فصل: تفسير الآيات (44- 47):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (44- 47):

{وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ كَافِرُونَ (45) وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47)}
قلت: {أن}: في هذه المواضع؛ مخففة من الثقيلة، أو: تفسيرية، وحذف مفعول: {وعد} الثاني؛ استغناء بمفعول وعد الأول، أو لإطلاق الوعد، فيتناول الثواب والعقاب.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ونادى أصحابُ الجنةِ أصحاب النار أن قد وجَدَنا ما وعدنا ربُّنا} من النعيم {حقًا فهل وجدتم} أنتم {ما وَعَدَ ربُّكم} من البعث والحساب {حقًا}، إنما قال أهل الجنة ذلك؛ تبجحًا بحالهم، وشماتة بأصحاب النار، وتحسيرًا لهم، فأجابهم أهل النار بقولهم: {نعم}، قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًا، {فأذن مؤذن بينهم} بين الفريقين: {أن لعنةُ الله على الظالمين}؛ الكافرين، {الذين يصدُّون} الناس {عن سبيل الله} وهي الإسلام، {ويبغونها} أي: يطلبون بها {عِوجًا}، زيغًا وميلاً عما هو عليه من الاستقامة، أو يطلبونها أن تكون ذات عوج، {وهم بالآخرة كافرون} أي: جاحدون.
{وبينهما} أي: بين الفريقين {حجابٌ}، أو بين الجنة والنار حجاب، يمنع دخول أثر أحدهما للأخرى، {وعلى الأعراف}؛ وهو السور المضروب بين الجنة والنار، {رجالٌ}؛ طائفة من الموحدين استوت حسناتهم وسيئاتهم، كما في الحديث. وقال في الإحياء: يشبه أن يكونوا من لم تبلغهم الدعوة في أطراف البلاد، فلم تكن لهم معرفة ولا جحود ولا طاعة ولا معصية، فلا وسيلة تقربهم، ولا جناية تبعدهم، ولهم السلامة فقط، لا تقريب ولا تبعيد. اهـ.
قلت: لكن سيأتي أنهم يدخلون الجنة.
ثم وصفهم بقوله: {يعرفون كُلاًّ} من أهل الجنة والنار، {بسيماهم}: بعلامتهم التي أعلمهم الله بها؛ كبياض الوجوه من أهل الجنة، وسوادها في أهل النار، أو غير ذلك من العلامات. {ونادوا أصحابَ الجنة}، إذا نظروا إليهم، فقالوا لهم: {أن سلامٌ عليكم}، أي: نادوهم بالسلام عليهم، {لم يدخلوها} أي: الجنة، {وهم يطمعون} في دخولها.
{وإذا صُرِفت أبصارُهم تلقاءَ أصحابِ النار} أي: التفتوا إليهم على وجه القلة، تعوذوا من حالهم، {قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين} في النار.
الإشارة: إذا وصل أهل الجد والتشمير إلى حضرة العي الكبير؛ نادوا أهلَ البطالة والتقصير، فقالوا لهم: قد وجدنا ما وعدنا ربنا؛ من كشف الحجاب والدخول مع الأحباب، حقًا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقًا كما وجدنا نحن؟ قالوا على وجه الدعوى والغلط: نعم، فأذن مؤذن بينهم، بلسان الحال: أن لعنة الله على الظالمين؛ الذين بقوا مع حظوظ أنفسهم، ولم يخرقوا شيئًا من عوائدهم، مع تراميهم على مراتب الرجال، وادعائهم بلوغ غاية الكمال، الذين يصدون عن طريق الخصوص ويبغونها عوجًا، وهم بالخصلة الآخرة وهي إشراق نور الحقيقة على أهل التربية هم كافرون، وبينما حجاب كبير، وهو حجاب الغفلة، فلا يعرفون أهل اليقظة، وهم أهل مقام الإحسان، بل بينهما مفاوز ومهَامِه، كما قال الشاعر:
تَرَكنَا البُحور الزَّخراتِ ورَاءنا ** فَمِن أين يَدري النَّاسُ أينَ توجَّهنَا

وعلى الأعراف؛ وهو البرزخ الذي بين الحقيقة والشريعة، رجال من أهل الاستشراف، يعرفون كلاًّ من العوام والخواص بسيماهم، ونادروا أصحاب الجنة أي: الواصلين إلى جنة المعارف: أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون، لأنهم في حالة السير وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار، أي: نار الحجاب والتعب، وهم العوام، قالوا: ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين.

