فصل: تفسير الآيات (73- 79):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (73- 79):

{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آَمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)}
قلت: {آية}: حال، والعامل فيها: الإشارة، و{بيوتًا}: حال من الجبال.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {و} أرسلنا {إلى ثمود}؛ قبيلة أخرى من العرب، سُموا باسم أبيهم الأكبر: ثمود بن غابر بن إرم بن سام، وقيل: سُموا به؛ لقلة ما بهم من التثميد، وهو الماء القليل، وكانت مساكنهم الحجرَ، بين الحجاز والشام إلى وادي القرى، وقد دخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: «لاَ تدخُلُوا عَلَى هَؤُلاَءِ المُعَذَّبِينَ إلاَّ أن تَكُونُوا بَاكِينَ؛ مخافة أن يُصيبَكم مِثلُ مَا أصَابَهُم».
أرسلنا إليهم {أخاهم صالحًا}، وهو صالح بن عُبَيد بن أسف بن ماسَح بن عبيد بن حاذر بن ثمود. وقال وهب بن منبه: بعث الله صالحًا حين راهق الحلم. وقال الكواشي: أنه مات ابن ثمان وخمسين سنة، وأقام في قومه ينذرهم عشرين. اهـ.
{قال يا قوم اعبدوا ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم}؛ معجزة ظاهرة الدلالة على صحة نبوتي، وهي: {هذه ناقة الله لكم آية}؛ لأنها جاءت من عند الله بلا وسائط وأسباب، على ما سيأتي، {فذروها} أي: اتركوها، {تأكل في أرض الله} العشب، {ولا تمسوها بسوء}، نهى عن المس، الذي هو مقدمة الإصابة بالسوء الجامع لأنواع الأذى؛ مبالغةً في الأمر وإزاحة للعذر. قاله البيضاوي. {فيأخذكم} إن مستموها بسوء {عذاب أليم}، وهو الهلاك بالصيحة.
{واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوّأكم} أي: هيأ لكم القرار {في الأرض} أي: أرض الحجاز، {تتخذون من سهولها قصورًا} أي: تبنون مما انبسط منها قصورًا، فالسهل ضد الجبل، {وتنحتون الجبال بيوتًا} أي: تنجُرون بيوتًا من الجبال، وكانوا يسكنون القصور في الصيف والجبال في الشتاء. {فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين} بالمعاصي والكفر.
{قال الملأ الذين استكبروا من قومه} عن الإيمان، {للذين استضعفوا} أي: للذين استضعفوهم واستذلوهم أعني لمن آمن منهم: {أتعلمون أن صالحًا مرسل من ربه}؟، قالوه على وجه الاستهزاء، {قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون}، لم يقولوا في الجواب: نعم؛ تنبيهًا على أن إرساله أظهر من أن يشك فيه عاقل أو يخفى على ذي رأي، وإنما الكلام فيمن آمن ومن كفر؛ فلذلك قال: {قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون}؛ على المقابلة، ووضعوا {آمنتم به} موضع {أُرسل به}؛ ردًا لما جعلوه معلومًا مسلمًا.
{فعقروا الناقة}؛ نحروها، أسند إلى جميعهم فعل بعضهم كما يأتي؛ لأنه كان برضاهم، {وعتوا عن أمر ربهم} أي: استكبروا عن امتثال أمره، وهو ما بلغهم صالح بقوله: {فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء}، {وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين فأخذتهم الرجفة} أي: صيحة جبريل، {فأصبحوا في دارهم جاثمين}؛ باركين على ركبهم، ميتين.
