فصل: تفسير الآيات (201- 202):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (201- 202):

{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202)}
قلت: الطيف بسكون الياء: مصدر طاف به الخيال يطيف طيفًا، أو مخفف؛ من طيّف؛ كهين ولين وميت. ومن قرأ {طائف}: فاسم فاعل، والمراد به: لَمَّةُ الشيطان ووسوسته. وحذف مفعول {تذكروا}؛ للعموم على ما يأتي في المعنى. وقوله: {فإذا هم مبصرون}: أتى بإذا الفجائية؛ ليقتضي سرعة تيقظهم، وبالجملة الاسمية ولم يقل: تذكروا فأبصروا؛ ليفيد أنهم كانوا على البُصرى، وإنما السَّنة طرقتهم ثم رجعوا عنها.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {إن الذين اتَّقَوا} الشرك والمعاصي، {إذا مسَّهُم طائفٌ من الشيطان} أي: لَمَّةُ منه، كما في الحديث: «إنَّ للشَّيطَانِ لَمّةٌ وللمَلكِ لَمّةَ...» إلخ، فإذا أخذتهم تلك السنة وغفلوا {تذكّروا} عقابَ الله وغضبه، أو ثواب الله وإنعامه، أو مراقبته والحياء منه، أو مننه وإحسانه، أو طرده وإبعاده، أو حجبه وإهماله، أو عدواة الشيطان وإغواءه، كلٌ على قدر مقامه، فلما تذكروا ذلك {فإذا هم مبصرون} بسبب ذلك التذكر، أي: فإذا هم على بصيرة من ربهم التي كانوا عليها قبل المس، أو: فإذا هم مبصرون مواقع الخطأ ومكائد الشيطان فيحترزون منها، ولا يعودون إليها بخلاف المنهمكين في الغفلة، كما قال تعالى: {وإِخوانُهم يَمدُّونهم في الغَي} أي: وإخوان الشياطين، الذين لم يتقوا، يمدونهم، أي: ينصرونهم، ويكونون مددًا لهم في الضلال والغي؛ بالتزيين والحمل عليه، {ثم لا يُقصرون}؛ لا يُمسكون عن إغوائهم حتى يُوردوهم النار، أو: لا يقصر الكفار عن غيهم وضلالهم حتى يهلكوا.
الإشارة: البصيرة حارسة للقلب، الذي هو بيت الرب، فإذا نامت طرقها الشيطان، فإن كان نومها خفيفًا أحست به وطردته، وهذه بصيرة المتقين، الذين ذكرهم الله تعالى بقوله: {إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا}، وإذا كان نومها ثقيلاً سرق الشيطان ما فيها، ولم تفطن به، وهذه بصيرة الغافلين، الذين هم أخوان الشياطين.
قال القشيري: إنما يمس المتقين طيفُ الشيطان في ساعات غفلتهم عن ذكر الله، ولو أنهم استداموا ذكر الله بقلوبهم لما مسَّهم طائف الشيطان، فإن الشيطانَ لا يَقَربُ قلبًا في حال شهوده الله؛ لأنه يخنس عند ذلك، ولكل عازمٍ فترة، ولكلِّ عالم هفوة، ولكل عابد شدة، ولكل قاصد فترة، ولكل سائر وقفة، ولكل عارفٍ جحبة. قال عليه الصلاة والسلام: «الحِدَّةُ تعتري خيار أمتي» فأخبر بأن خيار الأمة، وإن جلت رتبتهم، لا يتخلصون عن حدة تعتريهم في بعض أحوالهم، فتخرجهم عن دوام الحلم. اهـ. وكأنه يشير إلى أن طائف الشيطان يمس الواصلين والسائرين، وهو كذلك بدليل أول الآية في قوله: {وإما ينزغنك...} الآية، ومسه للسائر أو الواصل زيادة به، وترقية له، وتحويش له إلى ربه، والله تعالى أعلم.

