فصل: تفسير الآيات (36- 39):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (36- 39):

{وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آَمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39)}
يقول الحق جل جلاله: {وأوحي إلى نوح انه لم يؤمن من قومك} بعد هذا {إلا من قد آمن} قبل، وكان هذا الوحي بعد ان مكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله تعالى: فكان الرجل منهم يأتيه بابنه، ويقول: يا بُني لا تصدق هذا الشيخ، فهكذا عَهد إليَّ أبي وجَدّي. فلما نزل الوحي وأيس من إيمانهم دعا عليهم. وقال له تعالى: {رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً} [نوح: 26]. قال له تعالى: {فلا تبْتئسْ}: تحزن وتغتم {بما كانوا يفعلون} من التكذيب والإيذاء، أقنطه أولاً من إيمانهم، ونهاه أن يغتم لأجلهم.
ثم أمره بصنع السفينة، فقال: {واصنع الفلكَ بأعيُننا}؛ بحفظنا ورعايتنا، أو بمرأى منا ومسمع غير محتاج إلى آلة حفظ وحرس، {ووحينَا} إليك، كيف تصنعها، رُوي أنه لما جهل صنعها أوحى الله إليه: أن اصنعها على مثال جُؤجؤ الطائر. وروي أيضاً: انها كانت مريعة الشكل، طويلة في السماء، ضيقة الأعلى، وأن المراد منها إنما كان الحفظ، لا سرعة المشي، والأول أرجح: أعني: على صورة ظهر الطائر. قال في الأساس: عملت سفينة نوح عليه السلام من ساج، وهو خشب أسود، رزان، لا تكاد الأرض تبليه، من الهند. اهـ. وفي رواية أخرى: صنعها نوح عليه السلام، وجبريل يصف له، فكان أسفلها كأسفل السفن وأعلاها كالسقف، وداخلها كالبيت، ولها أبواب في جوانبها. اهـ.
ثم إن نوحاً عليه السلام لما تحقق هلاك قومه، رق عليهم، فَهَمَّ ان يُراجع الله في شأنهم، فقال له تعالى: {ولا تخاطبني}؛ ولا تراجعني {في الذين ظلموا}، ولا تدع باستدفاع العذاب عنهم؛ {إنهم مُغرقون}: محكوم عليهم بالغرق لا محالة. فلا سبيل إلى كفه.
{ويصنعُ الفلكَ}، حكي ما وقع بصيغة الحال؛ استحضاراً لتلك الحال العجيبة، {وكلمَّا مرَّ عليه ملأٌ}: جماعة {من قومه سَخرُوا منه}: استهزؤوا به: لأنه كان يعمل السفينة في برية بعيدة من الماء. أو أن عزته تنفي صنعته، فكان يضحكون منه، ويقولون له: صرت نجاراً بعد أن كنت نبياً. {قال} لهم: {إنْ تسخروا منا فإنا نسخرُ منكم كما تسخرون}، فنسخر منكم حين يأخذكم في الدنيا الغرق، وفي الآخرة الحرق. {فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يُخزيه}، وهو: الغرق، والحرق بعده. {ويَحِلُّ} أي: ينزل {عليه عذاب مقيمٌ}: دائم، وهو النار يوم القيامة.
الإشارة: إذا تحقق الولي بإعراض الخلق عنه، وأيس منهم أن يتبعوه، فلا يحزن، ولا يغتم منهم، ففي الله غنى عن كل شيء، وليس يُغني عنه شيء. وفي إعراض الخلق راحة لقلب الولي ولبدنه، فإذا سخروا منه فليقل في نفسه: إن تسخروا منا اليوم، فنسخر منكم حين تحقق الحقائق، فيرتفع المقربون، وينسفل الباطلون، وكان شيخ أشياخنا سيدي علي العمراني رضي الله عنه كثيراً ما يقول: ليت القيامة قامت، حتى يظهر الرجال من غيرهم. أو ما هذا معناه.

.تفسير الآية رقم (40):

{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آَمَنَ وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40)}
قلت: {حتى}: غاية لقوله: {ويصنع الفلك}، أو ابتدائية. و{اثنين} مفعول باحمل، و{أهلك}: عطف عليه.
