فصل: تفسير الآيات (84- 86):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (84- 86):

{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86)}
قلت: {مفسدين}: حال مؤكده لمعنى عاملها، وهو: {لا تعثوا}. وفائدة ذكره: إخراج ما يُقصد به الإصلاح، كما فعله الخضر عليه السلام.
يقول الحق جل جلاله: {و} أرسلنا {إلى مَدْيَنَ أخاهم شعيباً}، أراد أولاد مدين بن إبراهيم عليه السلام أو أهل مدين، وهي بلدهُ، فسميت باسمه، {قال يا قوم اعبدوا الله} وحده؛ {ما لكم من إله غيره ولا تَنقُضوا المكيالَ والميزان}، وكانوا مطففين. أمرهم أولاً بالتوحيد؛ فإنه رأس الأمر، ثم نهاهم عما اعتادوا من: البخس المنافي للعدل، المخل بحكمة المعاوضة، ثم قال لهم: {إني اراكم بخيرٍ}؛ بسعة كرخص الأسعار، وكثرة الأرزاق، فينبغي أن تشكروا عليها، وتتعففوا بها عن البخس، لا أن تنقضوا الناس حقوقهم، أو بسعة ونعمة، فلا تزيلوها بما أنتم عليه؛ فإن من لم يشكر النعم فقد تعرض لزوالها، {وإني أخاف عليكم عذابَ يوم محيط}؛ يوم القيامة، فإنه محيط بكل ظالم، أو عذاب الاستئصال في الدنيا، ووصف اليوم بالإحاطة، وهي صفة العذاب؛ لاشتماله عليه.
{ويا قوم أوفوا الميكالَ والميزان بالقسط}؛ بالعدل من غير زيادة ولا نقصان. صرح بالأمر بالاستيفاء بعد النهي عن ضده؛ مبالغةً، وتنبيهاً على أنهم لا يكفيهم الكف عن تعمد التطفيف، بل يلزمهم السعي في الإيفاء ولو بالزيادة، حيث لا يتأتى دونها، وقد تكون الزيادة محظورة، ولذلك أمرهم بالعدل في قوله: {بالقسط}، بلا زيادة ولا نقصان.
{ولا تبخسوا الناسَ أشياءهم} لا تنقصوهم حقهم، وهو تعميم بعد تخصيص، فإنه أعم من أن يكون في الميزان والمكيال وفي غيره، وكذا قوله: {ولا تَعْثَوا في الأرض مفسدين}؛ فإن العثو وهو الفساد يعم تنقيص الحقوق وغيره من أنواع الفساد. وقيل: المراد بالبخس: المكس، كأخذ العشور في المعاملات، والعثو: السرقة وقطع الطريق والغارة، وأكد بقوله: {مفسدين} وفائدته: إخراج ما يقصد به الإصلاح، كما فعل الخضر عليه السلام، وقيل: معناه: مفسدين أمر دينكم ومصالح آخرتكم. قاله البيضاوي.
{بقيةُ اللَّهِ}؛ أي: ما أبقاه لكم من الحلال بعد التنزه عن الحرام، {خيرٌ لكم} مما تجمعون بالتطفيف، {إن كنتم مؤمنين}؛ فإن الإيمان يقتضي الاكتفاء بالحلال عن الحرام. أو إن كنتم مؤمنين فالبقية خير لكم، فإن خيريتها تظهر باعتبار الثواب والنجاة من العذاب، وذلك مشروط بالإيمان، أو: إن كنتم مصدقين لي في قولي لكم. وقيل: البقية: الطاعة، كقوله: {والباقيات الصالحات} [الكهف: 46]. وقرئ:تقية الله؛ أحفظ عليكم أعمالكم، وأجازيكم عليها، إنما أنا نذير وناصح مبلغ، وقد أعذرت حين أنذرت. أو: أحفظكم عن القبائح وأمنعكم منها. أو: لست بحافظ عليكم نعم الله إن سُبلت عنكم بسوء صنيعكم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: كما أمر الحق تعالى بالوفاء في الموازين أمر بالوفاء في الأعمال والأحوال والمقامات. ولذلك قيل للجنيد في النوم: أفضل ما يُتقرب به إلى الله عمل خفي، بميزان وفي، فالوفاء في الأعمال: إتقانها في الظاهر، باستيفاء شروطها وآدابها، وإخلاصها في الباطن مع حضور القلب فيها. والوفاء في الأحوال: ألا تخرج عن قواعد الشريعة، بأن لا تكون محرمة ولا مكروهة، وأن يقصد بها موت النفوس وحياة الأرواح، والوفاء في المقام: ألا ينتقل عن مقام إلى غيره حتى يتحقق بالمقام الذي أنزل فيه. وفيه خلاف بين الصوفية: هل يصح الانتقال عن مقام قبل التحقق به، ثم يحققه في المقام الذي بعده، أم لا؟.
