فصل: تفسير الآية رقم (79):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (79):

{فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)}
قلت: {ويل}: كلمة يستعملها كل واقع في هلكة، وأصلها العذاب والهلكة، وهو في الأصل مصدر لا فعل له، وسوغ الابتداء به الدعاء، وقال أبو سعيد الخدري عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «الويلُ وادٍ في جَهنَّم» لو سيرت فيه جبال الدنيا لانماعت.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} تحريفاً لكتاب الله، {وَيقُولُونَ هَذَا مِنْ عند الله} خوفاً من أن تزول رئاستهم، وينقطع عنهم ما كانوا يأخذونه من سفلتهم، نزلت في أحبار اليهود لما قدم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة، خافوا أن تزول رئاستهم، فاحتالوا في تعويق اليهود عن الإسلام، وكانت صفة النبي صلى الله عليه وسلم: «حسن الوجه، حسن الشعر، أكحل العينين، ربعة»، فغيروها، وكتبوا: طوالاً، أزرق، سبط الشعر، {فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ}، ويأخذون من سفلتهم، فهو وإن كان كثيراً في الحسن فهو، بالنسبة إلى ما استوجبوه من العذاب الأليم، قليل.
الإشارة: ينزجر بهذه الآية صنفان: أحدهما: علماء الأحكام، إذا أفتوا بغير المشهور، رغبة فيما يقبضون على الفتوى من الحطام الفاني، وكذلك القضاة إذا حكموا بالهوى، رغبة فيما يقبضون من الرشا، أو يحصلونه من الجاه، {فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ} الثاني: أهل الرئاسة والجاه من أولاد الصالحين وغيرهم، فإنهم إذا رأوا أحداً قام بولاية أو نسة خافوا على زوال رئاستهم، فيحتالون على الناس بالتعويق عن الدخول في طريقته، فيكتبون في ذلك سفسطات وترهات، يُنفِّرون الناس عن اتباع الحق، {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التّوبَة: 32].

.تفسير الآيات (80- 82):

{وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)}
قلت: {بلى}: حرف جواب كنعم، والفرق بينهما أن {بلى} لا يقع إلا في جواب النفي ويصير إثباتاً، تقول: ألم يأت زيد؟ فتقول: بلى. أي: أتى، ومثله: {قالوا لن تمسنا النار} فقال تعالى: {بلى} أي تمسكم، بخلاف نعم؛ فإنها لتقرير ما قبلها نفياً أو إثباتاً، فإذا قيل: ألم يأت زيد؟ فقلت: نعم، أي لم يأت، وإذا قيل: هل أتى زيد فقلت: نعم، أي أتى. وقد نظم ذلك بعضهم فقال:
نعَمْ لتقرير الذي قبلها ** إثباتاً أو نفياً كذا قرَّرُوا

