فصل: تفسير الآيات (17- 23):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (17- 23):

{أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)}
قلت: {وما يشعرون أيان يبعثون}، الضمير الأول للأصنام، والثاني للكفار الذين عبدوهم، وقيل: للأصنام فيهما، وقيل: للكفار فيهما، و{لا جرم}: إما أن يكون بمعنى لا شك، أو لا بدّ، أو تكون {لا} نفيًا لِمَا تقدم. و{جَرَم}: فعل، بمعنى وجب، أو حق، و{أن الله}: فاعل بجَرَم.
{يقول الحقّ جلّ جلاله}: {أفمن يَخلُقُ} كل شيء، ويَقدر على كل شيء، {كمن لا يَخْلُق} شيئًا، ولا يقدر على شيء، بل هو أعجز من كل شيء؟ وهو إنكار على من أشرك مع الله غيره، بعد إقامة الدلائل المتكاثرة على كمال قدرته، وباهر حكمته، بذكر ما تقدم من أنواع المخلوقات وبدائع المصنوعات، وكان حق الكلام: أفمن لا يخلق كمن يخلق، لكنه عكس؛ تنبيهًا على أنهم، بالإشراك بالله، جعلوه من جنس المخلوقات العجزة، شبيهًا بها. والمراد بمن لا يخلق، كل ما عُبد من دون الله، وغلب أولي العلم منهم، فعبَّر بمن، أو يريد الأصنام، وأجراها مجرى أولي العلم؛ لأنهم سموها آلهة، ومن حق الإله أن يعلم، أو للمشاكلة بينه وبين من يخلق. {أفلا تذكَّرون}؛ فتعرفوا فساد ذلك؛ فإنه لظهوره كالحاصل للعقل الذي يحضر عنده بأدنى تذكر والتفات.
ولما ذكر أنواعًا من المخلوقات على وجه الاستدلال على وحدانيته- وفي ضمنها: تعداد النِعَم على خلقه- أعقبها بقوله: {وإن تعدوا نِعمةَ الله لا تُحصوها} أي: لا تطيقوا عدها، فضلاً أن تطيقوا القيام بشكرها. ثم أعقبها بقوله: {إنَّ الله لغفور رحيم}؛ تنبيهًا على أن العبد في محل التقصير، لولا أن الله يغفر له تقصيره في أداء شكر نعمه، ويرحمه ببقائها مع تقصيره في شكرها.
{والله يعلم ما تُسِرُّون وما تُعلنون} من عقائدكم وأعمالكم، وهو وعيد لمن كفر النعم وأشرك مع الله غيره، سرًا أو علانية، ثم قال تعالى: {والذين تدعون} أي: والأصنام الذين تعبدونهم {من دون الله لا يَخْلُقون شيئًا}؛ لظهور عجزهم. لَمَّا نفى المشاركة بين من يخلق ومن لا يخلق، بيَّن أنها لا تخلق شيئًا؛ ليتحقق نفي الألوهية عنها؛ ضرورةً. ثم علل عجزها، وعدم استحقاقها للألوهية بقوله: {وهم يُخْلقون} أي: وهم مخلوقون مفتقرون في وجودهم إلى التخليق، والإله لابد أن يكون واجب الوجود.
وهم، أيضًا، {أمواتٌ غير أحياء} أي: لم تكن لهم حياة قط، ولا تكون، وذلك أغرق في موتها ممن تقدمت له حياة، ثم مات. والإله ينبغي أن يكون حيًا بالذات لا يعتريه الممات. {وما يشعرون أيّان يُبعثون} أي: لا يعلمون وقت بعثهم، أو بعثِ عَبَدَتِهِمْ، فكيف يكون لهم وقت يجازون فيه من عبدهم، والإله ينبغي أن يكون عالمًا بالغيوب، قادرًا على الجزاء لمن عبده؟ وفيه تنبيه على أن البعث من توابع التكليف.
قاله البيضاوي.
قال ابنُ جُزَيْ: نفى عن الأصنام صفة الربوبية، وأثبت لهم أضدادها؛ وهي أنهم مخلوقون غير خالقين، وغير أحياء، وغير عالمين وقت البعث، فلما قام البرهان على بطلان ربوبيتهم، أثبت الربوبية لله وحده، فقال: {إلهكم إله واحد}. اهـ. وهو تصريح بما أقام عليه الحجج والبراهين بما تقدم.
