فصل: تفسير الآيات (17- 18):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (17- 18):

{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)}
يقول الحق جل جلاله: {فمن أظلم} لا أحد أظلم {ممن افترى على الله كذباً} بأن تقوَّل على الله ما لم يقل، وهذا بيان لبراءته، مما اتهموه به من اختراعه القرآن، وإشارة إلى كذبهم على الله في نسبة الشركاء له والولد، {أو كذَّب بآياته} فكفر بها، فلا أظلم منه {إنه} أي: الأمر والشأن {لا يُفلح المجرمون} أي: لا يظفرون ببغيتهم، ولا تنجح مساعيهم؛ لإشراكهم بالله. كما قال تعالى: {ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعُهم} من الجمادات التي لا تقدر على ضر ولا نفع، والمعبود ينبغي أن يكون مثيباً ومُعاقباً، حتى تكون عبادته لجلب نفع أو دفع الضر. {ويقولون هؤلاء} الأوثان {شفعاؤنا عند الله} تشفع لنا فيما يهمنا من أمور الدنيا، أو في الآخرة إن يكن بعث، وكأنهم كانوا شاكين فيه، وهذا من فرط جهالتهم، حيث تركوا عبادة الموجد للأشياء، الضار النافع، إلى عبادة ما يُعلم قطعاً أنه لا يضر ولا ينفع. {قل أتنبّئون الله} أتخبرونه {بما لا يعلم} وجوده {في السماوات ولا في الأرض} وهو أن له شريكاً فيهما يستحق أن يعبد. وفيه تقريع وتهكم بهم.
قال ابن جزي: هو رد عليهم في قولهم بشفاعة الأصنام، والمعنى: أن شفاعة الأصنام ليست بمعلومة لله الذي هوعالم بما في السماوات والأرض، وكل ما ليس بمعلوم له فهو عدم محض، ليس بشيء، فقوله: {أتنبئون الله} تقرير لهم على وجه التوبيخ والتهكم، أي: كيف تعلمون الله بما لا يعلم. اهـ. قال ابن عطية: وفي التوقيف على هذا أعظم غلبةٍ لهم، إذ لا يمكنهم إلا أن يقولوا: لا نفعل، ولا نقدر أن نخبر الله بما لا يعلم.
ثم نزه نفسه عن ذلك فقال: {سبحانه وتعالى} أي: تنزيهاً له وتعاظم {عما يشركون} أي: إشراكهم أو عن الشركاء الذين يشركونهم معه. وقرأ الأخوان: بالتاء، أي: عما تشركون أيها الكفار.
الإشارة: في هذه الآية زجر كبير لأهل الدعوى، الذين ادعوا الخصوصية افتراء، ولأهل الإنكار الذين كذبوا من ثبتت خصوصيته، وتسجيل عليهم بالإجرام، وبعدم النجاح والفلاح، وفيها أيضاً: زجر لمن اعتمد على مخلوق في جلب نفع أو دفع ضر، أو اغتر بصحبة ولي يظن أنه يشفع له مع إصراره، وعظيم أوزاره. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآية رقم (19):

{وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19)}
يقول الحق جل جلاله: {وما كان الناس إلا أمةً واحدةً} موحَّدين، على الفطرة الأصلية، أو متفقين على الحق، وذلك في عهد آدم، إلى أن قتل قابيل أخاه هابيل، أو بعد الطوفان إلى زمان اختلافهم، أو الأرواح حيث استخرجهم واستشهدهم، فاتفقوا على الإقرار، ثم اختلفوا، في عالم الأشباح باتباع الهوى والأباطيل، أو ببعثة الرسل فتبعتهم طائفة وكفرت اخرى. {ولولا كلمة سبقتْ من ربك} في اللوح المحفوظ، بتأخير الحكم، أو العذاب الفاصل بينهم إلى يوم القيامة، فإنه يوم الفصل والجزاء، {لقُضي بينهم} عاجلاً {فيما فيه يختلفون} بإهلاك المُبْطِل وإبقاء المحق.
