فصل: تفسير الآيات (45- 47):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (45- 47):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47)}
قلت: {بطراً ورئاء}: مصدران في موضع الحال، أي: بطرين ومراءين، أو مفعول لأجله، و{ويصُدُّون}: عطف على {بطراً}؛ على الوجهين، أي: صادين، أو للصد.
يقول الحق جل جلاله: {يا أيها آمنوا إذا لَقيتُم فئةً}؛ جماعة من الكفار عند الحرب {فاثبتُوا} للقائهم، ولا تفروا، {واذكروا الله} في تلك الحال سراً داعين له، مستظهرين بذكره، متوجهين لنصره، معتمدين على حوله وقوته، غير ذاهلين عنه بهجوم الأحوال وشدائد الأهوال؛ إذ لا يذكر الله تعالى في ذلك الحال إلا الأبطال من الرجال {لعلكم تفلحون} بالظفر وعظيم النوال. قال البيضاوي: وفيه تنبيه على أن العبد ينبغي ألا يشغله شيء عن ذكر الله، وأن يلتجئ إليه عند الشدائد ويقبل عليه بشراشره، فارغ البال، واثقاً بأن لطفه لا ينفعك عنه في جميع الأحوال. اهـ.
{وأطيعوا الله ورسوله} فيما يأمركم به وينهاكم عنه؛ فإن الطاعة مفتاح الخيرات، {ولا تنازعوا} باختلاف الآراء كما فعلتم في شأن الأنفال، {فتفشلوا} وتجبنوا، {وتذهب ريحُكم} أي: ريح نصركم بانقطاع دولتكم، شبه النصر والدولة بهبوب الريح؛ من حيث إنها تمشي على مرادها، لا يقدر أحد أن يردها، وقيل: المراد بها الريح حقيقة، فإن النصرة لا تكون إلا بريح يبعثه الله من ناحية المنصور تذهب إلى ناحية المخذول. وفي الحديث: «نُصِرتُ بالصِّبَا، وأُهْلِكَتْ عَادٌ بالدَّبُورِ». {واصبروا إن الله مع الصابرين} بالمعونة والكلاءة والنصر.
{ولا تكونُوا كالذين خرجُوا من ديارهم}، يعني: أهل مكة، خرجوا {بطراً} أي: فخراً وشَرّاً {ورئاء الناس}؛ ليثنوا عليهم بالشجاعة والسماحة، وذلك أنهم لما بلغوا الجحفة أتاهم رسولُ أبي سفيان، يقول لهم: ارجعوا فقد سلمت عيركم، فقال أبو جهل: لا والله حتى نأتي بدراً، ونشرب بها الخمور، وتغني علينا القيان، ونطعم بها من حضرنا من العرب، فتسمع بنا سائر العرب، فتهابُنا، فوافوها، ولكن سُقوا بها كأس المنايا، وناحت عليهم النوائح؛ مما نزل بهم من البلايا، فنهى الله المؤمنين أن يكون أمثالهم بطرين مراءين، وأمرهم أن يكونوا أهل تقوى وإخلاص، لأن النهي عن الشيء امرٌ بضده. {ويصدّون عن سبيل الله} أي: خرجوا ليصدوا الناس عن طريق الله، باتباع طريقهم، {والله بما يعملون محيطٌ} فيجازيهم عليه.
الإشارة: خاطب الله المتوجهين إليه، السائرين إلى حضرته، وأمرهم بالثبوت ودوام السير، وبالصبر ولزوم الذكر عند ملاقاة القواطع والشواغب، وكل ما يصدهم عن طريق الحضرة، وذلك بالغيبة عنه والاشتغال بالله عنه، وعدم الإصغاء إلى خوضه وتكديره، فمن صبر ظفر، ومن دام على السير وصل، وأمرهم ايضاً بطاعة الله ورسوله، ومن يدلهم على الوصول إليه، ممن هو خليفة عنه في أرضه، وأمرهم بعدم المنازعة والملاججة، فإن التنازع يُوجب تفرق القلوب والأبدان، ويوجب الفشل والوهن، ويذهب بريح النصر والإعزاز، كما أن الوفاق يوجب النصر ودوام العز.
