فصل: تفسير الآيات رقم (51- 52)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 52‏]‏

‏{‏إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ‏(‏51‏)‏ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ‏(‏52‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إِنَّا لَننصرُ رُسُلَنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا‏}‏ بالحجّة والظفر، والانتقام لهم من الكفرة، بالاستئصال، والقتل، والسبي، وغير ذلك من العقوبات‏.‏ ولا يقدح في ذلك ما يتفق لهم من صورة الغلبة، امتحاناً؛ إذ الحكم للغالب، وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 171‏]‏ الآية، وقوله‏:‏ ‏{‏كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 21‏]‏‏.‏ والنصر في الدنيا إما بالسيف، في حق مَن أمر بالجهاد، أو‏:‏ بالحجة والإهلاك فيمن لم يؤثر به، وبذلك يندفع قول مَن زعم تخصيص الآية أو تعميمها، وإخراجَ زكريا ويحيى من الرسالة، وإنْ ثبت لهما النبوة لقتلهما، وأن الآية، إنما تضمنت نصر الرسل دون الأنبياء، فإنه خلاف لما صرّح به الجمهور من ثبوت الرسالة ليحيى، ففي كلام ابن جزي هنا نظر‏.‏ قاله المحشي‏.‏

‏{‏ويومَ يقومُ الأشهادُ‏}‏ أي‏:‏ وننصرهم يوم القيامة، عبَّر عنه بذلك للإشعار بكيفية النصرة، وأنها تكون حين يجتمع الأولون والآخرون، ويحضره الأشهاد من الملائكة وغيرهم، فيشهدون للأنبياء بالتبليغ، وعلى الكفرة بالتكذيب‏.‏ قال النسفي‏:‏ الأشهاد جمع شاهد، كصاحب وأصحاب، يريد‏:‏ الأنبياء والحفظة، فالأنبياء يشهدون عند رب العزة على الكفرة بالتكذيب، والحفظة يشهدون على بني آدم‏.‏ ه‏.‏

‏{‏يوم لا ينفعُ الظالمين معذرتُهم‏}‏‏:‏ هو بدل من ‏{‏يوم يقوم‏}‏ أي‏:‏ لا يقبل عذرهم، ومَن قرأ بالتأنيث فباعتبار لفظ المعذرة، ‏{‏ولهم اللعنةُ‏}‏ أي‏:‏ البُعد من الرحمة، ‏{‏ولهم سوءُ الدار‏}‏ أي‏:‏ سوء دار الآخرة، وهو عذابها‏.‏

الأشارة‏:‏ كما نُصرت الرسل بعد الامتحان، نُصرت الأولياء بعد الامتحان والامتكان‏.‏ قال الشاذلي رضي الله عنه‏:‏ اللهم إنَّ القوم قد حكمت عليهم بالذُل ّ حتى عزوا‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏ وهم داخلون في قوله‏:‏ ‏{‏والذين آمنوا في الحياة الدنيا‏}‏، ونصرتهم تكون أولاً بالظفر بنفوسهم، ثم بالغيبة عن حس الكائنات، باتساع دائرة المعاني، ثم بالتصرف في الوجود بأسره بهمته‏.‏ قال القشيري‏:‏ ويقال‏:‏ ينصرهم على أعدائهم بلطف خفيّ، وكيد غير مرئيّ، من حيث يحتسب أو لا يحتسب، كما ينصرهم في الدنيا على تحقيق المعرفة، واليقين بأنَّ الكائنات من الله‏.‏ ثم قال‏:‏ غاية النصرة أن يَقتُلَ الناصرُ عدوَّ مَنْ ينصره، فإذا رآه حقق له أنه لا عَدُو له في الحقيقة، وأنَّ الخلق أشباحٌ، وتجري عليهم أحكام القدرة، فالولِيُّ لا عدوَّ له ولا صديق، ليس له إلا الله‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 257‏]‏ ه‏.‏ والنصر في الحقيقة هو التأييد عند التعرفات، فإذا ابتلي الرسول أو الولي أيّده الله باليقين، ونصره بالمعرفة، فيلقي ما ينزل عليه بالرضا والتسليم، وتذكَّر ما لقي به الشاذلي حين دعا بالسلامة مما ابتلي به الرسل، متعللاً بأنهم أقوى، فقيل له‏:‏ قل‏:‏ وما أردتَ من شيء فأيِّدنا كما أيدتهم‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏53- 56‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ ‏(‏53‏)‏ هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ ‏(‏54‏)‏ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ‏(‏55‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ‏(‏56‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ولقد آتينا موسى الهدى‏}‏؛ ما يهتدي به من المعجزات، أو الشرائع والصُحف‏.‏ ‏{‏وأورثنا بني إِسرائيل الكتابَ‏}‏ أي‏:‏ تركنا فيهم التوراة، يرثه بعضهم من بعض، أو‏:‏ جنس الكتاب، فيصدق بالتوراة والإنجيل والزبور؛ لأنَّ المنزَّل عليه منهم‏.‏ قال الطيبي‏:‏ فيه إشارة إلى أن ميراث الأنبياء ليس إلا العلم والكتاب الهادي، الناطق بالحكمة والموعظة‏.‏ ه‏.‏ حال كون الكتاب ‏{‏هُدًى وذكرى‏}‏ أي‏:‏ هادياً ومُذكِّراً، أو‏:‏ إرشاداً وتذكرة ‏{‏لأولي الألبابِ‏}‏؛ لأولي العقول الصافية، العالِمين بما فيه، العاملين به‏.‏

‏{‏فاصبرْ إِنَّ وَعْدَ الله حقٌّ‏}‏ أي‏:‏ فاصبر على ما يُجرّعك قومك من الغُصَص ‏{‏إِنَّ وعد الله‏}‏ بنصرك وإعلاء دينك، على ما نطق به قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 171 173‏]‏، ‏{‏حقٌّ‏}‏ لا يحتمل الاختلاف بحال‏.‏ قال الطيبي‏:‏ الآية تشير إلى نصره على أعدائه، كموسى، وأنه يظهر دينه على الدين كله، ويورث كتابه؛ ليعتصموا به، فيكون لهم هُدًى وذكرى، وعزّاً وشرفاً‏.‏ ه‏.‏ أي‏:‏ ولذلك قدّم ذكر موسى على بشارته بالنصر؛ ليتم التشبيه‏.‏

‏{‏واستغفر لذنبك‏}‏، تشريعاً لأمتك؛ فإِنَّ الاستغفار يمحو الذنوب التي تعوق عن النصر، أو‏:‏ تداركاً لِمَا فرط منك من ترك الأَوْلَى في بعض الأحايين، فإِنَّ حسنات الأبرار سيئات المقربين‏.‏ والحاصل‏:‏ أن كل مقام له ذنب يليق به، وهو التقصير في القيام به على ما يليق به، فالنبي صلى الله عليه وسلم كُلف بدوام الشهود ولو في حال التعليم، فإذا غاب عن الحق لحظة بشغل البال بالتعليم، كان في حقه نقصاً يُوجب الاستغفار‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وسبّحْ بحمد ربك بالعشيّ والإِبكار‏}‏ أي‏:‏ دُم على التسبيح ملتبساً بحمده، أي‏:‏ قل‏:‏ سبحان الله وبحمده، أو‏:‏ صَلّ في هذين الوقتين، إذ كان الواجب بمكة ركعتين بكرة وعشيّاً، وقيل‏:‏ هما صلاة العصر والفجر، خصصهما لشرفهما‏.‏

‏{‏إِنَّ الذين يُجادلون في آياتِ الله‏}‏ ويجحدونها ‏{‏بغير سُلطانٍ‏}‏؛ برهان ‏{‏أتاهُم‏}‏ من جهته تعالى، بل عناداً وحسداً‏.‏ وتعليق المجادلة بذلك، مع استحالة إتيانه؛ للإيذان بأن التكلم في أمر الدين لا بد من استناده إلى برهان، وهذا عام لكل مجادل، محق أو مبطل، وإن نزل في مشركي مكة‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إِن في صُدورِهم إِلا كِبْرٌ‏}‏‏:‏ خبر «إِنْ»، أي‏:‏ ما في قلوبهم إلا تكبُّر عن الحق، وتعاظم عنه، وهو إرادةُ التقدم والرئاسة، وألا يكون أحدٌ فوقهم، فلذلك عادوك، ودفعوا آياتك، خيفة أن تتقدمهم، ويكونوا تحت قهرك؛ لأن النبوة تحتها كُل ملك ورئاسة، أو‏:‏ إرادة أن تكون لهم النبوة دونك، حسداً وبغياً، كقولهم‏:‏ ‏{‏لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 31‏]‏، ‏{‏لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ‏}‏

‏[‏الأحقاف‏:‏ 11‏]‏‏.‏

ثم وصف كِبْرَهم بقوله‏:‏ ‏{‏ما هم ببالغِيه‏}‏ أي‏:‏ ما هم ببالغي موجب ذلك الكبر ومقتضاه، وهو ما أرادوه من التقدُّم والرئاسة، وقيل‏:‏ نزلت في اليهود، وهم المجادلون، كانوا يقولون‏:‏ لست صاحبنا المذكور في التوراة، بل هو المسيح ابن داود، يعنون الدجال، يخرج في آخر الزمان، فيبلغ سلطانه البر والبحر، وتسير معه الأنهار، وهو آية من آيات الله، فيرجع إلينا المُلك فسمى الله تمنيهم بذلك كِبْراً، ونفى أن يبلغوا متمناهم‏.‏ ‏{‏فاستعذ بالله‏}‏؛ فالتجىء إليه من كبد مَن يحسدك، ويبغي عليك، ‏{‏إِنه هو السميعُ‏}‏ لِمَا تقول ويقولون، ‏{‏البصير‏}‏ بما تعمل ويعملون، فهو ناصرك عليهم، وعاصمك من شرهم‏.‏

الإشارة‏:‏ فاصبر أيها المتوجه إلى الله، إنَّ وعد الله بالفتح حق إن صبرت، وكابدت ولم تملّ، واستغفر لذنبك، وتطهرْ من عيبك، لتدخل حضرة ربك‏.‏ قال الورتجبي‏:‏ «واستغفر لذنبك» أي‏:‏ لما جرى على قلبك من الأحكام البشرية، وأيضاً‏:‏ استغفر لرؤية وجودك في وجود الحق، فإنَّ كون الحادث في وجود القديم ذنب في إفراد القدم من الحدوث‏.‏ انظر تمامه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وسبّح‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ، فيه الحث على التوجُّه إلى الله في هذين الوقتين، فإن العبرة بالافتتاح والاختتام، فمَن فتح يومه بخير، وختمه بخير، حكم على بينهما‏.‏ وقال في أهل الإنكار‏:‏ ‏{‏إِن الذين يُجادلون في آيات الله‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، فاستعذ بالله منهم، وغِبْ عنهم بإقبالك على مولاك‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏57- 59‏]‏

‏{‏لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏57‏)‏ وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ ‏(‏58‏)‏ إِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏لَخلقُ السماوات والأرض أكبرُ من خلقِ الناسِ‏}‏، فمَن قدر على اختراع هذه الأجرام مع عظمها كان على اختراع الإنسان بعد موته؛ وبعثه مع مهانته؛ أقدر، ‏{‏ولكن أكثرَ الناس لا يعلمون‏}‏ ذلك؛ لأنهم لا يتفكرون؛ لغلبة الغفلة عليهم، وعمى بصيرتهم‏.‏

‏{‏وما يستوي الأعمى والبصيرُ‏}‏ أي‏:‏ الغافل والمستبصر، ‏{‏ولا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيءُ‏}‏؛ ولا يستوي المحسن والمسيء، فلا بد أن تكون لهم حال أخرى، يظهر فيها ما بين الفريقين من التفاوت، وهي فيما بعد البعث، فيرتفع المستبصر المحسن في أعلى عليين، ويسقط الغافل المسيء في أسفل سافلين‏.‏ وزيادة «لا» في المسيء؛ لتأكيد النفي؛ لطول الكلام بالصلة‏.‏ ‏{‏قليلاً ما يتذكرون‏}‏ أي‏:‏ تذكراً قليلاً يتذكرون‏.‏ وقرىء بالغيبة، والخطاب، على الالتفات‏.‏ ‏{‏إِنَّ الساعة لآتيةٌ لا ريبَ فيها‏}‏؛ لا شك في مجيئها؛ لوضوح دلائلها، وإجماع الرسل على الوعد بوقوعها، ‏{‏ولكنَّ أكثرَ الناسِ لا يؤمنون‏}‏؛ لا يُصدقون بوقوعها؛ لقصور نظرهم على ظواهر ما يحسُّون‏.‏

الإشارة‏:‏ التفكُّر في العوالم العلوية والسُفلية، يُوجب في القلب عظمة الحق جلّ جلاله، وباهر قدرته وحكمته، وإتيان البعث لا محالة؛ لنفوذ القدرة في الجميع‏.‏ وكونُ خلق السموات والأرض أكبر من خلق الإنسان، إنما هو باعتبار الجرم الحسي، وأما باعتبار المعنى؛ فالإنسان أعظم؛ لاشتماله على العوالم كلها، كما قال في المباحث‏:‏

