فصل: تفسير الآيات (48- 49):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (48- 49):

{قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48) تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)}
قلت: {تلك}: مبتدأ. و{من أنباء}: خبر. و{نُوحيها}: خبر ثان، و{ما كنت تعلمها}: خبر ثالث، أو حال من الهاء، أي: حال كونها مجهولة عندك وعند قومك.
يقول الحق جل جلاله: {قيل يا نوحُ اهبط} من السفينة إلى عمارة الأرض {بسلامٍ منّا}، أي: متلبساً بسلامة من المكاره، من جهة حفظنا ورعايتنا. أو مسلماً عليك. {وبركات عليك}؛ وزيادات في نسلك حتى تصير آدماً ثانياً، فالبركة هي: الخير النامي. أو: مباركاً عليك، {وعلى أمم ممن معكَ} أي: هم الذين معك، أو ناشئة ممن معك، فقد تشعبت الأمم ممن معه من ذريته. والمراد: المؤمنون، بدليل قوله: {وأمم سنُمتعهم} في الدنيا، ونوسع عليهم فيها، {ثم يمسُّهُم منا عذابٌ أليم} في الآخرة، وهم الكفار ممن نشأ من ذريته. وقيل: هم قوم هود وصالح ولوط وشعيب، والعذاب: ما نزل بهم في الدنيا.
{تلك} القصة، أو خبر نوح عليه السلام، هي: {من أنباءِ الغيب} أي: بعض أخبار الغيب {نُوحيها إليك}؛ لا طريق إلى معرفتها إلا الوحي، {ما كنتَ تعلمها أنتَ ولا قومُكَ من قبل هذا} الوقت لولا إيحاؤنا إليك بها، فهي من دلائل نبوتك؛ لأنك لم تغب عنهم، ولم تخالط غيرهم، فتعين أنه من عند الله. فإن كذبوك {فاصبرْ إن العاقبة للمتقين} وأنت أعظمهم. فالعاقبة لك في الدنيا بالنصر والعز، وفي الآخرة بالرفيق الأعلى. أو فاصبر على مشاق التبليغ مع إذاية قومك، كما صبر نوح عليه السلام. إن العاقبة للمتقين بالنصر في الدنيا والجنة في الآخرة.
الإشارة: يقال للمريد إذا تمكن من الفناء، وارتفعت فكرته عن عالم الأكوان: اهبط إلى مقام البقاء؛ لتقوم بآداب العبودية بعد مشاهدة عظمة الربوبية، انزل إلى سماء الحقوق، أو أرض الحظوظ بالإذن والتمكين، والرسوخ في اليقين، لا بقصد متابعة الشهوة والمتعة. اهبط بسلام منا؛ أي: بسلامة من الرجوع أو الشقاء. وبركات عليك وعلى من تبعك. ولذلك قيل: من رجع إلى البقاء أمن من الشقاء. وأمم قد ضلوا عن متابعتك، سنمتعهم في الدنيا بمتابعة الهوى، ثم يمسهم منا عذاب الحجاب وسوء الحساب. تلك الواردات الإلهيةُ نُوحيها إليك، ما كنت تعلمها أيها العارف من قبل هذا، أنت ولا من تبعك، فاصبر؛ فإن الجمال مقرون بالجلال، والعاقبة للمتقين. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (50- 52):

{وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52)}
قلت: {أخاهم} عطف على نوح في قوله: {ولقد أرسلنا نوحاً}، و{هوداً}: بدل.
يقول الحق جل جلاله: {و} أرسلنا {إلى} قبيلة {عادٍ أخاهم هوداً قال يا قوم اعبدوا الله} وحده، {ما لكم من إله غيرُهُ} يستحق أن يعبد، {إن أنتم إلا مُفترون} على الله، باتخاذ الأوثان آلهة. {يا قوم لا أسألكم عليه}: على التبليغ {أجراً} حتى يثقل عليكم، أو تتهموني لأجله {إنْ أجْرِيَ إلا على الذي فطرني}؛ خلقني. بهذا خاطب كل رسول قومَه؛ إزاحةً للتهمة، وتمحيصاً للنصيحة، فإنها لا تنجع ما دامت مشوبة بالمطامع. {أفلا تعقلون}: أفلا تستعملون عقولكم؛ فتعرفوا المحق من المبطل، والصواب من الخطأ.