ثم ذكر سبب إصرارهم على الكفر- وهو إنكار البعث والتكبر- فقال: {فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم مُنْكِرةٌ وهم مستكبرون} أي: فالمنكرون للبعث قلوبهم منكرة لوحدانيته تعالى، وهم مستكبرون عن اتّباع الرسل فيما جاؤوا به، والخضوع لهم؛ لأن المؤمن بالآخرة يكون طالبًا للدلائل، متأملاً فميا يسمع، فينتفع به، خاضعًا للحق، متبعًا لمن جاء به، بخلاف الكافر، يكون حاله بالعكس؛ منهمكًا في الغفلة، متبعًا للهوى، يُنكر بقلبه ما لا يعرف إلا بالبرهان، اتّباعًا للأسلاف، وتقليدًا لهم، وركونًا إلى المالوف.
قال تعالى: تهديدًا لمن هذا وصفه: {لا جَرَمَ}: لا بدّ، أو لا شك، أو حَقٌّ {أنَّ الله يعلم ما يُسرون وما يعلنون}، فيجازيهم عليه؛ {إنه لا يحب المستكبرين} مطلقًا، فضلاً عن الذين استكبروا عن توحيده واتّباع رسوله. ومفهومه: أنه يحب المتواضعين الخاضعين للحق، ولمن جاء به، وهم المؤمنون. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قد تضمنت الآية ثلاث خصال من خصال أهل التوحيد: الأولى: رفع الهمة عن الخلق، وتعلقها بالخالق في جميع المطالب والمآرب؛ إذ لا يترك العبد من هو خالق كل شيء، قادر على كل شي، دائم لا يموت، ويتعلق بعبد عاجز ضعيف، لا يقدر على نفع نفسه، فكيف ينفع غيره؟ {أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون}، {والذين تدعون من دون الله لا يَخلقون شيئًا وهم يُخلقون أموات غير أحياء}. وأنشدوا في هذا المعنى:
حَرَامٌ على مَنْ وَحَّد الله رَبَّهُ ** وأفْرَدَهُ أَنْ يَحْتَذِي أحدًا رِفْدَا

فَيَا صَاحِبي قفْ بي عَلَى الحَقِّ وَقْفةً ** أَمُوتُ بها وَجْدًا وأحْيَا بِها وَجْدا

وقُلْ لمُلوكِ الأرْضِ تَجْهَدُ جُهدها ** فَذَا المُلك مُلكٌ لا يُباع ولا يُهدى

والخصلة الثانية: تذكر البعث وما بعده، وتقريبُه وجعله نصب العين؛ إذ بذلك يحصل الزهد في هذه الدار الفانية، والاستعداد والتأهب للدار الباقية، وبه تلين القلوب، وتتحقق بعلم الغيوب، وبه يحصل الخضوع للحق، والتعظيم لمن جاء به. بخلاف من أنكره، أو استبعده، قال تعالى: {فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون}.
الخصلة الثالثة: التواضع والخضوع لله، ولمن دعا إلى الله، وهو سبب المحبة من الله، ورفع الدرجات عند الله؛ قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَوَاضَعَ للهِ رَفَعَهُ، ومَنْ تَكَبر وَضَعَهُ الله» وقال أيضًا: «مَنْ تَوَاضَعَ دُون قَدْره، رَفَعَهُ فوق قَدْره» بخلاف المتكبر؛ فإنه ممقوت عند الله، مطرود عن باب الله؛ قال تعالى: {إنه لا يحب المستكبرين}. وفي الحديث: «لاَ يَدْخُلُ الجنَّةَ مَنْ في قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ خَرْدلٍ مِنْ كِبْرٍ»، أو كما قال صلى الله عليه وسلم، «والتكبر: بَطَرُ الحق وغَمْطُ الناس»، أي: جحد الحق، واحتقار الناس. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (24- 29):

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)}
قلت: {ماذا}، يجوز أن يكون اسمًا واحدًا مركبًا منصوبًا ب {أَنزل}، وأن تكون (ما): استفهامية في موضع رفع بالابتداء، و(ذا): بمعنى {الذي}: خبر، وفي أنزل ضميرٌ محذوف، أي: ما الذي أنزله ربكم؟ واللام في {ليحملوا}: لام العاقبة والصيرورة، أي: قالوا: هو أساطير الأولين؛ فأوجب ذلك أن يحملوا أوزارهم وأوزار غيرهم، وقيل: لام الأمر، و{بغير علم}: حال من المفعول في {يُضلونهم}، أو من الفاعل، و{تُشاقُّون}: من قرأه بالكسر؛ فالمفعول: ضمير المتكلم، وهو الله تعالى، ومن قرأه بالفتح؛ فالمفعول محذوف، أي: تشاقون المؤمنين من أجلهم. و{ظالمي أنفسهم}: حال من ضمير المفعول في: {تتوفاهم}.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وإذا قيل لهم} أي: كفار قريش: {ماذا أنزل ربكم} على رسوله محمد- عليه الصلاة والسلام-؟ {قالوا}: هو {أساطير الأولين} أي: ما سطره الأولون وكتبوه من الخرافات. وكان النضر بن الحارث قد اتخذ كتب التواريخ، ويقول: إنما يُحدِّث مُحمدٌ بأساطير الأولين، وحديثي أجمل من حديثه. والقائل لهم هم المقتسِمُون، وتسميته، حينئذ، مُنزلاً؛ إما على وجه التهكم، أو على الفَرض والتقدير، أي: على تقدير أنه منزل، فهو أساطير لا تحقيق فيه. ويحتمل أن يكون القائل لهم المؤمنين، فلا يحتاج إلى تأويل.
