فصل: تفسير الآيات رقم (24- 26)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 26‏]‏

‏{‏أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ‏(‏24‏)‏ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏25‏)‏ فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏وقيل‏}‏‏:‏ عطف على «يتقي»، أو‏:‏ حال من ضمير «يتقي»، بإضمار «قد»‏.‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏أفمَنْ يتقي بوجهِهِ‏}‏ الذي هو أشرف أعضائه ‏{‏سوء العذاب‏}‏ أي‏:‏ العذاب السيىء الشديد ‏{‏يومَ القيامة‏}‏ كمَن ليس كذلك، بل هو آمن، لا يعتريه مكروه، ولا يحتاج إلى اتقاء، بوجه من الوجوه، وإنما كان يتقي النارَ بوجهه؛ لكون يده التي كان يتقي بها المكاره والمخاوف مغلولة إلى عنقه‏.‏ قال القشيري‏:‏ قيل‏:‏ إن الكافر يُلقى في النار، فيلقاها أولاً بوجهه؛ لأنه يُرمَى فيها منكوساً؛ فأما المؤمن المُوقَّى ذلك؛ فهو المُلقَّى بالكرامة، فوجهُهُ ضاحكٌ مُسْتَبْشرٌ‏.‏ ه‏.‏

‏{‏وقيل للظالمين‏}‏‏:‏ يقال لهم من جهة خزنة النار‏.‏ وصيغة الماضي للدلالة على التحقُّق‏.‏ ووضع المظهر في مقام المضمر للتسجيل عليهم بالظلم، والإشعار بعلة الأمر في قوله‏:‏ ‏{‏ذُوقوا ما كنتم تكسبون‏}‏ أي‏:‏ وبال ما كنتم تكسبونه في الدنيا، من الظلم بالكفر والمعاصي‏.‏

‏{‏كذَّبَ الذين مِن قبلهم‏}‏ من الأمم السالفة، ‏{‏فأتَاهمُ العذابُ‏}‏ المقرر لكل أمة ‏{‏من حيث لا يشعرون‏}‏ من الجهة التي لا يحتسبون، ولا يخطر ببالهم إتيان الشر منها‏.‏ ‏{‏فأذاقهم اللهُ الخزيَ‏}‏ أي‏:‏ الذل والصغار ‏{‏في الحياة الدنيا‏}‏، كالمسخ، والخسف، والقتل، والأسر، والإجلاء، وغير ذلك من فنون النكال، ‏{‏ولعذابُ الآخرة‏}‏ المعد لهم ‏{‏أكبرُ‏}‏؛ لشدته ودوامه ‏{‏لو كانوا يعلمون‏}‏ أي‏:‏ لو كان من شأنهم أن يعلموا شيئاً لعلموا ذلك واعتبروا به‏.‏

والآية، يحتمل أن تكون تهديداً لقريش، فالضمير في ‏{‏قَبْلِهم‏}‏ يعود إليهم؛ لأن قوله‏:‏ ‏{‏ومَن يُضلل الله‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ تعرض بمَن أعرض عن كتابه من كفار قريش‏.‏ وقال أبو السعود‏:‏ هو استئناف، مسوق لبيان ما أصاب بعض الكفرة من العذاب، إثر بيان ما يصيب الكل من العذاب الأخروي‏.‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ الوجه هو أشرفُ الأعضاء وإِمَامُها، فإن كانت في الباطن بهجة المحبة، أو سيما المعرفة، ظهرت عليه، فيتنورُ ويبتهج، وإن كانت ظلمة المعاصي، أو كآبة الحجاب، ظهرت عليه، وإن كانت غيبة في الحق أو سكرة، كان هو أول ما يغيب من الإنسان ويغرق، ثم تغيب البشرية في البحر المحيط، وهو بحر الأحدية‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون‏}‏، قال القشيري‏:‏ أشدُّ العذاب ما يكون بغتةً، كما أن أتمَّ السرور ما يكون فلتةً‏.‏ وفي الهجران والفراق والشدة ما يكون بغتةً غير متوقعة، وهو أنكى للفؤاد، وأشدُّ في التأثير، وأوجعه للقلوب، وفي معناه أنشدوا‏:‏

فَبِتَّ بخيرٍ والدُّنى مطمئنةٌ *** فأصبحتَ يوماً والزمانُ تقَلُّبَا

وأتمُّ السرور وأعظمه تأثيراً ما يكون فجأة، حتى قال بعضهم‏:‏ أشد السرور غفلة على غفلة، وأنشدوا‏:‏

بينما خاطرُ المُنى بالتلاقي *** سابحٌ في فؤاده وفؤادي

جمَعَ اللهُ بيننا فالتقيْنا *** هكذا بغتةً بلا ميعاد

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 28‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ‏(‏27‏)‏ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ قرآناً‏:‏ حال مؤكدة من «هذا»، على أن مدار التأكيد هو الوصف، كقولك‏:‏ جاءني زيد رجلاً صالحاً‏.‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ولقد ضَرَبْنَا‏}‏ أي‏:‏ وضحنا ‏{‏للناس في هذا القرآنِ من كل مَثَل‏}‏‏:‏ يحتاج إليه الناظر في أمر دينه، ‏{‏لعلهم يتذكرون‏}‏ أي‏:‏ كي يتذكروا به ويتعظوا، حال كونه ‏{‏قرآناً عربياً‏}‏؛ لتفهموا معانيه بسرعة، ‏{‏غيرَ ذي عوجٍ‏}‏‏:‏ لا اختلاف فيه بوجه من الوجوه، فهو أبلغ من المستقيم، وأخص بالمعاني‏:‏ وقيل‏:‏ المراد بالعوج‏:‏ الشك‏.‏ ‏{‏لعلهم يتقون‏}‏ ما يضرهم في معادهم ومعاشهم‏.‏

الإشارة‏:‏ قد بيَّن الله في القرآن ما يحتاج إليه المريد في سلوكه وجذبه، وسيره ووصوله، من بيان الشرائع وإظهار الطرائق، وتبيين الحقائق‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏مَّا فَرَّطْنَا فِى الْكِتَابِ مِن شَىْءٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 38‏]‏ لكن لا يغوص على هذا إلا الجهابذة من البحرية الذين غاصوا بأسرارهم في بحر الأحدية، وتغلغلوا في العلوم اللدنية، ومَن لم يبلغ هذا المقام يصحب مَن يبلغه، حتى يوصله إلى ربه، ولا يكون الوصول إلا بقلب مفردٍ، غير مشترك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 31‏]‏

‏{‏ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏29‏)‏ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ‏(‏30‏)‏ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ‏(‏31‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏مثلاً‏}‏‏:‏ مفعول ثان لضرب، و‏{‏رجلاً‏}‏‏:‏ مفعول أول، وأُخِّرَ للتشويق إليه ليصل بما وصف به، وقيل‏:‏ بدل من «مثلاً»، و‏{‏فيه‏}‏‏:‏ خبر، و«شركاء»‏:‏ مبتدأ، والجملة‏:‏ صفة لرجل، و«مثلاً»‏:‏ تمييز‏.‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ضَرَبَ اللهُ مثلاً‏}‏ للمشرك والموحد، ‏{‏رجلاً فيه شركاءُ مُتَشَاكِسُون‏}‏‏:‏ مختلفون متخاصمون عسيرون، وهو المشرك، ‏{‏ورجلاً سلماً‏}‏ أي‏:‏ خالصاً ‏{‏لرجل‏}‏ فرد، ليس لغيره عليه سبيل‏.‏ والمعنى‏:‏ جعل الله مثلاً للمشرك حسبما يقوده إليه مذهبه، من ادعاء كل من معبوديه عبوديتَه، عبداً يتشارك فيه جماعة، يتجاذبونه في مهماته المتباينة في تحيُّره وتعبه، ومثلاً آخر للموحّد، وهو عبد خالص لرجل واحد؛ فإنه يكون عند سيده أحظى، وبه أرفق‏.‏

‏{‏هل يستويان مثلاً‏}‏‏:‏ إنكار واستبعاد لاستوائهما، وإيذان بأن ذلك من الجلاء والظهور، بحيث لا يقدر أحد أن يتفوّه باستوائهما؛ ضرورة أن أحدهما في أعلى عليين، والآخر في أسفل سافلين‏.‏

وقرأ نافع وابن عامر والكوفيون ‏{‏سَلَماً‏}‏ بفتحتين، وهو مصدر، من‏:‏ سلم له كذا‏:‏ إذا خلُص، نُعت به للمبالغة، فالقراءتان متفقتان معنى‏.‏ والمراد من المثَل‏:‏ تصوير استراحة الموحد وانجماعِه على معبوده، وتعب المشرك وتشتيت باله، وخصوصاً مع فرض التعاكس من الشركاء، فيصير متحيراً، وفي عنت كبير من الجمع بين أغراضهم، بل ربما يتعذر ذلك ويستحيل؛ للتضاد في الأغراض والتناقض، مع فرض التخالف والتنازع بينهم، واعتبر ذلك بحال الوالدين، إذا اختلفا على الولد، فإنه يعسر إرضاؤهُما إلا بمشقة واحتيال، وكذلك عابد الأوثان؛ فإنه معذَّب الفكر بها، وبحراسة حاله منها، ومتى توهم أنه أرضى واحداً في زعمه تفكر فيما يصنع مع الآخر، فهو أبداً في تعب وضلال، وكذلك هو المصانع للناس، الممتحن بخدمة الملوك‏.‏ قاله ابن عطية‏.‏

والحاصل‏:‏ أن إرضاء الواحد أسهل وأيسر من إرضاء الجماعة‏.‏

‏{‏الحمد لله‏}‏ على عدم استوائهما‏.‏ قال الطيبي‏:‏ ثم إذا لزمتهم الحجة قل‏:‏ الحمد لله، شكراً على ما أولاك من النصرة، وقهر الأعداء بالحجج الساطعة‏.‏ وفيه تنبيه للموحدين على أن ما لهم من المزية، وعلو الرتبة، بتوفيق الله تعالى، وأنه مِنَّة جليلة، موجبة عليهم أن يداوموا على حمده وعبادته، أو‏:‏ حيث ضرب لهم المثل الأعلى، وللمشركين المثال السوء، فهذا صنع جميل، ولُطف تام، مستوجب لحمده وشكره؛ ‏{‏بل أكثرُهُم‏}‏ أي‏:‏ المشركون ‏{‏لا يعلمون‏}‏ ذلك، مع كمال ظهوره، فيقعون في ورطة الشرك والضلال، وهو انتقال من بيان الاستواء على الوجه المذكور، إلى بيان عدم علمهم ذلك، مع غاية ظهوره‏.‏

ثم ذكر المحل الذي يظهر فيه عدم استوائهما عياناً، وهو ما بعد الموت، فقال‏:‏ ‏{‏إِنك مَيِّت وإِنهم ميتون‏}‏، فتجتمعون عندنا، فنحكم بينكم‏.‏ وقيل‏:‏ كانوا يتربّصون برسول الله صلى الله عليه وسلم موته، أي‏:‏ إنكم جميعاً بصدد الموت، ‏{‏ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تَخْتصمون‏}‏‏.‏

فتحتجّ عليهم بأنك بلّغت الرسالة، واجتهدت في الدعوة، فتلزمهم الحجة؛ لأنهم قد لجُّوا في العناد، فإذا اعتذروا بتقليد آبائهم لم يُقبل عذرهم‏.‏ وقيل‏:‏ المراد‏:‏ الاختصام فيما دار بينهم في الدنيا‏.‏ والأول أنسب‏.‏

الإشارة‏:‏ لا يستوي القلب المشترك مع القلب المفرد الخالص لله، القلب المشترك تفرّقت همومه، وتشتت أنواره، بتشتيت شواغِله وعلائقه، وتفرّقت محبته، بتفرُّق أهوائه وحظوظه، والقلب المفرد اجتمعت محبته، وتوفرت أنواره وأسراره بقدر تفرُّغه من شواغله وعلائقه‏.‏ وفي الحِكَم‏:‏ «كما لا يحب العمل المشترك، لا يحب القلب المشترك، العمل المشترك لا يقبله، والقلب المشترك لا يُقبل عليه»‏.‏ وقال أيضاً‏:‏ «فرِّغ قلبك من الأغيار تملؤه بالمعارف والأسرار»‏.‏

وقيل‏:‏ للجنيد‏:‏ كيف السبيل إلى الوصول‏؟‏ فقال‏:‏ بتوبة تزيل الإصرار، وخوف يقطع التسويف، ورجاء يبعث على مسالك العمل، وبإهانة النفس، بقربها من الأجل، وبُعدها من الأمل‏.‏ قيل له‏:‏ وبمَ يتوصل إلى هذا‏؟‏ فقال‏:‏ بقلب مفرد، فيه توحيد مجرد‏.‏ ه‏.‏

وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «مَن جعل الهموم هَمّاً واحداً أي‏:‏ وهو الله كفاه اللهُ همَّ دنياه، ومَن تشعبت به الهمومُ لم يُبالِ اللهُ به في أيِّ أوديةِ الدنيا هَلَكَ» وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «مَن كانت الدنيا هَمَّهُ فرّق الله عليه أمره، وجعل فقرَه بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما قُسم له، ومَن كانت الآخرة نيته، جمع الله عليه أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي صاغرة» ومَن كان الله همُّه بفنائه فيه؛ جمع الله عليه سره، وأغناه به عما سواه، وخدمه الوجود بأسره، «أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكون، فإذا شَهِدت المكون كانت الأكوانُ معك»‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏32- 35‏]‏

‏{‏فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ ‏(‏32‏)‏ وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ‏(‏33‏)‏ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏34‏)‏ لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏فمَن أظلمُ ممن كَذَبَ على الله‏}‏ بأن أضاف إليه الشريك والولد، فإنه لا أحد أظلم منه؛ إذ هو أظلم من كل ظالم‏.‏ ‏{‏وكذَّب بالصِّدق‏}‏ أي‏:‏ الأمر الذي هو نفس الصدق وعين الحق، وهو ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من عند الله ‏{‏إِذْ جاءه‏}‏ أي‏:‏ كذَّب في أول مجيئه، من غير تأمُّل فيه ولا تدبُّر، ‏{‏أليس في جهنم مَثْوىً للكافرين‏}‏ ‏؟‏ أي‏:‏ لهؤلاء الذين افتروا على الله، وسارعوا إلى التكذيب بالصدق، فأظهر موضع الإضمار تسجيلاً وإيذاناً بعلة الحكم الذي استحقوا به جهنم، والجمع باعتبار معنى ‏{‏مَن‏}‏‏.‏ كما أن الإفراد في الضمائر السابقة باعتبار لفظها، أو‏:‏ لجنس الكفرة، وهم داخلون في الكفر دخولاً أولياً‏.‏

‏{‏والذي جاء بالصدقِ‏}‏ وهو محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏وصدَّق به‏}‏‏:‏ وهم المؤمنون، أي‏:‏ والفوج، أو‏:‏ الفريق الذي جاء بالصدق، والفريق الذي صدّق به‏.‏ ‏{‏أولئك هم المتقون‏}‏‏:‏ المنعوتون بالتقى، التي هي أجلّ الرغائب‏.‏

وقرىء «صَدَقَ» بالتخفيف، أي‏:‏ صدق به الناس، فأدَّاه إليهم كما أنزل عليه، من غير تغيير، وقيل‏:‏ صار صادقاً بسببه؛ لأن ما جاء به من القرآن معجزة دالة على صدقه صلى الله عليه وسلم‏.‏

‏{‏لهم ما يشاؤون عند ربهم‏}‏‏:‏ هو بيان لِما لهم في الآخرة من حسن المآب، بعد بيان ما لهم في الدنيا من محاسن الأعمال، أي‏:‏ لهم ما يشاؤونه من جلب المنافع ودفع المضار، وتوالي المسار في الآخرة، لا في الجنة فقط؛ لأن بعض ما يشاؤون يقع قبل دخول الجنة، من تكفير السيئات، والأمن من الفزع الأكبر، وسائر أهوال القيامة‏.‏ ‏{‏ذلك‏}‏ الذي ذكر من حصول كل ما يشاؤونه ‏{‏جزاءُ المحسنين‏}‏ أي‏:‏ الذين أحسنوا أعمالهم في الدنيا‏.‏

‏{‏لِيُكَفِّر الله عنهم أَسْوَأَ الذي عَمِلُوا‏}‏، اللام متعلق بقوله‏:‏ ‏{‏لهم ما يشاؤون‏}‏؛ لأنه في معنى الوعد، كأنه قيل‏:‏ وعد الله لهم جميع ما يشاؤونه من دفع المضار وحصول المسار؛ ليكفر عنهم بموجب ذلك الوعد أسوأ الذي عملوا، أي‏:‏ أقبحه وأعظمه، وأولى أصغره‏.‏ وقيل‏:‏ يتعلق بمحذوف، أي‏:‏ يسر لهم الصدق والتصديق ليكفر‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏ ‏{‏ويجْزِيَهم أجْرَهُم بأحسنِ الذي كانوا يعملون‏}‏ فإذا كان في عملهم حسن وأحسنُ منه، جزاهم بجزاء الأحسن على الجميع، تكرُّماً منه وإحساناً‏.‏

والحاصل‏:‏ أنه سبحانه لكرمه يُكفر السيىء والأسوأ بالأحروية، ويجزي على الحسن بجزاء الأحسن منه والأرجح، كمَن أهدى لملك هديتين؛ صغيرة وكبيرة، فكافأه على الصغيرة بقدر ما كافأه على الكبيرة‏.‏ قال القشيري‏:‏ وأحسن أعمال المؤمن‏:‏ الإيمان والمعرفة، فيكون على أحسن الأعمال أحسن الثواب، وهو الرؤية‏.‏ ه‏.‏

وإظهار اسم الجليل في موضع الإضمار، لإبراز كمال الاعتناء بمضمون الكلام، والجمع بين الماضي والمستقبل في صلة الموصول الثاني أي‏:‏ الذي كانوا يعملون دون الأول؛ للإيذان باستمرارهم على الأعمال الصالحة، بخلاف السيئة‏.‏

الإشارة‏:‏ كل مَن ادعى حالاً مع الله، وليست متحققة فيه، فقد كذب على الله، وكل مَن أنكرعلى أولياء زمانه فقد كذّب بالصدق إذ جاءه‏.‏ ‏{‏والذي جاء بالصدق‏}‏، وهو مَن أَذِن له في التذكير أو التربية‏.‏ ‏{‏وصدّق به‏}‏، وهو مَن سمع وتبع، أولئك هم المتقون، دون غيرهم، لهم ما يتمنون عند ربهم في الدنيا والآخرة، ذلك جزاء أهل مقام الإحسان، الذين يعبدونه على العيان، يُغطي وصفهم بوصفه، ونعتهم بنعته، فيوصلهم بما منه إليهم، لا بما منهم إليه، ثم يكفيهم جميع الشرور‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 37‏]‏

‏{‏أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ‏(‏36‏)‏ وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ ‏(‏37‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏أليس اللهُ بكافٍ عَبْدَه‏}‏ أي‏:‏ نبيه صلى الله عليه وسلم‏.‏ نزلت تقوية لقلبه عليه السلام، وإزالة للخوف الذي كان الكفار يخوفونه، أو‏:‏ جنس العبد، فيشمل الأنبياء كلهم والمؤمنين، وينتظم فيه النبي صلى الله عليه وسلم انتظاماً أولياً، ويُؤيده قراءة الأخويْن بالجمع‏.‏ وهو إنكار ونفي لعدم كفايته تعالى على أبلغ وجه وآكده، كأنَّ الكفاية بلغت من الظهور ما لا يقدر أحد على أن يتفوّه بعدمها، أو يتلعثم في الجواب بوجودها، وإذا علم العبدُ أن الحق تعالى قائم بكفايته، سكن قلبه واطمأن، وأسقط الأحمال والكُلَف عن ظهره، فلا جرم أن الله يكفيه ما أهمّه، ويؤمّنه مما يخافه، كما قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏{‏ويُخوفونك بالذين من دُونه‏}‏ أي‏:‏ الأوثان التي اتخذوها آلهة دونه تعالى، وهي جوامد، لا تضر ولا تنفع، وهذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما قالت قريش‏:‏ إنا نخاف أن تخبُلك آلهتنا، وتُصيبك معرَّتها لعيبك إياها‏.‏ وفي رواية‏:‏ قالوا‏:‏ لتكفنّ عن آلهتنا، أو ليصيبنك منهم خبل أو جنون، كما قال قوم هود‏:‏ ‏{‏إِن نَّقٌولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ ءَالِهَتِنَا بِسُوءٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 54‏]‏‏.‏ وجملة‏:‏ «ويخوفونك»‏:‏ استئناف، أو‏:‏ حال‏.‏ ‏{‏ومَن يُضلِلِ اللهُ‏}‏ حتى غفل عن كفايته وعصمته صلى الله عليه وسلم، أو‏:‏ اعتقد أن الأصنام تضر وتنفع؛ ‏{‏فما له من هادٍ‏}‏ يهديه إلى ما يرشده‏.‏

‏{‏ومَن يهدِ اللهُ‏}‏ إلى توحيده وطاعته ‏{‏فما له من مُضلٍّ‏}‏ يصرفه عن رشده، أو يصيبه سوء يخل بسلوكه؛ إذ لا راد لفعله، ولا معارض لقضائه، كما ينطقُ به قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أليسَ اللهُ بعزيزٍ‏}‏‏:‏ غالب لا يغالَب، منيع لا يمانَع ولا ينازَع، ‏{‏ذي انتقامٍ‏}‏ من أعدائه لأوليائه، بإعزاز أوليائه وإذلال أعدائه‏.‏ وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لتحقيق مضمون الكلام، وتربية المهابة‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ إذا عَلِمَ العبدُ أن الله كاف جميع عباده، وثق بضمانه، فاستراح من تعبه، وأزال الهموم والأكدار عن قلبه، فيدخل جنة الرضا والتسليم، ويهب عليه من روح الوصال وريحان الجمال نسيم، فيكتفي بالله، ويقنع بعلم الله، ويثق بضمانه‏.‏

قال في لطائف المنن‏:‏ مبنى الوليّ على الاكتفاء بالله، والقناعة بعلمه، والاغتناء بشهوده‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏أليس الله بكافٍ عبده‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 53‏]‏ ه‏.‏ وقال الشيخ أبو الحسن صلى الله عليه وسلم‏:‏ يقول الله عزّ وجل‏:‏ عبدي اجعلني مكان همك أكفك همك، عبدي؛ ما كنت بك فأنت في محل البُعد، وما كنت بي فأنت في محل القُرب، فاختر لنفسك‏.‏ ه‏.‏ أي‏:‏ ما دمت مهموماً بنفسك فأنت في محل البُعد، وإذا خرجت عنها، وطرحتها بين يدي خالقها، أو غبت عن وجودها بالكلية، فأنت في محل القُرب، الأول‏:‏ قُرب مراقبة، والثاني‏:‏ قُرب مشاهدة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويُخوفونك بالذين من دونه‏}‏‏:‏ هو عام في كل ما يُخاف منه، فالعارف لا يخاف من شيء؛ لعلمه بأن الله ليس معه شيء، ولا يقع في الوجود إلا قدره وقضاؤه، ومَن يعتقد غير هذا فهو ضال، ومَن يُضلل الله فلا هادي له‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ ‏(‏38‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ولئن سألْتَهُم‏}‏ أي‏:‏ مَن يخوفونك ممن سوى الله، وقلت لهم‏:‏ ‏{‏مَن خلَقَ السماواتِ والأرض لَيقولُنَّ اللهُ‏}‏؛ لوضوح الدلائل على انفراده بالاختراع‏.‏ ‏{‏قُلْ‏}‏ تبكيتاً لهم‏:‏ ‏{‏أفرأيتم ما تدعون من دون الله‏}‏ من الأصنام، ‏{‏إِن أرادنيَ اللهُ بضُرٍّ هل هن كاشفاتُ ضُره‏}‏ أي‏:‏ إذا تحققتم أن خالق العالم العلوي والسفلي هو الله وحده، فأخبروني عن آلهتكم، إن أرادني اللهُ بضُر هل يقدر أحد منهم على كشف ذلك الضر عني‏؟‏ ‏{‏أو أرادنِي برحمةٍ‏}‏ أي‏:‏ بنفع ‏{‏هل هن مُمسكاتُ رحمته‏}‏ وصارفتها عني‏؟‏‏!‏

وقرأ البصري‏:‏ «كاشفاتٌ» و«ممسكاتٌ» بالتنوين، ونصب «ضره» و«رحمته» على المفعول‏.‏ وتعليق إرادة الضر والرحمة بنفسه صلى الله عليه وسلم، للرد في نحورهم؛ حيث كانوا يُخوفونه من معرَّة الأوثان، ولما فيه من الإيذان بإمحاض النصيحة‏.‏ وإنما قال‏:‏ «كاشفات» و«ممسكات» على التأنيث، بعد قوله‏:‏ ‏{‏ويُخوفونك بالذين من دونه‏}‏؛ لأنهن إناث، وهن اللات، والعزّى، ومناة، وفيه تهكّم بهم، وبمعبودهم؛ حيث جعلهم يعبدون الإناث‏.‏

