فصل: تفسير الآيات (64- 68):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (64- 68):

{وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68)}
قلت: {آية}: نصبت على الحال، والعامل فيها: معنى الإشارة. و{لكم}: حال منها، تقدمت عليها لتنكيرها. و{من خزي يومئذٍ} حذف المعطوف، أي: ونجيناهم من خزي يومئذٍ، ومن قرأ بكسر الميم أعربه، ومن قرأ بالفتح بناه؛ لاكتساب المضاف البناء من المضاف إليه. قاله البيضاوي. وقال في الألفية:
وابْن أَو اعربْ ما كَإِذْ قَدْ أُجرِيا ** واختَرْ بنَا متَلُو فعْل بُنيا

وقَبل فعْل معرب أو مُبْتَدأ ** أعربْ ومنْ بَنَى فَلَنْ يُفنَّدا

وثمود: اسم قبيلة، يصح فيه الصرف باعتبار الحي أو الأب الأكبر، وعدمه باعتبار القبيلة. وقد جاء بالوجهين في هذه الآية.
يقول الحق جل جلاله: قال صالح لقومه بعد ظهور آية الناقة، وقد تقدم في الأعراف قصتها: {هذه ناقةُ الله لكم آيةً} تدل على صدقي، {فذرُوها تأكل في أرض الله}؛ أي: ترعى نباتها وتشرب ماءها، {ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذابٌ قريب}: عاجل، لا يتأخر عن مسكم لها بالسوء إلا ثلاثة أيام. {فعقروها} وقسموا لحمها؛ {فقال} لهم: {تمتعوا}: عيشوا {في داركم}؛ منازلكم {ثلاثة ايام}؛ الأربعاء والخميس والجمعة. وقيل: عقروها يوم الأربعاء، وتأخروا الخميس والجمعة والسبت، وهلكوا يوم الأحد. {ذلك وعدٌ غيرُ مكذوب} فيه، بل هو حق.
{فلما جاء أمرْنا}: عذابنا، أو أمرنا بهلاكهم، {نجينا صالحاً والذين آمنوا معه}، قيل: كانوا ألفين وثمانمائة رجل وامرأة. وقيل أربعة آلاف، وقال كعب: كان قوم صالح أربعة عشر ألفاً، سوى النساء والذرية، ولقد كان قوم عاد مثلهم ست مرات. انظر القرطبي. قلت: وقول كعب: كان قوم صالح... إلخ، لعله يعني الجميع: من آمن ومن لم يؤمن، فآمن ألفان وثمانمائة، وهلك الباقي. وكذا هود، أسلم أربعة آلاف، وهلك الباقي.
قال تعالى: فنجينا {صالحاً} ومن معه {برحمة منا}؛ ونجيناهم {من خِزْي يؤمئذٍ} وهو: هلاكهم بالصيحة، أو من هوان يوم القيامة، {إن ربك هو القوي العزيز}؛ القادر على كل شيء، الغالب عليه، {وأخذ الذين ظلموا الصيحةُ فأصبحوا في ديارهم جاثمين}؛ باركين على ركبهم ميتين، {كأن لم يغنوا}: يعيشوا، أو يقيموا {فيها} ساعة، {ألا إن ثمودَ كفروا ربهم}؛ جحدوه، {أَلا بُعْداً لثمود}؛ هلاكاً وسحقاً لهم.