{ليحملوا أوزارهَم كاملةً يوم القيامة} أي: قالوا ذلك؛ ليُضلوا الناس، فكان عاقبتهم أن حملوا أوزار ضلالهم كاملة، {ومن أوزارِ الذين يُضلونهم}: وبعض أوزار ضلال من كانوا يضلونهم- وهو حصة التسبب في الوقوع في الضلال- حال كونهم {بغير علم} أي: يضلون من لا يعلم أنهم ضُلاّل. وفيه دليل على أن الجاهل في العقائد غير معذور؛ إذ كان يجب عليه أن يبحث عن الحق وأهله، وينظر في دلائله وحُججه.
قال البيضاوي: {بغير علم}: حال من المفعول؛ أي: يضلون من لا يعلم أنهم ضُلاّل، وفائدتها: الدلالة على أن جهلهم لا يعذرهم؛ إذ كان عليهم أن يبحثوا، ويميزوا بين المحق والمبطل. اهـ. وقال المحشي: ففيه ذم تقليد المبطل، وأن مقلده غير معذور، بخلاف تقليد المحق الذي قام بشاهد صدقه المعجزة، أو غير ذلك، كدليل العقل والنقل فيما تعتبر دلالته. اهـ.
قلت: ويجوز أن يكون حالاً من الفاعل، أي: يُضِلُّونَ في حال خلوهم من العلم، فقد جمعوا بين الضلال والإضلال.
قال تعالى في شأن أهل الإضلال: {ألا سَاءَ ما يَزِرُون}، أي: بئس شيئًا يزرونه فعلهم هذا.
{قد مكر الذين من قَبلِهم} أي: دبروا أمورًا ليمكروا بها الرسل، {فأتى اللهُ بُنيانهم من القواعد} أي: قصد ما دبروه من أصله، فهدمه، {فخرَّ عليهم السَّقْفُ من فوقهم}، وصار ما دبروه، وبنوه من المكر، سبب هلاكهم، {وأتاهم العذابُ من حيث لا يشعرون}؛ لا يحتسبون ولا يتوقعون، وهو على سبيل التمثيل.
وقال ابن عباس وغيره: المراد به نمرود بن كنعان، بنى الصرح ببابل، سُمْكُهُ خمسة آلاف ذراع؛ ليترصّد أمر السماء، فبعث الله ريحًا فهدمته، فخرَّ عليه وعلى قومه، فهلكوا، وقيل: إن جبريل عليه السلام هدمه، فألقى أعلاه في البحر، وانجعف من أسفله.
{ثم يَوْمَ القيامة يُخزيهم}: يذلهم ويعذبهم بالنار، {ويقول أين شركائِيَ}، أضافها إلى نفسه؛ استهزاء، أو حكاية لإضافتهم إياها إليه في الدنيا؛ زيادةً في توبيخهم، أي: أين الشركاء {الذين كنتم تُشاقون فيهم}: تعادون المؤمنين في شأنهم، أو تشاقونني في شأنهم؛ فإن مُشاقة المؤمنين كمشاقته، أو تحاربون وتخارجون، فتكونون في شق والحق في شق، {قال الذين أُوتوا العلم}؛ وهم الأنبياء والعلماء الذين كانوا يدعونهم إلى التوحيد، فيشاققونهم ويتكبرون عليهم، أو الملائكة: {إنّ الخزي اليوم والسُّوءَ}: الذلة والعذاب {على الكافرين}. وفائدة قولهم ذلك لهم: إظهارُ الشماتة وزيادة الإهانة، وحكايته، ليكون لطفاً لمن سمعه من المؤمنين، فيزيد حذرًا وحزمًا في الطاعة، وقال الواحدي: إن الخزي اليوم والسوء عليهم لا علينا. اهـ. أي: فيقولونه؛ اعترافًا واستبشارًا بإنجاز ما وعدهم الله، كما قالوا: الحمد لله الذي هدانا لهذه الهداية.
