكيف ينبغي شأنه‏.‏

الإشارة‏:‏ كان صلى الله عليه وسلم أبا الأرواح حقيقة؛ إذ الوجود كله ممتد من نوره، وأبا الأشباح باعتبار أنه السابق نوره‏.‏ فأول ما ظهر نوره عليه الصلاة والسلام ومنه امتدت الكائنات، فهو بذرة الوجود‏.‏ وسيأتي في قوله‏:‏ ‏{‏فَأَنَاْ أَوَّلُ الْعَابِدِينَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 81‏]‏ تتميم ذلك إن شاء الله‏.‏ ولم يكن أباً باعتبار تولُّد الصلب، وهو الذي نفاه الله تعالى عنه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 44‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ‏(‏41‏)‏ وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ‏(‏42‏)‏ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ‏(‏43‏)‏ تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا ‏(‏44‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا اذكروا اللهَ ذكراً كثيراً‏}‏ قياماً، وقعوداً، وعلى جنوبكم، قال ابن عباس‏:‏ ‏(‏لم يُعذَر أحد في ترك ذكر الله عزّ وجل إلا مَن غلب على عقله‏)‏‏.‏ وقال‏:‏ الذكر الكثير‏:‏ ألاَّ تنساه أبداً‏.‏ وروى أبو سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «أكْثِرُوا ذِكرَ اللهِ حتى يقولوا مجنونٌ»

والذكر أنواع‏:‏ تهليل، وتحميد، وتقديس، واستغفار، وتلاوة، وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقيل‏:‏ المراد‏:‏ ذكر القلوب، فإن الذكر الذي يمكن استدامته، هو ذكر القلب، وهو استدامة الإيمان والتوحيد‏.‏ وأمَّا ذكرُ اللسان فإن إدامته كالمتعذَر‏.‏ قاله القشيري‏.‏ ‏{‏وسبِّحوه‏}‏ أي‏:‏ نزِّهوه، أو‏:‏ قولوا‏:‏ سبحان الله وبحمده، ‏{‏بكرةً‏}‏ أول النهار ‏{‏وأصيلاً‏}‏ آخر النهار‏.‏ وخُصَّا بالذكر لأن ملائكة الليل وملائكة النهار يجتمعون فيهما‏.‏ وعن قتادة‏:‏ ‏(‏قولوا‏:‏ سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله‏)‏‏.‏ أو‏:‏ الفعلان أي‏:‏ ‏{‏اذكروا‏}‏ و‏{‏سبّحوه‏}‏ موجهان إلى البُكرة والأصيل، كقولك‏:‏ صم وصلِّ يوم الجمعة‏.‏ والتسبيح من جملة الذكر، وإنما اختص من بين أنواعه إبانةً لفضله؛ لأن معناه‏:‏ تنزيه ذاته عما لا يجوز عليه من الصفات‏.‏ ويجوز أن يراد بالذكر وإكثاره‏:‏ تكثير الطاعات والعبادات، فإنها من جملة الذكر، ثم خصّ من الذكر التسبيح بكرة، وهي صلاة الفجر، وأصيلاً، وهي صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء، أو‏:‏ صلاة الفجر والعشاءين‏.‏

‏{‏هو الذي يُصلي عليكم وملائكتُه‏}‏ لمّا كان من شأن المصلي أن ينعطف في ركوعه وسجوده استعير لمَن ينعطف على غيره، حُنواً عليه، كحنو المرأة على ولدها‏.‏ ثم كثر، حتى استعمل في الرحمة والترؤف، ومنه قولهم‏:‏ صلى الله عليك، أي‏:‏ ترحّم عليك وترأف‏.‏ فإن قلت‏:‏ صلاة الله غير صلاة الملائكة، فكيف اشتركا في العطف‏؟‏ قلت‏:‏ لاشتراكهما في قدر مشترك، وهو إرادة وصول الخير إليهم، إلا أنه منه تعالى برحمته، ومن الملائكة بالدعاء والاستغفار‏.‏

وذكر السدي‏:‏ أن بني إسرائيل قالت لموسى عليه السلام‏:‏ أيُصلي ربنا‏؟‏ فكَبُر هذا الكلام على موسى عليه السلام، فأوحى الله إليه‏:‏ أن قل لهم‏:‏ إني أُصلي، وإنَّ صلاتي رحمتي، وقد وَسِعَتْ كل شيء‏.‏ وفي حديث المعراج‏:‏ «قلت‏:‏ إلهي؛ لَمَّا لحقني استيحاش قبل قدومي عليك، سمعت منادياً يُنادي بلغة، تُشبه لغةَ أبي بكر، فقال‏:‏ قف، إن ربك يصلي، فعجبت من هاتين، هل سبقني أبو بكر إلى هذا المقام، وإن ربي لغنيٌّ عن أن يصلِّي‏؟‏ فقال تعالى‏:‏ أنا الغني عن أن أُصلّي لأحد، وإنما أقول‏:‏ سبحاني، سبقت رحمتي غضبي‏.‏ اقرأ يا محمد‏:‏ ‏{‏هو الذي يُصلِّي عليكم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، فصلاتي رحمة لك ولأمتك‏.‏ ثم قال‏:‏ وأما أمر صاحبك، فخلقت خلقاً على صورته، يُناديك بلغته، ليزول عنك الاستيحاش، لئلا يلحقك من عظيم الهيبة ما يقطعك عن فهم ما يراد منك»‏.‏

والمراد بصلاة الملائكة‏:‏ قولهم‏:‏ اللهم صَلّ على المؤمنين‏.‏ جُعلوا لكون دعائهم بالرحمة مستجاباً كأنهم فاعلون الرحمة‏.‏ والمعنى‏:‏ هو الذي يترحّم عليكم ويترأف، حيث يدعوكم إلى الخير، ويأمركم بإكثار ذكره، ويأمر ملائكته يترحّمون عليكم، ويستغفرون لكم، ليقربكم، ويخصكم بخصائص ليست لغيركم‏.‏ بدليل‏:‏ ‏{‏ليُخرجكم من الظلمات إلى النور‏}‏ من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، ثم من ظلمات المعاصي إلى نور الطاعة، ثم من ظلمات الغفلة إلى نور اليقظة، ثم من ظلمات الحجاب إلى نور العيان‏.‏ وقيل‏:‏ يُصَلِّي عليكم‏:‏ يشيع لكم الذكر الجميل في عباده‏.‏

‏{‏وكان‏}‏ الله ‏{‏بالمؤمنين رحيماً‏}‏ قد اعتنى بصلاح أمرهم، وإثابة أجرهم، واستعمل في خدمتهم ملائكتَه المقربين، وهو دليل على أن المراد بالصلاة‏:‏ الرحمة، حيث صرَّح بكونه رحيماً بهم‏.‏ قال أنس‏:‏ لمّا نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله وملائكته يصلون على النبي‏}‏ قال أبو بكر‏:‏ يا رسول الله ما خصك الله بشريف إلا وقد اشتركنا فيه، فأنزل قوله‏:‏ ‏{‏هو الذي يُصلي عليكم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ‏.‏

‏{‏تحيتُهم‏}‏ أي‏:‏ تحية الله لهم، فهو من إضافة المصدر إلى مفعوله، ‏{‏يوم يَلْقونه‏}‏ عند الموت‏.‏ قال ابن مسعود‏:‏ إذا جاء ملك الموت لقبض روح المؤمن، قال‏:‏ ربك يُقرئك السلام‏.‏ أو‏:‏ يوم الخروج من القبور، تُسلِّم عليهم الملائكة وتُبشرهم‏.‏ أو‏:‏ يوم يرونه في الجنة، ‏{‏سلامٌ‏}‏ يقول الله تبارك وتعالى‏:‏ «السلام عليكم يا عبادي، هل رضيتم‏؟‏ فيقولون‏:‏ وما لنا لا نرضى يا ربنا وقد أعطيت ما لم تُعط أحداً من العالمين‏.‏ فيقول لهم‏:‏ أعطيكم أفضل من ذلك، أُحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم أبداً» كما في البخاري‏.‏ وفي رواية غيره‏:‏ يقول تعالى‏:‏ «السلام عليكم، مرحباً بعبادي الذين أرضوني باتباع أمري» هو إشارة إلى قوله‏:‏ ‏{‏سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 73‏]‏‏.‏ ‏{‏وأعدَّ لهم أجراً كريماً‏}‏ يعني الجنة وما فيها‏.‏

الإشارة‏:‏ قال القشيري‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اذكروا الله ذكراً كثيراً‏}‏ الإشارة فيه‏:‏ أَحِبُّوا الله لقوله عليه الصلاة والسلام «مَنْ أحبَّ شيئاً أكثَرَ من ذكره» فيُحب أن يقول‏:‏ الله، ولا ينسَ اللهَ بعد ذكر الله‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ لأن ذكر الله عنوان محبته، ومنار وصلته، وهو الباب الأعظم في الدخول إلى حضرته، ولله در القائل‏:‏