ونهاهم عن التشبه بأهل الخوض والتكدير، ممن أولع بالطعن والتنكير، بل يكونون على خلافهم مخلصين في أعمالهم وأحوالهم، دالين على الله، داعين إلى طريق الله، يُحببون الله إلى عباده، ويحببون عباد الله إلى الله، وهذه صفة أهل الله. نفعنا الله بذكرهم. آمين.

.تفسير الآية رقم (48):

{وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48)}
يقول الحق جل جلاله: {وإذْ زيّنَ لهم الشيطانُ أعمالهم} السيئة، ومن جملتها: خروجهم إلى حربك؛ بأن وسوس لهم، {وقال لا غالبَ لكم اليومَ من الناس وإني جارٌ لكم} قيل: قال لهم ذلك مقالة نفسانية، بأن ألقي في رُوعهم، وخيَّل إليهم أنهم لا يُغلبون ولا يطاقون، لكثرة عَددهم وعُددهم، وأوهمهم أن اتباعهم إياه في ذلك قربة مجيرة لهم من المكاره.
{فلما تراءت الفئتان} أي: تلاقي الفريقان، ورأى بعضهم بعضاً، {نَكصَ على عقبيه}؛ رجع القهقري، أي: بطل كيده، وعاد ما خيل لهم أنه مجير لهم سبب هلاكهم، {وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله}، أي: تبرأ منهم وخاف عليهم، وأيس من حولهم، لمّا رأى إمداد المسلمين بالملائكة.
وقيل: إن هذه المقالة كانت حقيقة لسانِيَّة. رُوي أن قريشاً لما اجتمعت على المسير إلى بدر، ذكرت ما بينهم وبين بني كنانة من العداوة، فهموا بالرجوع عن المسير، فمثل لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك الكناني، وقال: لا غالب لكم اليوم وإني جارٌ لكم، وإني مجيركم من بني كنانة، فلما رأى الملائكة تنزل نكص على عقبيه، وكانت يده في يد الحارث بن هشام، فقال له: إلى أين؟ أتخذلنا في هذه الحالة؟ فقال: إني أرى ما لا ترون، ودفع في صدر الحارث، فانطلق وانهزموا، فلما بلغوا مكة، قالوا: هزم النَّاسَ سُراقَةُ، فبلغه ذلك، فقال: والله ما شعرت بسيركم حتى بلغني هزيمتكم! فلما أسلموا علموا أنه الشيطان.
وعلى هذا، يحتمل أن يكون معنى قوله: {إني أخافُ الله} أي: أخاف أن يصيبني مكروهاً من الملائكة، أو يهلكني، ويكون هذا الوقت هو الوقت الموعود، إذ رأى فيه ما لم ير قبله. والأول: ما قاله الحسن، واختاره ابن حجر. وقال الورتجبي: أي: إني أخاف عذاب الله، وذلك بعد رؤية البأس، ولا ينفع ذلك، ولو كان متحققاً في خوفه ما عصى الله طرفة عين. اهـ.
وذكر ابن حجر عن البيهقي، عن عليّ كرم الله وجهه، قال: هبت ريح شديدة، فلم أر مثلها، ثم هبت ريح شديدة، وأظنه ذكر ثالثة، فكانت الأولى جبريل، والثانية: ميكائيل، والثالثة: إسرافيل، وكان ميكائيل عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها أبو بكر، وإسرافيل عن يساره، وأنا فيها. وعن عليّ ايضاً: قيل ليَّ ولأبي بكر يوم بدر: مع أحدكما جبريل، ومع الآخر ميكائيل وإسرافيل ملك عظيم يحضر لصف ويشهد القتال. انتهى.
وقوله تعالى: {والله شديدُ العقاب}، يجوز أن يكون من كلام إبليس، وأن يكون مستأنفاً.
