فصل: تفسير الآيات (32- 34):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (32- 34):

{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34)}
قلت: من قرأ: {خالصة}؛ بالرفع، فخبر بعد خبر، أو خبر عن مضمر، ومن قرأ بالنصب، فحال.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {قل} لهم: {مَن حرَّم زينةَ اللهِ}؛ وهي ما يتجمل به من الثياب وغيرها، {التي أخرج لعباده} من النبات؛ كالقطن والكتان، أو الحيوان؛ كالحرير والصوف والوبر، والمعادن؛ كالدروع والحلي، {و} قل أيضًا: من حرم {الطيبات مِنَ الرزقِ} أي: المستلذات من المآكل والمشارب، ويدخل فيها المناكح؛ إذ هي من أعظم الطيبات. وفيه دليل على أن الأصل في المطاعم والملابس وأنواع التجملات: الإباحة؛ لان الاستفهام للإنكار، وبه رد مالك رحمه الله على من أنكر عليه من الصوفية، وقال له: اتق الله يا مالك؛ بلغني أنك تلبس الرقيق، وتأكل الرقاق، فكتب إليه بالآية.
قال تعالى: {قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا}، ويشاركهم فيها الكفار، ويوم القيامة تكون {خالصة} لهم دون غيرهم، {كذلك نُفصّل الآياتِ} أي: كتفصيلنا هذا الحكم نُفصل سائر الأحكام {لقوم يعلمون} فينزلونها في محلها بخلاف الجهال.
{قل إنما حرَّم ربي الفواحشَ}؛ وهي ما تزايد قبحها من المعاصي، وقيل: ما يتعلق بالفروج، {ما ظهرَ منها وما بَطَنَ} أي: جهرها وسرها، أو ما يتعلق بالجوارح الظاهرة والعوالم الباطنية وهي القلوب، {والإثم}؛ كقطع الرحم، أو عام في كل ذنب، {والبغيَ}؛ وهو الظلم؛ كقطع الطريق والغصب، وغير ذلك من ظلم العباد، أو التكبر على عباد الله؛ وقوله: {بغير الحق}: تأكيد له في المعنى. {وأن تُشركوا الله ما لم يُنزل به سُلطانًا} أي: حجة على استحقاق العبادة، وهو تهكم بالمشركين، وتنبيهٌ على تحريم ما لم يدل عليه برهان. {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} من الإلحاد في صفاته، والافتراء عليه؛ كقولهم: {وَاللهُ أَمَرَنَا} [الأعراف: 28]، و{لَوْ شَآءَ اللهُ مَآ أَشْرَكْنَا} [الأنعَام: 148].
{ولكل أمة أجل} أي: مدة ووقت لنزول العذاب بها إن لم يؤمنوا، وهو تهديد لأهل مكة، {فإذا جاء أجَلُهم} أي: انقرضت مدتهم، أو دنى وقت هلاكهم، {لا يستأخرون ساعةَ} عنه {ولا يستقدمون} أي: لا يتأخرون ولا يتقدمون عنه أقصَر وقت، أو لا يطيقون التقدم والتأخر لشدة الهول، وجعل بعضهم: {ولا يستقدمون} استئنافًا؛ لأن الأجل إذا جاء لا يتصور التقدم، وحينئذٍ يوقف على: {ساعة}، ثم يقول: ولا هم يستقدمون عنه قبل وصوله.
الإشارة: قال شيخنا البوزيدي رضي الله عنه: زينة الله التي أظهر لعباده هي لباس المعرفة، وهو نور التجلي، والطيبات من الرزق هي حلاوة الشهود. اهـ. وهي لمن كمل إيمانه وصِدقه في الحياة الدنيا، وتصفو له إلى يوم القيامة، فهي حلال على أهل التجريد؛ يتمتعون بها في الدارين، وإنما حرّم عليهم ما يشغلهم عن ربهم من جهة الظاهر، وما يقطعهم عن شهوده من جهة الباطن، وسوء الأدب مع الله، والتعرض لعباد الله، والشرك بالله؛ بأن يشهدوا معه سواه، وأن يقولوا على الله ما يوهم نقصًا أو خللاً في أنوار جماله وسناه.
والله تعالى أعلم.
ثم إن العباد والزهاد وأهل البداية من المريدين السائرين ينبغي لهم أن يزهدوا في زينة الدنيا وطيباتها؛ لئلا تركن إليها نفوسهم، فيثبط سيرهم، وأما الواصلون فهم مع الله، لا مع شيء سواه، يأخذون من الله بالله، ويدفعون بالله، وقد اتسعت دائرة علمهم، فليسوا مع لباس ولا أكل ولا شرب ولا جوع ولا شبع، هم مع ما يبرز في الوقت من المقدورات. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (35- 36):

