فصل: تفسير الآيات (117- 118):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (117- 118):

{لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)}
قلت: في {كاد} ضمير الشأن، ويرتفع بها قلوبُ.
يقول الحق جل جلاله: {لقد تابَ الله على النبي} أي: برأه وطهره من الذنوب، كقوله: {لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّر} [الفتح: 2]، {و} تاب على {المهاجرين والأنصار} مما عسى أن يكون ارتكبوه؛ إذ لا يخلو العبد من ذنب أو عيب. وقيل: هو حض على التوبة، وإظهار لفضلها، بأنها مقام الأنبياء والصالحين، وقيل: تاب عليهم من نقص المقامات التي ترقوا عنها، إلى ما هو أكمل منها، فما من أحد إلا وله مقام يستنقص بالنسبة إلى ما فوقه.
وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه: ذكر توبة من لم يذنب؛ لئلا يستوحش من أذنب، لأنه ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، والمهاجرين والأنصار، ولم يذنبوا، ثم قال: {وعلى الثلاثة الذين خُلفوا}، فذكر من لم يذنب ليؤنس من قد أذنب، فلو قال أولاً: لقد تاب على الثلاثة لتفطرت أكبادهم. اهـ.
ثم وصفهم بقوله: {الذين اتبعوه في ساعة العُسرةِ}، يعني: حين محاولة غزوة تبوك. والساعة هنا بمعنى الحين والوقت. والعسرة: الشدة والضيق، أي: الذين خرجوا معه وقت العسرة والضيق، فقد كانوا في عسرة الظهر، يعتقب العشرة على بعير واحد، وفي عسرة الزاد؛ حتى قيل: إن الرجلين كانا يقتسمان تمرة واحدة. {من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم} عن الثبات على الإيمان، أو عن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، لما رأوا من الشدة والضيق وشدة الحر، {ثم تاب عليهم}؛ كرره للتأكيد، وللتنبيه على أنه تاب عليهم لأجل ما كابدوا من العسر، {إنه بهم رؤوف رحيم}؛ حيث قَبَلهم، وتاب عليهم، وتاب على الثلاثة: وهم كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومُرارة بن الربيع، تخلفوا عن غزوة تبوك من غير عذر ولا نفاق، ولا قصد للمخالفة، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم عتب عليهم، وأمر الناس ألا يكلمهم، وأن يعتزلوا نساءهم، فقبلوا على ذلك خمسين ليلة، ثم أنزل الله توبتهم. وقد وقع حديثهم في البخاري ومسلم وكتب السير.
ومعنى قوله: {الذين خلفوا} أي: تخلفوا عن الغزو. وقال كعب بن مالك: خلفوا عن قبول العذر، وليس بالتخلف عن الغزو، ويقوي ذلك كونه جعل: {حتى إذا ضاقت عليهم الأرض} غاية للتخلف، أي: خلفوا عن قبول العذر، وأخروا {حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت} أي: برحبها وسعتها، وذلك لإعراض الناس عنهم بالكلية، وهو مثل لشدة الحيرة. {وضاقت عليهم أنفسهم}؛ من فرط الوحشة والغم، {وظنوا} أي: علموا {أن لا ملجأ من الله} أي: من سخطه {إلا إليه} أي: إلا إلى استغفاره والرجوع إليه، {ثم تاب عليهم}؛ بالتوفيق بالتوبة، {ليتوبوا} يإظهارها والدوام عليها، وليعدوا من التوابين، {إن الله هو التواب} لمن تاب، ولو عادوا في اليوم سبعين مرة، {الرحيم}؛ متفضل عليهم بالنعم التي لا تحصى.
قال الورتجبي: التوبة توبتان: توبة العبد، وتوبة الله، توبة العبد: الرجوع من الزلات إلى الطاعات، وتوبة الله: رجوعه إلى العبد بنعت الوصال، وفتح باب المآب، وكشف النقاب عن الاحتجاب، وطلب العتاب.