والمقامات التي ينزل فيها المريد: التوبة، الخوف، الرجاءُ، والورع، والزهد، والتوكل، والصبر، والرضى، والتسليم، والمحبة، والمراقبة، والمشاهدة بالفناء ثم البقاء، أو الإسلام، ثم الإيمان، ثم الإحسان. فلا ينتقل من مقام إلى ما بعده حتى يحقق المقام الذي هو فيه، ذوقاً وحالاً. وقيل: يجوز أن ينتقل إلى ما بعده إذا كان ذا قريحة فتحقق له ما قبله. والله تعالى أعلم. وطريق الشاذلية مختصرة، تطوي عن المريد هذه المقامات، فينزل في أول قدم في مقام الإحسان، شعر أم لا، ثم يحصل الفناء ثم البقاء، إن وجد شيخاً كاملاً تربى على يد شيخ كامل، وإلا فلا.
وقول الجنيد رضي الله عنه: (عمل خفي)، اعلم أن الخفاء على ثلاثة أقسام: خفاء عوام الصالحين، وهو: إخفاء الأعمال عن الناس مخافة الرياء. وخفاء المريدين، وهو: الإخفاء عن ملاحظة الخلق ومراقبتهم، ولو كانوا بين أظهرهم، فإخفاؤهم قلبي لا قالبي. وخفاء العارفين الواصلين، وهو: الإخفاء عن رؤية النفس، فهم يغيبون عن أنفسهم ووجودهم، في حال أعمالهم، فليس لهم عن نفوسهم إخبار، ولا مع غير الله قرار. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآية رقم (87):

{قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87)}
قلت: {تأمرك أن نترك}: على حذف مضاف، أي: تأمرك بتكليف أن نترك؛ لأن الرجل لا يُؤمر بفعل غيره. و{أن نفعل}: عطف على {ما}؛ أي: أو نترك فعلنا في أموالنا ما نشاء.
يقول الحق جل جلاله: {قالوا يا شعيب أصلواتك} التي تُكثر منها هي التي {تأمرك} أن تأمرنا {أن نترك ما يعبد آباؤنا} من الأصنام، وندخل معك في دينك المحدث، أجابوا به ما أمرهم به من التوحيد بقوله: {ما لكم من إله غيره}، على وجه التهكم والاستهزاء بصلواته. وكان كثير الصلاة، ولذلك جمعوها وخصوها بالذكر. وقرأ الأخوان وحفص بالإفراد المراد به الجنس.
ثم أجابوه عن نهيهم عن التطفيف وأمرهم بالإيفاء، فقالوا: {أو} نترك {أن نفعل في أموالنا ما نشاء} من البخس وغيره؟ وقيل: كانوا يقطعون الدراهم والدنانير، فناهم عن ذلك.. {إنك لأنت الحليم الرشيد}، تهكموا به وقصدوا وصفه بضده، من خفة العقل والسفه؛ لأن العاقل عندهم هو الحرص على جمع الدنيا وتوفيرها، وهو الحمق عند العقلاء، أو إنك موسوم بالحلم والرشد؛ فلا ينبغي لك أن تنهانا عن تنمية أموالنا والتصرف فيها. والله تعالى أعلم.
