فصل: تفسير الآيات رقم (33- 35)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 35‏]‏

‏{‏وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ ‏(‏33‏)‏ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ ‏(‏34‏)‏ وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ولولا أن يكون الناسُ أمةً واحدةٌ‏}‏ أي‏:‏ ولولا كراهة أن يجتمع الناس على الكفر، ويُطبقوا عليه، ‏{‏لجعلنا‏}‏ لأجل حقارة الدنيا عندنا ‏{‏لِمَن يكفُر بالرحمن لبيوتهم‏}‏‏:‏ بدل «مَن» ‏{‏سُقُفاً من فضةٍ‏}‏ أي‏:‏ متخذة منها، ‏{‏ومعارجَ‏}‏ أي‏:‏ ولجعلنا لهم مصاعد، أي‏:‏ سلالم من فضة أيضاً، يصعدون عليها إلى السطوح، ‏{‏عليها يظهرون‏}‏ أي‏:‏ يَعلون السطوح والعلالي عليها، ‏{‏ولِبيوتهم‏}‏ أي‏:‏ وجعلنا لبيوتهم ‏{‏أبواباً وسُرُراً‏}‏ من فضة أيضاً، ‏{‏عليها‏}‏ أي‏:‏ السرر ‏{‏يتكئون‏}‏، ولعل تكرير «بيوتهم» لزيادة التقرير‏.‏ ‏{‏وزُخرفاً‏}‏ أي‏:‏ وجعلنا لهم زخرفاً، أي‏:‏ زينةً من كل شيء‏.‏ والزخرف‏:‏ الذهب والزينة‏.‏ ويجوز أن يكونَ الأصلُ‏:‏ سقفاً من فضة وزخرف، أي‏:‏ بعضها من فضة، وبعضها مِن ذهب، فنُصب عطفاً على محل «مِن فضة»‏.‏

‏{‏وإِن كُلُّ ذلك لَمَّا متاعُ الحياةِ الدنيا‏}‏ أي‏:‏ وما كل ما ذكر من البيوت الموصوفة بما ذكر من الزخارف الغرارة، إلا شيء يتمتع به في الحياة الدنيا، ثم يفنى وتبقى تبعته‏.‏ ‏{‏والآخرةُ‏}‏ أي‏:‏ ونعيم الآخرة الذي يقصر عنه البيان‏:‏ خير ‏{‏عند ربك للمتقين‏}‏ الكفر والمعاصي‏.‏ وبهذا يتبين أن العظيم إنما هو العظيم في الآخرة، لا في الدنيا، ولذلك لم يجعل للمؤمنين فيها حظاً وافراً؛ لأنه تمتع قليل بالنسبة إلى ما لهم في الآخرة، ولأنه ربما يشغلهم عن ذكر الرحمن، كما أشار إليه بقوله‏:‏ ‏{‏ومَن يَعْشُ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ‏.‏

الإشارة‏:‏ في الآية ذم للدنيا ولمَن اشتغل بها‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقي كافراً منها شربة ماء» وعن علقمة عن ابن مسعود رضي الله عنه قال‏:‏ اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصيرٍ، فأثَّرَ الحصيرُ في جَنْبِه، فلما استيقظ، جعلتُ أمسح عنه، وأقول‏:‏ يا رسول الله؛ ألا آذنتني قبل أن تنام على هذه الحصيرة، فأبسط عليه شيئاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما لي وللدنيا، وما للدنيا وما لي، ما أنا والدنيا إلا كراكبٍ استظلَّ في فيء، أو ظل شجرةٍ، ثم راح وتركها» ورُوي أن عيسى عليه السلام أخذ لبنة من طوب، فجعلها تحت رأسه، فجاءه جبريل عليه السلام، فوكز الطوية من تحت رأسه، ونزعها، وقال‏:‏ «اترك هذه مع ما تركتَ» وأنشدوا في هذا المعنى‏:‏

رضيتُ من الدنيا بقُوتٍ وخرقةٍ *** وأشربُ من كوز حوافيه تُكْسَرُ

فقل لبني الدنيا‏:‏ اعزلوا مَن أردتُم *** وولُّوا، وخلوني على البعد أنظرُ

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الدنيا خراب، وأخرب منها قلب مشتغل بها» ومَن اشتغل بها غَفَلَ عن ذكر الرحمن، وسُلط عليه الشيطان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 42‏]‏

‏{‏وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ‏(‏36‏)‏ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ‏(‏37‏)‏ حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ‏(‏38‏)‏ وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ ‏(‏39‏)‏ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏40‏)‏ فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ ‏(‏41‏)‏ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ «مَن يعش»‏:‏ شرط وجواب‏.‏ وحكي أن أبا عبد الله بن مرزوق دخل على ابن عرفة، فحضر مجلسه، ولم يعرفه أحد، فوجده يُفسر هذه الآية‏:‏ ‏{‏ومَن يعش عن ذكر الرحمن‏}‏، فكان أول ما افتتح به- يعني ابن مرزوق- أن قال‏:‏ وهل يصح أن تكون «مَن» هنا موصولة‏؟‏ فقال ابن عرفة‏:‏ وكيف، وقد جزمت‏؟‏ فقال ابن مرزوق‏:‏ جزمت تشبيهاً بالشرطية، فقال ابن عرفة‏:‏ إنما يقدم على هذا بنص من إمام، أو شاهد من كلام العرب، فقال‏:‏ أما النص؛ فقال ابن مالك في التسهيل‏:‏ وقد يحزم مسبب عن صلة الذي، تشبيهاً بجواب الشرط، وأما الشاهد فقوله‏:‏

فلا تَحْفِرَنْ بِئراً تُريدُ أخاً بها *** فإنك فيها أنتَ مِنْ دُونِهِ تَقَعْ

كذاك الذي يَبْغِي عَلَى ظالماً *** تُصِبْهُ على رَغْمِ عَوَاقِبُ ما صَنَعْ

فقال ابن عرفة‏:‏ فأنت إذاً أبو عبد الله بن مرزوق‏؟‏ فقال‏:‏ نعم، فحرّب به‏.‏ وقال‏.‏ والله ما ظلمناك‏.‏ ه‏.‏

وقرأ ابن عباس‏:‏ «يعشَ»- بفتح الشين، أي‏:‏ يَعْم، من‏:‏ عشى يعشى‏.‏ وقُرئ‏:‏ «يعشو» على أن «من» موصولة غير مضمنة معنى الشرط، وإلا جزمت كما تقدم‏.‏ قلتُ‏:‏ والذي يظهر من كلام التسهيل أن الموصول المضمَن معنى الشرط إنما يجزم الجواب لا الشرط، فتأمله، مع كلام ابن مرزوق‏.‏ والشاهد الذي أتى به إنما فيه جزم الجواب لا الشرط، فلا يصح ما قاله ابن مرزوق باعتبار جزم لفظ الشرط‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ومَن يَعْشُ‏}‏ أي‏:‏ يتعَامَ، أو‏:‏ يعْم‏.‏ والفرق بين القراءتين أنه إذا حصلت الآفة في بصره قيل‏:‏ عشى يعشَى، وإذا ضعف بصره بلا آفة قيل‏:‏ عشَى يعشو‏.‏ والمعنى‏:‏ ومَن يعرض ‏{‏عن ذكر الرحمن‏}‏ وهو القرآن، لفرط اشتغاله بزهرة الدنيا، وانهماكه في الحظوظ الفانية، فلم يلتفت إليه، ولم يعرف أنه حق- على قراءة الفتح- أو‏:‏ عرف أنه حق وتعامى عنه، تجاهلاً، على قراءة الضم، ‏{‏نُقَيّضْ له شيطاناً فهو له قرينُ‏}‏، قال ابن عباس‏:‏ نسلطه عليه فهو معه في الدنيا والآخرة، لا يفارقه، ولا يزال يوسوسه ويغويه‏.‏ وفيه إشارة إلى أن مَن دام عليه لم يغوه الشيطان‏.‏ وإضافته إلى «الرحمن» للإيذان بأن نزوله رحمة للعالمين، وهو من إضافة المصدر إلى فاعله، أي‏:‏ ما ذكره الرحمن وأوحى به في كتابه، وقال ابن عطية‏:‏ ما ذكّر الله به عباده من المواعظ‏.‏ ويحتمل أن يريد مطلق الذكر، أي‏:‏ ومَن يغفل عن ذكر الله نُسلط عليه شيطاناً، عقوبة على الغفلة، فإذا ذكر الله تباعد عنه‏.‏

‏{‏وإِنهم‏}‏ أي‏:‏ الشياطين، الذي قيّض كل واحد منهم لكل واحد ممن يعشو، ‏{‏ليصدُّونهم‏}‏؛ ليمنعون العاشين ‏{‏عن السبيل‏}‏؛ عن سبيل الهدى الذي جاء به القرآن، ‏{‏ويحسبون أنهم مهتدون‏}‏ أي‏:‏ أنفسهم مهتدون، أو‏:‏ ويحسب العاشُون أن الشياطين مهتدون، فلذلك قلَّدوهم، فمدار جمع الضمير اعتبار معنى «مَن» كما أن مدار إفراده فيما سبق اعتبار لفظها‏.‏

وصيغة المضارع في الأفعال الأربعة للدلالة على الاستمرار التجديدي، لقوله‏:‏ ‏{‏حتى إِذا جاءنا‏}‏ فإن «حتى» تقتضي أن تكون غاية لأمر ممتد، أي‏:‏ يستمر العاشون على ما ذكر من مقارنة الشياطين والصد والحسبان الباطل، حتى إذا جاءنا كل واحد منهم مع قرينه يوم القيامة‏.‏ ومَن قرأ بالتثنية، فالمراد العاشي وقرينه‏.‏ قال مخاطباً لقرينه‏:‏ ‏{‏يا ليتَ بيني وبينك‏}‏ في الدنيا ‏{‏بُعد المشرقين‏}‏ أي‏:‏ بُعد المشرق والمغرب، أي‏:‏ تباعد كل منهما من صاحبه، فغلب المشرق على المغرب، كما قيل‏:‏ القَمَران والعُمرَان، وأضيف البُعد إليهما، ‏{‏فبئس القرينُ‏}‏ أنت‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولن ينفعكم اليومَ‏}‏ أي‏:‏ يوم القيامة ‏{‏إِذ ظلمتمْ‏}‏ أي‏:‏ حين صحّ وتبيّن ظلمكم وكفركم، ولم تبقَ لكم ولا لأحد شبهة في أنكم كنتم ظالمين‏.‏ و«إذ»‏:‏ بدل من اليوم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أنكم في العذاب مشتركون‏}‏‏:‏ فاعل ينفع، أي‏:‏ لن ينفعكم يوم القيامة اشتراككم في العذاب، كما كان في الدنيا يُهون عليكم المصيبة اشتراككم فيها، لتعاونكم في تحمُّل أعبائها وتقسيمكم لعنائها، ولذلك قيل‏:‏ المصيبة إذا عمّت هانت، وإذا خصت هالت، وفي ذلك تقول الخنساء‏:‏

ولولا كثرةُ الباكين حَوْلي *** على إخوانهم لقتلتُ نفسي

ولا يبكون مثلَ أخي ولكنْ *** أُعزّي النفسَ عنه بالتأسِّي

أما هؤلاء فلا يؤسّيهم اشتراكهم، ولا يُروّحهم، لأن بكلٍّ منهم ما لا تبلغه طاقة، وقد ورد أنهم يكونون في توابيت من نار، لا يرى أحد صاحبَه، بل يظن أنه وحده فيها‏.‏ وقيل‏:‏ الفاعر مضمر، أي‏:‏ ولن ينفعكم هذا التمني، أو هذا الاعتذار؛ لأنكم في العذاب مشتركون؛ لاشتراككم في سببه، وهو الكفر، ويؤيده‏:‏ قراءة مَن قرأ‏:‏ «إنكم» بالكسر‏.‏

وكان صلى الله عليه وسلم يُبالغ في المجاهدة في دعاء قومه، وهم لا يزيدون إلا غيّاً وتعامياً عما يشهدونه من شواهد النبوة، وتصامماً عما يسمعونه من القرآن، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏أفأنت تُسْمِعُ الصمَّ أو تهدي العُمْيَ‏}‏، وهو إنكار وتعجيب من أن يكون هو الذي يقدر على هدايتهم، وقد تمرّنوا في الكفر، واستغرقوا في الضلال، حيث صار ما بهم من العشي عَماً مقروناً بالصمم، أي‏:‏ أفأنت تقدر أن تُسمع مَن فقد سمع القبول، أو تهدي مَن فقد بصر الاستبصار‏.‏ ‏{‏ومَن كان في ضلالٍ مبين‏}‏ أي‏:‏ ومَن كان في علم الله أنه يموت على الضلال‏.‏ ومدار الإنكار هو التمكُّن والاستقرار في الضلال المفرط، بحيث لا ارعواء له منه، لا توهم القصور من قبل الهَادي، ففيه رمز في أنه لا يقدر على ذلك إلا الله‏.‏