إذا مَرِضنا أَتَينَاكُم نَعُودكُمُ ** وتذنبون فنأتيكم ونعتذُر

انظر لطف الله بنبيه وأصحابه، كيف تاب لأجلهم مكان توبتهم، رجع إليهم قبل رجوعهم إليه، ليسهل عليهم طريق الرجوع إليه، فرجوعه إلى نبيه بكشف المشاهدة، ورجوعه إليهم بكشف القربة، فتوبته للنبي صلى الله عليه وسلم من غيبته عن المشاهدة؛ باشتغاله بأداء الرسالة، وتوبة القوم من غيبتهم عن ملاحظة الحضرة، فلما ذاقوا الجنايات، واحتجبوا عن المشاهدات؛ أدركهم فيض الوصال، وانكشف لهم أنوار الجمال، وهكذا سنة الله في الأنبياء والأولياء، إذا ذابوا في مقام الامتحان، وبقوا في الحجاب عن مشاهدة الرحمن، تمطر عليهم وبل سحاب الكرم، ويلمع لأبصار أسرارهم نور شرف القدم، فيؤنسهم بعد إياسهم، ويواصلهم بعد قنوطهم. قال تعالى: {وَهُوَ الذي يُنَزِّلُ الغيث مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ ا} [الشورى: 28]، وقال تعالى: {حتى إِذَا استيأس الرسل...} [يوسف: 110] الآية. ثم قال عن بعضهم: توبة الأنبياء في مشاهدة الخلق في وقت الإبلاغ؛ إذ الأنبياء لا يغيبون عن الحضرة، بل لا يحضرون في مواضع الغيبة؛ لأنهم في عين الجمع أبداً. اهـ.
قال المحشي: وحاصلة: توبة الله المذكورة وَهبيةٌ، وهي في كل أحد على حسب ما يليق بمقامه، وإنما يليق بمقام الرسل ترقيته عن مقام إلى أعلى، أو من شعور بخلق؛ لأجل الإبلاغ، إلى الغيبة عن ذلك، وكذلك أبداً كأهل الجنة. اهـ.

.تفسير الآية رقم (119):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)}
يقول الحق جل جلاله: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله}؛ بالمحافظة على ما أمركم به، والانكفاف عما نهاكم عنه، {وكونوا مع الصادقين} في إيمانهم وأقوالهم وأفعالهم وعهودهم.
قال ابن جزي: ويحتمل أن يريد به صدق اللسان؛ إذ كان هؤلاء قد صدقوا ولم يعتذروا بالكذب، فنفعهم الله بذلك، ويحتمل أن يريد أعم من صدق اللسان؛ وهو الصدق في الأقوال والأعمال والمقاصد والعزائم، والمراد بالصادقين: المهاجرين، لقوله في الحشر: {للِفُقَرآءَ المُهَجِرِينَ}.. إلى قوله: {أولئك هُمُ الصادقون} [الحشر: 8]. وقد احتج بها أبو بكر الصديق على الأنصار يوم السقيفة، فقال: (نحن الصادقون، وقد أمركم الله أن تكونوا معنا)؛ أي: تابعين لنا. اهـ. زاد السهيلي: ولمَّا استحق الصادقون أن تكون الخلافة فيهم، استحق الصِّدِّيقُ أن تكون الخلافة له، ما دام حياً؛ إذ كان صديقاً. اهـ.
الإشارة: الصدق سيف حازم، ما وضع على شيء إلا قطعه، ويكون في الأقوال، وهو صيانتها من الكذب، ولو ادى إلى التلف. وفي الأفعال، وهو صيانتها من الرياء وطلب العوض. وفي الأحوال، وهو تصفيتها من قصد فاسد، كطلب الشهرة، أو إدراك مقام من المقامات، أو ظهور كرامات، أو غير ذلك من المقاصد الدنية. قال القشيري: الصادقون هم السابقون الأولون، كأبي بكر وعمر وغيرهما، والصدق: استواء السِّرِّ والعلانية، وهو عزيز، وكما يكون في الأقوال يكون في الأحوال، وهو أتَمُّ. اهـ.

.تفسير الآيات (120- 121):

{مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121)}
قلت: {ولا يرغبوا}: منصوب بالعطف، أو مجزوم بالنهي، والوادي: أصله: فاعل، من وَدِيَ، إذا سأل، وهو منقوص، وهو في اللغة: كل متفرج بين جبال وآكام يكون منفذاً للسيل.
يقول الحق جل جلاله: {ما كان} يصح {لأهل المدينةِ}، ولا لمن {حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله} في غزوة ولا سرية ولا غيرهما، وهي نهي بصيغة النفي؛ للمبالغة، {لا} ينبغي لهم أن {يَرْغَبُوا بأنفسهم عن نفسِه}؛ بأن يصونوها من اقتحام المشقات والمتاعب التي تحملها نبي الله صلى الله عليه وسلم، حيث قعدوا عنه، ولم يكابدوا معه ما كابده من الأهوال.