اعْقِلْ فأَنْتَ نُسخةُ الوُجُود *** لله ما أعلاكَ مِن مَوجُود

أَليس فِيكَ العرْشُ والكرسِيُّ *** والعَالَمُ العلويُّ والسُّفليُّ‏؟‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ‏(‏60‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وقال ربُّكُم ادعوني‏}‏ أي‏:‏ اعبدوني ‏{‏أَستجبْ لكم‏}‏ أي‏:‏ أثبكم، ويدل على هذا قوله‏:‏ ‏{‏إِن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنّم داخرين‏}‏؛ صاغرين أذلاء، أو‏:‏ اسألوني أعطكم، على ما أريد، في الوقت الذي أريد‏.‏ قال القشيري‏:‏ والحكمة في أنه أمر بالسؤال قبل الإجابة، وبالاستغفار قبل المغفرة، أنه حكم في اللوح أن يعطيك ذلك الشيء الذي تسأله وإن لم تسأل، ولكن أمر بالسؤال، حتى إذا وجدته تظن أنك وجدته بدعائك، فتفرح به‏.‏

قلت‏:‏ السؤال سبب، والأسباب غطى بها سر قدرته تعالى‏.‏ ثم قال‏:‏ ويقال‏:‏ إذا ثبت أن هذا الخطاب للمؤمنين فما مِن مؤمنٍ يدعو الله، ويسأله شيئاً، إلا أعطاه إياه، إما في الدنيا، وإما في الآخرة‏.‏ حيث يقال له‏:‏ هذا ما طلَبْتَه في الدنيا، وقد ادخرتُه لك إلى هذا اليوم، حتى يَتَمنى العبدُ أنه لم يُعطَ شيئاً في الدنيا‏.‏ ه‏.‏

قلت‏:‏ فالدعاء كله إذاً مستجاب، بوعد القرآن، لكن منه ما يُعجّل، ومنه ما يُؤجّل، ومنه ما يصرف عنه به البلاء، كما في الأثر، وإذا فسر الدعاء بالسؤال كان الاستكبار عنه منزلاً منزلة الاستكبار عن العبادة؛ للمبالغة في الحث عليه‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الدعاء هو العبادة» وقرأ الآية، وفي رواية‏:‏ «مخ العبادة»، وعن ابن عباس‏:‏ «وحَدوني أغفر لكم»، فسَّر الدعاء بالعبادة، والعبادة بالتوحيد‏.‏

الإشارة‏:‏ اختلف الصوفية أيّ الحالين أفضل‏؟‏ هل الدعاء والابتهال، أو السكوت والرضا‏؟‏ والمختار أن ينظر العبد ما يتجلّى فيه قلبه، فإن انشرح للدعاء فهو في حقه أفضل، وإن انقبض عنه، فالسكوت أولى، والغالب على أهل التحقيق من العارفين، الغنى بالله، والاكتفاء بعلمه، كحال الخليل عليه السلام، فإنهم إبراهيميون‏.‏

قال الورتجبي‏:‏ أي‏:‏ ادعوني في زمن الدعاء الذي جعلته خاصّاً لإجابة الدعوة، فادعوني في تلك الأوقات، أستجب لكم؛ فإنَّ وقوع الإجابة فيها حقيقة بلا شك، ومَن لم يعرف أوقات الدعاء، فدعاؤه ترك أدب؛ فإن الدعاء في وقت الاستغفار من قلة معرفة المقامات، فإن السلطان إذا كان غضبان لا يُسأل منه، وإذا كان مستبشراً فيكون زمانه زمن العطاء والكرم‏.‏

قلت‏:‏ هذا في حق الخصوص، الفاهمين عن الله، وأما العموم، فما يناسبهم إلا دوام الدعاء في الرخاء والشدة‏:‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَوْلآ إِذْ جَآءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 43‏]‏ ثم قال عن الورّاق‏:‏ ادعوني على حد الاضطرار والالتجاء، حيث لا يكون لكم مرجع إلى سواي، أستجب لكم‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏61- 65‏]‏

‏{‏اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ‏(‏61‏)‏ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ‏(‏62‏)‏ كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ‏(‏63‏)‏ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ‏(‏64‏)‏ هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏65‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏الله الذي جعلَ لكم الليلَ لتسكنوا فيه‏}‏ بأن خلقه مظلماً بارداً، تقلّ فيه الحركات فتستريح فيه الجوارح، ‏{‏و‏}‏ جعل ‏{‏النهارَ مبصراً‏}‏ أي‏:‏ مبصَراً فيه‏.‏ فأسند الإبصار إلى النهار، مجازاً، والأصل في الحقيقة لأهل النهار‏.‏ وقرن الليل بالمفعول له، والنهار بالحال، ولم يكونا حالين أو مفعولاً لهما؛ رعايةً لحق المقابلة، لأنهما متقابلان معنىً؛ لأن الليل مقابل النهار، فلما تقابلا معنىً تقابلا لفظاً، مع أن كل واحد منهما يؤدي مؤدى الآخر، ولأنه لو قيل‏:‏ لتُبصروا فيه؛ فاتت الفصاحة التي في الإسناد مجازي، ولو قيل‏:‏ «ساكناً» لم تتميز الحقيقة من المجاز، إذ الليل يوصف بالسكون على الحقيقة، ألا ترى إلى قولهم‏:‏ ليل ساج، أي‏:‏ ساكن لا ريحَ فيه‏.‏

‏{‏إِنَّ الله لذو فضلٍ‏}‏ عظيم ‏{‏على الناس‏}‏، حيث تفضَّل عليهم بهذه النعم الجسيمة، وإنما لم يقل‏:‏ المتفضل؛ لأن المراد تكثير الفضل، وأنه فضله لا يوازيه فضل، فالتنكير للتعظيم‏.‏ ‏{‏ولكنَّ أكثرَ الناس لا يشكرون‏}‏؛ لجهلهم بالمنعم، وإغفالهم مواضع النعم‏.‏ وتكرير الناس، ولم يقل‏:‏ أكثرهم؛ لتخصيص الكفران بهم، وأنهم هم الذين من شأنهم الكفران، كقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 66‏]‏‏.‏

‏{‏ذلكمُ الله‏}‏ أي‏:‏ ذلكم المنفرد بالأفعال المقتضية للألوهية، من خلق الليل والنهار؛ هو الله ‏{‏ربكُم‏}‏ لا ربّاً غيره، ‏{‏خالقُ كل شيء لا إِله إِلا هو‏}‏ أخبار مترادفة، أي‏:‏ الجامع لهذه الأوصاف من الإلهية والربوبية، وإيجاد الأشياء، والوحدانية، ‏{‏فأنَّى تُؤفكون‏}‏ أي‏:‏ فكيف، ومِن أيّ وجه تُصرفون عن عبادته إلى عبادة الأوثان‏؟‏‏!‏ ‏{‏كذلك يُؤفك الذين كانوا بآياتِ الله يجحدون‏}‏ أي‏:‏ مثل ذلك الإفك العجيب، الذي لا وجه له، ولا مصحح له أصلاً، يُؤفك كلُّ مَن جحد بآياته تعالى من غير تروٍّ ولا تأمُّل‏.‏

ثم ذكر فضله المتعلق بالمكان، بعد بيان فضله المتعلق بالزمان، فقال‏:‏ ‏{‏الله الذي جعل لكم الأرضَ قراراً‏}‏؛ مستقراً تستقرون عليها بأقدامكم ومساكنكم، ‏{‏والسماء بناءً‏}‏؛ سقفاً فوقكم، كالدنيا بيت سقفه السماء، مزيّناً بالمصابيح، وبساطه الأرض، مشتملة على ما يحتاج إليه أهل البيت‏.‏ ‏{‏وصوَّركم فأحسنَ صُورَكم‏}‏، هذا بيان لفضله المتعلق بالأجسام، أي‏:‏ صوّركم أحسن تصوير، حيث جعلكم مُنتصِبَ القامة، باديَ البشرة، متناسب الأعضاء والتخطيطات، متهيئاً لمناولة الصنائع واكتساب الكمالات‏.‏ قيل‏:‏ لمْ يخلق الله حيواناً أحسن صورة من الإنسان‏.‏ ‏{‏ورزقكم من الطيبات‏}‏ أي‏:‏ اللذائذ، ‏{‏ذلكم الله ربكم‏}‏ أي‏:‏ ذلكم المنعوت بتلك النعوت الجليلة، هو المستحق للربوبية، ‏{‏فتبارك الله‏}‏ أي‏:‏ تعالى بذاته وصفاته ‏{‏ربُّ العالمين‏}‏ أي‏:‏ مالكهم ومربيهم، والكل تحت قدرته مفتقر إليه في إيجاده وإمداده؛ إذ لو انقطع إمداده لانْهَدَ الوجود‏.‏

‏{‏هو الحيُّ‏}‏؛ المنفرد بالحياة الذاتية الحقيقية، ‏{‏لا إِله إِلا هو‏}‏؛ إذْ لا موجود يدانيه في ذاته وصفاته وأفعاله، ‏{‏فادعوه‏}‏؛ فاعبدوه ‏{‏مخلِصين له الدينَ‏}‏ أي‏:‏ الطاعة من الشرك والرياء، وقولوا‏:‏ ‏{‏الحمد لله ربِّ العالمين‏}‏‏.‏

عن ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ مَن قال «لا إله إلا الله» فليقل على إثرها‏:‏ الحمد لله رب العالمين‏.‏

الإشارة‏:‏ الله هو الذي جعل ليل القبض لتسْكنوا فيه عند الله، ونهار البسط لتُبصروا نعم الله، فتشكروا لتبتغوا زيادة فضله، وجعل أرض النفوس قراراً لقيام وظائف العبودية، وسماء الأرواح مرقى لشهود عظمة الربوبية‏.‏ قال القشيري‏:‏ سكونُ الناس بالليل أي‏:‏ الحسي على أقسام‏:‏ فأهل الغفلة يسكنون مع غفلتهم، وأهل المحبة يسكنون بحكم وصلتهم، فشتّان بين سكون غفلةٍ، وسكونِ وصلة، وقومٌ يسكنون إلى أمثالهم وأشكالهم، وقومٌ إلى حلاوة أعمالهم، وبسطهم، واستقبالهم، وقومٌ يعدِمون القرار في ليلهم ونهارهم أي‏:‏ لا يسكنون إلى شيء أولئك أصحابُ الاشتياق، أبداً في الإحراق ه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وصَوَّرَكُم‏}‏ أي‏:‏ صَوَّر أشباحكم، فأحسن صورتها، حيث بهَّجها بأنوار معرفته‏.‏ قال الورتجبي‏:‏ فأحْسن صُوَرَكم بأن ألبستكم أنوار جلالي وجمالي، واتخاذِكم بنفسي، ونفخت من روحي فيكم، الذي أحسن الهياكل مِن حسنه، ومِن عكْس جماله، فإنه مرآة نوري الجلي للأشباح‏.‏ ه‏.‏ قال القشيري‏:‏ خَلَقَ العرشَ والكرسي والسمواتِ والأرض، وجميع المخلوقات، ولم يقل في شيء منها‏:‏ فأحسن صورها، بل قاله لمّا خلق هذا الإنسان، وليس الحَسَنَ ما يستحسنه الناسُ، ولكن الحسنُ ما يستحسنه الحبيبُ، وأنشدوا‏:‏

مَا حَطَّكَ الْوَاشُونَ عَن رُتبةٍ *** عنْدِي، ولاَ ضَرَّكَ مُغْتَابُ

كأَنَّهم أَثْنَوْا ولَمْ يَعْلَمُوا *** عَلَيْكَ عِنْدِيَ بِالَّذِي عَابوا

لم يَقُلْ للشمس في عُلاها، ولا للأقمار في ضيائها‏:‏ ‏(‏فأَحسنَ صُوَرَكم‏)‏ ولما انتهى إلينا قال‏:‏ ‏{‏لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ‏}‏ ‏[‏التين‏:‏ 4‏]‏‏.‏ ثم قال‏:‏ وكما أحسن صُوركم محى من ديوانكم الزلاّت، وأثبت الحسنات، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَمْحُواْ اللهُ مَا يَشَآءُ وُيُثْبِتُ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 39‏]‏ ه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ورزقكم من الطيبات‏}‏ لذيذ المشاهدة، وأنس الوصلة‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هو الحي‏}‏ الحياة عند المتكلمين لا تتعلق بشيء، وعند الصوفية تتعلق بالأشياء؛ إذ لا قيام لها إلا بأسرار معاني ذاته، ومَن تحققت حياته من الأولياء بحياة الله، بحيث كان له نور يمشي به في الناس، كان كل مَن لقيه حييت روحه بمعرفة الله، ولذلك يضم الشيخُ المريدَ إليه، إن رآه لم ينهض حاله، ليسري حاله فيه، يأخذون ذلك من ضم جبريل للنبي عليهما السلام‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏66- 68‏]‏

‏{‏قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏66‏)‏ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏67‏)‏ هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ‏(‏68‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏قُل إِني نُهيتُ أن أعبدَ الذين تدعونَ‏}‏ أي‏:‏ تعبدون ‏{‏من دون الله‏}‏ ولم يكن عَبَدَها قط، ‏{‏لَمَّا جاءنيَ البيناتُ من ربي‏}‏؛ من الحُجَج العقلية، والآيات التنزيلية‏.‏