‏{‏فإما نَذْهَبَنَّ بك‏}‏ أي‏:‏ فإن قبضناك قبل أن ننصرك على أعدائك، ونشفي صدور المؤمنين منهم، ‏{‏فإنا منهم منتقمون‏}‏ أشد الانتقام في الآخرة‏.‏ ‏{‏أو نُرِيَنَّكَ‏}‏ العذاب ‏{‏الذي وعدناهم‏}‏ قبل أن نتوفينك، كما وقع بهم يوم بدر، ‏{‏فإِنا عليهم مقتدرون‏}‏ العذاب ‏{‏الذي وعدناهم‏}‏ قبل أن نتوفينك، كما وقع بهم يوم بدر، ‏{‏فإِنا عليهم مقتدرون‏}‏ بحيث لا ناصر لهم من حلول نقمتنا وقهرنا‏.‏ و«إما»‏:‏ شرط دخلت «ما» على «إن» توكيداً للشرط، وزاد التوكيد نون الثقيلة‏.‏

الإشارة‏:‏ كل مَن غفل عن ذكر الله تسلّط الشيطان على قلبه بالوسوسة والخواطر الردية، وقد ورد في الحديث‏:‏ «إن قلب ابن آدم ملك وشيطان، فإذا ذكر الله قرب الملك منه وانخنس الشيطان، وإذا غفل عن ذكر الشيطان قرب منه، فلا يزال يوسوسه ويمنيه حتى يغفله عن الله» ولا شك أن الذكر الذي يصرف الشيطان عن القلب إنما هو الذكر القلبي لا اللساني، فكم من ذاكر بلسانه وقلبه مشغول بهواه، فذكر اللسان نتائجة الأجور، وذكر القلوب نتائجة الحضور ورفع الستور، وشتان بين مَن همّه الحور والقصور، ومَن همّه الحضور ورفع الستور، هذا من عامة أهل اليمين، وهذا من خاصة المقربين، فإذا أردت يا أخي ذكر القلوب، ولمعان أسرار الغيوب، فاصحب الرجالَ، حتى ينقلوك من عالم الطبيعة إلى عالم الروحانية، وإلا بقيت في عالم الأشباح‏.‏

قال القشيري‏:‏ مَن لم يعرف قَدْرَ الخلوة مع اللّهِ، فحادَ عن ذكره وأخلدَ إلى الخواطر الرديَّة، قيَّض اللّهُ له مَن يشغله عن الله- وهذا جزاء مَن تَرك الأدب في الخلوة‏.‏ وإذا اشتغل العبدُ في خلوته مع ربَّه، وتعرَّض له مَن يشغله عن ربه، صَرَفه الحق عنه بأي وجْهٍ كان‏.‏‏.‏ ويقال‏:‏ أصعبُ الشياطين نَفْسُكَ، والعبدُ إذا لم يَعرفْ قدر فراغ قلبه، واتَّبَعَ شهوته، وفتح ذلك البابَ علَى نَفْسه، بقي في يد هواه أسيراً، لا يكاد يتخلصُ منه إلا بعد مُدة‏.‏ ه‏.‏

وقال في الإحياء‏:‏ للشيطان جندان؛ ند يطير، وجند يسير، والوسواس عبارة عن حركة جنده الطيار، والشهوة عبارة عن حركة جنده السيار‏.‏ ثم قال‏:‏ فتحقق أن الشيطان من المنظَرين، فلا يتواضع لك بالكف عن الوسواس إلى يوم الدين؛ إلا أن تصبح وهمومك هم واحد، وهو الله، فيشتغل قلبك بالله وحده، فلا يجد الملعون مجالاً فيك، فعند ذلك تكون من عباد الله المخلّصين، الداخلين في الاستثناء من سلطنته‏.‏ ولا تظن أن يفرغ منه قلب فارغ من ذكر الله، بل هو سيّال يجري من ابن آدم مجرى الدم، وسيلانه مثل الهواء في القدح، إن أردت أن يخلو عن الهواء من غير أن تشغله بالماء أو غيره، فقد طمعت في غير مطمع، بل بقدر ما يخلو من الماء يدخل فيه من الهواء لا محالة، فكذلك القلب المشغول بتفكُّر مهم في الدين، يخلو عن جولان الشيطان، وإلا فمَن غفر عن الله، ولو لحظة، فليس له في تلك اللحظة قرين إلا الشيطان، وإلا فمَن غفل عن الله، ولو لحظة، فليس له في تلك اللحظة قرين إلا الشيطان، ولذلك سبحانه‏:‏ ‏{‏ومَن يعش عن ذكر الرحمن نُقيض له شيطاناً فهو له قرين‏}‏‏.‏

ه‏.‏ المراد منه‏.‏

وكل مَن عوّق الناس عن طريق الحق يصدق عليه قوله‏:‏ ‏{‏وإِنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون‏}‏، فإذا تحققت الحقائق، وارتفع الغطاء، وظهر الصواب من الخطأ، قال للذي صدّه عن طريق القوم‏:‏ يا ليت بيني وبينك بُعد المشرقين فبئس القرين، فيقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنفسكم‏}‏ حيث حرمتموها من الوصول إليّ أنكم من عذاب الحجاب مشتركون‏.‏ ويُقال لمَن وعظ ودعا إلى الله، فلم يُقبل منه‏:‏ ‏{‏أفأنت تُسمع الصُّم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ فإما نذهبنَّ بك بالموت، فيقع الندم عليك، أو نُرينك الذي وعدناهم من العز لك والنصر، والانتقام ممن آذى أولياء الله، فإنا عليهم مقتدرون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏43- 45‏]‏

‏{‏فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏43‏)‏ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ‏(‏44‏)‏ وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آَلِهَةً يُعْبَدُونَ ‏(‏45‏)‏‏}‏

يقول الحق جّل جلاله‏:‏ ‏{‏فاستمسكْ‏}‏ أي‏:‏ تمسّك ‏{‏بالذي أُوحِيَ إِليك‏}‏ من الآيات والشرائع، واعمل بذلك، سواء عجلنا لك الموعد أو أخرناه، ‏{‏إِنك على صراطٍ مستقيم‏}‏؛ على دين قَيم لا عوجَ فيه، وهو تعليل للأمر بالاستمساك‏.‏ ‏{‏وإِنه‏}‏ أي‏:‏ ما أُوحي إليك ‏{‏لَذِكرّ‏}‏؛ لشرف عظيم ‏{‏لك ولقومك‏}‏؛ ولأمتك، أو‏:‏ لقومك من قريش، فما زال العز فيهم، والشرف لهم، من زمانه صلى الله عليه وسلم إلى قرب الساعة‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا يزال هذا الشأن في قريش ما بقيّ منه اثنان» وفي رواية‏:‏ «لا يزال هذا الأمر في قريش، لا يُعاديهم أحد إلا كُبّ على وجهه بمكة، ويعدهم الظهور، فإذا قالوا‏:‏ لِمن الملك بعدك‏؟‏ أسمك فلم يجبهم، حتى نزلت‏:‏ ‏{‏وإنه لذكر لك ولقومك‏}‏ فكان بعد ذلك إذا سئل قال‏:‏» لقريش «فلا يُجيبونه، فقبلته الأنصار على ذلك‏.‏

أو‏:‏ وإنه لموعظة لك ولأمتك بأجمعها‏.‏ ‏{‏وسوف تسألون‏}‏ يوم القيامة عن شكركم هذه النعمة، أو‏:‏ عما أوحي إليه، وعن قيامكم بحقوقه، وعن تعظيمكم له‏.‏

‏{‏واسْأَلْ من أرسلنا مِن قبلك مِن رسلنا أجعلنا من دون الله آلهةً يُعبدون‏}‏، فليس المراد سؤال الرسل حقيقة، ولكنه مجاز عن النظر في أديانهم والفحص عن مِللهم، هل جاءت عبادة الأوثان قط في ملة من ملل الأنبياء‏؟‏ وكفاه نظراً وفحصاً نظره في كتاب الله المعجز، المصدق لما بين يديه‏.‏ وإخبارُ الله فيه بأنهم إنما يعبدون من دون الله ما لم يُنزل به سلطاناً‏.‏ وهذه الآيةُ في نفسها كافية، لا حاجة إلى غيرها‏.‏

وقيل إنه صلى الله عليه وسلم جُمع له الأنبياء- عليهم السلام- وقيل له‏:‏ سلهم، وهو ضعيف‏.‏ وقيل معناه‏:‏ سل أمم مَن أرسلنا، وهم أهل الكتابين‏:‏ التوراة والإنجيل، وإنما يخبرونه عن كتب الرسل، فإذا سألهم فأكنما سأل الأنبياء، ومعنى هذا السؤال‏:‏ التنبيه على بطلان عبادة الأوثان، والاستشهاد بإجماع الأنبياء على التوحيد، وأنه ليس ببدع ابتدعه حتى ينكر ويعادي‏:‏ وقيل‏:‏ الخطاب له، والمراد غيره ممن يرتاب‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ الاستمساك بالوحي كان حاصلاً له صلى الله عليه وسلم، وإنما المراد الثبوت على ما هو حاصل، والاسترشاد إلى ما ليس بحاصل، فالمراد الترقي في زيادة العلم، والكشف إلى غير نهاية، كقوله‏:‏ ‏{‏اهدنا الصراط المستقيم‏}‏، فالترقي لا ينقطع لمَن تمسك بالوحي التمسُّك الحقيقي، بحيث كُشِف له عن غوامض أسرار القرآن، وزال الحجاب بينه وبين الله تعالى، فهو دائماً في زيادة العلم والكشف، إلى ما لا نهاية له‏.‏ وهذا هو الشرف العظيم في الدارين‏.‏ فمَن لم يشكره سُئل عنه، أو سُلب منه في الدنيا‏.‏ ثم إن التوحيد في الذات والصفات والأفعال مما أجمعت عليه الملل، وكل داعٍ إنما يدعو إليه، وكل شيخ مربي إنما يُوصل إليه، ومَن لم يُوصل إليه أصحابه فهو دجّال‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏46- 50‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏46‏)‏ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآَيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ ‏(‏47‏)‏ وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏48‏)‏ وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ ‏(‏49‏)‏ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ولقد أرسلنا موسى بآياتنا‏}‏ أي‏:‏ متلبساً بآياتنا ‏{‏إِلى فرعون وملَئِه فقال إِني رسولُ رب العالمين‏}‏ فأجابوه بقولهم‏:‏ ‏{‏فأتنا بآية إن كنت من الصادقين‏}‏ كما صرّح به في آية أخرى‏.‏ ‏{‏فلما جاءهم بآياتنا إِذا هم منها يضحكون‏}‏؛ يسخرون منها، ويهزؤون، ويسمُّونها سحراً‏.‏ و«إذا» للمفاجأة، وهو جواب «لمّا»، لأن فعل المفاجأة معها مقدّر، وهو العامل في «إذا»، أي‏:‏ لما جاءهم فاجؤوا وقت ضحكهم منها، أي‏:‏ استهزؤوا بها أول ما رأوها، ولم يتأملوا فيها‏.‏

‏{‏وما نُرِيهم من آيةٍ‏}‏ من الآيات ‏{‏إِلا هي أكْبرُ من أُختها‏}‏؛ قرينتها، وصاحبتها التي كانت قبلها، أي‏:‏ ما ظهر لهم آية إلا وهي بالغة أقصى مراتب الإعجاز، بحيث يجزم كل مَن ينظر إليها أنها أكبر من كل ما يُقاس بها من الآيات‏.‏ والمراد‏:‏ وصف الكل بغاية الكِبرَ من غير ملاحظة قصور في شيء منها، قال النسفي‏:‏ وظاهر النظم يدلّ على أن اللاحقة أعظم من السابقة، وليس كذلك، بل المراد بهذا الكلام‏:‏ أنهن موصوفات بالكبر، كما يقال‏:‏ هما أخوان، كلّ منهما أكبر من الآخر‏.‏ ه‏.‏ وقال في الانتصاف‏:‏ الظاهر‏:‏ أن كل آية إذا أُفردت استغرقت الفكر وبهرته، حتى يجزم أنها النهاية، وأنَّ كل آية دونها، فإذا نقل الفكر إلى الأخرى كانت كذلك‏.‏ وحاصله‏:‏ أنه لا يقدر الفكر أن يجمع بين آيتين، لتتميز الفاضلة من المفضولة‏.‏ ه‏.‏

‏{‏وأخذناهم بالعذاب‏}‏ وهو ما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَخَذْنَآ ءَالَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّنَ الثَّمَرَاتِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 130‏]‏، ‏{‏فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ الطُّوفَانَ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 133‏]‏ الآية‏.‏ ‏{‏لعلهم يرجعون‏}‏؛ لكي يرجعوا عما هم عليه من الضلال‏.‏

‏{‏وقالوا يا أيُّه الساحِرُ‏}‏، كانوا يقولون للعالِم‏:‏ إنما هو ساحر؛ لتعظيمهم علم السحر، أو‏:‏ نادوه بذلك في مثل تلك الحالة لغاية عتوهم ونهاية حماقتهم وقرأ الشامي بضم الهاء، لاتباع حركة ما قبلها حين سقطت الألف، ‏{‏ادْعُ لنا ربك‏}‏ يكشف عنا العذاب ‏{‏بما عَهِدَ عندك‏}‏ أي‏:‏ لعهده عندك بأن دعوتك مستجابة، أو‏:‏ بما عهد عندك من النبوة والجاه، أو‏:‏ بما عهد من كشف العذاب عمن اهتدى، ‏{‏إِننا لمهتدون‏}‏؛ مؤمنون أن كشف عنا بدعوتك، كقوله‏:‏ ‏{‏لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 134‏]‏، ‏{‏فلما كشفنا عنهم العذاب‏}‏ بدعوته ‏{‏إِذا هم يَنكُثُون‏}‏؛ ينقضون العهد، أي‏:‏ فاجؤوا وقت نكث عهدهم بالاهتداء‏.‏ وقد مرَّ تمامه في الأعراف‏.‏

