فصل: تفسير الآية رقم (19):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (19):

{إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)}
يقول الحق جل جلاله لكفار مكة على جهة التهكم: {إن تستفتحوا} أي: تطلبوالفتح، أي: الحكم على أهْدى الفئتين وأعلى الجندين وأكرم الحزبين {فقد جاءكم} الحكم كما طلبتم، فقد نصر الله أعلى الجندين وأهدى الفئتين وأكرم الحزبين، وهو محمد صلى الله عليه وسلم وحزبه، {وإن تنتهوا} عن الكفر ومعاداة الرسول، {فهو خيرٌ لكم}؛ لتضمنه سلامة الدارين وخير المنزلين، {وإن تعودوا} لمحاربته {نعد} لنصره، {ولن تغني}؛ تدفع {عنكم فئتكم}؛ جماعتكم {شيئاً} من المضار {ولو كثُرت} فئتكم، إذ العبرة بالنصرة لا بالكثره، {وإن الله مع المؤمنين} بالنصر والمعونة.
ومن قرأ بالفتح؛ فعلى حذف الجار، أي: ولأن الله مع المؤمنين، وقيل: الخطاب للمؤمنين، والمعنى: إن تستنصروا فقد جاءكم النصر، وإن تنتهوا عن التكاسل في القتال، والرغبة عما يختاره الرسول، فهو خير لكم، وإن تعودوا إليه نعد عليكم الإنكار، أو تهييج العدو، ولن تغني، حينئذٍ عنكم كثرتكم؛ إذ لم يكن الله معكم بالنصر، فإنه مع الكاملين في إيمانهم. قال البيضاوي.
الإشارة: إن تستفتحوا أيها المتوجهون، أي؛ تطلبوا الفتح من الله في معرفته، فقد جاءكم الفتح، حيث صح توجهكم وتركتم حظوظكم وعلائقكم، لأن البدايات مَجْلاَةُ النهايات، من وجد ثمرة عمله عاجلاً فهو علامة القبول آجلاً، وإن تنتهوا عن حظوظكم وعوائقكم فهو خير لكم، وبه يقرب فتْحُكُم، وإن تعودوا إليها نعد إليكم بالتأديب والإبعاد، ولن تغني عنكم جماعتكم شيئاً في دفع التأديب، أو البعد ولو كثرت، وأن الله مع المؤمنين الكاملين في الإيمان؛ بالنصر والرعاية.

.تفسير الآيات (20- 21):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21)}
يقول الحق جل جلاله: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله} فيما أمركم به ونهاكم عنه، {ورسولَه} فيما ندبكم إليه من الجهاد وغيره، {ولا تَولوا} أي: تُعرضوا عن الرسول {وأنتم تسمعون} القرآن يأمركم بالتمسك به، والاقتداء بهديه. والمراد بالآية: النهي عن الإعراض عن الرسول. وذكرُ طاعة الله إما هو للتوطئة والتنبيه على أن طاعة الله في طاعة الرسول، لقوله: {مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَد أَطَاعَ اللَّه} [النساء: 80]، ثم أكد النهي بقوله: {ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا} بآذاننا، كالكفرة والمنافقين، ادَّعَوْا السماع، {وهم لا يسمعون} سماعاً ينتفعون به، فكأنهم لا يسمعون رأساً.
الإشارة: لما غلب عليه الصلاة والسلام بقي خلفاؤه في الظاهر والباطن؛ وهم العلماء الأتقياء، والعارفون الأصفياء. فمن تمسك بهم، واستمع لقولهم، فقد تمسك بالرسول صلى الله عليه وسلم، ومن أعرض عنهم فقد أعرض عنه صلى الله عليه وسلم، فمن تمسك بما جاءت به العلماء، فاز بالشريعة المحمدية، وكان من الناجين الفائزين. ومن تمسك بالأولياء العارفين، واستمع لهم، وتبع إرشادهم، فاز بالحقيقة الربانية، وكان من المقربين. ومن سمع منهم الوعظ والتذكير، ثم صرفه عن نفسه إلى غيره، يصدق عليه القوله تعالى: {ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون} وكان من شر الدواب.