الإشارة: الإنكار على من أمر بالخروج عن العوائد والتقلل من الدنيا من طبع أهل الكفر والجهل، وكذلك رميه بالحمق والسفه. فلا تجد الناس اليوم يعظمون إلا من أقرهم على توفير دنياهم ورئاستهم. والتكاثر منها، وأما من زهدهم فيها وأمرهم بالقناعة، فإنهم يرفضونه، ويحمقونه. وهذا طبع من طبع الأمم الخالية، الجاهلة بالله، وبما أمر به، وفي الحديث: «لَتَتبعُنَّ سَننَ مَن قَبلِكُم شِبراً بِشبر، وذرَاعاً بِذرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلْوا جُحْرَ ضَبٍّ لدخَلتُمُوه» وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (88- 90):

{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90)}
قلت: جواب {إن كنت}: محذوف، أي: فهل ينبغي أن أخون في وحيه وأخالفه في أمره.
يقول الحق جل جلاله: {قال} شعيب لقومه: {يا قوم أرأيتم إن كنتم على بينةٍ من ربي}، وهي النبوة والعلم والحكمة، {ورزقني منه}؛ من عنده، وبإعانته، بلا كد في تحصيله، {رزقاً حسناً}: حلالاً، إشارة إلى من آتاه من المال الحلال. فهل يسع لِي بعد هذا الإنعام، الجامع للسعادات الروحانية والجسمانية، أن أخون في وحيه، وأخالفه في أمره ونهيه، حتى لا أنهاكم عن عبادة الأوثان، والكف عن العصيان، والأنبياء لا يبعثون إلا بذلك، وهذا منه اعتذار لما أنكروا عليه من الأمر بالخروج عن عوائدهم، وترك ما ألفوه من دينهم الفاسد، أي: كيف أترك ما أمرني به ربي من تبليغ وحيه، وأنا على بينة منه، وقد أغناني الله عنكم وعن غيركم. ولذلك قال إثره: {وما أريدُ أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه} أي: وما أريد أن آتي ما أنهاكم عنه؛ لأَستبد به دونكم، فتتهموني إن أردت الاستبداد به. يقال: خالفني فلان إلى كذا: إذا قصده، وأنت مول عنه، وخالفني عنه: إذا ولى عنه وأنت قاصده. {إن أريدُ إلا صلاحَ ما استطعت} أي: ما أريد إلا أن أصلحكم بأمري لكم بالمعروف، ونهيي لكم عن المنكر جهد استطاعتي.
قال البيضاوي: ولهذه الأجوبة الثلاثة على هذا النسق شأن، وهو التنبيه على أن العاقل يجب أن يراعي في كل ما يأتيه ويذره أحد حقوق ثلاثة: أهمها وأعلاها: حق الله تعالى. وثانيها: حق النفس، وثالثها: حق الناس. اهـ. قلت: فحق الله: كونه على بينة من ربه، وحق النفس: تمكينه من الرزق الحسَن. وحق الناس: نصحهم من غير طمع، ولا حظ.
ثم قال: {وما توفيقي إلا بالله}؛ وما توفيقي لإجابة الحق، والصواب إلا بهدايته ومعونته، {عليه توكلتُ}؛ فإنه القادر على كل شيء، وما عداه عاجز بل معدوم، ساقط عن درجة الاعتبار. وفيه إشارة إلى محض التوحيد، الذي هو أقصى مراتب العلم بالله. {وإليه أُنيب}؛ أرجع في جميع أموري. {ويا قوم لا يجرمنكم}: لا يُكسبنكم {شقاقي}: معاداتي، {أن يُصيبكم مثل ما أصاب قومَ نوح} من الغرق، {أو قومَ هودٍ} من الريح، {أو قومَ صالحٍ} من الصيحة، والمعنى: لا تخالفوني فيجركمْ ذلك إلى الهلاك كما هلك الأمم قبلكم، {وما قومُ لوطٍ منكم ببعيدٍ}؛ زماناً ولا مكاناً، فإن لم تعتبروا بمن قبلكم، فاعتبروا بهم؛ إذ هم ليسوا ببعيد منكم في الكفر والمساوئ، فلا يبْعد عنكم ما أصابهم. وإنما أفرد بعيد؛ لأن المراد: وما إهلاكهم، أو وما هم بشيء بعيد.