الإشارة‏:‏ قد ظهرت الآيات على الأنبياء والرسل، فلم ينتفع بها إلا مَن سبقت له العناية، وكذلك ظهرت الكرامات على أيدي الأولياء الداعين إلى الله، فلم ينتفع بها إلا مَن سبق له التقريب والاصطفاء‏.‏ على أن الصادق في الطلب لا يحتاج إلى ظهور كرامة، بل إذا أراد الله أن يوصله إليه وصله إلى وَليّ من أوليائه، فطوى عنه وجود بشريته، وأشهده سر خصوصيته، فخصع له من غير توقف على كرامة ولا آية‏.‏ وأما مَن لم يسبق له التقريب؛ إذا رأى ألف آية ضحك منها واستهزأ، ورماها بالسحر والشعوذة، والعياذ بالله من البُعد والطرد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 56‏]‏

‏{‏وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ ‏(‏51‏)‏ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ ‏(‏52‏)‏ فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ ‏(‏53‏)‏ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ‏(‏54‏)‏ فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏55‏)‏ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآَخِرِينَ ‏(‏56‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ونادى فرعونُ‏}‏، إما بنفسه، أو‏:‏ أمر مَن ينادي، كقولك‏:‏ قطع الأميرُ اللصّ‏.‏ والظاهر أنه نادى بنفسه، ‏{‏في قومه‏}‏؛ في مجمعهم وفيما بينهم، بعد أن كشف العذاب عنهم، مخافة أن يؤمنوا، ‏{‏قال يا قوم أليس لي مُلكُ مِصرَ وهذه الأنهارُ‏}‏؛ أنهار النيل، ومعظمها أربعة‏:‏ نهر الملك، ونهر طولون، ونهر دمياط، ونهر تييس، ‏{‏تجري من تحتي‏}‏؛ تحت سريري؛ لارتفاعه، أو‏:‏ بين يدي في جناتي وبساتيني‏.‏

قال عمرو بن العاص رضي الله عنه‏:‏ نيل مصر سيد الأنهار، سخّر الله له كل نهر بين المشرق والمغرب، فإذا أراد الله أن يجريه أمر الأنهار فأمدته بمائها، وفجّر له كل نهر عيوناً، فإذا انتهت جريته إلى ما أراد الله سبحانه أوحى إلى كل ماء أن يرجع إلى عنصره‏.‏ قاله في الاكتفاء‏.‏ ومهبطه من جبل القمر، وقيل‏:‏ أصله من الجنة، والله تعالى أعلم‏.‏ وحدُّ مصر‏:‏ من بحر الإسكندرية إلى أسوان، بطول النيل‏.‏ والأنهار المذكورة هي الخلجان الكبار، الخارجة من النيل‏.‏

وعن عبد الله بن طاهر‏:‏ أنه لما ولي مصر خرج إليها، فلما شارفها، قال‏:‏ أهي القرية التي افتخر بها فرعون، حتى قال‏:‏ ‏{‏أليس لي ملك مصر‏}‏ ‏؟‏ والله لهي أقلّ عندي من أن أدخلها، فثنى عنانه‏.‏ وعن هارون الرشيد‏:‏ أنه لما قرأها، قال‏:‏ والله لأولينّها أخسَّ عبيدي، فولاها الخُصَيْب، وكان خادم وُضوئه‏.‏

‏{‏وهذه الأنهارُ‏}‏‏:‏ إما عطف على «ملك مصر»، ف «تجري»‏:‏ حال منها، أو‏:‏ واو الحال، ف «هذه» مبتدأ، و«الأنهار»‏:‏ صفتها و«تجري»‏:‏ خبر، ‏{‏أفلا تُبصرون‏}‏ قوتي وسلطاني، مع ضعف موسى وقلة أتباعه‏.‏ أراد بذلك استعظام ملكه وترغيب الناس في اتباعه‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏أم أنا خير‏}‏ مع هذه المملكة والبسْطة ‏{‏مِن هذا الذي هو مَهينٌ‏}‏ أي‏:‏ ضعيف حقير، من‏:‏ المهانة، وهي القلة‏.‏ ‏{‏ولا يكاد يُبينُ‏}‏ الكلام لما به من اللثة‏.‏ قاله افتراء عليه عليه السلام، وتنقيصاً له في أعين الناس، باعتبار ما كان في لسانه عليه السلام‏.‏ وقد كانت ذهبت عنه، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُوؤْلَكَ يَا مُوسَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 36‏]‏‏.‏ والهمزة للتقرير، كأنه قال إثر ما عدّد من أسباب فضله، ومبادئ خيريته‏:‏ أثبت عندكم واستقر لديكم أني أنا خير، وهذه حال، مِن هذا‏.‏ وإما متصلة، والمعنى‏:‏ أفلا تبصرون أم تبصرون‏؟‏ فوضع قوله‏:‏ ‏{‏أما أنا خير‏}‏ موضع «تُبصرون»؛ لأنهم إذا قالوا‏:‏ أنت خير؛ فهم عنده بُصَراء‏.‏ وهذا من باب تنزيل السبب منزلة المسبب‏.‏ انظر أبا المسعود‏.‏

‏{‏فلولا أُلْقِيَ عليه أسَاوره من ذهب‏}‏ أي‏:‏ فهلاَّ أُلقي عليه مقاليد الملك إن كان صادقاً، لأنهم كانوا إذا سوّدوا رجلاً سوّروه بسوار، وطوّقوه بطوق من ذهب‏.‏

‏{‏أو جاء معه الملائكةُ مقترنين‏}‏؛ مقرونين يمشون معه، مقترن بعضهم ببعض، ليكونوا أعضاده وأنصاره، أو‏:‏ ليشهدوا له بالنبوة‏؟‏ ‏{‏فاستخف قومَهُ‏}‏ أي‏:‏ فاستفزهم، وطلب منهم الخفة والسرعة في مطاوعته‏.‏ أو‏:‏ فاستخف أحلامهم واستزلهم، ‏{‏فأطاعوه‏}‏ فيما أمرهم به ‏{‏إِنهم كانوا قوماً فاسقين‏}‏، خارجين عن الدين، فلذلك سارعوا إلى طاعته‏.‏

‏{‏فلما آسَفُونا‏}‏؛ أغضبونا أشد الغضب، منقول من‏:‏ أَسف‏:‏ إذ اشتد غضبه، ‏{‏انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين‏}‏، والمعنى‏:‏ أنهم أفرطوا في المعاصي فاستوجبوا أن نُعجِّل لهم العذاب، وألا نحلُم عليهم‏.‏ ‏{‏فجعلناهم سَلَفاً‏}‏؛ قدوة لمَن بعدهم من الكفار، يسلكون مسلكهم في استيجاب مثل ما حلّ بهم من العذاب، فكل مَن تفرعن وتجبّر ففرعون إمامه وقدوته‏.‏ أو‏:‏ جعلناهم متقدمين في الهلاك، ليتعظ بهم مَن بعدهم إلى يوم القيامة‏.‏ والسلف‏:‏ جمع سالف، وهو الفارط المتقدم، ‏{‏ومثلاً للآخِرين‏}‏ أي‏:‏ عظةً لهم، أو‏:‏ قصة عجيبة، تسير مسير الأمثال، فيقال‏:‏ مثلكم كقوم فرعون، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 11‏]‏‏.‏ وهاهنا قراءات، قد وجَهناها في كتاب مستقل‏.‏

الإشارة‏:‏ عاقبة التكبُّر والافتخار الذُّل والهوان والدمار، وعاقبة التواضع والانكسار العزُّ والنصرة، انظر إلى فرعون لما تعزّز واستكبر هلك مع قومه في لُجة البحار‏.‏ قال القشيري‏:‏ ليعلم أن مَن تعزّز بشيء دون الله فهلاكه وحتْفه فيه، وفرعون لمَّا استصغر موسى وحديثه، وعابَه بالفقر، سلَّطه الله عليه، فكان هلاكه بيده، وما استصغر أحدٌ أحداً إلا سُلط عليه‏.‏ ثم قال في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاستخف قومه فأطاعوه‏}‏‏:‏ طاعةٌ الرهبة لا تكون مخلصةً، وإنما تكون الطاعةُ صادقةً إذا صَدَرَتْ عن الرغبة، ‏{‏فلما آسفونا‏}‏؛ أغضبونا، وإنما أراد‏:‏ أغضبوا أولياءنا، وهذا أصل في باب الجمع، أضاف إغضابهم أولياءه إلى نفسه‏.‏ وفي الخبر أنه تعالى يقول‏:‏ «مرضت فلم تعدني» وقال لإبراهيم عليه السلام‏:‏ ‏{‏يَأْتُوكَ رِجَالاً‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 27‏]‏ وقال لنبينا صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏مَّن يُطِع الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 80‏]‏‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏57- 62‏]‏

‏{‏وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ‏(‏57‏)‏ وَقَالُوا أَآَلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ‏(‏58‏)‏ إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ‏(‏59‏)‏ وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ ‏(‏60‏)‏ وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ‏(‏61‏)‏ وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ‏(‏62‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ولما ضُرب ابنُ مريمَ مثلا‏}‏، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ على قريش‏:‏ ‏{‏إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 98‏]‏ الآية، فغضبوا، فقال ابن الزِّبَعْرى‏:‏ يا محمد‏!‏ أخاصة لنا ولآلهتنا، أم لجميع الأمم‏؟‏ فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «هو لكم ولآلهتكم ولجميع الأمم»، فقالوا‏:‏ ألست تزعم أن عيسى ‏[‏نبي‏]‏، يُثنى عليه وعلى أمّه خيراً، وقد علمت أنَّ النصارى يعبدونهما‏؟‏ وعزيز يُعبد، والملائكة يُعبدون، فإن كان هؤلاء في النار، فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم، ففرحوا، وضحكوا، وسكت النبيُّ انتظاراً للوحي‏.‏

وفي رواية‏:‏ فقال لهم صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنما عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك» وقال لابن الزبعرى‏:‏ «ما أجهلك بلغة قومك، أَمَا فهمت أن» ما «لِما لا يعقل، فهي خاصة بالأصنام»، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الْحُسْنَى‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 101‏]‏ الآية‏.‏ ونزلت هذه الآية‏.‏

والمعنى‏:‏ ولما ضرب ابن الزبعرى عيسى ‏{‏ابن مريم مثلاً‏}‏ لآلهتهم، وجادل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعبادة النصارى إياه ‏{‏إِذا قومُك‏}‏ قريش ‏{‏منه‏}‏ أي‏:‏ من هذا المثل ‏{‏يَصِدُّون‏}‏ ترتفع لهم جلبة وضجيج، فرحاً وضحكاً، فهو من‏:‏ الصديد، وهو الجلبة ورفع الصوت، ويؤيده‏:‏ تعديته بمَن، ولو كان من الصدود لقال‏:‏ «عنه»، وقرئ بالكسر والضم، وقيل‏:‏ هما لغتان، كيعكِفُون ويعكُفُون ويعرِشون ويعرُشُون، وقيل‏:‏ بالكسر معناه‏:‏ الصديد، أي‏:‏ الضجيج والضحك، وبالضم معناه‏:‏ الإعراض، فيكون من الصدود، أي‏:‏ فهم من أجل هذا المثل يعرضون عن الحق، أي‏:‏ يثبتون على ما كانوا عليه من الإعراض، أو يزدادون‏.‏

‏{‏وقالوا آلهتُنا خيرٌ أَمْ هو‏}‏ يعني أن آلهتنا عندك ليست بخير من عيسى، فإذا كان عيسى من حصب جهنم كان أمر آلهتنا هيناً‏.‏ أو‏:‏ فإذا كان عيسى في النار، فلا بأس بكوننا مع آلهتنا فيها‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏ما ضربوه لك إِلا جَدَلا‏}‏ أي‏:‏ ما ضربوا لك ذلك المثل إلا لأجل الجدال والخصام، لا لطلب الحق حتى يذعونا له عند ظهوره، ‏{‏بل هم قوم خَصِمُونَ‏}‏ أي‏:‏ لُدّاً، شِدَاد الخصومة، مجبولون على اللجاج، وذلك أن الآية إنما قصدت الأصنام، بدليل التعبير ب «ما»، إلا أن ابن الزبعرى حدا عنه لمّا رأى كلام الله تعالى محتملاً لفظُه للعموم، مع علمه بأن المراد به أصنامهم، وجد للحيلة مساغاً، فصرف اللفظ إلى الشمول والإحاطة بكل معبود غير الله، على طريق اللجاج والجدال والمكابرة، وتوقَّح في ذلك، فصمت عنه صلى الله عليه وسلم حتى أجاب عنه ربه‏.‏

وقيل‏:‏ لما سمعوا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 59‏]‏ الآية، قالوا‏:‏ نحن أهدى من النصارى، لأنهم عبدوا آدمياً، ونحن نعبد الملائكة، فنزلت‏.‏

