فصل: تفسير الآية رقم (244)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***


تفسير الآية رقم ‏[‏244‏]‏

‏{‏وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏244‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وقاتلوا‏}‏ الكفار ‏{‏في سبيل الله‏}‏ وإعلاء كلمة الله حتى يكون الدين كله لله، ‏{‏واعلموا أن الله سميع‏}‏ لأقوالكم ودعائكم ‏{‏عليم‏}‏ بنياتكم وإخلاصكم؛ فيجازي المخلصين، ويحرم المخلطين‏.‏

الإشارة‏:‏ وجاهدوا نفوسكم في طريق الوصول إلى الله، وأديموا السير إلى حضرة الله، فحضرة القدوس محرمة على أهل النفوس‏.‏ قال الششتري‏:‏

إِنْ تُردْ وَصْلَنَا فموتُكَ شَرطٌ *** لاَ ينالُ الوِصَالَ مَنْ فِيه فَضْلَه

ومجاهدة النفس هو تحميلها ما يثقل عليها، وبُعدها مما يخف عليها، حتى لا يثقل عليها شيء، ولا تشره إلى شيء، بل يكون هواها ما يقضيه عليها مولاها‏.‏ قيل لبعضهم، ‏[‏ما تشتهي‏؟‏ قال‏:‏ ما يقضي الله‏]‏‏.‏ واعلموا أيها السائرون أن الله سميع لأذكاركم، عليهم بإخلاصكم ومقاصدكم‏.‏

ولما كان الجهاد يحتاج إلى مؤنة التجهيز، وليس كل الناس يقدر على ذلك، رَغَّبَ الحق تعالى الأقوياء بالإنفاق على الفقراء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏245‏]‏

‏{‏مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏245‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ القرض هو القطع، أطْلِقَ على السلف؛ لأن المُقْرِضَ يقطع قطعة من ماله ويدفعها للمستلف، والمراد بها الصدقة؛ لأن المتصدق يدفع الصدقة فيردها الحق تعالى له بضعف أمثالها؛ فأشبهت القرض في مطلق الرد‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ مَنْ هذا الذي يعامل الله تعالى ويقرضه ‏{‏قرضاً حسناً‏}‏ بأن بتصدق على عباده صدقة حسنة بنية خالصة، فيُكثرها الله تعالى له ‏{‏أضعافاً كثيرة‏}‏؛ بسبعمائة إلى ما لا نهاية له، ولا يحمله خوف الفقر على ترك الصدقة؛ فإن الله تعالى يقبض الرزق عمن يشاء ولو قل إعطاؤه، ويبسط الرزق على من يشاء ولو كثر إعطاؤه، بل يقبض على من قبض يده شحّاً وبخلاً، ويبسط على من بسط يده عطاءً وبذلاً، يقول‏:‏ «يا ابن آدم أَنْفِقْ أُنِفقْ عليك»، «أُنْفِقْ ولا تَخْش مِنْ ذِي العَرِشَ إِقلالاً»‏.‏

ونسبة القرض إليه تعالى ترغيب وتقريب للإفهام، كما قال في الحديث القدسي‏:‏ «يقول الله تعالى يوم القيامة‏:‏ يَا ابْنَ آدَمَ، مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْني، قَالَ‏:‏ يَا رَبّ‏!‏ كَيْفَ أَعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالِّمِين‏؟‏ قَالَ‏:‏ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلاَناً مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ‏.‏ أَمَا إِنَكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتِني‏.‏ يَا ابْنَ آدَم اسْتَطْعَمتُكَ فَلَمْ تُطْعِمني‏.‏ قال‏:‏ يَا رَبّ‏!‏ كَيْفَ أُطْعِمُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ أَمَا أَنَّهُ اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلاَنٌ فَلَمْ تُطْعمْه‏؟‏ أَمَأ عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ أَطْعَمْتَه لَوَجَدْتَ ذَلكَ عِنْدِي‏.‏ يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَسْقَيتك فَلَمْ تَسْقِيني‏.‏ قَالَ‏.‏ يَا رَبِّ كَيْفَ أَسْقِيك وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ‏؟‏ قال‏:‏ اسْتَسْقَاكَ عَبْدِي فُلاَنٌ فَلَمْ تسْقِه‏.‏ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ سَقَيْتَهُ لوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي»‏.‏

الإشارة‏:‏ من هذا الذي يقطع قلبه عن حب الدارين، ويرفع همته عن الكونين، فإن الله ‏{‏يضاعفه له أضعافاً كثيرة‏}‏ بأن يُمَلِّكَهُ الوجودَ بما فيه، «أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكون، فإذا شهدت المكون كانت الأكوان معك»، ‏{‏والله يقبض ويبسط‏}‏ فيقبض الوجود تحت حكمك وهمتك، إن رفعت همتك عنه، ويبسط يدك بالتصرف فيه، إن علقت عمتك بخالقه‏.‏ أو يقبض القلوب بالفقد والوحشة، ويبسطها بالإيناس والبهجة‏.‏ أو يقبض الأرواح بالوفاة، ويبسطها بالحياة‏.‏ والقبض والبسط عند أهل التصوف‏:‏ حالتان تتعاقبان على القلوب تعاقب الليل والنهار، فإذا غلب حال الخوف كان مقبوضاً، وإذاغلب حال الرجاء كان مبسوطاً، وهذا حال السائرين‏.‏ أما الواصلون فقد اعتدل خوفهم ورجاؤهم، فلا يؤثر فيهم قبض ولا بسط، لنهم مالكوا الأحوالَ‏.‏

قال القشيري‏:‏ فإذا كاشف العبدَ بنعت جماله بسطَه، وإذا كاشفه بنعت جلاله قَبضه‏.‏ فالقبض يوجب إيحاشَه، والبسط يُوجب إيناسه، واعلم أنه يَرُدُّ العبد إلى حال بشريته، فيقبضه حتى لا يُطيق ذَرَّة، ويأخذه مَرَّة عن نعوته، فيجد لحمل ما يَرِدُ عليه قدرة وطاقة، قال الشَّبْلِي رضي الله عنه‏:‏ ‏(‏من عَرَفَ الله حمَل السماوات والأرض على شعرة من جَفْن عينه، ومن لم يعرف الله- جلّ وعلا- لو تعلق به جَناح بعوضة لضجَّ‏)‏‏.‏

وقال أهل المعرفة‏:‏ ‏[‏أذا قَبض قَبض حتى لا طاقة، وإذا بسط بسط حتى لا فاقة، والكل منه وإليه‏]‏‏.‏ ومن عرف أن الله هو القابض الباسط، لم يَعتِب أحداً من الخلق، ولا يسكن إليه في إقبال ولا إدبار، ولم ييأس منه في البلاء، ولا يسكُن إليه في عطاء، فلا يكون له تدبير أبداً‏.‏ ه‏.‏

ولكلٍّ من القبض والبسط آداب، فآداب القبض‏:‏ السكون تحت مجاري الأقدار، وانتظار الفرج من الكريم الغفار‏.‏ وآداب البسط‏:‏ كف اللسان، وقبض العنان، والحياء من الكريم المنان‏.‏ والبسط مَزَلَّة أقدام الرجال‏.‏ قال بعضهم‏:‏ ‏(‏فُتح عليَّ بابٌ من البسط فزللتُ زَلَّة، فحُجِبْتُ عن مقامي ثلاثين سنة‏)‏‏.‏ ولذلك قيل‏:‏ قف على البساط وإياك والانبساطَ‏.‏

واعلم أن القبض والبسط فوق الخوف والرجاء، وفوق القبض والبسط‏:‏ الهيبة والأنس فالخوف والرجاء للمؤمنين، والقبض والبسط للسائرين، والهيبة والأنس للعارفين، ثم المحو في وجود العين للمتمكنين، فلا هيبة لهم، ولا أنس، ولا علم، ولا حس‏.‏

وأنشدوا‏:‏

فلو كُنْتَ مِنْ أَهلِ الوُجودِ حقيقةً *** لغبْتَ عَن الأكوانِ والعرشِ والكرسي

وكُنْتَ بلا حالٍ مَع اللّهِ واقفاً *** تُصان عَنْ التّذْكَارِ للجِن والإِنْسِ

تفسير الآية رقم ‏[‏246‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ‏(‏246‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ألم تر‏}‏ يا محمد- فتعتبر- ‏{‏إلى‏}‏ قصة جماعة ‏{‏من بني إسرائيل من بعد‏}‏ موت ‏{‏موسى‏}‏ حين طلبوا الجهاد، وقالوا ‏{‏لنبيّ لهم‏}‏ يقال له‏:‏ شمويل، وقيل‏:‏ شمعون ‏{‏ابعث لنا ملكاً‏}‏ يَسوس أمرنا ونرجع إليه في رأينا؛ إذ الحرب لا تستقيم بغير إمام ‏{‏نقاتل‏}‏ معه ‏{‏في سبيل الله قال‏}‏ لهم ذلك النبيّ‏:‏ ‏{‏هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا‏}‏ أي‏:‏ هل أنتم قريب من التولي والفرار إن كُتب عليكم القتال‏؟‏ والمعنى‏:‏ أتوقع جُبْنكم عن القتال إنْ فُرض عليكم‏.‏ والأصل‏:‏ عساكم أن تجبنوا إن فرض عليكم، فأدخل ‏{‏هل‏}‏ على فعل التوقع، مستفهماً عما هو المتوقع عنده، تقريراً وتثبيتاً‏.‏

‏{‏قالوا‏}‏ في جوابه‏:‏ ‏{‏وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله‏}‏ أيْ‏:‏ أيُّ مانع يمنعنا من القتال وقد وُجد داعيه‏؟‏ وهو تسلط العدو علينا فأخْرَجَنَا من ديارنا وأسَرَ أبناءَنا، وكان الله تعالى سلط عليهم جالوت ومن معه من العمالقة، كانوا يسكنون ساحل بحر الروم بين مصر وفلسطين، وذلك لمَّا عصوا وسفكوا الدماء، فخرَّبَ بيت المقدس، وحرق التوراة، وأخذ التابوت الذي كانوا ينتصرون به، وسبي نساءهم وذراريهم‏.‏ رُوِيَ أنه سبي من أبناء ملوكهم أربعمائة وأربعين، فسألوا نبيهم أن يبعث لهم ملكاً يجاهدون معه، ‏{‏فلما كُتب عليهم القتال‏}‏ ويَسر لهم ملكاً يسوسهم وهو طالوت‏.‏ جبنُوا وتولوا ‏{‏إلا قليلاً منهم‏}‏، وهم من عَبَرَ النهر مع طالوت، ‏{‏والله عليم بالظالمين‏}‏ فيخزيهم ويُفسد رأيهم‏.‏‏.‏‏.‏ نعوذ بالله من ذلك‏.‏

الإشارة‏:‏ ترى كثيراً من الناس يتمنون أو لو ظفروا بشيخ التربية، ويقولون‏:‏ لو وجدناه لجاهدنا أنفسنا أكثر من غيرنا، فلما ظهر، وعُرف بالتربية، تولى ونكص على عقبيه، وتعلل بالإنكار وعدم الأهلية، إلا قليلاً ممن خصه الله بعنايته ‏{‏وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشآء‏}‏ ‏[‏البَقَرَة‏:‏ 105‏]‏ ‏{‏وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ‏}‏ ‏[‏البَقَرَة‏:‏ 105‏]‏ سبحان من لم يجعل الدليل على أوليائه إلا من حيث الدليل عليه، ولم يوصل إليهم إلا من أراد أن يوصله إليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏247‏]‏

‏{‏وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ‏(‏247‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وقال لهم نبيهم‏}‏ شمويل‏:‏ ‏{‏إن الله قد بعث لكم‏}‏ ملكاً، أي‏:‏ عيَّنه لكم لتقاتلوا معه، وهو ‏{‏طالوت‏}‏ وهو عَلَمٌ عِبْراني كدَاوُد، ‏{‏قالوا‏}‏ تعنتاً وتشغيباً‏:‏ ‏{‏أنى يكون له الملك علينا‏}‏ أي من أين يستأهل التملك علينا وليس من دار الملك‏؟‏ لأن المملكة كانت في أولاد يهوذا، وطالوت من أولاد بنيامين، والنبوة كانت في أولاد لاوى‏.‏ وقالوا‏:‏ ‏{‏نحن أحق بالملك منه‏}‏ وراثة ومُكْنة، لأن دار المملكة فينا‏.‏ وأيضاً هو فقير ‏{‏لم يُؤْتَ سعة من المال‏}‏ يتقوى به على حرب عدوه، وكان طالوت فقيراً راعياً أو سَقَّاءً أو دباغاً‏.‏ ‏{‏قال‏}‏ لهم نبيهم- عليه السلام-‏:‏ ‏{‏إن اصطفاه عليكم‏}‏ رغم أنفكم‏.‏ قال وهب بن منبه‏:‏ أوحى الله إلى نبيهم‏:‏ إذا دخل عليك رجل فَنَش الدُهنَ الذي في القرن فهو ملكهم، فلما دخل طالوت نَشَّ الدهن‏.‏