.تفسير الآية رقم (203):

{وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآَيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وإذا لم تأْتِهم} أي: الكفار، {بآية}؛ بمعجزة مما اقترحوا، أو من القرآن حين يتأخر الوحي، {قالوا لولا}؛ هلا {اجتبيتها} أي: تخيرتها وطلبتها من ربك، أو هلا اخترعتها وتقولتها من نفسك كسائر ما تقرأ؟ {قل إِنما أَتبع ما يُوحى إليَّ من ربي} فلا أطلب منه آية، {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]، أو: لا أخترع القرآن من عند نفسي، بل أَتبع ما يُوحى إليَّ من ربي.
{هذا} القرآن {بصائرُ} للقلوب {من ربكم}، أي: من عند ربكم، بها تُبصر الحق وتُدرك الصواب، {وهُدىً ورحمةٌ لقوم يؤمنون}؛ وإرشاد أو طمأنينة لقلوب المؤمنين.
الإشارة: قد تقدم مرارًا ما في طلب الآيات من ضعف اليقين، وعدم الصدق بطريق المقربين، وإنما على الأولياء أن يقولوا: {هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يُؤمنون} بطريق المخصوصين. وبالله التوفيق.

.تفسير الآية رقم (204):

{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وإذا قرئ القرآنُ}، مطلقًا، {فاستمعوا له وأنصتُوا}؛ لكي تعتبروا وتتدبروا، فإنما نزل لذلك، وهل على الوجوب أو الاستحباب وهو الراجح؟ قولان: وقيل: الاستماع المأمور به لقراءة الإمام في الصلاة، وقيل: في الخطبة، والأول الراجح، لوجهين: أحدهما: عموم اللفظ، ولا دليل على تخصيصه، والثاني: أن الآية مكيّة، والخطبة إنما شُرعت بالمدينة، وقوله تعالى: {لعلكم تُرحمون} أي: بسبب ما تكتسبه القلوب من الرقة والخشية عند استماع القرآن، قال بعضهم: الرحمة أقرب شيء إلى مستمع القرآن؛ لهذه الآية. قاله ابن جزي.
الإشارة: الاستماع لكلام الحبيب أشهى للقلوب من كل حبيب، لاسيما لمن سمعه بلا واسطة، فكل واحد ينال من لذة الكلام على قدر حضوره مع المتكلم، وكل واحد ينال من لذة شهود المتكلم على قدر الحجاب عن المستمع، والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (205- 206):

{وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: لنبيه صلى الله عليه وسلم ولمن تبعه: {واذكر ربك في نفسك} أي: في قلبك؛ بحركة لسان القلب، أو في نفسك؛ سرًا بحركة لسان الحس، {تضرُّعًا وخِيفَةً} أي: متضرعًا وخائفًا، {ودونَ الجهر من القول} أي: متكلمًا كلامًا فوق السر ودون الجهر، فإنه أدخل في الخشوع والإخلاص، ولا حجة فيه لمن منع الذكر جهرًا؛ لأن الآية مكية حين كان الكفر غالبًا، فكانوا يسبون الذكر والمذكور، ولما هاجر المصطفى عليه الصلاة والسلام إلى المدينة، جهر الصحابةُ بالتكبير والذكر. فالآية منسوخة. انظر: الحاوي في الفتاوى للإمام السيوطي. فقد أجاب عن الآية بأجوبة.
فقوله: {بالغُدوِّ والآصال} أي: في الصباح والعشي، حين تتيقظ من نومك الشبيه بالبعث، وحين تريد النوم الشبيه بالموت، وقيل: المراد صلاةَ العصر والصبح، وقيل: صلاةَ المسلمين، قبل فرض الخمس، وقيل: للاستغراق، وإنما خص الوقتين؛ لأنهما محل الاشتغال، فأولى غيرهما. {ولا تكن من الغافلين} عن ذكر الله.
{إن الذين عند ربك}؛ يعني ملائكة الملأ الأعلى، {لا يستكبرون عن عبادته ويُسبحونه}؛ يُنزهونه عما لا يليق به، {وله يسجدون} أي: يخصونه بالعبادة والتذلل، لا يشركون به غيره، وهو تعريض بالكفار، وتحريض للمؤمنين على التشبه بالملأ الأعلى، ولذلك شرع السجود عند قراءتها. وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قَرَأَ ابنُ آدمَ السجدةَ، فَسَجَدَ، اعتَزَلَ الشيْطَانُ يَبْكِي، يَقُولُ: يَا وَيْلهُ، أمِرَ هذا بالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الجَنّةُ، وأُمِرْتُ بالسُجُودِ فعصَيت فَلِي النارُ».
الإشارة: اعلم أن الذكر على خمسة أقسام: ذكر اللسان فقط؛ لعوام المسلمين، وذكر اللسان مع القلب، لخواص الصالحين وأول المتوجهين، وذكر القلب فقط؛ للأقوياء من السائرين، وذكر الروح؛ لخواص أهل الفناء من المُوحدين، وذكر السر؛ لأهل الشهود والعيان من المتمكنين، وفي قطع هذه المقامات يقع السير للسائرين، فيترقى من مقام، إلى مقام، حتى يبلغ إلى ذكر السر، فيكون ذكر اللسان في حقه غفلة.
وفي هذا المقام قال الواسطي رضي الله عنه: الذاكرون في حال ذكره أشد غفلة من التاركين لذكره؛ لأن ذكره سواه. وفيه أيضًا قال الغزالي: ذكر اللسان يُوجب كثرة الذنوب. وقال الشاعر:
مَا إِنْ ذَكَرْتُكَ إلاَّ هَمَّ يَلْعَنُني ** سرِّي وقَلْبِي وَرُوحِي عِنْدَ ذِكْرَاكَ