الإشارة: اختلاف الناس على الأولياء كاختلافهم على الأنبياء، أمر سبق به الحكم الأزلي لا محيد عنه، فمن طلب اتفاقهم عليه فهو جاهل بالله وبطريق أهل الله. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآية رقم (20):

{وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20)}
يقول الحق جل جلاله: {ويقولون}؛ يقول الكفار: {لولا}؛ هلا {أُنزلَ عليه آيةٌ} ظاهرة {من ربه} تدل على صدقه، يعاينُها الناس كلها، فتلجئهم إلى الإيمان به، وهذا الأمر على هذا الوجه لم يكن لنبي قط، إنما كانت الآية تظهر معرّضة للنظر، فيهتدي بها قوم، ويكفر بها آخرون، {فقلْ} لهم: {إنما} علم {الغيب لله} مختص به، فلم أَطََّلع عليه حتى أعلم وقت نزولها، ولعله علم ما في نزولها من الضرر لكم فصرفها عنكم، {فانتظروا} نزول ما اقترحتموه، {إني معكم من المنتظرين} لذلك، وهذا وعد قد صدقه الله بنصرته عليه الصلاة والسلام وأخذهم ببدر وغيره، أو من المنتظرين لما يفعل الله بكم لعنادكم وجحودكم الآيات.
الإشارة: ما زالت العامة تطلب من مشايخ التربية الكرامات، فجوابهم ما قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قل إنما الغيب لله} فانتظروا ما يظهر على أيديهم من الهداية والإرشاد، وإحياء البلاد والعباد بذكر الله، وهذا أعظم الكرامة، فإن إخراج الناس عن عوائدهم وعن دنياهم خارق للعادة، سيما في هذا الزمان الذي احتوت فيه الدنيا على القلوب، فلا ترى عالماً ولا صالحاً ولا منتسباً إلا وهو مغروق في بحر ظلماتها، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

.تفسير الآيات (21- 23):

{وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آَيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)}
قلت: {جاءتها} {إذا} وجملة {دعوا}: بدل من {ظنوا} بدل اشتمال؛ لأن دعاءهم من لوازم الظن.
يقول الحق جل جلاله: {وإذا أذقنا الناسَ رحمةً}، كصحة وعافية وخصب، {من بعد ضراءَ مَستْهم}، كمرض أو قحط {إذا لهم مكرٌ في آياتنا} بالطعن فيها، والاحتيال في دفعها، فقد قحط أهل مكة حتى أكلوا الجلود والميتة، ثم رحمهم بالغيث، فطعنوا في آياته بالتكذيب، وكادوا رسوله عليه الصلاة والسلام- {قل اللهُ أسرعُ مكراً} منكم، فقد دبر عقابكم قبل أن تدبروا كيدكم، ووصف مكر الله بالسرعة وإن كان الاستدراج يمهلهم؛ لأنه متيقن واقع لا محالة، وكل آت قريب.
{إنَّ رسلنا} الحفظة {يكتبون ما تمكرون} فنجازيكم عليه. قال البيضاوي: هو تحقيق للانتقام، وتنبيه على أن ما يدبرون في إخفائه لم يَخفْ على الحفظة فضلاً أن يخفى على الله. وعن يعقوب: {يمكرون} بالياء ليوافق ما قبله. اهـ. قال ابن جزي: هذه الآية للكفار، وتتضمن النهي لمن كان كذلك عن غيرهم، والمكر هنا: الطعن في آيات الله وترك شكره، ومكر الله الموصوف بالسرعة هو عقابه لهم، سماه مكراً مشاكلة لفعلهم، وتسمية للعقوبة باسم الذنب. اهـ.
فنزول الرحمة بعد الشدة آية تدل على كمال قدرته. وقد وَرَدَ أنه لما نزل بهم القحط التجأوا إليه صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا محمد؛ إنك جئت تأمر بمكارم الأخلاق، وإن قومك قد هلكوا، فادع الله يغيثنا، فدعا، فنزل عليهم الغيث، فكانت معجزة له عليه الصلاة والسلام.
