فصل: تفسير الآيات رقم (55- 64)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏55- 64‏]‏

‏{‏هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآَبٍ ‏(‏55‏)‏ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ ‏(‏56‏)‏ هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ ‏(‏57‏)‏ وَآَخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ ‏(‏58‏)‏ هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ ‏(‏59‏)‏ قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ ‏(‏60‏)‏ قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ ‏(‏61‏)‏ وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ ‏(‏62‏)‏ أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ ‏(‏63‏)‏ إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ ‏(‏64‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏هذا‏)‏ خبر، أي‏:‏ الأمر هذا، أو‏:‏ مبتدأ؛ أي‏:‏ هذا كما ذكر، وهو من الاقتضاب الذي يقرب من التخلص، كقوله بعد الحمد‏:‏ أما بعد‏.‏ قال السعد‏:‏ هو من فصل الخطاب، الذي هو أحسن موقعاً من التخلُّص‏.‏ قال‏:‏ وقد يكون الخبر مذكوراً كقوله‏:‏ ‏{‏هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 49‏]‏ ه‏.‏ قال الطيبي‏:‏ هو من فصل الخطاب، على التقدير الأول، لا الثاني‏.‏ ه‏.‏ أي‏:‏ إذا كان خبراً عن مضمر، لا ما إذا ذكر الخبر‏.‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏هذا‏}‏ أي‏:‏ الأمر هذا، ‏{‏وإِنَّ للطاغين لشرَّ مآبٍ‏}‏؛ مرجع ‏{‏جهنَّمَ يصلونها‏}‏؛ يدخلونها، حال من جهنم، ‏{‏فبئس المِهادُ‏}‏‏:‏ الفراش، شبّه ما تحتهم من النار بالمهاد الذي يفرش للنائم، والمخصوص محذوف، أي‏:‏ جهنم‏.‏

‏{‏هذا فليذوقوه‏}‏ أي‏:‏ ليذوقوا هذا فليذوقوه، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 40‏]‏ أو‏:‏ العذاب هذا فليذوقوه، وهو ‏{‏حميمٌ وغسَّاق‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ الخ، أو‏:‏ ‏{‏هذا‏}‏‏:‏ مبتدأ، و‏{‏حميم وغساق‏}‏‏:‏ خبر، وما بينهما اعتراض، والغساق‏:‏ ما يَغسَق، أي‏:‏ يسيل من صديد أهل النار، يقال‏:‏ غَسَقت العين؛ إذا سال دمعها‏.‏ وقيل‏:‏ الحميم يحرق بحرّه، والغساق يحرق ببرده‏.‏ قيل‏:‏ «لو قطرت منه قطرة بالمشرق لأنتنت أهل المغرب، ولو قطرت بالمغرب لأنتنت أهل المشرق» وقيل‏:‏ الغساق‏:‏ عذاب لا يعلمه إلا الله‏.‏ وهو بالتخفيف والتشديد، قرىء بهما‏.‏

‏{‏وآخَرُ‏}‏ أي‏:‏ وعذاب آخر، أو‏:‏ مذوق آخر، ‏{‏من شَكْلِه‏}‏؛ من مثل العذاب المذكور‏.‏ وقرأ البصري‏:‏ «أُخَرُ» بالجمع، أي‏:‏ ومذوقات أُخَرُ من شكل هذا العذاب في الشدّة والفظاظة، ‏{‏أزواجٌ‏}‏ أي‏:‏ أصناف، وهو خبر لأخر، أو‏:‏ صفة له، أو‏:‏ للثلاثة‏.‏

‏{‏هذا فوج مُّقْتَحِمٌ معكم‏}‏، حكاية لِمَا يقوله الخزنة للطاغين إذا دخلوا النار، واقتحمها معهم فوج كانوا يتبعونهم في الكفر والضلالة‏.‏ والاقتحام‏:‏ الدخول في الشيء بشدة، أو‏:‏ من كلام الطاغين بعضهم من بعض‏.‏ ‏{‏لا مرحباً بهم‏}‏، هو من تمام كلام الخزنة، على الأول، أو‏:‏ من كلام الطاغين، دعاء منهم على أتباعهم‏.‏ يُقال لمَن يدعو له أو يفرح به‏.‏ مرحباً، أي‏:‏ وجدت مكاناً رَحْباً، لا ضيقاً، ثم تدخل عليه النفي في دعاء السوء، فتقول‏:‏ لا مرحباً‏.‏ و«بهم»‏:‏ بيان للمدعو عليهم، ‏{‏إِنهم صالُوا النارِ‏}‏ أي‏:‏ داخلوها‏.‏ وهو تعليل لاستحقاقهم الدعاء عليهم‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏هذا فوج‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إلخ، من كلام الخزنة لرؤساء الكفرة‏.‏ و‏{‏لا مرحباً بهم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ، من كلام الرؤساء‏.‏

‏{‏قالوا‏}‏ أي‏:‏ الأتباع، ‏{‏بل أنتم لا مرحباً بكم‏}‏ أي‏:‏ الدعاء الذي دعوتم به علينا أنتم أحقّ به، وعلّلوا ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏أنتم قدمتموه لنا‏}‏ أي‏:‏ إنكم دعوتمونا للكفر، فتبعناكم، فقدمتمونا به للعذاب، ‏{‏فبئس القرارُ‏}‏ أي‏:‏ بئس المقر جهنم، قصدوا بذمها تغليظ جناية الرؤساء عليهم‏.‏ ‏{‏قالوا‏}‏ أي‏:‏ الأتباع، معرَّضين عن خصومتهم، متوجهين إلى الله‏:‏ ‏{‏ربَّنا مَن قدَّم لنا هذا فزِدْهُ عذاباً ضعفاً‏}‏ أي‏:‏ مضاعفاً‏.‏

‏{‏في النار‏}‏ أو‏:‏ ذا ضعف، ومثله قوله‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا هَؤُلآَءِ أَضَلُّونَا فَئَاتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 38‏]‏، وهو أن يزيد على عذابه مثله‏.‏

‏{‏وقالوا‏}‏ أي‏:‏ الرؤساء‏:‏ ‏{‏ما لنا لا نرى رجالاً‏}‏، يعنون‏:‏ فقراء المسلمين، ‏{‏كنا نَعُدُّهُم‏}‏ في الدنيا ‏{‏من الأشرار‏}‏؛ من الأرذال الذين لا خير فيهم ولا جدوى، حيث كانوا يسترذلونهم ويسخرون منهم، ‏{‏أتَّخذناهم سِخْرِيّاً‏}‏، بهمزة الاستفهام، سقطت لأجلها همزة الوصل‏.‏ والجملة‏:‏ استئنافية، ومَن قرأ بالوصل فقط فالجملة‏:‏ صفة ثانية لرجال، ‏{‏أم زاغتْ‏}‏؛ مالت ‏{‏عنهم الأبصارُ‏}‏، والمعنى على الاستفهام‏:‏ أتخذناهم سخرياً وليسوا كذلك، فلم يدخلوا معنا النار فهم في الجنة، أم دخلوها معنا، ولكن مالت عنهم أبصارنا، فلا نراهم معنا‏؟‏ وعلى الاستخبار‏:‏ ما لنا لا نرى رجالاً معنا في النار، كانوا عندنا أشراراً، قد اتخذناهم سخرياً نسخر بهم، ثم أضربوا وقالوا‏:‏ بل زاغت عنهم الأبصار، فلا نراهم فيها، وإن كانوا معنا، أو‏:‏ زاغت أبصارنا، وكلَّت أفهامنا عنهم، حتى خفي علينا مقامهم، وأنهم على الحق ونحن على الباطل، وما تبعناهم‏.‏ ومَن قرأ «سُخريا» بالضم؛ فمن‏:‏ التسخير والاستخدام‏.‏ ومَن قرأ بالكسر، فمن‏:‏ السخر، الذي هو الهزء‏.‏ وجَوز في القاموس الضم والكسر فيهما معاً، فراجعه‏.‏

‏{‏إِن ذلك‏}‏ الذي حكى من أحوالهم ‏{‏لَحَقٌّ‏}‏ لا بد من وقوعه ألْبتة، وهو ‏{‏تخاصمُ أهلِ النار‏}‏ فيها على ما تقدّم‏.‏

ولمّا شبَّه تفاوضهم، وما يجري بينهم من السؤال والجواب، بما يجري بين المتخاصمين، سمَّاه تخاصماً، وبأنَّ قول الرؤساء‏:‏ ‏{‏لا مرحباً‏}‏ وقول الأتباع‏:‏ ‏{‏بل أنتم لا مرحباً بكم‏}‏ من باب الخصومة لا محالة، فسمي التقاول كله تخاصماً؛ لاشتماله على ذلك‏.‏

الإشارة‏:‏ كل مَن تعدى وطغى، ولم يتب، من المؤمنين، يرى شيئاً من أهوال الكفرة، فلا يدخل الجنة حتى يتخلص، وكل مَن سخر بالفقراء يسقط في الحضيض الأسفل، ويكون سكناه في أسفل الجنة، فيقول‏:‏ ما لنا لا نرى معنا رجالاً كنا نَعُدُّهم من المبتدعة الأشرار، أتخذناهم سخرياً، وهم كُبراء عند الله، رُفعوا عنه، أم هم معنا ولكن زاغت عنهم الأبصار‏؟‏ فيُجابون‏:‏ بأنهم رُفعوا مع المقربين، كانوا مشتغلين بنا، وكنتم منهم تضحكون‏.‏ إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون بالقُرب ومشاهدة طلعتنا، في كل حين، وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏65- 70‏]‏

‏{‏قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ‏(‏65‏)‏ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ‏(‏66‏)‏ قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ ‏(‏67‏)‏ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ ‏(‏68‏)‏ مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ ‏(‏69‏)‏ إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏70‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏قُلْ‏}‏ يا محمد للمشركين‏:‏ ‏{‏إِنما أنا مُنذِر‏}‏ من جهته تعالى، أُنذركم عذابه، ‏{‏وما من إِلهٍ‏}‏ في الوجود ‏{‏إِلا اللهُ الواحدُ‏}‏ الذي لا يقبل الشركة أصلاً، ‏{‏القهَّارُ‏}‏ لكل شيء سواه، ‏{‏ربُّ السماواتِ والأرضِ وما بينهما‏}‏ من المخلوقات، فكيف يتوهم أن يكون له شريك منها، ‏{‏العزيزُ‏}‏؛ الذي لا يغلب ‏{‏الغفارُ‏}‏؛ المبالغ في المغفرة لمَن يشاء‏.‏ وفي هذه النعوت من تقرير التوحيد، والوعد للموحِّدين، والوعيد للمشركين، ما لا يخفى‏.‏ وتثنية ما يُشعر بالوعيد من وصف القهر والعزة وتقديمهما على وصف المغفرة؛ لتقوية الإنذار‏.‏

‏{‏قل هو‏}‏ أي‏:‏ ما نبأتكم به من كوني رسولاً، وأنَّ الله واحد لا شريك له، ‏{‏نبأٌ عظيمٌ‏}‏؛ وارد من جهته تعالى، لا يُعرِض عن مثله إلا غافل منهمك‏.‏ ‏{‏أنتم عنه معرضون‏}‏؛ غافلون، وعن ابن عباس‏:‏ النبأ العظيم‏:‏ القرآن‏.‏ وعن الحسن‏:‏ يوم القيامة‏.‏ وتكرير الأمر للإيذان بأن المقول أمرٌ جليل، له شأن خطير، لا بد من الاعتناء به، أمراً وائتماراً‏.‏

‏{‏ما كان لِيَ من عِلْم بالملأِ الأعلى إِذْ يختصمون‏}‏، احتجاج على صحة نبوته، بأن ما ينبىء به عن الملأ الأعلى، واختصامهم، أمر غيبي، لم يكن له به علم قطّ، ثم علمه وأخبر به، ولم يسلك الطريق الذي سلكه الناس في علم ما لم يعلموا، وهو الأخذ عن أهل العلم، ودراسة الكتب، فتحقق أن ذلك لم يحصل له إلا بالوحي من الله تعالى‏.‏ والملأ الأعلى هم الملائكة، وآدم، وإبليس؛ لأنهم كانوا في السماء، وكان اختصامهم‏:‏ التقاول بينهم، كقولهم‏:‏ ‏{‏أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 30‏]‏ الخ، وكقول إبليس‏:‏ ‏{‏أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 12 وص‏:‏ 76‏]‏ الخ، ويدل عليه ما يأتي من الآيات‏.‏ وقيل‏:‏ اختصامهم في الكفارات وغفران الذنوب، فإن العبد إذا فعل حسنة اختلفت الملائكة في قدر ثوابه، حتى يقضي الله ما شاء‏.‏

ورُوي في هذا حديث، وهو أنه عليه الصلاة والسلام قال له ربه عزّ وجل في النوم‏:‏ «أتدري فيما يختصم الملأ الأعلى‏؟‏ قلت‏:‏ لا، قال‏:‏ اختصموا في الكفارات والدرجات، فأما الكفارات فإسباغ الوضوء على المكاره، ونقل الأقدام إلى الجماعات، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، وأما الدرجات؛ فإفشاء السلام، وإطعام الطعام، والصلاة بالليل والناس نيام» رواه الترمذي‏.‏