‏{‏قُل حَسْبِيَ اللهُ‏}‏ أي‏:‏ كافيني في جميع أموري من إصابة الخير ودفع الشر‏.‏ رُوي أنه صلى الله عليه وسلم لما سألهم سكتوا، فنزلت‏:‏ ‏{‏قل حسبي الله عليه يتوكلُ المتوكلون‏}‏، لا على غيره أصلاً؛ لعلمهم بأن كل ما سواه تحت قهر ملكوته‏.‏

الإشارة‏:‏ الناس على قسمين‏:‏ أعداء وأحباب، فإن نظرت إلى الأعداء وجدتهم لا يقدرون أن ينفعوك بشيء إلا ما قدّر الله لك، وإن نظرت إلى الأعداء وجدتهم لا يقدرون أن يضروك بشيء إلا ما قدّر الله عليك، فارفض الجميع، وتعلّق بالله بغنك عن غيره، ويوصل إليك ما قسم لك بالعز والهناء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏39- 41‏]‏

‏{‏قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ‏(‏39‏)‏ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ ‏(‏40‏)‏ إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ‏(‏41‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏قُلْ يا قوم اعملوا على مكانَتِكُمْ‏}‏ أي‏:‏ على حالتكم التي أنتم عليها، وجهتكم من العداوة التي تمكنتم فيها، فالمكانة بمعنى المكان، فاستعيرت من العين للمعنى، وهي الحال، كما تستعار «هنا»‏.‏ و«حيث» للزمان، وإنما وضعا للمكان‏.‏ وقرأ أبو بكر وحمَّادِ‏:‏ «مكانات» بالجمع‏.‏ ‏{‏إِني عامل‏}‏ على مكانتي، فحذف للاختصار، والمبالغةِ في الوعيد، والإشعار بأن حاله لا تزال تزداد قوة بنصر الله تعالى له، وتأييده، ولذلك توعّدهم بقوله‏:‏ ‏{‏فسوف تعلمون مَن يأتيه عذاب يُخْزِيه‏}‏؛ فإنَّ خزي أعدائه دليل غلبته صلى الله عليه وسلم ونصره في الدنيا والآخرة‏.‏ وقد أخزاهم وعذّبهم يوم بدر، ‏{‏و‏}‏ سوف تعلمون أيضاً مَن ‏{‏يَحِلُّ عليه عذابٌ مقيمٌ‏}‏ في الآخرة؛ لأنه مقيم على الدوام‏.‏

ثم ذكر الفاصل بين أهل العذاب المقيم، والنعيم الدائم، فقال‏:‏ ‏{‏إِنا أنزلنا عليك الكتابَ للناسِ‏}‏ أي‏:‏ لأجلهم، فمَن أعرض عنه فقد استحقَّ العذاب الأليم، ومَن تمسّك به استوجب النعيم المقيم، حال كونه ملتبساً ‏{‏بالحق‏}‏ ناطقاً به، أو‏:‏ أنزلناه مُحِقين في إنزاله‏.‏ ‏{‏فمَن اهتدى فلنفسه‏}‏، إنما ينفع به نفسه ‏{‏ومَن ضلَّ‏}‏‏:‏ بأن أعرض عنه، أو عن العمل به‏.‏ ‏{‏فإِنما يَضِلُّ عليها‏}‏؛ لأن وبال إضلاله مقصور عليها‏.‏ ‏{‏وما أنت عليهم بوكيلٍ‏}‏ حتى تجبرهم على الهدى، وما وظيفتك إلا التبليغ، وقد بلغت أيّ بلاغ‏.‏

الإشارة‏:‏ مَن ذَكَّر قوماً فأعرضوا عنه، ولم يرفعوا له رأساً، يقول لهم‏:‏ يا قوم اعملوا على مكانتكم‏.‏‏.‏‏.‏ الخ، وأيّ عذاب أشد من الحجاب، والبُعد عن حضرة الحبيب‏؟‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏الله يتوفّى الأنفُسَ‏}‏ أي‏:‏ الأرواح ‏{‏حين موتِها‏}‏ فيقبضها إليه قبضاً، ‏{‏و‏}‏ يتوفى الأنفس ‏{‏التي لم تمت في منامها‏}‏ فيقبضها ويترك شعاعها في البدن، فالتي قضى عليها الموت يتوفاها ظاهراً وباطناً، والتي لم يقضِ موتها يتوفاها ظاهراً فقط عند النوم، ‏{‏فيُمسك التي قَضَى عليها الموتَ‏}‏، لا يردها إلى البدن، ‏{‏ويُرْسِلُ الأخرى‏}‏ أي‏:‏ النائمة إلى بدنها عند التيقُّظ ‏{‏إِلى أجلٍ مُسمًّى‏}‏‏:‏ هو الوقت المضروب لموتها، فشبَّه النائمين بالموتى، حيث لا يميزون ولا يتصرفون، كما أن الموتى كذلك‏.‏

قال الإمام‏:‏ النفس الإنسانية عبارة عن جوهر مشرق روحاني، إذا تعلّق بالبدن حصل ضوؤه في جميع الأعضاء، وهي الحياة، ثم إنه في وقت النوم ينقطع تعلُّقه عن ظهر البدن، دون باطنه، وفي وقت الموت ينقطع تعلقه عن ظاهر البدن وباطنه، فالموت والنوم من جنس واحد بهذا الاعتبار، لكن الموت انقطاع كامل، والنوم انقطاع ناقص، فظهر أن القادر الحكيم دبَّر تعلُّق جوهر النفس بالبدن على ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنه دبَّر أمرها بحيث يقع ضوء الروح على جميع أجزاء البدن، ظاهره وباطنه، وذلك هو اليقظة‏.‏

وثانيها‏:‏ بحيث يقطع عن الظاهر والباطن، وهو الموت‏.‏

وثالثها‏:‏ بحيث يقطع عن ظاهر البدن دون الباطن، وهو النوم، فثبت أن النوم والموت يشتركان في كل واحد منهما بتوفي النفس، ثم يمتاز أحدهما بخواص معينة‏.‏ ومثل هذا التقدير العجيب لا يمكن صدوره إلا عن القادر العليم الحكيم‏.‏ ه‏.‏

وقال سهل‏:‏ إن الله إذا توفى الأنفس أخرج الروح النوري من لطيف نفس الطبيعي الكثيفي، فالذي يتوفى في النوم من لطيف نفس الطبع، لا لطيف نفس الروح‏.‏ فالنائم يتنفس تنفُّساً لطيفاً، وهو نَفَس الروح، الذي إذا زال لم يكن للعبد حركة، وكان ميتاً‏.‏ وقال‏:‏ حياة النفس الطبيعي بنور لطيف، وحياة لطيف نفس الروح بذكر الله‏.‏ وقال أيضاً‏:‏ الروح تقوم بلطيفة في ذاتها بغير نفس الطبع، ألا ترى أن الله تعالى خاطب الكل في الذر بنفس، وروح، وفهم، وعقل، وعلم لطيف، بلا حضور طبع كثيف‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ وبهذا الاعتبار يقع لها العذاب في البرزخ أو النعيم، وتذهب وتجيء في عالم البرزخ‏.‏

وقال في القصد‏:‏ النفس مع الروح كالجسد مع الظل، والظل يميل، والأصل لا يميل، والروح سره، والسر بربه، وهو شعاع الحقيقة الصغرى، والسر نور السر الأعلى، وكل هذا مخلوق، بقدرة الله موثوق، فلا يستفزك غير هذا فتشقى، وفي جهنم من نور البُعد تلقى‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ السر الأعلى هو معاني أسرار الذات القائمة بالأشياء، وهو قديم غير مخلوق‏.‏

وذكر الثعلبي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ في ابن آدم نفس وروح، بينهما مثل شعاع الشمس، فالنفسُ هي التي بها العقل والتمييز، والروح التي بها التحرُّك والنَّفَس؛ فإذا نام العبد قبض الله نفسه ولم يقبض روحه‏.‏

ه‏.‏ هذا، وفي الصحيح‏:‏ إن الله قبض أرواحنا حيث شاء، وردها حيث شاء‏.‏ فأطلق القبض على الأرواح‏.‏ والصواب‏:‏ أن النفس والروح في هذا واحد؛ بدليل قوله‏:‏ ‏{‏اللهُ يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت‏}‏ والحاصل‏:‏ أن الموت‏:‏ توفِّ كامل، بإخراج الروح مع شعاعها من البدن، فتذهب الحياة، والنوم‏:‏ توفٍّ ناقص، بإخراج الروح مع بقاء شعاعها في البدن، به الحياة والتنفُّس‏.‏

وعن ابن عباس رضي الله عنه أيضاً أنه قال‏:‏ إن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام، ويتعارف ما شاء الله منها، فإذا أراد الله رجوعها إلى الأجسام، يُمسك الله عنده أرواح الأموات، ويرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها، فذلك قوله عزّ وجل‏:‏ ‏{‏الله يتوفى الأنفس‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ الآية‏.‏

وعبارة «عز الدين بن عبد السلام»‏:‏ في كل جسد روحان؛ إحداهما‏:‏ روح اليقظة، التي أجرى الله العادة أنها إذا كانت في الجسد كان الإنسان متيقظاً، فإذا خرجت من الجسد نام الإنسان، ورأت تلك الروح المنامات، والأخرى‏:‏ روح الحياة، التي أجرى الله العادة أنها إذا كانت في الجسد كان حيّاً؛ فإذا فارقته مات، فإذا رجعت إليه حَيِيَ، وهاتان الروحان في بطن الإنسان، لا يعلم مقرَّهما إلا مَن أطلعه الله عليهما، فهما كجنينين في بطن امرأة‏.‏ ه‏.‏

والآية منبهة على كمال قدرته، وفيها دلالة على البعث، وأنه كاليقظة سواء، وهذا معنى قوله‏:‏ ‏{‏إِن في ذلك لآياتٍ يتفكرون‏}‏ في عجائب قدرته، فيعلمون أن مَن قدر على إمساك الأرواح في النوم، وردها، قادر على إماتتها وإحيائها‏.‏ وفي التوراة‏:‏ كما تنام تموت، وكما تستيقظ تُبعث‏.‏

الإشارة‏:‏ الله يتوفى الأنفس المطهرة إلى حضرة قدسه، حين موتها من الهوى، ويقبض الأنفس التي لم تمت من حظوظها في سجن الأكوان، وهيكل ذاتها، في حال منام غفلتها، فيمسك التي قضى عليها الموت في حضرة قدسه، فلا يردها إلى شهود حضرة الأشباح ويرسل الأخرى تجول في حضرة الأشباح وأودية الدنيا، إلى أجل مسمًّى، إما موتها الحسي أو المعنوي، إن سبقت لها سابقة عناية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏43- 44‏]‏

‏{‏أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ ‏(‏43‏)‏ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏أَمِ اتخذوا‏}‏ أي‏:‏ قريش ‏{‏من دون الله شفعاء‏}‏، فيزعمون أن أصنامهم تشفع لهم عند الله، أي‏:‏ إنهم اتخذوا على زعمهم من دون الله شفعاء بحكمهم، لا بتعريف من قِبل الله وإخبار، فإن الله لا يقبل الشفاعة من أحد إلا بإذن منه، وإن الذين يقولون ذلك افتراء على الله‏.‏ ‏{‏قُل أَوَلَوْ كانوا لا يملكون شيئاً ولا يعقلون‏}‏، الهمزة لإنكار الواقع واستقباحه، والتوبيخ عليه، أي‏:‏ قل‏:‏ أتتخذونهم شفعاء ولو كانوا لا يملكون شيئاً من الأشياء ولا يعقلون شيئاً، فضلاً عن أن يملكوا الشفاعة عند الله تعالى‏.‏

‏{‏قُل‏}‏ تبكيتاً وتجهيلاً لهم‏:‏ ‏{‏للهِ الشفاعةُ جميعاً‏}‏ أي‏:‏ هو مالكها، ولا يقدر أحد أن يتصدّى لها، إلا أن يكون المشفوع له مرتضىً، والشفيع مأذوناً، وكلاهما مفقود في أصنامهم، ثم قرر اختصاصه بالشفاعة بقوله‏:‏ ‏{‏له ملكُ السماوات والأرض‏}‏ أي‏:‏ له التصرف فيهما، وفيما فيهما من المخلوقات، لا يملك أحد أن يتكلم في أمر من أموره بدون إذنه ورضاه، ‏{‏ثم إليه تُرجعون‏}‏ يوم القيامة، لا إلى أحد سواه، فيفعل يومئذ ما يريد‏.‏