الإشارة: ما رأينا أحداً ربح من ولي وهو يطلب منه إظهار الكرامة، بل إذا أراد الله أن يوصل عبداً إليه كشف له عن سر خصوصيته، بلا توقف على كرامة. وقد يظهرها الله له بلا طلب؛ تأييداً له، وزيادةً في إيقانه، فإن طلب الكرامة، وظهرت له، ثم أعرض عنه، فلا أحد أبعدُ منه. قال تعالى، في حق من رأى المعجزة ثم أعرض: {ألا بعداً لثمود}. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (69- 73):

{وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)}
قلت: سلاماً: منصوب على المصدر، أي: سلمنا سلاماً. ويجوز نصبه بقالوا؛ لتضمنه معنى ذكروا. (قال سلام): إما خبر، أي: أمرنا سلام، أو جواب سلام، وإما مبتدأ، أي: عليكم سلام. وكسر السين: لغة، وإنما رفع جوابه ليدل على ثبوت سلامة؛ فيكون قد حياهم بأحسن مما حيوه به. (فما لبث أن جاء)؛. {ما}: نافية و{أن جاء}: فاعل {لبث}. ونكر وأنكر بمعنى واحد. والإيجاس: الإدراك أو الإضمار. و{من وراء إسحاق يعقوب}: من قرأ بالنصب فبفعل دل عليه الكلام، أي: ووهبنا لها يعقوب. ومن رفعه فمبتدأ، أي: ويعقوب مولود من بعده. و{شيخاً}: حال، والعامل فيه: الإشارة، أي: أشير إليه شيخاً. و{أهل البيت}: نصب على المدح والاختصاص، أو على النداء.
يقول الحق جل جلاله: {ولقد جاءت رسُلنا إبراهيمَ}، وهم الملائكة، وقيل: ثلاثة جبريل وميكائيل وإسرافيل. وقيل: تسعة جاؤوه {بالبُشرى}؛ بالولد. فلما دخلوا عليه {قالوا سلاماً} أي: سلمنا عليك سلاماً، أو ذكروا سلاماً، {قال سلام} أي: عليكم سلام، {فما لبثَ} أي: أبطأ، {أن جاء بعجل حَنيذ}؛ مشوي بالرضف، أي: بالحجر المحمي. وقيل: حنيذ بمعنى يقطر ودكه. كقوله: {بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات: 26]، فامتنعوا من أكله، {فلما رأى أيديَهم لا تصل إليه}؛ لا يمدون إليه أيديهم، {نَكرهم} أي: أنكر ذلك منهم، {وأوجس}: أدرك، أو أضمر {منهم خفيةً} أي: خوفاً، خاف أن يريدوا به مكروهاً؛ لامتناعهم من طعامه، وكان من عادتهم إذا مس من يطرقهم طعامهم أمنوه، وإلا خافوه.
والظاهر أنه أحسن بأنهم ملائكة ونكرهم؛ لأنه تخوف أن يكون نزولهم لأمر أنكره الله عليه فأمنوه، وقالوا: {لا تخفْ إنا} ملائكة {أرسلنا إلى قوم لوطٍ} لنعذبهم، وإنما لم نأكل طعامك؛ لأنا لا نأكل الطعام. {وامرأته قائمة} من وراء ستر تسمع محاورتهم، أو على رؤوسهم للخدمة، {فضحكتْ} سروراً بزوال الخيفة، أو بهلاك أهل الفساد، أو بإصابة رأيها، فإنها كانت تقول لإبراهيم: اضمم إليك لوطاً، فإني لأعلم أن العذاب نازل بهؤلاء القوم. وقيل: معنى ضحكت: حاضت. يقال: ضحكت الشجرة: إذا سال صَمغُها. وقيل: ضحكت سروراً بالولد الذي بُشرت به. فيكون في الكلام تقديم وتأخير، أي: فبشرناها فضحكت، وهو ضعيف.
قال تعالى: {فبشرناها بإسحاقَ ومن وراء إسحاق يعقوبَ} ولد ولدها. وتوجيه البشارة إليها؛ لأنه من نسلها، ولأنها كانت عقيمة حريصة على الولد، {قالت يا ويلتا}؛ يا عجباً، وأصله في الشر، فأطلق على كل أمر فظيع. وقرئ بالياء على الأصل، أي: يا ويلتي {أألدُ وأنا عجوزٌ} ابنة تسعين، أو تسع وتسعين {وهذا بَعْلِي}: زوجي، وأصله: القائم بالأمر، {شيخاً}؛ ابن مائة أو مائة وعشرين سنة، {إنَّ هذا لشيء عجيب} يتعجب منه؛ لكونه نشأ الولد من هرمين.
