فصل: تفسير الآية رقم (26):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (26):

{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26)}
يقول الحق جل جلاله: {للذين أحسنوا} فيما بينهم وبين ربهم بتوحيده وعبادته، وفيما بينهم وبين عباده بكف أذاهم وحمل جفاهم، لهم {الحسنى} أي: المثوبة الحسنى، وهي الجنة وزيادة، وهي النظر إلى وجهه الكريم، أو الحسنى: ما يثيب به على العمل، والزيادة: ما يزيد على ما يستحق العبد تفضلاً كقوله: {وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ} [النساء: 173]، أو الحسنى: مثل حسناتهم، والزيادة: التضعيف بعشر أمثالها إلى سبعمائة أو أكثر، {ولا يرهقُ وجوهَهم} لا يغشاها {قَتَرٌ}: غبرة فيها سواد تغبر الوجه {ولا ذِلَّةٌ} أي: هوان، والمعنى لا يرهقهم ما يرهق أهل النار، أو لا يرهقهم ما يوجب ذلك من خزي وسوء حال، {أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون}: دائمون، لا زوال لهم عنها، ولا انقراض لنعيمها، بخلاف الدنيا وزخرفها فقد تقدم مثالها.
الإشارة: للذين أحسنوا بالانقطاع إلى الله والزهد فيما سواه الحسنى، وهي المعرفة، وزيادة، وهي الترقي في المقامات، والعروج في سماء المشاهدات، والازدياد من الأسرار والمكاشفات، وترادف المناجاة والمكالمات ولا يغشى وجوههم قتر ولا ذلة، بل وجوههم بنور البقاء مستبشرة، وهم خالدون في نعيم الفكرة والنظرة.

.تفسير الآية رقم (27):

{وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27)}
قلت: {والذين}: مبتدأ على حذف مضاف، أي: جزاء الذين كسبوا، {وجزاء}: خبر، أو على تقدير لهم أو معطوف على {للذين أحسنوا} على مذهب من يُجوز: في الدار زيد والحجرةِ عمرو. أو {جزاء}: مبتدأ، و{بمثلها}: خبر، والجملة حينئذٍ كبرى. ومن قرأ {قِطعَاً} بفتح الطاء فجمع قطيع، وهو مفعول ثان، و{مظلماً}: حال من الليل، ومن قرأ {قِطعَاً} بالسكون فمصدر، و{مظلماً} نعت له، أو حال منه أو من الليل.
يقول الحق جل جلاله: {والذين كسَبوا السيئات} كالكفر والشرك، وما يتبعهما من المعاصي، جزاؤهم {سيئة بمثلها} لا يزاد عليها، فلا تضاعف سيئاتهم، عدلاً منه سبحانه، {وترهقُهم ذِلةٌ} أي: هوان عند حشرهم للنار، {ما لهم من الله من عاصم} يعصمهم من عذاب الله وغضبه، {كأنما أُغشيَت وجوهُهُم قِطعَاً من الليل مظلماً}، أي: يحشرون مسودة وجوههم، كأنما أُكْسِيَتْ وجوههم قطْعاً كثيرة من الليل المظلم، أو قطْعاً مظلماً من الليل {أولئك أصحابُ النار هم فيها خالدون}.
قال البيضاوي: هذا مما يحتج به الوعيدية يعني المعتزلة في تخليد العصاة. والجواب: أن الآية في الكفار؛ لاشتمال السيئات على الكفر والشرك، ولأن الذين أحسنوا يتناول الكثير من أهل القبلة، فلا يتناوله قسيمُه. اهـ.
الإشارة: جزاء المعاصي البُعد والهوان، وتسْويد وجوه القلوب والأبدان، كما أن جزاء الطاعة التقريب والإبرار، وتنوير وجوه القلوب والأسرار والإحسان، وفي ذلك يقول ابن النحوي في منفرجته:
وَمَعَاصِي اللَّهِ سَماجَتُها ** تَزَدَانُ لِذي الخُلْقِ السَّمِج

وَلِطَاعَتِه وَصَبَاحَتِهَا ** أنْوارُ صَبَاحٍ مُنْبَلِجِ

قيل لبعض الصالحين: ما بال المجتهدين من أحسن الناس خلَقاً؟ قال: لأنهم خلَوْا بالرحمن فألبسهم نوراً من نوره. اهـ. نعم، إن صحب المعصية توبةٌ وانكسارٌ، وصحب الطاعة عز واستكبارُ، انقلبت حقيقتهما، فقد تُقرب المعصية وتبعد الطاعة. وفي الحكم: معصية أورثت ذلاً وافتقاراً خير من طاعة أورثت عزاً واستكباراً، وقال أيضاً: وربما قضى عليك بالذنب فكان سبب الوصول.