الذكر عمدة لكل سالك *** تنورت بنوره المسالك

هو المطية التي لا تنتكب *** ما بعدها في سرعة الخُطا نُجُب

به القلوب تطمئن في اليقين *** ما بعده على الوصالِ من معين

به بلوغ السالكين للمُنى *** به بقاء المرء مِن بعد الفنا

به إليك كل صعب يسهل *** به البعيد عن قريب يحصل

فهو أقوى سبب لديكَ *** وكلُّهُ إليك، لا عليك

فكل طاعة أتى الفتى بها *** هو أساسها، كذاك سَقفها

ووحدَه يفوق كل طاعه *** كما أتى عن صاحب الشفاعهْ

كَفى بفضله لدا البيان *** ذهابه بالسهو والنسيان

إذا ذكرتَ مَن له الغنى العظيم *** لديك يصغرُ الفقير يا نديم

عليه دُمْ حتى إذا تجوهرا *** بسره الفؤاد كلّ ما ترى

ترى به المذكور دون ستر *** وقد علا الإدراك درك الفكر

به الحبيب في الورى تجلّى *** به السِّوى عن الحِجا تولى

به تمكن المريد في الفنا *** حتى يصيرَ قائلاً أنا أنا

به رجوعه إلى العبادة *** به التصرُّف الذي في العادهْ

تالله لو جئتُ بكل قول *** ما جئتكم بما لَهُ من فضل

اه‏.‏

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «سَبَق المُفَرِّدُونَ»، قيل‏:‏ مَن المفرِّدون يا رسول الله‏؟‏ «قال‏:‏ المُسْتَهْتَرُون بذِكْرِ الله، يَضَعُ الذِّكرُ عنهم أثقالَهُمْ، فيَردُون يَوْمَ القيامةِ خِفَافاً» وسئل صلى الله عليه وسلم‏:‏ أيّ المجاهدين أعظمُ أجراً‏؟‏ قال‏:‏ «أكثرهم لله تبارك وتعالى ذِكْراً» قيل‏:‏ فأي الصالحين أعظم أجراً‏؟‏ قال‏:‏ «أكثرهم لله تبارك وتعالى ذِكْراً» ثم ذَكَرَ الصلاة والزكاة والحج والصدقة، كل ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «أكثرهم لله تبارك وتعالى ذكراً» فقال أبو بكر لعمرَ‏:‏ يا أبا حفصٍ؛ ذهب الذاكرون بكل خيرٍ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أجل» رواه أحمد والطبراني‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هو الذي يُصلي عليكم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ قال الورتجبي‏:‏ صلوات الله‏:‏ اختياره العبدَ في الأزل لمعرفته ومحبته، فإذا خصَّه بذلك جعل زلاته مغفورة، وجعل خواص ملائكته مستغفرين له، لئلا يحتاج إلى الاستغفار بنفسه عن اشتغاله بالله ومحبته، وبتلك الصلاة يُخرجهم من ظلمات الطبع إلى نور المشاهدة، وهذا متولد من اصطفائيته الأزلية ورحمته الكافية القدسية‏.‏ ألا ترى إلى قوله‏:‏ ‏{‏وكان بالمؤمنين رحيماً‏}‏ أي‏:‏ قبل وجودهم، حيث أوجدهم، وهداهم إلى نفسه، بلا سبب ولا علة‏.‏ ثم قال عن ابن عطاء‏:‏ أعظم عطية للمؤمن في الجنة‏:‏ سلام الله عليهم من غير واسطة‏.‏ ه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تحيتهم يوم يلقونه سلام‏}‏ قال القشيري‏:‏ التحيةُ إذا قُرِنَتْ بالرؤية، واللقاءُ إذا قُرن بالتحية، لا يكون إلا بمعنى رؤية البصر، والتحية‏:‏ خطاب يُفاتح بها الملوك، أخبر عن عُلُوِّ شأنهم، فهذا السلام يدلّ على علو رتبتهم‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 48‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ‏(‏45‏)‏ وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا ‏(‏46‏)‏ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا ‏(‏47‏)‏ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ‏(‏48‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ «شاهداً»‏:‏ حال مقدرة، كمررت برجل معه صقر صائداً به غداً‏.‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يا أيها النبيُّ إِنَّا أرسلناك شاهداً‏}‏ على مَن بُعثتَ إليهم، على تصديقهم وتكذيبهم، أي‏:‏ مقبولاً قولك عند الله، لهم وعليهم، كما يُقبل قول الشاهد العدل في الحكْم، ‏{‏ومبشراً‏}‏ للمؤمنين بالنعيم المقيم، ‏{‏ونذيراً‏}‏ للكافرين بالعذاب الأليم، ‏{‏وداعياً إِلى الله‏}‏ إلى الإقرار بربوبيته، وتوحيده، وما يجب الإيمان به، من صفاته، ووعده، ووعيده، ‏{‏بإِذْنِهِ‏}‏ بأمره، أو‏:‏ بتيسيره‏.‏ وقيّد به الدعوى إيذاناً بأنه أمر صعب، لا يتأتى إلا بمعونةٍ من جناب قدسه، ‏{‏وسِراجاً منيراً‏}‏ يُستضاء به في ظلمة الجهالة، وتُقتبس من نوره أنوار الهداية، قد جلى به الله ظلمات الشرك، واهتدى به الضالون، كما يجلى ظلام الليل بالسراج المنير، ويهتدى به‏.‏ وقيل‏:‏ المراد به القرآن، فيكون التقدير‏:‏ وذا سراج‏.‏ ووُصف بالإنارة؛ لأن من السُرج مَن لا يضيء جدًّا إذا قلّ سَلِيطُه، أي‏:‏ زيته ورقَّت فتيلته‏.‏ أو‏:‏ شاهداً بوحدانيتنا، ومبشراً برحمتنا، ونذيراً بنقمتنا، وداعياً إلى عبادتنا، وسراجاً تُنير الطريقَ إلى حضرتنا‏.‏

‏{‏وَبَشِّرِ المؤمنينَ بأن لهم من اللهِ فضلاً كبيراً‏}‏ ثواباً عظيماً، يربو على ثواب سائر الأمم‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «مثَلُكمْ ومَثَلُ اليهود والنصارى كمَن استأجر عُمالاً إلى آخر اليوم، فعَمِلَتِ اليهودُ إلى الظهر، ثم عجزوا، ثم عملت النصارى إلى العصر، فعجزوا، ثم عملتم إلى آخر النهار، فاستحققتم أجر الفريقين، فغضبت اليهود والنصارى، وقالوا‏:‏ نحن أكثر عملاً، وأقلّ أجراً، فقال لهم الله تعالى‏:‏ هل ظلمتكم من حقكم شيئاً‏؟‏ قالوا‏:‏ لا، قال‏:‏ فذلك فضلي أُوتيه مَن أشاء» وفي رواية‏:‏ «أنهم عملوا إلى الظهر، أو العصر‏.‏ وقالوا‏:‏ لا حاجة لنا بأجرك، فبطل أجر الفريقين» وهذا في حق مَن أدرك الإسلام منهم ولم يؤمن‏.‏ والحديث في الصحيح‏.‏ نقلته بالمعنى‏.‏

قال البيضاوي‏:‏ ولعله معطوف على محذوف، أي‏:‏ فراقب أمتك وبشِّرهم‏.‏ ه‏.‏

‏{‏ولا تُطع الكافرين والمنافقين‏}‏ أي‏:‏ دُم على مخالفتهم، وهو تهييج وتنفير عن حالهم، ‏{‏ودَعْ أذاهم‏}‏ أي‏:‏ لا تلتفت إليه، ولا تحتفل بشأنه‏.‏ وهو من إضافة المصدر إلى الفاعل، أي‏:‏ اجعل إيذائهم إياك في جانب، وأنت في جانب، ولا تُبال بهم، ولا تخفْ من إيذائهم‏.‏ أو‏:‏ إلى المفعول، أي‏:‏ دع إيذاءك إياهم مجازاةً ومؤاخذة على كفرهم‏.‏ ولذلك قيل‏:‏ إنه منسوخ‏.‏ ‏{‏وتوكلْ على اللهِ‏}‏ فإنه يكفيكهم، ‏{‏وكفى بالله وكيلاً‏}‏ موكولاً عليه، ومفوضاً إليه الأمر في الأحوال كلها، ولعله تعالى لَمّا وصفه بخمسة أوصاف، قابل كُلاًّ منها بخطاب مناسب له، فقابل الشاهد بقوله‏:‏ ‏{‏وبُشِّر المؤمنين‏}‏ لأنه يكون شاهداً عل أمته، وهم يكونون شهداء على سائر الأمم، وهو الفضل الكبير، وقابل المبشِّر بالإعراض عن الكافرين والمنافقين؛ لأنه إذا أعرض عنهم أقبل بكليته على المؤمنين، وهو مناسب للبشارة، وقابل النذير بدَعْ أذاهم؛ لأنه إذا ترك أذاهم في العاجل، والأذى له، لا بد له من عقاب عاجل أو آجل، كانوا منذرين به في المستقبل‏.‏