فقولهم‏:‏ آلهتنا خير، هو حينئذ تفضيل لآلهتهم على عيسى عليه السلام؛ لأن المراد بهم الملائكة‏.‏ ومعنى‏:‏ ‏{‏ما ضربوه‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ‏:‏ ما قالوا هذا القول إلا للجدال‏.‏ وقيل‏:‏ لما نزل‏:‏ ‏{‏إن مثل عيسى عند الله‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، قالوا‏:‏ ما يريد محمد إلا أن نعبده كما عبد النصارى المسيح‏.‏ ومعنى «يصدون»‏:‏ يضجون ويسخرون، والضمير على هذا في «أَم» هو لمحمد صلى الله عليه وسلم، وغرضهم ومرادهم بالموازنة بينه وبين آلهتهم الاستهزاء به صلى الله عليه وسلم ويجوز أن يكون مرادهم التنصُّل عما أنكر عليهم من قولهم‏:‏ الملائكة بنات الله، ومن عبادتهم لهم، كأنهم قالوا‏:‏ ما قلنا بدعاً من القول، ولا فعلنا منكراً من الفعل، فإنَّ النصارى جعلوا المسيح ابن الله، وعبدوه، فنحن أرشد منهم قولاً وفعلاً، حيث نسبنا له الملائكة، وهم نسبوا إليه الأناسي‏.‏ فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن هو إِلا عبدٌ أنعمنا عليه‏}‏ أي‏:‏ ما عيسى إلا عبد، كسائر العبيد، أنعمنا عليه بالنبوة، ‏{‏وجعلناه مثلاً لبني إِسرائيل‏}‏ أي‏:‏ أمراً عجيباً، حقيقاً بأن يسير ذكره كالأمثال السائرة، ففيه تنبيه على بطلان رفعه عن رتبة العبودية، أي‏:‏ قصارى أمره أنه ممن أنعمنا عليه بالنبوة، وخصصناه ببعض الخواص البديعة، بأن خلقناه على وجهٍ بديع، وقد خلقنا آدم بوجه أبدع منه، فأين هو من رتبة الربوبية حتى يتوهم أنه رضي بعبادته مع الله‏؟‏ ومَن عبده فإنما عبد الشيطان‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكةً في الأرض‏}‏ بدلاً منكم، كذا قال الزجاج، ف «مِن» بمعنى البدل ‏{‏يَخْلُفُون‏}‏ أي‏:‏ يخلفونكم في الأرض، أي‏:‏ لو نشاء لذهبنا بكم وجعلنا بدلاً منكم ملائكة يخلفونكم في الأرض، فيكونون أطوع منك لله تعالى، وقيل‏:‏ ‏{‏ولو نشاء‏}‏ لقدرتنا على عجائب الأمور ‏{‏لجعلنا منكم‏}‏ بطريق التوالد، وأنتم رجال، من شأنكم الولادة- ‏{‏ملائكة‏}‏ كما خلقناهم بطريق الإبداع ‏{‏في الأرض‏}‏ مستقرين فيهم، كما جعلناهم مستقرين في السماء، يخلفونكم مثل أولادكم، ويباشرون الأفاعيل المنوطة بمباشرتكم، فكيف يستحقون المعبودية مع أنهم أجسام، متولدون عن أجسام، والمستحق للعبادة يتعالى عن ذلك‏؟‏‏!‏

‏{‏وإِنه‏}‏ أي‏:‏ عيسى عليه السلام ‏{‏لَعِلْمٌ للساعة‏}‏ أي‏:‏ مما يعلم به مجيء الساعة عند نزوله‏.‏ وقرأ ابن عباس «لَعَلَمٌ» بفتح اللام، أي‏:‏ وإن نزوله لَعَلَم للساعة، أو‏:‏ وإن وجوده بغير أب، وإحياءه للموتى، دليل على صحة البعث، الذي هو معظم ما ينكرة الكفرة‏.‏

وفي الحديث‏:‏ إن عيسى عليه السلام ينزل على ثنية بالأرض المقدسة، يقال لها‏:‏ أَفِيق، وهي عقبة بيت المقدس، وعليه مُمَصَّرتان، وشعر رأسه دهين، وبيده حربة يقتل بها الدجال، فيأتي بيت المقدس، والناس في صلاة العصر، والإمام يؤم بهم، فيتأخر الإمام، فيقدمه عيسى، ويصلي خلفه على شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، ويقتل الخنزير، ويكسر الصليب، ويخرب البيعَ والكنائس، ويقتل النصارى إلا مَن آمن به وبمحمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقيل‏:‏ الضمير للقرآن؛ لأن فيه الإعلام بالساعة، ‏{‏فلا تمْتَرُنَّ بها‏}‏؛ فلا تشكنَّ فيها، من المرْية، وهو الشك، ‏{‏واتبعونِ‏}‏ أي‏:‏ اتبعوا هداي وشرائعي، أو‏:‏ رسولي‏:‏ وقيل‏:‏ هو قول نبينا صلى الله عليه وسلم مأموراً به من جهته تعالى‏:‏ ‏{‏هذا‏}‏ أي‏:‏ الذي أدعوكم إليه ‏{‏صراط مستقيم‏}‏؛ موصل إلى الحق‏.‏ ‏{‏ولا يَصُدَّنكم الشيطانُ‏}‏ عن اتباعي ‏{‏إِنه لكم عدو مبينٌ‏}‏؛ بيِّن العداوة، حيث أخرج آباكم من الجنة، وعرضكم للبلية‏.‏

الإشارة‏:‏ الوعظ والتذكير لا تسري أنواره في القلوب إلا مع التسليم والتصديق، والسكوت والاستماع، كما كان الصحابة رضي الله عنهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم كأنَّ على رؤوسهم الطير، وأما إن دخل معه الجدال واللجاج ذهبت بركته، ولم تسْر أنواره، ولذلك قيل‏:‏ مذهب الصوفية مبني على التسليم والتصديق، ومذهب الفقهاء مبني على البحث والتفتيش، لكن مع الإنصار، وخفض الصوت، وحسن السؤال من غير ملاججة ولا غضب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏63- 66‏]‏

‏{‏وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏63‏)‏ إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ‏(‏64‏)‏ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ ‏(‏65‏)‏ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏66‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ولما جاء عيسى بالبينات‏}‏؛ بالمعجزات؛ أو‏:‏ بآيات الإنجيل؛ أو‏:‏ بالشرائع الواضحات ‏{‏قال‏}‏ لبني إسرائيل‏:‏ ‏{‏قد جئتكم بالحكمة‏}‏؛ بالشريعة، أو‏:‏ بالإنجيل المشتمل عليها ‏{‏ولأُبَينَ لكم بعضَ الذي تختلفون فيه‏}‏ وهو ما يتعلق بأمور الدين، وأما ما يتعلق بأمور الدنيا فليس بيانه من وظائف الأنبياء عليهم السلام كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أنتم أعلمُ بدُنياكم»، وهو عطف على مقدّر، ينبئ عنه المجيء بالحكمة، كأنه قيل‏:‏ جئتكم بالحكمة لأعلمكم إياها، ولأُبيّن لكم ما تختلفون فيه، ‏{‏فاتقوا الله‏}‏ في مخالفتي ‏{‏وأطيعونِ‏}‏ فيم أُبلغكم عن الله تعالى‏:‏

‏{‏إِن الله هو ربي وربُّكم فاعبدوه‏}‏ بيان لما أمرهم به من الطاعة، وهو اعتقاد التوحيد، والتعبُّد بالشرائع، ‏{‏هذا صراطٌ مستقيمٌ‏}‏ لا يضل سالكه؛ فهذا تمام كلام عيسى عليه السلام، وقيل‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏هذا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ من كلام الله تعالى، مُقرر لمقالة عيسى عليه السلام‏.‏

‏{‏فاختلف الأحزابُ‏}‏ أي‏:‏ الفرق المتحزِّبة بعد عيسى، وهم‏:‏ اليعقوبية والنسطورية، والملكانية، والشمعونية، ‏{‏من بينهم‏}‏ أي‏:‏ من بين النصارى، أو‏:‏ من بين مَن بُعِثَ إليهم من اليهود والنصارى، أي‏:‏ اختلافاً ناشئاً من بينهم، من غير حجة ولا برهان، ‏{‏فَويلٌ للذين ظلموا‏}‏ من المختلفين، حيث قالوا في عيسى ما كفروا به، ‏{‏من عذاب يومٍ أليم‏}‏ وهو يوم القيامة ‏{‏هل ينظرون‏}‏ أي‏:‏ ما ينتظر أولئك الكفرة، أو قوم عيسى ‏{‏إِلا الساعة أن تأتيهم‏}‏‏:‏ بدل من «الساعة» أي‏:‏ هل ينتظرون إلا إتيان الساعة ‏{‏بغتةً‏}‏؛ فجأة ‏{‏وهم لا يشعرون‏}‏ غافلون عن الاستعداد لها، لاشتغالهم بأمر دنياهم، أو‏:‏ منكرون لها، غير مترقبيبن وقوعها‏.‏

الإشارة‏:‏ كانت الرسل- عليهم السلام- يُبينون لأممهم ما يقع فيه الاختلاف من أمر الدين، سواء تعلّق ذلك بالظاهر أو بالباطن، بما يوحى إليهم من إلهام، أو بملَك مرسل، فلما ماتوا بقي خلفاؤهم من العلماء والأولياء، فالعلماء يُبينون ما اختُلِف فيه من الشرائع والعقائد، بما عندهم من القواعد والبراهين، والأولياء يُبينون الحقائق، وما يتعلق بالقلوب من الشكوك والخواطر، وسائر الأمراض، بما عندهم من الأذواق والكشوفات‏.‏ فالعلماء يرجعون إلى كتبهم وعلومهم، والأولياء يرجعون إلى قلوبهم وأذواقهم، حتى كان فيما سلف من العلماء إذا توقفوا في مسألة عقلية أو قلبية أخذوا صوفيّاً أُميّاً فيسألونه، ويجبرونه على الجواب، فيجيبهم عن كل ما يسألونه، كقصة أبي الحسن النوري مع القاضي، وغيره، وقد كان الشعراني يسأل شيخه الخواص- وهو أُمي- عن أمر معضلة، فيجيب عنها، حتى إن كتبه كلها مطرزة بكلامه رضي الله عنهم أجمعين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏67- 73‏]‏

‏{‏الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ‏(‏67‏)‏ يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ‏(‏68‏)‏ الَّذِينَ آَمَنُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ ‏(‏69‏)‏ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ ‏(‏70‏)‏ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏71‏)‏ وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏72‏)‏ لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ ‏(‏73‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏الأخلاءُ يومئذ بعضُهُم لبعضٍ عدو‏}‏ أي‏:‏ المتحابون في الدنيا على الأمور الذميمة متعادون يوم القيامة، يبغض بعضهم بعضاً، فتنقطع في ذلك اليوم كل خُلة كانت لغير الله، وتنقلب عدواة ومقتاً؛ لانقطاع سببها، وهو الاجتماع على الهوى، ‏{‏إِلا المتقين‏}‏ أي‏:‏ الأخلّة المصادقين في الله، فإنها الخُلة الباقية؛ لأن خُلتهم في الدنيا لمَّا كانت لله، وفي الله، بقيت على حالها؛ لأن ما ان لله دام واتصل، وما كان لغير الله انقطع وانفصل، بل تزداد خُلتهم بمشاهدة كل واحد منهم بركة خُلتهم من الثواب، ورفع الدرجات‏.‏ وسُئل صلى الله عليه وسلم‏:‏ مَن أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون‏؟‏ فقال‏:‏ «المتحابون في الله»، وخرَّج البزار عن ابن عباس رضي الله عنه قيل‏:‏ يا رسول الله‏!‏ أَيُّ جُلَسَائِنا خيرٌ‏؟‏ قال‏:‏ «مَن ذكَّرَكُم بالله رؤيتُه، وزاد في عَمَلِكم مَنطِقُه؛ وذكَّركُمْ بالله عِلمُه»‏.‏

ومن كلام الشيخ أبي مدين رضي الله عنه‏:‏ دليل تخليطك صحبتك للمخلطين، ودليل انقطاعك إلى الله صحبتك للمنقطعين‏.‏ ه‏.‏ في سماع العتبية‏:‏ قال مالك‏:‏ لا تصحبْ فاجراً لئلا تتعلَّم من فجور، قال ابن رُشد‏:‏ لا ينبغي أن يُصحب إلا مَن يُقتدى به في دينه وخيره؛ لأن قرين السوء يُردي، قال الحكيم‏:‏

عَن المرْءِ لا تَسْأَلْ وسَلْ عن قَرِينه *** فَكُلُّ قَرِينِ بالمُقارِنِ مُقْتَد

وفي الحديث‏:‏ «المَرْءُ على دينِ خَليله» وسيأتي، في الإشارة بقية الكلام على المتحابين في الله‏.‏

ويقال لهم حينئذ، تشريفاً لهم، وتطييباً لقلوبهم‏:‏ ‏{‏يا عبادي لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون‏}‏، ثم وصفهم أو مدحهم بقوله‏:‏ ‏{‏الذين آمنوا بآياتنا‏}‏؛ صدّقوا بآياتنا التنزيلية، ‏{‏وكانوا مسلمين‏}‏؛ منقادين لأحكامنا، مخلصين وجوههم لنا، وعن مقاتل‏:‏ «إذا بعث الناس، فزع كل أحد، فينادي منادٍ‏:‏ ‏{‏يا عبادي لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون‏}‏ فيرجوها الناس كلهم، فيتعبها الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين، فيُنكِّس أهل الأديان الباطلة رؤوسَهم»‏.‏