الإشارة: عادة الشيطان مع العوام أن يُغريهم على الطعن والإنكار على أولياء الله، وإيذائهم لهم، فإذا رأى غيرة الله على أوليائه نكص على عقبيه، وقال: إني منكم بريء؛ إني أرى ما لا ترون، إني أخاف الله، والله شديد العقاب.

.تفسير الآية رقم (49):

{إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49)}
يقول الحق جل جلاله: واذكروا {إذْ يقول المنافقون} من أهل المدينة، أو نفر من قريش كانوا أسلموا وبقوا بمكة، فخرجوا يوم بدر مع الكفار، منهم: قيس بن الوليد بن المغيرة، وأبو القبس بن الفاكه بن المغيرة، والحارث بن ربيعة بن الأسود، وعلي بن أمية بن خلف، {و} هم {الذين في قلوبهم مرض} أي: شك؛ لم تطمئن قلوبهم، بل بقي فيها شبهة، قالوا: {غرَّ هؤلاء دينُهُم} أي: اغتر المسلمون بدينهم، فأدخلوا أنفسهم فيما لا طاقة لهم به، فخرجوا وهم ثلاثمائة وبضعة عشر إلى زهاء ألف. فأجابهم الحق تعالى بقوله: {ومن يتوكل على الله فإن الله عزيزٌ} أي: غالب لا يذل من استجار به، وإن قلَّ، {حكيمٌ} يفعل بحكمته البالغة ما يستبعده العقل، ويعجز عن دركه الفهم.
الإشارة: إذا عظم اليقين في قلوب أهل التقى أقدموا على أمور عظام، تستغرب العادة إدراكها، أو يغلب العطب فيها، فيقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض: غرَّ هؤلاء طريقتهم، ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز لا يُغلبْ، ولا يُغلبْ من انتسب إليه، وتوكل في أموره عليه، حكيم فلا يَخرج عن حكمته وقدرته شيء، أو عزيز لا يُذل من استجار به، ولا يضيع من لاذ به، والتجأ إلى ذماره، حكيم لا يقصر عن تدبير من توكل على تدبيره، قاله في الإحياء. ثم قال: وكل ما ذكر في القرآن من التوحيد هو تنبيه على قطع الملاحظة عن الأغيار، والتوكل على الواحد القهار. اهـ. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (50- 51):

{وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51)}
قلت: جواب {لو} محذوف أي: لرأيت أمراً عظيماً، و{الملائكة}: فاعل {يتوفى} فلا يوقف على ما قبله، ويرجحه قراءة ابن عامر بالتاء، ويجوز أن يكون الفاعل ضمير (الله)، و{الملائكة} مبتدأ، و{يضربون}: خبر، والجملة: حال من {الذين كفروا}، والرابط: ضمير الواو، وعلى هذا فيوقف على ما قبله، وعلى الأول {يضربون}: حال من الملائكة، {وذُوقوا}: عطف على {يضربون} على حذف القول، أي: ويقولون ذوقوا. و{ذلك}: مبتدأ، {بما قدمت}: خبر، و{أن الله}: عطف على ما؛ للدلالة على أن مقيدة بانضمامه إليه. انظر البيضاوي.
يقول الحق جل جلاله: {ولو ترى} يا محمد، أو يا من تصح منكم الرؤية، حال {الذين كفروا} حين تتوفاهم {الملائكةُ} ببدر، أو مطلقاً، وهم {يضربون وجوهَهُم وأدبارَهم}، أو حين يتوفاهم الله ويقبض أرواحهم، حال كونهم الملائكة يضربون وجوههم وظهورهم، أو أستاهَهُم، لرأيت أمراً فظيعاً. {و} يقولون لهم: {ذُوقوا} أي: باشروا {عذابَ الحريق} يوم القيامة؛ بشارة لهم بما يلقون من العذاب في الآخرة. وقيل: تكون معهم مقامع من حديد، كلما ضربوا التهبت النار منها، {ذلك} العذاب إنما وقع بكم {بما}؛ بسبب {قدمت أيديكم} أي: بما كسبتم من الكفر والمعاصي، {وأَنَّ الله ليس بظلام للعبيد}؛ حتى يعذب بلا سبب، أو يهمل العباد بلا جزاء.