.تفسير الآيات (22- 23):

{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)}
يقول الحق جل جلاله: {إن شر الدوابّ عند الله}؛ وهو كل من يدب على وجه الأرض، {الصمُّ} عن سماع الحق، {البُكمُ} عن النطق به، {الذين لا يعقلون} الحق ولا يعرفونه، عدهم من البهائم ثم جعلهم شرها؛ لإبطالهم ما مُيزوا به وفُضلوا لأجله، وهو استعمال العقل فيما ينفعهم من التفكر والاعتبار. قال ابن قتيبة: نزلت هذه الآية في بني عبد الدار، فإنهم جدوا في القتال مع المشركين، يعني يوم بدر، وحكمها عام.
{ولو علِمَ الله فيهم خيراً}؛ سعادة كتبت لهم، أو انتفاعاً بالآيات، {لأسمعهُم} سماع تَفَهُّم، {ولو أسمعهم}، مع كونه قد علم الأخير فيهم، {لتولَّوا} عنه، ولم ينتفعوا به، وارتدوا بعد التصديق والقبول، {وهم مُّعرضون} عنه لعنادهم، وقيل: إنهم طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يُحيي لهم قُصي بن كلاب، ويشهد له بالرسالة، حتى يسمعوا منه ذلك، فأنزل الله: {ولو عَلِمَ اللَّهُ فيهم خيراً لأسمعهم} كلامه بعد إحيائه، {ولو أسمعهم لتولوا وهم مُّعرضُون}، لسبق الشقاوة في حقهم.
الإشارة: اعلم أن الأمر الذي شرف به الآدمي وفضل غيره هو معرفة خالقه، واستعمال العقل فيما يقربه إليه، وسماع الوعظ الذي يزجره عن غيه، فإذا فقد هذا كان كالبهائم أو أضل، ولله در ابن البنا، حيث يقول في مباحثه:
وَاعْلَمْ أَنَّ عُصْبَةَ الجُهَّالِ ** بَهَائِمٌ في صُوَرِ الرِّجَال

واعلم أيضاً أن بعض القلوب لا تقبل علم الحقائق، فأشغلها بعلم الشرائع، ولو علم فيها خيراً لأسمعها تلك الأسرار، ولو أسمعها، مع علمه بعدم قبولها، لتولت عنها وأعرضت؛ لضيق صدرها وعدم التفرغ لها.