وقابل الداعي إلى الله بأمره بالتوكل عليه؛ لأن مَن توكل على الله يسَّر عليه كل عسير، فتسهل الدعوة، ويتيسر أمرها، وقابل السراج المنير بالاكتفاء به وكيلاً؛ لأن مَن أناره الله وجعله بُرهاناً على جميع خلقه كان حقيقاً بأن يَكتفي به عن جميع خلقه‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ قال الورتجبي‏:‏ إنا أرسلناك بالحقيقة شاهداً، أنت شاهِدُنا، شاهدناك وشهدت علينا، فألبستك أنوار ربوبيتي، فمَن شهدك بالحقيقة فقد شَهِدنَا‏.‏ قُلتُ‏:‏ لأن نوره صلى الله عليه وسلم أول نور ظهر من نور الحق، فمَن شَهِدَه شَهِدَ الحق‏.‏ ثم قال‏:‏ ومَن نظر إليك فقد نظر إلينا‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «فقد عرف الحق، ومَن رآني فقد رأى الحق» ثم قال‏:‏ ‏{‏وسراجاً منيراً‏}‏ أسرجت نورك من نوري، فتُنور بنوري عيون عبادي المؤمنين، فيأتون إليّ بنورك‏.‏ ثم أمره بأن يُبشر المؤمنين بأنهم يصلون إلى مشاهدته، بلا حجاب ولا عتاب‏.‏ ه‏.‏

قال القشيري‏:‏ يا أيها المُشَرَّفُ مِنْ قِبَلِنا؛ إنّا أرسلناك شاهداً بوحدانيتنا، ومبشراً، تُبشر عبادنا بنا، وتحذِّرُهم مخالفة أَمْرِنا، وتُعلمهم مواضع الخوف منا، وداعياً الخلق إلينا بنا، وسراجاً منيراً يستضيئون بك، وشمساً ينبسط شعاعك على جميع من صَدَّقَك وآمَنَ بك، ولا يصل إلينا إلا مَن اتَّبعكَ وخَدَمَك وقَدَّمك، ‏{‏وبَشِّر المؤمنين‏}‏ بفضلنا عليهم، ونَيْلِهم طَوْلَنا عليهم، وإحساننا إليهم‏.‏ ومَن لم تُؤثِر فيهم بركة إيمانهم بك؛ فلا قَدْرَ لهم عندنا‏.‏ ولا تُطع مَن أعرضنا عنه وأضللناه، من أهل الكفر والنفاق، وأهل البدع والشقاق، وتوكل على الله؛ بدوام الانقطاع إليه، وكفى باله وكيلاً‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا ‏(‏49‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إِذا نكحتُم المؤمناتِ‏}‏ أي‏:‏ تزوجتموهن‏.‏ والنكاح في الأصل‏:‏ الوطء، من‏:‏ تناكحت الأشجار‏:‏ إذا التصق بعضها ببعض‏.‏ وتسمية العقد نكاحاً مجاز؛ لملابسته له، من حيث إنه طريق إليه، كتسمية الخمر إثماً؛ لأنها سببه، ولم يَرد لفظ النكاح في كتاب الله إلا في معنى العقد؛ لأنه لو استعمل في الوطء لكان تصريحاً به، ومن آداب القرآن الكناية عنه بلفظ الملامسة، والمماسة، والقربان، والتغشي، والإتيان، تعليماً للأدب والحياء‏.‏ وفي تخصيص المؤمنات، مع أن الكتابيات تُساوي المؤمنات في هذا الحُكُم، إشارة إلى أن الأولَى للمؤمن أن ينكح المؤمنة، تخييراً للنطفة‏.‏ والمعنى‏:‏ إذا تزوجتم النساء ‏{‏ثم طلقتموهن مِن قَبْلِ أن تمسوهن‏}‏ تجامعوهن‏.‏ والخلوة الصحيحة كالمسّ، ‏{‏فما لكم عليهن من عِدَّةٍ تعتدُّونها‏}‏ أي‏:‏ تستوفون عددها، وتَعُدونها عليهن، من‏:‏ عددته الدراهم فاعتدها، كقوله‏:‏ كِلته الطعام فاكتاله‏.‏ والإسناد إلى الرجال للدلالة على أن العِدَّة تجب على النساء لحق الأزواج، كما يشعر به، ‏{‏فما لكم‏}‏ والإتيان ب «ثم» إزاحة ما عسى أن يتوهم أن تراخي الطلاق ربما يمكن الإصابة فتجب العدة‏.‏

‏{‏فمَتّعوهُنّ‏}‏ بشيء من المال، وهذا في المفوض لها قبل الفرض، وأما المفروض لها، أو المسمى صداقها، فتأخذ نصف مَهرها، ولا متعة لها على المشهور‏.‏ ‏{‏وسَرِّحوهن سَرَاحاً جميلاً‏}‏ أي‏:‏ لا تمسكوهنّ ضراراً، وأخرجوهن من بيوتكم؛ إذ لا عدة لكم عليهن‏.‏ قال القشيري‏:‏ ‏(‏سراحاً جميلاً‏)‏ لا تذكروهن بعد الفراق إلا بخير، ولا تستردوا منهن شيئاً، ولا تجمعوا عليهن سوء الحال والإضرار من جهة المال‏.‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ أيها المريدون؛ إذا طلقتم نفوسكم، وغبتم عنها بخمرةٍ قوية، من قَبل أن تمسوهن بمجاهدة ولا مخالفة، فمتعوها بالشهود، وسرحوا فكرتها في ذات المعبود، سَراحاً جميلاً، لا حجر فيه ولا حصر، فمن رزقه الله الغيبة عن نفسه، حتى غاب عن حظوظها وهواها، فقد كفاه الله قتالها، فيدخل الحضرة بلا مشقة ولا تعب، لكنه نادر، وعلى تقدير وجوده يكون ناقص التربية؛ لأنه يكون كمن طُويت له الطُرق للحج، فلا يعرفها كما يعرفها مَن سافر فيها، وكابد مشقتها، وعرف منازلها ومياهها، ووعرها وسهلها، ومخوفها ومأمونها، وكلهم أولياء لله تعالى، لكن طريق التربية أن يكون المريد سلك الطريقة، وقاس شدائد نفسه، وعالجها ليُعالج غيره بما يُعالج نفسه، على يد شيخ عارف بالطريق‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آَتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏50‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّها النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ‏}‏ مهورهن؛ إذ المهر أجر البضع، ولذا قال الكرخي من الحنفية‏:‏ إن النكاح بلفظ الإجارة جائز، والجواب أن التأبيد من شرط النكاح، والتأقيت من شرط الإجارة، وبينهما منافاة، وإيتاؤها‏:‏ إعطاؤها عاجلاً، أو فرضها في المفوض، وتسميته في المسمى‏.‏ والمراد بالأزواج المحلَّلة له عليه الصلاة والسلام‏:‏ نساؤه اللاتي في عصمته حينئذ، كعائشة وغيرها، وكان قد أعطاهن مهورهن، أو‏:‏ جميع النساء اللاتي يريدُ أن يتزوجهن، فأباح له جميع النساء‏.‏ وهذا أوسع‏.‏

‏{‏و‏}‏ أحللنا لك ‏{‏ما ملكت يمينُك‏}‏ من السّراري ‏{‏مما أفاءَ الله عليك‏}‏ من الغنائم، وهي صفية، أعتقها وتزوجها‏.‏ ‏{‏ونباتِ عمِّك وبناتِ عماتِك وبناتِ خَالِك وبنات خَالاتِك‏}‏ يعني قرابتك، التي من جهة أبيك، ومن جهة أمك‏.‏ وكان له عليه الصلاة والسلام أعمام وعمات، إخوة لأبيه، ولم يكن لأمه صلى الله عليه وسلم أخ ولا أخت، فإنما يعني بخاله وخالته‏:‏ عشيرة أمه، وهم بنو زهرة، ولذلك كانوا يقولون‏:‏ نحن أخوال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ فإذا قلنا‏:‏ المراد بقوله‏:‏ ‏{‏أحللنا لك أزواجك‏}‏ مَن كان في عصمته، فهذا عطف عليهن، وإباحة لأن يتزوج قرابته، زيادة على مَن كان في عصمته، وإذا قلنا‏:‏ المراد‏:‏ جميع النساء، فهذا تحديد لهن، على وجه التشريف، بعد دخولهن في العموم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏اللاتي هاجَرْنَ معك‏}‏ قيد في حلّية قرابته عليه الصلاة والسلام‏.‏ قالت أم هانىء‏:‏ خطبني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فاعتذرتُ إليه، فعَذَرَني، فأنزل الله هذه الآية، فلم أَحِلَ له؛ لأني لم أُهاجر معه، كنت من الطُلَقَاءِ‏.‏

و «مع» هنا‏:‏ ليست للاقتران، بل لوجود الهجرة فقط، كقوله‏:‏ ‏{‏وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 44‏]‏‏.‏