الإشارة: قد ذكر الحق جل جلاله حال الكاملين في العصيان في هذه الآية، وذكر في سورة النحل الكاملين في الطاعة بقوله: {الَّذِينَ تَتَوَفّاَهُمُ المَلائَكَةُ طَيِّبِين} [النحل: 32] الآية، وسكت عن المخلطين، ولعلهم يرون طرفاً من هذا أو طرفاً من هذا، والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (52- 54):

{كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54)}
قلت: {كدأب}: خبر عن مضمر، أي: دأب هؤلاء مثل دأب آل فرعون، وهو عملهم وطريقتهم، التي دأبوا فيها، أي: داموا عليها {ذلك}؛ مبتدأ، و{بأنَّ الله}: خبر، وقال سيبويه: خبر، أي: الأمر ذلك، والفاء سببية.
يقول الحق جل جلاله: عادة هؤلاء الكفرة العاصين المعاصرين لك، في استمرارهم على الكفر والمعاصي، كعادة {آل فِرعون والذين} مضوا {مِنْ قبلهم}، ثم فسر دأبهم فقال: {كفروا بآيات الله} الدالة على توحيده، المنزلة على رسله، {فأخذهم الله بذنوبهم} كما أخذ هؤلاء، {إن الله قوي شديد العقاب}؛ لا يغلبه في دفعه شيء.
{ذلك} العذاب الذي حل بهم، بسبب ذنوبهم وكفرهم؛ لأن {الله لم يكُ مغيراً نعمةً أنعمها على قوم} فيبدلها بالنقمة، {حتى يغيروا ما بأنفسهم} أي: حتى يبدلوا ما بأنفسهم، من حال الشكر إلى حال الكفر، أو من حال الطاعة إلى حال المعصية، كتغيير قريش حالهم: من صلة الرحم، والكف عن التعرض لإيذاء الرسول ومن تبعه، بمعاداة الرسول، والسعي في إراقة دم من تبعه، والتكذيب بالآيات والاستهزاء بها. إلى غير ذلك مما أحدثوه بعد البعثة، {وأنَّ الله سميعٌ} لما يقولون: {عليم} بما يفعلون.
دأبهم في ذلك التغيير {كَدأْب آل فِرعون والذين من قبلهم كذّبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آلَ فرعون} لمّا بدلوا وغيَّروا، ولم يشكروا ما بأيديهم من النعم، {وكلِّ} من الفرق المكذبة {كانوا ظالمين}؛ فأغرقنا آل فرعون، وقتلنا صناديد قريش؛ بظلمهم وما كنا ظالمين.
الإشارة: إذا أنعم الله على قوم بنعم ظاهرة أو باطنة، ثم لم يشكروا الله عليها، بل قابلوها بالكفران، وبارزوا المنعم بالذنوب والعصيان، فاعلم أن الله تعالى أراد أن يسلبهم تلك النعم، ويبدلها بأضدادها من النقم، فمن شكر النعم فقد قيدها بعقالها، ومن لم يشكرها فقد تعرض لزوالها. فالشكر قيد الموجود وصيد المفقود، فمن أعطي ولم يشكر، سُلب منها ولم يشعر، والشكر؛ أَلا يُعْصَى الله بنعمه، كما قال الجنيد رضي الله عنه. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (55- 59):

{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59)}
قلت: {فهم لا يؤمنون}: جملة معطوفة على جملة الصلة، والفاء للتنبيه على أن تحقق المعطوف عليه يستدعي تحقق المعطوف، و{الذين عاهدت}: بدل بعضٍ من (الذين كفروا)، و{فشرد}: جواب (إما)، والتشريد: تفريق على اضطراب.