قال النسفي‏:‏ ‏{‏له ملك السماوات والأرض‏}‏ اليوم ‏{‏ثم إليه تُرجعون‏}‏ يوم القيامة، فلا يكون المُلك في ذلك اليوم إِلاّ له، فله المُلك في الدنيا والآخرة‏.‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ الشفاعة إنما تكون لأهل الجاه عند الله، والجاه يعظم بحسب التوجه، والتوجه يعظم على قدر المحبة، والمحبة على حسب العناية السابقة، ‏{‏يُحبهم ويُحبونه‏}‏ فبقدر أنوار التوجه تعظم أنوار المواجهة، وبقدر أنوار المواجهة تتسع المعرفة، وبحسب المعرفة يكون الجاه، وبقدر الجاه تتسع الشفاعة، حتى إن الواحد من الأولياء يشفع في وجود بأسره من أهل زمانه، إما عند موته، أو عند الحساب‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 46‏]‏

‏{‏وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ‏(‏45‏)‏ قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏46‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ «وحده»‏:‏ منصوب عند سيبويه، على المصدر، وعند الفراء‏:‏ على الحال، والظاهر‏:‏ أنه أطلق المصدر على اسمه‏.‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ‏}‏ أي‏:‏ إذا أُفرد الله بالذكر، ولم تُذكر معه آلهتهم، فمدار المعنى على قوله‏:‏ ‏{‏وحده‏}‏، ‏{‏اشْمَأَزَّتْ قلوبُ الذين لا يؤمنون بالآخرة‏}‏ أي‏:‏ انقبضت ونفرت، كقوله‏:‏ ‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ وإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِى الْقُرْءَانِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 46‏]‏، ‏{‏وإِذا ذُكر الذين مِن دونه‏}‏ يعني‏:‏ آلهتهم، ذُكر اللهُ معهم، أو لم يُذكر، ‏{‏إِذا هم يستبشرون‏}‏؛ لفرط افتتانهم بها، ونسيانهم ذكر الله، أو‏:‏ وإذا قيل لهم‏:‏ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، نفروا؛ لأن فيه نفياً لآلهتهم‏.‏

وقال الورتجبي‏:‏ صورة الآية وقعت على الجاحدين والمتكبرين، الذين ليس في محبتهم إلا متابعة الأشكال والأمثال، من حيث التشبيه والخيال؛ لأن قلوبهم خلقت على مشاكلة الأضداد والأنداد، ولم يكن في قلوبهم سجية أهل المعرفة بالله، فإذا سَمِعُوا ذِكْر مَن لا يدخل في الخيال والمثال انقبضت قلوبهم وصدورهم، ونفرت، وإذا سمعوا ذكر غير الله من الصور والأشباح، سكنت نفوسهم إليها من غاية غباوتهم، وكمال جهالتهم، فهم مثل الصبيان، إذ هم يفرحون بالأفراس الطينية والأُسد الخشبية، ولا يطيقون أن ينظروا إلى عَدْوِ العاديات، وإلى الضراغم الباديات‏.‏‏.‏‏.‏ ه‏.‏ مختصراً‏.‏

ولقد بالغ في بيان حالتيهم المتقابلتين؛ حيث ذكر الغاية فيهما، فإن الاستبشار‏:‏ هو أن يمتلىء القلب سروراً، حتى تنبسط له بشرة الوجه وتتهلل، والاشمئزاز‏:‏ أن يمتلىء القلب غيظاً وغمّاً، حتى ينقبض منه أديم الوجه، فتظهر عليه الكآبة والحزن‏.‏ والعامل في ‏{‏إِذا‏}‏ الأولى‏:‏ «اشمأزت»، وفي الثانية‏:‏ ما هو العامل في «إذا» الفجائية، والتقدير‏:‏ وقت ذكر الذين من دونه فاجأوا وقت الاستبشار‏.‏

ثم أمر نبيه بالالتجاء إليه حين إدبارهم، فقال‏:‏ ‏{‏قُلِ اللهمَّ فاطِرَ السماواتِ والأرضِ‏}‏ أي‏:‏ يا فاطر، وليس بوصف، خلافاً للفراء والمبرّد، أي‏:‏ اللهم يا مظهر السماوات والأرض، ‏{‏عالِمَ الغيبِ والشهادةِ‏}‏ أي‏:‏ ما غاب من أسرار ذاتك وما ظهر، أو‏:‏ السر والعلانية، أي‏:‏ التجىء إليه تعالى إذا اغتممت من شدة شكيمتهم في المكابرة والعناد؛ فإنه القادر على الأشياء بجملتها، والعالم بالأحوال برمتها‏.‏ ‏{‏أنت تَحْكُمُ بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون‏}‏ أي‏:‏ حُكماً يُسلمه كل مكابر ومعاند، ويخضع له كلَّ عاتٍ ومارد، فاحكم بيني وبين معاندي، بالنصر عليهم في الدنيا والآخرة‏.‏

وعن ابن المسيّب‏:‏ «ما أعرفُ آية قرئت فدعى عندها إلا أجيب سوى هذه»‏.‏ يعني أنه صلى الله عليه وسلم دعا الله أن يحكم بينه وبين عدوه بالاستئصال، فأمهل؛ لأنه رحمة‏.‏ وعن الربيع بن خثيم وكان قليل الكلام‏:‏ أنه أُخبر بقتل الحسين رضي الله عنه، وقالوا‏:‏ الآن يتكلم، فما زاد على أن قال‏:‏ أَوَقد فعلوا‏؟‏ وقرأ‏:‏ ‏{‏اللهم فاطر السماوات والأرض‏}‏‏.‏

‏.‏‏.‏ الآية، ثم قال على إثرها‏:‏ قُتِل مَن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُجلسه في حجره، ويُقبِّل فاه‏.‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ ينبغي للمؤمن أن يكون متعاكساً مع المشرك، إذا سمع كلمة التوحيد «لا إله إلا الله» فرح وانبسط، وإذا ذكر اللغو واللعب اشمأز وانقبض، والعابد أو الزاهد إذا سَمِعَ ما يدل على الطاعة والاستعداد للآخرة فرح ونشط، وإذا سمع ما يدلّ على الدنيا والبطالة اشمأز وانقبض، والمريد السائر، إذا سمع ما يقرب إلى الله فرح وانبسط، وإذا سمع ما يُبعد عند من ذكره السِّوى اشمأز وانقبض، وأما الواصل الكامل فلا ينقبض من شيء؛ لزيادته إلى الله بكل شيء؛ لأنه عرف الله في كل شيء، وسمع منه في كل شيء، فلا يحجبه عن الله شيء، قد فنيت دائرة حسه، واتسعت دائرة معرفته، يأخذ النصيب من كل شيء، ولا يأخذ النصيبَ منه شيء‏.‏

قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه‏:‏ في بعض كتب الله المنزلة على أنبيائه، يقول الله تعالى‏:‏ مَن أطاعني في كل شيء، بهجرانه لكل شيء، أطعته في كل شيء، بأن أتجلى له دون كل شيء، حتى يراني أقرب إليه من كل شيء‏.‏ هذه طريق أُولى، وهي طريق السالكين‏.‏ وطريق أخرى كبرى‏:‏ مَن أطاعني في كل شيء، بإقباله علي كل شيء، لحسن إرادة مولاه في كل شيء، أطعته في كل شيء، بأن أتجلّى له في كل شيء، حتى يراني كأني كل شيء‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏47- 48‏]‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ‏(‏47‏)‏ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏48‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ولو أنّ للذين ظلموا‏}‏ بالشرك، ‏{‏ما في الأرض جميعاً‏}‏‏:‏ من الأموال والذخائر، ‏{‏ومِثْلَهُ معه‏}‏ زائد عليه، ‏{‏لافْتَدوا به من سوءِ العذاب‏}‏ أي‏:‏ شدته، ‏{‏يومَ القيامةِ‏}‏ أي‏:‏ لو أن لهم جميع ما في الدنيا لجعلوا ذلك فدية لأنفسهم من العذاب الشديد، وهيهات هيهات، ولات حين مناص‏.‏ وهذا كما ترى وعيد شديد لأهل الشرك، وإقناط كلي لهم‏.‏ ‏{‏وَبَدَا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون‏}‏ أي‏:‏ ظهر لهم من فنون العقوبات ما لم يكن في ظنهم وحسبانهم، ولم يُحدِّثوا به نفوسهم‏.‏ وهذا غاية من الوعيد، لا غاية وراءها، ونظيره في الوعد‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 17‏]‏‏.‏

‏{‏وبدا لهم سيئاتُ ما كسبوا‏}‏ أي‏:‏ ظهر لهم سيئات أعمالهم التي كسبوها، أو سيئات كسبهم حين تُعرض عليهم صحائفُهم، وكانت خافية عليهم، أو‏:‏ عقاب ذلك‏.‏ ‏{‏وحاقَ بهم‏}‏ أي‏:‏ نزل بهم وأحاط، ‏{‏ما كانوا به يستهزئون‏}‏ أي‏:‏ جزاء هزئهم بالإسلام، ومَن جاء به، ومَن تبعه‏.‏

الإشارة‏:‏ الآية تجرّ ذيلها على كل ظالم لم يتب، فيتمنى الفداء بجميع ما في الأرض، فلا يُمكّن منه‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون‏}‏، هذه الآية عامة، لا يُفلت منها إلا الفرد النادر، الذي وصل إلى غاية المعرفة العيانية، ومَن لم يصل إلى هذا المقام فهو مقصِّر، يظن أنه في عليين، وهو في أسفل سافلين، ولذلك عظم خوف السلف منها، فقد جزع محمد بن المنكدر عند الموت، فقيل له في ذلك، فقال‏:‏ أخشى آيةً من كتاب الله‏:‏ ‏{‏وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون‏}‏ فأنا أخشى أن يبدو لِي من الله ما لم أحتسب‏.‏ وعن سفيان أنه قرأها، فقال‏:‏ ويلٌ لأهل الرياء، ويلٌ لأهل الرياء‏.‏ ه‏.‏

وفي الإحياء‏:‏ مَن اعتقد في ذات الله وصفاته وأفعاله خلاف الحق، وخلاف ما هو عليه؛ إما برأيه أو معقوله ونظره، الذي به يجادل، وعليه يعول، وبه يغتر، وإما بالتقليد، فمَن هذا حاله ربما ينكشف له حال الموت بطلان ما اعتقده جهلاً، فيتطرّق له أن كل ما اعتقده لا أصل له، فيكون ذلك سبباً في شكه عند خروج روحه، فيختم له بسوء الخاتمة، وهذا هو المراد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبَدَا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون‏}‏ وبقوله‏:‏ ‏{‏هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 103‏]‏‏.‏‏.‏‏.‏ الآية‏.‏ انظر عبارته في كتاب الخوف، وقريباً منه في القوت، عصمنا الله من سوء القضاء، وختم لنا بالسعادة التامة بمنِّه وكرمه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏49- 51‏]‏

‏{‏فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏49‏)‏ قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏50‏)‏ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ ‏(‏51‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏فإِذا مَسَّ الإِنسانَ‏}‏ أي‏:‏ جنسه ‏{‏ضُرٌّ‏}‏‏:‏ فقر أو غيره ‏{‏دعانا‏}‏ معرضاً عما سوانا‏.‏ والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، من ذكر حالتي أهل الشرك القبيحتين، وما بينهما اعتراض مؤكد للإنكار عليهم، أي‏:‏ إنهم يشمئزون عن ذكر الله وحده، ويستبشرون بذكر الآلهة، فإذا مسّهم الضر دعوا مَن اشمأزوا عن ذكره، دون مَن استبشروا بذكره، فناقضوا فعلهم‏.‏

فإن قلت‏:‏ حق الاعتراض أن يؤكّد المعترَض بينه وبينه‏؟‏ قلت‏:‏ ما في الاعتراض من دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم ربه، بأمر من الله، وقوله‏:‏ ‏{‏أنت تحكم بين عبادك‏}‏، ثم ما عقّبه من الوعد العظيم، تأكيد لإنكار اشمئزازهم، واستبشارهم، ورجوعهم إلى الله في الشدائد، دون آلهتهم، كأنه قيل‏:‏ قل‏:‏ يا ربّ لا يحكم بيني وبين هؤلاء، الذين يجترئون عليك مثل هذه الجراءة، إلا أنت، ثم هددهم بقوله‏:‏ ولو أن لهؤلاء الظلمة ما في الأرض جميعاً لافتدوا به‏.‏ انظر النسفي‏.‏