وهو استغرب من حيث العادة، لا من حيث القدرة، ولذلك قالوا: {أتعجبينَ من أمر الله}؛ منكرين عليها، فإن خوارق العادات باعتبار أهل بيت النبوة، ومهبط الوحي ومظهر المعجزات. وتخصيصهم بمزيد النعم والكرامات ليس ببدع، ولذلك قالوا: {رحمةُ الله وبركاته عليكم أهل البيت} أي: بيت إبراهيم، فلا تستغرب ما يظهر منهم من خوارق العادات، ولاسيما من نشأت وشابت في ملاحظة الآيات، {إنه} تعالى {حميدٌ}؛ فاعل ما يستوجب به الحمد، أو محمود على كل حال {مجيد}؛ كثير الخير والإحسان. أو ممجَّد بمعنى العلو والشرف التام. قال ابن عطية هنا: إن في الآية دليلاً على ان الذبيح إسماعيل لا إسحاق. وفيه نظر. وسيأتي في سورة الصافات ما هو الحق، إن شاء الله تعالى.
الإشارة: من شأن أهل الكرم والامتنان: المبادرة إلى من أتاهم بالبر والإحسان؛ إما بقوت الأرواح، أو بقوت الأشباح. من أتاهم لقوت الأرواح بادروه بإمداد الروح من اليقين والمعرفة، ومن أتاهم لقوت الأشباح بادروه بالطعام والشراب، كُلاً ما يليق به، ومن شأن الضيف اللبيب المبادرة إلى أكل ما قُدِّمَ إليه، من غير اختبار، إلا لمانع شرعي أو عادي. ومن شأن أهل التحقيق والتصديق ألا يتعجبوا مما يظهر من القدرة من الخوارق؛ إذ القدرة صالحة لكل شيء، حاكمة على كل شيء، هي تحكم على العادة، لا العادة تحكم عليها. وهذا شأن الصديقين؛ لا يتعجبون من شيء؛ ولا يستغربون شيئاً، ولذلك توجه الإنكار إلى سارة من الملائكة، ولم يتوجه إلى مريم؛ حيث سألت؛ استفهاماً، ولم تتعجب، ووصفت بالصديقية دون سارة. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (74- 76):

{فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آَتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)}
قلت: لما حرف وجود لوجود، تفتقر للشرط والجواب. فشرطها: {ذهب}، وجوابها: محذوف أي: جعل يجادلنا. والتأوه: التفجع والتأسف، ومنه قول الشاعر:
إِذا ما قمتُ أرحَلُهَا بليلٍ ** تأوّهُ آهةَ الرجل الحزين

يقول الحق جل جلاله: {فلما ذهب عن إبراهيمَ الرَّوعُ}، وهو ما أوجس في نفسه من الخيفة، {وجاءته البشرى} بدل الروع، جعل {يُجادلنا} أي: يخاصم رسلنا {في} شأن {قوم لوطٍ}، ويدفع عنهم، قال: {إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا} [العنكبوت: 32]، {إنَّ إبراهيمَ لحليمٌ}، غير عجول من الانتقام إلى من أساء اليه. {أواهٌ}؛ كثير التأوه والتأسف على الناس، {منيب}، راجع إلى الله. والمقصود من ذلك: بيان الحامل له على المجادلة، وهي: رقة قلبه وفرط ترحمه. قال تعالى على لسان الملائكة: {يا إبراهيمُ أعرضْ عن هذا}، الجدال؛ {إنه قد جاء أمرُ ربك} بهلاكهم، ونفذ قضاؤه الأزلي فيهم، ولا مرد لما قضى، {وإنهم آتيهم عذاب غير مردود}؛ غير مصروف بجدال ولا دعاء، ولا غير ذلك.