ثم ذكر آية أخرى فقال: {هو الذي يُسيركم} يقدرته {في البَرِّ والبحر حتى إذا كنتم في الفلك}: السفن، {وجَرَيْنَ بهم} بمن فيهم، عدل عن الخطاب إلى الغيبة للمبالغة، كأنه تذكرة لغيرهم ليتعجب من حالهم، ففيه التفات. ومقتضى القياس: وجرين بكم {بريح طيبةٍ}: لينة الهبوب، {وفَرحُوا بها} لسهوله السير بها، {جاءتها ريحٌ عاصفٌ} أي: شديد الهبوب، {وجاءهم الموجُ من كل مكانٍ} من كل جهة لهيجان البحر حينئذ، {وظنوا أنهم أحيطَ بهم} أي: أهلكوا، أو سُدت عليهم مسالك الخلاص، كمن أحاط به العدو.
قال ابن عطية: ركوب البحر وقت حسن الظن به للجهاد والحج متفق على جوازه، وكذا لضرورة المعاش بالصيد ويتصرف للتجر، وأما ركوبه لطلب الدنيا والاستكثار فمكروه عند الأكثر. قلت: ما لم يكن لبلد تجري فيه أحكام الكفار على المسلمين وإلا حرم. ثم قال: وأما ركوبه وقت ارتجاجه فممنوع، وفي الحديث: «من ركب البحر في ارتجاجه فقد برِئَتْ منه الذمة» وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «البحر لا أركبه أبداً»
وعن علي كرم الله وجهه أنه قال: لولا هذا الآية، لضربت عنق من يركب البحر.
فقال ابن عباس: إني لأعلم كلمات من قالهُن عند ركوب البحر وأصابه عطب فعليّ ديته، قيل: وما هي؟ قال: اللهم يا من له السماوات خاشعة، والأرضون السبع خاضعه، والجبال الراسية طائعة، أنت خير حفظاً وأنت أرحم الراحمين، {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة والسماوات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67] صلى الله على محمد النبي المصطفى، وعلى أهل بيته، وأزواجه وذريته، وعلى جميع النبيين والمرسلين، والملائكة المقربين، {وَقَالَ اركبوا فِيهَا بِسْمِ الله مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [هود: 41]. قال بعض الفضلاء: جربته فصح. اهـ.
ثم قال تعالى في وصف الكفار عند إحاطة البحر بهم: {دعوا الله مخلصين له الدين} من غير إشراك؛ لتراجع الفطرة، وزوال المعارض من شدة الخوف، قائلين: {لئن أنجيتنا من هذه} الشدة {لنكونن من الشاكرين}، {فلما أنجاهم} إجابة لدعائهم {إذ هم يبغون في الأرض} بالكفر والمعاصي، {بغير الحق} أي: سارعوا إلى ما كانوا عليه من البغي والفساد في الأرض بغير حق، واحترز بقوله: {بغير الحق} عن تخريب المسلمين ديار الكفرة، وإحراق زروعهم، وقلع أشجارهم، فإنها إفساد بحق. قاله البيضاوي: قلت: وفي كونه بغياً نظر، والأظهر أن قوله: {بغير الحق} تأكيد لا مفهوم له.
{يا أيها الناس إنما بَغْيُكم على أنفسكم} فإن وباله عائد عليكم، أو على أبناء حنسكم، وذلك {متاع الحياة الدنيا} تتمتعون به ساعة، {ثم إلينا مرجعكم} في القيامة {فنُنبئكم بما كنتم تعملون} بالجزاء عليه.