حَتَّى كَأنَّ رَقِيبًا مِنْكَ يهْتِفُ بِي ** إِيَّاكِ وَيْحَكَ والتَّذكَارَ إيَاكِ

أَمَا تَرَى الحَقِّ قَدْ لآحَتْ شَوَاهِدِهُ ** وَوَاصِل الكُلِّ مِنْ مَعْنِاهُ مَعْنَاكَ

وقوله تعالى: {إِن الذين عند ربك}... الآية، قال القشيري: أثبت لهم عندية الكرامة، وحفظ عليهم أحكام العبودية؛ كي لا ينفك حال جمعهم عن نعت فرقهم وهذه سُنَّة الله تعالى مع خواص عباده، يلقاهم بخصائص عين الجمع، ويحفظ عليهم حقائق عين الفَرْق، لئلا يُخِلّوا بآداب العبودية في أوان وجود الحقيقة. اهـ.

.سورة الأنفال:

.تفسير الآيات (1- 4):

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)}
يقول الحق جل جلاله: {يسألونك عن} قسمة {الأنفالِ} وهي الغنائم، سميت الغنيمة نفلاً لأنها عطية من الله تعالى، وزيادة فضل، كما يسمى ما يشترط الإمام للشجاع المقتحم خطراً، نفلاً؛ لأنه عطية له زيادة على سهمه، وكما سمى يعقوب عليه السلام نافلة؛ لأنه عطية زائدة على ولد إبراهيم عليه السلام، حيث كان حفيده، ثم أجابهم الحق تعالى فقال: {قل الأنفال لله والرسول} أي: أَمرها إلى الله ورسوله، يقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يأمره الله تعالى، وفي الوضع الذي يعينه له.
وسبب نزولها: اختلاف المسلمين في غنائم بدر كيف تقسم، هل في المهاجرين لفقرهم، أو في الأنصار لنصرهم، أو فيهما معاً. قال ابن جزي: وذلك أنهم كانوا يوم بدر ثلاث فرق: فرقة مع النبي صلى الله عليه وسلم في العريش تحرسه وتؤنسه، وفرقة اتبعوا المشركين فقتلوهم وأسروهم، وفرقة أحاطوا بأسلاب العدو وعسكرهم لما انهزموا، فلما انجلت الحرب واجتمع الناس، ورأت كل فرقة أنها بالغنيمة من غيرها، اختلفوا فيما بينهم. فنزلت الآية. اهـ.
وقيل: شرط رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن كان له غناء أن ينفله، فتسارع شبابهم حتى قتلوا سبعين وأسروا سبعين، ثم طلبوا نفلهم، وكان المال قليلاً، فقال الشيخ والوجوه الذين كانوا عند الرايات: كنا رداءاً لكم، وفئة تنحازون إلينا، فلا تختصوا بشيء دوننا، فنزلت، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم على السواء. ولهذا قيل: لا يلزم الإمام الوفاء بما وعد، وهذا قول الشافعي رضي الله عنه.
وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: لمّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ قُتل أَخي عُمَيْرٌ، وقتلتُ سَعِيدَ بْنَ العَاصِ، وأخذتُ سَيْفَهُ وأتيتُ به رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستوهبته منه، فقال: «لَيْسَ هَذَا لِي، ولكن ضَعهُ في القَبض». فَطَرحْتُهُ، وفي قلبي مَا لا يَعْلَمُهُ إِلا الله من قَتَلِ أَخِي وأَخْذِ سَلَبي، فَمَا جَاوَزْتُها إلا قليلاً حتى نزلت سُورَةُ الأَنْفَال، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سَأَلَتنِي السَّيف ولَيْس لِي، وإِنّهُ قد صَارَ لِي فاذْهَبْ فَخُذْهُ».
{فاتقوا الله} في المشاجرة والاختلاف، {وأَصلحوا ذات بينكم} أي أصلحوا الحال التي بينكم بالمواساة والمواددة وسلامة الصدور، ولمساعدة فيما رزقكم الله، وتسليم أمره إلى الله تعالى ورسوله، {وأطيعوا الله ورسوله} فيما يأمركم به {إن كنتم مؤمنين}؛ فإن الإيمان يقتضي الاستماع والاتباع، أو إن كنتم كاملي الإيمان؛ فإن كمال الإيمان يقتضي التمسك بهذه الخصال الثلاث: امتثال الأوامر، واجتناب النواهي، وإصلاح ذات البين بالعدل والإحسان.