.تفسير الآيات (48- 49):

{وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)}
قلت: {ما أغنى} استفهامية أو نافية، و{ما كنتم}: مصدرية، و{ادخلوا}: محكى بقول محذوف، أي: قيل لهم ادخلوا... إلخ.
يقول الحقٌ جلّ جلاله: {ونادى أصحابُ الأعراف رجالاً} من رؤساء الكفرة، {يعرفونهم بسيماهم}؛ بعلامة فيهم من سوء حالهم، {قالوا} لهم: {ما أغنى عنكم جمعكم} أي: كثرتكم، أو جمعكم للمال، شيئًا أو أيّ شيء أغنى عنكم جمعكم، {وما كنتم تستكبرون}؟ أي: واستكباركم؟ {أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالُهم اللهُ برحمةٍ} وهم ضعفاء المسلمين الذين كانت الكفرة تستحقرهم في الدنيا، ويحلفون أن الله لا يدخلهم الجنة، قد قيل لهم: {ادخلوا الجنة لا خوفٌ عليكم ولا أنتم تحزنون}. أو تقول الملائكة لأهل الأعراف: {ادخلوا الجنة لا خوفٌ عليكم ولا أنتم تحزنون}، بعد أن حُبسوا على الأعراف حتى أبصروا الفريقين وعرفوهم، وقالوا لهم ما قالوا، تفضل الله عليهم، فقيل لهم: ادخلوا الجنة.
وقيل: لما عيَّر أصحابُ الأعراف أهل النار، أقسموا أي: أهل النار أن أصحاب الأعراف لا يدخلون الجنة، فقال لهم الله تعالى: {أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم برحمة ادخلوا} يا أهل الأعراف {الجنة}. والله تعالى أعلم.
الإشارة: أصحاب الأعراف: قوم من الصالحين حصل لهم محبة القوم، ليسوا من عوام أهل اليمين ولا من خواص المقربين، فإذا نظروا إلى أهل الطعن على الفقراء المتوجهين، والترفع عليهم، قالوا لهم: ما أغنى عنكم جمعكم واستكباركم، أهؤلاء الذين كنتم تطعنون عليهم، وأقسمتم أنهم ليسوا على شيء؟ قد قيل لهم: ادخلوا جنة المعارف لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون، وأنتم حصل لكم الخيبة، والحرمان، والأسر في أيدي النفوس، والحصر في سجن الأكوان. عائذًا بالله من ذلك.

.تفسير الآيات (50- 53):

{وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51) وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53)}
قلت: {هدى ورحمة}: حال من مفعول {فصَّلناه}، {فيشفعوا}: جواب الاستفهام، {أو نُرد}؛ بالنصب: عطف عليه، وبالرفع: استئناف، فعلى الأول: المسؤول أحد الأمرين؛ إما الشفاعة أو الرد، وعلى الثاني: المسؤول الشفاعة فقط.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ونادى}، يوم القيامة، {أصحابُ النار أصحابَ الجنةِ أن أفيضُوا} أي: صبوا {علينا من الماء}، وفيه دليل على أن الجنة فوق النار، أو: صبوا علينا مما رزقكم الله؛ من سائر الأشربة، ليلائم قوله: {أفيضوا}، أو: من الطعام؛ على حذف الفعل، أي: أو أعطونا مما رزقكم الله، {قالوا إن الله حرمهما على الكافرين}، أي: منعهما عنهم، {الذين إتخذوا دينهم لهوًا ولعبًا}؛ كتحريم البحائر والسوائب، والتصدية حول البيت، والطواف به؛ عريانًا، وغير ذلك مما أحدثوه، واللهو: صرف القلب إلى ما لا يحصل به نفع أخروي. واللعب: طلب الفرح بما لا يحسن أن يطلب به؛ لخلوه عن منفعة دينية، {وغرّتهم الحياة الدنيا}؛ بأن أنستهم القيامةَ، {فاليوم نَنساهُم كما نَسُوا لقاءَ يومهم هذا}، والكاف: أي: ننساهم؛ لأجل نسيانهم لقاء يومهم هذا، فلم يخطروه ببالهم، ولم يستعدوا له، {وما كانوا بآياتنا يجحدون} أي: نُهملهم لأجل إهمالهم الاستعداد للقاء، وإهمالهم آياتنا حتى جحدوا أنها من عند الله.