الإشارة: وإذا أذقنا الناس حلاوة المعرفة والعلم، بعد ضرر الجهل والغفلة، إذا لهم مكر في آياتنا وهم الأولياء والمشايخ، الذين فتح الله بسببهم عليهم بالطعن عليهم والانتقال عنهم، كما يفعله بعض المريدين، أو جُلُّ طلبة العلم، بنسيان مشايخهم ونسيان العهد إليهم، قل الله أسرع مكراً بهم، فيريهم أن الأمداد باقية، تجري عليهم استدراجاً، ثم يحبس ذلك عنهم فتيبس أشجار معانيهم، وتظلم قلوبهم.
ثم قال تعالى: {هو الذي يُسيركم} إليه في بر الشريعة، وبحر الحقيقة، فيقع السير بينهما، فإذا كانت الشريعة أقوى نقص له منها وزاد في حقيقته، وإذا قويت حقيقته نقص له منها إلى شريعته، هكذا حتى تعتدلا، فتكمل تربيته، فإذا ركبوا سفن الأفكار وساروا بأرواحهم في تيار البحار، فخاضوا بأفكارهم بحار التوحيد وأسرار التفريد، وجرت أفكارهم في عالم الملكوت بريح طيبة وهي ريح السلوك جاءتها ريح عاصف، وهي الواردات الإلهية، تأتي من حضرة القهار، لا تصادم شيئاً إلا دمغته، فإذا خافوا على نفوسهم صدمات الجذب او المحْو؛ دََعوا الله مخلصين له الدين، فلما ردهم إلى السلوك اشتغلوا برياضة نفوسهم بالمجاهدة والمكابدة، فبغوا عليها كما بغت عليهم في أيام غفلتهم. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (24- 25):

{إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)}
يقول الحق جل جلاله: {إنما مَثَلُ الحياةِ الدنيا} في سرعة تقضيها، وذهاب نعيمها بعد إقبالها، واغترار الناس بها، {كماء أنزلناه من السماءِ فاختلط} أي: اشتبك {به نباتُ الأرضِ} حتى اختلط بعضه ببعض، {مما يأكلُ الناسُ والأنعام} من الزرع والبقول والحشيش، {حتى إذا أخذت الأرضُ زخرفها} أي: زينتها وبهجتها بكمال نباتها، {وازّينتْ} أي: تزينت بأصناف النبات وأشكالها وألوانها المختلفة؛ كعروس أخذت من ألوان الثياب والحلي فتزينت بها.
{وظن اهلُها} أي: أهل الأرض {أنهم قادِرُون عليها} متمكنون من حصدها ورفع غلتها، {أتاها أمرُنا} أي: بعض الجوائح، كالريح والمطر، {ليلاً أو نهار فجعلناها} أي: زرعها {حصيداً}: شبيهاً بما حصد من أصله، {كأن لم تَغنَ}: كأن لم تُقم {بالأمس}، أو كأن يغن زرعها، أي: لم ينبت. والمراد: تشبيه الدنيا في سرعة انقضائها بنبات اخضرَّ ثم صار هشيماً، {كذلك نُفَصِّلُ الآيات لقوم يتفكرون} ويتدبرون عواقب الأموار، فيعلمون أن الدنيا سريعة الزوال، وشيكة التغير والانتقال، فيزهدون فيها ويجعلونها مزرعة لدار السلام، التي هي دار البقاء.
وهي التي دعا إليها عبادة بقوله: {والله يدعو إلى الدار السلام} أي: السلامة من الفناء وجميع الآفات، أو دار الله الذي هو السلام. وتخصيص هذا الاسم للتنبيه على ذلك، أو دار يُسلم اللهُ والملائكةُ فيها على من يدخلها، وهي الجنة، {ويهدي من يشاء} توْفِيقَه {إلى صراط مستقيم}، التي توصل إليها وإلى رضوانه فيها، وهو الإسلام والتدرُّع بلباس التقوى، وفي تعميم الدعوة وتخصيص الهداية بالمشيئة دليل على أن الأمر غير الإرادة، وأن المُصِرّ على الضلالة لم يرد الله رشده. قاله البيضاوي.