{واستغفروا ربَّكم ثم تُوبوا إليه} عما أنتم عليه؛ {إن ربي رحيم}؛ عظيم الرحمة للتائبين {ودود}؛ متودد إليهم، فاعل بهم من اللطف والإحسان ما يفعل البليغ بمن يوده، وهو وعد على التوبة بعد الوعيد على الإصرار.
قاله البيضاوي.
الإشارة: قد تضمنت خطبة شعيب عليه السلام ست خصال، من اجتمعت فيه فاز بسعادة الدارين: الأولى: فتح البصيرة، ونفوذ العزيمة، وتنوير القلب بمعرفة الله، حتى يكون على بينة من ربه.
الثانية: تيسير الرزق الحلال، من غير تعب ولا مشقة، يستعين به على طاعة ربه، ويقوم به بمؤنة أمره.
الثالثة: السعي في إصلاح عباد الله وإرشادهم، ودعاؤهم إلى الله من غير طمع ولا حرف، ويكون حاله يصحح مقاله، فلا يترك ما أمر به، ولا يفعل ما نهى عنه.
الرابعة: الاعتماد على الله والرجوع إليه في توفيقه وتسديده، وفي أمر دنياه ودينه، بحيث لا يرجو إلا الله، ولا يخاف إلا منه.
الخامسة: الحذر والتحذير من مخالفة ما جاءت به الرسل من عند الله، والتمسك بما أمروا به من طاعة الله، والاعتذار بمن هلك قبله ممن خالف أمر الله.
السادسة: تحقيق التوبة والانكسار، والإكثار من الذكر والاستغفار. فذلك سبب المودة من الكريم الغفار. ولأجل هذه الخطبة سُمي شعيب خطيب الأنبياء. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (91- 93):

{قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93)}
قلت: {سوف تعلمون}: ذكره هنا بغير فاء، وفي الأنعام بالفاء، لأن الكلام في سورة الأنعام مع الأمة المحمدية، فأتى بالفاء لمطلق السببية، وهنا مع قوم شعيب عليه السلام، فحذفها؛ لأنه أبلغ في التهويل. فكأن الجملة بيانية لجواب سائل قال: فما يكون بعد ذلك؟ فقال: سوف تعلمون... إلخ.
يقول الحق جل جلاله: {قالوا يا شعيبُ ما نفقه}؛ ما نفهم {كثيراً مما تقول} من أمر التوحيد، وترك التبخيس، وما ذكرت من الدليل عليها؛ وذلك لانهماكم في الهوى، وقصور عقلهم وعدم تفكرهم. وقيل: قالوا ذلك استهانة بكلامه، أو لأنهم لم يلقوا إليه أذهانهم لشدة نفرتهم. ثم قالوا: {وإنا لنراك فينا ضعيفاً}؛ لا قوة لك تمتنع بها منا إن أردنا بك سوءاً، أو: نراك ناحل البدن، أو: ضرير البصر. وضعفه ابن عطيه. {ولولا رهطُك} أي: قومك، الذين هم باقُون على ما ملتنا، وكونهم في عزة عندنا، {لرجَمْنَاكَ}: لقتلناك بالحجارة. أو بأصعب وجه، {وما أنت علينا بعزيز}؛ فتمنعنا عزتك من رجمك.