الإشارة: قال الورتجبي: قوله تعالى: {إن أبراهيم لحليم أواه}؛ حليم بأنه كان لا يدعو على قومه، بل قال: {فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [إبراهيم: 36] وتأوه زفرة قلبه من الشوق إلى جمال ربه، هكذا وصْف العاشقين. ثم قال: ومجادلته كمال الانبساط، ولم يكن جهلاً، ولكن كان مُشفقاً، باراً كريماً، رأى مكانة نفسه في محل الخلة والاصطفائية القديمة، وهو تعالى يُحب غضب العارفين، وتغير المحبين، ومجادلة الصديقين، وانبساط العاشقين حتى يحثهم على ذلك.
وفي الحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لما أُسري بي رأيت رجلاً في الحضرة يتذمر، فقلت لجبريل: من هذا؟ فقال: أخوك موسى يَتَذَمَّرُ عَلَى ربهِ أي: يجترئ عليه انبساط فقلت: وهل يليق له ذلك؟ فقال: يعرفه؛ فيتحمل عنه» ثم قال: ولا يجوز الانبساط إلا لمن كان على وصفهم. اهـ. قال في الصحاح: يَتَذَمَّرُ على فلان: إذا تَنَكَّرَ له وأَوعَدَهُ. قاله المحشي.
والحاصل أن إبراهيم عليه السلام حملته الشفقة والرحمة، حتى صدر، منه ما صدر مع خلته واصطفائيته، فالشفقة والرحمة من شأن الصالحين والعارفين المقربين، غير أن العارفين بالله مع مراد مولاهم، يشفقون على عباد الله، ما لم يتعين مراد الله، فالله أرحم بعباده من غيره. ولذلك قال لخليله، لما تعين قضاؤه: {يا أبراهيم أعرض عن هذا}. فالشفقة التي تؤدي إلى معارضة القدر لا تليق بأهل الأقدار، وفي الحكم: ما ترك من الجهل شيئاً من أراد أن يحدث في الوقت غير ما أظهره الله. ولهذا قالوا: الشفقة لا تليق بالأولياء.
قال جعفر الصادق رحمه الله: ست خصال لا تحس بستة رجال: لا يحسن الطمع في العلماء، ولا العجلة في الأمراء، ولا الشح في الأغنياء، ولا الكبر في الفقراء، ولا الشفقة في المشايخ، ولا اللؤم في ذوي الأحساب. وقولنا: الشفقة لا تليق بالأولياء، يعني إذا تعين مراد الله، أو إذا ظهرت المصلحة في عدمها، كأمر الشيخ المريد بما تموت به نفسه، فإذا كان الشيخ يحن على الفقراء في هذا المعنى لا تكمل تربيته. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (77- 83):

{وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آَوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)}
قلت: {سيء}: مبني للمفعول، صلة: سَوِئ، نُقلت حركة الواو إلى السين بعد ذهاب حركتها، ثم قلبت الولو ياء. و{ذرعاً}: تمييز محول عن الفاعل، أي: ضاق ذرعه، وهو كناية عن شدة الانقباض عن مدافعة الأمر المكروه، وعجزه عن مقاومته. و{لو أن لي بكم قوة}: إما للتمني فلا جواب له، أو محذوف، أي: لدفعت.
وفي {أَسْرَ} لغتان: قطع الهمزة من الإسراء، ووصلها من السُّرى، وقرئ بهما معاً، و{إلا امرأتك} الرفع؛ بدل من {أحد}، وبالنصب؛ منصوب بالاستثناء من {فأسر بأهلك}. ومنشأ القراءتين: هل أخرجها معه، فالتفتت أم لا؟ فمن رفع ذهب إلى أنه أخرجها. ومن نصب ذهب إلى أنه لم يسر بها، وهما روايتان.