ثم ذكر شروط كمال الإيمان، فقال: {إنما المؤمنون} الكاملون في الإيمان: {الذين إذا ذُكر الله وَجَلتْ قلوبُهم}؛ خافت واقشعرت لذكره؛ استعظاماً له وهيبة من جلاله، وقيل: هو الرجل يهم بالمعصية فقال له اتق الله، فينزع عنها خوفاً من عقابه، {وإِذا تُلِيت عليهم آياته} القرآنية {زادتهم إيماناً} أي: يقيناً وطمأنينة بتظاهر الأدلة التي اشتملت عليها، أو بالعمل بموجبها.
وهو دليل على أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، بناء على أن العمل داخل فيه، والتحقيق: أن العمل خارج عنه، لكن نوره يتقوى به وينقص بنقصانه أو بالمعصية وسيأتي في الإشارة الكلام عليه.
ومن أوصاف أهل الإيمان: التوكل على الله والاعتماد عليه، كما قال: {وعلى ربهم يتوكلون} وقد تقدم في آل عمران الكلام على التوكل، ثم وصفهم بإقامة الدين فقال: {الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون} في الواجب والتطوع. {أولئك هم المؤمنون حقاً}؛ لأنهم حققوا إيمانهم بأن ضموا إليه مكارم أعمال القلب، من الخشية والإخلاص والتوكل، ومحاسن أعمال الجوارح التي هي العِيار عليها، كالصلاة والصدقة، {لهم درجات عند ربهم} أي كرامات وعلو منزلة، أو درجات الجنة يرتقونها بأعمالهم، {ومغفرة} لما فرط من ذنوبهم، {ورزقٌ كريم} أعده لهم في الجنة، لا ينقطع مدده، ولا ينتهي أمده، بمحض الفضل والكرم.
الإشارة: الانفال الحقيقة هي المواهب التي ترد على القلوب، من حضرة الغيوب؛ من العلوم اللدنية والأسرار الربانية، لا تزال تتوالى على القلوب، حتى تغيب عما سوى المحبوب، فيستغني غناء لا فقر معه أبداً، وهذه غنائم خصوص الخصوص، وغنائم الخصوص: هي القرب من الحبيب، ومراقبة الرقيب، بكمال الطاعة والجد والاجتهاد، وهذه غنائم العباد والزهاد، وغنائم عوام أهل اليمين: مغفرة الذنوب، والستر على العيوب، والنجاة من النار، ومرافقة الأبرار، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَنْ قَالَ عِندَ نَوْمِهِ: أسْتَغْفِر اللِّه َالعَظِيمَ الذي لا إله إلاّ هُوَ الحَيُّ القَيّومَ وَأَتُوبُ إِليْهِ، غَفَرَ الله ذُنُوبَهُ، وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَد البَحَرِ، وعَدَدَ أَيَّامِ الدُّنْيَا».
قال الشيخ زروق: وهذه هي الغنيمة الباردة، وهذه الأمور بيد الله وبواسطة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معنى قوله: {قل الأنفال لله والرسول} ثم دل على موجباتها فقال: {فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم...} الآية، وقوله تعالى: {زادتهم إيماناً}: اعْلم أن الإيمان على ثلاثة أقسام: إيمان لا يزيد ولا ينقص وهو إيمان الملائكة، وإيمان يزيد وينقص، وهو إيمان عامة المسلمين، وإيمان يزيد ولا ينقص وهو إيمان الأنبياء والرسل، ومن كان على قدمهم من العارفين الروحانيين الراسخين في علم اليقين، ومن تعلق بهم من المريدين السائرين، بالطاعة والمعصية؛ لتيقظهم وكمال توحيدهم، وفي الحكم: (وربما قضى عليك بالذنب فكان سبب الوصول) وقال أيضاً: «معصية أورثت ذلاً وافتقاراً خير من طاعة أورثت عزاً واستكباراً» والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (5- 6):

{كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6)}
قلت: {كما أخرجك} خبر عن مبتدأ محذوف، أي: هذه الحال، وهي عزلهم عن تولية الأَنفال في كراهتهم لها، كحال إخراجك في الحرب في كراهتهم لها، أو حالهم في كراهية ما رأيت من تنفيلك للغزاة، مثل حالهم في كراهية خروجك، أو صفة لمصدر الفعل المقدر في قوله: {لله والرسول} أي: الأنفال تثبت لله وللرسول صلى الله عليه وسلم، مع كراهتهم، ثباتاً مثل ثبات إخراجك ربُّك من بيتك، يعني المدينة؛ لأنها مسكنه أو بيته منها، وجملة: {وإن فريقاً} حال مِن أخرجك، أي: أخرجك في حال كراهية فريق من المؤمنين.
يقول الحق جل جلاله لنبيه صلى الله عليه وسلم: قد كره أصحابُك قسمتك للأنفال كما كرهوا إخراجك {ربُّك من بيتك بالحق} لقتال العدو، والحال أن {فريقاً من المؤمنين لكارهون} خروجك لذلك، وتلك الكراهية من قِبل النفس وطبع البشرية، لا من قِبل الإنكار في قلوبهم لأمر الله ورسوله، فإنهم راضون مستسلمون، غير أن الطبع ينزع لِحَظَّه، والعبد مأمور بمخالفته وجهاده.
وذلك الفريق الذي كره خروجك للقتال {يُجادلونك في الحق} أي: يخاصمونك في إيثارك الجهاد لإظهار الحق، حيث أرادوا الرجوع للمدينة، وقالوا: إنا لم نخرج لقتال، قالوا ذلك {بعد ما تَبَيّن} لهم أنهم منصرون أينما توجهوا، بإعلام الرسول لهم، لكن الطبع البشري ينزع إلى مواطن السلامة {كأنما يُساقون إلى الموت وهم ينظرون} أي: يكرهون القتال كراهة من يُساق إلى الموت، وهو يشاهد أسبابه، وكان ذلك لقلة عددهم وعدم تأهبهم، إذ رُوي أنهم كانوا رجّالة، وما كان فيهم إلا فارسان، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخرج لقصد الجهاد، وإنما لملاقاة عير قُرَيْش، لمّا سمع أنها قدمت من الشّام، وفيها تجارةٌ عَظيِمةٌ، ومعها أربعُون رَاكباً، فيهم أَبُو سُفْيان، وعمرو بنُ العاص، ومخرفة بن نوفل، وعمروبن هِشَام، فأراد رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يتعرض لها ويأخذها غنيمة، حيث أخبره جبريلُ بقدومها من الشام، فأخبرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المسلمين، فأعْجَبَهُم تلقيها، لكثرةِ المال وقلةِ الرجالِ، فلما خرجُوا، بَلَغ الخبرُ أبا سفيان، فسلك بالعير طريق السَاحِل، واستأجر من يذهب إلى مكة يستنفرها، فلما بلغهم خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم لعيرهم، نادى أبو جهل فوق الكعبة: يا أهل مكة، النَّجَاء، النجاء على كل صَعْبٍ وذَلُولٍ، عِيرُكُمْ وأَمْوالكم إن أصَابَهَا مُحَمَّدٌ لن تُفْلِحُوا بعدها أبداً.
وقد رأت، قبل ذلك بثلاث ليال، عاتكةُ بنت المطلب، رؤيا؛ وهو أن رجلاً تمثل على جبل قبيس فنادى: يا آل لكع، اخرجوا إلى مصارعكم، ثم تمثل على الكعبة، فنادى مثل ذلك، ثم أخذ حجراً فضرب به، فلم يبق بيت في مكة إلا دخلة شيء من ذلك الحجر، فحدثت بها العباس، وبلغ ذلك أبا جهل، فقال: أما ترضى رجالهم أن يتنبؤوا حتى تتنبأ نساؤهم؟ لنتربص ثلاثاً، فإن لم يظهر ما تقول لنكتبن عليكم يا بني هاشم أنكم أكذب بيت في العرب، فلما مضت ثلاث ليال جاء رسولُ أبي سفيان ليستنفرهم.