ثم وصفهم بقوله: {الذين تتوفاهم الملائكةُ}؛ تقبض أرواحهم {ظالمي أنفسِهِم}؛ بأن عرضوها للعذاب المخلد، {فألقَوُا السَّلَمَ} أي: استسلموا، وألقوا القياد من أنفسهم، حين عاينوا الموت، قائلين: {ما كنا نعملُ من سُوء}: من كفر وعدوان، يحتمل أن يكون قولهم ذلك قصدوا به الكذب؛ اعتصامًا به، كقولهم: {والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعَام: 23]، أو يكونوا أخبروا على حساب اعتقادهم في أنفسهم، فلم يقصدوا الكذب، ولكنه كذب في نفس الأمر. قال الحسن: هي مواطن، فمرة يُقرون على أنفسهم، كما قال تعالى: {وَشَهِدُواْ على أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ} [الأنعَام: 130]، ومرة يجحدون كهذه الآية، فتجيبهم الملائكة بقولهم: {بلى} قد كنتم تعملون السوء والعدوان، {إن الله عليم بما كنتم تعملون} فهو يجازيكم عليه. وقيل: إن قوله: {فألقَوُا السَّلَمَ} إلى آخر الآية، راجع إلى شرح حالهم يوم القيامة، فيتصل في المعنى بقوله عزّ وجلّ: {أين شركائي الذين كنتم تُشاقون فيهم} إلخ، فيكون الرَّادُ عليهم بقوله: (بلى)، هو الله تعالى، أو: أولو العلم، ويُقوي هذا قوله بعده: {فادخلوا أبواب جهنم}؛ لأن دخولها لا يكون إلا بعد البعث والحساب، لا بعد الموت؛ إذ لا يكون بعد الموت إلا العرض عليها غُدوًا وعشيًا، والمراد بدخول أبوابها، أي: التي تفضي إلى طبقاتها، التي هي بعضها على بعض، وأبوابها كذلك، كل صنف يدخل من بابه المُعَدِّ له، {خالدين فيها فلبئس مثوى} أي: مقام {المتكبرين} جهنم.
الإشارة: وإذا قيل لأهل الغفلة والإنكار: ماذا أنزل ربكم، على قلوب أولياء زمانكم؛ من المواهب وأسرار الخصوصية؟ قالوا: أساطير الأولين، ثم عَوَّقُوا الناس عن الدخول في طريقهم؛ لتطهير قلوبهم، فيحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة؛ حيث ماتوا مصرين على الكبائر وهم لا يشعرون.
ويحملون من أوزار الذين يضلونهم عن طريق الخصوص بغير علم، بل جهلاً وعنادًا وحسدًا، ألا ساء ما يزرون.