‏{‏و‏}‏ أحللنا لك ‏{‏امرأةً مؤمنةً إِن وهبت نفسَها للنبي‏}‏ من غير مَهر ولا عقد، فهو منصوب بفعل يُفسره ما قبله، أو‏:‏ عطف على ما سبقه، ولا يدفعه أن «التي» للاستقبال؛ لأن المعنى بالإحلال‏:‏ الإعلام بالحِلّ، أي‏:‏ أعلمناك حِلّ امرأة مؤمنة وهبت لك نفسها، ولا تطلب مهراً إن اتفق، ولذلك نكّرها‏.‏ واختلف في اتفاق ذلك، والقائل به ذكر أربعاً‏:‏ ميمونة بنت الحارث، حين جاءها الخاطب، قالت‏:‏ البعير وما عليه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتزوجها‏.‏ وزينب بنت خزيمة الأنصارية، أم المساكين، وتوفيت في حياته صلى الله عليه وسلم، وأم شريك بنت جابر الأسدية، وقيل‏:‏ أم شريك العامرية، قيل‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها، ولم يثبت ذلك‏.‏ ذكره ابن عبد البر‏.‏ وخولة بنت حكيم السُلَمية‏.‏ ذكر البخاري عن عائشة أنها قالت‏:‏ كانت خولة بنت حكيم من اللائي وهبن أنفسهن‏.‏

قال أبو نعيم‏:‏ تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يدخل بها‏.‏ قال السهيلي‏:‏ فدلّ أنهن كن غير واحدة‏.‏ والله أعلم‏.‏ ه‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ هو بيان حكم في المستقبل، ولم يكن عنده أحد منهن بالهبة، فانظره‏.‏

وقرأ الحسن بفتح «أن»، على حذف لام التعليل‏.‏ وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه بغير «إن» أي‏:‏ وأحللنا لك امرأة مؤمنة وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها، أي‏:‏ طلب نكاحها والرغبة فيها‏.‏ وقيل‏:‏ نكح واستنكح بمعنى واحد‏.‏ والشرط الثاني تقييد للأول، كأنه قال‏:‏ أحللنا لك امرأة إن وهبت نفسها، وأنت تريد أن تستنكحها، وإرادته هي‏:‏ قبول الهبة‏.‏

جعلنا ذلك ‏{‏خالصةً لك من دون المؤمنين‏}‏ بل يجب عليهم المهر، تسمية أو فرضاً‏.‏ وفيه إيذان بأنه مما خصّ به عليه الصلاة والسلام لشرف نبوته، وتقرير لاستحقاقه الكرامة‏.‏ قال ابن جزي‏:‏ وانظر كيف رجع من الغيبة إلى الخطاب؛ ليخص المخاطب وحده‏.‏ وقيل‏:‏ إن «خالصة» يرجع إلى كل ما تقدم من النساء المباحات له صلى الله عليه وسلم؛ لأن سائر المؤمنين قصّروا على أربع نسوة، وأبيح له عليه الصلاة والسلام أكثر من ذلك‏.‏ ومذهب مالك‏:‏ أن النكاح بلفظ الهبة لا ينعقد، خلافاً لأبي حنيفة‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ إن قرنه ذكر الصداق جاز، كما في المختصر‏.‏

و ‏(‏خالصة‏)‏‏:‏ مصدر مؤكد، أي‏:‏ خلُص إحلالها، أو‏:‏ إحلال ما أحللنا لك على القيود المذكورة خلوصاً لك‏.‏ أو‏:‏ حال من الضمير في ‏(‏وهبت‏)‏، أو‏:‏ صفة لمصدر محذوف، أي‏:‏ هبة خالصة لك‏.‏

‏{‏قد عَلِمْنَا ما فرضنا عليهم في أزواجهم‏}‏ أي‏:‏ ما أوجبنا من المهور على أمتك في زوجاتهم، أو‏:‏ ما أوجبنا عليهم في أزواجهم من الحقوق، كالنفقة وحسن المعاشرة، أو‏:‏ ما فرضنا عليهم من الاقتصار على الأربع، أو‏:‏ ما أوجبنا عليهم من الإشهاد والولي، ‏{‏وما ملكت أيمانُهم‏}‏ بالشراء وغيره من وجوه الملك، فقد علمنا ما فرضنا عليهم من الإنفاق والرفق، وألا يكلفوهن ما لا طاقة لهن به، مع حلية الوطء، ولو تعددن‏.‏ وإنما وسَّعنا عليك في أمر النساء ‏{‏لِكَيْلاَ يكونَ عليك حرجٌ‏}‏ ضيق، وهو راجع لقوله‏:‏ ‏{‏خالصة لك من دون المؤمنين‏}‏ والجملة من قوله‏:‏ ‏{‏قد علمنا ما فرضنا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ‏:‏ اعتراضية؛ للدلالة على أن الفرق بينه وبين المؤمنين في نحو ذلك ليس لمجرد التوسيع عليه، بل لمعان تقتضي التوسيع عليه والتضييق عليهم تارة، والعكس أخرى، كنكاح الكتابية والأَمة، فتحرمان عليه صلى الله عليه وسلم دون أُمته‏.‏ ‏{‏وكان الله غفوراً رحيماً‏}‏ بالتوسعة على عباده، أو‏:‏ غفوراً لما يُعسر التجرُّد عنه، رحيماً بالتوسعة في مظان الحرج‏.‏

الإشارة‏:‏ قد وسَّع الله على خواصه في باب النكاح، وأمدّهم في ذلك بالقوة، وأعطاهم من الباءة ما لم يُعط غيرهم، تشريفاً وترغيباً في هذا الأمر، لإبقاء النسل الطيب، ولِما فيه من التوسعة في المعرفة، وحسن الخلق، وتعلم السياسة، فدلّ ذلك أن كثرة النساء لا يُنافي الزهد، ولا يقدح في كمال المعرفة، بل يزيد فيها‏.‏

قال الإمام ابن منصور المقدسي، في شرح منازل السائرين في باب الزهد‏:‏ ومتعلق الزهد ستة أشياء، لا يستحق العبد اسم الزهد حتى يزهد فيها، وهي‏:‏ المال، والرئاسة، والناس، والنفس، وكل ما دون الله‏.‏ وليس المراد رفضها عن الملِك، فقد كان داود وسليمان عليهما السلام من أزهد أهل زمانهما، ولهما من المُلك والنساء والمِلك ما لهما‏.‏ وكان نبينا صلى الله عليه وسلم أزهد البشر على الإطلاق، وله تسع نسوة، وكان عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير، وعثمان رضوان الله عليهم من الزهّاد، مع ما لهم من الأموال أي‏:‏ والنساء فكان لعليّ رضي الله عنه أربع حرائر، وسبعة عشر سرية، ولعبد الرحمن بن عوف والزبير أربع أربع، ولعثمان كذلك‏.‏ وتزوج المغيرة بن شعبة تسعاً وتسعين امرأة‏.‏ ثم قال‏:‏ وكان الحسن بن عليّ رضي الله عنهما من الزهّاد، مع أنه كان من أكثر الأمة محبة للنساء ونكاحهن‏.‏ ثم قال‏:‏ ومن أحسن ما قيل في الزهد كلام الحسن وغيره، قال‏:‏ ليس الزهد في الدنيا بتحريم الحلال، ولا بإضاعة المال، وإنما الزهد أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أُصبت بها أرغب منك فيها لو لم تُصبك‏.‏ انتهى المقصود منه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

‏{‏تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آَتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا ‏(‏51‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله لرسوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏تُرْجي من تشاء منهن‏}‏ أي‏:‏ تؤخرها في القسمة، ‏{‏وتُؤوي إِليك من تشاء‏}‏ أي‏:‏ تضمها إليك، والمعنى‏:‏ تترك مضاجعة مَن تشاء منهن وتضاجع مَن تشاء، فقد خيّره الله في القسمة وعدمها‏.‏ قال أبو رزين‏:‏ لما نزلت آية التخيير أشفقن أن يُطلَّقن، فقلن‏:‏ يا نبيَّ الله؛ اجعل لنا من مالك ونفسك ما شئت، ودَعْنا على حالنا، فكان ممن أرجى منهن‏:‏ سودة، وجويرية، وصفية، وميمونة، وأم حبيبة، فكان يقيم لهن ما يشاء، وكان ممن آوى إليه عائشة، وحفصة، وأم سلمة، وزينب، فكان يقسم لهن بالسوية، لا يفضل بعضهن على بعض‏.‏ فآوى أربعاً وأرجى خمساً‏.‏ وقيل‏:‏ إنه كان صلى الله عليه وسلم يسوّي بين الجميع في القسم، إلا سودة، فإنها وهبت ليلتها لعائشة، حين همّ بطلاقها، وقالت‏:‏ لا تطلّقني حتى أُحْشَر في زمرتك وفي نسائك‏.‏ والجمهور على أنه صلى الله عليه وسلم كان يعدل في القسمة بين نسائه، أخذاً منه بأفضل الأخلاق، مع أن الله خيّره‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏تُرجي من تشاء‏}‏ أي‏:‏ تطلق من تشاء منهن، وتُمسك من تشاء‏.‏ وقيل‏:‏ تترك تزوج من شئت من أمتك، وتتزوج من شئت‏.‏

‏{‏ومن ابتغيتَ مِمَّنْ عزلتَ فلا جُناحَ عليك‏}‏ أي‏:‏ ومَن دعوت إلى فراشك، وطلبت صحبتها، ممن عزلت عن نفسك بالإرجاء، فلا ضيق في ذلك، أي‏:‏ ليس إذا عزلتها من القسمة، أو من العصمة، لم يجز لك ردّها إلى نفسك، بل افعل ما شئت، فلا حرج عليك‏.‏ ‏{‏ذلك‏}‏ التفويض إلى مشيئتك ‏{‏أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنهنَّ ولاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُن‏}‏ أي‏:‏ هو أقرب إلى قرة أعينهن، وقلة حزنهن، ورضاهن جميعاً؛ لأنه إذا علمن أنّ هذا الحكم من عند الله اطمأنت نفوسهنّ، وذهب التغاير، وحصل الرضا، وقرّت العيون‏.‏