{ويا قوم استغفروا ربكم} من الشرك، {ثم توبوا إليه}، ثم ارجعوا إليه بطاعته فيما أمر ونهى. أو: ثم توبوا من المعاصي؛ لأن التوبة من الذنوب لا تصح إلا بعد الإيمان، والتطهير من الشرك، {يُرسل السماء عليكم مدراراً} أي: كثير الدر، أي النزول، {ويَزدْكُم قوة إلى قوتكم}: يضاعف قوتكم، ويزدكم فيها. وإنما دعاهم إلى الله، ووعدهم بكثرة المطر، وأعقم أرحام نسائهم ثلاثين سنة؛ فوعدهم هود عليه السلام على الإيمان والتوبة بالأمطار وتضاعف القوة بالتناسل. قاله البيضاوي.
وقال ابن جزي: وفي الآية دليل على أن التوبة والاستغفار سبب لنزول المطر. رُوي: أن عاداً كان المطر قد حُبس عنهم ثلاث سنين، فأمرهم بالتوبة والاستغفار، ووعدهم على ذلك بالمطر. اهـ. {ولا تتولَّوا}: ولا تُعرضوا عما أدعوكم إليه، {مجرمين}؛ مصرين على إجرامكم.
الإشارة: في تكرير القصص والأخبار وَعظ وتذكير لأهل الاعتبار، وزيادة إيقان لأهل الاستبصار، وتهديد وتخويف لأهل الإصرار، وحث على المبادرة إلى التوبة والاستغفار. وقوله تعالى: {ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه}، أي: استغفروا ربكم من الشرك الخفي، ثم توبوا إليه من النظر إلى وجودكم، ورؤية أعمالكم، يرسل سحاب الواردات الإلهية والعلوم الإلهامية على قلوبكم وأسراركم، مدراراً، ويزدكم قوة في شهود الذات إلى قوتكم في شهود الصفات، ولا تتولوا عن شهوده بشهود أثره، مجرمين معدودين في زمرة المجرمين المصرين على الكبائر، وهم لا يشعرون.
وقال الورتجبي: استغفروا من النظر إلى غيري، وتوبوا إليَّ من نفوسكم، ورؤية طاعتكم وأعواضها، يرسل سماء القدم على قلوبكم مدرار أنوار تجليها، ويزدكم، أي: يزد قوة أرواحكم في طيرانها. انظر تمامه.

.تفسير الآيات (53- 57):

{قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آَلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آَلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57)}
قلت: {إن نقول إلا اعتراك}: الاستثناء مفرغ، و{اعتراك}: مقول لقول محذوف، أي: ما نقول إلا قولنا اعتراك، و{ما من دابة}: {ما} نافية، و{من} صلة و{دابة} مبتدأ مجرور بمن الزائدة، وجملة {إلا هو آخذ}: خبر.
يقول الحق جل جلاله: قالوا يا هود ما جئتنا ببينة؛ بمعجزة واضحة تدل على صدق دعواك، وهذا كذب منهم وجحود؛ لفرط عنادهم وعدم اعتدادهم بما جاءهم من المعجزات. وفي الحديث: «ما مِنْ نَبي إلاَّ أُوتي من المعجزات ما مثلُهُ آمنَ عَليه البشَرُ، وإَنَّما كَانَ الذِي أُوتيتُه وحياً أُوحي إلي، فأرجُوا أن أكُون أكثرهم تَابِعاً يوم القِيَامةِ». كما في الصحيح. ويحتمل أن يريدوا: ما جئتنا بآية تضطر إلى الأيمان بك، وإن كان قد أتاهم بآية نظرية. ولم يذكر في القرآن معجزة معينة لهود عليه السلام، مع الاعتقاد أنه لم يخل من معجزة؛ لما في الحديث.
ثم قالوا: {وما نحن بتاركي آلهتنا}؛ بتاركي عبادتهم {عن قولك} أي: بسبب قولك أو صادرين عن قولك، {وما نحن لك بمؤمنين} أبداً، وهو إقناط له عن الإجابة والتصديق. {إن نقول إلا اعتراك}؛ أصابك {بعض آلهتنا بسوء}؛ بجنون؛ لما سببْتها، ونهيت عن عبادتها، ولذلك صرت تهذو وتتكلم بالخرافات.