قال الطيبي‏:‏ معرفة الله تعالى ووحدانيته معلومتان بالعقل، وقد ترد الأدلة العقلية في مضمون السمعية، أما وجوب عبادة الله، وتحريم عبادة الأصنام، فحُكْمٌ شرعي؛ لقوله‏:‏ ‏{‏قل إني نُهيت‏}‏ أي‏:‏ حَرُم عليّ، وهذا إنما يتحقق بعد البعثة، خلافاً للمعتزلة في الإيجاب قبل الشرع، للتحسين والتقبيح، والمعنى‏:‏ أن قضية التقليد تُوجب ما أنتم عليه، ولكني خُصصت بأمر دونكم، كما قال إبراهيم‏:‏ ‏{‏يَآ أَبَتِ إِنِّى قَدْ جَآءَنِى مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 43‏]‏ إلخ كلامه، ‏{‏وأُمرت أن أُسْلِمَ‏}‏، أن أنقاد وأُخلص ديني ‏{‏لربِّ العالمين‏}‏‏.‏

‏{‏هو الذي خلقكم من ترابٍ‏}‏ أي‏:‏ أصلكم، وأنتم في ضمنه، ‏{‏ثم من نطفةٍ‏}‏ أي‏:‏ ثم خلقكم خلقاً تفصيليّاً من نطفة تُمنى، ‏{‏ثم من علقةٍ، ثم يُخرجكم طفلاً‏}‏ أي‏:‏ أطفالاً، واقتصر على الواحدة؛ لأن المرادَ الجنس، ‏{‏ثم لتبلغوا أشُدَّكم‏}‏‏:‏ متعلق بمحذوف، أي‏:‏ ثم يُبقيكم لتبلغوا أشدَّكم، وكذلك ‏{‏ثم لتكونوا شُيوخاً‏}‏، وقيل‏:‏ عطف على محذوف، عِلة ليُخرجكم، ف «يخرجكم» من عطف علة على أخرى، كأنه قيل‏:‏ ثم يخرجكم طفلاً لتكبروا شيئاً فشيئاً، ثم لتبلغوا كمالكم في القوة والعقل، ثم لتكونوا شيوخاً، بكسر الشين وضمها جمع شيخ، وقرىء «شيخاً» كقوله‏:‏ «طفلاً»‏.‏

‏{‏ومنكم مَن يُتوفى من قبلُ‏}‏ عبارة تجري في الأدراج المذكورة، فمِن الناس مَن يموت قبل أن يُخرج طفلاً، وآخرون قبل الأشدّ، وآخرون قبل الشيخوخة‏.‏ ‏{‏ولتبلغوا أجلاً مسمى‏}‏ أي‏:‏ وفعل ذلك لتبلغوا أجلاً مُسمى، أي‏:‏ ليبلغ كل واحد منكم أجلاً مسمى لا يتعداه، وهو أجل موته، ‏{‏ولعلكم تعقلون‏}‏؛ ولكي تعقلوا ما في ذلك من العِبَر، والحجج، وفنون الحِكَم؛ فإنَّ ذلك التدريج البديع يقضي بالقدر السابق، ونفوذ القدرة القاهرة؛ لبُعد ذلك التفاوت، والاختلاف العظيم، عن الطبيعة والعلة، وإنما موجب ذلك سبق الاختيار والمشيئة الأزلية، ولذلك عقّبه بقوله‏:‏

‏{‏هو الذي يُحيي ويُميتُ‏}‏ دفعاً لما قد يُتوهم من كونه لم يذكر الفاعل في قوله ‏{‏ومنكم مَن يُتوفى من قبل‏}‏ أن ذلك من فساد مزاجه، أو قتل غيره قبل أجله، فرفع ذلك الإبهام بقوله‏:‏ ‏{‏هو الذي يُحيي ويُميت‏}‏ لا غيره، أي‏:‏ يحيي الأموات، ويميت الأحياء، أو‏:‏ يفعل الإحياء والإماتة، ‏{‏فإِذا قَضَى أمراً‏}‏ أي‏:‏ أراد أمراً من الأمور، ‏{‏فإِنما يقولُ له كن فيكون‏}‏ من غير توقُّف على شيء من الأشياء أصلاً، وهو تمثيل لتأثير قدرته تعالى في الأشياء عند تعلُّق إرادته بها، وتصوير سرعة ترتُّب المكونات على تكوينه، من غير أن يكون هناك أمر ولا مأمور‏.‏

الإشارة‏:‏ إذا دخل المريد مقامَ التجريد، طالباً لأسرار التوحيد والتفريد، وطلبه العامة بالرجوع للأسباب قبل التمكين، يقول‏:‏ ‏{‏إِني نُهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ والبينات التي جاءته من ربه، هو اليقين الكبير بأن الله يرزق أهلَ التقوى بغير أسباب، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 2- 3‏]‏ وفي هذا المعنى قال الغزالي رضي الله عنه‏:‏

تَرَكْتُ لِلنَّاسِ دِينَهُم ودُنْيَاهُم *** شُغْلاً بِذِكْرِكَ يَا دِيني وَدُنْيَاي

قال القشيري‏:‏ قل يا محمد‏:‏ إِني نُهيت وأُمرتُ بالتبرِّي مما عبَدتم، والإعراضِ عما به اشتغلتم، والاستسلام للذي خَلَقني، وبالنبوة خصّني‏.‏ ه‏.‏ وكما تتربى النطفة الإنسانية في الرحم، تتربى نطفة الإرادة وهي المعرفة العيانية في القلب، فإذا عقد المريد نكاح الصُحبة مع الشيخ، قذف في قلبه نطفة الإرادة، فما زال يربيها له حتى يخرج عن حس دائرة الأكوان، فهي ولادته طفلاً، ثم لا يزال يحاذيه بهمته حتى يبلغ أشده، وهو كماله، ثم يكون شيخاً مريباً؛ إن أَذِنَ له‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏69- 76‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ ‏(‏69‏)‏ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ‏(‏70‏)‏ إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ ‏(‏71‏)‏ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ‏(‏72‏)‏ ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ ‏(‏73‏)‏ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ ‏(‏74‏)‏ ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ ‏(‏75‏)‏ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ‏(‏76‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏الذين يُجادلون‏}‏‏:‏ بدل من الموصول قبله المجرور، أو‏:‏ رفع، أو‏:‏ نصب على الذم‏.‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلى الذين يُجادلون في آيات الله‏}‏، كرر الحق تعالى الجدال في هذه السورة ثلاث مرات، فإما أن يكون في ثلاث طوائف‏:‏ الأول في قوم فرعون، والثاني في اليهود، والثالث في المشركين، وإما للتأكيد، أي‏:‏ انظر إلى هؤلاء المكابرين المجادلين في آيات الله الواضحة، الموجبة للإيمان بها، الزاجرة عن الجدال فيها، ‏{‏أَنَّى يُصْرَفُون‏}‏ أي‏:‏ كيف يُصرفون عنها، مع تعاضد الدواعي إلى الإقبال عليها، وانتفاء الصوارف عنها بالكلية‏.‏

وهذا تعجيب من أحوالهم الركيكة، وتمهيد لما يعقبه من بيان تكذيبهم بكل القرآن، أو بسائر الكتب والشرائع، كما أبانه بقوله‏:‏ ‏{‏الذي كذَّبوا بالكتاب‏}‏ أي‏:‏ بالقرآن، أو‏:‏ بجنس الكتب السماوية، ‏{‏وبما أرسلنا به رسلنا‏}‏ من سائر الكتب، أو‏:‏ الوحي، أو‏:‏ الشرائع، ‏{‏فسوف يعلمون‏}‏ عاقبة ما فعلوا من الجدال والتكذيب، عند مشاهدتهم لأنواع العقوبات‏.‏

‏{‏إِذِ الأغلالُ في أعناقهم‏}‏ أي‏:‏ سوف يعلمون حين تكون الأغلال في أعناقهم‏.‏ و«إذ»‏:‏ ظرف للماضي، والمراد به هنا‏:‏ الاستقبال؛ لأن الأمور المستقبلة لَمّا كانت محققة الوقوع، مقطوعاً بها، عبّر بما كان ووُجد‏.‏ ‏{‏و‏}‏ في أعناقهم أيضاً ‏{‏السلاسلُ‏}‏‏.‏ وفي تفسير ابن عرفة‏:‏ ولا يجوز مثل ذلك في العقوبات الدنيوية، وقياسه على العقوبات الأخروية خطأ، وفاعله مخطىء غاية الخطأ، ولم يذكر الأئمة في اعتقال المحبوس للقتل؛ إلا أنه يجعل القيد من الحديد في رِجْلِه، خيفة أن يهرب، وأما عنقه فلا يُجعل فيه شيء‏.‏ ه‏.‏ ‏{‏يُسْحَبون في الحميم‏}‏ أي‏:‏ يُجرّون في الماء الحارّ، وهو استئناف بياني، كأن قائلاً قال‏:‏ فماذا يكون حالهم بعد ذلك‏؟‏ فقال‏:‏ يُسحبون في الحميم، ‏{‏ثم في النار يُسْجَرُون‏}‏ ويُحرقون، من سَجَر التنّور‏:‏ إذا ملأه بالوقود، والمراد‏:‏ أنهم يُعذبون بأنواع العذاب، ويُنقلون من لون إلى لون‏.‏

‏{‏ثم قيلَ لهم أين ما كنتم تُشركون من دون الله قالوا ضَلُّوا عنا‏}‏ أي‏:‏ غابوا، وهذا قبل أن يُقرن بهم آلهتهم، أو‏:‏ ضاعوا عنا فلم نجد ما كنا نتوقع منهم، ‏{‏بل لم نكن ندعو من قبلُ شيئاً‏}‏ أي‏:‏ تبيّن لنا أنهم لم يكونوا شيئاً‏.‏ أو‏:‏ يكون إنكاراً منهم، كقولهم‏:‏ ‏{‏واللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 23‏]‏‏.‏ وهذا كله مستقبل عبّر عنه بالماضي لتحققه‏.‏ ‏{‏كذلك‏}‏ أي‏:‏ مثل ذلك الضلال الفظيع ‏{‏يُضل الله الكافرين‏}‏ حيث لا يهتدون إلى شيء ينفعهم في الآخرة، أو‏:‏ كما ضلّ عنهم آلهتهم يُضلهم الله عن آلهتهم، حتى لو تطالبوا لم يتصادفوا‏.‏

‏{‏ذلكم‏}‏ الإضلال ‏{‏بما كنتم تفرحون في الأرض‏}‏ أي‏:‏ تبطرون وتتكبرون ‏{‏بغير الحق‏}‏، بل بالشرك والطغيان، ‏{‏وبما كنتم تمرحون‏}‏؛ تفخرون وتختالون، أو‏:‏ تتكبرون وتعجبون‏.‏

والالتفات إلى الخطاب؛ للمبالغة في التوبيخ‏.‏ فيقال لهم‏:‏ ‏{‏ادْخُلوا أبوابَ جهنَّم‏}‏ أي‏:‏ أبوابها السبعة المقسومة عليكم ‏{‏خالدين فيها‏}‏ مقدّراً خلودكم فيها، ‏{‏فبئسَ مثوى المتكبرين‏}‏ عن الحق، والمخصوص محذوف، أي‏:‏ جهنّم‏.‏

الإشارة‏:‏ الأولياء العارفون أهل التربية الكاملة، آية من آيات الله في كل زمان، فيقال في حق مَن يُخاصم في وجوههم، ويتنكّب عن صحبتهم‏:‏ الذين يُجادلون في آيات الله أنَّى يُصرفون‏؟‏ وهم الذين كذَّبوا بأسرار الكتاب، وعلوم باطنه، وبما أرسل به خلفاء الرسل، ممن يغوص على تلك الأسرار، فسوف يعلمون حين تخاطبهم أغلال الوساوس والخواطر، وسلاسل العلائق والشواغل، فيقبضهم عن النهوض إلى قضاء الشهود والعيان، وجولان الفكرة في أنوار الملكوت وأسرار الجبروت، يُسحبون في حرّ التدبير والاختيار، ثم في نار القطيعة يُسْجَرون، ثم قيل لهم إذا ماتوا‏:‏ أين ما كنتم تُشركون في المحبة والميل من دون الله‏؟‏ قالوا‏:‏ ضلُّوا عنا، وغاب عنهم كل ما تمتعوا به من الحظوظ والشهوات، فيقال لهم‏:‏ ذلكم بما كنتم تنبسطون في الدنيا في أنواع المآكل، والمشارب، والملابس، والمناكح، وبما كنتم تفتخرون على الناس، فيخلدون في الحجاب، إلا في وقت مخصوص‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏77- 78‏]‏

‏{‏فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ‏(‏77‏)‏ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآَيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ ‏(‏78‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏فاصبرْ‏}‏ يا محمد على أذى قومك، وانتظر ما يلاقوا مما أُعِد لهم‏.‏ ‏{‏إِنَّ وعدَ الله‏}‏ بإهلاكهم وتعذيبهم ‏{‏حقٌّ‏}‏؛ كائن لا محالة، ‏{‏فإِما نُريَنَّكَ بعضَ الذي نَعِدُهُم‏}‏ من الهلاك، كالقتل والأسر في حياتك، ‏{‏أوْ نتوفينّك‏}‏ قبل هلاكهم بعدك، ‏{‏فإِلينا يُرجعون‏}‏ لا محالة، ف «ما»‏:‏ صلة بعد «أن»، لتأكيد الشرطية، والجواب‏:‏ محذوف، أي‏:‏ فإن نُرينك بعض ما نعدهم فذاك، أو نتوفينك قبل ذلك فإلينا يُرجعون يوم القيامة، فلننتقم منهم أشد الانتقام‏.‏