بلى جواب النفي لكنه ** يصير إثباتاً كذا حرَّرُوا

يقول الحقّ جلّ جلاله: {وَقَالُوا} أي: بنو إسرائيل في أمانيهم الباطلة: {لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً} أربعين يوماً مقدار عبادة العجل، ثم يخلفنا فيها المسلمون. قال الحقّ جلّ جلاله: {قُلْ} لهم يا محمد: {أَتَّخَذْتُمْ} بذلك عهداً عند الله {فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}- {بَلَى} تمسكم النار وتخلدون فيها؛ لأن {مَن كَسَبَ سَيِّئَةً} أي: كفراً ومات عليه، {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} أي: أحدقت به، واستولت عليه، {فأوْلَئِكَ أَصْحَابَ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}- {والذين آمنوا} بما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم {وعلموا} بشريعته المطهرة الأعمال {الصالحات} {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الجنة هُمْ فِيهَا خَالدُونَ} هذه عادته تعالى؛ إذا ذكر فريقاً شفع بضده ترغيباً وترهيباً وبالله التوفيق.
الإشارة: اعلم أن كثيراً من الناس يعتمدون على صحبة الأولياء، ويُطلقون عنان أنفسهم في المعاصي والشهوات، ويقولون: سمعنا من سيدي فلان يقول: مَن رآنا لا تمسه النار. وهذا غلط وغرور، وقد قال- عليه الصلاة والسلام- لابنته: «يا فاطمةَ بنتَ مُحمَّد، لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللّهِ شيئاً، اشترِيِ نفسك من الله» وقال للذي قال: ادع الله أن أكون رفيقك في الجنة فقال له: «أعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بكَثْرةِ السُّجُود» نعم، هذا المقالة: إن صدرت من ولي متمكن مع الله فهي حق، لكن بشرط العمل ممن رآه بالمأمورات وترك المحرمات، فإن المأمول من فضل الله، ببركة أوليائه، أن يتقبل الله منه أحسن ما عمل، ويتجاوز عن سيئاته، فإن الأولياء المتمكنين اتخذوا عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده؛ وهو أن من تعلق بهم وتمسك بالشريعة شفعوا فيه.
والغالب على مَن صَحِبَ أولياء الله المتمكنين- الحفظ وعدم الإصرار، فمن كان كذلك لا تمسه النار، وفي الحديث: «إذَا أحَبَّ اللّهُ عَبْداً لَمْ يضرُّه ذَنْب»، يعني: يُلهم التوبة سريعاً، كما قيل لأهل بدر: «افْعلُوا مَا شِئْتُم فَقَدْ غَفَرتْ لَكُم». ولا يتخذ عند الله العهد إلا أهل الفناء والبقاء، لأنهم بالله فيما يقولون، فليس لهم عن أنفسهم إخبار، ولا مع غير الله قرار، وأما من لم يبلغ هذا المقام فلا عهد له؛ لأنه بنفسه، فمن تعلّق بمثل هذا فهو على خطر، وبالله التوفيق.
قوله تعالى: {بلى من كسب سيئة}، من اقتنى حب الدنيا أحاطت به أشغالها وعلائقها، فهو في نار القطعية مقيم، أحاط به سرادق الهموم والأكدار، تلدغه عقارب الشكوك والأغيار، بخلاف من أشرفت عليه أنوار الإيمان، وصحب أهل الشهود والعيان، فإنه في روح وريحان وجنة ورضوان، متعنا الله بذلك في الدارين. آمين.

.تفسير الآية رقم (83):