رُوِي: أنهم بعد عادٍ عمروا بلادهم وخلفوهم، وكثروا، وعُمروا أعمارًا طِوالاً لا تفي بها الأبنية، فنحتوا البيوت من الجبال، وكانوا في خِصب وسعة، فتعوا وأفسدوا في الأرض، وعبدوا الأصنام، فبعث الله إليهم صالحًا من أشرافهم فأنذرهم، فسألوه آية، فقال لهم: أيّ آية تريدون؟ فقالوا: اخرج معنا إلى عيدنا فتدعو إلهك وندعو آلهتنا، فمن استجيب له اتبع، فخرج معهم، فدعوا أصنامهم فلم تجبهم، ثم أشار سيدهم جندع بن عمرو إلى صخرة منفردة يقال لها: الكاثبة، قال له: أخرج من هذه الصخرة ناقةً مخترجة جوفاء وبراء، فإن فعلت صدقناك، فأخذ عليهم صالح مواثيقهم: لئن فعلتُ ذلك لتؤمنن؟ قالوا: نعم، فصلى، ودعا ربه، فتمخضت الصخرة تَمَخَّضَ النتوج بولدها، فانصدعت عن ناقة عُشَرَاءَ، جوفاء وبراء كما وَصَفُوا، وهم ينظرون، ثم أنتجت ولدًا مثلها في العظم، فآمن به جندع في جماعة، ومنع الناس من الإيمان: ذُؤاب بن عمرو، والحباب صاحب أصنامهم، ورباب كاهنهم.
فمكثت الناقة مع ولدها ترعى الشجر، وترد الماء غِبًّا، فما ترفع رأسها من البئر حتى تشرب كل ما فيها، ثم تنفحج، فيحلبون ما شاؤوا حتى تمتلئ أوانيهم، فيشربون ويدخرون، وكانت تصيف بظهر الوادي فتهرب منها أنعامهم إلى بطنه، وتشتو ببطنه فتهرب مواشيهم إلى ظهره؛ فشق ذلك عليهم، فزينت عقرها لهم عنيزة أم غنم وصدقة بنت المختار، فعقروها واقتسموا لحمها، وعاقرها: الأحمر، واسمه قدار استعان برجل آخر، فلما شربت أختبأ لها في جانب تل، فضربها صاحبه بالسهم، وعقرها قدار بسيفه، واقتسموا لحمها، فرقى ولدها جبلاً اسمه: قارة، فرغى ثلاثًا، ودخل صخرة أمه، فقال لهم صالح عليه السلام: أدركوا الفصيل، عسى أن يرفع عنكم العذاب، فلم يقدروا عليه حيث دخل الصخرة بعد رغائه، فقال لهم صالح عليه السلام: تصبح وجوهكم غدًا مصفرة، وبعد غد محمرة، واليوم الثالث مسودة، ويصبحكم العذاب، فلما رأوا العلامات طلبوا أن يقتلوه، فأنجاه الله إلى أرض فلسطين. ولما كان ضحوة اليوم الرابع: تحنطوا وتكفنوا بالأنطاع، فأتتهم صيحة من السماء فتقطعت قلوبهم فهلكوا.
{فتولّى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحتُ لكم ولكن لا تُحبون الناصحين}، ظاهره: أن توليته عنهم بعد أن أبصرهم جاثمين؛ ولعله خاطبهم به بعد هلاكهم، كما خاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل قليب بدر، وقال لهم: {قد وَجَدنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًا، فَهَل وَجَدتُم مَا وَعَدَ رَبُّكُم حَقًا؟} أو ذَكَرَ ذلك على سبيل التحسّر عليهم. قاله البيضاوي.