ثم سلاّه بمَن قبله، فقال‏:‏ ‏{‏ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك‏}‏ فأُوذوا وصبروا حتى جاءهم نصرنا، ‏{‏منهم مَن قَصصْنا عليك‏}‏ في القرآن، ‏{‏ومنهم مَن لم نقصصْ عليك‏}‏، قيل‏:‏ عدد الأنبياء عليهم السلام مائة ألف وأربعمائة وعشرون ألفاً، والمذكور قصصهم في القرآن أفراد معدودة‏.‏ قال الطيبي‏:‏ والصحيح ما روينا عن أحمد بن حنبل، عن أبي ذر، قلت‏:‏ يا رسول الله، كم عدد الأنبياء‏؟‏ قال‏:‏ «مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، الرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جمّاً غفيراً» ه‏.‏ وقد تكلم في الحديث بالضعف والصحة والوضع، وقيل‏:‏ عدتهم ثمانية آلاف، أربعة آلاف نبيّ من بني إسرائيل، وأربعة آلاف من سائر الناس‏.‏ وعن عليّ كرّم الله وجهه‏:‏ «إنه الله تعالى بعث نبيّاً أسود، فهو ممن لم تُذكر قصته في القرآن»‏.‏ فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومنهم مَن لم نقصص عليك‏}‏ أي‏:‏ في القرآن، فلا ينافي إخباره بمطلق العدد على ما في حديث أبي ذر‏.‏

‏{‏وما كان‏}‏ أي‏:‏ ما صحّ، ولما استقام ‏{‏لرسولٍ‏}‏ منهم ‏{‏أن يأتيَ بآيةٍ‏}‏ مما اقترح عليه قومه، ‏{‏إِلا بإذن الله‏}‏‏.‏ فإنَّ المعجزات على تشعُّب فنونها، عطايا من الله تعالى، قسمها بينهم على حسب المشيئة، المبنية على الحِكَم البالغة، وهذا جواب اقتراح قريش على رسول الله الآيات؛ عناداً، يعني إنَّا قد أرسلنا كثيراً من الرسل، وما استقام لأحد منهم أن يأتي بآية ‏{‏إِلا بإذن الله‏}‏ ومشيئته، فمَن لي بأن آتي بآية مما تقترحونه إِلاَّ أن يشاء الله، ويأذن في الإتيان بها‏؟‏ ‏{‏فإذا جاء أمرُ الله‏}‏ بهلاكهم، أو‏:‏ بقيام الساعة، ‏{‏قُضي بالحقِ‏}‏ أي‏:‏ بإنجاء المُحق وإثابته، وإهلاك المبطل وتعذيبه، ‏{‏وخَسِرَ هنالك المبطلون‏}‏ أي‏:‏ المعاندون المقترحون للآيات، أو‏:‏ المتمسكون بالباطل، فيدخل المقترحون المعاندون دخولاً أولياً‏.‏

الإشارة‏:‏ فاصبر أيها المتوجه إلى الله على الأذى وحمل الجفاء، فإما أن ترى ما وُعد أهلُ الإنكار على الأولياء، من التدمير، وقطع الدابر، في حياتك، أو يلحقهم بعد موتك‏.‏ ولقد أُوذي من قبلك، منهم مَن عرفت ومنهم مَن لم تعرف، وما صحّ لأحد منهم أن يُظهر كرامةً إلا بإذن الله، فإذا جاء أمر الله وقامت القيامة، قُضي بالحق، فيرتفع أهل الصبر من المقربين، في أعلى عليين، وينخفض أهل الإذاية في أسفل سافلين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏79- 81‏]‏

‏{‏اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ‏(‏79‏)‏ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ‏(‏80‏)‏ وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَأَيَّ آَيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ ‏(‏81‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏الله الذي جعل‏}‏؛ خلق ‏{‏لكم الأنعامَ‏}‏؛ الإبل ‏{‏لتركبوا منها ومنها تأكلون‏}‏ أي‏:‏ لتركبوا بعضها، وتأكلوا بعضها، وليس المراد‏:‏ أن الركوب والأكل مختص ببعض معين منها، بحيث لا يجوز تعلُّقه بالآخر، بل على أن بعضاً منها صالح لكل منهما‏.‏ ‏{‏ولكم فيها منافعُ‏}‏ أُخر غير الركوب، كألبانها وأوبارها وجلودها، ‏{‏ولِتبلُغوا عليها حاجةً‏}‏ أي‏:‏ ما تحتاجون إليه من حمل أثقالكم من بلد إلى بلد، ‏{‏في صُدورِكمْ‏}‏؛ في قلوبكم، ‏{‏وعليها وعلى الفلك تُحملون‏}‏ أي‏:‏ وعليها في البر، وعلى الفلك في البحر تُحملون، ولعل المراد به‏:‏ حمل النساء والولدان عليها بالهودج، وهو السر في فصله عن الركوب‏.‏ والجمع بينها وبين الفلك في الحمل؛ لِمَا بينهما من المناسبة، حتى سُميت الإبل‏:‏ سفائن البر‏.‏

وقيل‏:‏ المراد بالأنعام‏:‏ الأزواج الثمانية، على أن المعنى‏:‏ لتركبوا بعضها، وهي الإبل، وتأكلوا بعضها، وهي الغنم والبقر، فذكر ما هُوَ الأهم من كلٍّ، والمنافع تعم الكل، وبلوغ الحاجة تعم الإبل والبقر‏.‏ وقال الثعلبي‏:‏ التقدير‏:‏ لتركبوا منها بعضاً، ومنها تأكلون، فحذف «بعضاً» للعلم به‏.‏

‏{‏ويُريكم آياته‏}‏؛ دلائله الدالة على قدرته ووفور رحمته، ‏{‏فأيَّ آياتِ الله‏}‏ أي‏:‏ فأيّ آية من تلك الآيات الباهرة ‏{‏تُنكرون‏}‏ ‏؟‏ فإن كُلاًّ منها من الظهور بحيث لا يكاد يجترىء على إنكارها، و«آيات» نصب بتنكرون، وتذكير «أيّ» مع تأنيث المضاف إليه، هو الشائع المستفيض، والتأنيث قليل؛ لأن التفرقة بين المذكر والمؤنث في الأسماء غير الصفات، نحو‏:‏ حمار وحمارة غريب، وهي في «أيّ» أغرب؛ لإبهامه‏.‏

الإشارة‏:‏ ما أعظم قدرك أيها الإنسان إن اتقيت الله، وعرفت نعمه، فقد سلّطك على ما في الكون بأسره، الحيوانات تخدمك، وتنتفع بها، أكْلاً، وركوباً، وملبساً، وحملاً، والبحر يحملك، والأرض تُقلك، والسماء تُظلك، وما قنع لك بالدنيا حتى ادخر لك الآخرة، التي هي دار الدوام، فإن شكرت هذه النعم فأنت أعز ما في الوجود، وإن كفرتها فأنت أهون ما في الوجود‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏82- 85‏]‏

‏{‏أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏82‏)‏ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏83‏)‏ فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ ‏(‏84‏)‏ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ ‏(‏85‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏أَفَلَمْ يسيروا‏}‏ أي‏:‏ أَقعدوا فلم يسيروا ‏{‏في الأرض‏}‏ ‏{‏فينظروا كيف كان عاقبةُ الذين من قبلهم‏}‏ من الأمم المهْلَكة، ‏{‏كانوا أكثرَ منهم‏}‏ عدداً ‏{‏وأشدَّ قوةً‏}‏ في الأبدان والأموال، ‏{‏و‏}‏ أشد ‏{‏آثاراً في الأرض‏}‏ أي‏:‏ تركوا آثاراً كثيرة بعدهم، من الأبنية، والقبور، والمصانع، فكانوا أشدّ منهم، وقيل‏:‏ هي آثار أقدامهم في الأرض؛ لِعظم أجرامهم، ‏{‏فما أَغْنى عنهم ما كانوا يَكْسِبون‏}‏ أي‏:‏ لم يغن عنهم ذلك شيئاً حين نزل بهم العذاب، أو‏:‏ أي شيء أغنى عنهم مكسوبهم أو كسبهم‏؟‏ على أنَّ «ما» استفهام‏.‏

‏{‏فلما جاءتهم رُسلهم بالبيناتِ‏}‏؛ بالمعجزات الواضحة، ‏{‏فرحوا بما عندهم من العلم‏}‏ يريد علمهم بأمور الدنيا، ومعرفتهم بتدبيرها، كما قال‏:‏ ‏{‏يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الأَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 7‏]‏، فلما جاءتهم الرسل بعلوم الديانة، والتأهُّب ليوم القيامة، وهي أبعد شيء من علمهم؛ لبعثِها على رفض الدنيا، والتباعد عن تتبع ملاذها، لم يلتفتوا إليها، وصغّروها، واستهزؤوا بها، واعتقدوا أنه لا علم أنفع وأجلب للفؤاد من علمهم، ففرحوا به‏.‏ أو‏:‏ علم التنجيم والفلسفة، والدهريّين؛ فإنهم كانوا إذا سمعوا بالوحي دفعوه، وصغّروا علم الأنبياء إلى علمهم، واعتقدوا عندهم علماً يستغنون به عن علم الأنبياء عليهم السلام ولما سمع بقراط بموسى عليه السلام قيل له‏:‏ لو هاجرت إليه‏!‏ فقال‏:‏ نحن قوم مهذَّبون، فلا حاجة إلى مَن يُهذّبنا‏.‏

ورأى بعضُ الصالحين النبيَّ صلى الله عليه وسلم فسأله عن ابن سيرين، فقال له‏:‏ «إِنه أراد أن يصل إلى الله بلا واسطة، فانقطع عن الله» وعلى فرض وقوفهم بالتجريد والرياضة على انكشاف حضرة القدس، فلا يظفرون بالعبودية، ولا بالفناء في توحيد الربوبية، والتخلُّص من لَوَث وجودهم، والشأن أن تكون عين الاسم، لا أن تعرف الاسم والعين، إنما تقتبس من مشكاة مهبط الوحي، وانصباب أنوار الغيب إنما تفيض بواسطة دُرة الوجود، نبينا صلى الله عليه وسلم، ومظهر سر العيان الأحدي الأحمدي، فافهم‏.‏ قاله شيخ شيوخنا، سيدي عبد الرحمن الفاسي‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏وحاقَ بهم ما كانوا به يستهزئون‏}‏ أي‏:‏ نزل بهم عقوبة استخفافهم بالحق، وتعظيمهم واغتباطهم بالباطل‏.‏ ‏{‏فلما رأوا بأسَنا‏}‏؛ شدة عذابنا، ومنه‏:‏ ‏{‏بِعَذَابٍ بَئِيسٍ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 165‏]‏، ‏{‏قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين‏}‏ يعنون الأصنام‏.‏

‏{‏فلم يَكُ ينفعهم إِيمانُهم لَمّا رأَوْا بأسَنَا‏}‏ أي‏:‏ فلم يستقم، ولم يصح أن ينفعهم إيمانهم عند مجيء العذاب؛ لأن النافع هو الإيمان الاختياري، لا الاضطراري، ‏{‏سُنَّتَ اللهِ التي قد خلتْ في عباده‏}‏ أي‏:‏ سَنَّ اللهُ ذلك سُنَّة ماضية في عباده، ألاَّ يُقبل الإيمان إلا قبل نزول العذاب‏.‏ وهو من المصادر المؤكدة، نحو‏:‏ وعد الله، ونحوه‏.‏ ‏{‏وخَسِرَ هُنالك الكافرون‏}‏ أي‏:‏ وقت رؤيتهم البأس‏.‏

فهنالك‏:‏ مكان استعير للزمان، والكافرون خاسرون في كل أوان، ولكن يتبيّن خسرانهم إذا عاينوا العذاب‏.‏

وفائدة ترادف الفاءات في هذه الآيات‏:‏ أن ‏{‏فما أغنى عنهم‏}‏ نيتجة قوله‏:‏ ‏{‏كانوا أكثر منهم‏}‏ و‏{‏فلما جاءتهم رسلهم‏}‏ كالبيان والتفسير لقوله‏:‏ ‏{‏فما أغنى عنهم‏}‏، كقولك‏:‏ رُزِق زيد المال، فمَنَع المعروف، فلم يحسن إلى الفقراء، و‏{‏فلما رأوا بأسنا‏}‏ تابع لقوله‏:‏ ‏{‏فلما جاءتهم‏}‏، كأنه قال‏:‏ فكفروا فلما رأوا بأسنا آمنوا‏.‏ وكذلك ‏{‏فلم يك ينفعهم إيمانهم‏}‏ تابع لإيمانهم لمّا رأوا بأس الله، والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ قد تقدّم مراراً الحث على عبادة التفكُّر‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، كذلك مَن يَظهر بعلم التجريد، ويتكلم في أسرار التوحيد، سَخِرَ منه أهل زمانه، ويقنعون بما عندهم من علم الرسوم الظاهرة، وهو علم لا يُغني ولا يُفني؛ لأن جله يتعلق بمنافع الناس، لا بمنافع القلب، فلا يُغني القلب، ولا يُفني الحِس، إنما ينفع لطالب الأجور، لا لطالب الحضور ورفع الستور، وما مثال مَن ظفر بعلم القلوب وهو أسرار التوحيد الخاص إلا كمَن عنده كنز من الفلوس، ثم ظفر بالذهب الإبريز، او الإكسير، فكيف يمكن أن يلتفت إلى الفلوس مَن ظفر بالإكسير‏؟‏‏!‏ ولا يظهر هذا لأهل الظاهر إلا بعد موتهم، فيؤمنوا به حيث لا ينفعهم‏.‏

وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم‏.‏

سورة فصلت

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 8‏]‏

‏{‏حم ‏(‏1‏)‏ تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ‏(‏2‏)‏ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ‏(‏3‏)‏ بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ‏(‏4‏)‏ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ ‏(‏5‏)‏ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ ‏(‏6‏)‏ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ‏(‏7‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ‏(‏8‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏تنزيل‏}‏‏:‏ خبر عن مضمر، أي‏:‏ هذا تنزيل‏.‏ و‏{‏كتاب‏}‏‏.‏ بدل من ‏{‏تنزيل‏}‏، أو‏:‏ خبر بعد خبر، و‏{‏تنزيل‏}‏‏:‏ مبتدأ‏.‏ و‏{‏من الرحمن‏}‏‏:‏ صفة، و‏{‏كتاب‏}‏‏.‏ خبره، و‏{‏قرآناً‏}‏‏:‏ منصوب على الاختصاص والمدح، أو‏:‏ حال، أي‏:‏ فُصِّلت آياته في حال كونه قرآناً‏.‏ و‏{‏لقوم‏}‏‏:‏ متعلق بفُصِّلت، أو‏:‏ صفة، مثل ما قبله وما بعده، أي‏:‏ قرآناً عربياً كائناً لقوم يعلمون‏.‏ و‏{‏بشيراً ونذيراً‏}‏‏:‏ صفتان ل «قرآناً»‏.‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏حم‏}‏؛ يا محمد هذا ‏{‏تنزيلٌ‏}‏، قاله القشيري‏:‏ أي‏:‏ بحقي وحياتي ومجدي في ذاتي وصفاتي، هذا تنزيلٌ ‏{‏من الرحمن الرحيم‏}‏‏.‏ ونسبة التنزيل إلى الرحمن الرحيم للإيذان بأنه نزل للمصالح الدينية والدنيوية، واقع بمقتضى الرحمة الربانية، حسبما ينبىء عنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 107‏]‏، ‏{‏كتاب فُصّلت آياتُه‏}‏؛ مُيزت وجُعلت تفاصيل في أساليب مختلفة، ومعانٍ متغايرة؛ من أحكام، وتوحيد، وقصص، ومواعظ، ووعد، ووعيد وغير ذلك، ‏{‏قرآناً عربياً‏}‏ أي‏:‏ أعني قرآناً بلسان العرب كائناً ‏{‏لقوم يعلمون‏}‏ معانيه، ويتدبّرون في آياته؛ لكونه على لسانهم، أو‏:‏ لأهل العلم والنظر؛ لأنهم المنتفعون به‏.‏

‏{‏بشيراً ونذيراً‏}‏؛ بشيراً لأهل الطاعة، ونذيراً لأهل المعصية، ‏{‏فأعْرَض أكثرُهم‏}‏ عن الإيمان به والتدبُّر في معانيه مع كونه على لغتهم، ‏{‏فهم لا يسمعون‏}‏ سماع تفكُّر وتأمُّل، حتى يفهموا جلالة قدره؛ فيؤمنوا به‏.‏

‏{‏وقالوا‏}‏ للرسول عليه الصلاة والسلام عند دعوته إياهم إلى الإيمان والعمل بما في القرآن‏:‏ ‏{‏قلوبنا في أَكِنَّةٍ‏}‏ أي‏:‏ أغطية متكاثفة، ‏{‏وفي آذاننا وَقْر‏}‏؛ صمم وثِقَل يمنعنا من استماع قولك، ‏{‏ومن بيننا وبينك حجاب‏}‏ غليظ، وستر مانع يمنعنا من التواصل إليك‏.‏ و‏(‏من‏)‏ للدلالة على أن الحجاب مبتدى منهم ومنه بحيث استوعب ما بينهما من المسافة المتوسطة، ولم يبق ثمَّ فراغ أصلاً‏.‏ وهذه تمثيلات لنبو قلوبهم عن إدراك الحق وقبوله، ومج أسماعهم له، كأنَّ بها صمماً وثِقلاً منعهم من موافقتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قالوا‏:‏ ‏{‏فاعمل‏}‏ على دينك وإبطال ديننا، ‏{‏إِننا عاملون‏}‏ على ديننا، لا نفارقه أبداً‏.‏

‏{‏قُلْ إِنما أنا بشر مثلُكم يُوحَى إِليَّ أَنَّما إِلهكُم إِله واحد‏}‏، هذا تلقين للجواب عنه، أي‏:‏ لستُ من جنسٍ مباينٍ لكم حتى يكون بيني وبينكم حجاب، وتباين مصحح لتباين الأعمال والأديان، كما ينبىء عنه قوله‏:‏ ‏{‏فاعلم إننا عاملون‏}‏، بل إنما أنا بشر مثلكم، مأمور بما أُمرتم به من التوحيد، حيث أخبرنا جميعاً بأن إلهنا واحد، فالخطاب في «إلهكم» محكي منتظم للكل، لا أنه خطاب منه عليه الصلاة والسلام للكفرة‏.‏ وقيل‏:‏ لمّا دعاهم إلى الإيمان، قالوا‏:‏ إنا نراك مثلنا، تأكل وتشرب، فلو كنتَ رسولاً لاستغنيت عن ذلك، فأنزل‏:‏ ‏{‏قل إنما أنا بشر‏.‏

‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏

‏{‏فاستقيموا إِليه‏}‏ بالتوحيد وإخلاص العبادة، غير ذاهبين يميناً وشمالاً، ولا ملتفتين إلى ما يُسوّل لكم الشيطانُ من عبادة الأصنام‏.‏‏.‏‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏واستغفروه‏}‏ مما كنتم عليه من سوء العقيدة‏.‏ والفاء لترتيب ما قبلها من إيحاء التوحيد على ما بعدها من الاستقامة، ‏{‏وويل للمشركين‏}‏، وهو ترهيب وتنفير لهم عن الشرك إثر ترغيبهم في التوحيد‏.‏

ووصفهم بقوله‏:‏ ‏{‏الذين لا يؤتون الزكاة‏}‏ أي‏:‏ لا يؤمنون بوجوب الزكاة ولا يُعطونها، وهو إخبار بما سيقع، إذ لم تكن الزكاة حينئذ مفروضة، أو‏:‏ لا يفعلون ما يكونون به أزكياء، وهو الإيمان‏.‏ وفيه تحذير من منع الزكاة، حيث جعله من أوصاف المشركين‏.‏ ‏{‏وهم بالآخرة هم كافرون‏}‏ أي‏:‏ وهم بالبعث والثواب والعقاب كافرون‏.‏ والجملة‏:‏ عطف على ‏(‏يؤتون‏)‏ داخل في الصلة‏.‏ وإنما جعل منع الزكاة مقروناً بالكفر بالآخرة لأن أحب شيء إلى الإنسان ماله، وهو شقيق روحه، فإذا بذله في سبيل الله فذلك أقوى دليل على استقامته، وصدق نيته، وخلوص طويته، وما ارتدت العرب إلا بمنعها‏.‏

‏{‏إِن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجرٌ غيرُ ممنونٍ‏}‏؛ غير مقطوع، من‏:‏ مننت الحبل‏:‏ قطعته، أو‏:‏ غير ممنون به عليهم‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في المرضى والهَرْمَى، إذا عجزوا عن الطاعة كتب لهم الأجر كأصح ما كانوا يعملون‏.‏

الإشارة‏:‏ كان الرسول عليه الصلاة والسلام يدعو إلى الإيمان بالقرآن والعمل به، وخلفاؤه من مشايخ التربية يدعون إلى تصفية البواطن، لتتهيأ لفهمه والغوص عن أسراره، وحضور القلب عند تلاوته، فأعرض أكثرُ الناس عن صُحبتهم، ‏{‏وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إلى تمام الآية‏.‏ فبقيت قلوبهم مغلفة بسبب الهوى، ألسنتهم تتلو وقلوبهم تجول في أودية الدينا، فلا حضور ولا تدبُّر، فلا حول ولا قوة إلا بالله، فإذا طلَبوا من المشايخ الذين هم أطبّة القلوب الكرامة، يقولون ما قالت الرسل‏:‏ إنما نحن بشر يُوحى إلينا وحي إلهام بوحدانية الحق، وانفراده بالوجود، فاستقيموا إليه بتصفية بواطنكم، واستغفروه من سالف زلاتكم، فإن بقيتم على ما أنتم عليه من الشرك ورؤية السِّوى، فويل للمشركين الذين لا يُزكُّون أنفسهم، وهم بالآخرة حيث لم يتأهّبوا لها كلَّ التأهُّب هم الكافرون‏.‏ إن الذين آمنوا إيمان الخصوص، بصحبة الخصوص، لهم أجر غير ممنون، وهو شهود الحق على الدوام‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 12‏]‏

‏{‏قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ‏(‏9‏)‏ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ‏(‏10‏)‏ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ‏(‏11‏)‏ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ‏(‏12‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏وتجعلون‏}‏‏:‏ عطف على ‏{‏تكفرون‏}‏‏.‏ و‏{‏جَعَلَ‏}‏‏:‏ عطف على ‏{‏خَلَقَ‏}‏ داخل في حيز الصلة، و‏{‏سواء‏}‏‏:‏ مَن نَصَبَه فمصدر أي‏:‏ استوت سواء‏.‏ ومَن جَرَّه فصفة لأيام، ومَن رفعه فخبر هي سواء‏.‏ و‏{‏للسائلين‏}‏‏:‏ متعلق بقدّر، أو‏:‏ بمحذوف، أي‏:‏ هذا الحصر للسائلين عن مدة خلق الأرض‏.‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏قل أَئِنَّكم لتكفرون بالذي خلقَ الأرضَ في يومين‏}‏ وهما الأحد والاثنين، تعليماً للتأني، ولو أراد أن يخلقها في لحظة لفعل‏.‏ ‏{‏وتجعلون له أنداداً‏}‏؛ شركاء وأشباهاً‏.‏ والحال أنه لا يمكن أن يكون له ند واحد، فضلاً عن التعدُّد، وكيف يكون الحادث المعدوم ندّاً للقديم‏؟‏‏!‏ ‏{‏ذلك‏}‏ الذي خلق ما سبق‏.‏ وما في الإشارة من معنى البُعد مع قرب العهد بالمشار إليه لبُعد منزلته في العظمة، أي‏:‏ ذلك العظيم الشأن هو ‏{‏ربُّ العالمين‏}‏ أي‏:‏ خالق جميع الموجودات ومُربِّيها، فكيف يتصور أن يكون أخس الخلق نِدّاً له‏؟‏‏!‏

‏{‏وجعل فيها رواسي‏}‏؛ جبالاً ثوابت كائنة ‏{‏من فوقها‏}‏، وإنما اختار إرساءها من فوق الأرض لتكون منافع الجبال مُعرَضة لأهلها، ويظهر للناظرين ما فيها من مراصد الاعبتار، ومطارح الأفكار، فإن الأرض والجبال أثقال على أثقال، كلها ممسَكة بقدرة الله عزّ وجل‏.‏ ‏{‏وباركَ فيها‏}‏ أي‏:‏ قدّر بأن يكثر خيرها بما يخلق فيها من منافع، ويجعل فيها من المصالح، وما ينبت فيها من الطيبات والأطعمة وأصناف النعم‏.‏ ‏{‏وقدّر فيها أقواتَها‏}‏ أي‏:‏ حكم أن يوجد فيها لأهلها ما يحتاجون إليه من الأقوات المختلفة المناسبة لهم على مقدار مُعين، تقتضيه الحكمة والمشيئة، وما يصلح بمعايشهم من الثمار والأنهار والأشجار، وجعل الأقوات مختلفة في الطعم والصورة والمقدار، وقيل‏:‏ خصابها التي قسمها في البلاد‏.‏ جعل ذلك ‏{‏في أربعةِ أيام‏}‏ أي‏:‏ تتمة أربعة أيام، يومين للخلق، ويومين لتقدير الأقوات، كما تقول‏:‏ سِرت إلى البصرة في عشرة، وإلى الكوفة في خمسة عشر، أي‏:‏ في تتمة خمسة عشر، ولو أجري الكلام على ظاهرة لكانت ثمانية أيام؛ يومين للخلق؛ وأربعة للتقدير، ويومين لخلق السماء، وهو مناقض لقوله‏:‏ ‏{‏فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 54‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏سواء‏}‏ راجع للأربعة، أي‏:‏ في أربعة أيام مستويات تامات، أو‏:‏ استوت سواء ‏{‏للسائلين‏}‏ أي‏:‏ قدَّر فيها الأقوات للطالبين لها والمحتاجين إليها، لأن كلاًّ يطلب القوت ويسأله، أو هذا الحصر في هذه الأيام لأجل مَن سأل‏:‏ في كم خلقت الأرض وما فيها‏؟‏