وقال السدي‏:‏ أرسل الله إليه عَصا، وقال له‏:‏ إذا دخل عليك رجل على طول هذه العصا فهو ملكهم، فكان ذلك طالوت فتبيَّن أن الله تعالى اصطفاه للملك، ‏{‏وزاده بسطه في العلم‏}‏ فكان أعلم بني إسرائيل بالتوراة وقيل‏:‏ بالحروب وعلم السياسة‏.‏ وزاده أيضاً بسطه في ‏{‏الجسم‏}‏، فكان أطولُ بني إسرائيل يبلغ إلى مَنْكبِهِ‏.‏ وذلك ليكون أعظم خطَراً في القلوب، وأقوى على مقاومة العدو ومكابدة الحروب، ‏{‏والله يؤتي ملكه من يشاء‏}‏؛ لأنه مَلِك الملوك يضع مُلكه حيث شاء، ‏{‏والله واسع‏}‏ فيوسع على الفقير ويغنيه بلا سبب، ‏{‏عليم‏}‏ بمن يليق بالملك بسبب وبلا سبب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏248‏]‏

‏{‏وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آَيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آَلُ مُوسَى وَآَلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏248‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ قال الجوهري‏:‏ أصل التابوت‏:‏ تأبُوة، مثل تَرْقُوة وهي فَعْلُوةٌ، فلما سُكِّنتْ الواو، انقلبت هاء التأنيث تاءٌ، فلغة قريش بالتاء، ولغة الأنصار بالهاء‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وقال لهم نبيهم‏}‏ لَمَّا طلبوا منه الحجة على اصطفاه طالوت للملك‏:‏ ‏{‏إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت‏}‏ وهو صندوق من خشب الشمشار مُمَوَّه بالذهب، طوله ثلاثة أذرع في سعة ذراعين ‏{‏فيه سكينة من ربكم‏}‏ أي‏:‏ فيه ما تسكن إليه قلوبكم وتثبت عند الحرب‏.‏ وكانوا يُقدمونه أمامهم في الحروب فلا يفرون، ويُنصرون على عدوهم، وقيل‏:‏ كان فيه صور الأنبياء من آدم السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقيل‏:‏ كان فيه طَسْت من ذهب غُسلت به قلوب الأنبياء- عليهم السلام- وهي السكينة- وفي ‏{‏بقيمة مما ترك آل موسى‏}‏ وهي رُضاض الألواح، وعصا موسى، وثيابه، وعمامة هارون والآل‏:‏ مقحم فيهما‏.‏

‏{‏تحمله الملائكة‏}‏ قال وهب‏:‏ لما صار التابوت عند القوم الذين غلبوا بني إسرائيل- فوضعوه في كنيسة لهم فيها أصنام، فكانت الأصنام تُصبح مُنكسرة، فحملوه إلى قرية قوم، فأصاب أولئك القومَ أوجاعٌ، فقالوا‏:‏ ما هذا إلا لهذا التابوت، فلنتركه إلى بني إسرائيل، فأخذوا عَجَلَةً فجعلوا التابوت عليها وربطوها ببقرتين، وأرسلوهما نحو بلاد بني إسرائيل، فبعث الله ملائكة تسوق البقرتين حتى دخلتا على بني إسرائيل، وهم في أمر طالوت فأيقنوا بالنصر، وقيل غيرُ ذلك‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين‏}‏ يحتمل أن يكون من كلام نبيهم، أو من كلام الحق تعالى لنبينا- عليه الصلاة والسلام-‏.‏

الإشارة‏:‏ من شأن غالب النفوس ألا تقبل الخصوصية عند أحد حتى تظهر علامتُها، ولذلك طالب الكفارُ الرسلَ بالمعجزات، وطالب العوامُ الأولياءَ بالكرامات، ويكفي في الولي استقامة ظاهره، وتحقيق اليقين في باطنه‏.‏

قال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه‏:‏ «إنما هما كرامتان جامعتان محيطتان‏:‏ كرامة الإيمان بمزيد الإيقان ونعت العيان، وكرامة العمل على السنة والمتابعة، وترك الدعاوى والمخادعة، فَمنْ أُعطيهما ثم جعل يشتاق إلى غيرهما فهو مفترٍ كذاب، أو ذو خطأ في العلم والعمل‏.‏‏.‏‏.‏» الخ كلامه رضي الله عنه‏.‏

وقال في العوارف‏:‏ وقد يكون مَنْ لا يُكَاشَفُ بشيء من معاني القَدَر أفضل ممن يكاشف بها، إذا كاشفه الله تعالى بصرف المعرفة، فالقدرة أثر من القادر، ومن أُهِّل لقرب القادر لا يستغرب ولا يستكثر شيئاً من القدرة، ويرى القدرة تتجلّى من سُحُب أجزاء عالم الحكمة‏.‏ فالكرامة إنما تظهر للقلوب المضطربة والنفوس والمتزلزلة، وأما من سكن قلبه باليقين واطمأنت نفسه بالعيان لم يحتج إلى دليل برهان؛ إذ الجبال الراسية لا تحتاج إلى دُعامة، والله تعالى أعلم‏.‏

وكل من طالب أهلَ الخصوصية بالكرامة الحسية ففيه نزعة إسرائيلية، حيث قالوا لنبيهم بعد أن عيَّن لهم مَنْ أكرمه الله بخصوصية الملك‏:‏ ‏{‏أَنَّى يَكُونُ لَهُ لْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُ بِالْمُلْكِ مِنْهُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 247‏]‏‏.‏ ورد الحق تعالى عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏والله يؤتي ملكه من يشاء‏}‏‏.‏ وما أظهر لهم كرامة التابوت إلا بعد امتناعهم من الجهاد المُتَعَيَّنِ عليهم رحمةٌ بهم‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏249‏]‏

‏{‏فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ‏(‏249‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ قال في القاموس‏:‏ غَرَفَ الماء يِغْرُفُه‏:‏ أخذ بيده، كاغْتَرَفه، والغَرْفَةُ للمَرَّة، وبالكسر‏:‏ هيئة الغرف وبالضام‏:‏ اسم للمفعول، كالغرافة، لأنك ما لم تغرفه لا تسميه غُرْفَة، ثم قال‏:‏ والغُرْفَةُ، بالضم‏:‏ العُلِّيَّة‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ولما اتفقوا على مُلك طالوت تجهز للخروج، وقال‏:‏ لا يخرج معه إلا الشبابُ النشيط الفارغُ ليس وراءه غُلْقة، فاجتمع ممن اختار ثمانون ألفاً، وقي‏:‏ ثلاثون، فلما انفصل عن بلده بالجنود وساروا في البيداء- وكان وقت الحرِّ والقيّظ- عطشوا، وسألوا طالوتَ أن يُجري لهم نهراً، فقال لهم بوحْي، أو بإلهام، أو بأمر نبيهم‏:‏ ‏{‏إن الله مبتليكم‏}‏ أي‏:‏ مُختبركم ‏{‏بنهر‏}‏ بسبب اقتراحكم، ‏{‏فمن شرب منه‏}‏ كَرْعاً بلا واسطة ‏{‏فليس مني‏}‏ أي‏:‏ من جيشي، ‏{‏ومن لم يطعمه‏}‏ أي‏:‏ يَذْقه، ‏{‏فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده‏}‏ فإنها تكفيه لنفسه ولفرسه، فالاستثناء من الجملة الأولى‏.‏

‏{‏فشربوا منه‏}‏ أي‏:‏ كَرعُوا، وسقطوا على وجوههم، ‏{‏إلا قليلاً منهم‏}‏ ثلاثُمائةٍ وأربعةَ عشر، على عدد أهل بدر، وقيل‏:‏ ألفاً‏.‏ رُوِيَ أن من اقتصر على الغَرفة كَفَتْه لشربه ودوابه، ومن لم يقتصر غلب عطشُه، واسودَّتْ شفتُه ولم يقدْر أن يمضيَ‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ أن القومَ شربوا على قدر يقينهم‏:‏ فالكفار شربوا شُربَ الهيم، وشَرِب العاصي دون ذلك، وانصرف من القوم ستةٌ وسبعون ألفاً، وبقي بعضُ المؤمنين لم يشرب شيئاً، وأخذ بعضهم الغَرفة، فأما من شرب فاشتد به العطشُ وسقط، وأما من ترك الماءَ فحسن حالُه، وكان أجلَد ممن أخذ الغرفة‏.‏ ه‏.‏

وحكمة هذ الامتحان‏:‏ ليتخلص للجهاد المطيعون المخلصون، إذ لا يقع النصر إلاَّ بهم، فلما جاوز النهرَ طالوتُ ومن بقيَ معه ممن لم يشربْ قال بعضهم لبعض‏:‏ ‏{‏لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده‏}‏؛ لكثرتهم وقلة عددنا، ‏{‏قال الذين يظنون‏}‏ أي‏:‏ يَتَيَقَّنْون ‏{‏أنهم ملاقوا الله‏}‏ ويتوقعون ثوابَ الشهادة وهم الخُلْصُ من أهل البصيرة‏:‏ لا تفزعوا من كثرة عددهم ‏{‏كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله‏}‏ وإرادته ومعونته، و‏{‏كم‏}‏ للتكثير، ‏{‏والله مع الصابرين‏}‏ بالنصر والمعونة‏.‏

الإشارة‏:‏ قال بعض الحكماء‏:‏ الدنيا كنهر طالوت، لا ينجو منها إلا من لم يشربْ أو اغترف غرفةً بيده، فمن أخذ منها قَدْرَ الضرورةِ كَفَتْه، ونَشَطَ لعبادة مولاه، ومن أخذ فوق الحاجة حُبس في سجنها، وكان أسيراً في يدها‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ طالبُ الدنيا كشارب ماءِ البحر، كلما زاد شربه ازداد عطشه‏.‏ ه‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من أُشرب قلبه حُبَ الدنيا التاط منها بثلاث‏:‏ بشغل لا ينفد عناه، وأمل لا يبلغ منتهاه، وحرص لا يدرك مداه» وقال عيسى عليه السلام‏:‏ الدنيا مزرعة لإبليس، وأهلها حراث له ه‏.‏ وقال عليّ رضي الله عنه‏:‏ الدنيا كالحية‏:‏ لَيِّن مسها، قاتل سمها، فكن أحذر ما تكونُ منها، أَسَرَّ ما تكون بها؛ فإن من سكن منها إلى إيناس أزاله عنها إيحاش‏.‏

وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «مِنْ هوان الدنيا على الله أنه لا يُعصى إلا فيها، ولا ينال ما عنده إلا بتركها» وقال سيدنا عليّ- كرّم الله وجهه-‏:‏ أول الدنيا عناء، وآخرها فناء، حلالها حساب، وحرامها عقاب، ومتشابهها عتاب، من استغنى فيها فُتن، ومن افتقر فيها حزن‏.‏ ه‏.‏ وقيل‏:‏ الدنيا تُقبل إقبال الطالب، وتُدبر إدبار الهارب، وتصل وصال الملول، وتُفارق فراق العجول، خيرها يسير، وعمرها قصير، ولذاتها فانية، وتبعاتها باقية‏.‏

وقال عيسى عليه السلام‏:‏ تعملون للدنيا، وأنتم تُرزقون فيها بغير عمل، ولا تعملون للآخرة، وأنتم لا ترزقون فيها إلا بالعمل‏.‏ ه‏.‏ وقيل‏:‏ أوحى الله إلى الدنيا‏:‏ مَنْ خدَمني فاخدِميه، ومن خدمك فاستخدِميه‏.‏