و ‏{‏إِذ يختصمون‏}‏‏:‏ متعلق بمحذوف يقتضيه المقام؛ إذ المراد نفي علمه عليه الصلاة والسلام بحالهم لا بذواتهم، والتقدير‏:‏ ما كان لِيَ فيما سبق علم بما يوحيه في شأن الملأ الأعلى وقت اختصامهم‏.‏ وانظر أبا السعود‏.‏

‏{‏إِن يُوحَى إِليَّ أَنَّما أنا نذير مبينٌ‏}‏ أي‏:‏ ما يُوحى إليَّ ما يوحى من الأمور الغيبية، التي من جملتها حال الملأ الأعلى، إلا لأنما أنا نذير مبين من جهته تعالى، فحذف اللام وانتصب بإيصال الفعل إليه، ويجوز أن يرتفع بالنيابة عن الفاعل، أي‏:‏ ما يوحى إليّ إلا هذا، وهو أن أُنذر وأُبلّغ، ولا أُفرط في ذلك، أي‏:‏ ما أومرَ إلا بهذا الأمر وحده، وليس إليَّ غير ذلك‏.‏

وقرىء بكسر «إنما» على الحكاية، أي‏:‏ إلا هذا القول، وهو‏:‏ أن أقول لكم‏:‏ إنما أنا نذير مبين، ولا أدّعي شيئاً آخر‏.‏

الإشارة‏:‏ تربية اليقين تُطلب في ثلاثة أمور؛ في توحيد الألوهية، بالتبري من الشرك الجلي والخفي‏.‏ وهو مفاد قوله‏:‏ ‏{‏وما من إِله إِلا الله‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ‏.‏ وفي تصديق الواسطة، وهو النذير المبين، بتعظيمه واتباع سُنَّته ومنهاجه القويم، وفي التصديق بما جاء به، وهو النبأ العظيم، على أيّ تفسير كان، إما القرآن، باتباعه، والتدبُّر في معانيه، أو‏:‏ يوم القيامة، بالتأهُّب له، وجعله نُصب العين‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏71- 85‏]‏

‏{‏إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ ‏(‏71‏)‏ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ‏(‏72‏)‏ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ‏(‏73‏)‏ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ‏(‏74‏)‏ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ ‏(‏75‏)‏ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ‏(‏76‏)‏ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ‏(‏77‏)‏ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ‏(‏78‏)‏ قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ‏(‏79‏)‏ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ‏(‏80‏)‏ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ‏(‏81‏)‏ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏82‏)‏ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ‏(‏83‏)‏ قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ ‏(‏84‏)‏ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏85‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏إذ قال‏}‏‏:‏ متعلق بيختصمون، أو‏:‏ بدل من ‏{‏إذ‏}‏ قبله، أو‏:‏ باذكر‏.‏ و«الحق»‏:‏ فمن نصبه، فعلى حذف فعل القسم، كقولك‏:‏ الله لأفعلن، أي‏:‏ أقسم بالحق، فحذفت الباء ووصل الفعل به، ومن رفعه؛ فمبتدأ، أي‏:‏ الحقُّ مني، أو‏:‏ خبر، أي‏:‏ أنا الحق‏.‏ والحق الثاني‏:‏ مفعول «أقول»، والجملة‏:‏ معترضة بين القسم وجوابه، وهو‏:‏ ‏{‏لأملأن‏}‏‏.‏

يقول الحق جلّ جلاله في تفسير الاختصام المذكور‏:‏ ‏{‏إِذ قال ربُّكَ للملائكة‏}‏ حين أراد خلق آدم، ‏{‏إِني خالق بشراً من طينٍ‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏إِنِّى جَاعِلٌ فِى الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 30‏]‏‏.‏ والتعرُّض لعنوان الربوبية، مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام لتشريفه صلى الله عليه وسلم، والإيذان بأنَّ وحي هذا النبأ إليه تربية وتأييد له‏.‏ والكاف وارد باعتبار حال الآمر، لكونه أدلّ على كونه وحياً منزلاً من عنده تعالى، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ يَا عِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 54‏]‏ الخ، دون حال المأمور، وإلاَّ لقال‏:‏ ربي؛ لأنه داخل في حيز الأمر‏.‏ ‏{‏فإِذا سوَّيتُه‏}‏ أي‏:‏ صوَّرْتُه بالصورة الإنسانية، والخلقة البشرية، أو‏:‏ سويت أجزاء بدنه، بتعديل أعضائه، ‏{‏ونَفَخْتُ فيه من روحي‏}‏ الذي خلقته قبلُ، وأضافه إليه تخصيصاً، كبيت الله، وناقة الله‏.‏ والروح سر من أسرار الله، لطيفة ربانية، سارية في كثيفة ظلمانية، فإذا سرت فيه حيى بإذن الله، أي‏:‏ فإذا أحييته ‏{‏فَقَعُوا‏}‏ أي‏:‏ اسقطوا ‏{‏له‏}‏، وهو أمر، مِن وقع، ‏{‏ساجدين‏}‏ قيل‏:‏ كان انحناء يدلّ على التواضع، وقيل‏:‏ كان سجوداً لله، أو سجود تحية لآدم وتكريماً له‏.‏

‏{‏فسجد الملائكةُ كلُّهم أجمعون‏}‏، «كلّ» للإحاطة، و«أجمعون» للاجتماع، فأفاد أنهم سجدوا عن آخرهم جميعاً، في قوت واحد، غير متفرقين في أوقات‏.‏ وظاهر هذه الآية وما في سورة الحِجْر‏:‏ ‏{‏فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 29، 30‏]‏ أن الأمر بالسجود كان تعليقاً، لا تنجيزياً، فأمرهم بالسجود قبل أن يخلقه، بل حين أعلمهم بخلقه، فلما خلقه سجدوا ممتثلين للأمر الأول، وظاهر ما في البقرة والأعراف والإسراء والكهف‏:‏ أن الأمر كان تنجيزياً بعد خلقه، والجمع بينهما‏:‏ أنه وقع قبل وبعد، أو‏:‏ اكتفى بالتعليقي، كما يقتضيه الحديث، حيث قال له بعد نفح الروح فيه‏:‏ «اذهب فسلِّم على أولئك الملائكة، فسلّم عليهم، فردُّوا عليه وسجدوا له» والله تعالى أعلم بغيبه‏.‏

‏{‏إِلا إِبليسَ استكْبَرَ‏}‏ أي‏:‏ تعاظم عن السجود، والاستثناء متصل إن قلنا‏:‏ كان منهم، حيث عبد عبادتهم، واتصف بصفاتهم، مع كونه جنياً، أو‏:‏ منقطع، أي‏:‏ لكن إبليس استكبر، ‏{‏وكان من الكافرين‏}‏ أي‏:‏ صار منهم بمخالفته للأمر، واستكباره عن الطاعة، أو‏:‏ كان منهم في علم الله‏.‏

‏{‏قال يا إبليسُ ما منعك أن تسجدَ‏}‏ أي‏:‏ عن السجود ‏{‏لِما خلقتُ بيديَّ‏}‏، بلا واسطة أب ولا أم، امتثالاً لأمري، وإعظاماً لخطابي، ولَمَّا كانت الأعمال تُباشر في الغالب باليد، أطلقت على القدرة‏.‏ والتثنية لإبراز كمال الاعتناء بخلقه عليه السلام، المستدعي لإجلاله وإعظامه، قصداً إلى تأكيد الإنكار، وتشديد التوبيخ، وسيأتي في الإشارة بقية الكلام في سر التثنية‏.‏ قال له تعالى‏:‏ ‏{‏أَسْتَكْبَرْتَ‏}‏، بهمزة الاستفهام، وطرح همزة الوصل، أي‏:‏ أتكبرت من غير استحقاق، ‏{‏أم كنت من العالين‏}‏ المستحقين للتفوُّق، أو‏:‏ أستكبرت عن السجود ولم تكن قبل ذلك من المتكبرين، أم كنت قبل ذلك من المتكبرين على ربك‏؟‏

‏{‏قال أنا خير منه‏}‏، ولا يليق أن يسجد الفاضل للمفضول، كقوله‏:‏ ‏{‏لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 30‏]‏، وبيَّن فضيلته في زعمه بقوله‏:‏ ‏{‏خلقتني من نارٍ وخلقته من طينٍ‏}‏، يعني لو كان مخلوقاً من نار لَمَا سجدتُ له؛ لأنه مخلوق مثلي، فكيف أسجد لمَن هو دوني؛ لأنه طين، والنار تغلب الطين وتأكله، ولقد أخطأ اللعين، حين خَصَّ الفضل بما من جهة المادة والعنصر، وغاب عنه ما من جهة الفاعل، كما أنبأ عنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِما خلقتُ بيدي‏}‏، وما من جهة الصورة كما نبّه عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونفخت فيه من روحي‏}‏، وما من جهة الغاية، وهو ما خصَّه به من علوم الحكمة، التي ظهرت بها مزيته على الملائكة، حتى أُمروا بالسجود، لما ظهر أنه أعلم منهم بما تدور عليه أمر الخلافة في الأرض، وأن له خواص ليست لغيره‏.‏

‏{‏قال فاخرجْ منها‏}‏؛ من الجنة، أو‏:‏ من زمرة الملائكة، وهو المراد بالأمر بالهبوط، أو‏:‏ من السموات، أو‏:‏ من الخِلقة التي أنت فيها، وانسلخ منها، فإنه كان يفتخر بخلقته، فغيّر الله خلقته، فاسودّ بعدما كان أبيض، وقبح بعدما كان حسناً، وأظلم بعدما كان نورانياً‏.‏ ‏{‏فإِنك رجيم‏}‏ أي‏:‏ مرجوم، مطرود، من كل خير وكرامة‏.‏ أو‏:‏ شيطان يُرجم بالشُهب‏.‏

‏{‏وإِن عليك لعنتي‏}‏؛ إبعادي من الرحمة، وتقييدها هنا، وإطلاقها في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 35‏]‏؛ لأن لعنة اللاعنين من الثقلين والملائكة أيضاً من جهته تعالى، وأنهم يدعون عليه بلعنة الله وإبعاده من الرحمة، ‏{‏إِلى يوم الدين‏}‏؛ إلى يوم الجزاء والعقوبة، ولا يُظَن أن لعنته غايتها يوم الدين، ثم تنقطع، بل في الدنيا اللعنة وحدها، ويوم القيامة يقترن بها العذاب، فيلقى يومئذ من ألوان العذاب، وأفانين العقاب، ما ينسى به اللعنة، وتصير عنده كالزائد‏.‏ أو‏:‏ لَمَّا كان عليه اللعنة في أوان الرحمة، فأولى أن يكون عليه اللعنة في غير أوانها، وكيف ينقطع، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 44‏]‏ وهو إمامُهم‏؟‏

‏{‏قال‏}‏ إبليسُ‏:‏ ‏{‏رَبِّ فأَنظِرْنِي‏}‏؛ أمهلني وأخِّرني، أي‏:‏ إذا جعلتني رجيماً فأمهلني ولا تمتني، ‏{‏إِلى يوم يبعثون‏}‏ أي‏:‏ آدم وذريته للجزاء بعد فنائهم‏.‏

وأراد بذلك فسْحته لإغوائهم، وليأخذ منهم ثأره، وينجو من الموت بالكلية؛ إذ لا موت بعد البعث، ‏{‏قال‏}‏ تعالى‏:‏ ‏{‏فإِنك من المنظرين إلى يوم الوقتِ المعلوم‏}‏، وهو وقت النفخة الأولى، ومعنى «معلوم» أنه معلوم عند الله، لا يتقدم ولا يتأخر، وورود الجواب بالجملة الاسمية مع التعرُّض لشمول ما سأله لآخرين، على وجهٍ يُشعر بكون السائل تبعاً لهم في ذلك، دليل واضح على أنه إخبار بالإنظار المقدر لهم أزلاً، لا إنشاء لإنظار خاص به، قد وقع إجابة لدعائه، أي‏:‏ إنك من جملة الذين أخرت آجالهم أزلاً، حسبما تقتضيه حكمة التكوين‏.‏

‏{‏قال فبعزَّتك لأُغْوِينَّهم أجمعين‏}‏، أقسم بعزّة الله، وهو سلطانه وقهره على إغواء بني آدم، بتزيين المعاصي والكفر، ‏{‏إِلا عبادَكَ منهم المخلصِين‏}‏، وهم الذين أخلصهم الله للإيمان به وطاعته، وعصمهم من الغواية، أو‏:‏ الذين أخلصوا قلوبهم وأعمالهم لله في قراءة الكسر‏.‏

‏{‏قال‏}‏ تعالى‏:‏ ‏{‏فالحقّ والحقَّ أقولُ‏}‏ أي‏:‏ أقسم بالحق ولا أقول إلا الحق، أو‏:‏ الحق قسَمي وأقول الحق‏:‏ ‏{‏لأملأَنَّ جهنمَ منك‏}‏؛ من جنسك، وهم الشياطين، ‏{‏وممن تَبِعَكَ منهم‏}‏؛ من ذرية آدم ‏{‏أجمعين‏}‏ أي‏:‏ لأعمرنَّ جهنم من المتبوعين والتابعين أجمعين، لا أترك منهم أحداً‏.‏