قلت: الذي أتلف العوام عن الدين ثلاثة أصناف: علماء السوء، وفقراء السوء- وهم أهل الزوايا والنسبة-، وقراء السوء؛ لأن هؤلاء هم المقتدى بهم، والمنظور إليهم، فإذا رأوهم أقبلوا على الدنيا، وقصروا في الدين، تبعوهم على ذلك؛ فضلوا معهم، فقد ضلوا وأضلوا، وإذا أنكروا على أولياء الله، ومكروا بهم، اقتدوا بهم في ذلك فيتولى الله حفظ أوليائه، ويهدم مكرهم؛ قال تعالى: {فأتى الله بنيانهم من القواعد}... الآية، فإذا كان يوم القيامة أبعدهم عن حضرته، وأسكنهم مع عوام خلقه. فإذا أنكروا ما فعلوا في الدنيا، يقال لهم: {بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون}، فيخلدون في عذاب القطيعة والحجاب، فبئس مثوى المتكبرين. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (30- 32):

{وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)}
قلت: {خيراً}: منصوب بفعل محذوف، أي: أنزل خيرًا، فهو مطابق للسؤال؛ لأن المؤمنين معترفون بالإنزال، بخلاف قوله: {أساطير الأولين}؛ فهو مرفوع على الخبر؛ لأنهم لا يُقرون بالإنزال، فلا يصح تقدير فعله. وإنما عدلوا بالجواب عن السؤال؛ لإنكارهم له، وقالوا: هو أساطير الأولين ولم ينزله الله. و{للذين}: خبر، و{حسنة}: مبتدأ، والجملة: بدل من {خيرًا}، أو تفسير الخير الذي قالوه، والظاهر أنه استئناف من كلام الحق. {جنات عدن}: يحتمل أن يكون هو المخصوص بالمدح، فيكون مبتدأ، وخبره فيما قبله، أو خبر ابتداء مضمر، أو مبتدأ، وخبره: {يدخلونها}، أو محذوف، أي: لهم جنات عدن. و{طيبين}: حال من مفعول توفاهم.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وقيل للذين اتقوا} الشرك، وهم المؤمنون: {ماذا أنزل ربكم قالوا خيرًا}، أي: أنزل خيرًا، مقرين بالإنزال، غير مترددين فيه ولا متلعثمين عنه، على خلاف الكفرة؛ لمَّا ذكر الحق تعالى مقالة الكفار الذين قالوا: أساطير الأولين، عادل ذلك بذكر مقالة المؤمنين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأوجب لكل فريق ما يستحق من العقاب أو الثواب، رُوي أن العرب كانوا يبعثون أيام الموسم من يأتيهم بأخبار النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا جاء الوفد، وسأل المقتسمين، من الكفار، قالوا له: أساطير الأولين، وإذا سال المؤمنين: ماذا أنزل ربكم؟ قالوا: خيرًا. فنزلت الآية في شأن الفريقين.
ثم ذكر جزاء المؤمنين فقال: {للذين أحسنوا في هذه الدنيا} بالإِيمان والطاعة، {حسنة} أي: حالة حسنة؛ من النصر، والعز، والتمكين في البلاد، مع الهداية للمعرفة والاسترشاد. {ولَدارُ الآخرةِ خيرٌ} أي: ولثواب الآخرة خير مما قدَّم لهم في الدنيا؛ لدوامه، وصفائه، وعظيم شأنه، وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الله لا يَظْلِمُ المُؤْمِنَ حَسَنةً، يُثَابُ عَلَيها الرزْقَ فِي الدُّنيَا، ويُجَازَى بِهَا فِي الآخِرَة» {ولنعم دارُ المتقين} دار الآخرة، حذفت، لتقدم ذكرها، أو هي: {جناتُ عدنٍ يدخلونها} على الأبد، {تجري من تحتها الأنهارُ لهم فيها ما يشاؤونَ} من أنواع المشتهيات؛ حسية ومعنوية، وفي تقديم الظرف في قوله: {فيها}؛ تنبيه على أن الإنسان لا يجد جميع ما يريد إلا في الجنة. قاله البيضاوي.
{كذلك يَجزي اللهُ المتقين} الذين قالوا خيرًا وفعلوا خيرًا، وأحسنوا في دار الدنيا حتى ماتوا على الإحسان، كما قال: {الذين تتوفاهم الملائكة طيبين}: طاهرين من ظُلم أنفسهم بالكفر والمعاصي؛ لأنه في مقابلة ظالمي أنفسهم، وقيل: فرحين؛ لبشارة الملائكة إياهم بالجنة، أو طيبين بقبض أرواحهم؛ لتوجه نفوسهم بالكلية إلى الحضرة القدسية. قاله البيضاوي. وقال ابن عطية: {طيبين}: عبارة عن صلاح حالهم، واستعدادهم للموت. وهذا بخلاف ما قال في الكفرة: {ظالمي أَنْفُسِهِم} [النساء: 97؛ والنحل: 28]، والطيب لا خبث معه، ومنه قوله تعالى: {طِبْتُمْ فادخلوها} [الزُّمَر: 73]. اهـ.
وقال الترمذي الحكيم: {طيبين} أي: مستعدين للقاء، يُسلَّم عليهم، ويقال لهم: ادخلوا الجنة بلا هول ولا حساب، بخلاف غير المستعد للقاء، فإنما يسلم عليه، ويقال له: ادخل الجنة بعد أهوال القبر وأهوال القيامة. اهـ. وهذا معنى قوله: {يقولون سلام عليكم}؛ لا يلحقكم بعدُ مكروهٌ. وهذا لأجل الاستعداد كما تقدم. ثم تقول لهم: {ادخلُوا الجنة} بعد بعثكم، أو بأرواحكم في عالم البرزخ، إن كانوا من الشهداء أو الصديقين، {بما كنتم تعملون} في دار الدنيا.