‏{‏ثم استوى إِلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طَوعاً أو كَرهاً قالتا أتينا طائعين‏}‏، الاستواء مجاز عن إيجاد الله تعالى السماء على ما أراد، تقول العرب‏:‏ فعل فلان كذا ثم استوى إلى عمل كذا، يريدون أنه أكمل الأول وابتدأ الثاني، أو قصد وانتهى‏.‏ فالاستواء إذا عدي ب «إلى» فهو بمعنى الانتهاء إليه بالذات أو بالتدبير، وإذا عدّي ب «على» فبمعنى الاستعلاء، ويفهم منه أن خلق السماء بعد الأرض، وهو كذلك، وأما دحو الأرض وتقدير أقواتها فمؤخر عن السماء، كما صرح في قوله‏:‏

‏{‏وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَآ‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 30‏]‏، والترتيب في الخارج‏:‏ أنه خلق الأرض، ثم خلق السماء، ثم دحا الأرض في يومين، ف «ثم» للتفاوت بين الخلقين لا للترتيب، أو‏:‏ للتفاوت في المرتبة، ترقياً من الأدنى إلى الأعلى، كقول القائل‏:‏

إِنْ مَنْ ساد ثم ساد أبوه *** ثم ‏[‏قد‏]‏ ساد بعد ذلك جَدُّه

وفي بعض الأحاديث‏:‏ «إن الله خلق الأرض يوم الأحد والاثنين، وخلق الجبال يوم الثلاثاء، وخلق يوم الأربعاء الشجر والماء والعُمران والخراب، فتلك أربعة أيام، وخلق يوم الخميس السماء، وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة، وخلق آدم عليه السلام في آخر ساعة من يوم الجمعة» وهي الساعة التي تقوم فيها الساعة‏.‏ قاله النسفي، وفي حديث مسلم ما يخالفه‏.‏

قال ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ أول ما خلق الله أي‏:‏ بعد العرش جوهرة طُولها وعرضها ألف سنة، فنظر إليها بالهيبة، فذابت وصارت ماء، فكان العرش على الماء، فاضطرب الماء، فثار منه دخان، فارتفع إلى الجو، واجتمع زيد، فقام فوق الماء، فجعل الزبد أرضاً، ثم فتقها سبعاً، والدخان سماء، فسوّاهن سبع سموات‏.‏

ومعنى أمر السماء والأرض بالإتيان طوعاً أو كرهاً وامتثالهما؛ أنه أراد أن يُكوّنهما، فلم يمتنعا عليه، ووجدتَا كما أراد، وكانتا في ذلك كالمأمور والمطيع، وإنما ذكر الأرض مع السماء في الأمر بالإتيان، مع أن الأرض مخلوقة قبل السماء بيومين؛ لأن المعنى‏:‏ ائتيا على ما ينبغي أن تأتيا عليه من الشكل والوصف، أي‏:‏ ائتي يا أرض مدحوة قراراً ومهاداً لأهلك، وائتي يا سماء مبنية سقفاً لهم، ومعنى الإتيان‏:‏ الحصول والوقوع‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏طوعاً أو كَرهاً‏}‏ لبيان تأثير قدرته فيهما، وأن امتناعهما عن قدرته مُحال؛ كما تقول لمَن تحت يدك‏:‏ لتفعلن هذا شئت أو أبيت، طوعاً أو كرهاً‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ الأمر بالإتيان بعد اختراعهما، قال‏:‏ وهنا حذف، أي‏:‏ ثم استوى إلى السماء فأوجدها، وأتقنها، وأكمل أمرها، وحينئذ قال لها وللأرض‏:‏ ائتيا لأمري وإرادتي فيكما، والمراد‏:‏ تنجيزهما لما أراده منهما، وما قدر من أعمالهما‏.‏ ه‏.‏ حُكي أن بعض الأنبياء قال‏:‏ يا رب لو أن السماوات والأرض حين قلت لهما‏:‏ ائتيا طوعاً أو كرهاً عصتاك، ما كنت صانعاً بهما‏؟‏ قال‏:‏ كنتُ آمر دابة من دوابي فتبتلعهما، قال‏:‏ وأين تلك الدابة‏؟‏ قال‏:‏ في مرج من مروجي، قال‏:‏ وأين ذلك المرج‏؟‏ قال‏:‏ في علم من علومي‏.‏

وانتصاب ‏{‏طوعاً أو كرهاً‏}‏ على الحال، أي‏:‏ طائعين أو مكرهين‏.‏ ولم يقل «طائعتين»؛ لأن المراد الجنس، أي‏:‏ السموات والأرضين، وجمع جمع العقلاء لوصفهما بالطوع والكره، اللذين من وصف العقلاء، وقال‏:‏ طائعين في موضع طائعات؛ تغليباً للتذكير؛ لشرفه، كقوله‏:‏

‏{‏سَاجِدِينَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 4‏]‏‏.‏

‏{‏فقضاهنّ سبعَ سماواتٍ‏}‏ أي‏:‏ فأحكم خلقهن، وأتقن أمرهن سبعاً، حسبما تقتضيه الحكمة، فالضمير راجع إلى السماء، لأنه جنس، يجوز أن يكون الضمير مبهماً مفسراً بقوله‏:‏ ‏{‏سبع سماوات‏}‏، فينتصب سبع على الأول حالاً، وعلى الثاني تمييزاً‏.‏ حصل ذلك القضاء ‏{‏في يومين‏}‏؛ الخميس والجمعة، أي‏:‏ في وقتين قدر يومين، فكان المجموع ستة أيام، ‏{‏وأَوحى في كلِّ سماءٍ أمرها‏}‏ أي‏:‏ أوحى إلى ساكنها وعُمّارها من الملائكة في كل سماء ما شاء الله من الأمور، التي تليق بهم، كالخدمة وأنواع العبادة، وإلى السماء في نفسها ما شاء الله من الأمور التي بها قوامها وصلاحها‏.‏

‏{‏وزيّنا السماء الدنيا بمصابيح‏}‏؛ كالشمس والقمر والنجوم، وهي زينة السماء الدنيا، سواء كانت فيها أو فيما فوقها؛ لأنها تُرى متلألأة عليها كأنها فيها، والالتفات إلى نون العظمة لإبراز مزيد العناية بأمرها، ‏{‏وحفظاً‏}‏ أي‏:‏ حفظناها حفظاً من المسترقة، أو من الآفات، فهو مصدر لمحذوف، وقيل‏:‏ مفعول لأجله على المعنى، أي‏:‏ وجعلنا المصابيح للزينة والحفظ‏.‏ ‏{‏ذلك تقديرُ العزيز العليم‏}‏ أي‏:‏ ذلك الذي ذكر تفصيله تقدير البالغ في القدرة والعلم، أو‏:‏ الغالب العليم بمواقع الأمور‏.‏

الإشارة‏:‏ خلق الحق تعالى أرض النفوس محلاًّ للعبودية، وأرساها بجبال العقل، لئلا تميل إلى بحر الهوى، وبارك فيها، بأن جعل فيها صالحين وأبراراً، وعباداً وزهاداً، وعُلماء أتقياء، وقدّر لها أقواتها الحسية والمعنوية، فجعل الحسية سواء للسائلين، أي‏:‏ مستوية لا يزيد بالطلب ولا بالتعب، ولا ينقص، ففيه تأديب لمَن لم يرضَ بقسمته، والأرزاق المعنوية‏:‏ أرزاق القلوب من اليقين والمعرفة، يزيد بالطلب والتعب، وينقص بنقصانه، حكمة من الحكيم العليم، ثم استوى إلى سماء الأرواح، أي‏:‏ قصدها بالدعاء إليه، وهي لطائف، فقال لها ولأرض النفوس‏:‏ ائتيا إلى حضرتي، طوعاً أو كرهاً، قالتا‏:‏ أتينا طائعين، فقضاهن سبع طبقات، وهي دوائر الأولياء، دائرة الغوث، ثم دائرة الأقطاب، ثم الأوتاد، ثم النقباء، ثم النجباء، ثم الأبرار، ثم الصالحين‏.‏ وأوحى في كل سماء، أي‏:‏ في كل دائرة ما يليق بها من العبادة، فمنهم مَن عبادته الشهود والعيان، ومنهم مَن عبادته الفكرة، ومنهم الركوع والسجود، ومنهم التلاوة والذكر‏.‏‏.‏‏.‏ إلى غير ذلك من أنواع الأعمال‏.‏

قال القشيري‏:‏ وجعل نفوسَ العابدين، أرضاً لطاعته وعبادته، وجعل قلوبهم فَلَكاً لنجوم علمه، وشموس معرفته، فأوتاد النفوس الخوفُ والرجاءُ، والرغبةُ والرهبة، وفي القلوب ضياءُ العرفان، وشموس التوحيد، ونجوم العلوم والعقول، والنفوس والقلوب، بيده يُصَرِّفُها على ما أراد من أحكامه‏.‏ وقال في قوله‏:‏ ‏{‏وجعل فيها رواسي من فوقها‏}‏‏:‏ الجبالُ أوتادُ الأرض، في الصورة، والأولياءُ رواسي الأرض في الحقيقة، بهم تنزل البركة والأمطار، وبهم يُدفع البلاء‏.‏ ثم قال‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وزيَّنا السماء الدنيا بمصابيح‏}‏ وزيَّن وجه الأرض بمصابيح، وهي قلوب الأحباب، فأهلُ السماء إذا نظروا إلى قلوب أولياء الله بالليل، فذلك متنزهُهُم، كما أن أهل الأرض إذا نظروا إلى السماء تأنّسوا برؤية الكواكب‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 18‏]‏

‏{‏فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ‏(‏13‏)‏ إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ‏(‏14‏)‏ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ‏(‏15‏)‏ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ ‏(‏16‏)‏ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏17‏)‏ وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏وأما ثمود‏}‏، قراءة الجماعة بالرفع، غير مصروف، إرادة القبيلة، وقراءة الأعمش ويحيى بن وثاب مصروفاً، إرادة الحي، وقراءة ابن أبي إسحاق‏:‏ بالنصب، من باب الاشتغال، وأصل الكلام‏:‏ مهما يكن من شيء فثمود هديناهم، فحُذف الملزوم الذي هو الشرط، وأُقيم مقامه لازمه، وهو الجزاء، وأبقيت الفاء المؤذنه بأن ما بعدها لازم لما قبلها، وإلا فليس هذا موضع الفاء؛ لأن موضعه صدر الجزاء‏.‏ انظر المُطوّل‏.‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏فإِن أعرضُوا‏}‏ عن الإيمان بعد هذا البيان؛ ‏{‏فقلْ‏}‏ لهم‏:‏ ‏{‏أنذرتُكمْ‏}‏؛ خوَّفتكم‏.‏ وعبّر بالماضي للدلالة على تحقُّق الإنذار المنبىء عن تحقُّق الوقوع، ‏{‏صاعقةً‏}‏ أي‏:‏ عذاباً شديداً لو وقع كان كأنه صاعقة، وأصلها‏:‏ رعد معه نار تحرق‏.‏ تكون ‏{‏مثلَ صاعقةِ عادٍ وثمودَ‏}‏ وقد تقدّم عذابهما‏.‏

‏{‏إِذ جاءتْهُمُ‏}‏‏:‏ ظرف لمحذوف، أي‏:‏ أنزلناها بهم حين جاءتهم ‏{‏الرسلُ من بين أيديهم ومن خلفِهِم‏}‏ أي‏:‏ أتوهم من كل جانب، وعملوا فيهم كل حيلة، فلم يروا منهم إلا الإعراض، أو‏:‏ جاءتهم الرسل قبلهم لآبائهم، وبعدَهم لِمَن خلفهم، أي‏:‏ تواردت عليهم الرسل قديماً وحديثاً، والمعهود إنما هو هود وصالح عليهما السلام وعن الحسن‏:‏ أنذروهم من وقائع الله بمَنْ قبلهم من الأمم وعذاب الآخرة، ‏{‏ألاَّ تعبدوا إِلا اللهَ‏}‏ أي‏:‏ بأن لا تعبدوا إلا الله، على أنها مصدرية، أو‏:‏ لا تعبدوا، على أنها مفسرة، وقيل‏:‏ مخففة، أي‏:‏ أنه لا تعبدوا إلا الله‏.‏ ‏{‏قالوا لو شاء ربُّنا لأنزل ملائكةً‏}‏ أي‏:‏ لو شاء إرسال الرسل لأرسل ملائكة، ولَمَّا كان إرسالهم بطريق الإنزال عبَّر به، ‏{‏فإِنا بما أُرسلتُم به كافرون‏}‏ أي‏:‏ فحيث كنتم بشراً مثلنا، ولم تكونوا ملائكة، ولم يكن لكم فضل علينا، فإنا لا نؤمن بكم، ولا بما جئتم به، وقولهم‏:‏ ‏{‏أُرسلتم به‏}‏ ليس بإقرار بالإرسال، وإنما هو على كلام الرسل، وفيه تهكُّم، كما قاله فرعون‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 27‏]‏ وقولهم‏:‏ ‏{‏بما أرسلتم به كافرون‏}‏ خطاب منهم لهود وصالح ولسائر الأنبياء، الذين دعوا للإيمان‏.‏