{ولقد جِئناهم بكتاب فصّلناه على علمٍ} أي: بيَّنا معانيه من العقائد والأحكام والمواعظ، مفصلةً {على علم}، أي: عالمين بوجه تفصيله حتى جاء في غاية الإتقان، {وهدىً ورحمةً لقوم يؤمنون} فإنهم المنتفعون بهدايته ورحمته دون غيرهم.
{هل ينظرون} أي: ما ينتظر الكفار به {إلا تأويلَه}، أي: ما يؤول إليه أمره؛ من تبين صدقه، بظهور ما نطق به من الوعد والوعيد، بقيام الساعة وما بعدها، {يوم يأتي تأويلُه}؛ بظهور ما نطق به، {يقول الذين نَسُوه من قبل}، ولم يؤمنوا به: {قد جاءت رسُل ربنا بالحق} أي: قد تبين أنهم جاؤوا بالحق، وحصل لهم اليقين حيث لم ينفع، ثم طلبوا من يشفع فيهم فقالوا: {فهل لنا من شفعاءَ فيشفعوا لنا} اليوم، {أو نُردُّ} أي: وهل نرد إلى الدنيا {فنعملَ غيرَ الذي كنا نعملُ} فنستبدل الكفر بالإيمان، والعصيان بالطاعة والإذعان، أو: فيشفعوا لنا في أحد الأمرين: إما السلامة من العذاب، أو الرد إلى الدنيا فنستبدل الكفر بالإيمان. قال تعالى: {قد خسروا أنفسهم}؛ أي: بخسوها بسوء أعمالهم وكفرهم، {وضلَّ عنهم ما كانوا يفترون} أي: غاب عنهم افتراؤهم فلم ينفعهم.
الإشارة: إذا وصل أهل الجد والتشمير إلى حضرة العلي الكبير، وأفاض عليهم من ماء غيبه، حتى امتلأت قلوبهم وأسرارهم، فأثمر لهم العلوم اللدنية والأسرار الربانية؛ ناداهم أهل البطالة والتقصير: أفيضوا علينا من الماء الذي سقاكم الله منه، أو مما رزقكم من العلوم والمعارف.
قالوا: إن الله حرمهما على البطالين؛ الذين اتخذوا طريق القوم لهوًا ولعبًا، وغرتهم الحياة الدنيا فقبضتهم في شبكتها، فيقول تعالى: فاليوم ننساهم من لذيذ مشاهدتي، وحلاوة معرفتي، كما نسوا لقائي بشهود ذاتي، وأنكروا على أوليائي وأهل معرفتي، وجحدوا وجود التربية وحجروا على قدرتي، ولقد جئناهم بكتاب فصّلنا فيه كل شيء؛ فقلنا فيه: {مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأتِ بِخَيْرٍ مِنْهَآ أَوْ مِثْلِهَآ} [البَقَرَة: 106] إلى يوم القيامة، هل ينظرون إلا تأويله؟ يوم يأتي تأويله بظهور درجات المقربين، في أعلى عليين، حينئذٍ يحصل لهم اليقين بوجود المقربين، أو بالتربية النبوية في كل زمان وحين، فيطلب الشفاعة في اللحوق بهم، أو يرد إلى العمل بعملهم.. هيهات! قد بُعثر ما في القبور، وحُصّل ما في الصدور، فخسر المبطلون، وفاز المجتهدون السابقون. جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه.