.تفسير الآية رقم (24):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)}
يقول الحق جل جلاله: {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله} أي: أجيبوا فيما دعاكم إليه، {وللرسول} فيما دلكم عليه من الطاعة والإحسان، {إذا دعاكم لما يُحييكم} من العلوم الدينية؛ فإنها حياة القلب، كما أن الجهل موته، أو {إذا دعاكم لما يُحييكم} الحياة الأبدية، في النعيم الدائم، من العقائد والأعمال، أو من الجهاد، فإنه سبب بقائكم؛ إذ تركتموه لغلبكم العدو وقتلكم، أو الشهادة، لقوله تعالى: {أَحيَاءُ عِندَ رَبِّهِم يُرزَقُونَ} [آل عمران: 169]، ووحد الضمير في قوله: {إذا دعاكم} باعتبار ما ذكر، أو لأن دعوة الله تُسمع من الرسول.
وفي البخاري: أن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا أبيّ بْنَ كَعْبٍ، وهو في الصَّلاة، فلم يجب، فلما فرغ أجاب، فقال له صلى الله عليه وسلم: «ما مَنَعَكَ أن تجيبني» فقال: كُنْتُ أُصلّي، فقال: «أَلمْ تَسْمَعَ قوله: {استَجِيتُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُول}» فاختلف فيه العلماء، فقيل لأن إجابته صلى الله عليه وسلم لا تقطع الصلاة، فيُجيب، ويبقى على صلاته، وقيل: إن دعاءه كان لأمر لا يقبل التأخير، وللمصلي أن يقطع الصلاة لمثله، كإنقاذ أعمى وشبهه.
ثم قال تعالى: {واعلموا أنَّ الله يَحُولُ بين المرء وقلبه}؛ فينقله من الإيمان إلى الكفر، ومن الكفر إلى الإيمان، ومن اليقين إلى الشك ومن الشك إلى اليقين، ومن الصفاء إلى الكدر، ومن الكدر إلى الصفاء. وقيل البيضاوي: هو تمثيل لغاية قربه من العبد؛ كقوله تعالى: {وَنَحنُ أَقرَبُ إِلَيهِ مِن حَبلِ الوَرِيدِ} [ق: 16]، وتنبيه على أنه مطلع على مكنونات القلوب، مما عسى أن يغفل عنها صاحبها، أو حث على المبادرة إلى إخلاص القلوب وتصفيتها، قبل أن يحول الله بينه وبين قلبه بالموت أو غيره، أو تصوير وتخييل لتملكه على العبد قلبه؛ فيفسخ عزائمه، ويغير مقاصده، ويحول بينه وبين الكفر، إن أراد سعادته، وبينه وبين الإيمان، إن قضى شقاوته. اهـ. {و} اعلموا أيضاً {أنه إليه تُحشرون}؛ فيجازيكم بأعمالكم وعقائدكم.
الإشارة: قد جعل الله، من فضله ورحمته، في كل زمان وعصر، دعاة يدعون الناس إلى ما تحيا به قلوبهم، حتى تصلح لدخول حضرة محبوبهم، فهم خلفاء عن الله ورسوله، فمن استجاب لهم وصحبهم حيي قلبه، وتطهر سره ولبه، ومن تنكب عنهم ماتت روحه في أودية الخواطر والأوهام.
وقوله تعالى: {واعلموا أن الله يَحُولُ بين المرء وقلبه}؛ حيلولة الحق تعالى بين المرء وهو تغطيته وحجبه عن شهود أسرار ذاته وأنوار صفاته، بالوقوف مع الحس، وشهود الفرق بلا جمع، ويعبر عنه أهل الفن بفَقْد القلب، فإذا قال أحدهم: فقدتُ قلبي، فمعناه: أنه رجع لشهود حسه ووجود نفسه، ووجدان القلب هو احتضاره بشهود معاني أسرار الذات وأنوار الصفات، فيغيب عن نفسه وحسه، وعن سائر الأكوان الحسية، وفقدان القلب يكون بسبب سوء الأدب، وقد يكون بلا سبب؛ اختباراً من الحق تعالى، هل يفزع إليه في فقدان أو يبقى مع حاله.
وقد تكلم الغزالي على القلب فقال، في أول شرح عجائب القلب من الإحياء: إن المطيع بالحقيقة لله هو القلب، وهو العالم بالله، وهو الساعي إلى الله، والمتقرب إليه، المكاشف بما عند الله ولديه، وإنما الجوارح أتباع، والقلب هو المقبول عند الله، إذا سَلِمَ من غير الله، وهو المحجوب عن الله إذا صار مستغرقاً في غير الله وهو المطالب والمخاطب، وهو المعاتب والمعاقب، وهو الذي يسعد بالقرب من الله، فيفلح إذا زكاه، ويخيب ويشقى إذا دنسه ودساه. ثم قال: وهو الذي إذا عرفه الإنسان فقد عرف نفسه، وإذا عرف نفسه فقد عرف ربه، وإذا جهله فقد جهل نفسه، وإذا جهل نفسه، جهل ربه، ومن جهل قلبه فهو لغيره أجهل، وأكثر الناس جاهلون بقلوبهم وأنفسهم وقد حيل بينهم وبين أنفسهم، فإن الله يحول بين المرء وقلبه، وحيلولته بأن يمنعه عن مشاهدته ومراقبته، ومعرفة صفاته، وكيفية تقلبه بين أصبعين من أصابع الرحمن، إلى أعلى عليين، ويرتقي إلى عالم الملائكة المقربين، ومن لم يعرف قلبه ليراقبه ويراعيه، ويترصد ما يلوح من خزائن الملكوت عليه وفيه، فهو ممن قال الله تعالى فيهم: {نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُم أَنفُسَهُم} [الحشر: 19] الآية. اهـ.
وقد أنشد من وجد قلبه، وعرف ربه، وغنى بما وجد، فقال:
أَنَا القُرآنُ والسَّبْعُ المَثَانِي ** وروحُ الرُّوح لا روح الأَوَاني