قلت‏:‏ والذي يظهر أن مَن أرجاه صلى الله عليه وسلم من النساء إنما كان بوحي، ومَن ضمه كذلك؛ إذ لا يتصرف إلا بإذن من الله، فإذا عَلِمَ النساءُ أن الإرجاء والإيواء كان بوحي من الله؛ رضين بذلك، وقرّت أعينهن، وزال تغايرهن، وأما مطلق التفويض إليه فقط، فلا يقطع الغيرة في العادة، فالإشارة تعود إلى حكم الإرجاء والإيواء فتأمله‏.‏ و«كلهن»‏:‏ تأكيد ضمير «يَرْضَيْن»‏.‏

‏{‏واللهُ يعلم ما في قلوبكم‏}‏ من أمر النساء، والميل إلى بعضهن، أو‏:‏ يعلم ما في قلوبكم من الرضا بحُكم الله والتفويض إليه، ففيه تهديد لمَن لم يرضَ منهم بما دبَّر الله، وفوّض إلى رسوله، ‏{‏وكان الله عليماً‏}‏ بذات الصدور، ‏{‏حليماً‏}‏ لا يُعاجل بالعقوبة، فهو حقيق بأن يُتقى ويُحذر‏.‏

الإشارة‏:‏ إذا تحقق فناء العبد وزواله، وتكملت ولايته، كان مفوضاً إليه في الأمور، يفعل ما يشاء، ويترك ما يشاء، لم يبقَ عليه تحجير، ولم يتوجه إليه عتاب؛ لأن العبد المملوك إذا تحققت محبة سيده له، كتب له عقد التحرير‏.‏

وشاهده حديث‏:‏ «إِذَا أحَبَّ الله عَبْداً لمْ يضُره ذَنْبٌ»، وحديث البخاري‏:‏ «لعلَّ الله اطَّلَعَ على أهلِ بَدْرٍِ فقال‏:‏ اعملوا ما شئتم، فقد غَفَرتُ لكُمْ» وسببه معلوم‏.‏

وفي القوت عن زيد بن أرقم‏:‏ إن الله عزّ وجل ليُحب العبد، حتى يبلغ من حبه أن يقول له‏:‏ اصنع ما شئت، فقد غفرت لك‏.‏ وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه‏:‏ يبلغ الولي مبلغاً يُقال له‏:‏ أصحبناك السلامة، وأسقطنا عنك الملامة، فاصنع ما شئت‏.‏ ومصداقه من كتاب الله‏:‏ قوله تعالى في حق سليمان عليه السلام‏:‏ ‏{‏هَذَا عَطَآؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 39‏]‏‏.‏ وهذا وإن كان للنبي من أجل العصمة، فلَمِنْ كان من الأولياء في مقام الإمامة قسط منه، من أجل الحفظة‏.‏ وقال أيضاً رضي الله عنه في بعض أدعيته‏:‏ وأدرج أسمائي تحت أسمائك، وصفاتي تحت صفاتك، وأفعالي تحت أفعالك، درج السلامة، وإسقاط الملامة، وتنزُل الكرامة، وظهور الإمامة‏.‏ ه‏.‏

فإذا اندرجت أسماء العبد وصفاته وأفعاله تحت أسماء الرب، وصفاته، وأفعاله، لم يبقَ للعبد وجود أصلاً، وكان الفعل كله بالله، ومن الله، وإلى الله‏.‏ وهذا مقام عزيز، لا يناله إلا الأفراد من أهل الفناء في الله، والبقاء بالله، وقد غطى وصفهم بوصفه، ونعتهم بنعته، فغيَّبهم عن اسمهم ورسمهم، فهم بالله فيما يفعلون ويذرُون‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا ‏(‏52‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏لا يَحِلُّ لك النساءُ من بعدُ‏}‏ أي‏:‏ من بعد التسع، اللاتي خيرتهن فاخترنك؛ لأن التسع نِصابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أن الأربع نِصاب أمته‏.‏ لَمّا اخترن اللهَ ورسولَه والدارَ الآخرة قصره الله عليهن، وقيل‏:‏ هي منسوخة كما يأتي‏.‏ أو‏:‏ لا يحلّ لك نساء الأجانب، وإنما لك نساء قرابتك، كبنات عمك، وبنات عماتك، وبنات خالك، وبنات خالاتك، فيحل لك منهن ما شئت، ولو ثلاثمائة، أو أكثر‏.‏ أو‏:‏ لا يحل لك النساء من غير المسلمات، كالكتابيات والمشركات‏.‏ ‏{‏ولا أن تبدَّل بهنَّ من أزواجٍ‏}‏ بالطلاق‏.‏ والمعنى‏:‏ ولا أن تستبدل بهؤلاء التسع أزواجاً، بكلهن أو بعضهن، كرامةً لهن، وجزاء على ما اخترن ورضين‏.‏ فقصر رسولَه صلى الله عليه وسلم على التسع اللاتي مات عنهن‏.‏ وقال أبو هريرة وابن زيد‏:‏ كانت العرب في الجاهلية يتبادلون بالأزواج، يعطي امرأة هذا أياماً ويأخذ امرأته، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏ولا أن تبدَّل بهن من أزواج‏}‏ بأن تُعطي بعض أزواجك وتأخذ بعض أزواجهم، ‏{‏إِلا ما ملكتْ يمينُك‏}‏ فلا بأس أن تبادل بجاريتك‏.‏ و«مِن»‏:‏ لتأكيد النفي؛ ليفيد استغراق جنس الأزواج بالتحريم‏.‏ ‏{‏ولو أَعْجَبَكَ حُسْنُهن‏}‏ أي‏:‏ حُسْن الأزواج المتبدلة‏.‏ وقيل‏:‏ هي أسماء بنت عُميْس، امرأة جعفر بن أبي طالب، فإنها ممن أعجبه حسنهنّ‏.‏

وعن عائشة وأم سلمة، ‏(‏ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أَحلَّ الله له أن يتزوج من النساء ما شاء‏)‏، يعني أن الآية نُسخت إما بالسُنَّة، أو‏:‏ بقوله‏:‏ ‏{‏إنا أحللنا لك أزواجك‏}‏ وترتيب النزول ليس على ترتيب المصحف‏.‏ ‏{‏إِلا ما ملكت يمينُك‏}‏ استثناء من النساء؛ لأنه يتناول الأزواج، وقيل‏:‏ منقطع، أي‏:‏ لكن ما ملكت يمينك، فيحل لك ما شئت، ‏{‏وكان الله على كل شيءٍ رقيباً‏}‏ حافظاً ومُطلعاً‏.‏ وهو تحذير عن مجاوزة حدوده‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ مَن نكح أبكار الحقائق العرفانية ودخل بأسرار العلوم اللدنية، لا يحل له أن ينكح ثيبات نساء العلوم الرسمية، ولا أن يتبدل بما عنده من المواهب الربانية، بغيرها من العلوم اللسانية، ولو أعجبك حُسنها ورونقها على الفرض والتقدير إذ التنزُّل إليها بطالة عند المحققين، إلا ما كنت تملكه قبل علم الحقيقة، فلا بأس أن تنزل إلى تعليمه وإفادته، إن توسعت في علم الباطن، وصرت من الأغنياء الكبار، تُنفق كيف تشاء، فلا يضرك حينئذ التنزُّل إلى علم الظاهر‏.‏ وقد كان شيخ شيوخنا سيدي يوسف الفاسي رضي الله عنه عنده مجلسان‏:‏ مجلس لأهل الظاهر، ومجلس لأهل الباطن‏.‏ فإن كان في مجلس الظاهر، وجاء إليه أحد من الفقراء، يقول‏:‏ اذهب حتى نأتي إلى مجلسكم، وإن كان في مجلس أهل الباطن، وجاء إليه أحد من أهل الظاهر، قال‏:‏ اذهب حتى نأتي إليكم‏.‏ وكان له هذا بعد الرسوخ في علم الحقيقة‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏53- 54‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا ‏(‏53‏)‏ إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ‏(‏54‏)‏‏}‏