ثم يقول لهم‏:‏ ‏{‏ادخلوا الجنةَ أنتم وأزواجُكم‏}‏؛ نساؤكم المؤمنات ‏{‏تُحْبرون‏}‏؛ تُسرّون سروراً يظهر حُباره- أي‏:‏ أثره- على وجوهكم أو‏:‏ تُزَينون، من‏:‏ الحبرة وهو حسن الهيئة، أو‏:‏ تُكرَمون إكراماً بليغاً، وتتنعمون بأنواع النعيم‏.‏ والحبرة‏:‏ المبالغة فيما وصف بجميل؛ وتقدّم في قوله‏:‏ ‏{‏فِى رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 15‏]‏ أنه السماع‏.‏ ‏{‏يُطاف عليهم بصِحَافٍ من ذهب‏}‏ أي‏:‏ بعد دخولهم الجنة حسبنا أمروا به ‏{‏وأكوابٍ‏}‏ من ذهب؛ حذف لدلالة ما قبله‏.‏ والصِحَاف‏:‏ جمع صحفة، قيل‏:‏ هي كالقصعة، وقيل‏:‏ أعظم القصاع، فهي ثلاث‏:‏ الجفنة، ثم القصعة، ثم الصحفة، والأكواب‏:‏ جمع كوب، وهو كوز مستدير لا عروة له‏.‏

وفي حديث أبي هريرة، عنه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

«أدنى أهْلُ الجنةِ مَن له سَبْعُ درجاتٍ، هو على السادسة، وفوقه السابعة، وإنّ له ثَلاَثَمائةِ خادمٍ، ويُغدى عليه ويُراح بثلاثمائة صَحفةٍ من ذَهبٍ، في كلِّ صَحْفَةٍ لونٌ ليس في الأُخرى مِثْلُه، وإنه لَيَلَدُّ آخِرُه كما يَلَدُّ أَوله، ويقول‏:‏ لَوْ أَذِنْتَ لي يا رب لأطْعَمْتُ أهلَ الجنةِ، وأسقيتهم، ولا ينقص مما عندي شيء، وإنَّ لَه من الحور العِين لاثنين وسبعين زوجة، سوى أزواجه في الدنيا، وإن الواحدة منهن ليأخذَ مِقعدُها قَدرَ ميل» وفي حديث عكرمة‏:‏ «إن أدنى أهل الجنة منزلةً مَن يُفسح له في بصره مسيرة مائة عام، في قصور من ذهب، وخيام من لؤلؤٍ، وليس منها موضع شبر إلا معمور، يُغدى عليه ويُراح بسبعين ألف صحفة من ذهب، ليس فيها صحفة إلا وفيها لون ليس في الأخرى مثله، شهوته في آخرها كشهوته في أولها، ولو نزل به جميع أهل الدنيا لوسع عليهم مما أعطى، ولا ينقص ذلك ما اُوتي شيئاً» ويجمع بينهما بتعدُّد اهل هذه المنزلة، وتفاوتهم‏.‏

‏{‏وفيها‏}‏ أي‏:‏ في الجنة ‏{‏ما تشتهيه الأنفسُ‏}‏ من فنون الملاذ‏.‏ ومَن قرأ بحذف الهاء؛ فلطول الموصول بالفعل والفاعل‏.‏ ‏{‏وتلذُّ الأعينُ‏}‏ أي‏:‏ تستلذه، وتقر بمشاهدته، وهذا حصر لأنواع النعيم؛ لأنها إما مشتهيات في القلوب، أو مستلذات في العيون، ففي الجنة كل ما يشتهي العبد من الملابس والمناكح والمراكب‏.‏

رُوي أن رجلاً قال‏:‏ يا رسول الله، إني أُحبُّ الخيلَ، فهل في الجنة خيلٌ‏؟‏ فقال‏:‏ «إنْ يُدْخلك اللّهُ الجنةَ فلا تشاء أن تركبَ فرساً من ياقُوتَةٍ حمراء، يَطيرُ بكَ في الجنة حيث شئت، إلا فعلت، قال أعرابي‏:‏ يا رسول الله، إني أحبُّ الإبلَ، فهل في الجنة إبل‏؟‏ فقال‏:‏ يا أعرابي، إن يُدْخلك الله الجنة ففيها ما اشتهيت نفسك ولذَت عيناك» ه‏.‏ وقال أبو طيبة السلمي‏:‏ إن الشرذمة من أهل الجنة لتظلهم سحابة، فتقول‏:‏ ما أُمْطِرْكُم‏؟‏ فما يدعو داع من القوم بشيء إلا أَمطرَتْه، حتى إن الرجل منهم يقول‏:‏ أمطر علينا كواعب أتراباً‏.‏ وقال أبو أُمامة‏:‏ إن الرجل من أهل الجنة ليشتهي الطائر وهو يطير، فيقع نضيجاً في كفه كما أراد، فيأكل منه حتى تشتهي نفسه، ثم يطير كان أول مرة، ويشتهي الشراب، فيقع الإبريق في يده، فيشرب منه ما يريد، ثم يُرفع الإبريق إلى مكانه‏.‏ ه‏.‏ من الثعلبي‏.‏

قال القشيري‏:‏ وفيها ما تشتهيه الأنفس للعُبَّاد؛ لأنهم قاسوا في الدنيا- بحكم المجاهدات- الجوعَ والعطشَ، وتحمّلوا وجوهَ المشاقِّ، فيجزون في الجنة وجوهاً من الثواب، وأما أهل المعرفة والمحبُّون فلهم ما تلذّ أعينهم من النظر إلى الله، لطول ما قاسوه من فَرْطِ الاشتياق بقلوبهم، وما عالجوه من احتراقهم فيه لشدة غليلهم‏.‏ ه‏.‏ والحاصل‏:‏ أن ما تشتهي الأنفس يرجع لنعيم الأشباح، وتلذ الأعين لنعيم الأرواح من النظر، والقُرب، والمناجاة والمكالمة، والرضوان الأكبر، منحنا الله من ذلك الحظ الأوفر‏.‏

‏{‏وأنتم فيها خالدون‏}‏ إتمام للنعمة، وكمال للسرور؛ فإن كل نعيم له زواله مكدر بخوف زواله لا محالة‏.‏

‏{‏وتلك الجنة‏}‏؛ مبتدأ وخبر، و«التي أُورثتموها»‏:‏ صفة الجنة، أو‏:‏ «الجنة» صفة المبتدأ، الذي هو الإشارة، و«التي أورثتموها»‏:‏ خبره‏.‏ أو‏:‏ «التي أورثتموها» صفة المبتدأ، و‏{‏بما كنتم تعملون‏}‏‏:‏ خبر، أي‏:‏ حاصلة، أو كائنة بما كنتم تعملون في الدنيا، شبه جزاء العمل بالميراث؛ لبقائه على أهله دائماً، ولا ينافي هذا قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لَن يُدخِل أحدَكُم الجنةَ عملُه»؛ لأن نفس الدخول بالرحمة، والتنعُّم والدرجات بقدر العمل، أو‏:‏ تقول‏:‏ الحديث خرج مخرج الحقيقة، والآية خرجت مخرج الشريعة، فالحقيقة تنفي العمل عن العبد، وتُثبته لله، والشريعة تُثبته له باعتبار الكسب، والدين كله وارد بين حقيقة وشريعة؛ فإذا شرع القرآن حققته السُّنة، وإذا شرعت السنة حققه القرآن‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

‏{‏لكم فيها فاكهةُ كثيرة‏}‏ بحسب الأنواع والأصناف، لا بحسب الأفراد فقط، ‏{‏منها تأكلون‏}‏ أي‏:‏ لا تأكلون إلا بعضها، وأعقابها باقية في أشجارها على الدوام، لا ترى فيها شجراً خلت عن ثمرها لحظة، فهي مزيّنة بالثمار أبداً، موقورة بها، وعن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا ينزع رجل في الجنة من ثمرها إلا نبت في مكانها مثلاها»‏.‏

الإشارة‏:‏ كل خُلة وصحبة تنقطع يوم القيامة، إلاَّ خُلة المتحابين في الله، وهم الذين ورد في الحديث‏:‏ أنهم يكونون في ظل العرش، والناس في حر الشمس، يغشى نورُهم الناسَ في المحشر، يغبطهم النبيون والشهداء لمنزلتهم عند الله‏.‏ قيل‏:‏ يا رسول الله، مَن هؤلاءِ‏؟‏ صفهم لنا لنعرفهم، قال‏:‏ «رجالٌ من قبائلَ شتى، يجتمعون على ذكر الله»‏.‏

وقد ورد فيهم أحاديث، منها‏:‏ حديث الموطأ، عن معاذ، قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «قال الله تعالى‏:‏» وَجَبَتْ محَبتِّي للمُتَحَابِّين فِيَّ، والمُتَجالِسينَ فيّ، والمُتبَاذِلينَ فِيّ، والمُتَزَاوِرينَ فِيّ «، وفي رواية أبي مُسلم الخولاني‏:‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏» المتحابُّون في الله على مَنَابرَ من نورٍ، في ظِلِّ العرشِ، يوم لا ظِلَّ إِلا ظِلُّه «، وفي حديث آخر‏:‏» ما تحابّ اثنان في الله إلا وُضِعَ لهما كُرسِيّاً، فيجلِسَانِ عليه حتى يَفْرغَ من الحساب «وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏» إنَّ المُتَحَابِّين في الله لَتَرى غُرفَهُم في الجنة كالكوكب الطَّالِعِ الشَّرقِي أو الغربي، فيقال‏:‏ مَن هؤلاء‏؟‏ فيقال‏:‏ هؤلاء المُتَحَابُّونَ في الله عزّ وجل «‏.‏

وفي رواية‏:‏» إنّ في الجنة غُرَفاً يُرى ظواهِرُها مِن بَوَاطِنِها، وبَواطِنُها من ظَواهرها، أعدَّها الله للمُتحابِّين في الله، والمُتَزَاورِينَ فيه، والمُتباذِلين فيه «

وفي لفظ آخر‏:‏ «إنَّ في الجنة لعُمُداً من ياقوتٍ، عليها غُرَفٌ من زَبَرْجد، لها أبواب مُفَتَّحَةٌ؛ تُضيء كما يُضيء الكوكب الدُّرِّي، قلنا‏:‏ يا رسول الله، مَن يَسْكُنُها‏؟‏ قال‏:‏ المتحابُّون في الله، والمتباذِلُون في الله، والمتلاقون في الله، مكتوب على وجوههم، هؤلاء المتحابون في الله» وفي الأثر أيضاً‏:‏ إذا كان يوم القيامة‏:‏ نادى منادٍ‏:‏ أين المتحابون في الله‏؟‏ فيقوم ناس- وهم يسير- فَيَنْطَلِقُون إلى الجَنَّ سِرَاعاً، فَتَتَلقَّاهم الملائكة‏:‏ فيقولون‏:‏ رأيناكم سِراعاً إلى الجنة، فمَن أنتم‏؟‏ فيقولون‏:‏ نحن المتَحَابُّون في الله؛ فيقولون‏:‏ وما كان تحابُّكُم‏؟‏ فيقولون‏:‏ كنَّا نتحاب في الله؛ ونتزاورُ في الله، ونتعاطف في الله، ونتباذل في الله، فيُقال لهم‏:‏ ادخلوا الجنة، فَنِعْمَ أَجْرُ العاملين‏.‏ ه‏.‏ من البدور السافرة‏.‏ والتباذل‏:‏ المواساة بالبذل‏.‏

وذكر في الإحياء شروط المتحابين في الله، فقال رضي الله عنه‏:‏ اعلم أن عقد الأخوة رابطة بين الشخصين، كعقد النكاح بين الزوجين، ثم قال‏:‏ فَلأخيك عليك حق في المال، وفي النفس، وفي اللسان، وفي القلب‏.‏ وبالعقو، وبالدعاء، وذلك تجمعه ثمانية حقوق‏.‏

الحق الأول‏:‏ في المال بالمواساة، وذلك على ثلاثة مراتب؛ أدناها‏:‏ أن تُنزله منزلة عبدك وخادمك، فتقوم بحاجاته بفضله مالك، فإذا سنحت له حاجة، وعندك فضلة أعطيته ابتداءً، فإذا أحوجته إلى سؤال فهو غاية التقصير‏.‏ الثانية‏:‏ أن تنزله منزلة نفسك، وترضى بمشاركته إياك في مالك، فتسمح له في مشاركته‏.‏ الثالثة- وهي العليا-‏:‏ أن تؤثره على نفسك، وتقدم حاجته على حاجتك، وهي رتبة الصدّيقين، ومنتهى درجات المتحابين‏.‏

الحق الثاني‏:‏ الإعانة بالنفس في قضاء الحاجات، والقيام بها قبل السؤال، وهذا أيضاً لها درجات كالمواساة، فأدناها‏:‏ القيام بالحاجة عند السؤال، ولكن مع البشاشة والاستبشار، وإظهار الفرح‏.‏ وأوسطها‏:‏ أن تجعل حاجته كحاجتك، فتكون متفقداً لحاجته، غير غافل عن أحواله، كما لا تغفل عن أحوال نفسك، وتغنيه عن السؤال‏.‏ وأعلاها‏:‏ أن تؤثره على نفسك، وتقدم حاجته على حاجتك، وتؤثره على نفسك، وأقاربك، وأولادك‏.‏ كان الحسن يقول‏:‏ إخواننا أحبُّ إلينا من أهلينا وأولادنا؛ لأن أهلينا يذكروننا الدنيا، وإخواننا يذكروننا في الآخرة‏.‏