وكان عمرُ بنُ عبد العزيز يتمثل بهذه الأبيات‏:‏

نهارُكَ مغرورُ سهوٌ وغفلةٌ *** وليلُكَ نومٌ، والأسَى لك لازمٌ

تُسَرُّ بما يفْنَى، وتفرحُ بالمُنَى *** كما سُرَّ باللذَّات في النومِ حالمُ

وشغلُك فيها سوف تكرَه غَبَّه *** كذلك في الدنيا تَعيِشُ البهائمُ

وقال آخر‏:‏

هي الدارُ دَارُ الأذى والقذى *** ودارُ الفناءِ ودارُ الْغِيَرْ

فلو نِلْتَها بحذافيرها *** لمِتَّ ولم تَقْضِ منا الوطرْ

أيا مَنْ يؤملُ طولَ الخلودِ *** وطولُ الخلودِ عليه ضررْ

إذا ما كبِرْتَ وفات الشبَابُ *** فلا خيرَ في العيش بعد الكِبرْ

تفسير الآيات رقم ‏[‏250- 252‏]‏

‏{‏وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ‏(‏250‏)‏ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏251‏)‏ تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏252‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ولما برز طالوت بمَن معه ‏{‏لجالوتَ‏}‏، أي‏:‏ ظهر في البرَاز، ودنا بعضهم من بعض، تضرعوا إلى الله واستنصروه، وقالوا‏:‏ ‏{‏ربنا أفرغ علينا صبراً‏}‏ أي‏:‏ أصْبُبْه علينا صبّاً، ‏{‏وثبت أقدامنا‏}‏ عند اللقاء لئلا نَفِرّ، ‏{‏وانصرنا على القوم الكافرين‏}‏‏.‏ وفي دعائهم ترتيب بليغ؛ سألوا أولاً إفراغ الصبر في قلوبهم الذي هو ملاك الأمر، ثم ثبات القدمِ في مَدَاحِضِ الحرب المُسببِ عنه، ثم النصرَ على العدو المرتب عليها غالباً‏.‏

فهزم الله عدوَّهم وأجاب دعاءهم بإذنه وقدرته، ‏{‏وقتل داود جالوت‏}‏‏.‏ وقصة قتله‏:‏ أن أصحاب طالوت كان فيهم بنو إيش، وهو أبو داود عليه السلام ستة أو سبعة، وكان داود صغيراً يرعى غنماً، فلما حضرت الحرب قال في نسفه‏:‏ لأذهبن لرؤية هذه الحرب، فمرَّ في طريقه، بحجر فناداه‏:‏ يا داود خُذْني، فبي تقتل جالوت، ثم ناداه حجر آخر ثم آخر فأخذها، وجعلها في مخلاته وسار، فلما حضر البأس خرج جالوت يطلب البراز، وكاع الناس عنه، أي‏:‏ تأخروا خوفاً، حتى قال طالوت‏:‏ من بيرز له ويقتله فأنا أزوجه ابنتي، وأُحَكِّمُهُ في مالي، فجاء داود، فقال له طالوت‏:‏ اركب فرسي وخذ سلاحي، ففعل، وخرج في أحسن شكله، فلما مشى قليلاً رجع، فقال الناس‏:‏ جَبُنَ الفتى، فقال داود‏:‏ إن الله سبحانه لم يقتله ولم يُعنى عليه، لم ينفعني هذا الفرس ولا هذا السلاح، ولكني أُحب أن أقاتله على عادتي‏.‏ وكان داود من أرمى الناس بالمقلاع، فنزل، وأخذ مخلاته فتقلدها، وأخذ مقلاعه فخرج إلى جالوت، وهو شاكٍ في السلاح، فقال جالوت‏:‏ أنت يا فتى تخرج إليّ‏!‏ قال‏:‏ نعم، قال‏:‏ هكذا كما تخرج إلى الكلب‏!‏ قال‏:‏ نعم، وأنت أهون، قال‏:‏ لأطعمن لحمك اليوم الطير والسباع، ثم تدانيا فأدار داود فأخذ مقلاعه وأدخل يده إلى الحجارة، فروى أنها التأمت، وصارت حجراً واحداً، فأخذه ووضعه في المقلاع، وسَمَّى الله، وأداره، ورماه، فأصاب رأس جالوت فقتله، وجزّ رأسه، وجعله في مخلاته، واختلط الناس، وحمل أصحابُ طالوت فكانت الهزيمة‏.‏

ثم إن داود جاء يطلب شرطه من طالوت، فقال‏:‏ حتى تقتل مائتين من هؤلاء الجراجمة الذين يؤذون الناس يؤذون الناس وتجيئني بسلبهم، فقتل داود منهم مائتين، وجاء بذلك، فدفع إليه امرأته وتخلّى له على الملك‏.‏ ولما تمكن داود- عليه السلام- من الملك، أجلى من بقي من قوم جالوت إلى المغرب، فمن بقيتهم البرابرة من الشلوح وسائر الأرياف‏.‏

فآتي اللّهُ داود ‏{‏الملك والحكمة‏}‏ وهي النبوة، وقيل‏:‏ صنعة الدروع ومنطق الطير ‏{‏وعلمه مما يشاء‏}‏ من أنواع العلوم والمعارف والأسرار، وقد دفع الله بأس الكافرين ورد كيدهم في نحرهم، ‏{‏ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض‏}‏ أي‏:‏ لولا أن الله يدفع بعض الناس ببعض، فينصر المسلمين على الكافرين، ويكف فسادهم، لغلبوا وأفسدوا في الأرض‏.‏

أو‏:‏ لولا أن الله نصب السلطان، وأقام الحكام لينصفوا المظلوم من الظالم‏.‏ ويردوا القوي عن الضعيف، لتواثب الخلق بعضهم على بعض، وأكل القوي الضعيفَ فيفسد النظام‏.‏ أو‏:‏ لولا أن الله يدفع بالشهود عن الناس في حفظ الأموال والنفوس والدماء والأعراض، لوقع الفساد في الأرض‏.‏

أو‏:‏ لولا أن الله يدفع بأهل الطاعة والإحسان عن أهل الغفلة والعصيان، لفسد الأرض بشؤم أهل العصيان‏.‏ وفي الخبر عنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنَّ الله يَدْفَعُ بالمُصلِّي مِنْ أمَّتِي عَمَّنْ لا يُصلي، ويمنْ يُزكيَّ عَمَّنْ لاَ يُزَكِّي، وبِمنْ يَصُومُ، عَمَّنْ لاَ يَصُوم، وبمَنْ يَحُجُّ، عَمَّنْ لاَ يَحُجُّ، وبَمَّنْ يُجاهِدُ عَمَّنْ لاَ يُجَاهِدُ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى تَرْكِ هذِهِ الأشْياءِ ما أنْظَرَهُمُ الله طَرْفة عَيْنٍ»‏.‏

وفي حديث آخر‏:‏ «لولا عباد الله رُكَّع، وصبية رُضَّع، لصبَّ عليكم العذاب صبّاً»‏.‏

ورَوى جابر رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن الله ليُصْلِحُ بصلاح الرجل- ولده وولدَه ولدهِ، وأهل دُوَيْرَتِه، ودويراتٍ حوله، ولا يزالون في حِفْظِ الله ما دام فيهم» ه‏.‏ فهذا من فضل الله على عباده يصلح طالحهم بصالحهم، ويُشَفع خيارُهُم في شرارهم، ولولا ذلك لعوجلوا بالهلاك، ‏{‏ولكن الله ذو فضل على العالمين‏}‏‏.‏

‏{‏تلك‏}‏ يا محمد، ‏{‏آيات الله‏}‏ والإشارة إلى ما قصَّ من حديث الألوف، وتمليك طالوت، وإتيان التابوت، وانهزام الجبابرة أصحاب جالوت، ‏{‏نتلوها‏}‏ أي‏:‏ نقصها عليكم ‏{‏بالحق‏}‏ أي‏:‏ بالوجه المطابق الذي لا يَشُك فيه أهل الكتاب وأرباب التواريخ، ‏{‏وإنك لمن المرسلين‏}‏ حيث أخبرت بها من غير تعرف ولا استماع ولم يعهد منك تعلم ولا اطلاع، فلا يشك أنه مِنْ عند الخبير العليم، إلا من طبع الله على قلبه‏.‏ نعوذ بالله من ذلك‏.‏

الإشارة‏:‏ «من علامة النُجْحِ في النهايات الرجوع إلى الله في البدايات»، فإذا برز المريد لجهاد أعدائه من النفس وَالهوى والشيطان وسائر القُطاع، واستنصر بالله وتبرأ من حوله وقوته، كان ذلك علامة على نصره وظفره بنفسه، وكان سبباً في نجح نهايته، فيملكه الله الوجود بأسره، ويفتح عليه من خزائن حكمته‏.‏ قال أبو سليمان الداراني «‏(‏إذا اعتادت النفوس على ترك الآثام، جالت في الملكوت ثم عادت إلى صاحبها بطرائف الحكم من غير أن يُؤدّي عالمٌ علماً‏)‏‏.‏ وفي الخبر‏:‏» من عَمِل بما عَلِمَ أورثه الله عِلْمَ ما لم يعلمْ «‏.‏ وكان حينئذٍ رحمة للعباد، يدفع الله بوجوده العذاب عمن يستحقه من عباده‏.‏

وفي الحديث القدسي‏:‏» يقول الله عزّ وجلّ‏:‏ «إذا كان الغالبَ على عبدي الاشتغالُ بي جعلتُ همته ولذَّته في ذكري، ورفعت الحجاب فيما بيني وبينه، لا يسهو إذا سها الناس، أولئك كَلاَمُهُم كلام الأنبياء، أولئك الأبطال حقّاً، أولئك الذين إذا أردتُ بأهلِ الأرض عقوبة أو عذاباً ذكرتهم فصرفته بهم عنهم» حقَّقنا الله بمحبتهم وجعلنا منهم‏.‏‏.‏‏.‏ آمين‏.‏

ولمَّا ذكر في هذه السورة جملة من الأنبياء والرسل، وشهد لرسوله صلى الله عليه وسلم أنه من المرسلين ذكر تفضيل بعضهم على بعض في الجملة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏253‏]‏

‏{‏تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ‏(‏253‏)‏‏}‏

‏{‏تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ البينات وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القدس‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

‏{‏قلت‏}‏‏:‏ ‏{‏تلك‏}‏‏:‏ مبتدأ، و‏{‏الرسل‏}‏‏:‏ نعت، أو بدل منه، أو بيان، و‏{‏فضلنا‏}‏‏:‏ خبر، أو ‏{‏الرسل‏}‏ خبر، و‏{‏فضلنا‏}‏‏:‏ خبر ثان، والإشارة إلى الجماعة المذكور قَصَصُها في السورة‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏تلك الرسل‏}‏ الذين قصصناهم عليك، وذكرتُ لك أنك منهم، ‏{‏فضلنا بعضهم على بعض‏}‏ بخصائص ومناقب لم توجد في غيره‏.‏ لكن هذا التفضيل إنما يكون في الجملة من غير تعيين المفضول، لأنه تنقيص في حقه وهو ممنوع‏.‏ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «لا تُخَيِّرُوا بَيْنَ الأَنبِيَاءَ» «ولا تفضلوني على يونس بن متى» فإن معناه النهي عن تعيين المفضول، لأنه غيبة وتنقيص، وقد صرّح صلى الله عليه وسلم بفضله على جميع الأنياء بقوله‏:‏ «أنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ ولا فَخْرَ» ولكن لا يُعَيِّن أحداً من الأنبياء بالمفضولية؛ لئلا يؤدي إلى نقصه، فلا تعارُضَ ين الحديثين‏.‏

‏{‏منهم مَن كلّم الله‏}‏ وهو موسى عليه السلام في جبل الطور، وسيّدنا محمد صلى الله عليه وسلم حين كان قاب قوسين أو أدنى، ‏{‏ورفع بعضهم درجات‏}‏ وهو نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإنه خُصَّ بالدعوة العامة، والحُجَج المتكاثرة، والمعجزات المستمرة، والآيات المتعاقبة بتعاقب الدهر، والفضائل العلمية والعملية الفائتة للحصر‏.‏ والإبهام لتفخيم شأنه، كأنه العلم المشهور المتعين لهذا الوصف المستغني عن التعيين‏.‏ وقيل‏:‏ إبراهيم، خصه بالخلة التي هي أعلى المراتب‏.‏ قلت‏:‏ بل المحبة أعلى منها، وقيل‏:‏ إدريس لقوله‏:‏ ‏{‏وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً‏}‏ ‏[‏مريَم‏:‏ 57‏]‏، وقيل‏:‏ أولو العزم من الرسل، قاله البيضاوي‏.‏

‏{‏وآتينا عيسى ابن مريم البينات‏}‏ أي‏:‏ الآيات الواضحات، كإحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، ‏{‏وأيدناه بروح القدس‏}‏، أي‏:‏ جبريل عليه السلام كان معه أينما سار، وخصَّه بالتعيين؛ فإفراط اليهود والنصارى في تحقيره وتعظيمه، فردَّهم إلى الصواب باعتقاده نبوته دون ربوبيته‏.‏