‏{‏ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبي إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فادخلوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فانتشروا وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النبي فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ والله لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الحق وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فاسألوهن مِن وَرَآءِ حِجَابٍ ذلكم أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتَ النبي‏}‏ وكانت تسعاً، ‏{‏إلا أن يُؤذنَ لكم إِلى طعامٍ‏}‏ أي‏:‏ إلا وقت أن يُؤذن لكم، أو‏:‏ إلا مأذوناً لكم، فجملة‏:‏ ‏{‏إلا أن يُؤذن‏}‏‏:‏ في موضع الحال، أو الظرف‏.‏ و‏{‏غير ناظرين‏}‏‏:‏ حال من ‏{‏لا تدخلوا‏}‏، وقع الاستثناء على الوقت الحال، كأنه قيل‏:‏ لا تدخلوا بيوت النبي إلا وقت الإذن، ولا تدخلوها إلا ‏{‏غير ناظرين‏}‏ أي‏:‏ منتظرين ‏{‏إِنَاهُ‏}‏ أي‏:‏ إدراكه ونضجه‏.‏ قال ابن عزيز‏:‏ إِناهُ بلوغ وقته، يقال‏:‏ أنِيَ يَأنَى، وآن يئين‏:‏ إذا شهى، بمنزلة‏:‏ حان يحين‏.‏ ه‏.‏ وقال الهروي‏:‏ أي‏:‏ غير ناظرين نضجه وبلوغ وقته، مكسور الهمزة مقصور، فإذا فتحت مددت، فقلت‏:‏ الإناء، أي غير ناظرين وقت الطعام وساعة أكله‏.‏

رُوي أن النبي صلى الله عليه وسلم أَوْلَمَ على زينب بتمر وسويق، وذبح شاةً، وأمر أنساً أن يدعو الناس، فترادفوا أفواجاً، يأكل كل فوج، فيخرج، ثم يدخل فوج، إلى أن قال‏:‏ يا رسول الله دعوتُ حتى ما أجد أحداً أدعوه‏.‏ فقال‏:‏ «أرفعوا طعامكم» وتفرّق الناس، وبقي ثلاثة نفر يتحدثون، فأطالوا، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخرجوا، فطاف بالحجرات، وسلّم عليهن، ودعون له، ورجع، فإذا الثلاثة جلوس يتحدثون‏.‏ وكان صلى الله عليه وسلم شديد الحياء، فتولى، فلما رأوه متولياً خرجوا، فنزلت الآية، وهي آية الحجاب‏.‏ قال أنس‏:‏ فضرب بيني وبينه الحجاب‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولكن إِذا دُعيتم فادخلوا فإِذا طَعِمْتُم فانتشروا‏}‏ تفرقوا، ‏{‏ولا مستأنسين لحديثٍ‏}‏ أي‏:‏ ولا تدخلوها حال كونكم مستأنسين لحديث، أو‏:‏ غير ناظرين ولا مستأنسين، فهو منصوب، أو مجرور، عطف على «ناظرين»، نُهوا أن يُطيلوا الجلوس في بيته صلى الله عليه وسلم مستأنسين بعضهم ببعض، لأجل حديث يتحدثون به، ‏{‏إِن ذلكم كان يُؤذي النبيَّ فيستَحْي منكم‏}‏ من إخراجكم؛ ‏{‏والله لا يستحي من الحق‏}‏ يعني أن إخراجكم حق، ما ينبغي أن يُستحى منه، ولا يُترك بيانه، حياءً، أو‏:‏ لا يأمر بالحياء في الحق، ولا يَشرع ذلك‏.‏

‏{‏وإِذا سألتموهنّ‏}‏ أي‏:‏ نساء النبي صلى الله عليه وسلم، بدلالة البيوت عليهن؛ لأن فيها نساءه، ‏{‏متاعاً‏}‏ عارية أو حاجة، ‏{‏فاسألوهنّ من وراءِ حجابٍ‏}‏ ستر، ‏{‏ذلكم أطهرُ لقلوبكم وقلوبهنّ‏}‏ من خواطر الشيطان وعوارض الفتن‏.‏ وكانت النساء قبل هذه الآية يبرزن للرجال، وكان عمر رضي الله عنه يُحب ضَرْبَ الحجاب عليهن، ويودّ أن ينزلَ فيه، وقال‏:‏ يا رسول الله‏:‏ يدخل عليك البرّ والفاجر، فلو أمرتَ أمهاتِ المؤمنين بالحجاب‏؟‏ فنزلت‏.‏

وقيل‏:‏ إنه عليه الصلاة والسلام، كان يَطعمَ ومعه بعض أصحابه، فأصابت يدُ رجلٍ يدَ عائشة، فكَرِهَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ذلك فنزلت الآية‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ العلماء ومشايخ التربية ورثة الأنبياء، فإذا دَعوا إلى طعام فلا يدخل أحد حتى يُؤذن له، فإذا طعموا فلينتشروا، وإذا سأل أحدٌ حاجته من أهل دار الشيخ؛ فليسأل من وراء الباب، وليتنحَّ عن مقابلة الباب؛ لئلا يتكشف على عِرض شيخه، فيسيء الأدب معه، وهو سبب الخسران‏.‏

ثم نهى عن تزوج نساء النبي صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏

‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله وَلاَ أَن تنكحوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلكم كَانَ عِندَ الله عَظِيماً إِن تُبْدُواْ شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ الله كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً‏}‏‏.‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وما كان لكم أن تُؤذوا رسولَ الله‏}‏ أي‏:‏ ما صحَّ لكم إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو كفر، ‏{‏ولا أن تَنكِحُوا أزواجَه من بعده أبداً‏}‏ تعظيماً لحُرمته صلى الله عليه وسلم، ولبقاء عصمته عليهن، ولذلك وجبت نفقتهن بعده، لقوله‏:‏ «ما بقي بعد نفقة أهلي صدقة» وكذا السكنى كما قد علم، وبه قال ابن العربي‏.‏ وعَطفُ ‏(‏ولا أن تنكحوا‏)‏ على ‏(‏أن تؤذوا‏)‏ من عطف الخاص على العام؛ إذ تزوج نسائه من أعظم الإيذاء‏.‏ ‏{‏إِنَّ ذلكم‏}‏ أي‏:‏ الإيذاء أو التزوُّج ‏{‏كان عند الله‏}‏ ذنباً ‏{‏عظيماً‏}‏‏.‏

‏{‏إِن تُبدوا شيئاً‏}‏ من أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو نكاح أزواجه، ‏{‏أو تُخفوه‏}‏ في أنفسكم، ‏{‏فإِنَّ الله كان بكل شيءٍ عليماً‏}‏ فيُعاقبكم عليه‏.‏ رُوي أن رجلاً من الصحابة قال‏:‏ لئن قُبض النبي صلى الله عليه وسلم لأنكحنَّ عائشة، فنزلت، فَحُرّمن‏.‏ وفيه نزلت‏:‏ ‏{‏إن تبدوا شيئاً‏}‏ أي‏:‏ من نكاح عائشة، ‏{‏أو تخفوه‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إلخ‏.‏ وكان عليه الصلاة والسلام مَلَك قتيبة بنت الأشعث بن قيس، ولم يبنِ بها، فتزوجها عكرمة بن أبي جهل، بعد ذلك، فهمَّ به أبو بكر، وشقّ عليه، حتى قال له عمر‏:‏ يا خليفة رسول الله، ليست من نسائه، ولم يُخيرها، ولم يحجبها، وقد برأها الله منه بالردة، حين ارتدت مع قومها، فسكن أبو بكر‏.‏ وقال الزهري‏:‏ إن العالية بنت ظبيان، التي طلق النبيُّ صلى الله عليه وسلم تزوجت رجلاً وولدت له قبل أن يحرم أزواج النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

الإشارة‏:‏ مذهب الصوفية تشديد الأدب مع الأشياخ، فإذا مات الشيخ، أو طلَّق امرأة بعد الدخول، فلا يتزوجها أحد من تلامذته أبداً، تعظيماً وأدباً مع الشيخ‏.‏ وأما تزوج بنت الشيخ فلا بأس، إن قدر على القيام بالأدب معها، والصبر على أذاها، وإلا فالبُعد أحسن وأسلم، والله تعالى أعلم‏.‏

قال القشيري‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن تبدوا شيئاً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ حِفْظُ القلبِ مع الله تعالى، ومراعاةُ الأمر بينه وبين الله على الصِّحَّةِ في دوام الأوقات لا يَقْوى عليه إلا الخواصُّ، من أهل الحضور‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏

‏{‏لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آَبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا ‏(‏55‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلا أَبْنَائِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلاَ أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ‏}‏ أن يدخلوا عليهن بلا حجاب‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ لما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب‏:‏ ونحن أيضاً نُكلمهن من وراء حجاب، فنزلت‏:‏ ‏{‏لا جناح‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ، أي‏:‏ لا إثم عليهن في أن لا يحتجبن من هؤلاء‏.‏ ولم يذكر العم والخال؛ لأنهما يجريان مجرى الوالدين‏.‏ وقد جاء تسمية العم أباً في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ ءَابَآئِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 133‏]‏ وإسماعيل عم يعقوب، فسمّاه أباً‏.‏ وذكر القاضي إسماعيل، عن الحسن والحسين‏:‏ أنهما كانا لا يريان أمهات المؤمنين‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ إن رؤيتهما لهن تحل، أي‏:‏ لأنهما ولدا البعل‏.‏ قال القاضي‏:‏ وأحسبُ أن الحسن والحسين ذهبا في ذلك إلى أن أبناء البعولة لم يُذكروا في الآية‏.‏ وقال في سورة النور‏:‏ ‏{‏ولا يبدين زينتهن‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 31‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 31‏]‏، فذهب ابن عباس إلى ما في سورة النور، وذهب الحسن والحسين إلى ما في هذه السورة‏.‏ ه‏.‏