الحق الثالث‏:‏ على اللسان بالسكوت، فيسكت عن التجسُّس، والسؤال عن أحواله، وإذا رآه في طرقه فلا يسأله عن غرضه وحاجته، فربما يثقل عليه، أو يحتاج إلى أن يكذب، ويسكت عن أسراره التي بثها إليه، فلا يبثها إلى غيره، ولا إلى أخص أصدقائه، ولا يكشف شيئاً منها ولو بعد القطيعة، وليسكن عن مماراته ومدافعته في كلامه‏.‏

الحق الرابع‏:‏ على اللسان بالنطق، فيتودد إليه بلسانه، ويتفقده في أحواله، كالسؤال عن عارض عرض له، وأظهر شغل القلب بسببه، فينبغي أن يظهر له بلسانه كراهتها‏.‏ والأحوال التي يُسِرُّ بها، ينبغي أن يظهر له بلسانه كراهتها‏.‏

والأحوال التي يُسِرُّ بها، ينبغي أن يظهر له بلسانه مشاركته في السرور بها‏.‏ فمعنى الأخوة‏:‏ المساهمة في السراء والضراء، ويدعوه بأحب أسمائه في حضوره ومغيبه، ويُثني عليه بما يعرف من محاسن أحواله، عند مَن يريد هو الثناء عنده، وكذا على أولاده وأهله، حتى على عقله، وخُلُقه، وهيئته، وخطه، وشعره، وتصنيفه، وجميع ما يفرح به، من غير كذب ولا إفراط، ويذب عنه في غيبته مهما قُصد بسوء، ويُعلمه مما علّمه الله وينصحه‏.‏

الحق الخامس‏:‏ العفو عن الزلاّت والهفوات، فإن كان زلته في الدين؛ بارتكاب معصية، فليتلطّف في نصحه، فإن بقي مُصرّاً، فقد اختلف الصحابة في ذلك، فذهب أبو ذر إلى مقاطعته، وقال‏:‏ إذا انقلب أخوك عما كان عليه فأبغضه من حيث أحببته‏.‏ وذهب أبو الدرداء، وجماعة، إلى خلاف ذلك، وقال أبو الدرداء‏:‏ إذا تغيّر أخوك عما كان عليه فلا تدعه لأجل ذلك؛ فإن أخاك يُعوجُّ مرة، ويستقيم أخرى‏.‏ وهذا ألطف وأفقه، وذلك لما في هذه الطريق من الرفق، والاستمالة، والتعطُّف، المفضي إلى الرجوع والتوبة‏.‏ وأيضاً‏:‏ للأخوة عقد، ينزل منزلة القرابة، فإذا انقعدت وجب الوفاء بها، ومن الوفاء‏:‏ ألا يهمله أيام حاجته وفقره، وفقر الدين أشد من فقر المال‏.‏ ثم قال‏:‏ والفاجر إذا صَحِبَ تقيّاً وهو ينظر إلى خوفه رجع عن قريب، ويتخلّى من الإصرار، بل الكسلان يصحب الحريص في العمل، فيحرص، حياءً منه، وإن كانت زلته في حقك فلا خلاف أن العفو والاحتمال هو المطلوب‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ ولعل حق القلب يندرج هنا مع المحبة وشهود الصفاء منه‏.‏

الحق السادس‏:‏ الدعاء له في حياته ومماته بكل ما يُحب لنفسه وأهله‏.‏ قلت‏:‏ ومن ذلك زيارة قبره، وإيصال النفع له في ذلك الوقت‏.‏

الحق السابع‏:‏ الوفاء والإخلاص‏.‏ ومعنى الوفاء‏:‏ الثبات على الحب، وإدامته إلى الممات، معه ومع أولاده وأصدقائه‏.‏

الحق الثامن‏:‏ التخفيف وترك التكليف والتكلُّف، فلا تُكلف أخاك ما يشق عليه؛ بل تُرَوح سره عن مهماتك وحاجاتك، وترفهُه عن أن تحمّله شيئاً من أعبائك، ولا تكلفه التواضع لك، والتفقُّد والقيام بحقوقك، بل ما تقصد بمحبته إلا الله تعالى‏.‏ ه‏.‏ باختصار‏.‏

وفي وصية القطب ابن مشيش، لأبي الحسن رضي الله عنهما‏:‏ لا تصحب مَن يُؤثر نفسه عليك، فإنه لئيم؛ ولا مَن يُؤثرك على نفسه، فإنه قلما يدوم؛ واصحب مَن إذا ذكر ذكر الله، فالله يغني به إذا شهد، وينوب عنه إذا فُقِدْ، ذكره نور القلوب، ومشاهدته مفاتح الغيوب‏.‏ ومعنى كلام الشيخ‏:‏ لا تصحب مَن يبخل عنك بما عنده من العلوم، ولا مَن يتكلّف لك، فإنه لا يدوم، وهذه صحبة الشيخوخة‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «مَثَلُ الأَخَوَيْنِ كَمَثَلِ اليَدَيْنِ، يَغْسِلُ إِحداهُما الأُخرى، وكَمَثَلِ البُنْيَان يَشُدُّ بَعْضُه بعضاً» وفي معناه قيل‏:‏

إِنَّ أخَاكَ الحقَّ مَن كَانَ مَعَك *** وَمَن يَضُرُّ نَفْسَه لِيَنْفَعَك

وَمَنْ إِذا رَأَى زَمَاناً صَدَّعَكَ *** شَتَّتَ فِيكَ شَمْلَهُ لِيَجْمَعَك

وهذا في حق الإخوان، والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏74- 80‏]‏

‏{‏إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ‏(‏74‏)‏ لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ‏(‏75‏)‏ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ ‏(‏76‏)‏ وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ ‏(‏77‏)‏ لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ‏(‏78‏)‏ أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ ‏(‏79‏)‏ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ‏(‏80‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏خالدون‏}‏‏:‏ خبر «إن»، و‏{‏في عذاب‏}‏‏:‏ معمول الخبر، أو‏:‏ خبر، و«خالدون» خبر بعد خبر‏.‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إِنَّ المجرمين‏}‏ أي‏:‏ الراسخين في الإجرام، وهم الكفار، كما ينبئ عنه إتيانه في مقابلة المؤمنين ‏{‏في عذاب جهنم خالدون لا يُفَتَّرُ عنهم‏}‏؛ لا يخفف عنهم، من قولهم‏:‏ فترت عنه الحمى‏:‏ سكتت‏.‏ قال القشيري‏:‏ هم الكفار والمشركون، أهل الخلود، لا يُخفف عنهم، وأما أهل التوحيد فقد يكون قومٌ منهم في النار، ولكن لا يخلدون فيها؛ فيقتضي دليل الخطاب أنه يُفتَّرُ عنهم العذاب، أي‏:‏ يخفف، وورد في الخبر الصحيح‏:‏ «أن الحق يُميتهم إماتة إلى أن يخرجوا منها» والميت لا يحس ولا يألم، وذكر في الآية أنهم ‏{‏مبلسون‏}‏ فيدلّ أن المؤمنين لا إبلاس لهم، وإن كانوا في بلائهم فهُمْ عَلَى وصف رجائهم، ويُعدون أيامهم‏.‏ ه‏.‏

وحمل ابن عطية الموت على المقاربة، لا الموت حقيقة؛ لأن الآخرة لا موت فيها، قال‏:‏ والحديث أراه على التشبيه، لأنه كالسُبات والركود والهمود، فجعله موتاً‏.‏ انظره في ‏{‏ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 13‏]‏‏.‏ وقال عياض في الإكمال‏:‏ عن بعض المتكلمين‏:‏ يحتمل الحقيقة، ويحتمل الغيبة عن الإحساس، كالنوم، وقد سمي النوم وفاتاً؛ لإعاده الحس‏.‏ ه‏.‏

‏{‏وهم فيه‏}‏ أي‏:‏ في العذاب ‏{‏مُبلِسُون‏}‏ آيسون من الفرج، متحيّرون، ‏{‏وما ظلمناهم‏}‏ بذلك، حيث أرسلناك الرسل ‏{‏ولكن كانوا هم الظالمين‏}‏ بتعريض أنفسهم للعذاب الخالد، بمخالفة الرسل، وإيثارهم التقليد على النظر‏.‏

‏{‏ونادَوْا‏}‏ وهم في النار لمَّا أيسوا من الفتور ‏{‏يا مالكُ‏}‏ وهو خازن النار‏.‏ قيل لابن عباس‏:‏ إن ابن مسعود يقرأ «يا مَالِ»- ورُويت عن النبي صلى الله عليه وسلم- فقال‏:‏ «ما أشغلَ أهلَ النَّار عن الترخيم، قيل‏:‏ هو رمز إلى ضعفهم وعجزهم عن تمام اللفظ‏.‏ ‏{‏ليقض علينا ربُّك‏}‏ أي‏:‏ ليُمِتْنا حتى نستريح، مِن‏:‏ قضى عليه إذا أماته، والمعنى‏:‏ سل ربك أن يقضي علينا بالموت، وهذا لا ينافي ماذكر من إبلاسهم؛ لأنه جُؤار، وتمني الموت؛ لفرط الشدة‏.‏ ‏{‏قال إِنكم ماكثون‏}‏؛ لابثون في العذاب، لا تتخلصون منه بموت ولا فتور، قال الأعمش‏:‏ أُنبئت أن بين دعائهم وبين إجابتهم ألف عام، وفي الحديث‏:‏» لو قِيلَ لأهل النار‏:‏ إنكم ماكثون في النار عدد كل حصاة في الدنيا لفرحوا؛ ولو قيل لأهل الجنة ذلك لحزنوا، ولكن جعل الله لهم الأبد «‏.‏

‏{‏لقد جئناكم بالحقّ‏}‏ في الدنيا بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وهو خطاب توبيخ وتقريع من جهته تعالى، مقرر لجواب مالك، ومُبين لسبب مكثهم، وقيل‏:‏ الضمير في ‏(‏قال‏)‏ لله تعالى، أي‏:‏ لقد أعذرنا إليكم بإرسال الرسل بالحق ‏{‏ولكن أكثرَهم للحقِّ‏}‏ أيّ حق كان ‏{‏كارهون‏}‏ لا تسمعونه وتفرُّون منه؛ لأن مع الباطل الدَّعة، ومع الحق التعب، هذا في مطلق الحق، وأما في الحق المعهود، الذي هو التوحيد والقرآن، فكلهم كارهون مشمئزون منه‏.‏

‏{‏أم أبْرَموا أمراً‏}‏ مبتدأ، ناعٍ على المشركين ما فعلوا من الكيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، و«أم» منقطعة، وما فيها من معنى «بل» للانتقال من توبيخ أهل النار إلى حكاية جناية هؤلاء، أي‏:‏ أم أحكم مشركو مكة أمراً من كيدهم ومكرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، ‏{‏فإِنا مُبْرِمُون‏}‏ كيدنا حقيقة، كما أبرموا كيدهم صورة، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُواْ هُمُ الْمَكِيدُونَ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 42‏]‏ الآية‏.‏ وكانوا يتناجون في أنديتهم‏.‏ ويتشاورون في أمره صلى الله عليه وسلم‏.‏

‏{‏أم يحسبون‏}‏ بل يحسبون ‏{‏أنا لا نسمعَ سِرَّهم‏}‏ وهو ما حدَّثوا به أنفسهم أو غيرهم في مكان خال، ‏{‏ونجواهم‏}‏ أي‏:‏ ما تكلّموا به فيما بينهم بطريق التناجي، ‏{‏بلى‏}‏ نحن نسمعها ونطَّلع عليها ‏{‏ورسلُنا‏}‏ الملائكة الذين يحفظون عليهم أعمالهم، ويلازمونهم أينما كانوا ‏{‏لديهم‏}‏ أي‏:‏ عندهم ‏{‏يكتبون‏}‏ كل ما صدر عنهم من الأفعال والأقوال، ومن جملتها‏:‏ ما ذكر من سرهم ونجواهم، والجملة‏:‏ إما عطف على ما يترجم عنه «بلى»، أي‏:‏ نكتبها ورسلنا كذلك، أو حال، أي‏:‏ نسمعها والحال أن رسلنا يكتبونه‏.‏

الإشارة‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن المجرمين‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ‏.‏‏.‏ أما أهل الشرك فقد اتفق المسلمون على خلودهم، إلا ما انفرد به ابن العربي الحاتمي والجيلي، فقد نقلاً خبراً مأثوراً‏:‏ أن النار تخرب، وينبت موضعها الجرجير، وينتقل زبانيتها إلى خزنة الجنان، فهذا من جهة الكرم وشمول الرحمة لا يمنع، ومن جهة ظواهر النصوص معارض، وباطن المشيئة مما اختص الله تعالى به‏.‏ ونقل الجيلي أيضاً في كتابه ‏(‏الإنسان الكامل‏)‏‏:‏ أن بعض أهل النار أفضل عند الله من بعض أهل الجنة يتجلّى لهم الحق تعالى في دار الشقاء‏.‏ ونقل أيضاً‏:‏ أن بعض أهل النار تعرض عليهم الجنة فيأنفون فيها، وان بعض أهل النار يتلذّذون بها كصاحب الجرب‏.‏ وذكر بعضهم أن أهل النار يتطبعون بها، كالسمندل، فهذه مقالات غريبة، الله أعلم بصحتها‏.‏ وعلى تقدير وقوعها في غيب مشيئته تعالى، فلعلها في قوم مخصوصين من المسلمين ختم لهم بالشقاء بعد مُقاساة شدائد الطاعة، أو‏:‏ في قوم من أهل الفترة لم يكن فيهم إذاية، أو صدر منهم إحسان، والله أعلم بأسرار غيبه، وأما أهل التوحيد فحالهم في النار أرفق من هذا، بل حالهم فيها أروح من حال الدنيا من وجه‏.‏

