فصل: تفسير الآية رقم (145):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (145):

{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {قل} لهم: {لا أجد فيما أُوحي إليَّ} في القرآن أو مطلق الوحي، {محرمًا} أي: طعامًا محرمًا، {على طاعم يطعمه}، أو يطعم منه غيره، {إلاَّ أن يكون} الطعام {ميتة}، وفي قراءة بالتاء؛ لتأنيث الخبر، {أو} يكون {دمًا مسفوحًا} أي: مصبوبًا كدم المنحر، {أو لحم خنزير فإنه رجس} أي: خبيث، قيل: إنه يورث عدم الغيرة بالخاصية {أو} يكون {فسقًا}، من صفته: {أُهِلَّ لغير الله به} أي: ذبح لغير الله، وذكر عليه اسم الصنم، وإنما سمي فسقًا؛ لتوغله في الفسق.
والآية تقتضي حصر المحرمات، فيما ذكر، وقد جاء في السنة تحريم أشياء لم تذكر هنا، كلحوم الحمر الإنسية والكلاب، وغيرها، فذهب قوم إلى أن السنة نسخت هذا الحصر، وذهب آخرون إلى أن الآية وردت على سبب، فلا تقتضي الحصر، وذهب آخرون إلى أن ما عدا ما ذكر: مكروه.
وقال البيضاوي: والآية مُحكمة؛ لأنها تدل على أنه لم يجد فيما أُوحي إليه إلى تلك الغاية محرمًا غير هذه، ولا ينافي ورود التحريم في شيء آخر، فلا يصح الاستدلال بها على نسخ الكتاب بخبر الواحد، ولا على حل الأشياء غيرها، إلا مع الاستصحاب. اهـ.
ثم استثنى المضطر، فقال: {فمن اضطُرَّ} إلى تناول شيء من ذلك، {غير باغٍ} على مضطر مثله، {ولا عادٍ} أي: متجاوز قدر الضرورة، {فإن ربك غفور رحيم} لا يؤاخذه.
الإشارة: الأحوال كلها تتقوت منها الروح، إلا ما كان غير مباح في الشرع، فلا سير فيه، والمراد بالأحوال: خرق عوائدها، بكل ما يثقل عليها، وأما ما كان محرمًا في الشرع فلا بركة في تناوله؛ لأنه رجس، وأجازه بعض الصوفية محتجًا بقضية لص الحمام، وفيه مقال، فمن اضطر إلى تناوله، لغلبة حال عليه، غير قاصد لمخالفة الشرع، فإن الله غفور رحيم، وعليه حمل بعضهم قصة لص الحمَّام. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآية رقم (146):

{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146)}
قلت: {الحوايا} هي الأمعاء، أي: المصارين التي فيها البعر، وتسمى المباعر، جمع حوية، فعيلة، فوزنها على هذا: فعائل، فصنع بها ما صنع بهرَاوا، وقيل: جمع حاوية، فوزنها: فواعل، كقوارب، وهو عطف على ما في قوله: {إلا ما حملت}.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر}؛ ماله أصبع، كالإبل والأوز والنعام، وغيرها من الحيوان، الذي هو غير منفرج الأصابع وله ظفر، وقيل: كل ذي مخلب وحافر، وسمي الحافر ظفرًا؛ مجازًا.
{ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما} كالثروب وشحوم الكُلى، {إلا ما حملت ظُهورهما} أي: إلا ما علق من الشحم بظهور البقر والغنم، فهو حلال عليهم، لكنهم اليوم لا يأكلونه، حدثني شيخي الفقيه الجنوي أنه سأل بعض أحبارهم: هل هو حرام في كتابكم؟ فقال له: لا، لكنهم قاسوه سدًا للذريعة. اهـ. فلما شددوا شدد الله عليهم، {أو الحوايا} أي: ما احتوت عليه الأمعاء والحشوة مما يتحوى في البطن من الشحوم، فهو حلال عليهم {أو ما اختلط بعظم} في جميع الجسد، فإنه حلال عليهم، لكنهم شددوا فحرموا الجميع عقوبة من الله {ذلك} التحريم جزاءٌ {جزيناهم} به بسبب بغيهم، أي: ظلمهم، {وإنا لصادقون} فيما أخبرنا به من التحريم، وفي ذلك تعريض بكذب من حرّم غير ما حرم الله.