الإشارة‏:‏ التجلي بهذا الهيكل الآدمي فاق جميع التجليات، وصورته البديعة فاقت جميع الصور، ولذلك لم يقل الحق تعالى في شيء أنه خلقه في أحسن تقويم إلا الآدمي، وذلك لأنه اجتمع فيه الضدان، واعتدل فيه الأمران؛ الظلمة والنور، الحس والمعنى، الروحانية والبشرية، القدرة والحكمة‏.‏ ولذلك قال تعالى فيه‏:‏ ‏{‏لِما خلقت بيدي‏}‏، ولم يقله في غيره، أي‏:‏ خلقته بيد القدرة ويد الحكمة‏.‏ فالقدرة كناية عما في باطنه من أسرار المعاني الإلهية، والحكمة عبارة عما في قالَبه من عجائب التصوير، وغرائب التركيب، ولذلك كانت معرفته أتم، وترقِّيه لا ينقطع، إن كان من أهله، وراجع ما تقدّم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءَادَمَ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 70‏]‏‏.‏

وقال القشيري بعد كلام‏:‏ فسبحان الله‏!‏ خلق أعَزَّ خَلْقِه من أذّلِّ شيءٍ وأَخَسِّه‏.‏ ثم قال‏:‏ ما أودع عند آدم لم يوجد عند غيره، فيه ظهرت الخصوصية‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏86- 88‏]‏

‏{‏قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ‏(‏86‏)‏ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ‏(‏87‏)‏ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ‏(‏88‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏قل ما أسألُكُم‏}‏ على تبليغ الوحي أو على القرآن ‏{‏من أجْرٍ‏}‏ دنيوي، حتى يثقل عليكم، ‏{‏وما أنا من المتكلِّفين‏}‏ أي‏:‏ المتصنِّعين بما ليسوا من أهله، وما عرفتموني قط متصنعاً حتى أنتحل النبوة، أو أتقوّل القرآن، وعنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «للمتكلف ثلاث علامات‏:‏ ينازع من فوقه، ويتعاطى ما لا ينال، ويقول ما لا يعلم»‏.‏

‏{‏إِن هو‏}‏‏:‏ ما هو ‏{‏إِلا ذِكْرٌ‏}‏‏:‏ وعظ من الله عزّ وجل ‏{‏للعالَمين‏}‏؛ الثقلين كافة، ‏{‏ولتعلمُنَّ نبأَهُ‏}‏؛ نبأ القرآن، وصحة خبره، وما فيه من الوعد والوعيد، وذكر البعث والنشور، ‏{‏بعد حين‏}‏؛ بعد الموت، أو‏:‏ يوم بدر، أو القيامة، أو‏:‏ بعد ظهور الإسلام وفشوه‏.‏ وفيه من التهديد ما لا يخفى‏.‏ ختم السورة بالذكر كما افتتحها بالذكر‏.‏

الإشارة‏:‏ تقدّم مراراً التحذير من طلب الأجر على التعليم، أو الوعظ والتذكير، اقتداء بالرسل عليهم السلام‏.‏ وفي الآية أيضاً‏:‏ النهي عن التكلُّف والتصنُّع، وهو نوع من النفاق، وضرب من الرياء‏.‏ وعن الزبير بن العوام رضي الله عنه نادى منادي النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «اللهم اغفر للذين لا يدعون، ولا يتكلفون، ألا إني بريء من التكلُّف، وصالحوا أمتي» وقال سلمان‏:‏ «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألاَّ نتكلف للضيف ما ليس عندنا‏!‏»‏.‏ وكان الصحابة رضي الله عنهم يُقَدِّمون ما حضر من الكسر اليابسة، والحشف البالي أي‏:‏ الرديء من التمر ويقولون‏:‏ لا ندري أيهما أعظم وزراً، الذي يحتقر ما قدم إليه، أو‏:‏ الذي يحتقر ما عنده فلا يقدمه‏.‏ ه‏.‏ وبالله التوفيق، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه‏.‏

سورة الزمر

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ‏(‏1‏)‏ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ‏(‏2‏)‏ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ‏(‏3‏)‏ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ‏(‏4‏)‏‏}‏

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

‏{‏تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله العزيز الحكيم إِنَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب بالحق فاعبد الله مُخْلِصاً لَّهُ الدين أَلاَ لِلَّهِ الدين الخالص‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

قلت‏:‏ ‏{‏تنزيل‏}‏ خبر، أي‏:‏ هذا تنزيل، و‏{‏من الله‏}‏‏:‏ صلة لتنزيل، أو‏:‏ خبر ثان، أو‏:‏ حال من التنزيل، عاملها‏:‏ معنى الإشارة‏.‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ هذا الذي تتلوه هو ‏{‏تنزيلُ الكتاب‏}‏، نزل ‏{‏من‏}‏ عند ‏{‏الله العزيزِ‏}‏ في سلطانه ‏{‏الحكيم‏}‏ في تدبيره‏.‏ وإيثار الوصفين للإيذان بجريان أثريهما في الكتاب، بجريان أحكامه ونفوذ أوامره ونواهيه‏.‏ ‏{‏إِنا أنزلنا إِليك الكتاب بالحق‏}‏‏:‏ ليس بتكرُّر؛ لأن الأول كالعنوان للكتاب، والثاني لبيان ما في الكتاب‏.‏ قال أبو السعود‏:‏ والمراد بالكتاب‏:‏ القرآن، وإظهاره على تقدير كونه هو المراد بالأول؛ لتعظيمه ومزيد الاعتناء بشأنه‏.‏ والباء إما متعلقة بالإنزال، أي‏:‏ بسبب الحق وإظهاره، أو‏:‏ بداعيته واقتضائه، وإما بمحذوف هو حال من نون العظمة، أو‏:‏ من الكتاب، أي‏:‏ أنزلناه إليه محقين في ذلك، أو‏:‏ ملتبساً بالحق والصواب، أي‏:‏ ما فيه حق لا ريب فيه موجب العمل به حتماً‏.‏ قال القشيري‏:‏ بالحق، أي‏:‏ بالدين الحق والشرع الحق، وأنا مُحِق في إنزاله‏.‏

‏{‏فاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً له الدينَ‏}‏ أي‏:‏ فاعبده تعالى مخلصاً دينه من شوائب الشرك والرياء، حسبما بُيِّن في تضاعيف ما أنزل إليه‏.‏ ‏{‏ألاَ للهِ الدينُ الخالِصُ‏}‏ أي‏:‏ هو الذي وجب اختصاصه بأن تخلص له الطاعة من كل شائبة؛ لأنه المنفرد بصفات الألوهية، التي من جملتها‏:‏ الاطلاع على السرائر والضمائر‏.‏

الإشارة‏:‏ قال القشيري‏:‏ كتابٌ عزيزٌ، نزل من ربٍّ عزيز، على عبدٍ عزيز، بلسان مَلَكٍ عزيز، في شأنِ أمةٍ عزيزة، بأمرٍ عزيز‏.‏ وأنشدوا‏:‏

ورَدَ الرسولُ من الحبيب الأوَّلِ *** بعد البلاء، وبعد طُول الأمل

تنزيل تنزّهت قلوب الأحباب بعد ذُبولِ عصن سرورها، في كتاب الأحباب، عند قراءة فصولها‏.‏ والعجب منها كيف لا تزهو سروراً بوصولها، وارتياحاً بحصولها، وكتابُ موسى في الألواح، ومنها كان يقرأ موسى، وكتابُ نبينا صلى الله عليه وسلم نَزَلَ به الروح، الأمين، على قلبك، وفَصْلٌ بين مَن يكون خطابُ ربه مكتوباً في ألواحه، وبين مَن يكون خطاب ربه محفوظاً في قلبه، وكذلك أمته، ‏{‏بَلْ هُوَ ءَايَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِى صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 49‏]‏‏.‏ ه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاعْبُد اللهَ مخلصاً له الدينَ‏}‏، قال القشيري‏:‏ العبادة‏:‏ معانقة الطاعات على نعت الخضوع، وتكون بالنفس وبالقلب وبالروح، فالتي بالنفس أي‏:‏ بالجوارح الإخلاص فيها‏:‏ التباعد عن الانتقاص، والتي بالقلب، أي‏:‏ كالفكرة والنظرة، الإخلاص فيها‏:‏ التباعد عن رؤية الأشخاص أي‏:‏ الحس من حيث هو والتي بالروح، الإخلاص فيها‏:‏ التنقِّي عن رؤية طلب الاختصاص‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألا لله الدينُ الخالصُ‏}‏ هو ما يكون جملته لله، وما للعبد فيه نصيب فهو عن الإخلاص بعيد، اللهم إلا أن يكون بأمره، فإنه إذا أَمَرَ العبدَ أن يحتسب الأجرَ على طاعته، فأطاعه، لا يخرج عن الإخلاص بامتثاله ما أمره به، ولولا هذا مَا صحَّ أن يكون في العالَم مُخْلِصٌ، يعني‏:‏ أن جُل الناس إنما يطيعون لاحتساب الأجر، إلا الفرد النادر، فمَن زال عنه الحجاب فإنه يعبد الله بالله، شكراً، وإظهاراً للأدب، فإن قصد الاحتساب، ثم طرأ عليه خواطر بعد تحقق الإخلاص، فلا يضر، يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏

«مَن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» وهذا في أصل القصد، والعوارض غير مضرة، كما هو صريح حديث آخر‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

ثمّ ردّ على المشركين، فقال‏:‏

‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى إِنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ لَّوْ أَرَادَ الله أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاصطفى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ سُبْحَانَهُ هُوَ الله الواحد القهار‏}‏‏.‏

قلت‏:‏ ‏{‏والذين‏}‏‏:‏ مبتدأ، و‏{‏ما نعبدهم‏}‏‏:‏ محكي بقول محذوف، حال من واو «اتخذوا» وجملة «إن الله»‏:‏ خبر، والاستثناء مفرغ من أعم العلل، و«زلفى»‏:‏ مصدر‏.‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏والذين اتخذوا من دونه أولياء‏}‏ أي‏:‏ لم يخلصوا في عبادتهم، بل شاوبُوها بعبادة غيره، كالأصنام، والملائكة، وعيسى، قائلين‏:‏ ‏{‏ما نعبدهم‏}‏ لشيء من الأشياء ‏{‏إِلا لِيُقَربُونا إِلى الله زُلفى‏}‏ أي‏:‏ تقريباً، ‏{‏إِن الله يحكم بينهم‏}‏ وبين خصمائهم، الذين هم المخلصون للدين، وقد حذف لدلالة الحال عليه، كقوله‏:‏ ‏{‏لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 285‏]‏ على أحد الوجهين، أي‏:‏ بين أحد منهم وبين غيره‏.‏ قيل‏:‏ كان المسلمون إذا قالوا للمشركين‏:‏ مَن خلق السماوات والأرض‏؟‏ قالوا‏:‏ الله، فإذا قالوا لهم‏:‏ فما لكم تعبدون الأصنام‏؟‏ قالوا‏:‏ ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى‏.‏

‏{‏إِن الله يحكُم‏}‏ يوم القيامة بين المتنازعين من المسلمين والمشركين ‏{‏فيما هم فيه يَختلِفُون‏}‏ من التوحيد والإشراك، وادعاء كل واحد صحة ما انتحله‏.‏ وحكمُه تعالى هو إدخال الموحدين الجنة والمشركين النار‏.‏ وقيل‏:‏ الموصول واقع على الأصنام، والعائد محذوف، أي‏:‏ والذين اتخذوهم من دونه أولياء، قائلين‏:‏ ما نعبدهم‏.‏‏.‏‏.‏ الخ، إن الله يحكم بينهم، أي‏:‏ بين العبَدة والمعبودين فيما هم فيه يختلفون، حيث يرجون منها شفاعتها وهي تلعنهم، وهذا بعيد‏.‏

‏{‏إِن الله لا يهدي‏}‏‏:‏ لا يُوفِّق للاهتداء ‏{‏مَن هو كاذب كفَّار‏}‏ أي‏:‏ راسخ في الكذب، مبالغ في الكفر، كما يُعرب عنه قراءة من قرأ‏:‏ «كذاب» أو‏:‏ «كذوب»، أي‏:‏ لا يهديهما اليوم لدينه؛ لسابق الشقاء، ولا في الآخرة لثوابه؛ لأنهما اليوم فاقدان للبصيرة، غير قابلين للاهتداء؛ لتغييرهما الفطرة الأصلية بالتمرُّن في الضلالة والتمادي في الغي‏.‏

‏{‏لو أراد اللهُ أن يتخذ ولداً‏}‏ كما يزعم مَن يقول‏:‏ الملائكة بنات الله، والمسيح وعزير ابن الله، تعالى الله عن قولهم عُلواً كبيراً، ‏{‏لاصْطَفى مما يَخْلُقُ ما يشاء‏}‏ أي‏:‏ لاختار مِن خلقه ما يشاء، ممن له مناسبة صمدانية، كالملائكة، فإنهم منزَّهون عن نقائض البشرية، كالأكل والشرب والنكاح، لكن لم يُرد ذلك؛ لاستحالته في حقه تعالى‏.‏

قال القشيري‏:‏ خاطَبَهم على قَدْرِ عقولهم وعقائدهم، فقال‏:‏ لو أراد الله أن يتخذ ولداً بالتبنِّي والكرامة لاختار من الملائكة، الذين هم مبرَّؤون من الأكل والشرب وأوصافِ الخلق، ثم أخبر عن تَقَدُّسه عن ذلك، فقال‏:‏ ‏{‏سبحانه‏}‏ أي‏:‏ تنزيهاً له عن اتخاذ الولد على الحقيقة؛ لاستحالة معناه في نَعْتِه، ولا بالتبني، لتقدُّسه عن الجنسية، والمحالات تدل على وجه الإبعاد‏.‏ ه‏.‏