الإشارة‏:‏ كما فضَّل الله الرسل بعضهم على بعض، كذلك فضل الأولياء بعضهم على بعض، وإنما يقع التفضيل بكمال اليقين، والتغلغل في علم التوحيد الخاص، ذوقاً وكشفاً، والترقي في المعارف والأسرار، وذلك بخدمة الرجال وصحبة أهل الكمال، والتفرغ التام، والزهد الكامل في النفس والفَلْس والجنْس، فمنهم من تحصل له المشاهدة وتصحبها المكالمة، ومنهم من تحصل له المشاهدة دون المكالمة، ومنهم من تحصل له الكرامات الواضحة، ومنهم من لا يرى شيئاً من ذلك استغناءً عنها بكرامة المعرفة‏.‏ وما قيل في الرسل من عدم تعيين المفضول، مثله يقال في حق الأولياء، وإلا وقع في الغيبة الشنيعة؛ فإن لحوم الأولياء سموم، فليعتقد الكمال في الجميع، ولا يصرح بتعيين المفضول كما تقدم‏.‏

والله تعالى أعلم‏.‏

ولما ذكر الحقّ تعالى أحوال الرسل، وتفاوتهم في العناية، ذكر أحوال أممهم وتفاوتهم في الهداية، فقال‏:‏

‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتل الذين مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات ولكن اختلفوا فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتلوا ولكن الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ‏}‏

قلت‏:‏ إذا وقع فعل المشيئة بعد ‏{‏لو‏}‏ فالغالب حذف مفعوله، كقوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 176‏]‏، أي‏:‏ لو شئنا رفعه لرفعناه بها، وكقوله‏:‏ ‏{‏ولو شاء الله ما اقتتل‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏، أي‏:‏ لو شاء هدايتهم ما اقتتلوا، وغير ذلك‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ولما بعثتُ الرسلَ، وفضَّلتُ بعضَهم على بعض، اختلفت أممهم من بعدهم فاقتتلوا، وكل ذلك بإرادتي ومشيئتي، ‏{‏ولو شاء الله‏}‏ هداية أممهم ‏{‏ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم‏}‏ المعجزات الواضحات في تحقيق رسالتهم وصحة نبوتهم، ‏{‏ولكن اختلفوا‏}‏ بغياً وحسداً؛ ‏{‏فمنهم من آمن‏}‏ بتوفيقه لاتباع دين الأنبياء، ‏{‏ومنهم من كفر‏}‏ بمخالفتهم، فكان من الأشقياء، ‏{‏ولو شاء الله‏}‏ جَمْعهم على الهدى ‏{‏ما اقتتلوا‏}‏، لكن حكمته اقتضت وجود الاختلاف؛ ليظهر سر اسمه المنتقم والقهار واسمه الكريم والحليم، ‏{‏ولكن الله يفعل ما يريد‏}‏ ‏{‏لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبيَاء‏:‏ 23‏]‏‏.‏

وفي الآية دليل على أن الحوادث كلها بيد الله خيرها وشرها، وأن أفعال العباد كلها بقدرته تعالى، لا تأثير لشيء من الكائنات فيها‏.‏ وهذا يردُّ قول المعتزلة القائلين بخلق العبد أفعاله، فما أبعدهم عن الله‏.‏ نسأل الله العصمة بمنِّه وكرمه‏.‏

الإشارة‏:‏ اختلاف الناس على الأولياء سُنة ماضية وحكمة أزلية، ‏{‏وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً‏}‏ ‏[‏الأحزَاب‏:‏ 62‏]‏، ‏{‏وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ‏}‏ ‏[‏هُود‏:‏ 118‏]‏، فمن رأيته من الأولياء اتفق الناسُ على تعظيمه في حياته فهو ناقص أو جاهل بالله؛ إذ الداخل على الله منكور، والراجع إلى الناس مبرور، وهذا هو الغالب، والنادر لا حكم له، فلو كان الاتفاق محموداً لكان على الأنبياء أولى، فلما لم يقع للأنبياء والرسل، لم يقع للأولياء؛ إذ هم على قدمهم، وقائمون بالوراثة الكاملة عنهم‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏254‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏254‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم‏}‏ واجباً أو تطوعاً في وجوه الخير، وخصوصاً في الجهاد الذي نحن بصدد الحضّ عليه، وقدموا لأنفسكم ما تجدونه بعد موتكم ‏{‏من قبل أن يأتي يوم‏}‏ الحساب، واقتضاء الثواب، يوم ليس فيه ‏{‏بيع‏}‏ ولا شراء، فيكتسب ما يقع به الفداء، وليس فيه ‏{‏خُلّة‏}‏ تنفعُ إلا خلة الأتقياء ‏{‏ولا شفاعة‏}‏ ترجى ‏{‏إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِىَ لَهُ قَوْلاً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 109‏]‏ فأنفقوا مما خولناكم في سبيل الله، وجاهدوا الكافرين أعداء الله، فإن الكافرين ‏{‏هم الظالمون‏}‏؛ حيث وضعوا عبادتهم في غير محلها، ونسبوا الربوبية لغير مستحقيها، إذ لا يستحقها إلا الحيّ القيّوم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏255‏]‏

‏{‏اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ‏(‏255‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏الله‏}‏‏:‏ مبتدأ، وجملة ‏{‏لا إله إلا هو‏}‏‏:‏ خبره، والضمير المنفصل بدل من المستتر في الخبر، و‏{‏الحي‏}‏‏:‏ إما خبر ثانيٍ، أو لمبتدأ مضمر، أو بدل من ‏{‏الله‏}‏، و‏{‏قيوم‏}‏ فَيْعُول، مبالغة من القيام، ومعناه‏:‏ القائم بنفسه المستغني عن غيره‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏الله‏}‏ الواجب الوجود لا يستحق العبادة غيره، فمن عبد غيره فقد أتى بظلم عظيم ‏{‏الحي‏}‏ أي‏:‏ الدائم بلا أول، الباقي بلا زوال؛ الذي لا سبيل عليه للموت والفناء، ‏{‏القيوم‏}‏ أي‏:‏ دائم القيام بتدبير خلقه في إيصال المنافع ودفع المضار، وجلب الأرزاق وأنواع الارتقاء، ‏{‏لا تأخذه سنة ولا نوم‏}‏ السنة‏:‏ ما يتقدم النوم من الفتور، والنوم‏:‏ حالة تعرض للإنسان من استرخاء أعصاب الدماغ من رطوبات الأبخرة المتصاعدة، فتقف الحواس الظاهرة عن الإحساس رأساً‏.‏

وتقديم السنَة عليه، على ترتيب الوجود، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً‏}‏ ‏[‏التّوبَة‏:‏ 121‏]‏، وجمع بينهما؛ لأنه لو اقتصر على نفس السَّنَة عند لتوهم أن النوم يغلبه لأنه أشد، ولو اقتصر على نفي النوم لتوهم أن السنة تلحقه لخفتها‏.‏ والمراد تنزيهه تعالى عن آفات البشرية، وتأكيد كونه حيّاً قيوماً، فإن من أخذه نعاس أو نوم يكون مؤوف الحياة، قاصراً في الحفظ والتدبير‏.‏ ولذلك ترك العطف فيه وفي الجمل التي بعدَه؛ لأنها كلها مقررة له، أي‏:‏ للحيّ للقيّوم‏.‏

وقد ورد أنه اسم الله الأعظم، وقال عليه الصلاة والسلام لفاظمة- رضي الله عنها‏:‏ «ما مَنَعك أن تَسْمَعي ما أُوصِيك به تَقُولين إذا أصْبَحْتِ وإذا أمْسَيتِ يا حيّ يا قيُّوم، برحمتِكَ أستغيث أصْلحْ لي شأني كُلَّه، ولا تَكلْني إلى نفْسِي طَرْفَةَ عَيْنِ» رواه النسائي وأخرج مسلم عن أبي موسى رضي الله عنه قال‏:‏ «قَامَ فِينَا رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم بخَمْسِ كلماتٍ قال‏:‏» إنَّ الله عزَّ وجلَّ لا ينامُ، ولا يَنْبَغِي لَهُ أنْ يَنَام، يَخْفِضُ القِسطُ ويَرْفَعُهُ‏.‏ يُرْفَعُ إلَيْهِ عَمَلُ اللَّيل قَبْلَ عَمَلَ النَّهَارِ وعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَملِ اللَّيلِ، حِجَابُهُ النُّورُ «- وفي رواية‏.‏ النَّارُ-» لَوْ كَشَفَهُ لأحْرَقَتْ سُبَحَاتُ وَجْهِهِ ما أدركه بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ «‏.‏

له ما في السماوات وما في الأرض‏}‏ هذا تقرير لقيوميته تعالى، واحتاج على تفرده في الألوهية‏.‏ والمراد بما بما فيهما‏:‏ ما هو أعمُّ من أجزائهما الداخلة فيهما ومن الأمور الخارجة عنهما، المتمكنة فيهما، من العقلاء وغيرهم، فهو أبلغ من ‏(‏له السماوات والأرض وما فيهن‏)‏، يعني‏:‏ أن الله يملك جميع ذلك من غير شريك ولا منازع، وعبر ب ‏{‏ما‏}‏ تغليباً للغالب‏.‏

‏{‏من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه‏}‏ هذا بيان لكبرياء شأنه، وأنه لا يدانيه أحد ليقدر على تغيير ما يريده بشفاعة واستكانة، فضلاً عن أن يعاوقه عناداً أو مناصبة‏.‏

والاستفهام إنكاري، أي‏:‏ لا أحد يشفع عنده لمن أراد تعالى عقوبته، إلا بإذنه، وذلك أن المشركين زعموا أن الأصنام تشفع لهم، فأخبر تعالى أنه لا شفاعة عنده إلا بإذنه، يريد بذلك شفاعة النبيّ صلى الله عليه وسلم وبعض الأنبياء والأولياء والملائكة‏.‏

‏{‏يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم‏}‏ أي‏:‏ ما قبلهم وما بعدهم، أو بالعكس، لأنك تستقبل المستقبل وتستدبر الماضي؛ وقيل‏:‏ ‏{‏يعلم ما بين أيديهم‏}‏ من الدنيا ‏{‏وما خلفهم‏}‏ من الآخرة، وقيل‏:‏ عكسه، لأنهم يقدمون ويُخَلِّفُون الدنيا وراءهم، وقيل‏:‏ يعلم ما قدموه بين أيديهم من خير أو شر، وما خلفهم وما هم فاعلوه، أو عكسه‏.‏ والمراد أنه سبحانه أحاط بالأشياء كلها، فلا يخفى عليه شيء ‏{‏ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء‏}‏ أي‏:‏ لا يحيطون بشيء من معلوماته تعالى إلا بما شاء أن يُطْلعهم عليه، وعطفه على ما قبله؛ لأن مجموعه يدل على تفرده تعالى بالعلم الذاتي التام، الدال على وحدانيته تعالى في ذاته وصفاته‏.‏

‏{‏وسع كرسِيُّه السماوات والأرض‏}‏ يقال‏:‏ فلان يسَعُ الشيء سعة إذا احتمله وأطاقه وأمكنه القيامُ به‏.‏ ويقال‏:‏ وسع الشيءُ الشيء إذا أحاط به وغمره حتى اضمحلّ في جانبه، وهذا المعنى هو اللائق هنا‏.‏ وأصل الكرسي في اللغة‏:‏ من تَركّب الشيء بعضه على بعض، ومنه الكراسة، لتركب أوراقها بعضها على بعض، وفي العرف‏:‏ اسم لما يُقعد عليه، سُمِّي به لتركب خشباته‏.‏ واختلف فيه فقيل‏:‏ العرش، وقيل‏:‏ غيره‏.‏

والصحيح أنه مخلوق عظيم أمام العرش، فوق السماوات السبع دون العرش‏.‏ يقال‏:‏ إن السماوات والأرض في جنب الكرسي كحلقة في فلاة‏.‏ والكرسي في جانب العرش كحلقة في فلاة‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ ‏(‏أن السماوات في الكرسي كدراهم سبعة في تُرْسٍ‏)‏ وقيل‏:‏ كرسيه‏:‏ علمه‏.‏

قال البيضاوي‏:‏ هو تصوير لعظمته تعالى وتمثيل مجرد، كقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتُ بِيَمِينِهِ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 67‏]‏ ولا كرسي في الحقيقة ولا قاعد‏.‏ وقيل‏:‏ كرسيه مجاز عن علمه أو ملكه، مأخوذ من كرسي العلم والملك، وقيل‏:‏ جسم بين يدي العرش محيط بالسموات السبع لقوله- عليه الصلاة والسلام-‏:‏ «ما السموات السبع والأرضون السبع في الكرسي إلا كحلقة في فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة» ولعله الفلك المشهور بفلك البروج‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ وقد اعترض السيوطي في حاشيته عليه‏.‏ فالله تعالى أعلم‏.‏