قال القشيري‏:‏ ولقد قال الشيوخ‏:‏ إن حالَ المؤمنين في النار- من وجه- أرْوَحُ لقلوبهم من حالهم اليوم في الدنيا؛ لأن اليوم خوف الهلاك؛ وغداً يقين النجاة، وأنشدوا‏:‏

عَيبُ السلامة أَنَّ صاحبَها *** مُتَوَقِّعٌ لِقَوَاصِمِ الظَّهْرِ

وفَضِيلَةُ البَلْوَى تَرَقُّبُ أهلِها *** عُقْبَى الرَّجَاءِ ودَوْرَةُ الدَّهْرِ

ثم قال في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونادوا يا مالك‏}‏ لو قالوا‏:‏ يا مَلِك بدل من يا مالك لكان أقربَ إلى الإجابة، ولكنَّ الأجنبيةَ حالت بينهم وبين ذلك‏.‏ ه‏.‏ أي‏:‏ تعلقهم بالمخلوق دون الخالق‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أم أبرموا أمراً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ، هي عادته تعالى مع خواصه كيفما كانوا، يرد كيد مَن كادهم في نحره‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ، قال القشيري‏:‏ إنما خوَّفهم بسماع الملائكة، وكتابتهم أعمالهم عليهم، لغفلتهم عن الله، ولو كان لهم خبر عن الله لما خوّفهم بغير الله، ومَن عَلِمَ أن أعماله تُكتَبُ عليه، ويُطالَب بمقتضاها، قلَّ إلمامُه بما يخاف أن يُسأَلَ عنه‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏81- 86‏]‏

‏{‏قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ‏(‏81‏)‏ سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ‏(‏82‏)‏ فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ‏(‏83‏)‏ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ‏(‏84‏)‏ وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏85‏)‏ وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏86‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏قلْ‏}‏ يا محمد ‏{‏إن كان للرحمن ولدٌ‏}‏ على زعمكم ‏{‏فأنا أول العابدين‏}‏ لله، كان أو لم يكن، ويسمى هذا إرخاء العنان، أي‏:‏ أنا أول مَن يخضع لله، كان له ولد أو لم يكن، وقد قام البرهان على نفيه‏.‏ قال معناه السدي، أو‏:‏ وإن كان للرحمن ولد فأنا أول مَن يعظم ذلك الولد، وأسبقكم إلى طاعته، والانقياد إليه، كما يعظم ولد الملِك، لتعظيم أبيه؛ وهذا الكلام وارد على سبيل الفرض، والمراد‏:‏ نفي الولد، وذلك أنه علَّق العبادة بكينونة الولد، وهي محال في نفسها، فكان الملعلق بها محالاً مثلها، ونظيره، قول سعيد بن جبير للحجاج- حين قال له‏:‏ والله لأبدلنَّك بالدنيا ناراً تلظى-‏:‏ لو عرفت أن ذلك إليك ما عبدت إلهاً غيرك‏.‏ أو‏:‏ إن كان للرحمن ولد في زعمكم ‏{‏فأنا أول العابدين‏}‏ أي‏:‏ الموحِّدين لله، المكذِّبين قولكم، بإضافة الولد إليه؛ لأن مَن عَبَدَ الله، واعترف بأنه إلهه فقد دفع أن يكون له ولد‏.‏ أو‏:‏ إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين، أي‏:‏ الجاحدين والآنفين من أن يكون له ولد، مِن عبَدِ‏:‏ بكسر الباء‏:‏ إذا اشتد أنفسه فهو عبَد وعابد، ومنه قول الشاعر‏:‏

متى ما يشاء ذو الوُدِّ يَصْرِمْ خَليلَهُ *** ويَعْبَدْ عليه لا محالةَ ظالما

وقول الحريري‏:‏

قال ما يجب على عابد الحقّ *** قال يحلف بالإله الخلق

أي‏:‏ على جاحد الحق‏.‏ وقيل هي «إنْ» النافية، أي‏:‏ ما كان للرحمن ولد فأنا أول من عبد الله ووحَّده، فيوقف على «ولد» على هذا التأويل‏.‏

رُوي‏:‏ أن النضر قال‏:‏ إن الملائكة بنات الله، فنزلت الآية، فقال النضر‏:‏ ألا ترون أنه صدّقني؛ فقال الوليد‏:‏ ما صدّقك، ولكن قال‏:‏ ما كان للرحمن ولداً، فأنا أوّل الموحدين من أهل مكة أن لا ولد له‏.‏ وسيأتي في الإشارة قول آخر‏.‏

قال القشيري‏:‏ وفي الآية وأمثالها دليل على جواز حكاية قول المبتدعة فيما أخطأوا فيه في الاعتقاد، على وجه الردّ عليهم‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ ولا تجوز مطالقعة أقوالهم إلا لمَن رسختْ قدمه في المعرفة، والإعراض عنها أسلم‏.‏

ثم نزَّه ذاته عن اتخاذ الولد، فقال‏:‏ ‏{‏سبحان ربِّ السماوات والأرض ربِّ العرش عما يصفون‏}‏ أي‏:‏ تنزّه رب هذه العوالم العظام عن اتخاذ الولد؛ لأن اتخاذ الولد من صفة الأجسام، ولو كان جسماً ما قدر على خلو هذه الأجرام، وفي إضافة اسم الرب إلى أعظم الأجرام وأقواها، تنبيه على أنها وما فيها من المخلوقات حيث كانت تحت ملوكت ربوبيته؛ كيف يتوهم أن يكون شيء منها جزءاً منه‏.‏ وفي تكرير اسم الرب تفخيم لشأن العرش‏.‏

‏{‏فذرهم يخوضوا‏}‏ في باطلهم ‏{‏ويلعبوا‏}‏ في دنياهم أي‏:‏ حيث لم يُذعنوا لك، ولم يرجعوا عن غيهم، أعرض عنهم واتركهم في لهوهم ولعبهم، ‏{‏حتى يُلاقوا يومهم الذي يُوعدون‏}‏ وهو القيامة، فإنهم يومئذ يعلمون ما فعلوا، وما يفعل بهم، أو‏:‏ يوم بدر، قاله عكرمة وغيره‏.‏

وهذا دليل على أن ما يقولونه إنما هو خوض ولعب لا حقيقة له‏.‏

ثم ذكر انفراده بالألوهية في العالم العلوي والسفلي، فقال‏:‏ ‏{‏وهو الذي في السماء إِله وفي الأرض إله‏}‏ أي‏:‏ وهو الذي هو معبود في السماء وفي الأرض، فضمَّن «إله» معنى مألوه، أي‏:‏ وهو الذي يستحق أن يُعبد فيهما‏.‏ وقرأ عُمر، وأُبَي، وابن مسعود‏:‏ «وهو الذي في السماء الله وفي الأرض» كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوا اللَّهُ فِى السَّمَاوَاتِ وَفِى الأَرْضِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 3‏]‏، وقد مرّ تحقيقه عبارةً وإشارةً‏.‏ والراجع إلى الموصول‏:‏ محذوف؛ لطول الصلة، كقولهم‏:‏ ما أنا بالذي قائل لك سوءاً، والتقدير‏:‏ وهو الذي هو في السماء إله، و«إله»‏.‏ خبر عن مضمر، ولا يصح أن يكون «إله» مبتدأ، و«في السماء» خبره؛ لخلو الصلة حينئذ عن العائد ‏{‏وهو الحكيمُ‏}‏ في أقواله وأفعاله ‏{‏العليمُ‏}‏ بما كان وما يكون، أو‏:‏ الحكيم في إمهال العصاة، العليم بما يؤول أمرهم إليه، وهو كالدليل على ما قبله من التنزيه، وانفراده بالربوبية‏.‏

‏{‏وتبارك الذي له ملكُ السماوات والأرض‏}‏ أي‏:‏ تقدّس وتعاظم الذي مَلَكَ ما استقر في السماوات والأرض ‏{‏وما بينهما‏}‏ إما على الدوام، كالهواء، أو في بعض الأوقات، كالطير، ‏{‏وعنده علمُ الساعة‏}‏ أي‏:‏ العلم بالساعة التي فيها تقوم، ‏{‏وإِليه تُرجعون‏}‏ للجزاء، والالتفات للتهديد، فيمن قرأ بالخطاب‏.‏ ‏{‏ولا يملك الذين يدعُونَ من دونه‏}‏ أي‏:‏ لا تملك آلهتهم التي يدعونها ‏{‏من دونه‏}‏ أي‏:‏ من دون الله ‏{‏الشفاعةَ‏}‏ كما زعموا أنهم شفعاؤهم عند الله ‏{‏إِلا مَن شَهِدَ بالحق‏}‏ الذي هو التوحيد، ‏{‏وهم يعلمون‏}‏ بما يشهدون به عن بصيرة وإتقان وإخلاص، وهم خواص المسلمين، والملائكة‏.‏ وجمع الضميرين باعتبار معنى ‏(‏مَن‏)‏ كما أن الإفراد أولاً باعتبار لفظها‏.‏ والاستثناء‏:‏ إما متصل، والموصل عام لكل ما يعبد من دون الله، أو‏:‏ منقطع، على أنه خاص بالأصنام‏.‏

الإشارة‏:‏ قل يا محمد‏:‏ إن كان للرحمن ولد، على زعمكم في عيسى والملائكة، فأنا أولى بهذه النسبة على تقدير صحتها؛ لأني أنا أول مَن عبد الله في سابق الوجود؛ لأن أول ما ظهر نوري، فعَبَد اللّهَ سنين متطاولة؛ ثم تفرّعت منه الكائنات، ومَن سبق إلى الطاعة كان أولى بالتقريب، فلِمَ خصصتم الملائكة وعيسى بهذه النسبة، وأنا قد سبقتهم في العبادة، بل لا وجود لهم إلا من نوري، لكن لا ولد له، فأنا عبد الله ورسوله‏.‏ قال جعفر الصادق‏:‏ أول ما خلق الله نور محمد صلى الله عليه وسلم قبل كل شي، وأول مَن وحّد الله عزّ وجل من خلقه، دُرة محمد صلى الله عليه وسلم، وأول ما جرى به القلم «لا إله إلا الله محمد رسول الله»‏.‏

ه‏.‏ قاله الورتجبي‏.‏ ففي الآية إشارة إلى سبقيته صلى الله عليه وسلم، وأنه أول تجلٍّ من تجليات الحق، فمِن نوره انشقت أسرار الذات، وانفلقت أنوار الصفات، وامتدت من نوره جميع الكائنات‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فذهرم يخوضوا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ، كل مَن خاض في بحار التوحيد بغير برهان العيان، تصدق عليه الآية، وكذا كل مَن اشتغل بغير الله، وبغير ما يُقرب إليه؛ فهو ممن يخوض ويلعب، وفي الحديث‏:‏ «الدنيا ملعونة ملعونٌ ما فيها إلا ذِكْرَ الله، وما والاَه، أو عالماً أو متعلماً»

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ‏.‏ قال القشيري‏:‏ وفي الآية دليل على أن جميع المسلمين تكون شفاعتهم غداً مقبولة‏.‏ ه‏.‏ أي‏:‏ لأنهم في الدنيا شَهِدوا بالحق، وهو التوحيد عن علم وبصيرة، لكن في تعميمه نظر؛ لأن الاستثناء، الأصل فيه الاتصال، ولأن مَن شهد بالحق مستنثى من ‏{‏الذين يدعون من دونه‏}‏- وهم الملائكة، وعيسى، وعزير، فهم الذين شَهِدُوا بالحق ممن دعوا من دون الله، وشفاعة مَن عداهم مأخذوة من أدلة أخرى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏87- 89‏]‏

‏{‏وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ‏(‏87‏)‏ وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏88‏)‏ فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ‏(‏89‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏قِيلهِ‏}‏‏:‏ مصدر مضاف لفاعله، يقال‏:‏ قال قولاً وقالاً وقيلاً ومقالاً‏.‏ واختلف في نصبه، فقيل‏:‏ عطف على ‏{‏سِرَّهُمْ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 80‏]‏ أي‏:‏ يعلم سرهم ونجواهم وقيلَه، وقيل‏:‏ عطف على محل «الساعة»، أي‏:‏ يعلم الساعة ويعلم قيلَه، ويجوز أن يكون الجر والنصب على إضمار القسم، وحذفه، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 84‏]‏ وجوابه‏:‏ ‏{‏إن هؤلاء‏.‏‏.‏‏}‏ الخ‏.‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ولئن سألتَهُم‏}‏ أي‏:‏ المشركين، أو‏:‏ العابدين والمعبودين ‏{‏مَنْ خلقهمْ ليقولُونَّ اللّهُ‏}‏ لا الأصنام والملائكة ‏{‏فأنَّى يُؤفكون‏}‏ فكيف يصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره، مع كون الكل مخلوقاً له تعالى‏.‏