والحاصل‏:‏ أن الولد في حقه تعالى؛ إن كان عن طريق التولُّد فهو محال، عقلاً ونقلاً، وإن كان عن طريق التبني والكرامة فمُحال سمعاً، وقيل‏:‏ وعقلاً‏.‏ قال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي رضي الله عنه‏:‏ قوله، أي‏:‏ القشيري‏:‏ لتقدُّسه عن الجنسية، يعني لوحدته وقهره، كما رمز إلى ذلك بذكر الاسمين، أي‏:‏ الواحد القهّار، وهما عاملان في كل مخلوق، ومحال تعطيلهما بالتبني المقتضي للجنسية، المباينة للوحدانية والقهر، فلا يمكن إلا العبودية، عقلاً، ونقلاً، وحقيقة، وهذا أشد من كلام ابن عطية، فإنه جوّز اتخاذه على جهة التشريف والتبني عقلاً، وإن امتنع شرعاً، لعموم آية‏:‏ ‏{‏وَمَا يَنبَغِى لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 92‏]‏؛ لاتخاذ النسل المستحيل عقلاً ونقلاً، ولاتخاذ الاصطفاء الممتنع شرعاً‏.‏ وهو أيضاً أشدُّ من كلام الزمخشري، حيث قال‏:‏ معنى الآية‏:‏ لو أراد الله اتخاذ الولد لامتنع ذلك، ولكنه يصطفي مَن يشاء من عباده، على وجه الاختصاص والتقريب، لا على وجه اتخاذه ولداً‏.‏ ه‏.‏ فأجمل في الامتناع، وإن كان المتبادر منه شمول القسمين، وكذا قرر جواب «لو»، أي‏:‏ لامتنع، وجعل قوله‏:‏ ‏{‏لاصطفى‏}‏ الذي هو ظاهر في كونه جواباً غير جواب «بل» على معنى الاستئناف، وهو خلاف المطروق والمفهوم من جري الكلام‏.‏ والله أعلم‏.‏

وما ذكره الزمخشري أيضاً من الامتناع مع الإرادة هو فرض لتعلُّق الإرادة بالممتنع، وهي إنما تتعلق بالجائز، ويحتمل بناؤه على مذهبه الفاسد في إرادة بعض ما لم يقع، وهو شنيع مذهبه، بل ويلزمه عود القهر عليه تعالى عن ذلك، وهو الله الواحد القهّار، فكيف يريد ويمتنع ما يريده‏؟‏‏!‏ هل ذلك إلا عين القهر‏؟‏ تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً‏.‏ ه‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏سبحانه‏}‏ أي‏:‏ تنزّه بالذات عن اتخاذ الولد، تنزهه الخاص به، على أن ‏{‏سبحان‏}‏ مصدر، من‏:‏ سبّح‏:‏ إذا بعّد‏.‏ ‏{‏هو اللهُ الواحدُ القهّارُ‏}‏‏:‏ استئناف مبينٌ لتنزهه بحسب الصفات، إثر بيان تنزُّهه عنه بحسب الذات، فإن صفة الألوهية المستتبعة لسائر صفات الكمال، النافية لسمات النقصان، والوحدة الذاتية، الموجبة لامتناع المماثلة والمشاركة بينه تعالى وبين غيره على الإطلاق، مما يقتضي تنزهه تعالى عما قالوه، قضاء متيقناً، وكذا وصف القهارية؛ لأن اتخاذ الولد شأنُ مَن يكون تحت ملكوت الغير، عرضة للفناء، ليقوم الولد مقامه عند فنائه، ومَن هو مستحيل الفناء، قهّار لكل الكائنات، كيف يتصور أن يتخذ من الأسماء الفانية مَن يقوم مقامه‏؟‏ قاله أبو السعود‏.‏

الإشارة‏:‏ الحق سبحانه غيور، لا يرضى لغيره أن يعبد معه غيره، كان على وجه الواسطة والتقريب، أو‏:‏ على وجه الاستقلال‏.‏ لذلك حَرُم السجود لغير الله، وأما الخضوع للأولياء، العارفين بالله، على غير وجه العبادة، فهو عين الخضوع لله؛ لأن الله تعالى أمر بالخضوع للرسل، الدالين على الله، وهم ورثتهم في الدلالة، لكن لا يكون ذلك على هيئة السجود، وإنما يكون على وجه تقبيل القدم أو الأرض بين أيديهم، كما قال الشاعر‏:‏

يا مَن يلوم خمرة المحبه *** فخذوا عني هي حلال

ومَن يرد يسقي منها عبهْ *** خَدّ يضع لأقدام الرجال

رأسي حططت بكل شيبه *** هم الموالي سقوني زلال

وجعل القشيري مناطَ الرد على الكفرة حيث فعلوا ذلك، وقالوا‏:‏ ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله، بغير إذن الله، وإنما حكموا بذلك من ذات أنفسهم‏.‏ فردَّ الله عليهم‏.‏ قال‏:‏ وفي هذا إشارة إلى ما يفعله العبد من القُرَبِ، بنشاط نَفْسِه، من غير أن يقتضيه حُكْمُ الوقت، وما يعقد بينه وبين الله تعالى من عقودٍ لا يفي بها، وكان ذلك اتباعُ هوىً‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 27‏]‏‏.‏ قلت‏:‏ ولأجل هذا وجب على مَن أراد الوصول إلى الله أن يتخذ شيخاً عارفاً بأحكام الوقت، ذا بصيرة بدسائس النفس، فيأمره في كل وقت، وفي كل زمان، بما يناسبه؛ ليُخرجه من هوى نفسه، وأسر طبعه، وإلا بقي في العنت والبُعد عن الله، يعبد الله على حرف، كلما زاد عبادة وقرباً في زعمه زاد بُعداً من ربه، وهو لا يشعر، فالنفس إن لم تتصل بمَن يرفع عنها الحجاب، كانت كدود القزِّ، تنسج الحجاب على نفسها بنفسها، حتى تموت في وسطه‏.‏ وفي ذلك يقول الششتري في نونيته رضي الله عنه‏:‏

ونحن كَدُودِ القزِّ يحصرُنا الذي *** صنعنا لدفع الحصر سجناً لنا مِنَّا

وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 6‏]‏

‏{‏خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ‏(‏5‏)‏ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏خلق السماواتِ والأرضَ‏}‏ أي‏:‏ وما بينهما من الموجودات، ملتبسة ‏{‏بالحق‏}‏؛ مشتملة على الحكم والمصالح الدينية والدنيوية ‏{‏يُكوِّر الليلَ على النهار ويُكوِّر النهارَ على الليل‏}‏، التكوير‏:‏ اللّف والليّ، يقال‏:‏ كار العمامة على رأسه وكوّرها‏.‏ والمعنى‏:‏ أن كل واحد منهما يغيّب الآخر إذا طرأ عليه، ويلفه لف اللباس باللابس، أو‏:‏ يغيّبه كما يغيب الملفوف باللفافة، أو‏:‏ يجعله كاراً عليه كرُوراً متتابعاً، تتابع أكوار العمامة، وهذا بيان لكيفية تصرفه تعالى في السموات والأرض بعد بيان خلقهما، وعبّر بالمضارع للدلالة على التجرُّد‏.‏

‏{‏وسخَّر الشمسَ والقمرَ‏}‏‏:‏ جعلهما منقادين لأمره‏.‏ ‏{‏كُلٌّ يجري لأَجَلٍ مُسمًّى‏}‏، وهو يوم القيامة، أو‏:‏ كل منهما يجري لمنتهى دورته، ‏{‏أَلاَ هو العزيزُ‏}‏؛ الغالب القادر على كل شيء، ومن جملتها‏:‏ عقاب العصاة، ‏{‏الغفارُ‏}‏‏:‏ المبالغ في المغفرة، ولذلك لا يُعاجل بالعقوبة، ولا يمنع ما في هذه الصنائع البديعة من آثار رحمته‏.‏ وتصدير الجملة بحرف التنبيه، لإظهار كمال الاعتناء بمضمونها‏.‏

‏{‏خَلَقَكُم من نفسٍ واحدةٍ‏}‏، لَمَّا ذكر ما يتعلق بالعالم العلوي، ذكر ما يتعلق بالعالم السفلي، وترك العاطف للإيذان باستقلاله في الدلالة على الوحدانية، وبدأ بالإنسان؛ لأنه المقصود الأهم من هذا العالم، ولعَرَاقته في الدلالة على توحيد الحق وباهر قدرته؛ لما فيه من تعاجيب آثار القدرة، وأسرار الحكمة، وأصالته في المعرفة؛ فإن الإنسان بحال نفسه أعرف، والمراد بالنفس‏:‏ نفس آدم عليه السلام‏.‏

‏{‏ثم جعل منها زوجَهَا‏}‏‏:‏ عطف على محذوف، صفة لنفس، أي‏:‏ من نفسٍ خلقها ثم جعل منها زوجها، أو‏:‏ على معنى‏:‏ واحدة، أي‏:‏ نفس وُجدت ثم جعل منها زوجها حواء، وعطفت بثم دلالة على مباينتها له فضلاً ومزية، فهو من التراخي في الحال والمنزلة، مع التراخي في الزمان‏.‏ وقيل‏:‏ أخرج ذرية آدم من ظهره كالذّر، ثم أخرج منه حوّاء، ففيه ثلاث آيات؛ خلق آدم من غير أب ولا أم، وخلق حواء من قصيراه، ثم تشعيب الخلق الفائت للحصر منهما‏.‏

‏{‏وأنزل لكم من الأنعامِ‏}‏ أي‏:‏ قضى وجعل، أو‏:‏ خلقها في الجنة مع آدم عليه السلام، ثم أنزلها، أو‏:‏ أحدث لكم بأسباب نازلة من السماء، كالأمطار، وأشعة الكواكب، كما تقول الفلاسفة‏.‏ ‏{‏ثمانيةَ أزواج‏}‏ ذكراً وأنثى، وهي‏:‏ الإبل، والبقر، والضأن، والمعز‏.‏ فالزوج اسم لواحد معه آخر، فإذا انفرد فهو فرد، ووتر‏.‏

‏{‏يخلقُكم في بطونِ أمهاتِكم‏}‏‏:‏ استئناف؛ لبيان كيفية خلقهم، وأطوارهم المختلفة، الدالة على القدرة القاهرة‏.‏ وصيغة المضارع للدلالة على التجرُّد‏.‏ ‏{‏خلقاً من بعد خلق‏}‏‏:‏ مصدر مؤكد، أي‏:‏ يخلقكم فيها خلقاً كائناً من بعد خلق، أي‏:‏ خلقاً مُدرَّجاً، حيواناً سويّاً، من بعد عظام مكسوة لحماً، من بعد عظام عارية، من بعد مضغة مخلَّقة، من بعد مضغة غير مخلَّقة، من بعد علقة، من بعد نطفة، ‏{‏في ظلمات ثلاث‏}‏‏:‏ ظلم البطن، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة، أو‏:‏ ظلمة الصلب، والبطن، والرحم‏.‏

‏{‏ذلكم‏}‏‏:‏ إشارة إلى الحق تعالى، باعتبار أفعاله المذكورة، وهو مبتدأ، وما فيه من معنى البُعد؛ للإيذان ببُعد منزلته في العظمة والكبرياء، أي‏:‏ ذلكم العظيم الشأن، الذي عددت أفعاله هو ‏{‏اللهُ ربكُم‏}‏ أي‏:‏ مربيكم بنعمة الإيجاد على الأطوار المتقدمة، وبنعمة الإمداد بعد نفخ الروح فيه‏.‏ ‏{‏له الملكُ‏}‏‏:‏ التصرف التام على الإطلاق في الدارين‏.‏ ‏{‏لا إله إِلا هو‏}‏‏:‏ لا متصرف غيره‏.‏ ‏{‏فأنى تُصْرَفُون‏}‏‏:‏ فكيف تصرفون عن عادته تعالى، مع وفور دواعيها، وانتفاء الصارف عنها بالكلية، إلى عبادة غيره، من غير داع إليها، مع كثرة الصوارف عنها‏؟‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ خلق سماوات الأرواح، وأرض النفوس، بالحق، أي‏:‏ لسبب معرفته، وعبادته، فالمعرفة للأرواح، والعبادة للنفوس، يُكوّر نهار البسط على ليل القبض، وبالعكس، وسخَّر شمس العيان، وقمر البرهان، كُلٌّ يجري إلى أَجل مسمى، إلا أن قمر البرهان ينتهي بطلوع شمس العيان، وشمس العيان لا انتهاء لها‏.‏ ‏{‏لا إله إلا هو العزيز‏}‏ فيمنع بعزته من الوصول إليه مَن أراد احتجابه، ‏{‏الغفار‏}‏ فيغطي بفضله مساوىء مَن أراد وصلتَه‏.‏ ‏{‏خلقكم من نفس واحدة‏}‏؛ من روح واحدة، هي الروح الأعظم، ثم تفرّعت منها الأشياء كلها‏.‏ وأنزل لكم من الأنعام ما تتصرفون فيه، وتتقربون به إلى ربكم، ثم ذكَّرهم بنعمة الإيجاد، ونعمة الإمداد، بقوله‏:‏ ‏{‏يخلقكم في بطون أمهاتكم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إلخ، فنعمة الإيجاد ظاهرة، ونعمة الإمداد‏:‏ ما يتغذّى به الجنين في بطن أمه من دم الحيض‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏7‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إِن تكفروا‏}‏ به تعالى، بعد مشاهدة هذه النعم الجسيمة، وشؤونه العظيمة، الموجبة للإيمان والشكر، ‏{‏فإِن الله غَنِيٌّ عنكم‏}‏ أي‏:‏ فاعلموا أنه تعالى غَنِي عن إيمانكم وشكركم، ‏{‏ولا يرضى لعبادِهِ الكُفْرَ‏}‏؛ لأن الكفر ليس برضا الله، وإن كان بإرادته، وعدمُ رضاه تعالى بالكفر لأجل منفعتهم، ودفع مضرتهم، رحمة بهم، لا لتضرره تعالى به‏.‏ ‏{‏وإِن تشكروا‏}‏ وتؤمنوا ‏{‏يرضَهُ لكم‏}‏ أي‏:‏ يرضى الشكر لأجلكم ومنفعتكم؛ لأنه سبب الفوز بسعادة الدارين‏.‏