رُوي أن أبا جهل قال في ملأ من قريش‏:‏ قد التبس علينا أمر محمد، فلو التمستم لنا رجلاً عالماً بالشعر والكهانة، فكَلَّمه، ثم أتانا بالبيان من أمره، فقال عُتبة بن ربيعة‏:‏ والله لقد سمعتُ الشعر والكهانة والسحر، وعلمتُ من ذلك علماً ما يخفى عليَّ، فأتاه، فقال‏:‏ أنت يا محمد خير أم هاشم‏؟‏ أنت يا محمد خير أم عبد المطلب‏؟‏ أنت خير أم عبد الله‏؟‏ فبمَ تشتم آلهتنا وتضللنا‏؟‏ فإن كنت تريد الرياسة عقدنا لك اللواء، فكنت رئيسنا ما بقيت، وإن كان بك الباءة زوجناك عشر نسوةٍ من أيّ بنات قريش شئتَ، وإن كان بك المال، جمعنا لك ما تستغني به أنت وعقبك‏.‏

والنبي صلى الله عليه وسلم ساكت، فلما فرغ عتبةُ، قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «‏{‏بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مثل صاعقة عاد وثمود‏}‏»، فأمسك عتبة على فِيه النبيّ صلى الله عليه وسلم وناشده بالرحم، فرجع عبتةُ إلى أهله، ولم يخرج إلى قريش، فلما احتبس عنهم، قالوا‏:‏ ما نرى عتبة إلا صبأ، فانطلقوا، وقالوا‏:‏ يا عتبة؛ ما حبسك عنا إلا أنك صبأت إلى محمد، أم أنك أعجبك طعامه‏؟‏ فغضب، ثم قال لهم‏:‏ لقد كلمته فأجابني بشيء، والله ما هو شعر، ولا كهانة، ولا سحر، ثم تلى عليهم ما سمع منه إلى قوله‏:‏ ‏{‏مثل صاعقة عاد وثمود‏}‏ فأمسكتُ بفيه، وناشدته بالرحم أن يكف، وقد علمتم أن محمداً إذا قال شيئاً لم يكذب، فخفتُ أن ينزل بكم العذاب‏.‏ ه‏.‏

ثم بيَّن ما ذكره من صاعقة عاد وثمود، فقال‏:‏ ‏{‏فأما عاد فاستبكروا في الأرض بغير الحق‏}‏ أي‏:‏ تعاظموا فيها على أهلها بما لا يستحقون به التعظيم، وهو القوة، وعظم الأجرام، واستولوا على الأرض بغير استحقاق للولاية، ‏{‏وقالوا مَن أشدُّ منا قوةً‏}‏، كانوا ذوي أجسام طوال، وخلْق عظيم، بلغ من قوتهم أن الرجل كان يقلع الصخرة من الجبل بيده، ويلوي الحديد بيده، ‏{‏أوَلَمْ يَرَوا‏}‏ أي‏:‏ أَوَلَم يعلموا علم عيان ‏{‏أن الله الذي خلقهم هو أشَدُّ منهم قوةً‏}‏ ‏؟‏ أوسعُ منهم قدرة؛ لأنه قادر على كل شيء، وهم قادرون على بعض الأشياء بإقداره، ‏{‏وكانوا بآياتنا‏}‏ المنزلة على رسلهم ‏{‏يجحدون‏}‏ أي‏:‏ ينكرونها وهم يعرفون حقِيتها، كما يجحد المودَعُ الوديعة‏.‏ و‏(‏هم‏)‏‏:‏ عطف على ‏(‏فاستكبروا‏)‏، وما بينها اعتراض، للرد على كلمتهم الشنعاء‏.‏

‏{‏فأرسلنا عليهم ريحاً صَرْصَراً‏}‏ أي‏:‏ بارداً تهلك وتُحرق؛ لشدة بردها، من‏:‏ الصر، وهو البرد، الذي يجمع ويقبض، أو‏:‏ عاصفة تصوّت في هبوبها، من الصرير، فضوعف، كما يقال‏:‏ نهنهت وكفكفت‏.‏ ‏{‏في أيام نَّحِساتٍ‏}‏؛ مشؤومات عليهم، من‏:‏ نَحِس نحساً، نقيض‏:‏ سعد سعداً، وكانت من الأربعاء آخر شوال إلى الأربعاء، وما عُذِّب قوم إلا في الأربعاء‏.‏ قيل‏:‏ أمسك الله عنهم المطر ثلاث سنين، ودامت الرياح عليهم من غير مطر‏.‏ قيل‏:‏ إذا أراد الله بقوم خيراً، أرسل عليهم المطر، وحبس عنهم كثرة الرياح، وإذا أراد الله بقوم شرّاً، حبس عنهم المطر، وأرسل عليهم كثرة الرياح‏.‏ ه‏.‏

‏{‏لنُذيقَهُمْ عذابَ الخزي في الحياة الدنيا‏}‏، أضاف العذاب إلى الخزي، وهو الذل، على أنه وصف للعذاب، كأنه قال‏:‏ عذاب خزي، ويدل عليه قوله‏:‏ ‏{‏ولعذابُ الآخرة أخزى‏}‏ أي‏:‏ أذل لصاحبه، وهو في الحقيقة وصف للمعذَّب، وُصف به العذاب للمبالغة، كقولك‏:‏ له شعر شاعر‏.‏ ‏{‏وهم لا يُنصَرُون‏}‏ برفع العذاب عنهم بوجه من الوجوه‏.‏

‏{‏وأما ثمودُ فهديناهمْ‏}‏؛ دللناهم على الرشد، بنصب الآيات التكوينية، وإرسال الرسل، وإنزال الآيات التشريعية، ‏{‏فاستحبُّوا العَمَى على الهُدى‏}‏ أي‏:‏ اختاروا الضلالة على الهداية، ‏{‏فأخذتهم صاعقةُ العذابِ الهُون‏}‏ أي‏:‏ داهية العذاب الذي يهين صاحبه ويخزيه، وهي الصيحة والرجفة، والهُون‏:‏ الهوان، وصف به للمبالغة، ‏{‏بما كانوا يكسبون‏}‏ أي‏:‏ بكسبهم الخبيث من الشرك والمعاصي‏.‏

قال الشيخ أبو منصور‏:‏ يحتمل قوله‏:‏ ‏{‏فهديناهم‏}‏‏:‏ بيَّنا لهم، كما تقدّم، ويحتمل‏:‏ خلق الهداية في قلوبهم، فصاروا مهتدين، ثم كفروا بعد ذلك، وعقروا الناقة، لأن الهدي المضاف إلى الخالق يكون بمعنى البيان، ويكون بخلق فعل الاهتداء، وأما الهدي المضاف إلى الخلق فيكون بمعنى البيان، لا غير‏.‏ ه‏.‏

وقال الطيبي‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فهديناهم‏}‏ هو كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذْ جَآءَتْهُمُ الرُّسُلُ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 14‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فاستحبوا العمى على الهدى‏}‏ هو كقوله‏:‏ ‏{‏قَالُواْ لَوْ شَآءَ رَبُّنَا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 14‏]‏ الآية‏.‏ وكذا في قوله‏:‏ ‏{‏فأما عاد فاستكبروا في الأرض‏}‏، فإن الفاء في «فاستكبروا» فصيحة، تُفصح عن محذوف، أي‏:‏ فهديناهم فاستكبروا بدلالة ما قيل في ثمود‏.‏ ه‏.‏

‏{‏ونجينا الذين آمنوا‏}‏ أي‏:‏ اختاروا الهدى على العمى، من تلك الصاعقة، ‏{‏وكانوا يتقون‏}‏ الضلالة والتقليد‏.‏

الإشارة‏:‏ كل مَن أعرض عن الوعظ والتذكار، ونأى عن صُحبة الأبرار؛ فالصعقة لاحقة به، إما في الدنيا أو في الآخرة‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأما عاد فاستكبروا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ أوصاف العبودية أربعة‏:‏ الضعف، والذل، والفقر، والعجز، فمَن خرج عن واحد منها، فقد تعدّى طوره، واستحقّ الهلاك والهوان، ورمته رياح الأقدار في مهاوي النيران‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وأما ثمود فهديناهم‏}‏ أي‏:‏ بيَّنا لهم طريق السير إلينا، على ألسنة الوسائط، فحادُوا عنها، واستحبُّوا العمى على الهدى؛ حيث لم يسبق لهم الهداية في الأزل، فالسوابق تُؤثر في العواقب، والعواقب لا تؤثر في السوابق، فكأن جبلة القوم الضلالة، فمالوا إلى ما جبلوا عليه من قبول الضلالة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونجينا الذين آمنوا‏}‏ أي‏:‏ في الدنيا من الصاعقة، وفي الآخرة من السقوط في الهاوية‏.‏ قال القشيري‏:‏ منهم مَن نجَّاهم من غير أن رأوا النار، عَبَروا القنطرةَ ولم يعلموا، وقومٌ كالبرق الخاطف، وهم أعلاهم قلت‏:‏ بل أعلاهم كالطرف ثم قال‏:‏ وقوم كالرواكض، وهم أيضاً الأكابر، وقوم على الصراط يسقطون وتردُّهم الملائكة على الصراط، فبَعُدوا‏.‏ ثم قال‏:‏ وقومٌ بعدما دخلوا النار، فمنهم مَن تأخذه إلى كعبيه، ثم إلى ركبتيه، ثم إلى حَقْوَيْه، فإذا بلغ القلب قال الحقُّ للنار‏:‏ لا تحرقي قلبه، فإنه محترقُ بي‏.‏ وقوم يخرجون من النار بعدما أمْتُحِشُوا فصاروا حُمَماً‏.‏ ه منه

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 24‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ‏(‏19‏)‏ حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏20‏)‏ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏21‏)‏ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏22‏)‏ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏23‏)‏ فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

يقول الحق جلَ جلاله‏:‏ ‏{‏و‏}‏ اذكر ‏{‏يوم نَحْشُرُ أعداء الله‏}‏ من كفار المتقدمين والمتأخرين ‏{‏إِلى النارِ فهم يُوزَعون‏}‏؛ يُضمون ويُساقون إلى النار، ويُحبس أولهم على أخرهم، فيستوقف سوابقهم حتى تلحق بهم تواليهم، وهي عبارةٌ عن كثرة أهل النار، وأصله‏:‏ من وزَعته، أي‏:‏ كففته‏.‏ ‏{‏حتى إِذا ما جاؤوها‏}‏ أي‏:‏ حضروها، و«حتى»‏:‏ غاية للحشر، أو‏:‏ ليوزعون، و«ما»‏:‏ مزيدة؛ لتأكيد اتصال الشهادة بالحضور، فبمجرد حضورهم ‏{‏شَهِدَ عليهم سمعُهُم وأبصارُهم وجلودُهم‏}‏ أي‏:‏ بَشَراتهم ‏{‏بما كانوا يعملون‏}‏ في الدنيا، من فنون الكفر والمعاصي، بأن ينطقها الله تعالى، ويظهرعليها آثار ما اقترفوا بها‏.‏ وعن ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ أن المراد بشهادة الجلود‏:‏ شهادة الفروج، كقول الشاعر‏:‏

أوَ سالم مَنْ قد تث *** نَّى جِلْدُه وابْيَضَّ رَأسُه

فكنَّى بجلده عن فرحه، وهو الأنسب؛ لتخصيص السؤال بها في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا لجلودهم لمَ شهدتم علينا‏}‏، فإن ما تشهد به من الزنا أعظم جناية وقُبحاً، وأجلب للحزن والعقوبة، مما تشهد به السمع والأبصار من الجنايات المكتسبة بتوسطها‏.‏ روي‏:‏ أن العبد يقول يوم القيامة‏:‏ يا رب، أليس قد وعدتني ألا تظلمني‏؟‏ فيقول تعالى‏:‏ فإن لك ذلك، قال‏:‏ فإني لا أقبل عليّ شاهداً إلا من نفسي، قال تعالى‏:‏ أوَ ليس كفى بي شهيداً، وبالملائكة الكرام الكاتبين‏؟‏ قال‏:‏ فيُختم على فِيهِ، وتتكلم أركانُه بما كان يعمل، فيقول لهن‏:‏ بُعْداً لكُنَّ وسُحْقاً، عنكُنَّ كنتُ أُجادل «‏.‏

‏{‏قالوا‏}‏ في جوابهم‏:‏ ‏{‏وأنطقَنا اللهُ الذي أنطق كلَّ شيءٍ‏}‏ من الحيوانات، وأقدرنا على بيان الواقع، فشهدنا عليكم بما عملتم من القبائح، وما كتمناها‏.‏ أو‏:‏ ما نطقنا باختيارنا، بل أنطقنا الله الذي انطق كل شيء‏.‏ وقيل‏:‏ سألوها سؤال تعجُّب، فالمعنى حينئذ‏:‏ وليس نطقنا بعجب من قدرة الله تعالى الذي أنطق كل شيء، ‏{‏وهو خلقكم أولَ مرةٍ وإليه تُرجعون‏}‏؛ فإنَّ مَن قدر على خلقكم أول مرة، وعلى إعادتكم ورجعكم إلى جزائه، لا يتعجب من إنطاقه جوارحكم‏.‏ ولعل صيغة المضارع، مع أن هذه المحاورة بعد البعث والرجع، كما أن المراد بالرجوع ليس مجرد الرد إلى الحياة بالعبث، بل ما يعمه، وما يترتب عليه من العذاب الخالد الترقب عند التخاطب، على تغليب المتوقع على الواقع، مع ما فيه من مراعاة الفواصل، فهذا على أنه من تتمة كلام الجلود، وقيل‏:‏ هو من كلام الحق تعالى لهم، فيُوقف على» شيء «وهو ضعيف‏.‏ وكذا قوله‏:‏