يقول الحق جل جلاله: {إنَّ شرَّ الدوابِّ عند الله} منزلة {الذين كفروا}، تحقق كفرهم، وسبق به القدر، {فهم لا يؤمنون} أبداً؛ لِمَا سبق لهم من الشقاء. نزلت في القوم مخصوصين، وهم بنو قريظة، {الذين عاهدتَّ منهم} أي: أخذت عَليهم العهد ألا يعاونوا عليك الكفار، {ثم يَنقُصُونَ عهدَهم في كل مرةٍ} أي: يخونون عهدك المرة بعد المرة، فأعانوا المشركين بالسلاح يوم أُحد، وقالوا: نسينا، ثم عاهدهم، فنكثوا ومالؤوهم عليه يوم الخندق، وركب كعبُ بن الأشرف في ملأ منهم إلى مكة، فحالفوا المشركين على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتل مقاتلتهم سبا ذراريهم، {وهم لا يتقون} شؤم الغدر وتبعته، أو: لا يتقون الله في الغدر ونصرته للمؤمنين وتسليطه إياهم عليهم.
قال تعالى لنبيه الصلاة والسلام: {فإما تَثقفنُهمْ} أي: مهما تصادفهم وتظفر بهم {في الحرب فشرِّدْ بهم} أي: فرِّق عنك من يُناصبك بسبب تنكيلهم وقتلهم، أو نكِّل بهم {من خَلْفَهم}؛ بأن تفعل بهم من النقمة ما يزجرُ غيرهم؛ {لعلهم يذكّرون} أي: لعل من خلفهم يتعظون فينزجروا عن حربك.
{وإما تَخَافَنَّ من قوم} معاهدين {خيانةً} أي: نقص عهد بأمارات تلوح لك، {فانبِذْ إليهم} أي: فاطرح إليهم عهدهم {على سواءٍ} أي: على عدل وطريق قصد في العداوة، ولا تناجزهم بالحرب قبل العلم بالنبذ، فإنه يكون خيانة منك، أو على سواء في العلم بنقض العهد، فتستوي معهم في العلم بنقض العهد، {إنَّ الله لا يُحب الخائنين} أي: لا يرضى فعلهم، وهو تعليل للأمر بالنبذ والنهي عن مناجزة القتال المدلول عليه بالحال.
{ولا تحسبن}، يا محمد، {الذين كفروا سَبقُوا} قدرتنا، ونجوا من نكالنا؛ {إِنهم لا يُعجزُون} أي: لا يفوتون في الدنيا والآخرة، فلا يعجزون قدرتنا، أو لا يجدون طالبهم عاجزاً عن إدراكهم، بل اللَّهُ محيط بهم أينما حلوا. والله تعالى أعلم.
الإشارة: شرفُ الإنسان وكمالُه في خمسة أشياء: الإيمان بالله، وبسائر ما يتوقف الإيمان عليه، والوفاء بالعهود، والوقوف مع الحدود، والرضى بالموجود، والصبر على المفقود.
وقال القشيري في قوله تعالى: {فإما تثقفهم في الحرب...} الآية، أي: إنْ صَادَفْتَ واحداً من هؤلاء الذين دأبُهم نقصُ العهد، فاجعلهم لمن يأتي بعدهم، لئلا يسلكوا طريقَهم، فيستوجبوا عُقُوبتهُم. كذلك مَنْ فَسَخْ عقده مع الله بقلبه، برجوعه إلى رُخَصِ التأويلات، ونزول إلى السكون مع العادات، يجعله الله نكالاً لمن بعده، بحرمان ما كان خوَّلَه وتنغيصه عليه. ثم قال عند قوله: {وإما تخافن من قوم خيانة}، يريد إذا تحقَّقْت خيانة قوم منهم، فَصَرِّح بأن لا عهدَ بينك وبينهم، فإذا حصلت الخيانة زال سَمتُ الأمانة، وخيانةُ كلّ أحدٍ على ما يليق بحاله. اهـ.