.تفسير الآيات (28- 30):

{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29) هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30)}
قلت: {مكانكم}: مفعول، أي: الزموا مكانكم، و{أنتم} تأكيد للضمير المنتقل إليه، و{شركاؤكم} عطف عليه.
يقول الحق جل جلاله: {و} اذكر {يوم نحشرهم جميعاً} يعني فريق الحسنى، وفريق النار، {ثم نقول للذين أشركوا} الزموا {مكانَكم} من الخزي والهوان، حتى تنظروا ما يُفعل بكم، {أنتم شركاؤُكم} معكم، تمثيل حينئذ معهم، {فزَيَّلنا}: فرَّقنا {بينهم} وقطعنا الوُصل التي كانت بينهم، {وقال شركاؤهم}، ينطقها الله تعالى تكذيباً لهم فتقول: {ما كنتم إيانا تعبدون}، وإنما عبدتم في الحقيقة أهواؤكم؛ لأنها الأمارة لكم بالإشراك. وقيل: المراد بالشركاء: الملائكة والمسيح.
{فكفى بالله شهيداً بيننا وبينكم}، فإنه العالم بحقيقة الحال، {إن كنا} أي: إنه الأمر والشأن كنا {عن عبادتكم لغافلين}، لم نأمركم بها ولم نرضها. قال ابن عطية: وظاهرة هذه الآية أن محاورتهم إنما هي مع الأصنام دون الملائكة وعيسى، بدليل القول لهم: {مكانكم أنتم وشركاؤكم}. ودون فرعون، ومن عُبد من الجن، بدليل قوله: {إن كنا عن عبادتكم لغافلين}، وهؤلاء لم يغفلوا قط عن عبادة من عبدهم. اهـ.
{هنالك تَبْلُو}: في ذلك المقام تبلو {كلُّ نفس ما أسلفتْ} أي: تختبر ما قدمت من الأعمال خيراً أو شراً؛ فتعاين نفعه وضرره، وقرأ الأخوان: {تتلوا} من التلاوة، أي: تقرأه في صحائف أعمالها، أو من التلوِ، أي: تتبع عملها فتقودها إلى الجنة أو النار. والمعنى: تفعل بها فعل المختبر لحالها المعرّف لسعادتها وشقاوتها، فتعرف ما أسلفت من أعمالها، {ورُدُّوا إلى النار}: إلى جزائه إياها بما أسلفوا، {مولاهُمُ الحقّ} أي: متولِّي أمورهم على الحقيقة، لا ما اتخذوه مَولى بافترائهم، {وضلَّ} أي: ضاع وغاب {عنهم ما كانوا يفترون} من أن آلهتهم تشفع لهم، أو كانوا يدّعون أنها آلهة.
الإشارة: من أحب شيئاً كان عبداً له، ومن عبد شيئاً حُشر معه. رُوي: أن الدنيا تبعث على صورة عجوز شمطاء زرقاء، تنادي: أين أولادي وأحبابي؟ ثم تذهب إلى جهنم فيذهبون معها. فمن عبد دنياه وهواه وقف موقف الهوان، ومن أحب مولاه ولم يحب معه شيئاً سواه، وقف موقف العز والتقريب في مواطن الإحسان. فهناك تفضح السرائر، وتكشف الضمائر، وتظهر مقامات الرجال، ويفتضح من أسر النقص وادعى الكمال فيرتفع المقربون إلى شهود مولاهم الحق، ويبقى المدعون مع حظوظهم في حجاب الحس والخلق. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (31- 33):