رُوي أن أبا خَيْثمة دخل بستانه، بعد خروجه عليه الصلاة والسلام لتبوك، وكانت له امرأة حسناء، فرشت له في الظل، وبسطت له الحصير، وقربت إليه الرطب والماء البارد، فنظر فقال: ظِلّ ظَلِيلٌ، ورطب يانع، وماء بارد، وامرأة حسناء ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الضِّحّ، والريح ما هذا بخير فقام، فرحل ناقته، وأخذ سيفه ورمحه، ومر كالريح، فمد رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفه إلى الطريق، فإذا براكب يقطع السراب، فقال: كن أبا خيثمة، فكأنهُ، ففرح به رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستغفر له.
ثم علل النهي بقوله: {ذلك}؛ إشارة إلى النهي عن التخلف المفهوم من الكلام، {بأنهم}؛ أي: بسبب أنهم {لا يُصيبهم} في سفرهم {ظََمأ} من حر العطش، أو عطش، {ولا نَصبٌ} تعب، {ولا مَخمَصةٌ}؛ مجاعة، {في سبيل الله}، {ولا يطؤون} يدرسون بأرجلهم أو بأبدوابهم {مَوْطئاً}؛ مكاناً {يغيظ الكفار} أي: يغيظهم ذلك الوطء، {ولا ينالون من عدو نيلاً}؛ كالقتل، والأسر، والنصب، وكل ما ينكبهم، {إلا كُتِبَ لهم به عملٌ صالحٌ}، أي: إلا استوجبوا به ثواباً جزيلاً. وذلك مما يوجب النهوض إلى الغزو معه صلى الله عليه وسلم؛ فإن {الله لا يُضيع أجرَ المحسنين} على إحسانهم، وهو تعليل لقوله: {إلا كتب لهم...} إلخ.
وفيه تنبيه على أن الجهاد إحسان، إما في حق الكفار؛ فلأنه سعى في تكميلهم بأقصى ما يمكن، كضرب المُداوي للمجنون، وإما في حق المؤمنين؛ فلأنه صيانة لهم عن سطوة الكفار واستيلائهم على الإسلام. قاله البيضاوي.
{ولا يُنفقون نفقةً صغيرةً} في امر الجهاد، ولو علاقة سيف، {ولا كبيرة}؛ مثل ما أنفق عثمان رضي الله عنه في جيش العسرة، {ولا يقطعُون وادياً} في سيرهم، وهو كل منفرج ينفذ فيه السبيل، {إلا كُتِبَ لهم} ذلك، ولم يضعْ منه شيء، {ليجزيَهُم الله} بذلك {أحسنَ ما كانوا يعملون}، أي: جزاء أحسن أعمالهم، أو أحسن جزاء أعمالهم. قاله البيضاوي.
الإشارة: لا ينبغي للفقراء أن يتخلفوا عن أشياخهم إذا سافروا لحج أو غزو أو تذكير أو زيادة، ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه، فيقعدون في الراحة والدعة؛ وشيخهم في التعب والنصب؛ لأن ما يصيبهم من مشاق السفر زيادة في ترقيهم ومعرفتهم، وتقوية لمعانيهم، إلى غير ذلك من فوائد السفر، فهو في حق السائرين أمر مؤكد، فكما سار البدن في عالم الشهادة سار القلب في عالم الغيب، كما هو محبوب. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآية رقم (122):

{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)}
يقول الحق جل جلاله: {وما كان المؤمنون} يستقيم لهم ان ينفروا {كافةً}؛ جميعاً لنحو غزو، أو طلب علم، كما لا يستقيم لهم أن يقعدوا جميعاً، فإنه بخل، ووهن للإسلام. قال ابن عباس: هذه الآية في البعوث إلى الغزو والسرايا، أي: لا ينبغي خروج جميع المؤمنين في السرايا، وإنما يجب ذلك إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، ولذلك عاتبهم في الآية المتقدمة على التخلف عنه. فالآية الأولى في الخروج معه صلى الله عليه وسلم، وهذه في السرايا التي كان يبعثها، وقيل: ناسخة لكل ما ورد من الأمر بخروج الجميع، فهي دليل على أن الجهاد فرض كفاية.
{فلولا}: فهلا {نَفَرَ من كل فرقةٍ}؛ جماعة كبيرة، كقبيلة أو بلدة، {طائفة} قليلة منها؛ {ليتفقهوا في الدين}، اما إذا خرجوا للغزو؛ فإنه لا يخلو الجيش من عالم أو عارف يتفقهون، مع أن مشاق السفر تشحذ الأذهان، وترقق البشرية، فتستفيد الروح حينئذٍ علوماً لدنية، وأسراراً ربانية، من غير تعلم، وهذا هو العلم الذي يصلح للإنذار.