‏{‏ثم إِذا خوَّلناه نعمةً منا‏}‏‏:‏ أعطيناه إياها، تفضُّلاً؛ فإن التخويل مختص به، لا يطلق على ما أعطى جزاء، فإذا أعطيناه ذلك ‏{‏قال إِنما أُوتيته‏}‏ أي‏:‏ ذلك التخويل أو الإنعام ‏{‏على عِلْم‏}‏ مني بوجوه كسبه، كما قال قارون‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِى‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 78‏]‏ أو‏:‏ على علم مني بأني سأُعطاه، لِما فيّ من فضل واستحقاق، أو‏:‏ على علم من الله تعالى باستحقاقي لذلك المال، فتذكير الضمير إما لعوده على التخويل المأخوذ من ‏{‏خولناه‏}‏، أو‏:‏ بتأويل النعمة بمعنى الإنعام، أو‏:‏ المراد بشيء من النعمة، أو‏:‏ يعود على «ما» إذا قلنا‏:‏ موصولة، لا كافة، أي‏:‏ إن الذي أوتيته على علم مني‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏بل هي فتنةٌ‏}‏ أي‏:‏ ليس ما خوَّلناه نعمة؛ بل هي محنة وابتلاء له؛ ليظهر كفره أو شكره‏.‏ ولما كان الخبر مؤنثاً ساغ تأنيث المبتدأ لأجله، وقرىء‏:‏ «بل هم فتنة»‏.‏ ‏{‏ولكنَّ أكْثَرَهُم لا يعلمون‏}‏ أنَّ الأمر كذلك، وأنَّ التخويل إنما كان فتنة، وفيه دلالة على أن المراد بالإنسان الجنس‏.‏

‏{‏قد قالها الذين مِن قبلهم‏}‏ أي‏:‏ قد قال هذه المقالة، وهي‏:‏ ‏{‏إنما أوتيته على علم‏}‏ من قبلهم، كقارون وقومه، قال قارون‏:‏ ‏{‏إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 78‏]‏ وقومه راضون بمقالته، فكأنهم قالوها معه‏.‏ ويجوز أن يكون في الأمم الخالية آخرون قائلون مثلها‏.‏ ‏{‏فما أَغنى عنهم ما كانوا يكسبون‏}‏ من متاع الدنيا، وما جمعوا منها شيئاً حتى ينزل بهم العذاب، ‏{‏فأصابهم سيئاتُ ما كَسَبُوا‏}‏ أي‏:‏ جزاء سيئات ما كسبوا، وهو العذاب في الدنيا والآخرة، أو‏:‏ سمّي جزاء السيئة سيئة؛ للازدواج، كقوله‏:‏ ‏{‏وَجَزآؤُاْ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 40‏]‏ أي‏:‏ فأصابهم وبال ما كسبوا، ‏{‏والذين ظلموا من هؤلاء‏}‏‏:‏ المشركين، يعني قريشاً، ‏{‏سيُصِيبهُم سيئاتُ ما كسبوا‏}‏ من الكفر والمعاصي، كما أصاب أولئك‏.‏

والسين للتأكيد‏.‏ وقد أصابهم ذلك، حيث قحطوا سبع سنين، وقتل صناديدهم يوم بدر‏.‏ ‏{‏وما هم بمُعْجزين‏}‏‏:‏ بفائتين من عذاب الله‏.‏

الإشارة‏:‏ هذه الخصال الذميمة تُوجد في كثير من هذه الأمة، إذا أصابت العبد شدة أو قهرية رجع إلى الله، فإذا فرّج عنه بسب عادي كما هو دأب عالم الحكمة، أسند الفرج إلى ذلك السبب، فيقول‏:‏ فلان فرّج عني، أو الدواء الفلاني شفاني، وهو شرك، كاد أن يكون جليّاً‏.‏ والواجب‏:‏ النظر إلى فعل الله وقدرته، وإسقاط الوسائط من نظره، ولو وجدت حكمةً، فالكمال فعلها وجوداً، والغيبة عنها شهوداً‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏52‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يعلموا‏}‏ أي‏:‏ أقالوا ذلك ولم يعلموا، أو أَغفلوا ولم يعلموا ‏{‏أَنَّ الله يبسُطُ الرِّزقَ‏}‏ أي‏:‏ يوسعه ‏{‏لمَن يشاءُ ويقدرُ‏}‏ أي‏:‏ يضيق لمَن يشاء بلا سبب ولا علة، أو‏:‏ يجعله على قدر القوت من غير زيادة ولا نقصان، وهو من إتمام النعمة‏.‏ وفي الحِكَم‏:‏ «من تمام النعمة عليك أن يعطيك ما يكفيك، ويمنعك ما يطغيك» ‏{‏إِن في ذلك‏}‏‏:‏ البسط والقبض ‏{‏لآياتٍ‏}‏ دالة على أن الحوادث كلها من الله بلا واسطة، ‏{‏لقوم يؤمنون‏}‏، إذ هم المستدلُّون بها على أن القابض والباسط هو الله، دون غيره‏.‏

الإشارة‏:‏ قد يبسط الله الرزق لمَن لا خلاق له عنده، ويقبضه عن أحب الخلق إليه، وهو الغالب، فرزق المتقين كفاف، ورزق المترفين جزاف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏53- 54‏]‏

‏{‏قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ‏(‏53‏)‏ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ ‏(‏54‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ يا محمد ‏{‏يا عباديَ الذين أسرفوا على أنفسهم‏}‏ أي‏:‏ أفرطوا في الجناية عليها، بالإسراف في المعاصي، والغلو فيها، ‏{‏لا تقنطوا من رحمة الله‏}‏‏:‏ لا تيأسوا من مغفرته أولاً، وتفضُّله بالرحمة ثانياً، ‏{‏إِن الله يغفرُ الذنوبَ جميعاً‏}‏، بالعفو عنها، إلا الشرك‏.‏ وفي قراءة النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «يغفر الذنوب جميعاً ولا يُبالي» لكنها لم تتواتر عنه‏.‏

والمغفرة تصدق بعد التعذيب وقبله، وتقييده بالتوبة خلاف الظاهر، كيف، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 48‏]‏ ظاهر في الإطلاق مما عدا الشرك‏؟‏ وَلِمَا يدل عليه التعليل بقوله‏:‏ ‏{‏إِنه هو الغفور الرحيم‏}‏ على المبالغة، وإفادة الحصر، والوعد بالرحمة بعد المغفرة‏.‏ وما في ‏{‏عبادي‏}‏ من الدلالة على الذلة والاختصاص، المقتضييْن للترحُّم‏.‏ ‏{‏إِنه هو الغفورُ‏}‏؛ يستر عظام الذنوب ‏{‏الرحيمُ‏}‏ يكشف فظائع الكروب‏.‏ والآية، وإن نزلت في «وحشي»، قاتل «حمزة»، أو في غيره، لا تقتضي التخصيص بهم، فإن أسباب النزول لا تخصص‏.‏ وعن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية»‏.‏

ولما نزلت في شأن وحشي، وأسلم، قال المسلمون‏:‏ هذه له خاصة، أو للمسلمين عامة‏؟‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «بل هي للمسلمين عامة» وقال قتادة إن ناساً أصابوا ذنوباً عظاماً، فلما جاء الإسلام أشفقوا ألا يتاب عليهم، فدعاهم الله تعالى بهذه الآية‏.‏ وقال ابن عمر‏:‏ نزلت هذه الآيات في عياش بن أبي ربيعة، والوليد بن الوليد، ونفر كانوا قد أسلموا ثم فُتنوا، فكنا نقول‏:‏ لا يقبل الله منهم صرفاً ولا عدلاً، فنزلت الآية، وكان عمر بن الخطاب كاتباً، فكتبها بيده، ثم بعث بها إلى عياش بن أبي ربيعة والوليد، وإلى أولئك النفر، فأسلموا، وهاجروا‏.‏

قال علي رضي الله عنه‏:‏ «ما في القرآن آية أوسع من هذه الآية»‏.‏ فما يُقنط الناس ويشدد عليهم بعد هذه الآية إلا جهول، أو جامد، قال زيد بن أسلم‏:‏ إنَّ رجلاً كان في الأمم الماضية مجتهداً في العبادة، فيشدد على نفسه، ويقنط الناس من رحمة الله، فمات، فقال‏:‏ أيّ ربّ؛ ما لي عندك‏؟‏ فقال‏:‏ النار‏.‏ فقال‏:‏ يا رب؛ أين عبادتي‏؟‏ فقال‏:‏ إنك كنت تُقنط الناس من رحمتي في الدنيا، فاليوم أقنطك من رحمتي‏.‏ وعن عليّ كرّم الله وجهه قال‏:‏ الفقيه كل الفقيه الذي لا يقنط الناس من رحمة الله، ولا يؤمنهم من عذاب الله، ولا يرخص لهم في معاصي الله‏.‏ ه‏.‏

ثم حضَّ على التوبة لتتحقق المغفرة، فقال‏:‏ ‏{‏وأَنِيبوا إِلى ربكم‏}‏ أي‏:‏ ارجعوا إليه بالتوبة والإخلاص‏.‏

فالإنابة أخص من التوبة؛ لأن التوبة‏:‏ مطلق الندم على الزلة، والإنابة‏:‏ تحقيق التوبة والنهوض إلى الله بإخلاص التوجه‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من السعادة أن يطول عمر الرجل ويرزقه الله الإنابة» قال القشيري‏:‏ وقيل الفرق بين الإنابة والتوبة‏:‏ أن التائب يرجع خوفاً من العقوبة، والمنيب يرجع حياءً منه تعالى‏.‏ ه‏.‏

والأمر بالتوبة لا يدل على تقييد المغفرة في الآية بها، كما تقدّم؛ إذ ليس المدعَى‏:‏ أن الآية تدل على حصول المغفرة لكل أحد من غير توبة وسبْق تعذيب، حتى يغني عن الأمر بها، وإنما المراد‏:‏ الإخبار بسعة غفرانه، سواء كان مع التوبة أم لا‏.‏ قال ابن عرفة‏:‏ واعلم أن التوبة من الكفر مقطوع بها، ومن المعاصي، قيل‏:‏ مظنونة، وقيل‏:‏ مقطوع بها، هذا في الجملة، وأما في التعيين، كتوبة زيد بن عَمْرو، فلا خلاف أنها مظنونة‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ قد اقترن بتوبة زيد من الأخبار ما يقطع بصحتها‏.‏

ثم قال‏:‏ وأما العاصي إذا لم يتب فهو في المشيئة، مع تغليب جانب الخوف والعقوبة، واعتقاد أن العذاب أرجح، وأما العصيان بالقتل، ففيه خلاف بين أهل السُّنة، فقيل‏:‏ يخلد في النار، وقيل‏:‏ في المشيئة‏.‏ ه‏.‏ وقال أبو الحجاج الضرير رحمه الله‏:‏

وتوبةُ الكافرِ تمحُو اِثْمَه *** لا خلافَ فيه بين الأُمَّهْ

وتوبةُ العاصي على الإِرجاءِ *** وقيلَ كالأول بالسواءِ

إذ لا يكونُ دونه في الحالِ *** وَهُوَ عندي أحسنُ الأقوالِ

دليلُه‏:‏ تتابعُ الظواهِرْ *** شاملةٌ مسلمٌ وكافرْ

‏{‏وأَسْلِمُوا له‏}‏ أي‏:‏ اخضعوا له، وانقادوا لأمره‏.‏ قال القشيري‏:‏ أي‏:‏ أَخلصوا في طاعتكم، والإسلامُ الذي هو الإخلاص بعد الإنابة‏:‏ هو أن يعلم نجاته بفضلِه، لا بإنابته؛ فبفضله يصل إلى إثابته، لا بإنابته يصل إلى فضله‏.‏ ه‏.‏ ‏{‏من قبل أن يأتيكم العذابُ‏}‏ في الدنيا، أو في الآخرة، إن لم تتوبوا قبل نزول العقاب‏.‏ قال القشيري‏:‏ العذاب هنا، قيل‏:‏ الفراق، وقيل‏:‏ هو أن يفوتَه وقت الرجوعِ بسوء الإياس‏.‏ ه‏.‏ ‏{‏ثم لا تُنصرون‏}‏‏:‏ لا تُمنعون منه أبداً‏.‏