يقول الحق جل جلاله: {حتى إذا جاء أمرُنا} بغرقهم، أو أمرنا للأرض بالفوران وللسحاب بالإرسال، {وفار التنورُ}؛ نبع الماء منه وارتفع كالقدر تفور. والتنور: تنور الخبز، ابتدأ منه النبوع، على خرق العادة، أرادت ابنته أن تسجره ففار الماء في النار، رُوي أنه كان تنور آدم، خلص إلى نوح فكان يوقد فيه، وقيل: كان في الكوفة في موضع مسجدها. وقيل: في الهند، وقيل: التنور: وجه الأرض. قاله ابن عباس.
فلما فار بالماء {قلنا احْمِلْ فيها}؛ في السفينة، {من كل زوجين اثنين}؛ من كل نوح من الحيوان؛ ذكراُ وأنثى رُوي أن نوحاً عليه السلام وقف على باب السفينة، وحشر إليه الوحوش، فكان الذكر يقع في يمينه، والأنثى في شماله، وهو يُدخل في السفينة. وآخر ما دخل الحمار، فتمسك الشيطان بذنبه؛ فزجره نوح فلم ينعق، فدخل معه، فجلس عند مؤخر السفينة. ورُوي أن نوحاً عليه السلام آذاه نتن الزبل والعذرة، فأوحى الله إليه: أن امسح على ذنب الفيل، فخرج من انفه خنزير وخنزيرة، فكفياه أمر ذلك الأذى. ورُوي أن الفأر آذى الناس فاوحى الله إليه: أن امسح على جبهة الأسد ففعل، فعطس فخرج منه هرٌّ وهرَّة. فكفياه أمر الفأر. انظر ابن عطية.
{و} احمل أيضاً {أهْلكَ} أي: امرأتك وبنيك ونساءهم، {إلا من سبقَ عليه القولُ}: أنه من المغرقين يريد: ابنه كنعان وأمه وَاعِلة، فإنهما كانا كافرين. {و} احمل {من آمن} بك. قال تعالى: {وما آمن معه إلا قليلٌ}، قيل: كانوا تسعةَ وسبعين: زوجته المسلمة، وبنوه الثلاثة: حام وسام ويافث، ونساؤهم، واثنان وسبعون رجلاً وامرأة من غيرهم. وفي بعض الآثار: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «سام أبو العرب، ويافث أبو الروم، وحام أبوالحبش». قاله ابن عطية: وسيأتي خلافه في سورة الصافات. وهو الراجح. وقال البيضاوي: رُوي ان نوحاً عليه السلام اتخذ السفينة في سنتين، وكان طولها ثلاثمائة ذراع، وعرضها خمسين، وسمكها ثلاثين. وجعل لها ثلاثة بطون. فحمل في أسفلها الدواب والوحش، وفي وسطها الإنس، وفي أعلاها الطير. اهـ. والله تعالى أعلم.
الإشارة: حتى إذا جاء أمرنا بكمال الطهارة من العيوب، وفار تنور القلب بعلم الغيوب وجرت سفينة الفكرة في بحار التوحيد، وأسرار التفريد، قلنا: احمل فيها من كل زوجين اثنين؛ علم الشريعة والحقيقة، وعلم الحكمة القدرة، وعلم الحس والمعنى، وعلم الأشباح والأرواح، وعلم الملك والملكوت. وتحمل من تمسك بها من أهل المحبة والوداد، إلا من سبق عليه القول بالمكث في مقام البعاد، وتحمل من آمن بخصوصيتها من العباد، فتقربه من مسلك التوفيق والتسديد، حين يمن الحق تعالى عليها بالقرب من أهل المحبة والوداد. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (41- 43):

{وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)}
قلت: {مَجْريها ومرساها}: مشتقان من الجري والإرسال، أي: الثبوت، وهما إما ظرفان زمانيان، أو مكانيان، وإما مصدران، والعامل فيهما: ما في {بسم الله} من معنى الفعل. وإعراب {بسم الله}: إما حال مقدرة من الضمير في {اركبوا}، أي: اركبوا متبركين بسم الله، أو قائلين: بسم الله، وقت إجرائها وإرسائها. أو {مجراها ومرساها}: مبتدأ، و{بسم الله}: خبر: فيوقف على {فيها}؛ أي: إجراؤها وإرساؤها حاصل بسم الله.