وإنما قال‏:‏ ‏{‏لعباده‏}‏ ولم يقل «لكم»، لتعميم الحكم، وتعليله بكونهم عباده تعالى، والحاصل‏:‏ أن وقوع الطاعة والإيمان هو بقدرته تعالى، وإرادته ورضاه، وأما الكفر والمعاصي فهو بقضائه وإرادته، ولم يرضها من عبده شرعاً، وإن رضيها تكويناً؛ لتقوم الحجة على العبد، ويظهر صورة العدل، ولا يظلم ربك أحداً، وإن كان الكل منه وإليه‏.‏

‏{‏ولا تزر وازرةٌ وِزْرَ أُخرى‏}‏‏:‏ بيان لعدم سريان كفر الكافر إلى غيره، أي‏:‏ ولا تحمل نفس حاملة لوزرها حمل نفس أخرى، ‏{‏ثم إِلى ربكم مرجِعُكُم‏}‏ بالبعث بعد الموت، ‏{‏فَيُنَبِّئُكُم‏}‏؛ يُخبركم ‏{‏بما كنتم تعملون‏}‏ في الدنيا من الإيمان والكفر، فيجازيكم بها ثواباً وعقاباً‏.‏ ‏{‏إِنه عليم بذاتِ الصدور‏}‏‏:‏ أي بمضمرات القلوب، فكيف بالأعمال الظاهرة، وهو تعليل ل «ينبئكم»‏.‏

الإشارة‏:‏ قد تقدّم الكلام على الشكر في سورة سبأ قال القشيري‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِن تشكروا يرضه لكم‏}‏ إن أطعتني شكرتُك، وإن ذكرتني ذكرتُك، وإن خطوت لأجلي خطوةً ملأتُ السموات والأرض من شكرك، وأنشدوا‏:‏

لم عَلِمْنا أن الزيارةَ حقٌ *** لَفَرَشْنَا الخدودَ أرضاً لِتَرْضَى

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ‏(‏8‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وإِذا مَسَّ الإِنسانَ‏}‏ أي‏:‏ جنس الإنسان ‏{‏ضُرٌّ‏}‏ من مرض وغيره ‏{‏دَعَا رَبَّه مُنِيباً‏}‏ إليه؛ راجعاً إليه مما كان يدعوه في حالة الرخاء؛ لعِلمه بأنه بمعزل عن القدرة على كشف ضره، وهذا وصف للجنس ببعض أفراده، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ‏}‏ ‏[‏إِبراهيم‏:‏ 34‏]‏ وقيل‏:‏ المراد أبو جهل، أو‏:‏ كل كافر‏.‏ ‏{‏ثم إِذا خَوَّلهُ نعمةً منه‏}‏ أي‏:‏ أعطاه نعمة عظيمة من جنابه، من التخوُّل، وهو التعهُّد، يقال‏:‏ فلان خائل مال، إذا كان متعهّداً إليه حسن القيام به‏.‏ وفي الصحاح‏:‏ خَوَّله اللهُ الشيء‏:‏ ملَّكه إياه‏.‏ وفي القاموس‏:‏ وخوَّله اللهُ المالَ‏:‏ أعطاه إياه‏.‏

قال ابن عطية‏:‏ خوَّله، أي‏:‏ ملَّكه، وحكمه فيها ابتداء من الله، لا مجازاة، ولا يقال في الجزاء‏:‏ خوّل‏.‏ ه‏.‏ أو‏:‏ من الخوَل، وهو الافتخار، أي‏:‏ جعله يخول، أي‏:‏ يختال ويفتخر بنعمه‏.‏ ‏{‏نَسِيَ ما كان يدعو إِليه من قَبْلُ‏}‏ أي‏:‏ نسيَ الضر الذي كان يدعو الله تعالى كشفه من قبل التخويل، أو‏:‏ نسي ربه الذي كان يدعو ويتضرّع إليه، على أن ‏{‏ما‏}‏ بمعنى ‏{‏من‏}‏، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنثَى‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏ 3‏]‏، أو‏:‏ إيذاناً بأن نِسْيانَه بلغ به إلى حيث لا يعرف ما يدعوه، وهو كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏عَمَّآ أَرْضَعَتْ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 2‏]‏‏.‏

‏{‏وجعل لله أنداداً‏}‏‏:‏ شركاء في العبادة؛ ‏{‏ليُضل‏}‏ بذلك ‏{‏عن سبيله‏}‏ الذي هو التوحيد، أي‏:‏ ليُضل غيره، أو‏:‏ ليزاد ضلالاً، أو‏:‏ يثبت عليه، على القراءتين، وإلا؛ فأصل الضلال غير متأخر عن الجعل المذكور‏.‏ واللام للعاقبة، كما في قوله‏:‏ ‏{‏فَالْتَقَطَهُ ءَالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 8‏]‏ غير أن هذا أقرب للحقيقة؛ لأن الجاعل هنا قاصد بجعله المذكور حقيقة الإضلال والضلال، وإن لم يعرف؛ لجهله أنهما إضلال وضلال، وأما آل فرعون فهم غير قاصدين بالتقاطهم العداوة أصلاً‏.‏ قاله أبو السعود‏.‏

‏{‏قُلْ تَمتعْ بكفرك قليلاً‏}‏ أي‏:‏ تمتعاً قليلاً، أو‏:‏ زماناً قليلاً في الدنيا، وهو تهديد لذلك الضال المضل، وبيان لحاله ومآله‏.‏ ‏{‏إِنك من أصحاب النار‏}‏ أي‏:‏ من ملازميها، والمعذَّبين فيها على الدوام، وهو تعليل لقلة التمتُّع‏.‏ وفيه من الإقناط من النجاة ما لا يخفى، كأنه قيل‏:‏ إذا أبيتَ قبول ما أمرت به من الإيمان والطاعة، فمن حقك أن تؤمَر بتركه لتذوق عقوبته‏.‏

الإشارة‏:‏ الصفة الممدوحة في الإنسان‏:‏ أن يكون إذا مسَّه الضر التجأ إلى سيده، مع الرضا والتسليم، فإذا كشف عنه شكر الله وحمده، ودام على شكره، ونسب التأثير إلى الأسباب والعلل، وهو صريح الآية‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ‏(‏9‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏أمنْ هو قانتٌ‏}‏ أي‏:‏ مطيع، قائم بواجب الطاعات، دائم على أداء وظائف العبادات، ‏{‏آناء الليل‏}‏ أي‏:‏ في ساعات الليل، حالتي السراء والضراء، كمَن ليس كذلك، بل إنما يفزع إلى الله في الضراء فقط، فإذا كشف عنه نسي ما كان يدعو إليه من قبلُ، وحذفه لدلالة ما قبله عليه‏.‏ ومَن قرأ بالتشديد، ف «أم» إما متصلة، حُذف مقابلها، أي‏:‏ أنت خير حالاً ومآلاً أم مَن هو قائم بوظائف العبادات، أو‏:‏ منقطعة، والإضراب للانتقال من التهديد إلى التبكيت بالجواب الملجىء إلى الاعتراف بما بينهما، كأنه قيل‏:‏ أم مَن هو قانت أفضل، أم مَن هو كافر مثلك‏؟‏

حال كون القانت ‏{‏ساجداً وقائماً‏}‏ أي‏:‏ جامعاً بين الوصفين المحمودين‏.‏ وتقديم السجود على القيام؛ لكونه أدخل في معنى العبادة‏.‏ ‏{‏يحْذَرُ الآخرةَ‏}‏ أي‏:‏ عذاب الآخرة، حال أخرى، أو‏:‏ استئناف، جواب عما نشأ من حكاية حاله من القنوت والسجود، كأنه قيل‏:‏ فما باله يفعل ذلك‏؟‏ فقيل‏:‏ يحذر الآخرة، ‏{‏ويرجو رحمةَ ربه‏}‏ أي‏:‏ الجنة، فينجو بذلك مما يحذره، ويفوز بما يرجوه، كما ينبىء عنه التعرُّض لعنوان الربوبية، المنبئة عن التبليغ إلى الكمال، مع الإضافة إلى ضمير الراجي‏.‏

ودلّت الآية على أن المؤمن يجب أن يكون بين الخوف والرجاء، يرجو رحمته، لا عمله، ويحذر عقابه؛ لتقصيره في عمله، ثم الرجاء إذا جاوز حدّه يكون أمناً‏.‏ والخوف إذا جاوز حدّه يكون إياساً، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 99‏]‏، و‏{‏لاَ يَايْئَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 87‏]‏ فيجب ألا يجاوز أحدهما حدَّه؛ بل يكون كالطائر بين جناحيه، إلا في حالة المرض، فيغلب الرجاء، ليحسن ظنه بالله‏.‏ ومذهب محققي الصوفية‏:‏ تغليب الرجاء مطلقاً، لهم ولعباد الله؛ لغلبة حسن ظنهم بربهم‏.‏

والآية، قيل‏:‏ نزلت في عثمان رضي الله عنه كان يحيي الليل، وقيل‏:‏ في عمار وأبي حذيفة، وهي عامة لمَن سواهم‏.‏

‏{‏قُلْ هل يستوي الذين يعلمون‏}‏ حقائق الأحوال، فيعملون بموجب علمهم، كالقانت المذكور، ‏{‏والذين لا يعلمون‏}‏ شيئاً؛ فيعملون بمقتضى جهلهم، كدأب الكافر المتقدم‏.‏ والاستفهام للتنبيه على أن كون الأولين في أعلى معارج الخير، وكون الآخرين في أقصى مدارج الشر من الظهور، بحيث لا يكاد يخفى على أحد‏.‏

قال النسفي‏:‏ أي‏:‏ يعلمون ويعملون به، كأنه جعل مَن لا يعمل غير عالم، وفيه ازدراءٌ عظيمٌ بالذين يقْتَنون أي‏:‏ يدخرون العلوم، ثم لا يَقْنُتون، ويَتفننون فيها، ثم يُفتنون بالدنيا، فهم عند الله جهلة، حيث جعل القانتين هم العلماء‏.‏ أو‏:‏ يريد به التشبيه، أي‏:‏ كما لا يستوي العالم والجاهل، كذلك لا يستوي المطيع والعاصي‏.‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ القنوت هو القيام بآداب الخدمة، ظاهراً وباطناً، من غير فتور ولا تقصير، قاله القشيري‏.‏

وهو على قسمين، قنوت العارفين، وهي عبادة القلوب، كالفكرة والنظرة، ساعة منها أفضل من عبادة سبعين سنة، وثمرتها‏:‏ التمكُّن من شهود الذات الأقدس، عاجلاً وآجلاً، وقنوت الصالحين، وهي عبادة الجوارح، كالركوع والسجود والتلاوة، وغيرها من أعمال الجوارح، وثمرتها نعيم الجنان بالحور والولدان، مع الرضا والرضوان، ورؤية وجه الرحمن‏.‏

رُوي عن قبيصة بن سفيان، قال‏:‏ رأيت سفيان الثوري في المنام بعد موته، فقلت له‏:‏ ما فعل الله بك‏؟‏ فأنشأ يقول‏:‏

نظرتُ إِلَى ربِّي عِياناً فقال لي *** هنيئاً رضائي عنك يا ابنَ سعيدِ

لقد كنتَ قوَّاماً إذا الليلُ قد دَجا *** بِعَبْرة محزونٍ وقلب عميدِ

فدونك فاختر أيّ قصر تريدُه *** وزرني فإني منك غيرُ بعيدِ

وكان شعبةُ ومِسْعَر رجلين صالحين، وكانا من ثقة المحدِّثين، فماتا، قال أبو أحمد اليزيدي‏:‏ فرأيتهما في المنام، وكنتُ إلى شعبة أميل مني إلى مسعر، فقلت لشعبة‏:‏ يا أبا بسطام؛ ما فعل الله بك‏؟‏ فقال‏:‏ يا بني احفظ ما أقول لك‏:‏