‏{‏ولا نسائِهِن‏}‏ أي‏:‏ نساء المؤمنات، فلا حجاب عليهن، ‏{‏ولا ما ملكتْ أيمانُهنّ‏}‏ من العبيد والإماء‏.‏ وقيل‏:‏ من الإماء خاصة، وأما العبيد فهم كالأجانب‏.‏ وهو المشهور، ‏{‏واتقِينَ الله‏}‏ فيما أُمِرتُن به من الحجاب، وما نزل فيه الوحي من الاستتار، واحتطن في ذلك‏.‏ ونقل الكلام فيه من الغيبة إلى الخطاب لشدة التهديد، ولذا قال‏:‏ ‏{‏إِن الله كان على كل شيءٍ شهيداً‏}‏ عالماً؛ يعلم خطرات القلوب وهواجسها، فيعاتب عليها‏.‏

الإشارة‏:‏ ما قيل في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يُقال في نساء المشايخ والعلماء، فتحتجبن من جميع الخلق، إلا من محارمهن، ولا يمنعهن من إدخال محارمهن عليهن إلا جامد أو جاهل، ولا ينبغي لأحد أن يمنع زوجه من لقاء محرمها والدخول عليها إلا لفساد بيّن‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏56‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ‏(‏56‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إِن اللهَ وملائكتَهُ يُصلُّون على النبي‏}‏ يعتنون بإظهار شرفه وتعظيم شأنه‏.‏ وقال صاحب المُغني‏:‏ الصواب عندي‏:‏ أن الصلاة لغة بمعنى واحد، وهو العطف، ثم العطف بالنسبة إلى الله تعالى‏:‏ الرحمة، وإلى الملائكة‏:‏ الاستغفار، وإلى الآدميين‏:‏ دعاء‏.‏ واختاره السُّهيلي قبله‏.‏ والمراد بالرحمة منه تعالى غايتها، وهو إفاضة الخير والإحسان، لا رقة القلب، الذي هو معنى الرحمة حقيقة‏.‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا صلُّوا عليه‏}‏ أي‏:‏ قولوا‏:‏ اللهم صلِّ على محمد أو‏:‏ صلى الله على محمد‏.‏ ‏{‏وسلّموا تسليماً‏}‏ أي‏:‏ قولوا‏:‏ اللهم سلّم على محمد، أو‏:‏ صلّ وسلِّم على محمد، أو‏:‏ انقادوا لأمره وحكمه، انقياداً كليًّا‏.‏

وعن كعب بن عُجْرَة‏:‏ قلنا‏:‏ يا رسول الله، أما السلام عليك، فقد عرفناه، فكيف الصلاة عليك‏؟‏ قال‏:‏ «قولوا اللهم صلِّ على مُحمدٍ وعلى آل محمد، كما صلّيت على إبراهيم، إنك حميدٌ مجيدٌ، اللهمَّ بارِكْ على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما بَارَكْت على إبراهيمَ، إنك حميد مجيد» ومعرفتهم السلام من التشهُّد‏.‏ والصلاة على غير الأنبياء بالتبع جائزة‏.‏ وأما بالاستقلال فمكروه، وهو من شعار الروافض‏.‏ ه‏.‏ قال الكواشي‏:‏ رُوي أنه قيل يا رسول الله‏:‏ أرأيت قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله وملائكته يُصلُّون على النبي‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏؟‏ فقال‏:‏ هذا من العلم المكنون، ولولا أنكم سألتموني عنه ما أخبرتكم، إن الله وكَل بي ملكين، فلا أُذكر عند عبدٍ مسلم، فيُصلي عليّ، إلا قال ذانك الملكان‏:‏ غفر الله لك، وقال الله وملائكته جواباً لذينك الملّكين‏:‏ آمين‏.‏ ولا أُذكر عند عبد مسلم، فلا يُصلي عليّ إلا قال ذانك الملكان‏:‏ لا غفر الله لك‏.‏ وقال الله جواباً لذينك الملكين‏:‏ آمين‏.‏ ه‏.‏

والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم واجبة‏.‏ فمنهم مَن أوجبها عند ذكره كلما ذكر، وعليه الجمهور، وهو الاحتياط للحديث المتقدم‏.‏ ولقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «مَن ذُكرتُ عنده فلم يُصلِّ عليّ دَخَلَ النار» ومنهم مَن أوجبها في كل مجلس مرة، وإن تكرر ذكره، كتشميت العاطس وآية السجدة، ومنهم مَن أوجبها مرة في العمر‏.‏ قالوا‏:‏ وكذلك الخلاف في إظهار الشهادتين، وأما ذكرها في الصلاة فليست شرطاً عند أبي حنيفة ومالك، خلافاً للشافعي، والاحتياط‏:‏ الإكثار منها بغير حصر، ولا يغفل عنها إلا مَن لا خير فيه‏.‏ واختلف هل كانت الأمم الماضية متعبدة بالصلاة على أنبيائهم‏.‏ قال القسطلاني‏:‏ إنه لم ينقل إلينا ذلك، ولا يلزم من عدم النقل عدم الوقوع‏.‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ اعلم أن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم سُلم ومعراج الوصول إلى الله؛ لأن تكثير الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم تُوجب محبته، ومحبتُه عليه الصلاة والسلام توجب محبة الله تعالى، ومحبته تعالى للعبد تجذبه إلى حضرته، بواسطة وبغيرها‏.‏

وأيضاً‏:‏ الرسول صلى الله عليه وسلم وزير مقرب، ومَن رام دخول حضرة الملوك يخدم الوزير، ويتقرّب إليه، حتى يُدخله على الملِك‏.‏ فهو صلى الله عليه وسلم حجاب الله الأعظم، وبابه الأكرم، فمَن رام الدخول من غير بابه طُرد وأُبعد، وفي ذلك يقول ابن وفا‏:‏

وأنت بابُ الله، أيّ امرىء *** وفاه من غيرك لا يدخلِ

وقال الشيخ الجزولي رضي الله عنه في دلائل الخيرات‏:‏ وهي من أهم المهمات لمَن يريد القرب من رب الأرباب‏.‏ وقال شارحه‏:‏ ووجه أهميتها من وجوه، منها‏:‏ ما فيها من التوسُّل إلى الله سبحانه بحبيبه ومصطفاه‏.‏ وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَابْتَغُواْ إِلَيْهِ الْوَسِيلَةِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 35‏]‏، ولا وسيلة إليه أقرب، ولا أعظم، من رسوله الأكرم صلى الله عليه وسلم‏.‏

ومنها‏:‏ أن الله تعالى أمر بها، وحضَّنا عليها، تشريفاً له وتكريماً، وتفضيلاً لجلاله، ووعد مَن استعملها حُسن المآب، وجزيل الثواب، فهي من أنجح الأعمال، وأرجح الأقوال، وأزكى الأحوال، وأحظى القربات، وأعم البركات، وبها يتوصل إلى رضا الرحمن، وتنال السعادة والرضوان، وتجاب الدعوات، ويرتقي إلى أرفع الدرجات‏.‏ وأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام‏:‏ يا موسى أتُريد أن أكون أقرب إليك من كلامك إلى لسانك، ومن وسواس قلبك إلى قلبك، ومن روحك إلى بدنك، ومن نور بصرك إلى عينيك‏؟‏ قال‏:‏ نعم يا رب، قال‏:‏ فأكثر من الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

ومنها‏:‏ أنه صلى الله عليه وسلم محبوب لله عزّ وجل، عظيم القدر عنده، وقد صلّى عليه وهو وملائكتُه، فوجبت محبة المحبوب، والتقرُّب إلى الله تعالى بمحبته، وتعظيمه، والاشتغال بحقه، والصلاة عليه، والاقتداء بصلاته، وصلاة ملائكته، وصلاة ملائكته عليه‏.‏ قلت‏:‏ وهذا التشريف أتم وأعظم من تشريف آدم عليه السلام، بأمر الملائكة بالسجود له؛ لأنه لا يجوز أن يكون الله مع الملائكة في ذلك التشريف‏.‏ فتشريف يصدر عنه مع ملائكته أبلغ من تشريف تختص به الملائكة‏.‏

ومنها‏:‏ ما ورد في فضلها، ووعَدَ عليها من جزيل الأجر وعظيم القدر، وفوز مستعملها برضا الله، وقضاء حوائج آخرته ودنياه‏.‏

ومنها‏:‏ ما فيها مِن شُكر الواسطة في نعم الله علينا المأمور، بشكره، وما من نعمة لله علينا، سابقة ولا لا حقة؛ من نعمة الإيجاد والإمداد، في الدنيا والآخرة، إلا وهو السبب في وصولها إلينا، وإجرائها علينا، فوجب حقه علينا، ووجب علينا في شكر نعمته ألا نفتر عن الصلاة عليه، مع دخول كل نفس وخروجه‏.‏

ومنها‏:‏ ما فيها من القيام برسم العبودية، بالرجوع لِما يقتضي الأصلُ نفيه، فهو أبلغ في الامتثال، ومن أجل ذلك كانت فضيلة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم على كل عمل‏.‏ والذي يقتضي الأصل نفيه، هو كون العبد يتقرب إلى الله بالاشتغال بحق غيره؛ لأن قولنا‏:‏