الإشارة: يؤخذ من الآية أن الذنوب والمعاصي تضيق على العبد لذائذ متعته، وتقتر عليه طيب رزق بشريته، وتضيق عليه آيضًا حلاوة المعاملة في قلبه، ولذة الشهود في روحه وسره، لقوله تعالى: {ذلك جزيناهم ببغيهم}. وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءَامَنُواْ وَاتَّقوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتِ مِنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ} [الأعرَاف: 96]، وقال في شأن القلب: {إِن تَتَّقُواْ اللهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفَال: 29]، أي: نورًا يفرق بين الحق والباطل، وقال تعالى: {وَاتَّقُواْ اللهَ وَيُعَلِمُكُمُ اللهُ} [البَقَرَة: 282]، أي: علمًا لدُّنيا، فالمعصية كلها تُبعد العبد من الحضرة، إن لم يتب، والطاعة كلها تقرب من الحضرة. والتنعم إنما هو على قدر القرب، ونقصانه على قدر البُعد. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآية رقم (147):

{فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {فإن كذبوك} يا محمد، {فقل} لهم: {ربكم ذو رحمة واسعة} يُمهلكم على التكذيب، فلا تغتروا بإمهاله؛ فإنه يُمهل ولا يُهمل. ولذلك أعقبه بقوله: {ولا يُرَدُّ بأسه عن القوم المجرمين} حيث ينزل بهم، أو ذو رحمة واسعة على المطيعين، وذو بأس شديد على المجرمين، فأقام مقامه: {ولا يُرَدُّ بأسه عن القوم المجرمين}، لتضمنه التنبيه على إنزال البأس عليهم، مع الدلالة على أنه لازب لا يمكن رده. قاله البيضاوي. وفي ابن عطية: ولكن لا تغتروا بسعة رحمته، فإن له بأسًا لا يُرد عن القوم المجرمين. اهـ.
الإشارة: يُؤخذ من تقديم الرحمة الواسعة على البأس الشديد أن جانب الرجاء أقوى من جانب الخوف؛ لأن حسن الظن بالله مطلوب من العبد على كل حال، لأن الرجال وحسن الظن يستوجبان محبة العبد وإيحاشه إلى سيده بخلاف الخوف، وهذا مذهب الصوفية: أن تغليب الرجاء هو الأفضل في كل وقت، ومذهب الفقهاء أن حال الصحة ينبغي تغليب الخوف لينزجر عن العصيان، وحال المرض يغلب الرجاء؛ إذ لا ينفع حينئذٍ، فالصوفية يرون أن العبد معزول عن الفعل، فليس له قدرة على فعل ولا ترك. وإنما ينظر ما تفعل به القدرة، فهو كحال المستشرف على الموت. والفقهاء يرون أن العبد له كسب واختيار. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (148- 150):

{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)}
قلت: {هَلُم}: اسم فعل، وهو عند البصريين بسيط، وعند الكوفيين مركب. انظر البيضاوي.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {سيقول الذين آشركوا} في الاحتجاج لأنفسهم: {لو شاء الله} عدم شركنا {ما أشركنا ولا} أشرك {آباؤنا ولا حرمنا من شيء} من البحائر وغيرها، فلو لم نكن على حق مرضى عند الله ما أمهلنا ولا تركنا عليه؛ فإمهاله لنا وتركه لنا على ما نحن فيه دليل على أنه أراده منا.
والجواب عن شُبهتهم: أنه خلاف ما أنزل الله على جميع رسله، والحق تعالى لم يتركهم على ذلك، بل بعث لهم الرسل يكلفهم بالخروج عنه، والإرادة خلاف التكليف، وأيضًا: قولهم هذا لم يصدر منهم على وجه الاعتذار؛ وإنما صدر منهم على وجه المخاصمة والاحتجاج. ولا يصح الاحتجاج بالقدر. والحاصل أنهم تمسكوا بالحقيقة ورفضوا الشريعة، وهو كفر وزندقة، إذ لابد من الجمع بين الحقيقة في الباطن، والتمسك بما جاءت به الرسل من الشريعة في الظاهر، وإلاَّ فهو على باطل.