فؤادي عند معلوم مقيم ** تناجيه وعندكم لساني

فَلاَ نَنْظُرْ بِطَرْفِكَ نَحْوَ جِسْمِي ** وعُدْ عن التنعيم الأواني

فأَسْرارِي تراءت مبهمات ** مُسَتَّرَةً بأَنْوار المَعَاني

فَمَنْ فَهِمَ الإشَارَةَ فليَصُنْها ** وإلاّ سوف يقتل بالسنانِ

كَحَلاَّج المحبة إذْ تبدَّتْ ** له شمسُ الحقيقة بالتداني

.تفسير الآية رقم (25):

{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)}
قلت: دخلت النون في {لا تصيبن}؛ لأنه في معنى النهي، على حد قوله: {لاَ يَحطِمَنَّكُم سُلَيَمَان} [النمل: 18] انظر البيضاوي.
يقول الحق جل جلاله: {واتقوا فتنة}، إن نزلت {لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة}، بل تعم الظالم وغيره، ثم يبعث الناس على نيتهم، وذلك كإقرار المنكَر بين أظهركم، والمداهنة في الأمر بالمعروف، واقتراف الكبائر، وظهور البدع، والتكاسل في الجهاد، وعن الفرائض، وغير ذلك من أنواع الذنوب، وفي الحديث: «لَتأْمُرُنَّ بالمَعْرُوفِ ولَتَنْهُونَّ عن المُنْكَرِ، أو لَيَعُمَّنَّكُمْ اللَّهُ بِعَذَابِهِ» أو كما قال صلى الله عليه وسلم. قالت عائشة رضي الله عنها: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نعم، إذا كثُر الخبث».
قال القشيري. في معنى الآية: احذروا أن ترتكبوا زلَّةً توجب لكم عقوبة لا تخص مرتكبها، بل يعمُّ شؤمُها مَنْ تعاطاها ومن لم يتعاطاها. وغير المجرم لا يُؤخْذَ بجُرْم من أذنب، ولكن قد ينفرد واحدٌ بجُرم فيحمل أقوامٌ من المختصين بفاعل هذا الجُرْم، كأن يتعصبوا له إذا أُخِذَ بحكم ذلك الجرّم، فبعد ألا يكونوا ظالمين يصيرون ظالمين بمعاونتهم وتعصبهم لهذا الظالم؛ فتكون فتنة لا تختص بمن كان ظالماً في الحا ل، بل تصيب أيضاً ظالماً في المستقبل؛ بسبب تعصبه لهذا الظالم، ورضاه به. اهـ. وسيأتي تمامه في الإشارة.
وحكى الطبري أنها نزلت في علي بن أبي طالب وعمار بن ياسر وطلحة والزبير، وأن الفتنة ما جرى لهم يوم الجمل. اهـ. قال تعالى؛ {واعلموا أن الله شديد العقاب} لمن ارتكب معاصيه وتسبب في فتنة غيره.
الإشارة: في القشيري، لما تكلم على تفسير الظاهر، قال: وأما من جهة الإشارة فإن العبدّ إذا باشر زّلّةٍ بنفسه عادت إلى القلب منها الفتنة، وهي العقوبة المعجلة، ونصيب النفس من الفتنة العقوبة، والقلبُ إذا حصلت منه فتنة، وهو همه بما لا يجوز، تَعدَّتْ فتنته إلى السر وهي الحُجْبَةُ. وكذلك المُقَدًّمُ في شأنه، إذا فعل ما لا يجوز، انقطعت البركات التي كانت تتعدى منه إلى مُتَّبعِيهِ وتلامذتِهِ، فكان انقطاع تلك البركات عنهم نصيبهم من الفتنة، وهم لم يعملوا ذنباً، ويقال: إن الأكابر إذا سكتوا عن التنكير على الأصاغر أصابتهم فتنة بتَرْكِهِم الإنكار عليهم فيما فعلوا من الإجرام.
ثم قال: ويقال: إنًّ الزاهد إذا انحط إلى رخصة الشرع في اخذ الزيادة من الدنيا بما فوق الكفاية وإن كانت من وجه حلال تعدت فتنتهُ إلى من يتخرج على يديه من المبتدئين، فيحمله على ما رأى منه على الرغبة في الدنيا، وتَرْكِ التقلل، فيؤديه إلى الانهماك في أودية الغفلة في الأشغال الدنيوية، والعابد إذا جَنَحَ إلى سوء ترك الأوراد تعدَّى ذلك إلى ما كان ينشط في المجاهدة به، ويتوطَّن الكسل، ثم يحمله الفراغ وترك المجاهدة على متابعة الشهوات فيصير كما قيل:
إن الشبابَ والفراغ والجدَةْ ** مفسدةٌ للمرء أي مفسده