.تفسير الآيات (54- 56):

{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)}
قلت: {حثيثًا} أي: سريعًا؛ صفة لمصدر محذوف، أي: طلبًا حثيثًان أو حال من الفاعل، أي: حاثًا، و{مسخراتٍ} حال فيمن نصب، وخبر فيمن رفع، و{تضرعًا وخفية}: مصدران، حالان من الواو، وكذلك {خوفًا وطمعًا}.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {إنَّ ربكم} الذي يستحق أن تعبدوه، وهو {اللهُ} وحده {الذي خلق السماوات والأرض} أي: أظهرهما {في ستة أيامٍ} أي: مقدار ستة أيام من أيام الدنيا؛ إذ لم يكن ثَمَّ شمس، ولو شاء خلقهن في لمحة، والعدول إليه؛ لتعليم خلقه التأني والتثبت.
{ثم استوى على العرش} استواء يليق به، والعرش: جسم عظيم محيط بالأكوان. سمي به؛ لارتفاعه، وللتشبيه بسرير الملك، فالأكوان في جوفه ممحوقة؛ فقد استولى عليها ومحقها، كذلك أسرار معاني الربوبية الأزلية قد استولت عليه وحقته، فيمكن أن يكون الحق تعالى عبَّر بالاستواء عن هذا الاستيلاء، وسيأتي في الإشارة تمامه إن شاء الله.
وقال القشيري: ثم استوى على العرش، أي: تَوَحَّدَ بجلال الكبرياء بوصف الملكوت، وملوكنا إذا أرادوا التجلِّي والظهور للحَشَم والرعية؛ برزوا لهم على سرير مُلكِهم في إيوان مشاهدتهم. فأخبر الحقُّ سبحانه وتعالى بما يَقرُب من فَهم الخلقِ، بما ألقى إليهم من هذه الكلمات، بأنه استوى على العرش، ومعناه: اتصافه بعز الصمدية وجلال الأحدية، وانفراده بنعت الجبروت وجلاء الربوبية، وتقدَّس الجبَّارُ عن الأقطار، والمعبودُ عن الحدود. اهـ.
{يُغشي الليلَ النهارَ} أي: يُغطي نور النهار بظلمةِ الليل، {يطلبه حثيثًا} أي: يعقبه سريعًا؛ كالطالب له، لا يفصل بينهما شيء، {و} خلق {الشمسَ والقمرَ والنجومَ مُسخرات بأمره} أي: بقضائه وتصريفه، ومن عجائب تسخيرها أن جعلها مقرونة بأمور غيبية، دالة على ظهور شيء منها.
والنهي عن النظر في النجوم أو تصديق المنجمين؛ إنما هو لمن اعتقد التأثير لها مستقلة بنفسها، أو تصديقهم في تفصيل ما يخبرون به؛ لأنهم إنما يقولون ذلك عن ظن وتخمين وجهل، فإنَّ عِلم النجوم كان معجزة لبعض الأنبياء، ثم اندرس ذلك العلم، فلم يبق إلا ما هو مختلط، لا يتميز فيه الصواب من الخطأ، فاعتقاد كون الكواكب أسبابًا لآثار يخلق الله تعالى بها في الأرض، وفي النبات والحيوان شيئًا، يعني في الجملة ليس قادحًا في الدين، بل هو الحق، ولكن دعوى العلم بتلك الآثار على التفصيل مع الجهل: قادر في الدين، فالكواكب ما خلقت عبثًا، ولهذا نظر عليه الصلاة والسلام إلى السماء وقرأ قوله تعالى: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً...} [آل عِمرَان: 191] الآية. انظر الإحياء للغزالي.