ولذلك ردّ الله تعالى عليهم بقوله: {كذلك كذب الذين من قبلهم} الرسل، فتمسكوا بالحقيقة الظلمانية، {حتى ذاقوا بأسنا} أي: عذابنا الذي أنزلناه عليهم بتكذيبهم {قل} لهم: {هل عندكم من علم} يدل على أن الله أمركم بالشرك، وتحريم ما أحل، وأنه رضي ذلك لكم، {فتخرجوه} أي: فتظهروه {لنا}، بل {إن تتبعون} في ذلك {إلا الظن} ولا تحقيق عندكم، {وإن أنتم إلا تخرصون}؛ تكذبون على الله تعالى، وفيه دليل على أن الظن لا يكفي في العقائد.
{قل} لهم: {فللَّه الحجة} على عباده، {البالغة}، حيث بعث الرسل مبشرين ومنذرين، وأمروا بتوحيد الله وطاعته، فكل من خالفهم قامت الحجة عليه، هذا باعتبار التشريع الظاهر، وأما باعتبار باطن الحقيقة، فالأمور كلها بيد الله؛ يضل من يشاء بعدله، ويهدي من يشاء بفضله، {فلو شاء لهداكم أجمعين} ولكن شاء هداية قوم وضلال آخرين، {لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ} [الأنبيَاء: 23]، فقول المشركين: {لو شاء الله...} إلخ، حق في نفسه، لكنهم لم يعذَروا؛ لإهمالهم الشريعة.
{قل هلُم} أي: أحضروا، {شهداءكم} أي: كبراءكم وأئمتكم، {الذين يشهدون أن الله حرّم هذا}، استحضرهم ليلزمهم الحجة، ويَظهر بانقطاعهم ضلالهم، وألاَّ متمسك لهم في ذلك. ثم قال لنبيه عليه الصلاة والسلام: {فإن شهدوا} بشيء من ذلك، {فلا تشهد معهم} أي: لا تصدقهم وبيِّن لهم فساده؛ {ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا}، والأصل أن يقول: ولا تتبع أهواءهم، فوضع الظاهر موضع المضمر، للدلالة على أن مكذب الآية متبع الهوى لا غير، وأن متبع الحق لا يكون إلا مصدقًا لها. {و} تتبع أيضًا {الذين لا يؤمنون بالآخرة}؛ كعبدة الأوثان، {وهم بربهم يعدلون}؛ يجعلون له عديلاً ومثيلاً.
الإشارة: اعلم أن الحقّ جلّ جلاله كلف عباده في هذا الدار، بالقيام بوظيفتين: الشريعة والحقيقة، الشريعة محلها الظواهر، والحقيقة محلها البواطن، الشريعة تقتضي التكليف، والحقيقة تقتضي التعريف، الشريعة شهود الحكمة، والحقيقة شهود القدرة، وجعل الشريعة رداء الحقيقة ولباسًا لها، ثم جعل سبحانه في القلب عينين، وتسمى البصيرة، إحداهما تنظر للحكمة فتقوم بالشرائع، والأخرى تنظر للقرة فتقوم بالحقائق. فقوم فتحوا عين الحقيقة وأعموا عين الشريعة، وهم أهل الكفر والزندقة، ولذلك قالوا: {لو شاء الله ما أشركنا}، وقوم فتحوا عين الشريعة وأهملوا عين الحقيقة، ثم وهم عوام المسلمين من أهل اليمن، فلذلك طال خصمهم للمقادير الأزلية مع إقرارهم بها، فإن أنكروها فقد عَمِيَتْ بصيرتهم.
وقوم أحبهم الله، ففتح لهم عين الحقيقة، فأسندوا الأفعال كلها إلى الله ولم يروا معه سواه، فتأدبوا في الباطن مع الأشياء كلها، وفتح لهم عين الشريعة فقاموا بوظائف العبودية على المنهاج الشرعي، وهم الأولياء العارفون بالله، فمن تمسك بالحقائق العلمية دون الشرائع كان زنديقًا، ومن تمسك بالشرائع دون الحقائق كان فاسقًا، ومن تمسك بهما كان صدِّيقًا، فمن رام تمسك بالشرائع، ولم تُسعفه الأقدار، فإن كان عن سُكر وجذب فهو معذور، وإن كان عن كسل فهو مخذول، وإن كان عن إنكار لها فهو مطرود معدود من حزب الشيطان، والعياذ بالله.