‏{‏وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعُكم ولا أبصارُكم ولا جلودُكم‏}‏، يحتمل أن يكون من كلام الجلود، أو‏:‏ من كلام الله عزّ وجل وهو الظاهر، أي‏:‏ وما كنتم تستترون في الدنيا عند مباشرتكم الفواحش مخافة أن تشهد عليكم جوارحكم، ولو خفتم من ذلك ما استترتم بها، ‏{‏ولكن ظننتم أنَّ الله لا يعلمُ كثيراً مما تعملون‏}‏ من القبائح الخفية، فلا يظهرها في الآخرة‏.‏

وعن ابن مسعود رضي الله عنه‏:‏ كنت مستتراً بأستار الكعبة، فدخل ثلاثة نفر؛ وثقفيان وقرشي، أو‏:‏ قرشيان وثَقَفي، فقال أحدهم‏:‏ أترون أن الله يسمع ما نقول‏؟‏ قال الآخر‏:‏ سمع جهرنا ولا يسمع ما أخفينا، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كنتم تستترون‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، فالحُكم المحكي حينئذ يكون خاصّاً بمَن كان على ذلك الاعتقاد من الكفرة، انظر أبا السعود‏.‏

‏{‏وذلكم ظنُّكم الذي ظننتم بربكم أرداكم‏}‏؛ أهلككم، ف «ذلك»‏:‏ مبتدأ، و«ظنكم»‏:‏ خبر، و«الذي ظننتم بربكم»‏:‏ صفة، و«أرداكم»‏:‏ خبر ثان، أو‏:‏ ظنكم‏:‏ بدل من «ذلك» و«أرداكم»‏:‏ خبر، ‏{‏فأصبحتم‏}‏ بسبب الظن السوء ‏{‏من الخاسرين‏}‏ إذ صار ما منحوا لسعادة الدارين سبباً لشقاء النشأتين‏.‏

‏{‏فإِن يصبروا فالنارُ مثوىً‏}‏؛ مقام ‏{‏لهم‏}‏ أي‏:‏ فإن يصبروا لم ينفعهم الصبر، ولم ينفكوا به من الثوى في النار، ‏{‏وإِن يستعينوا‏}‏ أي‏:‏ يسألُوا العتبى؛ وهو الاسترضاء ‏{‏فما هم من المُعتَبين‏}‏؛ المجابين إليها، أي‏:‏ وإن يطلبوا الاسترضاء من الله تعالى ليرضى عنهم، فما هم من المرضين؛ لما تحتّم عليهم واستوجبوه من السخط، قال الجوهري‏:‏ أعتبني فلان‏:‏ إذا عاد إلى مسرتي، راجعاً عن الإساءة، والاسم منه‏:‏ العتبى، يقال؛ استعتبته فأعتبني، أي‏:‏ استرضيته فأرضاني‏.‏ وقال الهروي‏:‏ إن يستقيلوا ربهم لم يقلهم، أي‏:‏ لم يردهم إلى الدنيا، أو‏:‏ إن أقالهم وردهم لم يعملوا بطاعته، كقوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 28‏]‏‏.‏

الإشارة‏:‏ أعداء الله هم الجاحدون لوحدانيته ولرسالة رسله، وهم الذين تشهد عليهم جوارحهم، وأما المؤمن فلا، نعم إن مات عاصياً شهدت عليه البقع أو الحفظة، فإن تاب أنسى الله حفظته ومعالمه في الأرض ذنوبه‏.‏ قال في التذكرة‏:‏ إن العبد إذا صدق في توبته أنسى اللهُ ذنوبه لحافظيه، وأوحى إلى بقع الأرض وإلى جميع جوارحه‏:‏ أن اكتموا مساوىء عبدي، ولا تظهروها، فإنه تاب إليَّ توبة صادقة، بنية مخلصة، فقبلته وتبتُ عليه، وأنا التوّاب الرحيم‏.‏

وفي الآية حث على حسن الظن بالله، وفي الحديث‏:‏ «لا يموتن أحدكم إلا وهو يُحسن الظن بالله عزّ وجل» وقال أيضاً‏:‏ «يقول الله عزّ وجل‏:‏ أنا عندَ ظنِّ عبدي بي‏.‏‏.‏‏.‏» الحديث فمَن ظنَّ خيراً لقي خيراً، ومَن ظنّ شرّاً لقي شرّاً‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وقيّضنا‏}‏ أي‏:‏ سيَرنا، أو‏:‏ قدّرنا، ‏{‏لهم‏}‏ أي‏:‏ كفار مكة في الدنيا ‏{‏قُرَناء‏}‏ سواء من الجن والإنس، أو‏:‏ سلطنا عليهم نظراء لهم من الشياطين يستولون عليهم، كقوله‏:‏ ‏{‏وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 36‏]‏، ‏{‏فَزَيَّنوا لهم ما بين أيديهم‏}‏ من أمور الدنيا، واتباع الشهوات، والتقليد لأسلافهم، حتى حادوا عن الحق، ‏{‏وما خَلْفَهم‏}‏ من أمور الآخرة، حيث ألقوا إليهم‏:‏ ألا بعث ولا حساب‏.‏ أو‏:‏ ما تقدّم من أعمالهم وما هم عازمون عليها، ‏{‏وحقّ عليهم القولُ‏}‏ أي‏:‏ ثبت وتقرّر عليهم كلمة العذاب، أو‏:‏ تحقق موجبها ومصداقها، وهي قوله تعالى لإبليس‏:‏ ‏{‏لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 85‏]‏، حال كونهم ‏{‏في‏}‏ جملة ‏{‏أمم قد خلت مِن قبلهم‏}‏ أي‏:‏ قبل أهل مكة ‏{‏من الجن والإِنس‏}‏ كانوا مُصرّين على الكفر والعصيان، ‏{‏إِنهم كانوا خاسرين‏}‏ حيث آثروا الباطل على الحق، وهو تعليل لاستحقاقهم العذاب‏.‏ والضمير لهم وللأمم‏.‏

الإشارة‏:‏ قال القشيري‏:‏ إذا أراد الله بعبده سوء، قيّض له إخوان سوء وقرناء شر، هم الأضداد له فيما راموا، وإذا أراد الله بعبد خيراً قيّض له قرناء خير، يُعِينونه على الطاعة، ويَحْمِلونه عليها، ويدعونه إليها، وإذا كانوا إخوانَ سوءٍ يحملونه على المخالفات، ويدعونه إليها، ومن ذلك الشيطانُ‏.‏ ثم قال‏:‏ وشرُّ قرين للمرء نفسُه، ثم الشيطان، ثم شياطين الإنسِ، فزيّنوا لهم ما بين أيديهم من طول الأمل، وما خلفهم من نسيان الزَّلَلِ، والتسويف في التوبة، والتقصير في الطاعة‏.‏ ه‏.‏

قلت‏:‏ والله ما رأينا الفلاح والخسران إلا من الخلطة‏.‏ قال بعضهم‏:‏ والله ما أفلح مَن أفلح إلا بصحبة مَن أفلح، ولا سيما صبحة العارفين؛ فساعة معهم تعدل عبادة سنين بالصيام والقيام وأنواع المجاهدة، ولله در الجيلاني رضي الله عنه حيث قال‏:‏

فَشمرْ ولذْ بالأَولياءِ فإِنّهم *** لَهُمْ مِنْ كِتَاب الله تلْكَ الوَقَائعُ

هُمُ الذُّخْرُ للْملهوف والكَنزُ للرَّجا *** ومنهم يَنَالُ الصَّبُّ مَا هو طامِعُ

بهم يُهتدى للْعَيْنِ مَنْ ضَلَّ في العَمَى *** بهمْ يُجْذب العُشَّاقُ والرَّبْع شَاسِعُ

هُمُ النّاسُ فالزَمْ إِنْ عَرفْت جَنَابَهم *** ففيهم لِضُرّ العالمين مَنَافِعُ

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 28‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ‏(‏26‏)‏ فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏27‏)‏ ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وقال الذين كفروا‏}‏ من رؤساء المشركين لأتباعهم، أو‏:‏ بعضهم لبعض‏:‏ ‏{‏لا تسمعوا لهذا القرآنِ‏}‏ إذا قُرىء، أي‏:‏ لا تنصتوا له؛ لأنه يقلب القلوب، ويسبي العقول، وكل مَن استمع إليه صبا إليه، ‏{‏والْغَوْا فيه لعلكم تَغْلِبون‏}‏ أي‏:‏ عارضوه بكلام غير مفهوم، أو‏:‏ بالخرافات؛ من الرّجَز والشعر والتصدية، وارفعوا أصواتكم بها ‏{‏لعلكم تغلبون‏}‏ أي‏:‏ تغلبونه على قراءته، وشوِّشوا عليه فيقع في الغلط، أو‏:‏ لا يسمعه منه أحد‏.‏ واللغو‏:‏ الساقط من الكلام الذي لا طائلَ تحته‏.‏

‏{‏فلنذيقنَّ الذين كفروا‏}‏ أي فوالله لنذيقن هؤلاء اللاغين والقائلين، أو‏:‏ جميع الكفار، وهم داخلون فيهم دخولاً أولياً‏.‏ ‏{‏عذاباً شديداً‏}‏ لا يُقادر قدره، ‏{‏ولنجزينهم أسوأ الذي كانوا يعملون‏}‏ أي‏:‏ أعظم عقوبة على أسوأ أعمالهم، وهو الكفر، وقيل‏:‏ إنه لا يجازيهم بمحاسن أعمالهم، كإغاثة الملهوفين، وصلة الأرحام، وقِرى الضيف؛ لأنها محبطة بالكفر، وإنما يجازيهم على أسوئها‏.‏ عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏عذاباً شديداً‏}‏‏:‏ يوم بدر، و‏{‏أسوأ الذي كانوا يعملون‏}‏‏:‏ ما يُجزون في الآخرة‏.‏

‏{‏ذلك جزاءُ أعداء الله النارُ‏}‏ أي‏:‏ ذلك الأسوأ من الجزاء هو جزاء أعداء الله، وهو النار‏.‏ فالنار‏:‏ خبر عن مضمر، أو‏:‏ عطف بيان للجزاء، والنار‏:‏ مبتدأ‏.‏ و‏{‏لهم فيها دارُ الخلد‏}‏‏:‏ خبر، أي‏:‏ النار في نفسها دار الخلد، كما تقول‏:‏ لك في هذه الدار السرور، وأنت تعني الدار بعينها، ويسمى في علم البلاغة‏:‏ التجريد، وهو أن ينتزع من ذي صفة أمراً آخر مثله، مبالغةً، لكمالٍ فيه‏.‏ تقول‏:‏ لقيت من زيد أسداً‏.‏ وقيل‏:‏ هي على معناها، والمراد‏:‏ أن لهم في النار المشتملة على الدركات دار مخصوصة، هم فيها خالدون، ‏{‏جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون‏}‏ أي‏:‏ جُوزوا بذلك جزاء بسبب ما كانوا يجحدون بآياتنا ويلغون فيها‏.‏

الإشارة‏:‏ الآية تنسحب على مَن يرفع صوته بمحضر مجلس الوعظ والذكر، أو العلم النافع، أو صفوف الصلاة، فهذه المجالس يجب صونها من اللغو والصخب، ويجب الاستماع لها، والإنصات، والتوقير، والتعظيم، لأنها موروثة عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهَمْ لِلتَّقْوَى‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 3‏]‏، ومَن فعل شيئاً من ذلك فالوعيد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلنذيقن الذين كفروا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية منه بالمرصاد‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وقال الذين كفروا‏}‏ وهم متقلبون فيما ذكر من العذاب‏:‏ ‏{‏ربنا أَرِنَا اللذَيْنِ أَضَلاَّنا من الجن والإنس‏}‏، يعنون الفريقين الحاملين على الضلال، من شياطين الجن والإنس، بالتسويل والتزيين، وقيل‏:‏ هما إبليس وقابيل، فإنهما سنّا الكفر والقتل، وقرىء بسكون الراء تخفيفاً، كفَخِذ وفخْذ، وبالاختلاس، أي‏:‏ أبصرناهما، ‏{‏نَجْعَلْهُما تحت أقدامنا‏}‏ أي‏:‏ ندسهما تحت أرجلنا، انتقاماً منهما، أو‏:‏ نجعلهما في الدرك الأسفل ‏{‏ليكونا من الأسفلين‏}‏ ذلاًّ ومهانةً، أو‏:‏ مكاناً، جزاء إضلالهم إيانا‏.‏

الإشارة‏:‏ كل مَن سقط عن درجة المقربين العارفين، وتعوّق عن صحبتهم، بسبب تعويق أحد، تمنى يوم القيامة أن يكون تحت قدمه، ليكون أسفل منه، غيظاً وندماً، ولا ينفع التمني والندم في ذلك اليوم‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