الإشارة‏:‏ لا يعظم عندك الذنب عظمة تصدك عن حسن الظن بالله، فإن مَن استحضر عظمة ربه صغر في عينه كل شيء‏.‏ وتذكر قضية الرجل الذي قتل تسعاً وتسعين نفساً، ثم سأل راهباً‏:‏ هل له توبة‏؟‏ فقال‏:‏ لا، فكمل به المائة، ثم سأل عارفاً، فقال له‏:‏ ومَن يحول بينك وبينها‏؟‏ لكن اخرج من القرية التي كنت تعصي فيها، واذهب إلى قوم يعبدون الله في مكان، فذهب، فأدركه الموت في الطريق، فلما أحسّ بالموت انحاز بصدره إلى القرية التي قصدها، ثم مات، فاختصمت فيه ملائكة العذاب وملائكة الرحمة فقال لهم الحق تعالى‏:‏ قيسوا من القرية التي خرج منها، إلى القرية التي قصدها، فإلى أيهما هو أقرب هو منها‏؟‏ فوجدوه أقرب إلى القرية التي قصدها بشبر، فأخذته ملائكة الرحمة‏.‏

إلى غير ذلك من الحكايات التي لا تحصى في هذا المعنى‏.‏

وتأمل قضية الشاب الذي أتى النبي صلى الله عليه وسلم يبكي، فقال‏:‏ «ما يبكيك‏؟‏» قال‏:‏ ذنوبي‏.‏ فقال له عليه السلام‏:‏ «إن الله يغفر ذنوبك، ولو كانت مثل السماوات السبع، والأرضين السبع، والجبال الرواسي»، فقال‏:‏ يا رسول الله، ذنب من ذنوبي أعظم من السماوات السبع والأرضين السبع، فقال له‏:‏ «ذنوبك أعظم أو العرش‏؟‏» قال‏:‏ ذنوبي، فقال له‏:‏ «ذنوبك أعظم أو الكرسي‏؟‏» قال‏:‏ ذنوبي، فقال‏:‏ «ذنوبك أعظم أو إلهك‏؟‏» فقال‏:‏ الله أعظم، فقال‏:‏ «فأخبرني عن ذنبك» قال‏:‏ إني أستحيي، فقال‏:‏ «فأخبرني»، فقال‏:‏ إني كنت نبّاشاً أنبش القبور منذ سبع سنين، حتى ماتت جارية من بنات الأنصار، فنبشتها، وأخرجتها من كفنها، فمضيت، ثم غلبني الشيطان، فرجعت، فجامعتها، فقامت الجارية، وقالت‏:‏ الويل لك يا شاب من دَيّان يوم الدين، يوم يضع كرسيه للقضاء، يأخذ من الظالم للمظلوم، تركتني عريانة في عساكر الموتى، وأوقفتني جُنباً بين يدي الله، فقام النبي صلى الله عليه وسلم وهو يضرب في قفاه، وهو يقول‏:‏ «يا فاسق، اخرج، ما أقربك من النار»، فخرج الشاب تائباً إلى الله تعالى، حتى أتى عليه ما شاء الله، ثم قال‏:‏ يا إله محمد وآدم وحواء، إن كنت غفرت لي فأَعْلِم محمداً وأصحابه، وإلا فأرسل عليَّ ناراً من السماء فأحرقني بها، ونجِّني من عذاب الآخرة، فجاء جبريل‏:‏ فقال‏:‏ السلام يقرئك السلام، فقال‏:‏ «هو السلام وإليه يعود السلام»، قال‏:‏ يقول أأنت خلقت خلقي‏؟‏ قال‏:‏ «بل هو الذي خلقهم» قال‏:‏ يقول‏:‏ ترزقهم‏؟‏ قال‏:‏ «بل هو الذي يرزقهم»، قال‏:‏ يقول‏:‏ أأنت تتوب عليهم‏؟‏ قال‏:‏ «بل هو الذي يتوب عليهم» قال‏:‏ فتب على عبدي، فإني تبتُ عليه، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الشاب، وتاب عليه، وقال‏:‏ «إن الله هو التوّاب الرحيم» ه‏.‏ ذكره السمرقندي والثعلبي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏55- 59‏]‏

‏{‏وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ‏(‏55‏)‏ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ ‏(‏56‏)‏ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ‏(‏57‏)‏ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏58‏)‏ بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آَيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏واتَّبِعُوا أحسنَ ما أُنزل إليكم من ربكم‏}‏ أي‏:‏ القرآن، فإنه أحسن الحديث، ولا أحسن منه لفظاً ومعنى، أو‏:‏ المأمور به دون المنهي، أو‏:‏ العزائم دون الرُخص، كقوله‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 18‏]‏، أو‏:‏ الناسخ دون المنسوخ، ولعله ما هو أعم، فيصدق بكل ما يقرب إلى الله، كالإنابة، والطاعة، ونحوهما، ‏{‏من قبل أن يأتيكم العذابُ بغتةً‏}‏‏:‏ فجأة، ‏{‏وأنتم لا تشعرون‏}‏ بمجيئه؛ لتداركوا وتتأهبوا‏.‏

أمرتكم بذلك كراهة ‏{‏أن تقول نفس‏}‏، والتنكير للتكثير، كما في قوله‏:‏ ‏{‏عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّآ أَحْضَرَتْ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 14‏]‏، أو‏:‏ يراد به بعض الأنفس، وهي نفس الكافر، أو‏:‏ يُراد نفس متميزة إما بلجاج في الكفر شديد أو بعقاب عظيم‏:‏ ‏{‏يا حسرتا‏}‏، بألف بدل من ياء الإضافة؛ لأن العرب تقلب ياء المتكلم ألفاً في الاستغاثة، فيقولون‏:‏ يا ويلتا، يا ندامتا، فيخرجون ذلك على لفظ الدعاء، وربما ألحَقوا بها الهاء، فيقال‏:‏ يا رباهُ، يا مولاهُ، وربما ألحقوا ياء المتكلم، جمعاً بين العوض والمعوض، وبذلك قرأ أبو جعفر‏:‏ «يا حسرتاي» أي‏:‏ يا ندامتاه ويا حزناه‏.‏ ‏{‏على ما فَرَّطتُ‏}‏‏:‏ قصَّرت‏.‏ و«ما»‏:‏ مصدرية، أي‏:‏ على تقصيري وتفريطي ‏{‏في جَنبِ اللهِ‏}‏ أي‏:‏ جانبه وحقه وطاعته، أو‏:‏ في ذاته، أي‏:‏ معرفة ذاته، أو في قربه، من قوله‏:‏ ‏{‏وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 36‏]‏، أو‏:‏ في سبيل الله ودينه، والعرب تسمي السبب الموصل إلى الشيء جنباً، تقول‏:‏ تجرّعت في جنبك غُصَصاً، أي‏:‏ لأجلك، أو‏:‏ في الجانب الذي يؤدي إلى رضوانه، وهو توحيده والإقرار بنبوة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقرىء «في ذكر الله»‏.‏ ‏{‏وإِن كُنتُ لمن الساخرين‏}‏ أي‏:‏ المستهزئين بدين الله‏.‏ قال قتادة‏:‏ لم يكفهِ أن ضيّع طاعة الله حتى سخر بأهلها‏.‏ و«إن»‏:‏ مخففة، والجملة‏:‏ حالية، أي‏:‏ فرطت وأنا ساخر‏.‏

‏{‏أَوْ تقولَ لو أنَّ الله هداني‏}‏‏:‏ أعطاني الهداية، ‏{‏لكنتُ من المتقين‏}‏‏:‏ من الذين يتقون الشرك‏.‏ قال الإمام أبو منصور‏:‏ هذا الكافر أعرفُ بهداية الله من المعتزلة‏.‏ وكذلك أولئك الكفرة، الذين قالوا لأتباعهم‏:‏ ‏{‏لَّوْ هَدَانَا اللهُ لَهَدَيْنَاكُمْ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 21‏]‏ يقولون‏:‏ لو وفقنا الله للهداية، وأعطانا الهدى لدعوناكم إليه، ولكن عَلِمَ منا اختيار الضلالة والغواية فخذلنا ولم يوفقنا‏.‏ والمعتزلة يقولون‏:‏ بل هداهم وأعطاهم التوفيق؛ لكنهم لم يهتدوا‏.‏ انظر النسفي‏.‏

‏{‏أو تقولَ حين ترى العذابَ لو أن لي كرةً‏}‏ أي‏:‏ رجعة للدنيا، ‏{‏فأكونَ من المحسنين‏}‏‏:‏ الموحِّدين الطائعين‏.‏ و«أو» للدلالة على أنها لا تخلو من هذه الأقوال، تحيُّراً وتحسُّراً، وتعليلاً بما لا طائل تحته‏.‏

فردَّ الله عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏بلى قد جاءتك آياتي فكذَّبتَ بها واستكبرتَ وكنتَ من الكافرين‏}‏ أي‏:‏ قد جاءتك آياتي، وبيّنت لك الهدايةَ من الغواية، وسبيلَ الحق من الباطل، فتركت ذلك، وضيعت، واستكبرت عن قبوله، وآثرت الضلالة على الهدى، واشتغلت بضد ما أمرت به، وإنما جاء التضييع من قِبلك، فلا عذر لك‏.‏

و «بلى»‏:‏ جواب لنفي مقدر، وهو نتيجة القياس الاستثنائي، أي‏:‏ لو أن الله هداني لاهتديتُ وكنت متقياً، لكنه لم يهدني، وإنما أخّره؛ لأنه لا بد من حكاية أقوال النفس عى ترتيبها، ثم يذكر الجواب في الجملة‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ واتبعوا أحسن ما أُنزل إليكم، أي‏:‏ خذوا في الجد والاجتهاد في اتباع الأحسن والأرجح، في الأفعال، والأقوال، والعقائد، من قبل أن ينزل بكم العذاب‏.‏ ولا عذاب أشد من الحجاب، والتخلُّف عن مقامات الأحباب، في وقت لا ينفع التأسُّف ولا التحسُّر‏.‏ قال القشيري‏:‏ هذا في أقوامٍ يَرَوْن أمثالَهم وأشكالهم، تقدّموا عليهم في أحوالهم، فشكوا ما سَلَفَ من تقصيرهم، ويَرَوْن ما وُفِّقَ أولئك إليه من أعالي الرتب، فيعضُّون بنواجذ الحسرة على أنامل الخيبة‏.‏ ه‏.‏ وفي ذلك قيل وأنشد‏:‏

السِّباق السِّبَاقَ قَوْلاً وفِعلاً *** حَذِرِ النفسَ حَسْرَةَ المسْبُوقِ

وهو معنى قوله‏:‏ ‏{‏أن تقول نفس‏}‏ كانت مُقصِّرة في الدنيا‏:‏ ‏{‏يا حسرتا على ما فرطتُ في جنب الله‏}‏ أي‏:‏ في السير إلى معرفة ذاته، ‏{‏وإِن كنت لمن الساخرين‏}‏ ممن يتعاطى ذلك، ويخرب ظاهره لتعمير باطنه، فكنت أسخر منه وأضحك عليه، أو تحتج بالقدر، فتقول‏:‏ لو أن الله هداني لسلوك طريقه لكنت من المتقين الكاملين في التقوى‏.‏ ولا ينفع الاحتجاج بالقدر في دار التكليف مع بيان الطريق‏.‏ أو تقول حين ترى العذاب، وهو فراق الأحباب والتخلُّف عنهم‏:‏ لو أن لي كرة إلى الدنيا، فأجهد نفسي حتى أكون من أهل الإحسان، الذين يعبدون الله على العيان، بلى قد جاءتك آياتي، وهم الدعاة إليَّ في كل زمان ‏{‏ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها‏}‏، فكذَّبتَ بها، واستكبرتَ عن الخضوع لهم، وكنت من الجاحدين لطريق التربية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏60- 61‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ ‏(‏60‏)‏ وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏61‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ويومَ القيامة ترى الذين كَذَبوا على الله‏}‏، بأن وصفوه بما لا يليق بشأنه، كاتخاذ الولد والشريك ونفي الصفات عنه، ‏{‏وجُوهُهُم مسودةٌ‏}‏ بما ينالهم من الشدة والكآبة‏.‏ والجملة‏:‏ حال، على أن الرؤية بصرية، أو‏:‏ مفعول ثان لها، إن كانت علمية‏.‏ ‏{‏أليس في جهنم مَثْوىً‏}‏ أي‏:‏ مقام ‏{‏للمتكبرين‏}‏ عن الإيمان والطاعة، وهو إشارة إلى قوله‏:‏ ‏{‏واستكبرت‏}‏، ولا ينافي إشعاره بأن تكبرهم علة لاستحقاقهم النار أن يكون دخولهم فيها؛ لأجل أن كلمة العذاب حقَّتْ عليهم؛ لأن كبرهم مسبب عنها‏.‏