.تفسير الآيات (151- 153):

{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)}
قلت: {تعالوا}: أمر من التعالي، وأصله: أن يقوله من كان في علو لمن كان في سفل، فاتسع فيه بالتعميم في كل أمر بالقدوم، و{ألاَّ تشركوا}: فيه تأويلات؛ أحدها: أن كون مفسرة لا موضع لها، و{لا}: ناهية جزمت الفعل، أو تكون مصدرية في موضع رفع، أي: الأمر ألاَّ تشركوا، و{لا}: نافية حينئذٍ، أو بدل من {ما} و{لا}: زائدة، أو على حذف الإغراء، أي: عليكم إلا تشركوا.
قال ابن جزي: والأحسن أن يكون ضَمَّنَ {حرَّم} معنى وَصَّى، وتكون {أن} مصدرية، و{لا} نافية، ولا تفسد المعنى؛ لأن الوصية في المعنى تكون بتحريم وتحليل وبوجوب وندب، ويدل على هذا قوله بعد ذلك: {ذلكم وصاكم به} ولا ينكر أن يريد بالتحريم الوصية؛ لأن العرب قد تذكر اللفظ الخاص، وتريد به العموم، كما تذكر اللفظ العام وتريد به الخصوص، فتقدير الكلام على هذا: قل تعالوا أتل ما وصاكم به ربكم، ثم أبدل منه، على وجه التفسير والبيان، فقال: ألاَّ تشركوا، ووصاكم بالإحسان بالوالدين، وهكذا.. فجمعت الوصية ترك الإشراك وفعل الإحسان بالوالدين، وما بعد ذلك. انظر بقية كلامه.
وإنما قال الحق سبحانه: {من إملاق}، وقدّم الكاف في قوله: {نرزقكم}، وفي الإسراء قال: {خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ} [الإِسرَاء: 31]، وأخر الكاف؛ لأن ما هنا نزل في فقراء العرب، فكان الإملاق نازلاً بهم وحاصلاً لديهم، فلذلك قال: {من إملاق}، وقدم الخطاب لأنه أهم. وفي الإسراء نزلت في أغنيائهم، فكانوا يقتلون خوفًا من لحوق الفقر، لذلك قال: {خشية إملاق}، وقدم الغيبة فقال: {نحن نرزقهم}؛ حين نخلقهم وإياكم.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {قل} لهم: {تعالَوا} أي: هلموا، {أتلُ} أي: أقرأ {ما حرم ربكم عليكم}، واجتمعت عليه الشرائع قبلكم، ولم يُنسخ قط في ملة من الملل، بل وصى به جميع الملل، و{ألاَّ تُشركوا به شيئًا} بل توحدوه وتعبدوه وحده، {و} أن تحسنوا {بالوالدين إحسانًا}، ولا تُسيئوا إليهما؛ لأن من أساء إليهما لم يحسن إليهما. {ولا تقتلوا أولادكم من إملاق} أي: من أجل الفقر الحاصل بكم، وكانت العرب تقتل أولادها خوفًا من الفقر فنزلت فيهم، فلا يفهم منه إباحة قتلهم لغيره، {نحن نرزقكم وإياهم}، فلا تهتموا بأمرهم حتى تقتلوهم.
{ولا تقربوا الفواحش}؛ كبار الذنوب {ما ظهر منها} للناس {وما بَطَنَ} في خلوة، أو: ما ظهر منها على الجوارح، وما بطن في القلوب من العيوب، {ولا تقتلوا النفس التي حرَّم الله إلا بالحق}؛ كالقود، وقتل المرتد، ورجم المحصن. قال صلى الله عليه وسلم: «لا يحلُّ دَمُ امرئٍ مُسلمٍ إلا بإحدى ثلاثٍ: زِنَىً بعد إحصَانٍ، وكُفرٍ بعد إيمَانٍ، وقَتل نَفسٍ بغيرِ نَفسٍ»
{ذلكم} المتقدم، {وصّاكم به لعلكم تعقلون}، فتتدبرون فيما ينفعكم وما يضركم.
{ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي} بالخصلة التي {هي أحسن}؛ كحفظه وتثميره. والنهي عن القرب: يعم وجوه التصرف، وفيه سد الذريعة؛ لأنه إذا نهى عن القرب كان الأكل أولى، {حتى يبلغ أشده} وهو البلوغ مع الرشد، بحيث يعرف مصالح نفسه ويأمن عليه التبذير، فيدفع له، {وأوفوا الكيل والميزان بالقسط}؛ بالعدل والتوفية، {لا نُكلِّف نفسًا إلا وسعها}؛ إلا ما يسعها ولا يعسر عليها، ولمَّا أمر بالقسط في الكيل والوزن، وقد علم أن القسط الذي لا زيادة فيه ولا نقصان مما يجري فيه الحرج أمر بالوسع في ذلك وعفا عما سواه.
{وإذا قلتم} في حكومة ونحوها، {فاعدلوا ولو كان} المقول له في شهادة أو حكومة {ذا قربى}؛ فيجب العدل في ذلك، {وبعهد الله أوفوا} أي: ما عهد إليكم من ملازمة العدل وتأدية أحكام الشرع، أو ما عاهدتم مع عباده، {ذلكم وصّاكم به لعلكم تذكرون}؛ تتعظون به.
{وأنَّ هذا} أي: ما تقدم في السورة كلها، {صراطي مستقيمًا فاتبعوه}؛ لأن السورة بأسرها إنما هي في إثبات التوحيد، والنبوة، وبيان الشريعة، {ولا تتبعوا السُّبل}؛ الأديان المختلفة والطرق التابعة للهوى، فإن مقتضى الحجة واحد، ومقتضى الهوى متعدد؛ لاختلاف الطبائع والعادات، ولذلك تَفرقت. والمراد بالطرق: اليهودية والنصرانية وغيرهما من الأديان الباطلة، ويدخل فيه البدع والأهواء، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم خط خطًا، ثم قال: «هذا سبيل الله»، ثم خط خطوطًا عن يمينه وشماله، ثم قال: «هذه سُبُلٌ، وعلى كُلِّ سبيلٍ منها شيطانٌ يَدعُو إليها» {ذلكم} الاتباع {وصّاكم به لعلكم تتقون} الضلال والتفرق عن الحق. وبالله التوفيق.
الإشارة: قد وصّى الحقّ جلّ جلاله على التخلص من الشرك، جليه وخفيه، ولا يكون إلا بتحقيق الإخلاص والتوحيد الخاص. وهو مطلب الصوفية، وبالإحسان بالوالدين الروحانيين والبشريين، أي: والد الأرواح وهو الشيخ المربي ووالد الأشباح، ولابد للمريد من طاعتهما، إلاَّ أنه يقدم طاعة الشيخ، كما تقدم عن الجنيد في [سورة النساء].
ووصى بعدم قتل الأولاد، وهم المواهب والعلوم بإهمال القلب في الغفلة، وعدم قرب الفواحش: الظاهرة الحسية، والباطنية القلبية؛ كالحسد، والكبر، وحب الجاه والدنيا، وسائر العيوب. وعدم قتل النفس بالانهماك في الهوى والغفلة حتى تموت بالجهل عن المعرفة. وعدم قرب مال اليتيم، وهو الذي ليس له شيخ، فإن الغالب عليه عدم المسامحة، وسيأتي عند قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ أَرِنِيَ أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعرَاف: 143]، إشارة لها أرق من هذه، وعلى التوفية في الأمور كلها؛ لأن الصوفي من أهل الصفاء والوفاء، وعلى الصدق في الأقوال والأفعال والأحوال. وعلى الوفاء بالعهد، وأعظمها عهد الشيوخ المُربين، وعلى اتباع طريق السلوك الموصلة للحضرة وهي ما عينه الشيوخ للمريدين، فلا يتعدى نظرهم ولو لحظة. وبالله التوفيق.