الإشارة: كل ما قصّ علينا الحقّ جلّ جلاله من قصص الأمم الماضية، فالمراد به: تخويف هذه الأمة المحمدية وزيادة في يقينهم، فالواجب على من أراد السلامة في الدارين أن يتمسك بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من غير زيادة ولا نقصان، ويتحرى في ذلك جهده؛ يقصد بذلك رضا الله ورسوله. {وَمَن يَعْتَصِم بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [آل عمران: 101]، ومن سلك الطريق المستقيم وصل إلى النعيم المقيم. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (80- 84):

{وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)}
قلت: {شهوة}: مفعول له، أو مصدر في موضع الحال.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {و} أرسلنا {لوطًا إذ قال لقومه}،؛ واعظًا لهم: {أتأتون الفاحشةَ} أي: اللواط؛ توبيخًا وتقريعًا على تلك الفعلة المتناهية في القبح، {ما سبقكُم بها من أحدٍ من العالمين} أي: ما فعلها أحد قبلكم، وبخهم على أمرين: إتيان الفاحشة، واختراعها أولاً، ثم قال لهم: {إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء}، وصفهم بالشهوة البهيمية، وفيه تنبيه على أن العاقل ينبغي أن يكون الداعي له إلى المباشرة: طلب الولد وإبقاء النوع لا قضاء الوطر، {بل أنتم قومٌ مسرفون} أي: عادتكم السرف في كل شيء، حتى تجاوزتم ما أحل الله لكم من النساء إلى ما حرم عليكم من إيتان الذكور، وهو إضراب عن الإنكار إلى الإخبار بحالهم التي أدت بهم إلى ارتكاب أمثالها؛ وهي اعتياد الإسراف في كل شيء، أو عن الإنكار عليها إلى الذم لم على جميع معايبهم، أو عن محذوف، مثل: لا عذر لكم فيه، بل أنتم قوم عادتكم الإسراف. قاله البيضاوي.
{وما كان جواب قومه} له حين وعظهم، {إلا أن قالوا أخرجوهم} أي: لوط ومن آمن به، {من قريتكم} أي: ما أجابوه بشيء يصلح للجواب، لكن قابلوا نصحه بالأمر بإخراجه من قريتهم، والاستهزاء بهم، حيث قالوا: {إنهم أُناس يتطهرون} من الفواحش.
قال تعالى: {فأنجيناه وأهله} أي: من آمن معه، {إلا امرأته} فإنها كانت تسر الكفر؛ {كانت من الغابرين} أي: الباقين في ديارهم فهلكوا وهلكت معهم.
{وأمطرنا عليهم مطرًا} أي: نوعًا عجيبًا من المطر، بيَّنه بقوله: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ} [الحِجر: 74] {فانظر كيف كان عاقبةُ المجرمين}.
رُوِي أن لوط بن هاران بن تارح لما هاجر عمه إبراهيم إلى الشام، ونزل بالأردن، وكان هاجر هو معه، أرسله الله تعالى إلى أهل سدوم، ليدعوهم إلى الله، وينهاهم عما اخترعوه من الفاحشة، فلم ينتهوا عنها، فقلع جيريل مدينتهم، وجعل عاليها سافلها، وأمطر الحجارة على ما قربهم من القرى، وسيأتي في سورة هود بقية قصتهم، إن شاء الله. والله تعالى أعلم.
الإشارة: إنما أهلك اللهُ قوم لوط حيث آثروا شهوة نفوسهم على عبودية ربهم، وغلبهم الطبع البهيمي على مقتضى العقل الصافي، وقد تقدم الغزالي: إن الشَّره إلى الوِقاع من جملة المهلكات. فعلى المريد أن يصفي قصده، ولا ينزل إلى أرض الحظوظ إلا بالإذن والتمكين والرسوخ في اليقين، ولا ينزل بالشهوة والمتعة. وقد قال عليه السلام: «المؤمن يأكل بشهوة أهله» فلا يأتي ما أحلَّ اللهُ لَهُ مِن متعة النِّساء إلا قيامًا بحقِّ الغَير وطلبًا للنسلِ. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (85- 93):

{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آَمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89) وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آَسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {و} أرسلنا {إلى مدين أخاهم شعيبًا}، ومدين: قبيلة من أولاد مدين بن إبراهيم، شعيب بن ميكائيل بن يشجر بن مدين بن إبراهيم الخليل، على ما قيل. وقد تقدم في البقرة أن مدين ومدان من ولد إبراهيم عليه السلام، وشعيب هذا يسمى خطيب الأنبياء؛ لحسن مراجعته قومه.
{قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إلهِ غيره قد جاءتكم بينةٌ من ربكم} يريد المعجزة التي كانت له، وليس في القرآن بيان ما هي معجزته. وحمل الواحدي البينة على الموعظة. وقال في الكشاف: ومن معجزات شعيب: ما رُوِي من محاربة عصا موسى التنين، حين دفع إليه غنمه، وولادة الغنم الدرع خاصة، حين وعده أن يكون له الدرع من أولادها، ووقوع عصا آدم في يده في المرات السبع، وغير ذلك من الآيات. اهـ. وفيه نظر؛ لأن هذه وقعت بعد مقالته لقومه، وإنما كانت إرهاصات لموسى عليه السلام، وفي حديث البخاري: «مَا بَعَثَ الله نَبِيًّا إلاَّ وآتاهُ مَا مِثلُه آمَنِ عليه البشرُ، وإنما كَان الذي أُوتِيتُه وحيًا، وأرجوُ أن أكون أكَثَرهُم تابعًا يومَ القيامَةِ» وهو صريح في أنه لابد من الآية لكل رسول، ولعل الله تعالى لم يذكر معجزة شعيب وهود في القرآن مع وجودها؛ لظاهر الحديث.
ثم قال لهم: {فأوفوا الكيلَ والميزانَ}، وكانوا مطففين، أي: فأوفوا المكيال الذي هو آلة الكيل، أي: كبروها؛ بدليل قوله: {والميزان} الذي هو الآلة، ويحتمل أن يريد بهما المصدر، أي الكيل والوزن.
{ولا تَبخسوا الناس أشياءهم} أي: لا تنقصوهم حقوقهم، وإنما قال: {أشياءَهم}، للتعميم تنبيهًا على أنهم كانوا يبخسون الجليل والحقير، والقليل والكثير، وقيل: كانوا مكَّاسين لا يدعون شيئًا إلا مكسوه. {ولا تُفسدوا في الأرض} بالكفر والظلم، {بعد إصلاحها} بإقامة الشرائع وظهور العدل، {ذلكم خيرٌ لكم إن كنتم مؤمنين} أي: ذلك الذي أمرتكم به ونهيتكم عنه هو خير لكم من إبقائكم على ما أنتم عليه، ومعنى الخيرية: الزيادة مطلقًا؛ إذ لا خير فيما هم فيه، أو: في الإنسانية وحسن الأحدوثة وجمع المال. قاله البيضاوي.
{ولا تقعُدُوا بكل صِراطٍ} أي: طريق {تُوعِدُون} من أراد الإيمان بالعقوبة، وكانوا يجلسون على الطرقات والمراصد، يقولون لمن يريد شعيبًا: إنه كذاب فلا يفتنك عن دينك؛ ويوعدون من آمن، وقيل: كانوا يقطعون الطريق.
{وتَصُدُّون عن سبيل الله} أي: تصدون الناس عن طريق الله، وهو الإيمان به وبرسوله، وهو الذي قعدوا لأجله في كل طريق، وقوله: {من آمن به}؛ من أراد الإيمان به، أو من آمن حقيقة؛ كانوا يصدونه عن العمل، {وتبغونها عِوَجًا} أي: وتطلبون لطريق الله عوجًا بإلقاء الشُّبَه فيها، أو بوصفها للناس بأنها مُعوَجَّة.
{واذكروا إذ كنتم قليلاً} عَددهم وعُددكم {فكثَّرَكُم} بالبركة في النسل والمال، {وانظروا كيف كان عاقبةِ المفسدين} من الأمم قبلكم، فاعتبروا بهم.
{وإن كانت طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلتُ به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا} أي: تربصوا {حتى يحكم اللهُ بيننا} أي: بين الفريقين بنصر المحقين على المبطلين، فهو وعد للمؤمنين ووعيد للكافرين، {وهو خير الحاكمين}؛ إذ لا معقب لحكمه، ولا حيف فيه.