‏{‏ولا يؤوده‏}‏ أي‏:‏ لا يُثْقله ولاَ يُشقُّ عليه ‏{‏حفظهما‏}‏ أي‏:‏ حفظ السماوات والأرض‏.‏ وإنما لم يتعرض لذكر ما فيهما لأن حفظهما مُسْتَتْبع لحفظه، ‏{‏وهو العلي‏}‏ أي‏:‏ المتعالي عن الأشباه والأنداد، ‏{‏العظيم‏}‏ أي‏:‏ عظيم الشأن، جليل القدر، الذي يُستحفرُ كلُّ شيء دون عظمته‏.‏

وهذه الآية مشتملة على أمهات المسائل الإلهية، فإنها دالّة على أنه تعالى موجود واحد في الألوهية، متصف بالحياة الذاتية، واجب الوجود لذاته، موجد لغيره؛ إذ القيوم هو القائم بنفسه المقيم لغيره، منزه عن التحيّز والحلو، مُبرَّأ عن التغير والفتور، لا يناسب الأشباح، ولا يعتريه ما يعتري الأرواح، مالك الملك والملكوت، مبدع الأصول والفروع، ذو البطش الشديد، الذي لا يشفع عنده إلا من أذن له‏.‏

عالم بالأشياء كلها‏:‏ جَليِّها وخَفِيِّها، وكُليها وجِزْئيَّها‏.‏ واسع الملك والقدرة لكل ما يصح أن يملك ويقدر عليه، لا يشقُّ عليه شاقٌّ، ولا يشْغَله شأن عن شأن، مُتَعَالٍ عن تناول الأوهام، عظيمٌ لا تحيط به الأفهام، ولذلك تفردت عن أخواتها بفضائل رائعة وخواص فائقة، قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أعظمُ آيةٍ في القرآنِ آيةُ الكُرْسيّ» وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «مَنْ قَرَأَ آيَةَ الكُرْسيّ دبُر كُلِّ صلاةٍ مكتوبةٍ لم يَمْنَعْهُ من دُخُولِ الْجنَّة إلا الموتُ»- وفي رواية- «كانَ الذي يَتوَلَّى قَبْضَ رُوحِه ذُو الجَلاَل والإكْرَام- ولا يُوَاظِبُ عليها إلا صِدِّيقٌ أو عَابدْ، ومن قَرَأها إذا أخَذ مَضْجَعَه أمن على نفْسِه وَجارِه وَجارِ جَارِه، والأبيات حَوْلَه»‏.‏

وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «ما قُرئت هذه الآيةُ في بيْت إلا هَجَرَتْهُ الشياطينُ ثلاثين يَوْماً، ولا يدْخُله ساحرُ ولا ساحرةٌ أربعين يوماً، يا عليّ؛ علِّمْها ولدَك وأهلكَ وجيرانَك، فما نزلَتْ آيةٌ أعظمُ منها» قاله البيضاوي وأبو السعود، وتكلم السوطي في بعض هذه الأحاديث‏.‏ والفضائل يعمل فيها بالضعيف‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ يا أيها الذين آمنوا أيمان أهل الخصوصية- ‏{‏أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْناكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 254‏]‏ من سعة العلوم ومخازن الفهوم، من قبل أن يأتي يوم اللقاء، يوم تسقط فيه المعاملات وتغيب تلك الإشارت، لا ينفع فيه إلا الدخول من باب الكرم، فيلقى الله بالله دون شيء سواه، والجاحدون لهذا هم الظالمون لأنفسهم، حيث اعتمدوا على أعمالهم فلقُوا الله بالصنم الأعظم، والحيُّ اليّوم الكبير المتعال غني عن الانتفاع بالأعمال، وبالله التوفيق‏.‏

ومَنْ عرف أنه الحيّ الذي لا يموت توكل عليه‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحِىْ الَّذِى لاَ يَمُوتُ‏}‏ ‏[‏الفُرقان‏:‏ 58‏]‏‏.‏ والتعلق به‏:‏ استمداد حياة الروح بالعلم والمحبة الكاملة‏.‏ ومن عرف أنه الحيّ القيّوم وثق به، ونسي ذكر كل شيء بذكره، ولم يشاهد غيره بمشاهدة قيوميته‏.‏ والتعلق به استمداد معرفة قيوميته حتى يستريح من نكد التدبير، والتخلق به بأن تكون قائماً على ما كُلِّفْتَ به من أهْلٍ وَوَلَدٍ ونَفْسٍ ومَالٍ، وكُلِّ من تعلق بك من النساء والرجال‏.‏

ولمَّا وصف الحيُّ تعالى نفسه بأوصاف الكمال من الكبرياء، والعظمة والجلال وكانت شواهد ذلك ظاهرة في خلقه حتى تبيَّن الحق من الباطل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏256‏]‏

‏{‏لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏256‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏الرُشْد‏}‏‏:‏ مصدر رَشُد، بالكسر والضم، رشداً ورشاداً، و‏{‏الغي‏}‏‏:‏ مصدر غَوَى، إذا ضلَّ مُعْتَقَدِه، و‏{‏الطاغوت‏}‏‏:‏ فعلوت من الطغيان، وأصله‏:‏ طغيوت، فقلبت لام الكلمة لعينها فصار طيغوت، ثم قلبت الياء ألفاً‏.‏ وهو كل ما عُبد من دون الله راضياً بذلك، و‏{‏العروة‏}‏‏:‏ ما تستمسك به اليد عند خوف الزلل كالحبل ونحوه، ووثوقها‏:‏ متانتها، وانفصامها أن تنفك عن موضعها، وأصل الفصم في اللغة‏:‏ أن ينفك الخلخال ونحوه ولا يَبِين، فإذا بان فهو القَصْم- بالقاف- وهو هنا استعارة للدّين الصحيح‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ في شأن رجلًٍ من الأنصار، تَنَصَّر ولدَاه قبل البَعْثَة فلما جاء الإسلامُ قَدِمَا إلى المدينة فدعاهما أبوهما إلى الإسلام فامتنعا، فَلزمَهُمَا أبوهُما وقال‏:‏ والله لا أدِعكما حتى تُسلما، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله‏:‏ ‏{‏لا إكراه في الدين‏}‏، فهو خبر بمعنى النهي، أي‏:‏ لا تُكرهوا أحداً على الدخول في الدين‏.‏ وهو خاص بأهل الكتاب‏.‏

قال البيضاوي‏:‏ إذ الإكراه في الحقيقة هو‏:‏ إلزام الغير فعلاً لا يرى فيه خيراً، ولكن ‏{‏قد تبين الرشد من الغي‏}‏ أي تميّز الإيمان من الكفر بالآيات الواضحة، ودلت الدلائل على أن الإيمان رشد يوصل إلى السعادة الأبدية، والكفر غيّ يوصل إلى الشقاوة السرمدية‏.‏ والعاقل متى تبين له ذلك بادرت نفسُه إلى الإيمان طلباً للفوز بالسعادة والنجاة، ولم يحتج إلى الإكراه والإلجاء‏.‏ ه‏.‏

‏{‏فمن يفكر بالطاغوت‏}‏ أي‏:‏ يبعد عنها ويجحد ربوبيتها ‏{‏ويؤمن بالله‏}‏ أي‏:‏ يصدق بوحدانيته، ويقر برسله، ‏{‏فقد استمسك بالعروة الوثقى‏}‏ أي‏:‏ فقد تسمك بالدين المتين، لا انقطاع له أبداً، ‏{‏والله سميع‏}‏ بالأقوال، ‏{‏عليم‏}‏ بالنيات، فإنَّ الدين مشتمل على قول باللسان وعقد بالجَنَان، فحسن التعبير بصفة السمع والعلم‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ قال في الحكم‏:‏ «لا يخاف عليك أن تلتبس الطرق، إنما يخاف عليك من غلبة الهوى عليك»‏.‏ وقال أحمد بن حضرويه‏:‏ الطريق واضح، والحق لائح، والداعي قد أَسْمَع، ما التحير بعد هذا إلا من العمَى‏.‏ ه‏.‏ فطريق السير واضحة لمن سبقت له العناية، باقية إلى يوم القيامة، وكل ما سوى الله طاغوت، فمن أعرض عن السَّوَى، وعلق قلبه بمحبة المولى، فقد استمسك بالعروة الوثقى، التي لا انفصام لها على طول المدى، وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏257‏]‏

‏{‏اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏257‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ الولي‏:‏ هو المحب الذي يتولى أمور محبوبه، أو الناصر الذي ينصر محبوبه، ولا يخذله بأن يكله إلى نفسه‏.‏ وجملة ‏{‏يخرجهم‏}‏‏:‏ حال من الضمير المستتر في الخبر، أو من الموصول أو منها، أو خبر ثان‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏الله ولي الذين آمنوا‏}‏ أي‏:‏ محبهم ومتولي أمورهم، ‏{‏يخرجهم من‏}‏ ظلمات الكفر والجهل، ومتابعة الهوى وقبول الوسواس، والشبه المُشْكِلة في التوحيد- إلى نور الإيمان واليقين، وصحة التوحيد، ومتابعة الداعي إلى الله، ‏{‏والذين كفروا أولياؤهم‏}‏ أي‏:‏ أحباؤهم ‏{‏الطاغوت‏}‏ أي‏:‏ الشياطين، أو المضلات من الهوى والشيطان وغيرهما، ‏{‏يُخرجونهم من النور‏}‏ الذي مُنحوه بالفطرة الأصلية، أو يصدونهم من الدخول في الإيمان إلى ظلمات الكفر والجهل، والتقليد الرديء واتباع الهوى، ‏{‏أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون‏}‏ بسبب نِيَّاتهم البقاء على الكفر إلى الممات، ولم يذكر في جانب المؤمنين دخول الجنة؛ لتكون عبادتهم عبودية، لا خوفاً ولا طمعاً‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ ‏{‏الله ولي الذين آمنوا‏}‏؛ حيث تولاهم بسابق العناية، وكلأهم بعين الرعاية، يخرجهم أولاً من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، ثم من ظلمات الحس ورؤية الأكوان إلى نور المعاني بحصول الشهود والعيان، فافن عن الإحساس تر عبراً‏.‏ «الكون كله ظلمة، وإنما أناره ظهور الحق فيه»‏.‏ أو تقول‏:‏ الكون كله ظلمة لأهل الحجاب، وأما عند أهل المعرفة فالكون عندهم كله نور، وإنما حجبه ظهور الحكمة فيه، «فمن رأى الكون ولم يشهد النور فيه، أو قبله، أو بعده، فقد أعوزه وجود الأنوار وحجبت عنه شموس المعارف بسحب الآثار»‏.‏ والذين كفروا- وهم الذين سبق لهم الشقاء، وحكم عليهم بالبعد القدر والقضاء- أولياؤهم الطاغوت، وهم القواطع‏:‏ من الهوى والشيطان والدنيا والناس، ‏{‏يخرجونهم من النور إلى الظلمات‏}‏ أي‏:‏ يمنعونهم من شهود تلك الأنوار السابقة، إلى الوقوف مع تلك الظلمات المتقدمة، فهم متعاكسون مع من سبقت لهم العناية، فما خرج منه أهل العناية وقع فيه أهل الغواية‏.‏ نسأل الله الحفظ والعافية في الدنيا والآخرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏258‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏258‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏أن آتاه‏}‏‏:‏ على حذف لام العلة، و‏{‏إذ قال‏}‏‏:‏ ظرف ل ‏{‏حاجَّ‏}‏، أبو بدل من ‏{‏آتاه الله‏}‏‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ متعجباً من جهالة النمرود، والمراد تعجيب السامع‏:‏ ‏{‏ألم تر‏}‏ يا محمد، ‏{‏إلى‏}‏ جهالة ‏{‏الذي حاج إبراهيم‏}‏ أي‏:‏ خاصمه ‏{‏في ربه‏}‏ لأجْل ‏{‏أن‏}‏ أعطاه ‏{‏الله الملك‏}‏، أي‏:‏ حمله على ذلك بطر الملك‏.‏ وذلك أنه لما كسَّر إبراهيم الأصنام، سجنه أياماً، وأخرجه من السجن، وقال له‏:‏ من ربك الذي تعبد‏؟‏ ‏{‏قال‏}‏ له ‏{‏إبراهيم‏}‏ عليه السلام‏:‏ ‏{‏ربي الذي يحيي ويميت‏}‏، أي‏:‏ يخلق الأرواح في الأجسام، ويخرجها عند انقضاء آجالها، ‏{‏قال‏}‏ نمرود‏:‏ ‏{‏أنا أحيي واميت‏}‏، فدعا برجلين فقتل أحدهما، وعفا عن الآخر، فلما رأى إبراهيم عليه السلام غلطه وتشغيبه عدل له إلى حجة أخرى، لا مقدور للبشر على الإتيان بمثلها، فال له‏:‏ ‏{‏فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها‏}‏ أنت ‏{‏من المغرب‏}‏؛ لأنك تدَّعي الربوبية، ومن شأن الربوبية أن تقدر على كل شيء، ولا يعجزها شيء، ‏{‏فبُهت الذي كفر‏}‏ أي‏:‏ غُلب وصار مبهوتاً، ‏{‏والله لا يهدي القوم الظالمين‏}‏ إلى قبول الهداية، أو إلى طريق النجاة، أو إلى محجة الاحتجاج‏.‏