{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33)}
يقول الحق جلاله: {قل} لهم: {من يرزقُكُم من السماء} بإنزال الأمطار، وإنبات الحبوب، فإن الأرزاق تحْصل بأسباب سماوية ومواد أرضية، أو من كل واحد منهما؛ توسعة عليكم، أو من السماء لأهل التوكل، {و} من {الأرض} لأهل الأسباب. وقل لهم أيضاً: {أمَّن يملك السمعَ والأبصارَ} أي: من يستطيع خلقهما وتسويتهما، أو من يحفظهما من الآفات مع كثرتهما، وسرعة انفعالهما من أدنى شيء، أو مَن أمرهُما بيده، إن شاء ذهب بهما؟ وقل لهم أيضاً: {ومن} يقدر أن {يُخرج الحيَّ من الميت ويخرجُ الميت من الحيَّ}، فيخرج الحيوان من النطفة من الحيوان؟ وهكذا.
وقل لهم أيضاً: {ومن يُدبَّرُ الأَمرَ} أي: ومن يلي تدبير العالم، من عرشه إلى فرشه؟ وهو تعميم بعد تخصيص، {فسيقولون الله}، لا محيص لهم عن الإقرار بسواه؛ إذ لا يقدرون على المكابرة والعناد في ذلك؛ لفرط وضوحُه. {فقل أفلا تتقون} عقاب الله وغضبه؟ بسبب إشراككم معه ما لا يشاركه في شيء من ذلك، {فذلكم الله ربكم الحقُّ} أي: المتولي لهذه الأمور هو ربكم، الذي يستحق أن تعبدوه، الثابت ربوبيته، لأنه هو الذي أنشأكم وأحياكم ورزقكم ودبر أموركم، دون من تعبدوه، الثابت ربوبيته، لأنه هو الذي أنشأكم وأحياكم ورزقكم ودبر أموركم، دون من تعبدونه من الأوثان. {فماذا بعد الحقِّ إلا الضلال} أي: ليس بعد الحق إلا الضلال، فمن تخطى الحق الذي هو عبادة الله وقع في الضلال.
قال ابن عطية: حكمت هذه الآية بأنه ليس بين الحق والضلال منزلة ثالثة في هذه المسألة التي هي توحيد الله تعالى وكذلك هو الأمر في نظائرها، وهي مسائل الأصول التي الحقّ فيها في طرف واحد، لأن الكلام فيها إنما هو في تقرير وجود ذات كيف هي، وذلك بخلاف مسائل الفروع التي قال تعالى فيها: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة: 48]. اهـ.
{فأَنَّى تُصرَفُون} عن الحق إلى الضلال.
{كذلك حقت كلمة ربك من الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون} أي: كما حق الحق في الاعتقادات؛ {كذلك حقتْ} أي: وجبت وثبتت {كلمةُ ربك} في اللوح المحفوظ {أنهم لا يؤمنون}، وذلك في قوم مخوصين. قال البيضاوي: أي: كما حقت الربوبية لله، أو أن الحق بعده الضلال، أو أنهم مصروفون عن الحق، كذلك حقت كلمة الله وحكمه، {على الذين فسقوا}: تمردوا في كفرهم، وخرجوا عن حد الإصلاح {أنهم لا يؤمنون}، وهو بدل من الكلمة، أو تعليل لها، والمراد بها العِدَة بالعذاب. وقرأ نافع وابن عامر: {كلمات} بالجمع هنا، وفي آخر السورة، وفي غافر. اهـ.
الإشارة: قل من يرزقكم من سماء الأرواح علوم الأسرار والحقائق.
ومن أرض النفوس علوم الشرائع والطرائق؟ أمَّن يملك السمع والابصار فيصرفهما إلى سماع الوعظ والتذكار، ونظر التفكر والاعتبار؛ ليلتحق صاحبهما بالمقربين والأبرار، وقدَّم السمع لأنه أنفع لإيصال النفع إلى القلب من البصر. أم من يخرج الحي من الميت، فيخرج العارف من الجاهل، والذاكر من الغافل، أو يخرج القلب الحي من الميت؛ بحيث يحييه بالمعرفة بعد الجهل؟ ومن يدبر الأمر لخواص عباده؟ أي: تدبيراً خاصاً، بحيث يقوم لهم بتدبير شؤونهم، حيث لم يدبروا معه. فمن لم يدبر دبر له، فالفاعل لهذه الأمور هو الحق المنفرد بالوجود، فكل ما سواه باطل، كما قال القائل:
ألا كُلُّ شَيءٍ مَا خَلاَ اللًّه بَاطِلُ ** وَكُلُّ نَعِيمٍ لا مَحَالَةَ زَائِلُ