فهذا يكون نصيبهم من الفتنة، والعارف إذا رجع إلى ما فيه حَظَّ له، نَظَرَ إليه المريدُ فتتداخله فتنة فَتْرَةٌ فيما هو به من الصدق المنازلة، فيكون ذلك نصيبه من فتنة العارف. وبالجملة: إذا غفل المَلِكُ، وتَشَاغَلَ عن سياسة رعيته، تَعَطَّلَ الجندُ والرعية، وعَظُمَ فيهم الخَلَلُ والبَليَّة، وفي معناه أنشدوا:
رُعَاتُك ضيَّعوا بالجهل منهم ** غُنَيْمَاتٍ فَساسَتْها ذِئابُ

انتهى كلامه رضي الله عنه.

.تفسير الآية رقم (26):

{وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآَوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)}
يقول الحق جل جلاله: {واذكروا إذ أنتم قليل} أي؛ اذكروا هذه النعمة، حيث كنتم بمكة وأنتم قليل عَددكم مع كثرة عدوكم، {مستضعفون في الأرض} أي: أرض مكة، يستضعفكم قريش ويعذبونكم ويضيقون عليكم، {تخافون أن يتخطفكم الناسُ} أي: قريش، أو من عداهم، {فآواكم} إلى المدينة، وجعلها لكم مأوىً تتحصنون بها من أعدائكم، {وأَيَّدكم} أي: قواكم {بنصره} على الكفار، أو بمظاهرة الأنصار، أو بإمداد الملائكة يوم بدر، {ورزَقكم من الطيبات}؛ من الغنائم، {لعلكم تشكرون} هذه النعم.
والخطاب للمهاجرين، وقيل: للعرب كافة؛ فإنهم كانوا أذلاء في أيدي فارس والروم، يخافون أن يتخطفهم الناس من كثرة الفتن، فكان القوي يأكل الضعيف منهم، فآواهم الله إلى الإسلام، فحصل بينهم الأمن والأمان، وأيدهم بنصره، حيث نصرهم على جميع الأديان، وأعزهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، ورزقهم من الطيبات، حيث فتح عليهم البلاد، وملكوا ملك فارس والروم، فملكوا ديارهم وأموالهم، ونكحوا نساءهم وبناتِهم، لعلهم يشكرون.
الإشارة: التذكير بهذه النعمة يتوجه إلى خصوص هذه الأمة، وهم الفقراء المتوجهون إلى الله، فهم قليل في كل زمان، مستضعفون في كل أوان، حتى إذا تمكنوا وتهذبوا، وطهروا من البقايا منَّ عليهم بالنصر والعز والتأييد، كما وعدهم بقوله: {وَنُرِيدُ أًن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ في الأَرضِ...} [القصص: 5] الآية، والغالب عليهم شكر هذه النعم، لَمَا خصهم به من كمال المعرفة. والله تعالى أعلم.