قال في الإحياء: التفقه: الفقه عن الله؛ بإدراك جلاله وعظمته، وهو العلم الذي يورث الخوف والخشية والهيبة والخشوع، ويحمل على التقوى وملازمتها، وهذا مقتضى الآية. فإن معرفة صفاته تعالى المخوفة والمرجوة هو الذي يحصل به الانذار، لا الفقه المصطلح عليه. اهـ. وأما إذا وقع الخروج لطلب العلم فالتفقه ظاهر.
ثم قال تعالى: {وليُنْذِرُوا قومَهم إذا رجعوا إليهم}، أي: وليجعلوا غاية سعيهم ومُعظم غرضهم من التفقه إرشاد القوم وإنذارهم. وتخصيصه بالذكر؛ لأنه أهم، وفيه دليل على أن التفقه والتذكير من فروض الكفاية، وأنه ينبغي أن يكون غرض المتعلم فيه أن يستقيم ويقيم، لا الترفع على الناس والتبسط في البلاد. قاله البيضاوي. وقوله: {لعلهم يَحذَرُون}، أي: لعلهم يخافون مما حذروا منه.
قال البيضاوي: قد قيل: للآية معنى آخر، وهو أنه لما نزل في المتخلفين ما نزل؛ تسابق المؤمنون إلى نفير، وانقطعوا عن التفقه، فأمروا ان ينفر من كل فرقة طائفة إلى الجهاد، ويبقى أعقابهم يتفقهون، حتى لا ينقطع التفقه الذي هو الجهاد الأكبر؛ لأن الجدال بالحجة هو الأصل، المقصود من البعثة، فيكون الضمير في {ليتفقهوا}، {ولينذروا}: للفرق البواقي بعد الطوائف النافرة للغزو، وفي {رجعوا}: للطوائف النافرة، أي: لينذروا البواقي من قومهم النافرين إذا رجعوا إليهم حصَّلوا أيام غيبتهم من العلوم. اهـ. وتقدير الآية على هذا: فلولا نفر من كل فرقةٍ طائفةٌ، وجلس طائفة ليتفقهوا في الدين، ولينذروا قومهم الخارجين للغزو إذا رجعوا إليهم من غزوهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قال القشيري: لو اشتغل الكُلُّ بالتَّفَقُّه في الدين لَتَعطَّلَ عليهم المعاش، ولمنعهم الكافر عن درك المطلوب، فجعل ذلك فرضاً على كفاية.
ويقال: المسلمون على مراتب: فعوامَّهم كالرعية للمَلِك، وكَتَبَةُ الحديث كخزنة المَلِك، وأهل القرآن كحُفَّاظ الدفاتر، ونفائس الأموال. والفقهاء بمنزلة الوكلاء؛ إذ الفقيه يوقع الحكم عن الله. وعلماءُ الأصول كالقُوَّاد وامراء الجيوش. والأولياءُ كأركان الباب. وأربابُ القلوب وأصحابُ الصفاء كخواص المَلِكِ وجُلَسائه. فشغل قوماً بحفظ أركان الشرع، وآخرين بإمضاء الأحكام، وآخران بالردِّ على المخالفين، وآخران بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجعل قوماً مُفْرَدين لحضور القلب؛ وهم أصحاب الشهود، وليس لهم شُغْلٌ، يراعون مع الله أنفاسَهم، وهم أصحاب الفراغ، لا يستفزُّهم طلَبٌ، ولا يهزُّهم أمر، فهم بالله لله، بمحو ما سوَّى الله، وامَّا الذين يتفقهون في الدين فهم الداعون إلى الله، وإنما يفهم الخلق عن الله بمَنْ كان يَفْهَمُ عن الله. اهـ.
قوله: وأما الذين يتفقهون... إلخ، الداعون إلى الله على الحقيقة هم العارفون بالله، وهم أصحاب الشهود، الذين وصفهم قبل، وأما الفقهاء في الدِّين فإنما يدعون إلى أحكام الله، وتعلم دينه دون معرفة ذاته وصفاته؛ فدعواهم ضعيفة التأثير، فلا ينهض على أيديهم ما ينهض على أيدي العارفين.
وقال الورتجبي، في قوله تعالى: {ليتفقهوا في الدين}: قال المرتعش: السياحة والأسفار على ضربين: سياحة لتعلّم احكام الدين وأساس الشريعة، وسياحة لآداب العبودية ورياضة الأنفس، فمن رجع عن سياحة الأحكام قام بلسانه يدعو الخلق إلى ربه، ومن رجع من سياحة الأدب والرياضة قام في الخلق يهديهم لأخلاقه وشمائله. وسياحة هي سياحة الحق، وهي رؤية أهل الحق والتأدب بآدابهم، فهذا بركته تعم البلاد والعباد. اهـ.