يقول الحق جل جلاله: وقال نوح لمن كان معه: {اركبوا} في السفينة وسيروا فيها. رُوي أنهم ركبوا أول يوم من رجب، وقيل: يوم العاشر منه، واستوت على الجودي يوم عاشوراء، {بسم الله مَجْريها ومُرْساها} أي: متبركين بسم الله وقت إجرائها، أو قائلين بسم الله وقت إجرائها وإرسائها، رُوي: أنه عليه السلام كان إذا أراد أن يجري السفينة قال: بسم الله، فتجري، وإن أراد أن يوقفها قال: بسم الله، فتوقف. {أن ربي لغفور رحيم}، فلولا مغفرته لما فرط منكم، ورحمته إياكم، لَما أنجاكم. فركبوا مسلمين وساروا.
{وهي تجري بهم في موج كالجبال}، والموج: ما يرتفع من الماء عند اضطرابه، أي: كل موجة من الطوفان كالجبال في تراكمها وارتفاعها، وما قيل من أن الماء أطبق ما بين السماء والأرض، وكانت السفينة تجري في جوفه، لم يثبت. وكيف يكون الموج كالجبال؟ والمشهور أنه علا شوامخ الجبال، خمسة عشر ذراعاً، وإنْ صح ذلك فلعل ارتفاع الموج كالجبال كان قبل التطبيق.
{ونادى نوحٌ ابنَه}، كان كنعمان. وقيل: كان لغير رشدة، وهو خطأ؛ لأن الأنبياء عُصمت من أن تزني أزواجهم. والمراد بالخيانة في قوله: {فَخَانَتَاهُمَا} [التحريم: 10]. في الدين. {وكان في معزلٍ}؛ في ناحية، عزل نفسه فيها عن أبيه، أو عن دينه، فقال له أبوه: {يا بُنيَّ اركب معنا} في السفينة، {ولا تكن مع الكافرين} في الدين أو في الأعتزال عنا، وكان يظنه مؤمناً، لإخفاء كفره. {قال سآوي إلى جبل يعصمُني}؛ يمنعني {من الماء}، فلا أغرق، {قال لا عاصمَ اليوم من أمر الله إلا من رحم ربي} أي: إلا الراحم، وهو الله فلا عاصم إلا أرحم الراحمين. أو: {لا عاصم}؛ لا ذو عصمة إلا من رحم الله، فلا معصوم إلا من رحمه الله. فالاستثناء حينئذٍ متصل. أو: لا عاصم اليوم من أمر الله لكن من رحمه الله فهو المعصوم. أو: لا ذو عصمة لكن الراحم يعصم من شاء، والاستثناء منقطع.
{وحال بينهما الموجُ}؛ بين نوح وابنه، {فكان من المغرَقين}؛ فصار من المهلكين بالماء. رُوي أنه صنع بيتاً من زجاج، وحمل معه طعامه وشرابه، وصعد على وجه الماء فسلط الله عليه البول حتى غرق في بوله، والله تعالى أعلم بشأنه.
الإشارة: إذا دخل العارف في بحر الفناء، وغاب عن حسه ورسمه، واتصل معناه ببحر معاني الأسرار، جرت سفينة فكرته في بحر الذات وأنوار الصفات، فقال لأصحابه: اركبوا فيها، بسم الله مجريها ومرساها، إن ربي لغفور رحيم، حيث غطى وصفكم بوصفه، ونعتكم بنعته. فوصلكم بما منه إليه، لا بما منكم إليه، فصارت سفن الأفكار تجري بهم في موج كالجبال، وهي تيار بحر الذات. فالخمرة الأزلية الخفية الصافية بحر لا ساحل له، وما ظهر من أنوار الصفات أمواجه. فأنوار الآثار هي أمواج البحار، وما عظم من أمواجه يسمى التيار، ولذلك قيل: العارفون يغرقون في بحر الذات، وتيار الصفات، فتراهم إذا غرقوا في بحر الأسرار وتيار الأنوار، وساروا فيها بمدد أسرارهم، تلاطمت عليهم أمواجه. وهي تجري بهم في موج كالجبال، فلا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم، فآواه إلى جبل السنة المحمدية فكان من الناجين.