{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)}
قلت: {لا تعبدون}: خبر في معنى النهي، كقوله تعالى: {وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ} [البَقَرَة: 282]، وهو أبلغ من صريح النهي، لما فيه من إيهام أو المنهي سارع إلى الانتهاء، وقيل: حُذفت أن، وارتفع المضارع، وهو على حذف القول، أي: وقلنا لهم: لا تعبدون، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بالغيب.
يقول الحقّ جلّ جلاله: واذكروا إذ أخذنا الميثاق على بني إسرائيل وقلنا لهم: لا يتصوّر منكم شرك معي ولا ميل إلى غيري، فلا تعبدوا إلا إياي، وأحسنوا {بالوالدين} إحساناً كاملاً، وأحسنوا {وذي الْقُرْبَى} نسباً وديناً، وأحسنوا باليتامى {وَالْمَسَاكِينِ}، بالمواساة والملاطفة، {وَقُولُوا لِلنَّاسِ} قولاً {حُسْناً} أو ذا حسن، وهو ما لا لغو فيه، ولا تأثيم بل ما فيه نصح وإرشاد، {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} بإتقان شروطها وكمال آدابها، وأدوا {الزَّكَاةَ} لمستحقها، {ثُمَّ} بعد ذلك {تَوَلَّيْتُمْ}، وأعرضتم {إلاَّ قَلِيلاً} ممن أسلم {مِّنكُمْ وَأَنتُم مُعْرِضُونَ} عن الحقّ ظهوره.
ذكر الحق تعالى في هذا العهد أربعة أعمال: عمل خاص بالقلب، وهو التوحيد، وعمل خاص بالبدن، وهو الصلاة، وعمل خاص بالمال، وهو الزكاة، وعمل عام وهو الإحسان، ورتَّبها باعتبار الأهم فالأهم، فقدّم الوالدين لتأكيد حقهما الأعظم، ثم القرابة لأن فيهم أجر الإحسان وصلة الرحم، ثم اليتامى لقلّة حيلتهم، ثم المساكين لضعفهم، والله تعالى أعلم.
الإشارة: كل عهد أخذ على بني إسرائيل يؤخذ مثله على الأمة المحمدية، وهذا حكمة ذكر قصصهم لنا، وسرد مساؤئهم علينا؛ لنتحرز من الوقوع فيما وقعوا فيه، فنهلك كما هلكوا، وكل عهد أخذ على العموم باعتبار الظاهر يؤخذ مثله على الخصوص باعتبار الباطن، فقد أخذ الحق سبحانه العهد على المتوجهين إليه ألا تتوجه همتهم إلا إليه، ولا يعتمدون بقلوبهم إلا عليه، وأن يتخلقوا بالإحسان، مع الأقارب والأجانب وكافة الإخوان، وخصوصاً الوالدين من قِبل البشرية أو الروحانية، وهم أهل التربية النبوية، فحقوق أب الروحانية تُقدم على أب البشرية، لأن أب البشرية كان سبباً في خروجه إلى دار الفناء والهوان، وأب الروحانية كان سبباً في دخوله إلى رَوْحٍ وريحان.
وأخذ العهد على المتوجهين أن يكلموا الناس بالملاطفة والإحسان، ويرشدوهم إلى الكريم المنان، ويقيموا الصلاة بالجوارح والقلوب، ويؤدوا زكاة نفوسهم بتطهيرها من العيوب، فمن تولّى بعد ذلك فأولئك الفاسقون، وعن دائرة الولاية خارجون.

.تفسير الآيات (84- 85):

{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)}
قلت: {ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء} {أَنتُمْ}: مبتدأ، و{هَؤُلاء}: خبر، و{تَقْتُلُون}: حال، كقولك: أنت ذلك الرجل الذي فعلت كذا وكذا، أو {هَؤُلاءِ}: بدل، و{تَقْتُلُونَ}: خبر أو منادي، أي: يا هؤلاء، أو منصوب على الاختصاص، والْعُدْوَانِ: الإفراط في الظلم، و{أُسَارَى} حالٌ، جميع أسير، ويجمع على أًسرى، وقرئ به؛ أي: مأسورين: و{هُوَ} ضمير الشأن، و{مُحَرَّمٌ} خبر، و{إِخْرَاجُهُمْ} مبتدأ مؤخر، أو ضمير الإخراج فيكون مبتدأ، و{مُحَرَّمٌ} خبره، و{إِخْرَاجُهُمْ} بدل من الضمير، وهذه الجملة متصلة بقوله: {وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان}، وما قبلها اعتراض.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {و} اذكروا أيضاً {إِذْ أَخْذْنَا ميثَاقَكُمْ} وقلنا لكم: {لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ} أي: لا يسفك بعضكم دم بعض، {وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ} أي: لا يخرج أحدكم أخاه من داره ويجليه عنها، وجعلهم الحق نفساً واحدة، وذلك هو في الحقيقة، وفي ذلك يقول الشاعر:
عُنْصُرُ الأنفاسِ مِنَّا واحِدٌ ** وكّذا الأجْسَامُ جِسْمٌ عَمَّنَا

{ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ} بهذا العهد والتزمتموه لأنفسكم {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} على أنفسكم بذلك، {ثُمَّ أَنتُمْ} يا {هَؤُلاءِ} اليهود {تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ} أي: يقتل بعضكم بعضاً، {وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ} إجلاءً عنها، تتغالبون {عَلَيْهِم} بالظلم والطغيان، {وَإِن يَأتُوكُمْ} مأسورين تفدوهم بمالكم، وذلك الإخراج محرم عليكم.
وحاصل الآية: أن الله تعالى أخذ على بني إسرائيل العهد في التوراة ألا يقتل بعضهم بعضاً، ولا يخرج بعضهم بعضاً من ديارهم، وأيّما عبدٍ أو أمَةٍ وجدتموه من بني إسرائيل أسيراً فاشتروه بما كان من ثمنه واعتقوه، فكانت قريظة حلفاء الأوس، والنضير حلفاء الخزرج، وكانوا يقتتلون في الحرب فيُعين بنو قريظة حلفاءهم الأوس، فيقاتلون بني النضير في قتالهم مع الخزرج، فإذا غلبوا خربوا ديارهم وأخرجوهم منها، فإذا أسر رجل من الفريقين جمعوا له حتى يفدوه، فعيرتهم العرب، فقالوا: تقاتلونهم وتفدونهم؟! فيقولون: قد أمرنا أن نفديهم وحُرم علينا قتالهم، قالوا: فلم تقاتلونهم؟ فقالوا: إنا نسْتحي أن يُذَل حلفاؤنا، فوبخهم الله على ذلك، فقال: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَاب} وهو الفداء {وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} وهو القتل والإخراج؟ {فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إلاَّ خِزْيٌ} أي: ذل وهوان {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، وهو السبي والقتل لبني قريظة، والجلاء والإخراج من الوطن لبني النضير، أو الذل والجزية للفريقين إلى يوم القيامة، {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ}. وليس ما أصابهم تكفيراً لذنوبهم، بل نقمة وغضباً عليهم، {وَمَا اللَّهُ بِغَافلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}.
الإشارة: الناس على قسمين: قوم ضعفاء تمسكوا بظاهر الشريعة ولم ينفذوا إلى باطنها، ولم يقدروا على قتل نفوسهم، ولا على الخروج من وطن عوائدهم، فيقول لهم الحق جلّ جلاله: لا تسفكوا دماءكم في محبتي؛ لأنكم لا تقدرون على ذلك، ولا تخرجون أنفسكم من دياركم في سياحة قلوبكم، فقد أقررتم بعجزكم وضعفكم، ويقول للأقوياء: ثم أنتم يا هؤلاء تقتلون أنفسكم في طلب معرفتي، وتخرجون فريقاً منكم من ديار عوائدهم في طلب مرضاتي، تتعاونوا على نفوسكم بالقهر والغلبة، وكذلك ورد في بعض الأخبار: (أول ما يقول الله للعبد: اطلب العافية والجنة والأعمال وغير ذلك، فإن قال: لا، ما أريد إلا أنت، قال له: من دخل في هذا معي فإنما يدخل بإسقاط الحظوظ، ورفع الحدث، وإثبات القدم، وذلك يوجب العدم) وأنشدوا:
منْ لَم يَكُن فَانِياً عَنْ حَظِّهِ ** وَعِنِ الفَنَا والأُنسِ بالأحْبَابِ

فلأَنَّهُ بَيْنَ المنَازِل واقفٌ ** لِمنَالِ حَظّ أَوْ لُحُسْنِ مَآبِ

ويقول أيضاً للأقوياء الذين قتلوا أنفسهم وخرجوا عن عوائدهم: وإن يأتوكم أسارة في أيدي نفوسهم وعوائدهم، أو في طلب الدنيا وشهواتها، تفدوهم من أسرهم، وتفكوهم من قيودهم، وتدخلوهم في حضرة مولاهم، وفي بعض الآثار: (طالب الدنيا أسير، وطالب الآخرة أجير، وطالب الحق أمير). اهـ. والأمير هو الذي يفك الأسارى من أيدي العدو، لأجل ما ملكه الله من القوة والاستعداد، فإذا انفك العبد من هواه، دخل في حضرة مولاه، فمن رام إخراجه منها بعد دخوله يقال له: وهو محرم عليكم إخراجهم، فكيف تؤمنون بظاهر الشريعة وتنكرون علم الطريقة، وأنوار الحقيقة؟ فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا وهو الحرص والطمع، والخوف والجزع وطول الأمل، وعدم النهوض إلى العمل، {ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب}، وهو غم الحجاب وسوء الحساب، {وما الله بغافل عما يعملون}.