الإشارة: ما ذكر الحق تعالى في هذا الآية هو مثال لمن صرف همته إلى الدنيا، وأتعب نفسه في جمعها، فبنى وشيد وزخرف وغرس، فلما أشرف على التمتع بذلك اختطفته المنية، فلا ما كان أمَّل أدرك، ولا إلى ما فاته من العمل الصالح رجع.
وفي بعض خطبه عليه الصلاة والسلام أنه قال: «أما رأيتم المؤاخَذين على الغرة، المزعَجين بعد الطمأنينة، الذين أقاموا على الشبهات، وجنحوا إلى الشهوات، حتى أتتهم رسلُ ربهم، فلا ما كانوا أمّلوا أدركوا، ولا ما فاتهم رجعوا، قدِموا على ما قدَّموا، وندموا على ما خلفوا، ولم ينفع الندم وقد جف القلم». وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: «لا تخدعنكم زخارف دنيا دنية عن مراتب جنات عالية، فكأنْ قد كشف القناع، وارتفع الارتياب ولاقى كل امرئ مستقره، وعرف مثواه ومنقلبه».
ورُوي عن جابر رضي الله عنه أنه قال: شهدت مجلساً من مجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ أتاه رجل أبيض، حسن الشعر واللون، فقال: السلام عليك يا رسول الله، قال: «وعليك السلام». قال: يا رسول الله، ما الدنيا؟ فقال: «حلم النائم، وأهلها مجازَون ومعاقبون». قال: يا رسول الله، فما الآخرة؟. قال: «الأبد، فريق في الجنة، وفريق في السعير» قال: يا رسول الله، فما الجنة؟ قال «ترك الدنيا بنعيمها أبداً» ثم قال: فما خير الأمة؟ قال «الذي يعجل بطاعة الله» قال: فكيف يكون الرجل فيها؟ أي في الدنيا قال «متشمراً كطالب قافلة» قال: وكم القرار بها؟ قال «كقدر المتخلف عن القافلة» قال: فكم بين الدنيا والآخرة؟ قال «كغمضة عين». ثم ذهب الرجل فلم يُر، فقال صلى الله عليه وسلم: «هذا جبريل أتاكم يزهدكم في الدنيا».
وقال الورتجبي عند قوله: {والله يدعو إلى دار السلام}: الله تعالى يدعو العبادَ من هذه الدار الفانية إلى الدار الباقية، لئلا يفتتنوا بزخرفها وغرورها، وليصلوا إلى جواره، ونعيم مشاهدته. اهـ.
قال المحشي: قلت: وذلك أن أعلى اللذات التحقق بصفات الربوبية، وهي محبوبة للقلب والروح بالطبع، لما فيه من المناسبة لها. ولذلك قال: {قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85]، ثم المناسب إنما هو بقاء لا فناء وعز لا ذل فيه، وغنى لا فقر فيه، وكمال لا نقص فيه، وأمن لا خوف فيه، وهذا كله من أوصاف الربوبية، وحق كل عبد أن يطلب ملكاً عظيماً لا آخر له، ولا يكون ذلك في الدنيا لانصرافها وشوبها بآلام مكدّرات، وإنما ذلك في الآخرة ولكن الشيطان بتلبيسه وحسده يدعو إلى ما لا يدوم من العاجلة، متوسلاً بما في الطبع من العجلة، والله يدعو إلى المُلك الحقيقي، وذلك بالزهد في العاجل والراحة منه عاجلاً، ليكون ملكاً في الدنيا، وبالقرب من الله والرغبة في التحقق به وبأوصافه ليكون ملكاً في الآخرة.
وفي الطيبي: قيل لابن أدهم: ما لنا ندعو فلا نجاب؟ فقال: لأنه دعاهم فلم تُجيبوه، ثم قرأ: {والله يدعو إلى دار السلام} {وَيَسْتَجِيبُ الذين آمَنُواْ} [الشورى: 26]. اهـ.