الإشارة‏:‏ قال بعض الحكماء‏:‏ للنفس سر، ظهر على فرعون والنمرود، حتى صرّحا بدعوى الربوبية‏:‏ قلت‏:‏ وهذا السر هو ثابت للروح في أصل نشأتها؛ لأنها جاءت من عالم العز والكبرياء‏.‏ انظر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى‏}‏ ‏[‏الحِجر‏:‏ 29‏]‏، وقال أيضاً‏:‏ ‏{‏قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى‏}‏ ‏[‏الإسَراء‏:‏ 85‏]‏ أي‏:‏ سر من أسراره، فلما رُكبت في هذا القلب الذي هو قالب العبودية- طلبت الرجوع إلى أصلها‏.‏ فجعل لها الحقّ جلّ جلاله باباً تدخل منه فترجع إلى أصلها؛ وهو الذل والخضوع والانكسار والافتقار، فمن دخل من هذا الباب، واتصل بمن يعرّفه ربه، رجعت روحه إلى ذلك الأصل، وأدركت ذلك السر، فمنها من تتسع لذلك السر وتطيقه، ومنها من تضيق عن حمله وتبوح به، فتقتلها الشريعة، كالحلاج وأمثاله، ومن طلب الرجوع إلى ذلك الأصل من غير بابه، ورام إدراكه بالعز والتكبّر، طُرد وأُبعد، وهو الذي صدر من النمرود وفرعون وغيرهما ممن ادّعى الربوبية جهلاً‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

ثم ذكر الحقّ تعالى من أدركته العناية، وفي قصته برهان على إحياء الموتى الذي احتج إبراهيم- عليه السلام-‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏259‏]‏

‏{‏أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏259‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏أو‏}‏ عاطفة، و‏{‏كالذي‏}‏‏:‏ معطوف على الموصول المجرور بإلى، أي‏:‏ ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه، وإلى مثل الذي مرّ على قرية‏.‏ وإنما أدخل حرف التشبيه؛ لأن المُنكر للإحياء كثيرٌ، والجاهل بكيفيته أكثر، بخلاف مدعي الربوبية فإنه قليل‏.‏ وقيل‏:‏ الكاف مزيدة، والتقدير‏:‏ ألم تر إلى الذي حاج وإلى الذي مرَّ، و‏{‏أنَّى‏}‏‏:‏ ظرف ليُحيي، بمعنى‏:‏ متى، أو حال بمعنى كيف، و‏{‏يتسنه‏}‏ بمعنى يتغير، وأصله‏:‏ يتسنن، فأبدلت النون الثالثة حرف علة‏.‏ قال في الكافية‏:‏

وثَالِثَ الأمثَالِ أبدِلَنْه يا *** نحو ‏(‏تَظَنَّى خالدٌ تَظَنِّيَا‏)‏

فصار تَسَنَّى ثم حُذفت للجازم، وأتى بهاء السَّكْت، وقفا ووصل، كالعِوض من المحذوف، وقيل‏:‏ من السَّنة، وهو التغير، فالهاء أصلية، و‏{‏لنجعلنك‏}‏‏:‏ معطوف على محذوف، أي‏:‏ لتعتبر ولنجعلك آية للناس‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ألم تر يا محمد أيضاً إلى مثل الذي ‏{‏مرَّ على قرية‏}‏، وهو عُزَير، حَبْرُ بني إسرائيل- وقيل‏:‏ غيره- مرَّ على بيت المقدس حين خربها بُختنصر ‏{‏وهي خاوية‏}‏ ساقطة حيطانها ‏{‏على عروشها‏}‏ أي‏:‏ سقفها، وذلك بعد مائة سنة حتى سقطت العروش، ثم سقطت الحيطان عليها، فلما رآها خالية، وعظام الموتى فيها بالية، ‏{‏قال‏}‏ في نفسه‏:‏ ‏{‏أنَّى يحيي هذ الله بعد موتها‏}‏ أي‏:‏ متى يقع هذا‏.‏ اعترافاً بالقصور عن معرفة طريق الإحياء، واستعظاماً لقدرة المحيي، إن كان القائل عزيراً، أو استبعاداً إن كان كافراً، ‏{‏فأماته الله مائة عام‏}‏ أي‏:‏ ألبثه ميتاً مائة عام، ‏{‏ثم بعثه‏}‏ بالإحياء، فقال له على لسان الملك، أو بلا واسطة‏:‏ ‏{‏كم لبثت‏}‏ ميتاً‏؟‏ ‏{‏قال لبثت يوماً أو بعض يوم‏}‏، وذلك أنه مات ضحى وبعث بعد مائة عام قبل غروب الشمس، فقال قبل النظر إلى الشمس ‏{‏يوماً‏}‏، ثم التفت فرأى بقية منها، فقال‏:‏ ‏{‏أو بعض يوم‏}‏ على الإضراب، قال له الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏بل لبثت مائة عام‏}‏‏.‏

وذلك أن عزيراً ذهب ليخترف لأهله فجعل على حماره سَلة عنب وجَرَّة عصير‏.‏ فلما مرَّ بتلك القرية ربط حماره، وجعل يتعجب من خرابها وخلائها بعد عمارتها، فقال في نفسه ما قال، فلطف الله به، وأراه كيفية الأحياء عياناً، فأماته مائة عام، حتى بليت عظام حماره وبقي العصير والعنب كأنه حين جنى وعصر فقال له جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏فانظر إلى طعامك‏}‏ وهو العنب، ‏{‏وشرابك‏}‏ وهو العصير، ‏{‏لم يتسنه‏}‏، أي‏:‏ لم يتغير بمرور الزمان وطول المدة، ‏{‏وانظر إلى حمارك‏}‏ كيف تفرقت أوصاله، وبليت عظامه، فعلنا ذلك بك لتشاهد قدرتنا، ‏{‏ولنجعلك آية للناس‏}‏ بعدك، ‏{‏وانظر إلى العظام‏}‏ أي‏:‏ عظام حمارك، ‏{‏كيف ننشرها‏}‏، أي‏:‏ نحييها، من نَشَرَ الله الموتى‏:‏ أحياها‏.‏ أو‏:‏ ‏{‏كيف ننشزها‏}‏ بالزاي- أي‏:‏ نرفع بعضها، ونركبه عليه، ‏{‏ثم نكسوها لحماً‏}‏‏.‏

فنظر إلى العظام، فقام كلُّ عَظْم إلى موضعه، ثم كسى لحماً وجلداً، وجعل ينهق، ‏{‏فلما تبين له‏}‏ ما كان استغربه وأُشكل عليه ‏{‏قال أعلمُ‏}‏ عليم اليقين ‏{‏أن الله على كل شيء قدير‏}‏، أو فلما تبين له الحق، وهو قدرته تعالى على كل شيء، قال لنفسه‏:‏ ‏{‏أعلمُ أن الله على كل شيء قدير‏}‏‏.‏

رُوِيَ أنه أتى قومه على حماره، وقال أنا عزير، فكذبوه، فقرأ التوراة من حفظه، ولم يحفظها أحد قبله، فعرفوه بذلك، وقالوا‏:‏ هو ابن الله- تعالى عن قولهم- وقيل‏:‏ لما رجع إلى منزله- وكان شاباً- وجد أولاده شيوخاً، فإذا حدَّثهم بحديث قالوا‏:‏ حديث مائة سنة‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ في هذه الآية والتي بعدها، الإشارة إلى الأمر بتربية اليقين والترقي فيه من علم اليقين إلى عين اليقين، فإن الروح ما دامت محجوبة بالوقوف مع الأسباب والعوائد، وبرؤية الحس والوقوف مع الوسائط، لم تخل من طوارق الشكوك وخواطر، فإذا انقطعت إلى ربها، وخرقت عوائد نفسها، كشف لها الحق تعالى عن أستار غيبه، وأطلعها على مكنونات سره، وكشف لها عن أسرار الملكوت، وأراها سنا الجبروت، فنظرت إلى قدرة الحي الذي لا يموت، وتمتعت بشهود الذات وأنوار الصفات، في هذه الحياة وبعد الممات، فحينئذٍ ينقطع عنها الشكوك والأوهام، وتتطهر من طوارق الخواطر، وتزول عنها الأمراض والأسقام‏.‏

قال في الحكم‏:‏ «كيف تُخْرَق لك العوائد وأنت لم تخرِق من نفسك العوائد»‏.‏

فانظر إلى عزير‏.‏‏.‏‏.‏ ما أراه الحق قدرته عياناً حتى خرق له عوائده فأماته ثم أحياه، فكذلك أنت أيها المريد؛ لا تطمع أن تخرق لك العوائد، فتشاهد قدرة الحق أو ذاته عياناً، حتى تموت عن حظوظك وهواك، ثم تحيا روحك وسرك، فحينئذٍ تشاهد أسرار ربك، ويكشف الأستار عن عين قلبك‏.‏ وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق‏.‏

ثم ذكر الحقّ تعالى قصة خليله عليه السلام في طلبه رؤية عين القدرة في إحياء الموتى، ليترقى من علم اليقين إلى عين اليقين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏260‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏260‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ رأى‏:‏ البصرية، إنما تتعدى إلى مفعول واحد، فإذا أُدخلت عليها الهمزة تعدت إلى مفعولين‏.‏ وعلقها هنا عن الثاني الاستفهام، ‏{‏وصرهن‏}‏ أي‏:‏ أَمْلهُنَّ واضمُمْهن إليك‏.‏ وفيه لغتان‏:‏ صار يصير ويصور، ولذلك قرئ بكسر الصاد وضمها، ‏{‏سعياً‏}‏‏:‏ أي حال، أي‏:‏ ساعيات‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ واذكر يا محمد، أو أيها السامع، حين ‏{‏قال إبراهيم‏}‏ عيله السلام‏:‏ يا ‏{‏رب أني كيف تحيي الموتى‏}‏ أي‏:‏ أبصرني كيفية إحياء الموتى، حتى أرى ذلك عياناً، أراد عليه السلام أن ينتقل من علم اليقين إلى عين اليقين، وقيل‏:‏ لما قال للنمرود‏:‏ ‏{‏ربي الذي يحيي ويميت‏}‏ قال له‏:‏ هل عاينت ذلك‏؟‏ فلم يقدر أن يقول‏:‏ نعم‏.‏ وانتقل إلى حجة أخرى، ثم سأل ربه أن يريه ذلك؛ ليطمئن قلبه على الجواب، إن سئل مرة أخرى، فقال له الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏أولم تؤمن‏}‏ بأني قادر على الإحياء بإعادة التركيب والحياة‏؟‏ وإنما قال له ذلك، مع علمه بتحقيق إيمانه؛ لجيبه بما أجاب فيعلم السامعون غرضه، ‏{‏قال‏}‏ إبراهيم عليه السلام‏:‏ ‏{‏بلى‏}‏ آمنت أنك على كل شيء قدير، ‏{‏ولكن‏}‏ سألتك ‏{‏ليطمئن قلبي‏}‏؛ إذ ليس الخبر كالعيان، وليس علم اليقين كعين اليقين، أراد أن يضم الشهود والعيان إلى الوحي والبرهان‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏فخذ أربعة من الطير‏}‏؛ طاووساً وديكاً وغراباً وحمامة، ومنهم من ذكر النسر بدل الحمام، ‏{‏فصرهن إليك‏}‏ أي‏:‏ اضممهن إليك لتتأملها وتعرف أشكالها، لئلا يلتبس عليك بعد الإحياء أشكالها، ‏{‏ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً‏}‏ أي‏:‏ ثم جَزَّئهن، وفرق أجزاءهن على الجبال التي تحضرك‏.‏ قيل‏:‏ كانت أربعة وقيل‏:‏ سبعة، ‏{‏ثم ادعهن‏}‏ وقل لهن‏:‏ تعالين بإذن الله، ‏{‏يأتينك سعياً‏}‏ أي‏:‏ ساعيات مسرعات، رُوِيَ أنه أمر أن يذبحها وينتف ريشها، ويقطعها ويخلط بعضها ببعض، ويوزعها على الجبال، ويمسك رؤوسها عنده، ثم يناديها، ففعل ذلك، فجَعَل كل جزء يطير إلى الآخر ويلتئم بصاحبه حتى صارت جثثاً، ثم أقبل إليه فأعطى كل طير رأسه فطار في الهواء‏.‏ فسبحان من لا يعجزه شيء، ولا يغيب عن علمه شيء، ثم نبّه إلى التفكر في عجائب قدرته وحكمته فقال‏:‏ ‏{‏واعلم أن الله عزيز‏}‏ لا يعجزه شيء، ‏{‏حكيم‏}‏ ذو حكمة بالغة فيما يفعل ويذر‏.‏