{قال} هود عليه السلام: {إني أُشهد الله} على براءتي من شرككم، {واشهدوا أني بريء مما تُشركون من دونه فكيدوني} أي: اقصدوا كيدي وهلاكي، {جميعاً}، أنتم وشركاؤكم، {ثم لا تنظرون}؛ لا تؤخرون ساعة. وهذا من جملة معجزاته، فإن مواجهة الواحد الجم الغفير من الجبابرة، والفتاك العِطاش إلى إراقة دمه، بهذا الكلام، ليس إلا لتيقنه بالله، ومنعُهم من إضراره ليس إلا لعصمته إياه. ولذلك عقبه بقوله: {إني توكلتُ على الله ربي وربكم}، فهو تقرير له. والمعنى: أنكم وإن بذلتم غاية وسعكم لم تضروني؛ فإني متوكل على الله، واثق بكلاءته، وهو مالكي ومالككم، لا يحيق بي ما لم يُرده، ولا تقدرون على ما لم يُقدره.
ثم برهن عليه بقوله: {ما من دابة إلا هو آخذٌ بناصيتها}: إلا وهو مالك لها، قادرٌ عليها، يصرفها على ما يريد بها. والأخذ بالنواصي تمثيل لذلك. قاله البيضاوي. وقال ابن جزي: أي: هي في قبضته وتحت قهره، وهذه الجملة تعليل لقوة توكله على الله، وعدم مبالاته بالخلق. اهـ. {إن ربي صراط مستقيم} أي: إنه على الحق والعدل، ولا يضيع عنده معتصم ولا يفوته ظالم. وقال في القوت: أخبر عن عدله في محله، وقيام حكمته، وأنه وإن كان آخذاً بنواصي العباد في الخير والشر، والنفع والضر؛ لاقتداره، فإن ذلك مستقيم في عدله، وصواب من حكمه. اهـ.
{فإن تولَّوا} أي: فإن تتولوا وتُعرضوا عما جئتكم به، {فقد أبلغتُكم ما أرسلتُ به إليكم}. أي: فقد أديت ما عليّ من الإبلاغ، فلا تفريط مني، ولا عذر لكم؛ فقد جاءكم النذير، وقامت الحجة عليكم، وما بقي إلا هلاككم. {ويستخلفُ ربي قوماً غيركم} يسكنون دياركم، ويعمرون بلادكم، فإن عتوا وطغوا سلك بهم مسلككم، {ولا تضرونَه} بتوليكم عن الإيمان به، {شيئاً} من الضرر. أو لا تضرونه شيئاً إذا أهلككم واستخلف غيركم، {إن ربي على كل شيء حفيظٌ}؛ رقيب فلا يخفى عليه أعمالكم، ولا يغفل عن مجازاتكم. أو حافظ مستول عليه، فلا يمكن أن يضره شيء. قاله البيضاوي.
الإشارة: ما يقال للأولياء إلا ما قيل للرسل، فإذا توجه العبد إلى مولاه، وسقط على من هو أهل للتربية، وترك ما كان عليه قبل من الانتساب إلى غيره، وخرق عوائد نفسه، أو إصابة شيء من المكاره، قال الناس: ما اعتراه إلا بعض الصالحين بسواء، فيقول لهم: إني أُشهد الله، واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه. فإن أجمعوا على إضراره أو قتله قال لهم: فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون.
{إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها}، وأنتم دواب مقهورون تحت قبضة الحق، {إن ربي على صراط مستقيم}؛ لا ينتقم إلا من أهل الانتقام، «من عاد لي ولياً فقد آذنته بالحرب»، فإن ذكرهم بالله ودلهم على الطريق، فكذبوه وأعرضوا عنه، قال: عسى أن يذهب بكم، ويستخلف قوماً غيركم، يكونون متوجهين إليه أكثر منكم، ولا تضرونه شيئاً. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (58- 60):

{وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)}
قلت: إنما قال هنا وفي قصة شعيب: {ولما}، بالواو، وفي قصة صالح ولوط: (فلما)، بالفاء؛ لأن قصة صالح ولوط ذكرهما بعد الوعيد، في الفاء التي تقتضي التسبب، كما تقول: وعدته فما جاء الوعيد كان.. إلخ، بخلاف قصة هود وشعيب لم يتقدم ذلك فيهما، فعطف بالواو، قاله الزمخشري.