قال صلى الله عليه وسلم: «أَصْدَقُ كَلِمَةُ قَالَها الشاعِرُ كَلَِمَةُ لَبيدٍ: أَلا كُلُ شيءٍ...» إلخ. فكل من صُرف عن شهود الحق إلى نظر السِّوى فهو في ضلال. قال تعالى: {فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون}، لكن من حقت عليه كلمة الشقاء لا يُؤمن بأهل الفناء والبقاء، فلا يزال في تعب وشقاء؛ إذ لا طريق إلى شهود الحق وإفراده بالوجود إلا بصحبة أهل الفناء والبقاء، الموصوفين بالكرم والجود، واعلم أن كل من لم يصل إلى مقام الشهود، فهو ضال عندهم في مذهبهم، وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (34- 35):

{قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمْ مَنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35)}
قلت: من قرأ {يَهَدّي} بفتح الهاء، فأصله: يهتدي، نُقِلت حركة التاء إلى الهاء، وأدغمت في الدال. ومن قرأ بكسر الهاء فعلى التقاء الساكنين، حين سكنت التاء لتدغم. ومن كسر الياء فعلى الاتباع، ومن قرأ بالاختلاس فإشارة إلى عروض الحركة، ومن قرأ: {يهدي} بالسكون، فمعناه يهدي غيره.
يقول الحق جل جلاله: {قل} لهم: {هل من شركائكم من يبدأُ الخلقَ} بإظهاره للوجود {ثم يُعيده} بالبعْث. فإن قلت كيف يحتج عليهم بالإعادة، وهم لا يعترفون بها؟ فالجواب: أنها لظهور برهانها وتواتر أخبارها كأنها معلومة عندهم، فلو أنصفوا ونظروا لأقروا بها، ولذلك أمر الرسول بأن ينوب عليهم في الجواب، فقال: {قل اللهُ يبدأُ الخلق ثم يُعيده}: لأن لجاجهم وجحودهم لا يتركهم يعترفون بها، ولذلك قال لهم: {فأنى تُؤفكون}: تُصرفون عن سواء السبيل، و{قل} لهم أيضاً: {هل من شركائكم من يهدي إلى الحق} بنصب الدلائل، وإرسال الرسل، والتوفيق للنظر والتدبر؟ {قل اللهُ يهدي للحق}. قال البيضاوي: وهدى كما يعدى بإلى؛ لتضمنه معنى الانتهاء، يعدى باللام للدلالة على منتهى غاية الهداية. انظر تمامه.
{أفمن يَهدي إلى الحق} وهو الحق {أحقُّ أن يُتبع أمَّن لا يهدي} إلى شيء، فأولى ألا يهدي غيره {إِلا أن يُهدى}؟ أي: إلا أن يهديه غيره، وهي معبوداتهم، كالملائكة والمسيح وعزير، فلا يستطيعون أن يهدوا أنفسهم إلا أن يهديهم الله. وحمل ابن عطية الآية على الأصنام، وقال: معنى قوله: {أمن لا يهدي إلا أن يهدى} هي عبارة عن أنها لا تنتقِل إلا أن تنقلَ. قال: ويحتمل أن يكون ما ذكره الله من تسبيح الجمادات؛ هو اهتداؤه. ويحتمل أن يكون الاستثناء في اهتدائها إشارة إلى مناكرة الكفار يوم القيامة حسبما مضى في هذه السورة. اهـ. {فما لكم كيف تحكمون} أي: أيُّ شيء حصل لعقولكم، فكيف تحكمون بشيء يقتضي العقل بطلانه بأدنى تفكر؟.
اِلإشارة: في الآية تحريض على رفع عن السِّوى، إلى من بيده البدء والإعادة، والإرشاد والهداية، إلا من جعل على يديه الإرشاد والهداية، وهم الأنبياء والأولياء والعلماء الأتقياء، فالخضوع إليهم خضوع إلى الله على الحقيقة، واتباعهم اتباع لله على الحقيقة، وكل من تبع غيرهم فإنما يتبع الظن والهوى دون الحق.