قال البيضاوي: وهذا ديدن السفيه المحجوج، يقابل الحجج والآيات بالسب والتهديد. وفي إيلاء ضميره حرف النفي تنبيه على أن الكلام فيه لا في ثبوت العزة، وأن المانع لهم من إيذائه عزة قومه. ولذلك قال: {يا قوم أرَهْطِي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءَكم ظِهْرياً}، وجعلتموه كالمنسي المنبوذ وراء الظهر، بإشراككم به، والإهانة لرسوله. وهو يحتمل الإنكار والتوبيخ والرد والتكذيب. والظهري: منسوب إلى الظهر، والكسر من تغيير البناء. اهـ. قال ابن جزي: فإن قيل: إنما وقع الكلام فيه وفي وهطه، بأنهم هم الأعزة دونه، فكيف طابق جوابه كلامهم؟ فالجواب: أن تهاونهم به، وهو رسول الله، تهاون الله. فلذلك قال: {أرهطي أعز عليكم من الله}. اهـ.
{إن ربي بما تعملون محيط} فلا يخفى عليه شيء منها، فيجازي عليها بتمامها. {ويا قوم اعملوا على مكانتكم}: على حالتكم من تمكنكم في الدنيا، وعزتكم فيها، {إني عامل} على حالي، {سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه}، يُهينه في الدنيا والآخرة، {و} سوف تعلمون {من هو كاذب} مني ومنكم، {وارتقبوا}؛ وانتظروا ما أقول لكم، {إني معكم رقيب}: مرتقب لذلك. وهو فعيل بمعنى فاعل، كالصريح والرفيع. والله تعالى أعلم.
الإشارة: لا يفقه المواعظ والتذكير إلا أهل الإيمان والتنوير. وأما القلب القاسي بالكفر والمعاصي فلا يسمع إلا ما تسمعه البهائم من الناعق والراعي. فبقدر ما يرق القلب يتأثر بالمواعظ، وبقدر ما يغلظ باتباع الحظوظ والهوى؛ يغيب عن تدبر المواعظ. وسبب تنوير القلب ورقته: قربه من الله، وتعظيمه لحرمات الله، وتعظيم من جاء من عند الله من أنبيائه ورسله، وورثتهم القائمين بحجته، كالأولياء والعلماء الأتقياء. وسبب ظلمة القلب وقساوته: بعده من الله، وإهانته لحرمات الله، واتخاذه أمره ظهرياً، وجعل ذكره نسياً منسياً. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (94- 95):

{وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)}
يقول الحق جل جلاله: {ولما جاء أمرنُا}: عذابنا لقوم شعيب، {نجينا شعيباً والذين آمنوا معه برحمة منا}، لا بعمل استحقوا به ذلك؛ إذ كل من عنده، {وأخذت الذين ظلموا الصيحةُ} قيل: صاح بهم جبريل فهلكوا، {فأصبحوا في ديارهم جاثمين}: ميتين. وأصل الجثوم: اللزوم في المكان. {كأن لم يَغْنَوا فيها} كأن لم يقيموا فيها ساعة، {ألا بعْداً لمدين كما بَعِدَتْ ثمودُ}، شبههم بهم؛ لأن عذابهم كان أيضاً بالصيحة، غير أن صيحة ثمود كانت من فوق، وصيحة مدين كانت من تحت، على ما قيل، ويدل عليه: التعبير عنهما بالرجفة في آية أخرى. والرجفة في الغالب إنما تكون من ناحية الأرض. وفي البيضاوي خلاف هذا، وهو غير جَيد.
قال قتادة: بعث الله شعيباً إلى أمتين: أصحاب الأيكة، وأصحاب مدين، فأهلك أصحاب الأيكة بالظلة، على ما يأتي، وأما أهل مدين فصاح بهم جبريل صيحة؛ فهلكوا أجمعين. قيل: وآمن بشعيب من الفئتين: تسعمائة إنسان. وكان أهل الأيكة أهل غيطة وشجر، وكان شجرهم الدَّوْم وهو شجر المُقْل.
الإشارة: سبب النجاة من الهلاك في الدارين: توحيد الله، وتعظيم من جاء من عند الله. وسبب الهلاك: الإشراك بالله، وإهانة من عظمه الله. والله تعالى أعلم.