وآخرون حال بيهم الموج، فكانوا من المغرقين، فالتبس الأمر عليهم، فقالوا بالحلول والاتحاد، أو نفي الحكمة والأحكام. وهذا في حق من ركب بلا رئيس ماهر، وإلا رده إلى سفينة النجاة، وهي: التمسك بالشريعة المحمدية في الظاهر، والتحقق بالحقيقة الأصلية. وبالله التوفيق.

.تفسير الآية رقم (44):

{وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)}
قلت: {بعداً}: منصوب على المصدر، أي: أبعَدوا بعداً.
يقول الحق جل جلاله: {وقيل} أي: قال الله: {يا ارضُ ابلعي ماءك} الذي خرج منك، فانفتحت أفواهاً، فرجع إليها ما خرج منها، {ويا سماءُ أَقلعي}: أمسكي عن الإمطار. رُوي أنها أمطرت من كل موضع. فبقي ما نزل منها بحاراً على وجه الأرض.
قال البيضاوي: نوديا بما ينادى به أولو العلم، وأُمرا بما يؤمنون به، تمثيلاً لكمال قدرته، وانقيادهما لما يشاء تكوينه فيهما، بالأمر المطاع، الذي يأمر المنقاد لحكمه، المبادر إلى امتثال أمره، مهابة من عظمته، وخشية من أليم عقابه. والبلع: النشف، والإقلاع: الإمساك. اهـ.
{وغيض الماءُ}؛ نقص ولم ينشف ما خرج منها، {وقُضِيَ الأمرُ}: وأنجز ما وعد من إهلاك الكافرين، وإنجاء المؤمنين، {واستوتْ}: استقرت السفينة {على الجُودي}؛ جبل بالموصل. وقيل: بالشام. وتقدم أنه نزل يوم عاشوراء، فصامه شكراً. وبقي ستة أشهر على الماء. {وقيل بُعداً للقوم الظالمين}؛ هلاكاً لهم. يقال بعد، إذا بعد بعداً بعيداً، بحيث لا يرجى عوده، ثم استعير للهلاك. وخص بدعاء السوء.
والآية كما ترى في غاية الفصاحة؛ لفخامة لفظها وحسن نظمها، والدلالة على كنه الحال مع الإيجاز الخالي عن الإخلال. وإيراد الأخبار على البناء للمفعول دلالة على تعظيم الفاعل، وأنه متعين في نفسه، مستغن عن ذكره، إذ لا يذهب الوهم إلى غيره؛ للعلم به، فإن مثل هذه الأفعال لا يقدر عليها سوى الواحد القهار. قاله البيضاوي.
فإن قلت: قد عم الغرق الدنيا كلها، مع أن دعوة نوح عليه السلام لم تكن عامة، وقد قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15]؟ فالجواب: أن الكفر قد كان عم الموجودين في ذلك الزمان، مع تمكنهم من النظر والاستدلال على الصانع وتوحيده، ومع قدرتهم على الإتيان إلى نوح في أمر الشرائع، فقصروا في الجهتين. وأيضاً: لم تكن الأرض كلها معمورة بالناس، فكل من كان موجوداً سمع بدعوة نوح فجحدها. والله تعالى أعلم. وانظر ابن عطية عند قوله: {واصنعِ الفلك}. والله تعالى أعلم.