{يَا بَنِي آَدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36)}
قلت: {إما}: شرط مؤكد بما ذكره بحرف الشك؛ للتنبيه على أن إتيان الرسل جائز، غير واجب، كما ظنه المعتزلة، وجوابه: {فمن اتقى...} إلخ، وإدخال الفاء في الجواب الأول دون الثاني؛ للمبالغة في الوعد والمسامحة في الوعيد. قاله البيضاوي.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {يا بني آدم} مهما {يأتينكم رسل منكم يقصُّون عليكم آياتي} الدالة على توحيدي ومعرفتي، {فمن اتَّقَى} الشرك والتكذيب، و{أصلح} فيما بيني وبينه، منكم، بالعمل الصالح، {فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون}. {والذين كذّبوا بآياتنا واستكبرُوا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}، فمِن كمال الإيمان: أن يقدر الإنسان نفسه أن لو كان في زمان كل رسول، لكان أول من تبعه، ولكان من خواص أصحابه، هكذا يسير بعقله مع كل رسول من زمان آدم عليه السلام إلى مبعث رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قد جعل الله لكل نبي خلفاء يخلفونه في تبليغ أحكامه الظاهرة والباطنة، وهم العلماء الأتقياء، والأولياء العارفون الأصفياء، فمن أراد أن يكون ممن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فليتبع علماء أهل زمانه في الشريعة، وأولياء أهل عصره في تربية الحقيقة. وبالله التوفيق.

.تفسير الآية رقم (37):

{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {فمن أظلمُ ممن افترى على الله كذبًا}؛ بأن نسب إليه الولد والشريك، {أو كذَّب بآياته} التي جاءت بها الرسل من عنده، أي: لا أحد أظلم منه، أو تَقوَّل على الله ما لم يقله، وكذّب بما قاله، {أولئك ينالُهم نصيبُهم من الكتاب} أي: يلحقهم نصيبهم مما كتب في اللوح المحفوظ؛ من الأرزاق والآجال، {حتى إذا} انقضت أعمارهم و{جاءتُهم رسلُنا يَتوفَّونهم} أي: يتوفون أرواحهم، {قالوا} لهم توبيخًا: {أين ما كنتم تدّعون من دون الله} أي: أين الآلهة التي كنتم تعبدونها من دون الله؛ لتدفع عنكم العذاب؟ {قالوا ضلُّوا عنا}؛ غابوا عنا {وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين}، اعترفوا بأنهم كانوا ضالين فيما كانوا عليه، وندموا حيث لم ينفع الندم، وقد زلت بهم القدم.
الإشارة: كل من أعرض عن خصوص أهل زمانه واشتغل بمتابعة حظوظه وهواه، ينال نصيبه من الدنيا الفانية وما قُسِم له فيها؛ فإذا جاءت منيته ندم وتحسر، وقيل له: أين ما تمتعت به وشغلك عن مولاك؟ فيقول: قد غاب ذلك وفنى وانقضى، وكأنما كان برقًا سَرَى، أو طَيفَ كَرَى، والدهر كله هكذا؛ لمن سدد نظرًا، وعند الصباح يحمد القوم السُّرَى، وستعلم، إذا انجلى الغبار، أفرس تحتك أم حمار.
وقد قال صلى الله عليه وسلم في بعض خطبه: «لا تَخدَعَنَّكُم زخارفُ دُنيا دَنِيَّة، عن مَراتب جَنَّاتٍ عَالِية؛ فكان قد كِشفَ القِناع، وارتفع الارتياب، ولاقى كل امرئٍ مستقَرِّه، وعرف مثواه ومُنَقَلَبه» وفي حديث آخر: «مَن بدأ بَنَصِيبه من الدنيا فَاتَه نصيبُه من الآخرة، ولم يُدرك منها ما يريد، ومن بدأ بنصيبه من الآخرة، وصل إليه نصيبه من الدنيا، وأدرك من الآخرة ما يريد».

.تفسير الآيات (38- 39):

{قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآَتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38) وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {قال} الله تعالى أي: يوم القيامة للكفارٍ، بواسطة ملك، أو بغيرها: {ادخلوا في} جملة {أممٍ} كانوا من قبلكم؛ {من الجن والإنس} متفقين معكم في الكفر والضلال، فادخلوا مصاحبين معهم {في النار}. قال تعالى، مخبرًا عن حالهم: {كلما دخلت أمةٌ} منهم في النار {لعنت أختها} التي ضلت بالاقتداء بها، {حتى إذا أدَّاركوا} أي: تداركوا وتلاحقوا، {فيها جميعًا قالت أُخراهم}؛ دخولاً أو منزلة، وهم الأتباع السفلة، {لأُولاهم} وهم المتبوعون الرؤساء أي: قالت لأجلهم؛ لأن الخطاب مع الله لا معهم، قالوا: {ربنا هؤلاء} الرؤساء {أضلونا}؛ حيث سنُّوا لنا الضلال فاقتدينا بهم، {فآتِهم عذابًا ضِعفًا} أي: مضاعفًا {من النار}؛ لأنهم ضلوا وأضلوا. {قال} تعالى: {لكلٍّ} واحد منكم {ضِعفٌ} أي: عذابًا مضعفًا، أما القادة؛ فلكفرهم وتضليلهم، وأما الأتباع؛ فلكفرهم وتقليدهم، {ولكن لا تعلمون} ما لكم، أو ما لكل فريق منكم.
{وقالت أُولاهم لأُخراهم} أي: المتبوعون للأتباع: {فما كان لكم علينا من فضل} في الإيمان والتقوى تُوجب أن يكون عذابنا أشد من عذابكم، حتى يتضاعف علينا العذاب دونكم؛ فإنا وإياكم متساوون في الضلال واستحقاق العذاب، {فذوقوا} أي: باشروا {العذاب بما كنتم تكسبون}؛ هو من قول القادة، أو من قول الله تعالى لجميعهم.
الإشارة: إذا قامت القيامة تحققت الحقائق، وتميزت الطرائق، للخاص والعام، فيرتفع المقربون في أعلى عليين، ويبقى أهل اليمين في أسفل منازل أهل الجنة مع عوام المسلمين، فيتعلق عوامهم بخواصهم، فيقولون لهم: أنتم رددتمونا عن صحبة هؤلاء، وأنتم خذلتمونا عنهم، ثم يقولون: ربنا هؤلاء أضلونا عن صحبة هؤلاء المقربين، فآتهم حجابًا ضعفًا مما لنا، قال: لكل ضِعف من الحجاب، هم بتضليلهم لكم عن صحبتهم، وأنتم بتقليدكم لهم، ولكن لا تعلمون ما أعددت للمقربين حين صبروا على جفاكم، وتحملوا مشاق طاعتي ومعرفتي؛ لأن كل آية في الكفر تجر ذيلها على أهل الغفلة من المؤمنين. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (40- 41):

{إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)}
قلت: {سَمّ الخياط}: عين الإبره، وفي السين: الفتح والكسر والضم، والخياط: ما يخاط به، على وزن حِزام، والتنوين في {غواشٍ}: للعوض عن الياء، عند سيبويه، وللصرف عند غيره.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {إنَّ الذين كذَّبوا بآياتنا واستكبروا} عن: الإيمان بها، {لا تُفتَّح لهم أبوابُ السماء}؛ لأدعيتهم وأعمالهم؛ فلا تقبل، أو لا تفتح لأرواحهم إذا ماتوا، بل تغلق دونها إذا وصلت بها الملائكة إليها، فيطرحونها فتسقط من السماء، بخلاف أرواح المؤمنين؛ تُفتح لهم أبواب السماء حتى يفضوا إلى سدرَة المنتهى. {ولا يدخلون الجنة حتى يَلجَ} أي: يدخل، {الجمَلُ} وهو البعير {وفي سَمِّ الخِياط} أي: في ثقب الإبرة، والمعنى: لا يدخلون الجنة حتى يكون ما لا يكون أبدًا، فلا يدخلون الجنة أبدًا، وقرأ ابن عباس {الجُمل}، بضم الجيم وسكون الميم، وهو حبل السفينة، الذي جُمِعَ بعضُه إلى بعض حتى صار أغلظ ما يكون.
ثم قال تعالى: {وكذلك نَجزي المجرمين} أي: مثل ذلك الجزاء الفظيع نجزي المجرمين، {لهم من جهنم مهادٌ} أي: فراش، {ومِن فوقهم غَوَاشٍ} أي: أغطية من النار. {وكذلك نجزي الظالمين} عبَّر عنهم بالمجرمين تارة، وبالظالمين أخرى؛ إشعارًا بأنهم بتكذيبهم الآيات، اتصفوا بالجرم والظلم، وذكر مع الحرمان من الجنة: الجرم، ومع التعذيب بالنار: الظلم؛ تنبيهًا على أن الظلم أعظم الإجرام.
الإشارة: أهل التربية النبوية من الشيوخ العارفين: آية من آيات الله، من كَذَّب بهم، واستكبر عن الخضوع لهم، لا تفتح لفكرته أبواب السماء، بل يبقى مسجونًا بمحيطاته، محصورًا في هيكل ذاته، ولا يدخل جنة المعارف أبدًا، بل يحيط به الحجاب من فوقه ومن أسفله، فتنحصر روحه في الأكوان، ولم تفض إلى فضاء الشهود والعيان.
وفي الحِكَم: (الكائن في الكون، ولم تفتح له ميادين الغيوب، مسجون بمحيطاته، محصور في هيكل ذاته). وقال أيضًا: «وسعك الكون من حيث جثمانيتك، ولم يَسعَك من حيث ثبوتُ روحانيِتك»، فكل من لم تثبت له الروحانية: فهو محصور في الكون، وكل من ثبتت له الروحانية؛ بأن استولى معناه على حسه، لم يسعه الكون، ولم يحصره عرش ولا فرش، وكذلك الصوفي؛ لا تظله السماء ولا تقله الأرض، أي: لا يحصره الكون من حيث فكرتُهُ. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (42- 43):

{وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)}
قلت: جملة {لا نُكلف}: معترضة بين المبتدأ والخبر؛ للترغيب في اكتساب النعيم المقيم، بما تسعه طاقتهم، ويسهل عليهم، و{ما كنا لنهتدي}: اللام لتأكيد النفي، وجواب {لولا}: محذوف، أي: لولا هدايته إيانا ما اهتدينا.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {والذين آمنوا} بالرسل، {وعملوا} الأعمال {الصالحات} على قدر طاقتهم، {لا نكلِّف نفسًا إلا وُسعَها} أي: ما تسعه طاقتها، فمن فعل ذلك ف {أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ونزعنا ما في صدورهم من غِلٍّ} أي: نُخرج مِن قلوبهم كل غل وعدواة، ونطهرها منه، حتى لا يكون بينهم إلا التودد، فيصيرون أحبابًا وإخوانًا، وإما عبّر بالماضي؛ لتحقق وقوعه، كأنه وقع ومضى، وكذلك ما يجيء بعدها، ثم وصف الجنة فقال: {تجري من تحتهم} أي: من تحت قصورهم، {الأنهارُ}؛ من عسل وخمر وماء ولبن؛ زيادة في لذتهم وسرورهم، فالقصور مرتفعة في الهواء، والأنهار تجري تحتها.
{وقالوا} حينئذٍ: {الحمد لله الذي هدانا لهذا} أي: لما جزاؤه هذا النعيم من الإيمان في الدنيا والعمل الصالح، {وما كنا لنهتدي} بأنفسنا {لولا أن هدانا الله} بتوفيقه وإرادته، {لقد جاءت رُسلُ ربنا بالحق} فاهتدينا بإرشادهم، يقولون ذلك اغتباطًا وتبجحًا بأن ما عملوه في الدنيا يقينًا، صار لهم عين اليقين في الآخرة، {ونُودوا} أي: نادتهم الملائكة، أو الحق تعالى: {أن تلكُم الجنةُ} أي: هذه الجنة {أُورِثتُموها} أي: أُعطِيتموها {بما كنتم تعملون} أي: بسبب أعمالكم، وهذا باعتبار الشريعة، وأما باعتبار الحقيقة فكل شيء منه وإليه. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «لَن يُدخِلَ الجنَّةَ أحدَكم عَمُلهُ، قالوا: ولا أنت، قال: ولا أنا، إلاَّ أن يَتَغَمَّدَنِيَ الله برحمَتِه» فالشريعة تنسب العمل للعبد، والحقيقة تعزله عنه، وقد آذنت بها الآية قبله بقوله: {وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله}، فقد نطقوا بما تحققوا به يوم القيامة.
وقال القشيري: إنما قال: {أورثتموها بما كنتم تعملون}؛ تسكينًا لقلوبهم، وتطييبًا لهم، وَإلاَّ، فإذا رأوا تلك الدرجات، علموا أن أعمالهم المشوبة لم تبلغ تلك الدرجات. اهـ. وعن ابن مسعود أنه قال: (يجوزون الصراط بعفو الله، ويدخلون الجنة برحمة الله، ويقتسمون المنازل بأعمالهم). اهـ.
الإشارة: والذين آمنوا بطريق الخصوص، وعملوا الأعمال التي تناسبها، من خرق العوائد واكتساب الفوائد، والتخلية من الرذائل والتحلية بأنواع الفضائل على حسب الطاقة؛ أولئك أصحاب جنة المعارف، هم فيها خالدون في الدنيا والآخرة، قد نزع الله من قلوبهم المساوي والأكدار، وطَهَّرها من جملة الأغيار، حتى صاروا إخوانًا متحابين؛ لا لَغوَ بينهم ولا تأثيم، تجري من تحت أفكارهم أنهار العلوم، وتفتح لهم مخازن الفهوم، فإذا تمكنوا من هذه الحضرة (قالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله)، تحققوا أنهم محمولون بسابق العناية، محفوفون بعين الرعاية، فتحققوا بما جاءت به الرسل من عند الله، وما نالوه على يد أولياء الله من الذوق والوجدان، وكشف الغطاء عن عين العيان، منحنا الله من ذلك حظًا وافرًا، بمنِّه وكرمه.