الإشارة‏:‏ من أراد ان تحيا رُوحُه الحياة الأبدية، وينتقل من علم اليقين إلى عين اليقين، فلا بد أن تموت نفسه أربع موتات‏:‏

الأولى‏:‏ تموت عن حب الشهوات والزخارف الدينوية، التي هي صفة الطاووس‏.‏

الثانية‏:‏ عن الصولة والقوى النفسانية، التي هي صفة الديك‏.‏

الثالثة‏:‏ عن خسة النفس والدناءة وبعد الأمل، التي هي صفة الغراب‏.‏

الرابعة‏:‏ عن الترفع والمسارعة إلى الهوى المتصف بها الحمام‏.‏

فإذا ذبح نفسه عن هذه الخصال حييتْ روحه، وتهذبت نفسه، فصارت طوع يده، كلما دعاها إلى طاعة أتت إليها مسرعة ساعية‏.‏

وإلى هذا المعنى أشار الشيخ أبو الحسن الشاذلي بقوله في حزبه الكبير‏:‏ ‏(‏واجعل لنا ظهيراً من عقولنا ومهيمناً من أرواحنا، ومسخراً من أنفسنا، كي نسبحك كثيراً، ونذكرك كثيراً، إنك كنت بنا بصيراً‏)‏‏.‏

ولما كانت حياة الروح متوقفة على أمرين‏:‏ بذل النفوس، ودفع الفلوس وقدم الإشارة إلى الأول بقوله‏:‏ ‏{‏وقاتلوا في سبيل الله‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏261- 262‏]‏

‏{‏مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ‏(‏261‏)‏ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏262‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏مثل الذين‏}‏‏:‏ مبتدأ، و‏{‏كمثل‏}‏‏:‏ خبر، ولا بد من حذف مضاف، إما من المبتدأ أو الخبر، أي‏:‏ مثل نفقة الذين ينفقون كمثل حبة، أو مثل الذين ينفقون كمثل باذر حبة‏.‏‏.‏‏.‏ الخ‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ في التحريض على النفقة في سبيل الله‏:‏ ‏{‏مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله‏}‏ أي‏:‏ يتصدقون بها في سبيل الله، كالجهاد ونحوه، ‏{‏كمثل‏}‏ زارع ‏{‏حبة أنبتت‏}‏ له ‏{‏سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة‏}‏، فالمجموع سبعمائة‏.‏ وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الحَسَبنَة بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، إلى سَبعمائَة إلى أضْعَافٍ كَثيرَةٍ» وإسناد الإنبات إلى الحبة مجاز، والمنبت هو الله، وهذا مثال لا يقتضي الوقوع، وقد يقع في الذرة والدخن في الأرض الطيبة، بحيث تخرج الحبة ساقاً يتشعب إلى سبع شعب، في كل شعبة سنبلة، ‏{‏والله يضاعف‏}‏ تلك المضاعفة ‏{‏لمن يشاء‏}‏ بفضله، على حسب حال المنفق من إخلاصه وتعبه، وبحسبه تتفاوت الأعمال في مقادير الثواب، ‏{‏والله واسع‏}‏ لا يضيق عليه ما يتفضل به من الثواب، ‏{‏عليم‏}‏ بنية المنفق وقدر إنفاقه‏.‏

ثم ذكر شرطَيْن آخرَيْن في قبول النفقة، فقال‏:‏ ‏{‏الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا مناً ولا أذى‏}‏‏.‏ المن‏:‏ أن يعتد بإحسانه على من أحسن إليه؛ بحيث يقول‏:‏ أنا فعلت معه كذا، وكذا إظهاراً لميزته عليه‏.‏ والأذى‏:‏ أن يتطاول عليه بذلك‏.‏ ويقول‏:‏ لولا أنا لم يكن منك شيء، مثلاً‏.‏ فمن فعل هذا فقد ذهبت صدقته هباءاً منثوراً، ومن سلم من ذلك، وأنفق ماله ابتغاء وجه الله ف ‏{‏لا خوف عليهم ولا هم يحزنون‏}‏‏.‏ وقال زيد بن أسلم رضي الله عنه‏:‏ إذا أعطيت أحداً شيئاً وظننت أن سلامَكَ يَثْقُلُ عليه فَكُفَ سلامَكَ عنه‏.‏ ه‏.‏

قيل‏:‏ إن الآية نزلت في عثمان وعبد الرحمن بن عوف- رضي الله عنهما؛ أما عثمان فإنه جهز جيش العسرة بألف بعير بأقتابها وأحلاسها‏.‏ وقال عبد الرحمن بن سمرة‏:‏ جاء عُثْمَانُ بألْفِ دِينَارِ في جيش العُسْرَةِ، فصَبَها في حُجْرِ النبيّ صلى الله عليه وسلم، فَرَأيْتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يُدخل يَده فيها، ويُقلِّبهَا ويقول‏:‏ «ما ضَرَّ ابن عفَّان ما عَمِلَ بَعْدَ اليوم» زاد في رواية سعيد‏:‏ فرأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم رافعاً يدعو لعثمان، ويقول‏:‏ «يا رب عثمان بن عفان، رضيتُ عنه فارض عنه» وأما عبد الرحمن‏:‏ فإنه أتى النَّبِيَ صلى الله عليه وسلم بأربعة آلاف درهم، صدقة، وأمسك أربعة آلاف لعياله، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «بارك الله لك فيما أعطيتَ وفيما أمسكتَ»‏.‏

وإنما لم يدخل الفاء في قوله‏:‏ ‏{‏لا خوف عليهم‏}‏، مع أن الموصول قد تضمن معنى الشرط، إيهاماً بأنهم أهلٌ لذلك، وإن لم يفعلوا، فكيف بهم إذا فعلوا‏.‏

قاله البيضاوي‏.‏

الإشارة‏:‏ التقرب إلى الله تعالى يكون بالعمل البدني وبالعملي المالي، وبالعمل القلبي، أما العمل البدني، ويدخل فيه العمل اللساني، فقد ورد فيه التضعيف بعشر وبعشرين وبثلاثين وبخمسين وبمائة، وبأكثر من ذلك أو أقل، وكذلك العمل المالي‏:‏ قد ورد تضعيفه إلى سبعمائة، ويتفاوت ذلك بحسب النيات والمقاصد، وأما العمل القلبي‏:‏ فليس له أجر محصور، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏ ‏[‏الزُّمَر‏:‏ 10‏]‏، فالصبر، والخوف، والرجاء، والورع، والزهد، والتوكل، والمحبة، والرضا، والتسليم، والمعرفة، وحسن الخلق، والفكرة، وسائر الأخلاق الحميدة، إنما جزاؤها‏:‏ الرضا، والإقبال والتقريب، وحسن الوصال‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ‏}‏ ‏[‏التّوبَة‏:‏ 72‏]‏ أي‏:‏ أكبر من الجزاء الحسيّ الذي هو القصور والحور‏.‏

وأما قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «تفكر ساعة أفضل من عبادة سبعين سنة»‏.‏ فإنما هو كناية عن الكثرة والمبالغة، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهَمْ‏}‏ ‏[‏التّوبَة‏:‏ 80‏]‏‏.‏ ومثله قول الشاعر‏:‏

كُلُّ وَقْتٍ من حبَيبِي *** قَدْرُه كألفِ حجَّهْ

أي‏:‏ سَنَة‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

ثم بيَّن الحقّ تعالى أن حسن الخلق ولين الجانب أفضل من الصدقة المشوبة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏263‏]‏

‏{‏قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ‏(‏263‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏قول‏}‏‏:‏ مبتدأ، و‏{‏خير‏}‏‏:‏ خبر، والمسوِّغ الصفةُ‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏قول‏}‏ جميل يقوله الإنسان للسائل في حال رده، حيث لم يجد ما يعطيه، ‏{‏خير‏}‏ وأفضل عند الله من الصدقة التي يتبعها المن والأذى، ومثال القول المعروف‏:‏ الله يرزقنا وإياك رزقاً حسناً‏.‏ والله يغنينا وإياك من فضله العظيم، وشبه ذلك من غير تعبيس ولا كراهية‏.‏ ‏{‏ومغفرة‏}‏ للسائل والعفو عن جفوته وإلحاحه، ‏{‏خير‏}‏ أيضاً ‏{‏من صدقة يتبعها‏}‏ مَنٍّ، أو ‏{‏أذى‏}‏ للسائل، علم الحق جلّ جلاله أن الفقير إذا رُدَّ بغير نوال شقَّ عليه، فربما أطلق لسانه وأظهر الشكوى فأمر المسؤول بالعفو والتواضع‏.‏ ولو شاء الحقّ تعالى لأغنى الجميع، لكنه أعطى الأغنياء ليظهر شكرهم، وابتلى الفقراء لينظر كيف صبرهم، ‏{‏والله‏}‏ تعالى ‏{‏غني‏}‏ عن أنفاق يصحبه مَنٌ أو أذى، ‏{‏حليم‏}‏ عن معالجة من يَمُنُّ أو يؤذي بالعقوبة‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ يُفهم من الآية أن حسنَ الخلق، ولينَ الجانب، وخفض الجناح، وكف الأذى، وحمل الجفاء، وشهود الصفاء، من أفضل الأعمال وأزكى الأحوال وأحسن الخلال، وفي الحديث‏:‏ «إنَّ حُسْن الخُلق يعدل الصيام والقيام»‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏والله غني حليم‏}‏‏:‏ تربية للسائل والمسؤول، فتربية السائل‏:‏ أن يستغني بالغنيِّ الكبير عن سؤال العبد الفقير، ويكتفي بعلم الحال عن المقال، وتربية المسؤول‏:‏ أن يحلم عن جفوة السائل فيتلطف في الخطاب، ويحسن الرد والجواب‏.‏ قال في شرح الأسماء‏:‏ والتخلق بهذا الاسم- يعني الحليم- بالصفح عن الجنايات، والسمح فيما يقابلونه به من الإساءات، بل يجازيهم بالإحسان، تحقيقاً للحلم والغفران‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏264‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ‏(‏264‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏كالذي‏}‏‏:‏ الكاف في محل نصب على المصدر، أي‏:‏ إبطالاً كإبطال الذي ينفق ماله رئاء الناس‏.‏ أو حال، أي‏:‏ مشبَّهين بالذي ينفق رئاء‏.‏ و‏{‏رئاء‏}‏ مفعول له، والصفوان‏:‏ الحجر الأملس، والصلد‏:‏ البارز الذي لا تراب عليه، وجمع الضمير في قوله‏:‏ ‏{‏لا يقدرون‏}‏ باعتبار معنى ‏{‏الذي‏}‏؛ لأن المراد به الجنس‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا‏}‏ أجر صدقتكم بسبب ‏{‏المن‏}‏ بها على المتصدَّقِ عليه، ‏{‏والأذى‏}‏ الذي يصدر منكم له، بأن تذكروا ذلك للناس، فتكون صدقتكم باطلة، ‏{‏كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر‏}‏، فإن أجره يوم القيامة يكون هباء منثوراً، ‏{‏فمثله‏}‏ في انتفاعه بصدقته، وتستره بها في دار الدنيا، وافتضاحه يوم القيامة، كحجر أملس ‏{‏عليه تراب‏}‏ يستره، فيظن الرائي أنه أرض طيبة تصلح للزراعة، ‏{‏فأصابه وابل‏}‏ أي‏:‏ مظر غزير ‏{‏فتركه صلداً‏}‏ حجراً يابساً خالياً من التراب، كذلك المراؤون بأعمالهم، ينتفعون بها في الدنيا بثناء الناس عليهم وستر حالهم، فإذا قدموا يوم القيامة وجدوها باطلة، ‏{‏لا يقدرون على‏}‏ الانتفاع ب ‏{‏شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين‏}‏ إلى مراشدهم ومصالح دينهم‏.‏ وفيه تعريض بأن الرياء والمن والأذى من صفة الكافر، ولا بد للمؤمن أن يتجنب عنها‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