.تفسير الآيات (86- 86):

{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {أُوْلَئِكَ} الناقصون للعهود المتعدون الحدود {اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} وزخارفها الغرارة {بالآخِرَةِ} الباقية الدائمة، {فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ} ساعة الدنيا بالذل والهوان، وفي الآخرة بدخول النيران، {وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} بالامتناع منه في كل أوان.
الإشارة: أولئك الذين نظروا إلى غرة ظاهرة الأكوان، ولم ينفذوا إلى عبرة باطنها، فلا ينقطع عنهم عذاب الوهم والحجاب، ولا هم ينصرون من أليم العذاب.

.تفسير الآية رقم (87):

{وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)}
قلت: {قفينا}: أتبعنا، و{عيسى} عجمي معدول عن أيشوع في لغة السريانية، وهو غير منصرف للعلمية والعجمة، و{مريم}: بمعنى الخادم، ووزنه: مَفْعَل لا فعيل، و{أيدناه} أي: قويناه ونصرناه، و{روح القدس} هنا جبريل عليه السلام أي: الروح المقدسة- من إضافة الموصوف إلى الصفة، سمي به لطهارته من كدر الحس.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى} التوراة، فما قمتم بحقها ولا عملتم بما فيها، واتبعنا بعده الرسل كلما مات رسول بعثنا بعده آخر اعتنا بكم، {وَآتَيْنَا عيِسَى ابْنَ مَرْيَمَ} المعجزات الواضحات كإحياء الموتى، وإبراء الأكمة والأبرص، والإخبار بالمغيبات، والإنجيل، {وَأَيَّدْنَاهُ} بجبريل عليه السلام كان يسير معه حيث سار، ورفعه إلى السماء حين أردتم يا معشر اليهود قتله، {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أنفُسُكُمُ} من مشاق الطاعات وترك الحظوظ والشهوات، {اسْتَكْبَرْتُمْ} وامتنعتم من الإيمان به {فَفَرِيقاً} منهم كذبتموه كعيسى وسليمان ومحمد- عليهم السلام-، {وَفَرِيقاً} تقتلونه كزكريا ويحيى- عليهما السلام-؟ قال القشيري: أصْغَوْا إلى الداعين بسمع الهوى، فصار معبودهم صفاتهم وهواهم. اهـ.
الإشارة: كل ما قاله الحق جلّ جلاله لبني إسرائيل في فحوى الخطاب يقوله لهذه الأمة في سرّ الخطاب، فلقد آتانا الكتاب، وبيَّن فيه الرشد والصواب، وقفَّى بعد إنزاله بعلماء أتقياء، وأولياء أصفياء، يحكمون بحكمه، ويهدون بهديه، فإذا أمروا بالزهد في الدنيا وترك الحظوظ والهوى رفضوهم وكذبوهم، وربما كفَّروهم وقتلوهم، واستكبروا عن الأذعان لهم والانقياد لقولهم، ففريقاً كذبوا وفريقاً يقتلون.
وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم: «لَتَتَّبِعُنّ سُنَنَ مَنح قَبلكمُ شِبراً بشِبرٍ وذَراعاً بذراعٍ، حتى لَو دَخلُوا جُحْرَ لدَخَلْتُموه»، فقالوا: مَن يا رسول الله اليهودُ والنصارى؟ قالَ: «نعم... ومَنْ إذن؟» أي: ومَن تتبعون إلا هم. فالدعاة إلى الله لا ينقطعون ما دام الدين قائماً، فقوم يدعون إلى أحكام الله، وقوم يدعون إلى معرفة الله، فالأول: العلماء، والثاني: الأولياء، فإذا أمروا بالخروج عن العوائد والشهوات، رموهم بسهام العتاب والمخالفات، إذ لم يأت أحد بمثل ما جاءوا به إلا عودي، إلا من خصته سابق العناية، وهبت عليه ريح الهداية، فيتبع آثارهم، وقليلٌ ما هم.