حَباني إلهي في الجِنان بقُبة *** لها ألفُ باب من لجَيْن وجوهرا

وقال لي الجبارُ‏:‏ يا شعبة الذي *** تبحَّر في جمع العلوم وأكثرا

تمتعْ بقربي، إنني عنك ذو رضا *** وعن عبديَ القوَّام في الليل مِسعرا

كفى مسعراً عزّاً بأنْ سيزورُني *** وأكشفُ عن وجهي ويدنو لينظرا

وهذا فَعالي بالذين تنسَّكوا *** ولم يألفوا في سالف الدهر منكرا

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون‏}‏ أي‏:‏ لا يستوي العالم بالله مع الجاهل به، العالم يعبده على العيان، والجاهل به في مقام الاستدلال والبرهان‏.‏ العالم بالله يستدل بالله على غيره، والجاهل به يستدل بالأشياء على الله، وشتّان بين مَن يستدل به أو يستدل عليه، المستدل به عرف الحق لأهله، وأثبت الأمر من وجود أصله، والاستدلال عليه من عدم الوصول إليه، كما في الحِكَم‏.‏ العالم بالله من السابقين المقربين، والجاهل به من عامة أهل اليمين، ولو تبحّر في العلو الرسمية غاية التبحُّر‏.‏ قال الورتجبي‏:‏ وصف تعالى أحوال أهل الوجود والكشوفات، المستأنسين به، وبلذائذ خطابه ومناجاته، وتحمّلوا من لطائف خطابه مكنونَ أسرار غيبه، من العلوم الغريبة، والأنباء العجيبة، لذلك وصفهم بالعلم الإلهي، الذي استفادوا من قُربه ووصاله، وكشف جماله بقوله‏:‏ ‏{‏هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون‏}‏ كيف يستوي الشاهد والغائب، والشاهد يرى ما لا يرى الغائب‏؟‏‏.‏ ه‏.‏

قال القشيري‏:‏ العلم المخلوق على ضربين‏:‏ علم مجلوبٌ بكسب العبد، وموهوبٌ من قِبَلِ الربِّ‏.‏‏.‏ انظر تمامه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ‏(‏10‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏في هذه‏}‏‏:‏ متعلق بأحسنوا، أو‏:‏ بحسنة، على أنه بيان لمكانها، أو‏:‏ حال من ضميرها في الظرف‏.‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏قل يا عبادِ الذين آمنوا اتقوا ربَّكم‏}‏ بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يحثّهم على التقوى ويُذكِّرهم بها، بعد تخصيص التذكير بأولي الألباب، إيذاناً بأن أُولي الألباب هم أهل التقوى، وفي إضافتهم إلى ضمير الجلالة بقوله‏:‏ ‏{‏يا عبادي‏}‏ تشريف لهم، ومزيد اعتناء بشأن المأمور به، وهو التقوى‏.‏

ثم حرَّض على الامتثال بقوله‏:‏ ‏{‏للذين أحسنوا‏}‏ أي‏:‏ اتقوا الله وأطاعوه ‏{‏في هذه الدنيا‏}‏ الفانية، التي هي مزرعة الآخرة‏.‏ ‏{‏حسنةٌ‏}‏ أي‏:‏ حسنةٌ عظيمة، لا يُكتنه كُنهها، وهي الجنة ونعيمها، أو‏:‏ للذين أحسنوا بالطاعة والإخلاص حسنة معجّلة في الدنيا، وهي الصحة والعافية، والحياة الطيبة، أو‏:‏ للذين أحسنوا، أي‏:‏ حصلوا مقام الإحسان الذي عبّر عنه عليه الصلاة والسلام بقوله‏:‏ «أن تعبد الله كأنك تراه» حسنة كبيرة، وهي لذة الشهود، والأنس بالملك الودود في الدارين‏.‏

ولما كان هذا المقام لا يتأتى تحصيله إلا في بعض البلاد الخالية من الشواغل والموانع، أمر بالهجرة من الأرض التي لا يتأتى فيها التفرُّغ، فقال‏:‏ ‏{‏وأرضُ الله واسعةً‏}‏، فمَن تعسَّر عليه التفرُّغ للتقوى، والإحسان وعمل القلوب، في وطنه، فليهاجر إلى بلد يتمكن فيه ذلك، كما هي سُنَّة الأنبياء والأولياء، فإنه لا عذر له في التفريط والبطالة أصلاً‏.‏

ولمّا كان الخروج من الوطن صعباً على النفوس، يحتاج إلى صبر كبير؛ ورغَّب في الصبر بقوله‏:‏ ‏{‏إِنما يُوفى الصابرون‏}‏ على مفارقة الأوطان، وتحمُّل مشاق الطاعات، وتحقيق الإحسان، ‏{‏أجْرَهم‏}‏ في مقابلة ما كابدوه من الصبر، ‏{‏بغير حسابٍ‏}‏ بحيث لا يحصى ولا يحصر؛ بل يصب عليهم الأجر صبّاً، فلهم ما لا عين رأت، ولا أُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر‏.‏

وعن ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ ‏(‏لا يهدي إليه حساب الحسّاب، ولا يُعرف‏)‏، وفي الحديث‏:‏ «أنه يُنصب الموازين يوم القيامة لأهل الصلاة والصيام والحج، فيوفّون بها أجورهم، ولا تنصب لأهل البلاء؛ بل يُصب عليهم الأجر صبّاً، حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض، مما يذهب به أهل البلاء من الفضل» وكل ما يشق على النفس ويتعبها فهو بلاء، والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ بالتقوى الكاملة يصير العبد من أُولي الألباب، فبقدر ما تعظم التقوى يعظم إشراق النور في القلب، ويتصفّى من الرذائل، وقد تقدّم الكلام عليها مستوفياً عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللهَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 100‏]‏ فمَن أحسن في تقواه أحسن الله عاقبته ومثواه، وحفظه في دنياه وأخراه‏.‏

فمَن تعذّرت عليه التقوى في وطنه، فليهاجر منه إلى غيره، والهجرة سُنَّة نبوية، وليتجرّع الصبر على مفارقة الأوطان، ومهاجرة العشائر والإخوان، لينخرط في سلك أهل الإحسان، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ والَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِىَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 100‏]‏ الآية‏.‏

قال القشيري‏:‏ الصبر‏:‏ حَبْسُ النفس على ما تكره، ويقال‏:‏ تجرُّعُ كاسات التقدير، من غير استكراهٍ ولا تعبيس، ويقال‏:‏ التهدُّف لسهام البلاء‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 16‏]‏

‏{‏قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ‏(‏11‏)‏ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏12‏)‏ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏13‏)‏ قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي ‏(‏14‏)‏ فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ‏(‏15‏)‏ لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ ‏(‏16‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏قُل‏}‏ لهم‏:‏ ‏{‏إِني أُمرتُ أن أعبدَ اللهَ‏}‏ حال كوني ‏{‏مخلصاً له الدينَ‏}‏ من كل ما ينافيه من الشرك والرياء، وما أمر به صلى الله عليه وسلم يُؤمر به أمته؛ بل هم المقصودون‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وأمرتُ لأن أكون أول المسلمين‏}‏ أي‏:‏ وأُمرت بذلك لأجل أن أكون مقدمهم في الدنيا والآخرة؛ لأن إحراز قصَبِ السبق في الدين بالإخلاص فيه، فالإسلام الحقيقي هو المنعوت بالإخلاص، والتقدير‏:‏ أُمرت بالعبادة والإخلاص فيها، وأُمرت بذلك لأن أكون أول المخلصين‏.‏

أو‏:‏ تكون اللام زائدة، وهو أظهر، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّى أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنَ أَسْلَمَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 14‏]‏ أي‏:‏ من قومي، أو‏:‏ من أهل زماني، أو‏:‏ أكون أول مَن دعا غيره إلى ما دعا إليه نفسه، وهو الإسلام، وحاصله‏:‏ أُمرت بإخلاص الدين، وأُمرت أن أكون من السابقين في ذلك زماناً ورتبة؛ لأنه داع إلى الإسلام، والداعي إلى الشيء ينبغي أن يكون متحلياً به، كما هي سُنَّة الأنبياء والأولياء، لا الملوك والمتجبرين‏.‏

‏{‏قل إِني أخافُ إِن عَصَيْتُ ربي‏}‏ بترك الإخلاص، والميل إلى ما أنتم عليه من الشرك ‏{‏عذابَ يومٍ عظيم‏}‏ هو يوم القيامة‏.‏ وُصف بالعظمة؛ لعظمة ما فيه من الدواهي والأهوال‏.‏

‏{‏قُلِ اللهَ أعبدُ‏}‏ لا غيره، لا استقلالاً ولا اشتراكاً‏.‏ وليس بتكرار؛ لأن الأول إخبار عن كونه مأموراً بالإخلاص في الدين، وبالسبق إليه، وهذا إخبار بأنه امتثل الأمر، وفعل ما أُمر به‏.‏ وقدِّم المفعول لأنه جواب لقول الكفرة‏:‏ أعْبُدْ ما نعبد، لنعبُد ما تعبد، فهو كقوله‏:‏ ‏{‏لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ‏}‏ ‏[‏الكافرون‏:‏ 6‏]‏ أي‏:‏ لا أعبد إلا الله ‏{‏مخلصاً له ديني‏}‏ من كل ما يشوبه من العلل، فأمر صلى الله عليه وسلم أولاً ببيان كونه مأموراً بعبادة الله وإخلاص الدين له، ثم بالإخبار بخوفه من العذاب على تقدير العصيان، ثم بالإخبار بامتثالهِ لِمَا أمر به على أبلغ وجه؛ إظهاراً لتصلُّبه في الدين، وحسماً لمادة أطماعهم الفارغة، وتمهيداً لتهديدهم بقوله‏:‏ ‏{‏فاعبدوا ما شئتم‏}‏ أن تعبدوه ‏{‏من دونه‏}‏ تعالى‏.‏ وفيه من الدلالة على شدة الغضب عليهم ما لا يخفى، كأنهم لَمَّا لَمْ ينتهوا عما نُهوا عنه أُمِرُوا به، كي يحيق بهم العذاب‏.‏

‏{‏قلْ إِن الخاسرين‏}‏؛ الكاملين في الخسران، الذي هو عبارة عن‏:‏ إضاعة ما يهمه، وإتلاف ما لا بد منه، هم ‏{‏الذين خسروا أنفُسَهم‏}‏ بتعريضها للعطب، ‏{‏وأهلِيِهِم‏}‏ بتعريضهم للتفرُّق عنهم، فرقاً لا جمع بعده؛ إما في عذاب الأبد، إن ماتوا على الكفر معهم، أو‏:‏ في الجنة، إن آمنوا، فلا يرونهم أبداً‏.‏ وقيل‏:‏ خسروا أهلهم؛ لأنهم لم يدخلوا مدخل الذين لهم أهل في الجنة، أو‏:‏ خسروا أهلهم الذين كانوا يتمتعون بهم، لو آمنوا‏.‏ ‏{‏ألا ذلك هو الخسرانُ المبينُ‏}‏ الذي لا خسران أظهر منه‏.‏

وتصدير الجملة بحرف التنبيه، والإشارة بذلك إلى بُعد منزلة المشار إليه في الشر‏.‏ وتوسيط ضمير الفصل، وتعريف الخسران، ووصفه بالمبين؛ من الدلالة على كمال هوله وفظاعته، وأنه لا خسران وراءه، ما لا يخفى‏.‏

‏{‏لهم من فوقهم ظُلَلٌ من النار‏}‏ أي‏:‏ لهم ظلل كثيرة متراكمة بعضها فوق بعض، كائنة من النار، ‏{‏ومن تحتهم‏}‏ أيضاً ‏{‏ظُلَلٌ‏}‏ أي‏:‏ أطباق كثيرة، بعضها تحت بعض، هي ظلل لآخرين‏.‏ ‏{‏ذلك‏}‏ العذاب الفظيع هو الذي ‏{‏يُخوِّف اللهُ به عبادَه‏}‏ ويُحذِّرهم إياه؛ ليجتنبوا ما يوقعهم فيه‏.‏ ‏{‏يا عبادِ فاتقون‏}‏ ولا تتعرضوا لِما يُوجب سخطي‏.‏ وهذه موعظة من الله بالغة، منطوية على غاية اللطف والرحمة، جعلنا الله من أهلها بمنِّه وكرمه‏.‏

الإشارة‏:‏ الإخلاص سر بين الله وبين عبده، لا يطلع عليه ملك فيكتبه، ولا شيطان فيُفسده، وهو الغيبة عما سوى الله، فلا يرى في الدارين إلا الله، ولا يعتمد إلا عليه، ولا يخاف إلا منه، ولا يرجو إلا إياه‏.‏ والإسلام هو‏:‏ الانقياد بالجوارح في الظاهر للأحكام التكليفية، والاستسلام في الباطن للأحكام القهرية التعريفية، فالإسلام صورة، والاستسلام روحها، فالإسلام بلا استسلام جسد بلا روح‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاعبدوا ما شئتم‏}‏ هو تهديد لمَن عبدَ نفسه وهواه، وهو الخسران المبين‏.‏ ويقال‏:‏ الخاسر‏:‏ مَن خسر أيام عمره بالبطالة والتقصير، وخسر آخرته بعدم التأهُّب والتشمير، وخسر مولاه بعدم الوصول إلى مشاهدة حضرة العلي الكبير، وهي حضرة الذات، فمَن خسر هذا الخسران، فقد أحاطت به نار القطيعة والحجاب من كل مكان‏.‏ ‏{‏ذلك يُخوِّف اللهُ بهِ عباده‏}‏ قال القشيري‏:‏ إن خفتَ اليوم كُفيت خوف ذلك اليوم، وإلا فبين يديك عقبة كُؤُود‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 18‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ ‏(‏17‏)‏ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ‏(‏18‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏أن يعبدوها‏}‏‏:‏ بدل اشتمال من «الطاغوت»، والطاغوت‏:‏ فعلوت، من الطغيان، بتقديم اللام على العين، وأصله‏:‏ طغيوت، ثم طيغوت، ثم طاغوت‏.‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏والذين اجتنبوا الطاغوتَ‏}‏ أي‏:‏ البالغ أقصى غاية الطغيان، وهو الشيطان ‏{‏أن يعبدُوها‏}‏ أي‏:‏ اجتنبوا عبادة الطاغوت، الذي هو الشيطان، أو‏:‏ كل ما عُبد من دون الله، وكل مَن عَبَد غيرَ الله فإنما عَبَد الشيطان؛ لأنه هو المزيّن لها، والحامل عليها‏.‏ ‏{‏وأنابوا إِلى الله‏}‏ أي‏:‏ وأقبلوا إليه، معرضين عما سواه، إقبالاً كليّاً، ‏{‏لهم البُشرى‏}‏ بالنعيم المقيم، على ألسنة الرسل والملائكة، عند حضور الموت، وحين يُحشرون، وبعد ذلك‏.‏