يقول الحق جل جلاله: {ولما جاء أمرُنا}: عذابنا، أو أمرنا بالعذاب، {نجينا هوداً والذين آمنوا معه برحمة منا}، وكانوا أربعة آلاف، {ونجيناكم من عذابٍ غليظ}، وهو ريح السموم، وكانت تدخل أنوف الكفرة وتخرج من أدبارهم فتقطع أمعاءهم. والتكرير؛ لبيان ما نجاهم منه، وإعلاماً بأنه عذاب غليظ، وتعديداً للنعمة في نجاتهم. ويحتمل أن يريد النجاة الأولى: من عذاب الدنيا، وهو الريح الذي نزل بقومهم، وبالنجاة الثانية: عذاب الآخرة، وهو العذاب الغليظ، ولذلك عطفه على النجاة الأولى التي أراد بها النجاة من الريح.
{وتلك عادٌ}؛ الإشارة إلى القبيلة، أو إلى قبورهم وآثارهم؛ تهويلاً وتهديداً، {جحدوا بآيات ر بهم}؛ كفروا بها، {وعَصوا رسله}، والجمع إما لأنَّ من عصى رسولاً فكأنما عصى الكل؛ لأنهم متفقون في الدعوة، مع أنهم أُمروا بطاعة كل رسول. وإمَّا على إرادة الجنس كقولك: فلان يركب الخيل، وإن يركب إلا فرساً واحداً. {واتبعوا أمرَ كل جبارٍ عنيد} يعني: كبراءهم الطاغين، والعنيد: الطاغي، والمعنى: عصوا من دعاهم إلى الإيمان وما ينجيهم، وأطاعوا من دعاهم إلى الكفر وما يرديهم، {وأُتبعوا في هذه الدنيا لعنةً ويومَ القيامة} أي: جعلت اللعنة تابعة لهم في الدارين؛ في الدنيا أهلكتهم، وفي الآخرة أحرقتهم.
{ألا إن عاداً كفروا ربَّهم}؛ جحدوه، أو كفروا نعمه. وفيه تشنيع لكفرهم وتهويل لأمرهم، بالإتيان بحرف التنبيه، وتكرار اسم عاد؛ {ألا بعداً لعادٍ} أي: هلاكاً لهم، دعا عليهم بالهلاك بعد أن هلكوا؛ للدلالة على أنهم كانوا مستحقين له، مستوجبين لما نزل بهم؛ بسبب ما حكي عنهم. وإنما كرر {ألا} وأعاد ذكرهم؛ تفظيعاً لأمرهم، وحثاً على الاعتبار بحالهم. ثم بيَّنهم بقوله: {قوم هود}. فهو عطف بيان لعاد، وفائدته: تمييزهم عن عاد الثانية التي هي عاد إرم، والإيمان إلى استحقاقهم للبعد، بما جرى بينهم وبينه. قاله البيضاوي.
الإشارة: من أراد سلامة الدارين والظفر بقرة العين، فليتمسك بالإيمان بالله، وبكل رسول أتى من عند الله، وليتبع من يدعو إلى الله. وهم أهل المحبة والوداد، السالكون مناهج الرشاد والسداد. وليتجنب كل جبار عنيد، وهو: كل من يحول بينك وبين الله، ويغفلك عن ذكر الله. وقوله تعالى: {أَلا بُعداً لعاد} وأخواتها، فيها تخويف لأهل القرب والوصال.