ثم قال تعالى: {إلا له الخلقُ والأمرُ} أي: الإيجاد والتصرف بالأمر والنهي، {تبارك الله رب العالمين} أي: تعاظم في ألوهيته، وتعالى في ربوبيته، وتفرد في وحدانيته.
قال البيضاوي: وتحقيق الآية والله أعلم أن الكفرة كانوا متخذين أربابًا، فبيَّن لهم أن المستحق للربوبية واحد وهو الله تعالى؛ لأنه الذي له الخلق والأمر، فإنه تعالى خلق العالَم على ترتيب قويم، وتدبير حكيم؛ فأبدع الأفلاك العلوية، والأجرام السفلية، ثم بعد تمام خلق عالَم الملك أخذ في تدبيره؛ كالملِكِ الجالس على عرشه وسريره لتدبير مملكته، فدبر الأمر من السماء إلى الأرض، بتحريك الأفلاك وتسيير الكواكب، وتكوير الليالي والأيام، فله الخلق والأمر. وكذلك قال في آية السجدة بعد ذكر الخلق: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِرُ الأَمْرَ} [يُونس: 3، السجدة: 4]، فربُّ الخلائق: مَن هذا صفته، لا غيره، انتهى المعنى.
ثم أمرهم بأن يدعوه، متذللين مخلصين، فقال: {ادعوا ربكم تضرعًا وخُفيةً} أي: ذوي تضرع وخفاء؛ فإن الإخفاء دليل الإخلاص، {إنه لا يحب المعتدين} المتجاوزين ما أمروا به في الدعاء وغيره، ونبه على أن الداعي ينبغي ألاَّ يطلب ما لا يليق به؛ كرتبة الأنبياء، وقيل: الاعتداء في الدعاء، هو الصياح به، والتشدق، أو اختراع دعوة لا أصل لها في الشرع، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «سَيَكُونُ قَومٌ يَعتَدُونَ في الدّعَاءِ، وحَسبُ المَرء أن يَقُولَ: اللَّهُمَّ إنَّي أسألُكَ الجَنَّةَ ومَا يُقرِّبُ إليهَا من قَولٍ وعَمَلٍ. ثم قرأ {إنَّه لا يُحبُّ المُعتَدِين}».
{ولا تُفسدوا في الأرض} بالكفر والمعاصي، {بعد إصلاحها} ببعث الأنبياء، وشرع الأحكام، أو: ولا تفسدوا في الأرض بالمعاصي الموجبة لفساد العالم بالقحط والفتن، بعد إصلاحها بالخصب والأمان، {وادعوه خوفًا وطمعًا} أي: خوفًا من الرد لقصور الأعمال، وطمعًا في القبول بالفضل والكرم؛ {إن رحمةَ الله قريبٌ من المحسنين} المخلصين.
قال البيضاوي: هو ترجيح للطمع، وتنبيه على ما يتوصل به إلى الإجابة، وتذكير قريب؛ لأن الرحمة بمعنى الترحم، أو لأنه صفة محذوف؛ أي: أمر قريب، أو على تشبيه فعيل الذي هو بمعنى مفعول، أو للفرق بين القريب من النسب، والقريب من غيره. اهـ. قلت: والأحسن أنه إنما ذكره؛ لأن المراد بالرحمة هنا: سر الخصوصية، وهو مذكر، فراعى معنى اللفظ، كأنه قال: إن سر الولاية وهي الخصوصية قريب من المحسنين. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قوله تعالى: {في ستة أيام}: قال الورتجبي: في كل يوم من هذه الأيام: ظهور صفة من صفاته الست: أولها: العلم، والثاني: القدرة: والثالث: السمع، والرابع: والبصر، والخامس: الكلام، والسادس: الإرادة، كملت الأشياء بظهور أنوار الصفات الستة، ولما أتمها صارت الحدثان؛ كجسد آدم بلا روح، فتجلى من صفته السابعة. وهي حياته القديمة الأزلية الباقية، المنزهة عن همهمة الأنفاس والمشابهة والقياس فقامت الأشياء بصفاته القائمة بذاته، ويكون إلى الأبد؛ لحياتها بروح حياته، المقدسة عن الاتصال والانفصال. قلت: وهي المعبَّر عنها بالمعاني القائمة بالأواني.