ولما شقّ عليه صلى الله عليه وسلم صرفهم عن الإيمان جعل يستغيث ربه في شأنهم، حرصاً على إيمانهم، ويقول‏:‏ ‏{‏يا رب إِن هؤلاء قوم لا يؤمنون‏}‏ أي‏:‏ قد عالجتهم فلم ينفع فيهم شيء، فلم يبقَ إلا الرجوع إليك، إما أن تهديهم، أو تُهلكهم، فأخبر تعالى أنه يسمع سرهم ونجواهم، وقوله عليه السلام في شأنهم، قال له تعالى‏:‏ ‏{‏فاصفحْ عنهم‏}‏ أي‏:‏ أعرض عنهم وأمهلهم، ‏{‏وقل سلامٌ‏}‏ أي‏:‏ أمري تسلّم منكم ومتاركة، حتى نأمرك أعرض عنهم وأمهلهم، ‏{‏وقل سلامٌ‏}‏ أي‏:‏ أمري تسلّم منكم ومتاركة، حتى نأمرك بجهادهم، ‏{‏فسوف يعلمون‏}‏ حالهم قطعاً، إن تأخر ذلك‏.‏ وهو وعيد من الله تعالى، وتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو‏:‏ فسوف يعلمون حقيق ما أنكروا من رسالتك‏.‏ ومَن قرأ بالخطاب، فهو داخل في حيز «قل»، من جملة ما يقال لهم‏.‏

الإشارة‏:‏ العجب كل العجب أن يعلم العبد أنه لا خالق له سوى ربه، ولا محسن له غيره، وهو يميل بالمحبة أو الركون إلى غيره، وفي الحِكَم‏:‏ «والعجب كل العجب ممن يهرب مما لا انفكاك له عنه، ويطلب ما لا بقاء له معه، فإنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور» ويقال لمَن دعا إلى الله فلم ينجح دعاؤه‏:‏ ‏{‏فاصفح عنهم وقل سلام‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏

وبالله التوفيق‏.‏‏.‏‏.‏ وصلّى الله على سيدنا محمد وآله‏.‏

سورة الدخان

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 9‏]‏

‏{‏حم ‏(‏1‏)‏ وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ ‏(‏2‏)‏ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ‏(‏3‏)‏ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ‏(‏4‏)‏ أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ‏(‏5‏)‏ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏6‏)‏ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ‏(‏7‏)‏ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏8‏)‏ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏حم‏}‏ يا محمد ‏{‏و‏}‏ حق ‏{‏الكتاب المبين‏}‏ الواضح البيِّن، وجواب القسم‏:‏ ‏{‏إِنا أَنزلناه‏}‏ أي‏:‏ الكتاب الذي هو القرآن ‏{‏في ليلة مباركةٍ‏}‏ ليلة القدر، أو ليلة النصف من شعبان، والجمهور على الأول، لقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ‏}‏ ‏[‏القدر‏:‏ 1‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 185‏]‏، وليلة القدر على المشهور في شهر رمضان، وسيأتي الجمع بينهما‏.‏ ثم قيل‏:‏ أنزله جملة من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا، ثم نزل به جبريل نجوماً، على حسب الوقائع، في ثلاث وعشرين سنة، وقيل‏:‏ معنى نزوله فيها‏:‏ ابتداء نزوله‏.‏

والمباركة‏:‏ الكثيرة الخير؛ لما ينزل فيها من الخير والبركة، والمنافع الدينية والدنيوية، ولو لم يوجد فيها إلا إنزال القرآن لكفى به بركة‏.‏

‏{‏إِنا كنا منذِرينَ‏}‏ استئناف مبين لما يقتضي الإنزال، كأنه قيل‏:‏ إنا أنزلناه لأن من شأننا الإنذار والتحذير من العقاب، ‏{‏فيها يُفرَقُ كلُّ أمرٍ حكيم‏}‏ استئناف أيضاً مبين لسر تخصيص هذه الليلة بالإنزال، أي‏:‏ إنما أنزلناه في هذه الليلة المباركة، لأنها فيها يُفرق كل أمر حكيم، أي‏:‏ ذي حكمة بالغة، ومعنى «يُفرق»‏:‏ يفصل ويكتب كل أمر من أرزاق العباد وآجالهم وجميع أمورهم، من هذه الليلة إلى ليلة القدر المستقبلة، وقيل‏:‏ الضمير في «فيها» يرجع لليلة النصف، على الخلاف المتقدم‏.‏

وروى أبو الشيخ، بسند صحيح، عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله‏:‏ ‏{‏يمحو الله ما يشاء ويثبت‏}‏ قال‏:‏ «ليلة النصف من شعبان، يُدبر أمر السنة، فيمحو ما يشاء ويُثبت غيره؛ الشقاوة والسعادة، والموت والحياة»‏.‏ قال السيوطي‏:‏ سنده صحيح لا غُبار عليه ولا مطعن فيه‏.‏ ه‏.‏ وروي عن ابن عباس‏:‏ قال‏:‏ إن الله يقضي الأقضية كلها ليلة النصف من شعبان، ويسلمها إلى أربابها ليلة القدر‏.‏ وفي رواية‏:‏ ليلة السابع والعشرين من رمضان، قيل‏:‏ وبذلك يرتفع الخلاف أن الأمر يبتدأ في ليلة النصف من شعبان، ويكمل في ليلة السابع والعشرين من رمضان‏.‏ والله أعلم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حكيم‏}‏ الحكيم‏:‏ ذو الحكمة، وذلك أن تخصيص الله كل أحد بحالة معينة من الرزق والأجل، والسعادة والشقاوة، في هذه الليلة، يدلّ على حكمة بالغة؛ فأسند إلى الليلة لكونها ظرفاً، إسناداً مجازياً‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أمراً من عندنا‏}‏ منصوب على الاختصاص، أي‏:‏ أعني بهذا الأمر أمراً حاصلاً من عندنا، على مقتضى حكمتنا، وهو بيان لفخامته الإضافية، بعد بيان فخافمته الذاتية، ويجوز أن يكون حالاً من كل أمر؛ لتخصيصه بالوصف، ‏{‏إِنا كنا مرسِلين‏}‏ بدل من ‏{‏إنا كنا منذرِين‏}‏‏.‏

و ‏{‏رحمةً من ربك‏}‏ مفعول له، أي‏:‏ أنزلنا القرآن؛ لأن من عادتنا إرسال الرسل باكتب؛ لأجل إفاضة رحمتنا‏.‏ ووضع الرب موضع الضمير، والأصل‏:‏ رحمة منا؛ للإيذان بأن ذلك من أحكام الربوبية ومقتضياتها، وإضافته إلى ضميره صلى الله عليه وسلم لتشريفه وفخامته‏.‏

وقال الطيبي‏:‏ هذه الجمل كلها واردة على التعليل المتداخل؛ فكأنه لما قيل‏:‏ ‏{‏إنا أنزلناه في ليلة مباركة‏}‏ قيل‏:‏ فلِمَ أُنزل‏؟‏ فأجيب‏:‏ لأن من شأننا التحذير والعقاب، فقيل‏:‏ لِمَ خص الإنزال في هذه الليلة‏؟‏ فقيل‏:‏ لأنه من الأمور المُحكَمة، ومن شأن هذه الليلة أن يُفرق فيها كل أمر حكيم، فقيل‏:‏ لِمَ كان من الأمور المُحكَمة‏؟‏ فأجيب‏:‏ لأن ذا الجلال والإكرام أراد إرسال الرحمة للعالمين، ومن حق المنزَل عليه أن يكون حكيماً، لكونه للعالمين نذيراً، أو ‏{‏داعياً إلى الله بإذنه‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، فقيل‏:‏ لماذا رحمهم الرب بذلك‏؟‏ فأجيب‏:‏ لأنه وحده سميع عليم، يعلم جريان أحوال عباده، ويعلم ما يحتاجون إليه دنيا وأخرى‏.‏ ه‏.‏ وهذا معنى قوله‏:‏ ‏{‏إِنه هو السميع‏}‏ لأقوالهم وحده، ‏{‏العليم‏}‏ بأحوالهم‏.‏

‏{‏ربِّ السماوات والأرض وما بينهما‏}‏ مَن جرّه بدر من «ربك»، ومَن رفعه خبر من ضمر، أي‏:‏ هو رب العوالم العلوية والسفلية، وما بينها، ‏{‏إِن كنتم موقنين‏}‏ أي‏:‏ من أهل الإيقان، ومعنى الشرط، أنهم كانوا يُقرون بأن للسموات والأرض ربّاً وخالقاً، فإن كان إقرارهم عن علم وإيقان فهو الذي أنزل الكتاب وأرسل الرسل رحمة منه، وإن كانوا مذبذبين فليعلموا ذلك‏.‏

‏{‏لا إِله إِلا هو‏}‏ مِن قصر إفرادٍ لا قصر قلبٍ، لأن المشركين كانوا يُثبتون الألوهية لله تعالى ويشركون معه غيره، فردّ الله عليهم بكونه لا يستحق العبادة غيره، ‏{‏يُحيي ويُميت‏}‏ ثم يبعث للجزاء، ‏{‏ربُّكم وربُّ آبائكم الأولين‏}‏ أي‏:‏ هو رب الجميع، ثم ردّ أن يكونوا موقنين بقوله‏:‏ ‏{‏بل هم في شك يلعبون‏}‏ وإقرارهم غير صادر عن علم وإيقان، بل قول مخلوط بهزؤ ولعب‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ ‏{‏حم‏}‏، قال الورتجبي‏:‏ الحاء‏:‏ الوحي الخاص إلى محمد، والميم‏:‏ محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك الوحي الخاص بلا واسطة خبرٌ عن سر في سر، لا يطلع على ذلك- الذي بين المحب والمحبوب- أحد من خلق الله، ألا ترى كيف قال سبحانه‏:‏ ‏{‏فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَآ أَوْحَى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 10‏]‏ ‏؟‏ وذلك إشارة إلى وحي السر في السر، وجملتها قسم، أي بمعنى الوحي السري والمحبوب، والقرآن الظاهر الذي ينبئ عن الأسرار، ‏{‏إنا أنزلناه‏}‏ ه‏.‏ قال القشيري‏:‏ الحاء تشير إلى حقِّه، والميم إلى محبته، ومعناه‏:‏ بحقي ومحبتي لعبادي، وكتابي العزيز إليهم، ألا أُعَذِّب أهلَ محبتي بفرقتي‏.‏ ه‏.‏

والليلة المباركة عند القوم، هي ليلة الوصال والاتصال، حين يُمْتَحى وجودُهم، ويتحقق فناؤهم، وكل وقت يجدون فيه قلوبهم، ويفقدون وجودهم؛ فهو مبارك، وهو ليلة القدر عندهم، فإذا دام اتصالهم، كانت أوقاتهم كلها ليلة القدر، وكلها مباركة‏.‏ قال الورتجبي‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏في ليلة مباركة‏}‏ كانت مباركة لتجلِّي الحق فيها بالأقضية، والرحمة غالبة فيها، ومن جملتها‏:‏ إنزال القرآن فيها؛ فإنه افتتاح وصلة لأهل القرية‏.‏

ه‏.‏

قال القشيري‏:‏ وسمّاها ليلة مباركة؛ لأنها ليلة افتتاح الوصلة، وأشدُّ الليالي بركةً، ليلةٌ يكون العبد فيها حاضراً بقلبه، مشاهداً لربه، يتنسّم بأنوار الوصلة، ويجد فيها نسيم القربة، وأحوال هذه الطائفة في لياليهم مختلفة، كما قالوا، وأنشدوا‏:‏

لا أَظْلِمْ الليلَ ولا أَدَّعي *** أنّ نُجومَ الليلِ ليست تَغُورُ

لَيْلِي كما شَاء فإن لم يَزرْ *** طالَ، وإن زار فلَيْلي قَصيرُ

ه‏.‏

أي‏:‏ لَيْلِي كما شاء المحبوب، فإن لم يزرني طال ليلِي، وإن زارني قَصُر‏.‏ والحاصل‏:‏ أن أوقات الجمال والبسط كلها قصيرة، وأوقات الجلال كلها طويلة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فيها يُفرق كل أمر حكيم‏}‏ أي‏:‏ في ليلة الوصال تفرق وتبرز الحِكَم والمواهب القدسية، بلا واسطة، بل أمراً من عندنا، والغالب أن هذه الحالة لا تكون إلا عند الحيرة والشدة من الفاقة أو غيرها، وكان بعض العارفين من أشياخنا يستعدُّون فيها لكتب المواهب، ويسمونها ليلة القدر‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنّا كنا مرسلين رحمةً من ربك‏}‏ هو الرسول صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «أنا الرحمة المهداة»، فرحمة مفعول به، ‏{‏إِنه هو السميع العليم‏}‏ قال القشيري‏:‏ السميع لأنين المشتاقين، العليم بحنين المحبين‏.‏ ه‏.‏ ‏{‏لا إِله إلا هو‏}‏ أي‏:‏ لا يستحق أن يَتَأله ويُعشق إلا هو، ‏{‏يُحيي ويميت‏}‏ يُحيي قلوب قوم بمعرفته ومحبته، ويُميت قلوباً بالجهل والبُعد، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد‏.‏ ثم وصف أهل الجهل والبُعد بقوله‏:‏ ‏{‏بل هم في شك يلعبون‏}‏ وأما أهل المعرفة والقُرب فهم في حضرة محبوبهم يتنعّمون، ومن روح وصاله يتنسّمون‏.‏ قال القشيري‏:‏ واللعب يجري على غير ترتيب، تشبيهاً باللعاب الذي يسيل لا على نظام مخصوص، ووصف الكافر باللعب لتردُّده وشكِّه وتحيُّره في عقيدته‏.‏ ه‏.‏