‏{‏فبشِّرْ عبادِ الذين يستمعون القولَ‏}‏ أي‏:‏ ما نزل من الوحي ‏{‏فيتبعون أحسَنَه‏}‏؛ أرجحه وأكثره ثواباً، أو‏:‏ أبْينه، الذي هو ضد المتشابه‏.‏ وهؤلاء هم الموصوفون باجتناب الطاغوت، والإنابة إلى ربهم، لكن وضع موضع ضميرهم الظاهر؛ تشريفاً لهم بالإضافة، ودلالةً على أن مدار اتصافهم بالوصفين الجليلين كونهم نُقاداً في الدين، يُميِّزون الحق من الباطل، ويُؤثرون الأفضل‏.‏

‏{‏أولئك‏}‏ المنعوتون بتلك المحاسن الجميلة؛ هم ‏{‏الذين هداهُمُ الله‏}‏ لدينه، والإشارة إليهم باعتبار اتصافهم بما ذكر من النعوت الجليلة، وما فيه من معنى البُعد؛ للإيذان بعلو رتبهم، وبُعد منزلتهم في الفضل‏.‏ ‏{‏وأولئك هم أولوا الألبابِ‏}‏ أي‏:‏ هم أصحاب العقول الصافية، السليمة من معارضة الوهم ومنازعة الهوى، المستحقون للهداية، لا غيرهم‏.‏

وفيه دليل على أن الهداية تحصل بفضل الله تعالى، لقوله‏:‏ ‏{‏هداهم الله‏}‏، وقبول النفس لها؛ لقوله‏:‏ ‏{‏هم أولوا الألباب‏}‏‏.‏

الإشارة‏:‏ مذهب الصوفية‏:‏ الأخذ بالعزائم، والأرجح من كل شيء، عقداً، وقولاً، وعملاً، فأخذوا من العقائد مقام العيان، ولم يقنعوا بالدليل والبرهان، وأخذوا من الأقوال ألينها وأطيبها، ويجمع ذلك‏:‏ حسن الخلق مع كل مخلوق، فآثروا العفو على القصاص، والصفح على العتاب، وغير ذلك من عزائم الشريعة على رخصها، ومن الأذكار‏:‏ أرجحها وأجمعها، وهو الاسم المفرد، الذي هو سلطان الأسماء، ومن الأعمال‏:‏ أعظمها وأرجحها، وهو عمل القلوب، الذي هو الذرة منه تعدل أمثال الجبال من أعمال الجوارح، كعبادة الفكرة والنظرة، وفي الحديث‏:‏ «تفكُّر ساعة أفضل من عبادة سبعين سنة»، فأوقاتهم كلها ليلة القدر، وكالتخلُّق بمكارم الأخلاق، كالرضا، والتسليم، والحلم، والسخاء، والكرم، وغير ذلك من محاسن الخِلل، الذي هو من عمل القلوب، فهم الذين تحققت فيهم البشارة بقوله‏:‏ ‏{‏فبشِّر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه‏}‏‏.‏

وقال الورتجبي بعد كلام‏:‏ ويَتبع الكلام الأزلي الذي هو الخطاب بالفهم العجيب، والعلم الغريب، والإدراك الصافي، وانفراد الحق عن المخلوق، في المحبة، والشوق، والمعرفة، والتوحيد، والإخلاص، والعبودية، والربوبية، والحرية، فهذا أفضل وِرد بالبديهة، من حيث ظهور الأنباء العجيبة، والروح القدسية، والإلهامات الربانية‏.‏‏.‏ انظر بقية كلامه‏.‏ وقال القشيري‏:‏ الاستماع يكون لكل شيء، والاتباع يكون للأحسن‏.‏ ثم قال‏:‏ مَن عرف الله لا يسمع إلا بالله‏.‏ ه‏.‏ ‏{‏أولئك الذين هداهم الله‏}‏ إلى صريح معرفته العيانية‏.‏ ‏{‏وأولئك هم أولوا الألباب‏}‏، ولب الشيء‏:‏ قلبه وخصاله، فقلوبهم خالصة لمولاهم، وأرواحهم متنعمة بشهود حبيبها، وأسرارهم متنزهة في رياض ملكوت سيدها‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ ‏(‏19‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏مَن‏}‏‏:‏ شرطية، دخل عليها همزة الإنكار، والفاء عاطفة على جملة محذوفة؛ ليتعلق الإنكار والنفي بمضمونها معاً، أي‏:‏ أنت مالك أمر الناس، فمَنْ حَقَّ علية كلمة العذاب أفأنت تُنقذه، ثم كررت الهمزة في الجزاء؛ لتأكيد الإنكار، وتكريره، لَمّا طال الكلام، ثم وضع موضع الضمير «مَن في النار»؛ لمزيد تشديد الإنكار والاستبعاد، والتنبيه على أن المحكوم عليه بالعذاب بمنزلة الواقع في النار، ويجوز أن يكون الجزاء محذوفاً، دلّ عليه‏:‏ ‏{‏أفأنت تُنقذ‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ الخ، أي‏:‏ أفمن حقَّ عليه العذاب تنقذه أنت‏.‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏أفمن حقّ عليه كلمةُ العذاب‏}‏‏.‏ وهم عبَدَة الطاغوت ومتبعو خطواتها، كما يلُوح إليه التعبير عنهم ب «مَن حق عليه كلمة العذاب»، فإن المراد بها قوله تعالى لإبليس‏:‏ ‏{‏لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 85‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 18‏]‏ أي‏:‏ أفمن حقّت عليه كلمة الشقاء، تقدر أن تهديه وتُنقذه من الكفر، الذي هو سبب النار‏؟‏ أو‏:‏ تقول‏:‏ المحكوم عليه بالنار بمنزلة الداخل فيها، فاجتهاده صلى الله عليه وسلم في دعائهم إلى الإيمان سعي في إنقاذهم من النار بعد الدخول فيها، وهو لا يفيد‏.‏ فالمراد‏:‏ تسكينه صلى الله عليه وسلم وتفريغه من الحرص عليهم‏.‏

الإشارة‏:‏ مَن سبق له الإبعاد لا يفيده الكد والاجتهاد، ومَن أسدل بينه وبينه الحجاب، لا يفيده إلا الوقوف بالباب، حتى يحنّ الكريمُ الوهاب، فإنّ العواقب في هذه الدر مبهمة، والأعمال بالخواتم‏.‏ قال القشيري‏:‏ والذين حقت عليهم كلمةُ العذاب، فإنهم اليوم اليوم لا يخرجون من حجاب قلوبهم‏.‏ ه‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

ولمَّا كان المراد بقوله‏:‏ ‏{‏أفأنت تُنقذ مَن في النار‏}‏ هم الذين قيل في حقهم‏:‏ ‏{‏لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 16‏]‏ استدرك عنهم أهل التقى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏لكِنِ الذين اتقوا ربَّهم‏}‏، وهم الذين وصفوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 16‏]‏، ووُصفوا بالاجتناب والإنابة، وحصل لهم البُشرى، حيث استمعوا وتبعوا أحسن القول، وهم المخاطبون أيضاً بقوله‏:‏ ‏{‏يَا عِبَادِ الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 10‏]‏‏.‏‏.‏‏.‏ الآية‏.‏

فبيَّن هنا أن لهم درجات عالية في جنات النعيم، في مقابلة ما للكفرة من دركات سافلة في الجحيم، فهي في مقابلة قوله لهم‏:‏ ‏{‏من فوقهم ظُلل من النار ومن تحتهم ظُلل‏}‏ في حق الكفار، أي‏:‏ لكن أهل التقى لهم عَلالِي، بعضها فوق بعض ‏{‏مبنيةٌ‏}‏ بناء المنازل المؤسسة على الأرض في الرصانة والإحكام‏.‏ ‏{‏تجري من تحتها‏}‏ أي‏:‏ من تحت تلك الغرف ‏{‏الأنهارُ‏}‏ من غير تفاوت بين العلو والسفل‏.‏ ‏{‏وَعْدَ اللهِ‏}‏ أي‏:‏ وعد الله ذلك وعداً، فهو مصدر مؤكد لقوله‏:‏ ‏{‏لهم غُرف‏}‏ فإنه في قوة الوعد‏.‏ ‏{‏لا يُخلف الله الميعاد‏}‏ لاستحالته عليه سبحانه‏.‏

الإشارة‏:‏ مَن اتقى الله فيما أمر ونهى، كانت له درجات حسية، مبنية من الذهب والفضة، يترقَّى فيها على قدر عمله وتقواه‏.‏ ومَن اتقى ما يشغل عن الله من جنس الكائنات، كانت له درجات ومقامات معنوية، قُربية اصطفائية، يرتقي فيها بقدر تقواه وسعيه إلى مولاه، وعد الله لا يُخلف الله الميعاد‏.‏ قال القشيري‏:‏ وَعَدَ المطيعين الجنة ولا محالة لا يُخلفه، ووَعَدَ المذنبين المغفرة، ولا محالة يغفر لهم، ووَعَدَ المريدين القاصدين بالوصول، فإذا لم تقع لهم فترة؛ فلا محالةَ يَصدقُ وَعْده‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ ‏(‏21‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ألم تَرَ‏}‏ أيها السامع ‏{‏أن الله أنزلَ من السماء ماءً‏}‏ هو المطر، وقيل‏:‏ كل ماء في الأرض فهو من السماء، ينزل منها إلى الصخرة، فيقسمه الله تعالى بين البقاع‏.‏ ‏{‏فسَلَكَهُ‏}‏‏:‏ أدخله ونظمه ‏{‏ينابيعَ في الأرض‏}‏ أي‏:‏ عيوناً ومجاري في الأرض، كجري الدماء في العروق في الأجساد‏:‏ أو‏:‏ مياهاً نابعة في ظهرها، فإن الينبوع يطلق على المنبع والنابع‏.‏ فنصب «ينابيع» على الحال، على القول الثاني، وعلى نزع الخافض، على الأول‏.‏

‏{‏ثم يُخرِجُ به زرعاً مختلفاً ألوانه‏}‏‏:‏ أصنافه، من بُر وشعير وغيرهما، أو‏:‏ كيفياته من الألوان، كالصفرة والخضرة والحمرة، والطعوم وغيرهما‏.‏ و‏{‏ثم‏}‏‏:‏ للتراخي في الرتبة والزمان، وصيغة المضارع‏:‏ لاستحضار الصورة البديعة، ‏{‏ثم يهيجُ‏}‏ أي‏:‏ يتم جفافه، ويشرف على أن يثور من منابته، ويستقل على وجه الأرض، ساتراً لها، ‏{‏فتراه مُصفراً‏}‏ من بعد خضرته ونَضرته‏.‏ ‏{‏ثم يجعله حطاماً‏}‏، فُتاتاً متكسرة، كأن لم يغنَ بالأمس، فمَن قدر على هذا قدر على إنشاء الخلق بعد فنائهم ومجازاتهم‏.‏

وقيل‏:‏ المراد من الآية‏:‏ تمثيل الحياة الدنيا، في سرعة الزوال، وقُرب الاضمحلال، بما ذكر من أحوال الزرع، ترغيباً عن زخارفها وزينتها، وتحذيراً من الاغترار بمَن سُرّ بها، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَآءِ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 24‏]‏‏.‏‏.‏‏.‏ الآية، وقيل‏:‏ للاستشهاد على تحقق الموعود من الأنهار الجارية من تحت الغُرف، بما يشاهد من إنزال المياه من السماء، وما يترتب عليه من آثار قدرته تعالى، وإحكام حكمته ورحمته‏.‏

‏{‏إِن في ذلك‏}‏ أي‏:‏ ما ذكر تفصيلاً من إنزال الماء وما نشأ عنه‏.‏ ‏{‏لذِكْرى‏}‏‏:‏ لتذكيراً عظيماً ‏{‏لأُولي الألباب‏}‏‏:‏ لأصحاب العقول الخالصة من شوائب الهوى، فيتذكرون بذلك أن الحياة الدنيا في سرعة التقضي والانصرام، كما يشاهدونه من حال الحكام كل عام، فلا يغترُّون ببهجتها، ولا يُفتنون بفتنتها، أو‏:‏ يجزمون بأن مَن قدر على إنزال الماء من السماء، وإجرائه في ينابيع الأرض، قادر على إجراء الأنهار من تحت الغُرف‏.‏ وأما ما قيل‏:‏ من أنه استدلال على وجود الصانع؛ فلا يليق؛ لأن هذه الأفعال الجليلة ذُكرت مسندة إلى الله تعالى؛ وإنما يليق الاستدلال بها على وجود الصانع لو ذُكرت غير مسندة إلى مؤثر، فتَعَيّن أن يكون متعلق التذكير والتنبيه شؤونه تعالى وشؤون آثاره، كما بيَّن، لا وجوده تعالى‏.‏ قاله أبو السعود‏.‏