يقول الحق جلاله: {ولما جاءت رسلُنا}، وهم الملائكة المتقدمون، {لوطاً سِيءَ بهم} ساءه مجيئهم؛ لأنهم أتوه في صورة غلمان حسان الوجوه، فظن أنهم بشر، فخاف عليهم من قومه أن يقصدوهم للفاحشة، ولا يقدر على مدافعتهم، {وضاقَ بهم ذرعاً} أي: ضاق صدره بهم، {وقال هذا يومٌ عصيبٌ}: شديد من عصبه: إذا شده، ورُوي أن الله تعالى قال لهم: لا تهلكوا قومه حتى يشهد عليهم لوط أربع شهادات، فلما مشى معهم منطلقاً بهم إلى منزله، قال لهم: أما بلغكم أمر هذه القرية؟ قالوا: وما أمرهم؟ قال: أشهد بالله أنها شرُّ قرية في الأرض عملاً. قال ذلك أربع مرات. فدخلوا منزله، ولم يعلم بذلك أحد، فخرجت امرأته فأخبرتهم، {وجاءه قومُه يُهرَعُون}؛ يُسرعون {إليه} كأنهم يُدفعون إليه دفعاً، لطلب الفاحشة من أضيافه. {ومن قبل} ذلك الوقت {كانوا يعملون السيئات}؛ الفواحش، كاللواطة، وغيرها، مستمرين عليها مجاهرين بها، حتى لم يستحيوا وجاؤوا يهرعون إليها.
{قال يا قوم هؤلاء بناتي} تزوجوهن، وكانوا يطلبونهن قبل، فلا يجيبهم لخبثهم، وعدم كفاءتهم، لا لحرمة المسلمات على الكفار، فإنه شرع طارئ؛ قال ابن جزي: وإنما قال لهم ذلك؛ ليقي أضيافه ببناته. قيل: إن اسم بناته، الواحدة: ريثا، والأخرى: غوثاً. اهـ. ولم يذكر الثالثة، فعرضهن عليهم، وقال: {هنَّ أطهرُ لكم}؛ أحل لكم، أو أقل فحشاً، كقولك: الميتة أطيب من المغضوب، {فاتقوا الله} بترك الفواحش، {ولا تُحزون}؛ لا تفضحوني {في ضيفي}؛ في شأنهم، فإن افتضاح ضيف الرجل خزي له. {أليس منكم رجلٌ رشيدٌ}؛ عاقل يهتدي إلى الحق ويرعوي عن القبيح.
{قالوا لقدْ علمتَ ما لنا من بناتك من حقٍّ}؛ من حاجة، {وإنك لتعلم ما نُريد} وهو إتيان الذكران، {قال لو أن لي}؛ ليت لي {بكم قوةً} طاقة على دفعكم بنفسي، {أو آوي إلى ركن شديد}؛ أو ألجأ إلى أصحاب أو عشيرةٍ يحمونَني منكم، شبه ما يتمتع بهم بركن الجبل في شدته، قال صلى الله عليه وسلم: «رَحِمَ اللَّهُ أَخي لُوطاً لقد كَانَ يأوي إِلى رُكنٍ شَديدٍ» يعني: الله تعالى.
رُوي أنه أغلق بابه دون أضيافه، وأخذ يجادلهم من وراء الباب، فتسوروا الجدار، فلما رأت الملائكة ما على لوط من الكرب، {قالوا يا لوطُ إنا رُسلُ ربك لن يصلُوا إليك}: لن يصلوا إلى إضرارك بإضرارنا، فهو عليك ودَعْنا وإياهم. فخلاهم، فلما دخلوا ضرب. جبريل عليه السلام بجناحيه وجوههم، فطمس أعينهم، وأعمالهم، فخرجوا يقولون: النجاء؛ النجاء في بيت لوط سحرة، فقالت الملائكة للوط عليه السلام: {فأسرٍ بأهلك}؛ سِر بهم {بقطع من الليل}: بطائفة منه، {ولا يلتفت منكم أحدٌ}: لا يتخلف، أو لا ينظر إلى ورائة؛ لئلا يرى ما يهوله. والنهي في المعنى يتوجه إلى لوط، وإن كان في اللفظ مسنداً إلى أحد.