ثم قال: وفي أدق الإشارة: السماوات: الأرواح، والأرض: الأشباح، والعرش: القلوب، بدأ بكشف الصفات للأرواح، وبدأ بكشف الأفعال للأشباح، ثم بدأ بكشف الذات للقلوب؛ لأن مناظر القلوب للغيوب، والغيوب من القلوب محل تجلّي استواء القدم، استوى قهر القدم، بنعت الظهور للعدم، أي: فتلاشى العدم، ثم استوى تجلّي الصفات على الأفعال، واستوى تجلّي الذات على الصفات، فاستوى بنفسه لنفسه، المنزه عن المباشرة بالحدثان والاتصال والانفصال عن الأكوان.
قلت: أي: إذ لا حدثان ولا أكوان؛ لأنها لما قرنت بالقدم تلاشت، وما بقي إلا نعت القدم.
ثم قال: خصَّ السماوات والأرض بتجلي الصفات، وخص العرش بتجلي الذات. قلت: لأن المعاني المستولية على العرش باقية على أصلها، وهي أسرار الذات لم تتَرَدَّ برداء الكبرياء، وهو حجاب الحس الظاهر، بخلاف المعاني القائمة بالأواني، وهي أنوار الصفات، تجلت مرتدية بحجاب القهرية، فقيل لها: تجلي الصفات.
ثم قال: السماوات والأرض جسد العالم، والعرش قلب العالم، والكرسي دماغ العالم، خص الجميع بالأفعال والصفات، وخص العرش بظهور الذات؛ لأنه قلب الكل، وهو غيب الرحمن وعلمه وحكمته، رأيته في المكاشفة أنوارًا شعشعانيًا، بلا جسم ولا مكان ولا صورة، يتلألأ، فسألت عن ذلك، فقيل لي: هذا عالم يسمى عرشًا. انتهى.
قلت: وأقرب من هذا كله: أن العرش قد استولى على ما في جوفه من العوالم، حتى صارت في وسطه كلا شيء، ومعاني أسرار الربوبية، وهي العظمة الأصلية قد استولت عليه، وأحاطت به، ومحت وجوده، فعبَّر الحق جل جلاله عن استيلاء هذه العظمة التي هي أسرار الربوبية على العرش بالاستواء. وإلى هذا أشار في الحكم العطائية بقوله: «يا من استوى برحمانيته على عرشه، فصار العرش غيبًا في رحمانيته، كما صارت العوالم غيبًا في عرشه، محقت الآثار بالآثار، ومحوت الآثار وهي العرش وما احتوى عليه بمحيطات أفلاك الأنوار» وهي أسرار الذات المحيطات بالآثار من العرش إلى الفرش، فعبّر عن المعاني المستولية على العرش بالرحمانية؛ لأن الرحمانية صفة الذات، والصفة لا تفارق الموصوف، فافهم.
قلت: ومن كحل عينه بإثمد توحيد الذات لا يستعبد أن يكون الحق جل جلاله يتجلى بتجل خاص من أسرار ذاته وأنوار صفاته، يستوي بتلك العظمة على العرش، كما يتجلى يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده، إذ تجلياته لا تنحصر، بل كل ما ظهر في عالم الشهادة فإنما هو نور من تجلّي ذاته وصفاته. وهذا القدر كاف لمن شم شيئًا من أسرار التوحيد، وقد تكلم ابن جزي هنا على الخوف والرجاء، وأطال فيهما، ولكنه يجنح لتصوف أهل الظاهر، وقد تقرر في محله.
وقوله تعالى: {إن رحمة الله قريب من المحسنين}: هو تقييد لقوله: {يختص برحمته من يشاء}؛ فالمختص بالرحمة هم المحسنون. انظر لفظ الحكم. والله تعالى أعلم.