الإشارة‏:‏ قال القشيري‏:‏ والإشارة في هذا أن الإنسان يكون طفلاً، ثم شابًّا، ثم كهلاً، ثم شيخاً، ثم يصير إلى أرذل العمر، ثم إلى آخره يُخترم، ويقال‏:‏ إن الزرع ما لم يأخذْ في الجفاف لا يُؤخذ منه الحَبُّ، الذي هو المقصود منه، كذلك الإنسان ما لم يخل من نفسه وحَوْلِه لا يكون له قَدْرٌ ولا قيمةٌ‏.‏

قلت‏:‏ يعني أنه ما لم يمحص نفسه، وينهكها في التقرُّب إلى مولاه، لا قيمة له‏.‏

ثم قال‏:‏ ويقال‏:‏ إن المؤمن بقوة عقله يوجبُ استقلاله بعمله إلا أن يبرُز منه كمالٌ يُمكِّنه من وفارة بصيرته، ثم إذا بدت لائحةٌ من سلطان المعارف تصير تلك الأبواب مغمورة، فإذا بَدَتْ أنوارُ التوحيد استهلكت تلك الجملة كذلك، وأنشدوا‏:‏

فلمَّا استبان الصبحُ أدرج ضوءُه *** بأنواره أنوارَ ضوء الكواكبِ

قلت‏:‏ استقلال العبد بعمله هو مثل بروز الزرع من منبته، ووفُورِ بصيرته هو إخراج حبه في سنبله، وبدو لائحة من سلطان المعارف هو اصفراره، وظهور أنوار التوحيد التي تفني وجوده وتغمره في وجود الحق هو صيرورتها حطاماً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏22‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ الهمزة للإنكار، و‏{‏من‏}‏‏:‏ مبتدأ، والخبر محذوف، أي‏:‏ كمَن ليس كذلك‏.‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏أفمَنْ شرحَ الله صَدْرَه‏}‏ أي‏:‏ وسَّعه وهيَّأه ‏{‏للإسلام‏}‏ حتى قَبِله وفرح به، واستضاء بنوره، ‏{‏فهو على نورٍ‏}‏ عظيم ‏{‏من ربه‏}‏، وبصيرة في دينه، وهذا النور‏:‏ هو اللطف الإلهي الفائض عليه عند مشاهدة الآيات التكوينية والتنزيلية، والتوفيق للاهتداء بها، أو‏:‏ بمحض الإلهام من الجود والكرم، فيقذف في قلبه نور اليقين، بلا سبب، أو‏:‏ بصحبة أهل النور، هل يكون هذا كمَن قسا قلبه، وحرج صدره، واستولى عليه ظلمة الغي والضلالة، فأعرض عن تلك الآيات بالكلية‏؟‏‏!‏

ولما نزلت هذه الآية سئل صلى الله عليه وسلم عن الشرح المذكور، فقال‏:‏ «نور يقذفه الله في القلب، فإذا دخل النور القلب انشرح وانفسح» قيل‏:‏ وهل لذلك علامة‏؟‏ قال‏:‏ «نعم التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل نزوله»‏.‏

‏{‏فويلٌ للقاسيةِ قلوبهم‏}‏‏:‏ أي الصلبة اليابسة ‏{‏مِن ذكر الله‏}‏ أي‏:‏ من أجل ذكره، الذي من حقه أن ينشرح له الصدر، وتلين له النفس، ويطمئن به القلب، وهؤلاء إذا ذكر الله عندهم اشمأزوا من أجله، وازدادت قلوبهم قساوة‏.‏

قال الفخر‏:‏ اعلم أن ذكر الله سبب لحصول النور والهداية، وزيادة الاطمئنان في النفوس الطاهرة الروحانية، وقد يوجب القسوة والبُعد عن الحق في النفوس الخبيثة الشيطانية، فإذا عرفتَ هذا، فنقول‏:‏ رأس الأدوية التي تفيد الصحة الروحانية ورتبتها‏:‏ هو ذكر الله، فإذا اتفق لبعض النفوس أن صار ذكر الله سبباً لازدياد مرضها، كان مرض تلك النفوس مرضاً لا يرجى زواله، ولا يُتوقع علاجه، وكانت في نهاية الشر والرداءة، فلهذا المعنى قال تعالى‏:‏ ‏{‏فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين‏}‏ وهذا كلام محقق‏.‏ ه‏.‏ وهو كما قيل في الجُعَل أنها تتضرر برياح الورد، أي‏:‏ وتنتعش بالشين‏.‏ فكل مَن يفر من ذكر الله، ويثقل عليه، فقلبه جُعَل‏.‏ ذكره في الحاشية‏.‏

‏{‏أولئك في ضلال مبين‏}‏ أي‏:‏ أولئك، البُعَداء الموصوفون بما ذكر من قساوة القلوب في ضلال بعيد من الحق، ظاهر ضلاله لكل أحد‏.‏ قيل‏:‏ نزلت الآية في حمزة وعليّ رضي الله عنهما وأبي لهب وولده، وقيل‏:‏ في عمّار وأبي جهل‏.‏ والحق‏:‏ إنها عامة‏.‏

الإشارة‏:‏ مَن أراد الله به السعادة شَرَح صدرَه للإسلام، فقَبِله وعمل عمله، ومَن أراد به جذب العناية وتحقيق الولاية، شرح صدره لطريق أهل مقام الإحسان، فدخل في طريقهم، وهيّأ نفسه لصُحبتهم وخدمتهم، فما زال يقطعون به مهامه النفوس حتى يقولون له‏:‏ ها أنت وربك، فتلوح له الأنوار، وتُشرق عليه شموس المعارف والأسرار، حتى يفنى ويبقى بالله‏.‏

قال القشيري‏:‏ والنورُ الذي من قِبَله تعالى نورُ اللوائح بتحقق العلم، ثم نورُ اللوامع بثبات الفهم، ثم نورُ المحاضرة بزوائد اليقين، ثم نور المكاشفة بتجلي الصفات، ثم نور المشاهدة بظهور الذات، ثم أنوار الصمدية بحقائق التوحيد، وعند ذلك فلا وجد ولا فقد، ولا بُعد ولا قُرب، كلا، بل هو الله الواحد القهّار‏.‏ ه‏.‏ فمَن لم يبلغ هذا لا يخلو قلبه من قساوة، فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله، أولئك في ضلال مبين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ‏(‏23‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏كتاباً‏}‏‏:‏ بدل من ‏{‏أحسن‏}‏، أو‏:‏ حال، لوصفه بقوله‏:‏ ‏{‏متشابهاً‏}‏‏.‏ و‏{‏مثاني‏}‏‏:‏ صفة أخرى لكتابِ، أو‏:‏ حال أخرى منه، أو‏:‏ تمييز من «متشابهاً»، كما تقول‏:‏ رأيت رجلاً حسناً شمائلَ، أي‏:‏ شمائله، والمعنى‏:‏ متشابهة مثانيه‏.‏ و‏{‏تقشعر‏}‏‏:‏ الأظهر أنه استئناف، وقيل‏:‏ صفة لكتاب، أو‏:‏ حال منه‏.‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏اللهُ نزَّل أحسنَ الحديثِ‏}‏ وهو القرآن؛ إذ لا حديث أحسن منه، لا تمله القلوب، وتسأمه الأسماع؛ بل تِرداده يزيده تجمُّلاً وطراوة وتكثير حلاوة‏.‏ رُوي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مَلُّوا ملةً، فقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ حدثنا حديثاً، فنزلت‏.‏ والمعنى‏:‏ أن فيه مندوحة عن سائر الأحاديث‏.‏

وفي إيقاع اسم الجلالة مبتدأ، وبناءِ «نزّل» عليه، من تفخيم أحسن الحديث، ورفع محله، والاستشهاد على حسنه، وتأكيد إسناده إليه تعالى، وأنه من عنده، لا يمكن صدوره من غيره، والتنبيه على أنه وحي معجز، ما لا يخفى‏.‏

حال كونه ‏{‏كتاباً مُتشابهاً‏}‏ أي‏:‏ يُشبه بعضُه بعضاً في الإعجاز والبلاغة، أو‏:‏ تشابهت معانيه بالصحة، والإحكام، والابتناء على الحق والصدق، واستتباع منافع الخلق في المعاد والمعاش، وتناسب ألفاظه وجُمَلِه في الفصاحة والبلاغة، وتجاوب نظمه في الإعجاز‏.‏ ‏{‏مَّثَانِيَ‏}‏‏:‏ جمع مثنى، أي‏:‏ مكرر، ومردد، لما ثنى من قصصه، وأنبائه، وأحكامه، وأوامره ونواهيه، ووعده ووعيده، ووعظه‏.‏ وقيل‏:‏ لأنه يثنّى في التلاوة، ويُكرر مرة بعد أخرى‏.‏ قال القشيري‏:‏ ويشتمل على نوعي الثناء عليه، بذكر سلطانه وإحسانه، وصفة الجنة والنار، والوعد والوعيد‏.‏ ه‏.‏

‏{‏تَقْشَعِرُّ منه جُلودُ الذين يخشون ربهم‏}‏ أي‏:‏ ترتعد وتنقبض، والاقشعرار‏:‏ التقبُّض، يقال‏:‏ اقشعرّ الجلد‏:‏ إذا انقبض، ويقال‏:‏ اقشعر جلده ووقف شعره‏:‏ إذا عرض له خوف شديد، من منكر هائل دهمه بغتة‏.‏ والمعنى‏:‏ أنهم إذا سمعوا القرآن وقوارعه وزواجره، أصابتهم هيبة وخشية تقشعر منه جلودهم، وإذا ذكروا رحمة الله تعالى تبدلت خشيتهم رجاءً، ورهبتهم رغبةً، وذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم تَلينُ جُلودُهم وقلوبُهم إِلى ذكرِ الله‏}‏ أي‏:‏ ساكنة مطمئنة إلى ذكر الله‏.‏

‏{‏ذلك‏}‏ أي‏:‏ الكتاب الذي شُرِح أحواله ‏{‏هُدَى اللهِ يهدي به مَن يشاءُ‏}‏ أن يهديه، بصرف مجهوده إلى سبب الاهتداء به، أو بتأمله فيما في تضاعيفه من شواهد الحقيقة، ودلائل كونه من عند الله‏.‏ ‏{‏ومَن يُضللِ اللهُ‏}‏ أي‏:‏ يخلق فيه الضلالة، بصرف قدرته إلى مبادئها، وإعراضه عما يرشد إلى الحق بالكلية، وعدم تأثُّره بوعده ووعيده، أو‏:‏ مَن يخذله ‏{‏فما له من هَادٍ‏}‏ يُخلصه من ورطة الضلال‏.‏ أو‏:‏ ذلك الذي ذكر من الخشية والرجاء هو أثر هدى الله، يهدي لذلك الأثر مَن يشاء من عباده، ‏{‏ومَن يُضلل‏}‏ أي‏:‏ ومَن لم يؤثر فيه لطفه وهدايته؛ لقسوة قلبه، وإصراره على فجوره ‏{‏فما له من هادٍ‏}‏‏:‏ من مؤثر فيه بشيء قط‏.‏

الإشارة‏:‏ أول ما يظهر الفتح على قلب العبد في فَهْم كتاب الله، والتمتُّع بحلاوة تلاوته، ثم ينتقل إلى الاستغراق في ذكره باللسان، ثم بالقلب، ثم إلى الفكرة، ثم العكوف في الحضرة، إن وجد مَن يربيه وينقله عن هذه المقامات، وإلا بقي في مقامه الأول‏.‏

وقال الطيبي‏:‏ مَن أراد الله أن يهديه بالقرآن، أوقع في قلبه الخشية، كقوله‏:‏ ‏{‏هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 2‏]‏ ثم يتأثر منه ظاهراً، بأن تأخذه في بدء الحال قشعريرة؛ لضعفه، وقوة سطوة الوارد، فإذا أدمن على سماعه، وأَلِفَ أنواره، يطمئن ويلين ويسكن‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ وعن هذا عبّر الصدّيق بقوله حين رأى قوماً يبكون عند سماعه‏:‏ ‏(‏كذلك كنا ثم قست القلوب‏)‏ أي‏:‏ صلبت وقويت على حمل الواردات‏.‏

وقال الورتجبي‏:‏ سماع المريدين بإظهار الحال عليهم، وسماع العارفين بالطمأنينة والسكون‏.‏ ه‏.‏ وقال على قوله‏:‏ ‏{‏متشابهاً‏}‏‏:‏ إنه أخبر عن كلية الذات والصفات، التي منبعهما أصل القدم، وصفاته كذاته، وذاته كصفاته، وكل صفة كصفة أخرى، من حيث التنزيه والقدس والتقديس، والكلام بنفسه متشابه المعاني‏.‏ ه‏.‏ يعني‏:‏ إنما كان القرآن متشابهاً؛ لأنه أخبر عن كلية الذات والصفات القديمين، والذات لها شبه بالصفات من حيث اللطافة، والصفات تشبه بعضها بعضاً في الدلالة على التنزيه والكمال، أي‏:‏ كتاباً دالاًّ على كلية الذات المشابهة للصفات‏.‏ وهذا حملٌ بعيد‏.‏