«اللهم صَلِّ على محمد» هو الاشتغال بحق محمد صلى الله عليه وسلم، وأصل التعبدات‏:‏ ألا يتقرب إلى الله تعالى إلا بالاشتغال بحقه‏.‏ ولكن لمّا كان الاشتغال بالصلاة على محمد بإذن من الله تعالى، كان الاشتغال بها أبلغ في امتثال الأمر، فهي بمثابة أمر الله تعالى للملائكة بالسجود لآدم، فكان شرفهم في امتثال أمر الله، وإهانة إبليس في مخالفة أمره سبحانه‏.‏

ومنها‏:‏ ما جُرب من تأثيرها، والنفع بها في التنوير ورفع الهمة، حتى قيل‏:‏ إنها تكفي عن الشيخ في الطريق، وتقوم مقامه، حسبما نقله الشيخ السنوسي، والشيخ زروق، وغيرهما‏.‏

ومنها‏:‏ ما فيها من سير الاعتدال، الجامع لكمال العبد وتكميله، ففي الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الله ورسوله، ولا كذلك عكسه، فلذلك كانت المثابرة على الأذكار والدوام عليها يحصل به الانحراف، وتُكسب نورانية تحرق الأوصاف، وتثير وهجاً وحرارة في الطباع، والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم تُذهب وهَج الطِّباع، وتقوي النفوس؛ لأنها كالماء البارد، فكانت تقوم مقام شيخ التربية‏.‏ انتهى كلامه‏.‏

قلت‏:‏ والحق الذي لا غُبار عليه‏:‏ إن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، والإكثار منها، تدلّ صاحبها على مَن يأخذ بيده، وتُوصله إلى شيخ التربية، الذي هو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن كان صادق الطلب، وأما كونها تقوم مقام الشيخ في دخول مقام الفناء والبقاء، حتى تعتدل حقيقته وشريعته فلا؛ إذ لا تنقطع رعونات النفوس إلا بآمر وناهٍ من غيره، يكون عالماً بدسائس النفوس وخِدعها، وغاية ما توصل إليه الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يظفر بالشيخ الفناء في الصفات، وينال مقام الصلاح الأكبر، ويظهر له كرامات وخوارق، ويكون من أرباب الأحوال، وإن وصل إلى مقام الفناء تكون شريعته أكبر من حقيقته‏.‏

هذا ما ذقناه، وشهدناه، وسمعناه من أشياخنا، والطريق التي أدركناهم يستعملونها، وأخذناها منهم، أنهم يأمرون المريد إن رأوه أهلاً للتربية أن يلتزم الاسم المفرد، ويفنى فيه، حتى تنهدم به عوالمه، فإذا تحقق فناؤه وغاب عن نفسه ورسمه، ردُّوه إلى مقام البقاء، وحينئذ يأمرونه بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لتكون صلاته عليه كاملة، يُصلي على روحه وسره بلا حجاب، ويشاهده في كل ساعة كما يشاهدونه‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏57- 58‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا ‏(‏57‏)‏ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ‏(‏58‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إِن الذين يُؤذون اللهَ ورسولَه‏}‏ بارتكابهم ما يكرهانه من الكفر والمعاصي والبدع‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ هم اليهود والنصارى والمشركون‏.‏ فقالت اليهود‏:‏ ‏{‏يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 64‏]‏، ‏{‏إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 181‏]‏ وقالت النصارى‏:‏ ‏{‏الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 30‏]‏، ‏{‏إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 73‏]‏‏.‏ وقال المشركون‏:‏ الملائكة بنات الله، والأصنام شركاؤه‏.‏ وقيل‏:‏ يؤذونه‏:‏ يُلحدون في أسمائه وصفاته‏.‏ ويؤذون رسول الله، حين شُج وجهه، وكُسرت رباعيتُه، وقيل له‏:‏ هو ساحر وشاعر ومجنون‏.‏ أو‏:‏ بترك سُنَّته ومخالفة شريعته‏.‏ ويحتمل أن يكون المراد يؤذون رسولَ الله فقط بالتنقيص، أو بالتعرُّض لنسائه‏.‏ وذكرُ اسم الله للتشريف‏.‏ ‏{‏لعنَهُم اللهُ في الدنيا والآخرة‏}‏ أي‏:‏ أبعدهم من رحمته في الدارين ‏{‏وأعدَّ لهم عذاباً مهيناً‏}‏ يُهينهم ويُخزيهم في النار‏.‏

‏{‏والذين يُؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا‏}‏ بغير جناية يستحقون بها الإيذاء، ‏{‏فقد احتملوا بُهتاناً‏}‏ كذباً ‏{‏وإِثماً مبيناً‏}‏ ظاهراً، وإنما أطلق في إيذاء الله ورسوله، وقيّد إيذاء المؤمنين والمؤمنات؛ لأن إيذاء الله ورسوله لا يكون إلا بغير حق، وأما إيذاء المؤمنين فمنه ما يكون بحق، كالحدّ والتعزير، ومنه باطل‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في ناس من المنافقين، كانوا يؤذون عليًّا رضي الله عنه، ويُسْمِعُونه، وقيل‏:‏ في زُناة المدينة، كانوا يمشون في طرق المدينة، ويتبعون النساء إذا تبرزن بالليل لقضاء حوائجهن، فيغمزون المرأة، فإن سكتتْ اتبعوها، وإن زجرتهم انتهوا‏.‏ وعن الفضيل‏:‏ لا يحلّ أن تؤذي كلباً أو خنزيراً بغير حق، فكيف بالمؤمنين‏؟‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ إذاية الله ورسوله هي إذاية أوليائه، ونقله الثعلبي عن أهل المعاني، فقال‏:‏ فأراد الله تعالى المبالغة في النهي عن أذى أوليائه، فجعل أذاهم أذاه‏.‏ ه‏.‏ ويؤيده الحديث القدسي‏:‏ «مَن آذى لي وليًّا فقد بارزني بالمحاربة»، أو كما سبحانه‏.‏ وإذاية المؤمنين كثيرة، تكون باللسان وبغيره، وقد قالوا‏:‏ البَر لا يؤذي الذر‏.‏ ومن أركان التصوف‏:‏ كف الأذى، وحمل الجفا، وشهود الصفا، ورمي الدنيا بالقفا‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏59‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتِك ونساءِ المؤمنين يُدْنِينَ عليهن من جَلابِيبهن‏}‏ أي‏:‏ يُرخين على وجوههنّ من جلابيبهن فيغطين بها وجوهَهن‏.‏ والجلباب‏:‏ كل ما يستر الكل، مثل الملحفة، والمعنى‏:‏ قل للحرائر يُرخين أرديتهن وملاحفَهن ويغَطين بها وجوههن ورؤوسهن، ليعلم أنهن حرائر فلا يؤذين‏.‏ و‏{‏ذلك أَدْنَى‏}‏ أي‏:‏ أقرب وأجدر، ‏{‏أن يُعْرَفْنَ‏}‏ من الإماء ‏{‏فلا يُؤْذَين‏}‏ وذلك أن النساء في أول الإسلام كن على زيهنَّ في الجاهلية متبذّلات، تبرز المرأةُ في درج وخمار، لا فَصْل بين الحُرّة والأَمَة‏.‏ وكان الفتيان يتعرّضون للإماء، إذا خرجن بالليل لقضاء حاجتهنّ في النخيل والغَيْضات، وكن يخرجن مختلطات مع الحرائر، فربما تعرّضوا للحُرّة، يحسبونها أَمَة، فأُمِرن أن يخالفن بزيهنّ عن زي الإماء بلباس الجلابيب، وستر الرؤوس والوجوه، فلا يطمع فيهنّ طامع‏.‏

قال ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ أمر الله تعالى نساء المؤمنين أن يغطين رؤوسهن ووجوههن بالجلابيب، ويُبدين عيناً واحدة‏.‏ قلت‏:‏ وقد مرَّ في سورة النور أن الوجه والكفين ليس بعورة، إلا لخوف الفتنة، وأما الإماء فلا تسترن شيئاً إلا ما بين السرة والركبة، كالرجل‏.‏ قال أنس‏:‏ مرتْ جارية متقنعة بعمر بن الخطاب فعلاها بالدرة، وقال‏:‏ يا لكاع أنت تشبهين بالحرائر، فألقِ القناع، ‏{‏وكان اللهُ غفوراً‏}‏ لِما سلف منهن من التفريط، ‏{‏رحيماً‏}‏ بتعليمهن آداب المكارم‏.‏

الإشارة‏:‏ ينبغي لنساء الخواص أن يتميزن من نساء العامة؛ بزيادة الصَوْن والتحفُّظ، وقلة الخروج، فإذا لزمهنَّ الخروج، فليخرجن في لباس خشين، بحيث لا يُعرفن، أو يخرجن ليلاً‏.‏ وثبت أن زوجة الشيخ أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه لم تخرج من دارها إلا خرجتين؛ خرْجة حين زُفت إلى زوجها، وخرجة إلى المقابر‏.‏ نفعنا الله ببركاتهم‏.‏ آمين‏.‏