الإشارة‏:‏ تصفية الأعمال على قدر تصفية القلوب، وتصفية القلوب على قدر مراقبة علام الغيوب، والمراقبة على قدر المعرفة‏.‏ والمعرفة على قدر المشاهدة‏.‏ والمشاهدة تحصل على قدر المجاهدة‏.‏ ‏{‏وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فيِنَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا‏}‏ ‏[‏العَنكبوت‏:‏ 69‏]‏‏.‏ وفي الحكم‏:‏ «حسن الأعمال من نتائج حسن الأحوال، وحسن الأحوال من التحقق بمقامات الإنزال» والحاصل أن من لم يتحقق بمقام الفناء لا تخلوا أعماله من شوب الخلل، ومن تحقق بالزوال لم ير لنفسه نسبة في عطاء ولا منع، ولا حركة ولا سكون، ولم ير لغيره وجوداً حتى يرجو منه نفعاً ولا خيراً‏.‏ وفي بعض الإشارات‏:‏ يا من يرائي أَمْر مَنْ من ترائِي بيد من تعصيه‏.‏ ه‏.‏ وفي تمثيله بالحجر إشارة إلى قساوة قلبه ويبوسه طبعه، فلا يجرى منه خير قط‏.‏ والعياذ بالله‏.‏

ثم ذكر الحقّ تعالى ضد هؤلاء، وهم المخلصون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏265‏]‏

‏{‏وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏265‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ الربوة- مثلثة الراء-‏:‏ المكان المرتفع، والوابل‏:‏ المطر الغزير، والطل‏:‏ المطر الخفيف، وفي ذلك يقول الراجز‏:‏

والطلُّ ما خفَّ من الأمْطَارِ *** والوابلُ الغزيرُ ذو أنْهِمَارِ

و ‏{‏ابتغاء مَرْضات الله‏}‏ و‏{‏تثبيتاً‏}‏‏:‏ حالان من الوافي في‏:‏ ‏{‏ينفقون‏}‏، أو مفعولان له‏.‏ والتثبيت بمعنى التثبت، أي‏:‏ التحقق، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَبَتَّلْ إِلَيْه تَبْتِيلاً‏}‏ ‏[‏المُزمّل‏:‏ 8‏]‏ أي‏:‏ تبتلاً‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏مثل الذين ينفقون أموالهم‏}‏ في سبيل الله ‏{‏ابتغاء مرضات الله‏}‏ وتحققاً ‏{‏من أنفسهم‏}‏ بثواب الله، أو تحقيقاً من أنفسهم بالوصول إلى رضوان الله إن بذلوا أموالهم في طلب رضى الله، مَثَلُ نفقتهم في النمو والأرتفاع ‏{‏كمثل جنة‏}‏ أي‏:‏ بستان ‏{‏بربوة‏}‏ بمكان مرتفع، فإن شجره يكون أحسن منظراً وأزكى ثمراً، ‏{‏أصابها وابل‏}‏ أي‏:‏ مطر غزير ‏{‏فآتت أكلها‏}‏ أي‏:‏ ثمارها ‏{‏ضعفين‏}‏ أي‏:‏ مِثْلَيْ ما كانت تثمر في عادتها، أي‏:‏ حملت في سَنَةٍ ما يحمل غيرها في سنتين، بسبب هذا المطر الذي نزل بها، ‏{‏فإن لم يصبها وابل فطل‏}‏ أي‏:‏ فيصيبها طل، أي‏:‏ مطر قليل يكفيها؛ لطيب تربتها وارتفاع مكانها، فأقلُّ شيء يكفيها‏.‏

والمراد‏:‏ أن نفقات هؤلاء، لإخلاصهم وكمال يقينهم، كثيرة زاكية عند الله، وإن كانت قليلة في الحس فهي كثيرة في المعنى‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «مَنْ تصدَّقَ ولو بلُقْمة وقعتْ في كَفٍّ الرحمن فيُرَبِّيها كما يُربى أحدُكُم فلُوَّهُ أو فَصِيله، حتى تكونَ مثل الجبل» وفي قوله‏:‏ ‏{‏والله بما تعلمون بصير‏}‏‏:‏ تحذير من الرياء، وترغيب في الإخلاص‏.‏ الله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ تنمية الأعمال على قدر تصفية الأحوال، وتصفية الأحوال على قدر التحقق بمقامات الإنزال، أي‏:‏ على قدر التحقق بالإنزال في مقامات اليقين، فكل من تحقق بالنزول في مقامات اليقين، ورسخت قدمه فيها، كانت أعماله كلها عظيمة، مضاعفة أضعافاً كثيرة، فتسبيحة واحدة من العارف، أن تهليلة واحدة، تعدل الوجود بأسره، ولا يزنها ميزان، وكذلك سائر أعمال العارف‏:‏ كلها عظيمة مضاعفة؛ لأنها بالله ومن الله وإلى الله، وما كان بالله ومن الله يطرقه نقص ولا يشوبه خلل، ولأجل هذا صارت أوقاتهم كلها ليلة القدر، وأماكنهم كلها عرفات، وأنفاسهم كلها زكيات، وصحبتهم كلها نفحات، ومخالطتهم كلها بركات‏.‏ نفعنا الله بذكرهم وخرطنا في سلكهم‏.‏

آمين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏266‏]‏

‏{‏أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ‏(‏266‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ الإعصار‏:‏ عمود من ريح فيه عجاجة، يدور ويرتفع‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ أيتمنى حدكم ‏{‏أن تكون له جنة‏}‏ أي‏:‏ بستان ‏{‏من نخيل وأعناب‏}‏، هما الغالبان فيه؛ لكثرة منافعهما، ‏{‏تجري من‏}‏ تحت تلك الأشجار ‏{‏الأنهار‏}‏؛ إذ من كمال البستان أن يشتمل على الماء البارد والظل الممدود، و‏{‏له فيها‏}‏ أي‏:‏ في تلك الجنة ‏{‏من كل الثمرات‏}‏ زائدة على على النخيل والأعناب، ثم ‏{‏أصابه الكبر‏}‏ فضعف عن القيام بتلك الجنة، ‏{‏وله ذرية ضعفاء‏}‏ لا يستطيعون القيام بأنفسهم لصغرهم، فأصاب تلك الجنة ‏{‏إعصار‏}‏ أي‏:‏ ريح شديد ‏{‏فيه نار فاحترقت‏}‏ تلك الجنة، فلا تسأل عن حسرة صاحب هذا البستان، لخوفه من ضياع نفسه وعياله‏.‏ وهذا مثال لمن يُكثر من أعمال البر، كالصلاة والصيام والصدقة والحج والجهاد وغير ذلك، وهذا يُعجب به، ويفتخر وَيَمُنَّ بصدقته أو يؤذي، فتحبط تلك الأعمال وتذهب، فيتحسر عليها يوم القيامة، وهو أحوج ما يكون إليها‏.‏ أو يعمل بالطاعة في أيام عمره، فإذا قرب الموت عمل بالمعاصي حتى ختم له بها فحبطت تلك الأعمال، والعياذ بالله ‏{‏كذلك يبن الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون‏}‏ فيها فتعتبرون، وتخلصون في أعمالكم، وتخافون من سوء عاقبتكم‏.‏ أعاذنا الله من ذلك‏.‏

الإشارة‏:‏ في الآية تخويف للمريد أن يرجع إلى عوائده، ويلتفت إلى عوالم حسه، فيشتغل بالدنيا بعد أن استشرف على جنة المعارف، تجري على قلبه أنهار العلوم، فينقُضُ العهد مع شيخه، أو يسيء الأدب معه، ولم يتب حتى تيبس أشجار معارفه، وتلعب به ريح الهوى، فيحترق قلبه بنار الشهوات‏.‏

قال البيضاوي‏:‏ وأشبههم به من جال سره في عالم الملكوت، وترقى بفكره إلى جناب الجبروت، ثم نكص على عقبيه إلى عالم الزور، والتفت إلى ما سوى الحق وجعل سعيه هباء منثوراً‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏267‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ‏(‏267‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏تيمموا‏}‏‏:‏ أصله‏:‏ تتيمموا، أي تقصدوا، وجملة ‏{‏تنفقون‏}‏‏:‏ حال مقدرة- من فاعل ‏{‏تيمموا‏}‏، و‏{‏منه‏}‏‏:‏ يصح أن يتعلق ب ‏{‏تنفقون‏}‏ أو ب ‏{‏الخبيث‏}‏، أي؛ ولا تقصدوا الخبيث حال كونكم تنفقونه، أو لا تقصدوا الخبيث تنفقون منه، و‏{‏لستم بآخذيه‏}‏‏:‏ حال أيضاً من فاعل ‏{‏تنفقون‏}‏‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم‏}‏ من الأموال في التجارة وغيرها، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «يا معشرَ التُجار، أنتم فُجار إلا من اتقى وبَرَّ وصَدَق وَقَالَ بالمال هكذا وهكذا»‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏من طيبات ما كسبتم‏}‏ أي‏:‏ من حلاله، أو من خياره، أما في الزكاة فعلى الوجوب، إذ لا يصح دفع الرديء فيها، وأما من التطوع فعلى سبيل الكمال، وأنفقوا أيضاً من طيبات ‏{‏ما أخرجنا لكم من الأرض‏}‏ من أنواع الحبوب والثمار والفواكه، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «مَا مِنْ مُسْلِم يَغْرِسَ غَرْساً، أَوْ يَزرَعُ زَرْعاً، فَيَأكُلُ مِنهُ إنْسَانٌ ولا دَابَّةٌ ولاَ طَائِرٌ، إلاَّ كَانَت لَهُ صدقةً إلى يَوَمِ الِقِيَامِةِ» ولا تقصدوا ‏{‏الخبيث‏}‏ أي‏:‏ الرديء من أموالكم، فتنفقون منه وأنتم ‏{‏لستم بآخذيه‏}‏ في ديونكم ‏{‏إلا أن تُغْمضوا‏}‏ بصركم فيه، وتقبضونه حياء أو كرهاً أو مسامحة‏.‏

نزلت في قوم كانوا يتصدقون بخبيث التمر وشراره، فنُهوا عنه، وأدبهم بقوله‏:‏ ‏{‏واعلموا أن الله غني‏}‏ عن إنفاقكم، وإنما أمركم به منفعة لكم، ‏{‏حميد‏}‏ بقبوله وإثابته، فهو فعيل بمعنى الفاعل، مبالغة، أي‏:‏ يحمد فعلكم ويشكره لكم، إن أحسنتم فيه، وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «إن الله قَسَم بينَكم أخلاقكم كما قسم أرزاقكم، وإن الله طيِّبٌ لا يقبلُ إلا طيباً، لا يكسبُ عبدٌ مالاً من حرام فيتصدقُ منه فيُقْبل منه، ولا ينفقُ منه فيبَارك له فيه، ولا يتركهُ خلفَ ظهره إلا كان زاده إلى النار، وإن الله لا يمحو السيىء بالسيىء ولكن يمحو السيىء بالحسن، وإن الخبيث لا يمحوه الخبيُ»‏.‏

الإشارة‏:‏ يا أيها الذين آمنوا إيمان الخصوص، أنفقوا العلوم اللدنية والأسرار الربانية، من طيبات ما كسبتم؛ من تصفية أسراركم وتزكية أرواحكم، وأنفقوا أيضاً علوم الشريعة وأنوار الطريقة، مما أخرجنا لكم من أرض نفوسكم التي تزكت بالأعمال الصافية والأحوال المُرْضِية‏.‏

ولا تيمموا العمل الخبيث أو الحال الخبيث، تريدون أن تنفقوا منه شيئاً من تلك العلوم، فإن ذلك لا يزيد النفس إلا جهلاً وبعداً، فكما أن الحبة لا تنبت إلا في الأرض الطيبة، كذلك النفس لا تُدفن إلا في الحالة المرضية، فلا تؤخذ العلوم اللدنية من النفس حتى تدفن في أرض الخُمول، وأرض الخمول هي الأحوال المرضية، الموافقة للقواعد الشرعية، وإليه الإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏ولستم بآخذيه‏}‏ أي‏:‏ لستم بآخذي العلم اللدني من الحال الخبيث، غلا أن تغيبوا فيه عن حِسَّكم، ومن غلبه الحال لم يبق عليه مقال‏.‏ وعليها تتخرج قصة لص الحَمَّام، فلا يقتدى به لغلبة الحال عليه، واعلموا أن الله غني حميد، لا يتقرب إليه إلا بما هو حميد‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