{إلا امرأتك}، اسمها: واهلة، أي: فلا تسر بها، أو: ولا ينظر أحد منكم إلى ورائه إلا امرأتك؛ فإنها تنظر. رُوي أنها خرجت معه، فلما سمعت صوات العذاب التفتت وقالت: يا قوماه؛ فأدركها حجر فقتلها، ولذلك قال: {أنه مُصيبُها ما أصابهم} من العذاب، {إن موعدَهُم} وقت {الصُّبحُ} في نزول العذاب بهم، فاستبطأ لوط وقتَ الصبح، وقال: هلا عُذبوا الأن؟ فقالوا: {أليس الصبح بقريب}.
{فلما جاء أمرنا}؛ عذابنا، أو أمرنا به، {جعلنا} مدائنهم {عاليَها سافلَها}، رُوي أن جبريل عليه السلام أدخل جناحه تحت مدائنهم، ورفعها إلى السماء، حتى سمع أهل السماء نباح الكلاب، وصياح الديكة، ثم قلبها بهم.
{وأمطرنا عليهم}؛ على المدائن، أي: أهلها، أو على ما حولها. رُوي أنه من كان منهم خارجَ المدائن أصابته الحجارة من السماء، وأما من كان في المدائن، فهلك لمّا قلبت. فأرسلنا عليهم: {حجارة من سجيل}: من طين طبخ بالنار، أو من طين متحجر كقوله: {حِجَارَةً مِّن طِينٍ} [الذاريات: 33]، وأصلها: سنكِين، ثم عرب، وقيل: إنه من أسجله إذا أرسله، أي: من مثل الشيء المرسل، وقيل: أصله من سجين، أي جهنم، ثم أبدلت نونه لاماً، {منضود}: مضموم بعضه فوق بعض، معداً لعذابهم، أو متتابع يتبع بعضه بعضاً في الإرسال، كقطر الأمطار.
{مُسَوّمةً} أي: معلمة للعذاب، وقيل: معلمة ببياض وحمرة، أو بسيما تتميز به عن حجارة الأرض، أو باسم من يرمي به؛ فكل حجارة كان فيها اسم من ترمى به، وقوله: {عند ربك}، أي: في خزائن علمه وقدرته، {وما هي من الظالمين ببعيد} بل هي قريبة من كل ظالم.
قال ابن جزي: الضمير للحجارة، والمراد بالظالمين: كفار قريش، فهذا تهديد لهم، أي: ليس الرمي بالحجارة ببعيد منهم؛ لأجل كفرهم، وقيل: الضمير للمدائن، أي: ليس مدائنهم ببعيد منهم؛ أفلا يعتبرون بها. كقوله: {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى القرية التي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السوء} [الفرقان: 40]. وقيل: الظالمين على العموم. اهـ. وقال البيضاوي: وعنه عليه الصلاة والسلام: «أَنَّهُ سَأَلَ جِبريل، فَقَال يَعني: ظَالِمي أُمتِكَ، مَا مِنْ ظَالمٍ منهم؛ إِلاَّ هوَ معرض لحَجَرٍ يَسقُط مَنْ سَاعَةٍ إلى ساعة».اهـ.
الإشارة: الاعتناء بشأن الأضياف، وحفظ حرمتهم: من شأن الكرام، والاستخفاف بحقهم، والتجاسر عليهم، من فعل اللئام. وفي الحديث: «مَن كَانَ يُؤمِنُ باللَّهِ واليَومِ الآخر فَليُكرمْ ضَيفَهُ». والإسراع إلى الفواحش من علامة الهلاك، لاسيما اللواطَ والسفاح. والإيواء إلى الله والاعتصام به من علامة الفلاح، والبعد عن ساحة أهل الفساد من شيم أهل الصلاح، وكل من اشتغل بالظلم والفساد فالرمي بالحجارة إليه بالمرصاد.