‏{‏ويُنجِّي اللهُ الذين اتَّقَوا‏}‏ الشرك والمعاصي، أي‏:‏ من جهنم‏.‏ ‏{‏بمفازتهم‏}‏‏:‏ بفوزهم، مصدر ميمي، يقال‏:‏ فاز بالمطلوب‏:‏ ظفر به، والباء متعلقة بمحذوف، حال من الموصول، مفيدة لمقارنة نجاتهم من العذاب بنيل الثواب، أي‏:‏ ينجيهم الله من مثوى المتكبرين ملتبسين بفوزهم بمطلوبهم أو‏:‏ بسبب فوزهم بالإيمان والأعمال الحسنة في الدنيا، ولذا قرأ ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ «بمفازتهم بالأعمال الحسنة»‏.‏ قال القشيري‏:‏ كما وَقَاهم اليومَ من المخالفات، وحماهم، فكذلك غداً عن العقوبة وقاهم، فالمتقون فازوا بسعادة الدارين، اليومَ عصمة، وغداً نعمة، واليومَ عناية، وغداً كفاية‏.‏ ه‏.‏

‏{‏لا يمسُّهُم السوءُ ولا هم يحزنون‏}‏‏:‏ إما حال أخرى من الموصول، أو‏:‏ من مفازتهم وقيل‏:‏ تفسير للمفازة، كأنه قيل‏:‏ وما مفازتهم‏؟‏ فقيل‏:‏ لا يمسهم السوء، أي‏:‏ ينجيهم بنفي السوء والحُزن عنهم، فلا يمس أبدانَهم سوء، ولا قلوبَهم حزن‏.‏

الإشارة‏:‏ ويوم القيامة ترى الذين كَذَبوا على الله، بالدعاوى الباطلة، من القلوب الخاوية، فكل مَن ادعى حالاً ليست فيه، أو‏:‏ مرتبة لم يتحققها، فالآية تجر ذيلها عليه، واسوداد وجوههم بافتضاحهم‏.‏

قال القشيري‏:‏ هؤلاء الذين ادَّعوا أحوالاً، ولم يَصْدُقُوا فيها، وأظهروا المحبةَ لله، ولم يتحققوا بها، وكفى بهم ذلك افتضاحاً، وأنشدوا‏:‏

ولما ادَّعَيْتُ الحُبَّ قالت‏:‏ كَذَبْتَني *** فما لي أرى الأعضاء منك كواسيا‏؟‏

فما الحُبُّ حتى تنزفَ العينُ بالبكا *** وتخرسَ حتى لا تجيب المناديا

وينجي الله الذين اتقوا شهود السِّوى من كل مكروه، بسبب مفازتهم بمعرفة الله في الدنيا، لا يمسهم السوء، أي‏:‏ غم الحجاب، لرفعه عنهم على الدوام، ولا هم يحزنون على فوات شيء؛ إذ لم يفتهم شيء؛ حيث فازوا بالله، «ماذا فَقَد من وجدك»‏؟‏

قال الورتجبي‏:‏ بمفازتهم‏:‏ ما كان لهم في الله في أزل أزله، من محبتهم، وقبولهم بمعرفته، وحسن وصاله، ودوام شهود كماله‏.‏ لا يمسهم السوء‏:‏ لا يلحقهم، فلا يلحق بهم في منازل الامتحان، تفرقة عن مقام الوصلة، وحجاب عن جمال المشاهدة، انظر تمامه‏.‏ وحاصله‏:‏ فازوا بإدراك السعادة الأزلية‏.‏ وعن جعفر الصادق‏:‏ بمفازتهم‏:‏ بسعادتهم القديمة، يعني لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 101‏]‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ الآية‏.‏ قاله المحشي الفاسي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏62- 66‏]‏

‏{‏اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ‏(‏62‏)‏ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏63‏)‏ قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ ‏(‏64‏)‏ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏65‏)‏ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ‏(‏66‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏اللهُ خالقُ كُلّ شيءٍ‏}‏‏:‏ جامد أو حي، خير أو شر، إيمان أو كفر، لا بالجبر، بل بمباشرة الكاسب في عالَم الحكمة، وفيه إثبات القدرة والعلم، وهما مصححان للبعث والجزاء بالخير والشر، لمحسن أو مسيء‏.‏ قال القشيري‏:‏ ويدخل تحت قوله‏:‏ ‏{‏كل شيء‏}‏ كسبُ العباد، ولا يدخل كلامُه؛ لأن المخاطِبَ لا يدخل تحت خطابه ولا صفاته‏.‏ ه‏.‏ والمراد بالكلام‏:‏ المعاني القديمة، وأما الألفاظ والحروف فهي مخلوقة، كما هو مقرر في محله‏.‏ ‏{‏وهو على كل شيءٍ وكيل‏}‏ أي‏:‏ حافظ يتولى التصرُّف فيه كيف يشاء‏.‏

‏{‏له مقاليدُ السماواتِ والأرضِ‏}‏ أي‏:‏ مفاتح خزائنها، واحدها «مِقْليد»، أو‏:‏ إقليد، أو‏:‏ لا واحد لها، وأصلها فارسية، والمراد‏:‏ أنه مالكها وحافظها، وهو من باب الكناية؛ لأن حافظ الخزائن ومدبّر أمرها هو الذي يملك مقاليدها، ومنه قولهم‏:‏ فلان ألقيتْ إليه مقاليد الملك، أي‏:‏ مفاتح التصرف قد سُلّمت إليه، وفيه مزيد دلالة على الاستقلال والاستبداد؛ لأن الخزائن لا يدخلها ولا يتصرف فيها إلا مَن بيده مفاتحها‏.‏

وعن عثمان‏:‏ أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المقاليد، فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «هي لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله وبحمده، أستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، هو الأول والآخر، والظاهر والباطن، بيده الخير، يُحيي ويُميت وهو على كل شيء قدير» ومعناه‏:‏ أن لله هذه الكلمات، يُوحّد بها ويُمجّد، وهي مفاتحُ خير السماوات والأرض، ومَن تكلّم بها أدرك ذلك في الدنيا أو في الآخرة، ومرجعها إلى التحقق بالعبودية في الظاهر، ومعرفة الذات في الباطن، وهما السبب في كل خير، وبهما يدرك العبد التصرُّف في الوجود بأسره، فتأمله‏.‏

‏{‏والذين كفروا بآيات الله‏}‏ أي‏:‏ كفروا به بعد كونه خالق كل شيء، ومتصرفاً في ملكه كيف يشاء، بيده مقاليد العالم العلوي والسفلي، فكفروا بعد هذا بآياته التكوينية، المنصوبة في الآفاق وفي الأنفس، والتنزيلية، التي من جملتها هذه الآيات الناطقة بذلك، ‏{‏أولئك هم الخاسرون‏}‏ خسراناً لا خسرَ وراءه، وقيل‏:‏ هو متصل بقوله‏:‏ ‏{‏ويُنجي الله الذين اتقوا‏}‏، وما بينهما اعتراض‏.‏

‏{‏قُلْ أفغير الله تأمروني أعبدُ أيها الجاهلون‏}‏ به، وكانوا يقولون له‏:‏ أسلِم لبعض آلهتنا نؤمن بإلهك؛ لفرط جهالتهم‏.‏ ‏{‏وغير‏}‏‏:‏ منصوب ب «أعبد»، و‏{‏تأمروني‏}‏‏:‏ اعتراض، أي‏:‏ أتأمروني أعبد غير الله بعد هذا البيان التام‏؟‏ وحذفُ نون الوقاية وإثباتها مدغمة وغير مدغمة، كُلٌّ قُرىء به‏.‏

‏{‏ولقد أُوحيَ إِليك وإِلى الذين من قبِلكَ‏}‏‏:‏ من الأنبياء عليهم السلام‏:‏ ‏{‏لئن أشركتَ لَيَحْبَطنَّ عَمَلُكَ ولَتكُونَنَّ من الخاسرين‏}‏، كلام وراد على طريق الفرض، لتهييج الرسل، وإقناط الكفرة، والإيذان بغاية بشاعة الإشراك وقُبحه، وكونه بحيث يُنهي عنه مَن لا يكاد يمكن أن يباشره بمَن عداه أو‏:‏ الخطاب له، والمراد غيره‏.‏

وإفراد الخطاب مع كون الموحَى إليهم جماعة، باعتبار خطاب كل واحد في عصره، واللام موطئة لقسم محذوف، والثانية لام الجواب، وهو سادّ مسدّ جواب الشرط، وإطلاق الإحباط لاحتمال أن يكون من خصائصهم؛ لأن الإشراك منهم أشد، وأن يكون مقيداً بالموت، كما صرح به في آية البقرة، وهو مذهب الشافعي، وذهب مالك إلى أن الشرك يُحبط العمل قبل الردة، مات عليها، أو رجع إلى الإسلام، فينتقض وضوؤه وصومُه‏.‏ وما قاله الشافعي أظهر‏.‏

‏{‏بل اللهَ فاعبُدْ‏}‏، رد لما أمروه به من عبادة آلهتهم، كأنه قال‏:‏ لا تعبد ما أمروك بعبادته؛ بل إذا عبدت فاعبد الله، فحذف الشرط، وأقيم تقديم المفعول مقامه‏.‏ ‏{‏وكن من الشاكرين‏}‏ على ما أنعم به عليك؛ حيث جعلك رأس الموحدين وسيد المرسلين‏.‏

الإشارة‏:‏ الله مُظهر كل شيء؛ حيث تجلّى بها، وهو قائم بكل شيء‏.‏ له مفاتيح غيوب السماوات والأرض، لا يطلعَ عليها إلا مَن خضع لأوليائه، الذين هم آيات من آياته‏.‏ والذين كفروا بآيات الله، الدالة على الله، وهم أولياء الله، أولئك هم الخاسرون، فلا خسران أعظم من خيبة الوصول؛ إذ لا يخلو المفروق عن الله من الشرك الخفي، فإذا أُمر المريد بإظهار شيء من سره، أو مداهنة غيره، قال‏:‏ ‏{‏أفغير الله تأمروني أعبدُ أيها الجاهلون‏}‏‏.‏ ‏{‏ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت‏}‏ بأن طالعت غيري في سرك، أو تشوّفت أن يعلم الناس بخصوصيتك ‏{‏ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد‏}‏ واكتفِ به، واقنع بعلمه، واغتنِ بشهوده‏.‏ ‏{‏وكن من الشاكرين‏}‏ على ما أولاك من سر خصوصيته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏67- 67‏]‏

‏{‏وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏67‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وما قَدرُوا اللهَ حقَّ قَدْرِه‏}‏ أي‏:‏ ما عظَّموه حق تعظيمه؛ حيث جعلوا له شريكاً، أو وصفوه بما لا يليق بشؤونه الجليلة، أو‏:‏ حيث دعوك إلى عبادة غيره تعالى، أو‏:‏ ما عرفوه حق معرفته، حيث لم يؤمنوا بقدرة الله تعالى‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ فمَن آمن أن الله على كل شيء قدير، فقد قدر الله حق قدره‏.‏ يقال‏:‏ قدرت الشيء‏:‏ إذا حزرته لتعرف مبْلغه، والقدر‏:‏ المقدار‏.‏ والضمير، إما لقريش، المحدث عنهم، وقيل‏:‏ لليهود، حيث تكلّموا في صفات الله تعالى، فألحدوا وجسّموا‏.‏

ثم بيَّن لهم شيئاً من عظمته تعالى، فقال‏:‏ ‏{‏والأرضُ جميعاً قبضَتُه يومَ القيامةِ والسماواتُ مطويات بيمينهِ‏}‏‏:‏ ف «جميعاً»‏:‏ حال من الأرض؛ لأنه بمعنى الأرضين، أي‏:‏ والأرضون جميعاً مقبوضة له بقدرته يوم القيامة‏.‏ ‏{‏والسماوات مطويات بيمينه‏}‏ أي‏:‏ بقدرته‏.‏ والقبضة‏:‏ المرة من القبض، والقُبْضة‏:‏ المقدار المقبوض بالكف، والمراد من الكلام‏:‏ تصوير عظمته تعالى، والتوقيف على كنه جلاله، وأن تخريب هذا العالم هو عليه شيء هين، على طريقة التمثيل والتخييل، من غير اعتبار القبضة واليمين حقيقة، ولا مجازاً، هكذا قال جمهور المفسرين‏.‏