الإشارة: إذا توالت على القلب الواردات الإلهية السماوية، والأحوال النفسانية المزعجة، خيف على العقل الاختطاف والاصطدام، فقيل: يا أرض النفس ابلعي ماءك واسكني، ويا سماء الواردات أقلعي، وغيض الماء، أي: نقص هيجان الحال، وقضي الأمر بالاعتدال، واستوت سفينة الفكرة على جبل العقل، فحاز الشرف والكمال؛ لكونه برزخاً بين بحرين، يعطي الحقيقة حقها والشريعة حقها، فيعطي كل ذي حق حقه، ويوفى كل ذي قسط قسطه. وقيل: بُعداً لمن تخلف عن هذا المقام، وظلم نفسه بإلقائها في سجن الهوى وغيهب الظلام. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (45- 47):

{وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47)}
قلت: {وإنَّ وعدك}: عطف على {إن ابني}. و{أنت أحكم}: حال من الكاف. و{إني أعظك}: مفعول من أجله، أي: كراهية أن تكون من الجاهلين.
يقول الحق جل جلاله: {ونادى نوحٌ ربَّه} بعد تعميم الغرق، أي: أراد النداء بدليل عطف قوله: {فقال ربِّ إنَّ ابني من أهلي}، فإنه هو النداء، أو تكون فصيحة، جواباً عن مقدر، كأن قائلاً قال: ماذا في ندائه؟ فقال: إن ابني من أهلي وقد وعدتني أن تنجيني وأهلي، {وإن وعَدَكَ الحقُّ} لا يتطرقه الخلف، فما باله غرِق؟ {وأنت أحكمُ الحاكمين}؛ لأنك أعلمهم وأعدلهم، فلم أعرف وجه حكمك عليه بالغرق. أو لأنك أكثر حكمة من ذوي الحكم، فلم أفهم حكمة غرقه.
{قال} تعالى: {يا نوح إنه ليس من أهلك}؛ لأنه خالفك في الدين، ولا ولاية بين الكافر والمؤمن، {إنه عملٌ غير صالح} أي: ذو عمل فاسد. جعل ذاته نفس العمل؛ مبالغةً. وقرأ الكسائي ويعقوب: {عَمِلَ} بلفظ الماضي. أي: عمل عملاً فاسداً. استحق به البعد عنك. أو: إنه أي سؤالك عملٌ غير صالح. ويقوي هذا قراءة ابن مسعود: {إنه عمل غير صالح} أن تسألني ما ليس لك به علم، وقراءة الجماعة: {فلا تسألن ما ليس لك به علمٌ} أصواب هو أم لا، حتى تقف على كنهه. وإنما سمي نداءه سؤالاً؛ لتضمنه معنى السؤال، بذكر الوعد واستنجازه واستفسار المانع.
ثم وعظه بقوله: {إني أعظُكَ أن تكون من الجاهلين} أي: إني أعظك؛ كراهة أن تكون من الجاهلين الذين يسألون ما لا يوافق القدر. وقد استثنيته بقولي: {إلا من سبق عليه القول}. وليس فيه وصفه بالجهل، بل وعظه لئلا يقع فيه، والحامل له على السؤال، مع أنه استثنى له؛ غلبة الشفقة على الولد؛ مع كونه لم يتحقق أنه ممن سبق عليه القول.
{قال} نوح: يا {رب إني أعوذُ بك أن أسألكَ} في المستقبل {ما ليس لي به علمٌ}؛ ما لا علم لي بصحته. {وإلا تغفرْ لي} ما فرط مني من السؤال، {وترحمني} بالتوبة، تفضلاً وإحساناً، وبالتوفيق والعصمة في المستقبل، {أَكُن مِّنَ الخاسرين} بسوء أدبي معك.
الإشارة: قال الورتجبي: أدَّب نبيه نوحاً عليه السلام بأن لا يسأل إلا ما وافق القدر. كل دعاء لم يوافق مراده تعالى في سابق علمه لم يؤثر في مراد الداعي. وقوله: {إنه عمل غير صالح} أي: ليس عمله على موافقة السنة، ثم وعظه، وقال: {إني أعظك أن تكون من الجاهلين}، الجاهل: من جهل قدر الله، أي: أنزهك عن سوء الأدب في السؤال، على غير قاعدة مرادك. اهـ. وقال في الحكم: (ليس الشأن وجوب الطلب، وإنما الشأن أن ترزق حسن الأدب).