{قال الملأ الذين استكبروا من قومه} في جوابه عن وعظه: {لنُخرجنّك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتُعودنَّ في ملتنا} أي: ليكونن أحد الأمرين؛ إما إخراجكم من القرية أو عودكم في الكفر، وشعيب عليه السلام لم يكن في ملتهم قط؛ لأن الأنبياء عليهم السلام لا يجوز عليهم الكفر مطلقًا، لكنهم غلّبوا الجماعة على الواحد؛ فخُوطب هو وقومه بخطابهم، وعلى ذلك أجرى الجواب في قوله: {قال أوَ لو كنا كارهين}. قاله البيضاوي. وقال ابن عطية: وعاد: قد يكون بمعنى صار، فلا يقتضي تقدم ذلك المحال، قلت: ويؤيده ما في حديث الجَهنميين: «قد عادوا حممًا» أي: صاروا.
ثم قال شعيب عليه السلام: {قد افترينا على الله كذبًا إن عُدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها} أي: إن رجعنا إلى مثلكم بعد الخلاص منها، فقد اختلقنا على الله الكذب، وهذا كله في حق قومه كما تقدم. {وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربُّنا} خذلاننا وارتدادنا، وفيه تسليم للإدارة المغيبة، والعلم المحيط، فإن القلوب بيد الله يقلبها كيف يشاء. فإن قلت: هو معصوم فلا يصح فيه العود؟ قاله أدبًا مع الربوبية، واستسلامًا لقهر الألوهية، كقول نبينا صلى الله عليه وسلم: «يا مُقَلِّبَ القُلوبِ ثَبِّت قَلبي عَلَى دِينِكَ» {وَسِع ربُّنا كلَّ شيءٍ علمًا} أي: أحاط علمه بكل شيء مما كان وما يكون منا ومنكم، {على الله توكلنا} في أن يثبتنا على الإيمان، ويخلصنا من الإشراك. {ربنا افتح بيننا} أي: احكم بيننا {وبين قومنا بالحق} بالعدل، بتمييز المحق من المبطل، {وأنت خير الفاتحين} أي الفاصلين.
{وقال الملأُ الذين كفروا من قومه لئن اتبعتُم شعيبًا} وتركتم دينكم {إنكم إذًا} أي: إذا اتبعتموه {لخاسرون}؛ لاستبدالكم ضلالته بهداكم، أو لفوات ما يحصل لكم من البخس والتطفيف. {فأخذتهم الرجفةُ} أي: الزلزلة. وفي سورة الحجر.
{الصيحة}، ولعلها كانت من مبادئها، {فأصبحوا في دارهم} أي: في مدينتهم {جاثمين} باركين ميتين.
{الذين كذَّبوا شعيبًا كأن لم يَغنَوا فيها} أي: استؤصلوا كأنهم لم يقيموا فيها ساعة. {الذين كذَّبوا شعيبًا كانوا هم الخاسرين} دينًا ودُنيا، بخلاف الذين صدقوه واتبعوه كما زعموا؛ فإنهم الرابحون، ولأجل التنبيه على هذا والمبالغة فيه كرر الموصول، واستأنف الجملتين وأتى بهما اسميتين.
{فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتُكم رسالات ربي ونصحتُ لكم}، قاله بعد هلاكهم، تأسفًا عليهم، ثم أنكر على نفسه فقال: {فكيف آسى على قومٍ كافرين} ليسوا أهلاً للحزن عليهم، لاستحقاقهم ما نزل بهم.
الإشارة: يؤخذ من قوله: {ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها} أن إقامة الشرائع، وظهور الدين من علامة إصلاح الأرض وبهجتها، وخصبها وعافيتها، وترك الشرائع وظهور المعاصي من علامة فساد الأرض وخرابها. ويؤخذ من قوله: {ولا تقعدوا بكل صراط...} الآية، أن حض الناس على الإيمان ودلالتهم على الله من أفضل القربات عند الله، وأعظم الوسائل إلى الله.
ويؤخذ من قوله: {وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله} أن الإنسان لا يقف مع ظاهر الوعد والوعيد، ولعل الله تعالى علَّق ذلك الوعد أو الوعيد بشروط وأسباب أخفاها، ولذلك كان العارف لا يزول اضطراره، ولا يكون مع غير الله قراره. وفي بعض الآثار القدسية: «يا عبدي لا تأمن مكري وإن أمَّنتك، فعلمي لا يحيط به محيط» والله تعالى أعلم.