.تفسير الآية رقم (36):

{وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36)}
يقول الحق جل جلاله: {وما يتبع} أكثر المشركين في اعتقادهم {إلا ظَنّاً} مستنداً إلى خيالات فارغة وأقيسة فاسدة، كقياس الغائب على الشاهد، والخالق على المخلوق، بأدنى مشاركة موهوبة. والمراد بالأكثر الجميع، أو من ينتسب منهم إلى تمييز ونظر، ولم يرضى بالتقليد الصرف، {إن الظن لا يغنى من الحق}؛ من علم التحقيق {شيئاً}، أو {من} الاعتقاد {الحق شيئاً} من الإغناء. قال البيضاوي: وفيه دليل على أن تحصيل العلم في الأصول واجب، وأن الاكتفاء بالتقليد والظن غير جائز. اهـ. وعدم الاكتفاء بالظن إنما هو في الأصول، وأما الفروع فالظن فيها كاف. {إن الله عليم بما يفعلون} هذا وعيد لهم على اتباعهم الظن، وإعراضهم عن النظر والاستدلال، وعلى عدم اتباعهم من يدلهم على الحق. والله تعالى أعلم.
الإشارة: الناس على قسمين: أهل تصديق وإيمان، وأهل شهود وعيان. فأهل التصديق والإيمان هم عامة أهل اليمين، وهم أكثر المسلمين من العلماء الصالحين، يستندون في معرفتهم بالله إلى الدليل والبرهان، فتارة يقوى عندهم الدليل فيترقَّون عن اتباع الظن إلى الجزم والتصميم، وتارة يضعف فيرجعون إلى اتباع الظن الراجح.
وأما أهل الشهود والعيان، فقد غابت عنهم الأكوان في شهود المكوّن، فصاروا يستدلون بالله على وجوه غيره، فلا يجدونه، حتى قال بعضهم: لو كُلفت أن أرى غيره لم أستطع فإنه لا غير معه حتى اشهده، محال أن تشهده وتشهد معه سواه. وقال شاعرهم:
مذْ عَرَفتُ الإِله لَم أَرَ غَيراً ** وَكَذَا الغَيرُ عِندَنَا مَمنُوعُ

مُذ تَجَمَّعَتُ ما خَشِيتُ افتراقاً ** فَأَنا اليَومَ وَاصِلٌ مَجمُوعُ

وقال آخر:
عجبتُ لِمْنَ يَنبَغي عَلَيكَ شَهَادَةً ** وَأَنتَ الَّذي أَشهَدتُه كُلَّ شَاهِد

وقال في الحكم: (شتان بين من يستدل به أو يستدل عليه، المستدل به عرف الحق لأهله، فأثبت الأمر من وجود أصله، والاستدلال عليه من عدم الوصول إليه، وإلا... فمتى غاب حتى يستدل عليه، ومتى بَعُدَ حتى تكون الآثار هي التي توصل إليه!).
ولا مطمع لأحد في التطهير من الظنون والأوهام إلا بصحبة شيخ كامل عارف بالله، فيلقي إليه نفسه، فلا يزال يسير به، حتى يقول له: ها أنت وربك، فحينئذٍ ترتفع عنه الشكوك والظنون والأوهام، ويبلغ في مشاهدة الحق إلى عين اليقين وحق اليقين. وأما قول الجنيد رضي الله عنه: (أدركت سبعين صديقاً، كلهم يعبدون الله على الظن والوهم، حتى الشيخ أبا يزيد، ولو أدرك صبياً من صبياننا لأسلم على يديه). فقال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه: معنى كلامه: أنهم ظنوا وتوهموا أنهم بلغوا إلى مقام النهاية، بحيث لا مقام فوق ذلك، ولو أدرك أحدهُم صبيَّاً لنبههم على أن ما فاتهم أكثر مما أدركوا ولانقادوا له. اهـ. بالمعنى. والله تعالى أعلم.