فخرج أبو جهل بجموع أهل مكة، ومضى بهم إلى بدر، وهو ماء كانت العرب تجتمع عليه لسوقهم يوماً في السنة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي ذَفِران، فنزل عليه جبريل بالوعد بإحدى الطائفتين: إما العيرُ وإما قُرَيْش، فاستشار فيه أصحابه، فقال بعضهم: ما خرجنا لقتال ولا تهيأنا له، وردد عليهم وقال: إن العير قد مضت على ساحل البحر، وهذا أبو جهل قد أقبل، فقالوا: يا رسول الله، عَلَيكَ بالعيرِ ودَع العَدو، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام أبو بكر وعُمَرُ فأحْسَنَا، ثم قام سَعْدُ بن عُبادة فقال: انظرُ في أمْرِكَ، وامْضِ، فواللَّهِ لَو سِرْتَ إلى عَدَنٍ ما تَخَلَفَ رجلٌ مِنْ الأنْصارِ، ثم قام المقِدَادُ بنُ عَمْرٍو فقال: امْضِ يا رسول الله لما أمرك ربك، فإنا معك حيثما أحببتَ، لا نقولُ كما قالت بنو إسرائيل: {فَاذهَب أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَتِلاَ إِنَّا هاهنا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24]، ولكن اذهب أنت وربك فقاتِلاَ إنا معكُما مقاتلونَ، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «أشيروا عَلَيَّ أيّها الناسُ»، يريدُ الأنصار؛ لأنهم كانوا عددهم، وقد شرطوا حين بايعوه بالعقبة أنهم بُرءاء من ذمامه حتى يصل إلى ديارهم، فتخوف ألاّ يروا نصرته إلا على عدو دهمه بالمدينة، فقام سَعْدُ بنُ معَاٍذ وقال: لَكأنَّكَ تُرِيدُنَا يا رسولِ الله؟ فقال: أجَلْ، فقال: قد آمنّا بِك وصَدَّقْنَاكَ، وشهدنا أن ما جئْتَ بِهِ هو الحقُّ فأعطَيْنَاكَ على ذلِك عُهُودَنَا ومَوَاثِيقَنَا على السَّمْعِ والطَّاعّةِ، فامْضِ يا رَسُولَ اللهِ لما أرْدتَ، فوالذي بَعَثَكَ بالْحق لو اسْتَعْرَضت بنا هذا البَحْرَ فخُضته لخضْنَاهُ مَعَكَ، ما تَخَلَّفَ مِنّا رَجُلٌ واحِدٌ، وما نَكرَهُ أن تَلقِي بِنَا عَدُوِّنَا، وإنا لَصُبُرٌ عِندَ الحَربِ، صُدُقٌ عندَ الِّلقَاءِ، ولعَلَّ اللَّهَ يُريكَ منا ما تقرُّ بِه عينُكَ، فَسِرْ بنا على بَركَةِ اللهِ، فنشطه قوله، ثم قال: «سِيرُواعَلَى بَركَةِ الله، وأبْشِرُوا؛ فِإنَّ الله قد وَعَدَنِي إِحْدَى الطَّائفَتَينِ، واللهِ لكأنّي أنْظرُ إلى مَصارع القَوْم».
ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بأصحابه آخر مياه من مياه بدر، فَبُني له هناك عريش، فجلس فيه هو وأبو بكر، فلما انتشب القتال أخذ قبضة من تراب فرمى بها وجوه القوم، وقال: شاهت الوجوه، فلم تبق عين من الكفار إلا وقع فيها شيء منها، ونزلت الملائكة في العنان، أي: السماء، فقتل منهم سبعون، وأُسر سبعون، وقيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من غزوة بدر، قيل له: عليك بالعير، فقال العباس وقد أعطاك ما وعدك، فكره بعضهم قوله، ثم رجع صلى الله عليه وسلم إلى المدينة منصوراً فرحاً مسروراً، وقد أنجزه الله ما وعده.
الإشارة: من حكمته تعالى الجارية في عبادة أن كل ما يثقل على النفوس ويشق عليها في بدايته تكون عاقبته الفتح والنصر، والهناء والسرور، فكل ما تكرهه النفوس فغايته حضرة القدوس، وما تحقق سير السائرين إلا بمحاربة نفوسهم ومخالفة عوائدهم. وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم، قال لابن عباس في حديث طويل: «وَفِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْر كَثِير» والله تعالى أعلم.