قال في الإحياء: ولخصوص المحبين مخاوف في مقام المحبة، ليست لغيرهم، وبعض مخاوفهم أشد من بعض، فأولها: خوف الإعراض، وأشد منه: خوف الحجاب، وأشد منه خوف الإبعاد، وهذا المعنى من سورة هود هو الذي شيب سيد المحبين، أنه سمع: {ألا بُعداً لعاد}، {ألا بُعداً لمدين}، وإنما تعظم هيبةُ البُعد وخوْفُه في قلب من ألف القرب وذاقه، وتنعَّم به. ثم قال: ثم خوف الوقوف وسلب المزيد، فإنا قَدَّمنا: أن درجات القرب لا نهاية لها. اهـ.

.تفسير الآيات (61- 63):

{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63)}
قلت: قال الشطيبي: صالح: هو ابن عبيد بن عابرَ بن أرْفَخْشد بن سام بن نوح. وثمود هم أولاد ثمود بن عوص بن عاد بن إرم بن سام بن نوح. اهـ. وفيه نظر؛ فقد ذكر البيضاوي في سورة الأعراف أن بين صالح ونوح تسعة أجداد، فانظره.
يقول الحق جل جلاله: {و} أرسلنا {إلى ثمودَ أخاهم صالحاً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيرُه هو أنشأكم من الأرض} كونكم من الأرض؛ لأنه خلق آدم منها، والنطف التي هي مواد نسله أصها منها، {واستعمركم}؛ عمركم {فيها} وجعلكم تعمرونها بعد من مضى قبلكم، ثم تتركونها لغيركم. أو استبقاكم فيها مدة أعماركم، ثم ترحلون عنها. {فاستغفروه ثم توبوا إليه أن ربي قريبٌ} من كل شيء {مجيبٌ} لمن دعاه.
{قالوا يا صالحُ قد كنت فينا مرجُواً قبل هذا} أي: كنا نرجو أن ننتفع بك؛ لما نرى فيك من مخايل الرشد والسداد، فتكون لنا سيداً، أو مُستشاراً في الأمور، وإن توافقنا على ديننا، فلما سمعنا هذا القول منك انقطع رجاؤنا منك؛ {أتنهانا أن نعبدَ ما يعبد آباؤنا} قبلنا لتصرفنا عن ديننا، {وإننا لفي شكٍّ مما تدعونا إليه} من التوحيد، والتبري من الأوثان. {مُريب}: موقع في الريبة؛ مبالغة في الشك، {قال يا قوم أرأيتُم إن كنتُ على بينة}؛ طريقة واضحة {من ربي} وبصيرة نافذة منه، {وآتاني منه رحمةٌ}: نبوة، {فمن ينصرني من الله}؛ من يمنعني من عذابه {إن عصيته} وأطعتكم في ترك التبليغ، وموافقتكم في الدين الفاسد، {فما تزيدونني} باستتباعكم {غير تَخسير} بترك ما منحني الله به، والتعرض لغضبه، أو فما تزيدونني بما تقولون لي غير تخسير لكم؛ لأنه يجركم إلى الخسران. والله تعالى أعلم.
الإشارة: كل من وجهه الحق تعالى يدعو إلى الله فإنما يدعو إلى خصلتين: إفراد الحق بنعوت الألوهية، والقيام بوظائف العبودية؛ شكراً لنعمة الإيجاد، وتوالي الإمداد. فقول صالح عليه السلام: {اعبدوا الله ما لكم من إله غيره}، هذا إفراد الحق بالربوبية، وقوله: {هو أنشأكم من الأرض}، هذه نعمة الإيجاد. وقوله: {واستعمركم فيها} هي: نعمة الإمداد، وقوله: {فاستغفروه ثم توبوا إليه}، وهو القيام بوظائف العبودية؛ شكراً لتلك النعمتين. وفي قوله: {إن ربي قريب مجيب}: ترهيب وترغيب.
وقوله تعالى: {قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجواً قبل هذا}: يؤخذ من الآية: أن شُعاع الخصوصية، وآثارها، تظهر على العبد قبل شروق أنوارها، وهو جار في خصوص النبوة والولاية، فلا تظهر على العبد في الغالب حتى يتقدمها آثار وأنوار، من مجاهدة أو أنس، أو اضطرار أو انكسار، أوعِرْق طيب. والله تعالى أعلم. وكل من واجهه منهم تكذيب أو إنكار يقول: {أرأيتم إن كنتُ على بينة من ربي...} الآية. وبالله التوفيق.