قلت‏:‏ لا يبعد أن تحمل الآية على ظاهرها، فإن الله تعالى يُبدل الأرض ويجمعها بأجمعها، فتكون كخبزة النقي، ويطوي السماء كطي الكتاب، حتى يبرز العرش، كما في الحديث، ففي حديث البخاري، عن أبي سعيد الخدري، قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «تكون الأرضُ يومَ القيامة خبزةً واحدةً، يتكفؤُها الجبارُ بيده، كما يتكفؤُ أحدُكم خُبْزَته في السفر، نُزُلاً لأهل الجنة» وفي حديث أبي هريرة‏:‏ «إن الله يقبض الأرض، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول‏:‏ أنا الملك، أين ملوك الأرض»‏.‏

وقال ابن عمر‏:‏ رأيت النبي صلى الله عليه وسلم قائماً على المنبر، وهو يحكي عن ربه تعالى، فقال‏:‏ «إن الله تعالى إذا كان يوم القيامة، جمع السماوات والأرضين السبع في قبضته، ثم قال هكذا، وشدّ قبضته، ثم بسطها، ثم يقول‏:‏ أنا الله، أنا الرحمن‏.‏‏.‏‏.‏» الحديث‏.‏ وفي لفظ آخر‏:‏ «يطوي الله السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول‏:‏ أنا لملك، أين الجبارون أين المتكبرون‏؟‏» وقال ابن عباس في تفسير هذه الآية‏:‏ «كل ذلك في يمينه، وليس في يده الأخرى شيء، وإنما يستعين بشماله المشغولُ بيمينه، وما السماوات السبع، والأرضون السبع، في يد الله تعالى، إلا كخردلة في يد أحدكم، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏مطويات بيَمينِهِ‏}‏‏:‏ يعني السماوات والأرضين كلها بيمينه» قلت‏:‏ من كَحل عين بصيرته بإثمد التوحيد الخاص، لا تصعب عليه هذه الأمور؛ إذ تجليات الحق لا تنحصر، فيمكن أن يتجلى من نور جبروته بنور يشاكل الآدمي في الأعضاء كلها، فيكون له ذات لها يدان وقدمان، وبه ورد أن الله يضع قدمه على النار، فتقول‏:‏ قط قط، ويكشف عن ساقه لأهل الموقف، ويتقدمهم للجنة، إلى غير ذلك مما ورد في الحديث‏.‏

ولا يلزم من ذلك حصر ولا تجسيم، إنما هي تجليات للذات الكلية المطلقة، ولا يفهم هذا إلا أهل الفناء والبقاء من العارفين، فسلِّم تسلَم‏.‏

‏{‏سبحانه وتعالى عما يشركون‏}‏ أي‏:‏ تنزيهاً عظيماً لمَن هذه قدرته وشأنه عما يضاف إليه من الشركاء، أي‏:‏ ما أبعد من هذا شأنه عن إشراكهم‏!‏

الإشارة‏:‏ ما عرف لله حق معرفته مَن أثبت الكائنات معه، وهي ممحوة بأحدية ذاته، لا وجود لها معه على التحقيق، فالأرض قبضة أسرار ذاته، والسماوات محيطاتُ أفلاك أنواره، وبحر الذات مطبق على الجميع، ماحٍ للكل، وأنشدوا‏:‏

فالكلُّ دونَ اللهِ إِنْ حققتَه *** عدمٌ على التفصيل والإجمالِ

واعلمْ بأنك والعوالِمَ كلَّها *** لولاه في محوٍ وفي اضمحلالِ

مَن لا وجودَ لذاتِه من ذاتِه *** فوجودُه لولاه عينُ مُحالِ

وقال آخر‏:‏

مَن أَبْصَرَ الخلقَ كالسَّراب *** فقد تَرَقَّى عن الحِجَابِ

إِلى وُجودٍ تراه رَتْقاً *** بلا ابتعادٍ ولا اقْترابِ

تفسير الآيات رقم ‏[‏68- 70‏]‏

‏{‏وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ ‏(‏68‏)‏ وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏69‏)‏ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ ‏(‏70‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ونُفخ في الصُّورِ‏}‏ النفخة الأولى ‏{‏فصَعِقَ مَنْ في السماوات ومَنْ في الأرض‏}‏ أي‏:‏ خرّ ميتاً، أو مغشياً عليه، ‏{‏إِلا مَن شاء اللهُ‏}‏ قيل‏:‏ جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت، ثم يُميتهم الله بعد ذلك، وقيل‏:‏ حمَلَة العرش، وقيل‏:‏ خزَنة النار والجنة‏.‏

‏{‏ثم نُفخ فيه أُخرى‏}‏ هي النفخة الثانية‏.‏ و«أخرى»‏:‏ في محل الرفع صفة لمحذوف، أي‏:‏ نفخ نفخة أخرى، ‏{‏فإِذا هم قيام‏}‏ من قبورهم، حال كونهم إذا فاجأهم خطب ‏{‏ينظرون‏}‏؛ يُقلبون أبصارهم في الجوانب الأربعة، كالمبهوتين، أو‏:‏ ينظرون ما يفعل بهم، ودلت الآية على أن النفخة اثنتان؛ للموت، والبعث، وقيل‏:‏ ثلاث؛ للفزع، والموت، والبعث‏.‏

‏{‏وأشرقت الأرضُ‏}‏؛ أضاءت ‏{‏بنور ربها‏}‏ حين يتجلّى لفصل عباده، فتُشرق الأرض أي‏:‏ عرَصَات القيامة بنور وجهه، ويقال‏:‏ إن الله يخلق في القيامة نوراً يلبسه وجهَ الأرض، فتشرق به‏.‏ قال في الحاشية الفاسية‏:‏ وهذا القول هو الذي اختاره محيي السنة، وانتصر له الطيبي، بما ورد من الأحاديث المقتضية لرؤيته في عرصات القيامة، قال‏:‏ وما تعسف الزمخشري، من حمل النور على العدل، إلا فراراً من ذلك‏.‏ ه‏.‏ قال القشيري‏:‏ هو نور يخلقه في القيامة، عند تكوير الشمس، وانكدار النجوم، ويستضيء به قومٌ دون قوم، والكفارُ يَبْقَون في الظلمة، والمؤمنون‏:‏ ‏{‏يَسْعَى نُورُهُم‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 12‏]‏ الآية‏.‏ ويقال‏:‏ غداً إشراق الأرض، واليوم إشراق القلب، غداً أنوار التولي، واليوم أنوار التجلي‏.‏ ه‏.‏

وقال السدي‏:‏ بعدله، على الاستعارة، يقال للملك العادل‏:‏ أشرقت الأرض بعدله، كما استعيرت الظلمة للظُلم‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «الظلم ظلمات يوم القيامة»‏.‏

‏{‏ووُضِع الكتابُ‏}‏ أي‏:‏ صحائف الأعمال‏.‏ اكتفى باسم الجنس، أو‏:‏ كتاب المحاسبة والجزاء‏.‏ ‏{‏وجيء بالنبيين‏}‏ ليسألهم ربهم عما أجابتهم به أممهم، ‏{‏والشهداء‏}‏ أي‏:‏ الحفظة، ليشهدوا على كل إنسان بما عمل، والذين يشهدون للرسل بتبليغ الرسالة إذا جحدتهم أممهم، أو‏:‏ الذين استُشهدوا في سبيل الله‏.‏ ‏{‏وقُضِيَ بينهم‏}‏‏:‏ بين العباد ‏{‏بالحق وهم لا يُظلَمُون‏}‏ بنقص ثواب، أو زيادة عقاب، قال ابن عطية‏:‏ الضمير في ‏{‏بينهم‏}‏ عائد على العالم بأجمعه‏.‏ ه‏.‏ فيقتضي دخول الملائكة، ويتصور القضاء في حقهم، من حيث جعلوا حفظة على العباد، وأمناء على الوحي والتبليغ، وغير ذلك من ترتيبهم في مقاماتهم، وترقيهم في علومهم، وتفاوتهم في ذلك‏.‏ وفي وجوه تخصيصاتهم وتصديقهم في التبليغ، ورد ما استندوا فيه لظواهر الأمور، مع علمه تعالى خلافه، مما لا اطلاعَ لهم عليه‏.‏ قاله في الحاشية‏.‏

‏{‏ووُفِّيت كلُّ نفسٍ‏}‏ جزاء ‏{‏ما عملَتْ وهو أعلم بما يفعلون‏}‏ فلا يفوته شيء من أفعالهم‏.‏ ومضمون الآية‏:‏ تصوير التعرُّض للقضاء بين العباد على ما هو شأن الملك، من إحضار الشهود وخواص حضرته، حين يبرز لذلك، ويشهده الظالم والمظلوم، وإن كان كنه معرفته موكولاً إليه، ثم من لوازم ذلك العدل‏.‏

والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ في الآية إشارة للفناء والبقاء، فيصعق العبد عن رؤية وجوده، ثم يبقى بربه، فتشرق أرض البشرية بنور وجود الحق، ثم يشرق العالم كله‏.‏ قال الورتجبي‏:‏ نفخة الصعق قهرية جلالية، ونفخة البعث ظهور أنوار جماله في أنوار جلاله، وبذلك ينتظر وقوع نور الكشف بقوله‏:‏ ‏{‏وأشرقت الأرضُ بنور ربها‏}‏ فيتجلّى للخواص، ثم تستضيء بأنوارهم أرض المحشر، للعموم والخصوص، تعالت صفاته عن أن تقع على الأماكن، أو أن يكون محلاًّ للحدثان، يا عاقل، لا تكون ذرة من العرش إلى الثرى إلا وهي مستغرقة في أنوار إشراق آزاله وآباده‏.‏ ثم قال عن بعضهم‏:‏ ‏(‏إلا مَن شاء الله‏)‏ هم أهل التمكين، مكّن الله أسرارهم من تحمُّل الواردات‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏71- 72‏]‏

‏{‏وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ ‏(‏71‏)‏ قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ‏(‏72‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وسيق الذين كفروا إلى جهنم زُمراً‏}‏ أي‏:‏ تسوقهم الزبانية بالعنف والإهانة، كما تساق الأسارى والخارجين على السلطان، إذا سيقوا للقتل أو السجن، فتسوقهم الزبانية إلى جهنم أفواجاً متفرقة، بعضها إثر بعض، حسب ترتُّب طبقاتهم في الضلالة والشرارة، والزمر‏:‏ جمع زمرة، أي‏:‏ الجماعة، واشتقاقها من الزمر، أي‏:‏ الصوت‏.‏ والجماعة لا تخلو عنه‏.‏

‏{‏حتى إذا جاؤوها فُتِحَتْ أبوابها‏}‏ ليدخلوها، وهي سبعة، ‏{‏وقال لهم خزنتُها‏}‏ تقريعاً وتوبيخاً‏:‏ ‏{‏ألم يأتكم رسلٌ منكم‏}‏؛ من جنسكم‏.‏ وقرىء‏:‏ «نُذُر منكم»، ‏{‏يتلون عليكم آياتِ ربكم ويُنذرونكم لقاء يومكم هذا‏}‏ أي‏:‏ وقتكم هذا، وهو وقت دخولهم النار‏.‏ وفيه دليل على أنه لا تكليف قبل الشرع، من حيث إنهم علّلوا توبيخهم بإتيان الرسل وتبليغ الكتب‏.‏ ‏{‏قالوا بلى‏}‏ قد أتونا وأنذرونا، ‏{‏ولكن حقتْ كلمةُ العذاب على الكافرين‏}‏ أي‏:‏ ولكن وجبت علينا كلمة الله‏:‏ ‏{‏لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 119‏]‏ بسوء أعمالنا حيث كذَّبنا، وقلنا ما نزّل الله من شيء، إن أنتم إلا تكذبون‏.‏ ‏{‏قيل ادخلوا أبوابَ جهنمَ خالدين فيها‏}‏ أي‏:‏ مقدرين الخلود، ‏{‏فبئس مثوى المتكبرين‏}‏، اللام للجنس، والمخصوص محذوف، أي‏:‏ بئس مثوى المتكبرين جهنم، وتكبرهم مسبب عن استحقاق كلمة العذاب عليهم‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ كل مَن تكبَّر عن أولياء زمانه أهل التربية حتى مات محجوباً عن شهود الحق، يلحقه التوبيخ بلسان الحال، فيقال له‏:‏ ألم يأتكم رسل من أولياء زمانكم، يعرفون بنا في كل زمان‏؟‏ فيقولون‏:‏ بلى، ولكن حقت علينا كلمة الحجاب، فيخلدون في القطيعة والحجاب، إلا في وقت مخصوص، وبالله التوفيق‏.‏