فإن قلت: كيف التوفيق بين الآية وبين الحديث: «لن يَدْخُل أحدُكُم الجَنَّة بعَمَلِهِ، قالوا: ولا أَنْتَ؟ قَالَ: ولا أَنَا، إِلاَّ أنْ يَتَغَمَّدَنِي اللهُ بِرَحْمَتِه»؟ فالجواب: أن الهداية لصالح العمل، والتوفيق له، هو برحمة الله أيضًا، فالعمل الصالح رحمة من رحمات الله، فما دخل أحد الجنة إلا برحمته، فرجعت الآية إلى الحديث. ومقصد الحديث: نفي وجوب ذلك على الله تعالى بالعقل، كما ذهب إليه فريق من المعتزلة. وهنا جواب آخر صوفي؛ وهو الجمع بين الحقيقة والشريعة، فنسبة العمل إلى العبد شريعة، ونفيه عنه، بإجراء الله ذلك عليه، حقيقة. فالآية سلكت مسلك الشريعة في نسبة العمل للعبد؛ فضلاً ونعمة؛ «من تمام نعمته عليك أن خلق فيك ونسب إليك». والحديث سلك مسلك الحقيقة؛ لأن الدين كله دائر بين حقيقة وشريعة، فإذا شرَّع القرآنُ حققته السُّنة، وإذا شرَّعت السُّنةُ حققها القرآن. والله تعالى أعلم.
الإشارة: وقيل للذين اتقوا التقوى الكاملة: ماذا أنزل ربكم من المقادير؟ قالوا: خيرًا، فكل ما ينزل بهم من قدر الله وقضائه، جلاليًا كان أو جماليًا، جعلوه خيرًا، وتلقوه بالرضا والتسليم. يقولون: إذا كنتَ أنتَ المُبْتَلِي فافعل ما شئت، لا يتضعضعون ولا يسأمون، ولا يشكون لأحد سوى محبوبهم؛ لأن الشكوى تنافي دعوى المحبة، كما قال الشاعر:
إِنْ شَكَوْتَ الهَوَى فما أنت منّا ** احْمِلِ الصَّدَ والجفا يا مُعَنَّا

تَدَّعِي مَذْهبَ الهَوى ثم تَشْكُو ** أين دَعْوَاك في الهَوَى قَل لِيَ أيْنَا

لَو وَجَدْنَاكَ صابرًا لِهَوانا ** لأعْطيناك كُلَّ ما تتمنى

وإنما قالوا، في كل ما ينزل بهم: خيرًا، أو جعلوه لطفًا وبرًا؛ لما يجدون في قلوبهم، بسببه، من المزيد والألطاف، والتقريب وطي مسافة النفس، ما لا يجدونه في كثير من الصلاة والصيام سنين؛ لأن الصلاة والصيام من أعمال الجوارح، وما يحصل في القلب من الرضا والتسليم، وحلاوة القرب من الحبيب، من أعمال القلوب، وذرة منها خير من أمثال الجبال من أعمال الجوارح.
وفي الخبر: «إذَا أحَبَّ اللهُ عَبْد ابْتَلاَهُ، فَإِنْ صَبَرَ اجْتَبَاهُ، وإِنْ رَضِيَ اصْطَفَاه» وفي صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «عَجَبًا لأمر المُؤْمن، إنَّ أمرَهُ كُلَّهُ له خَيرٌ، وليْسَ ذلِكَ لأحَدٍ إلاَّ للمُؤْمِنِ. إن أصَابَتْهُ سَرَّاءُ شكَرَ، فَكَانَ خَيرًا لََهَ، وإنْ أصَابَتْه ضَرَّاءُ صَبَرَ، فَكَانَ خَيرًا لَهُ» وفي البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما يُصيب المؤمنَ من وَصَبٍ، ولا نَصَبٍ، ولا سَقَمٍ، ولا حَزَنٍ، حتى الهَمُّ يُهِمُّه، إلا كفّر له من سيئاته» وقال أيضًا صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ مُسْلِم يُصِيبُهُ أَذىً من مرض فَمَا سَواه، إلا حَطَّ به عنه سَيِّئاتِهِ كَمَا تَحُطَّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا» ورُوي عن عيسى عليه السلام أنه كان يقول: لا يكون عالمًا من لم يفرح بدخول المصائب والأمراض على جسده وماله؛ لِمَا يرجو بذلك من كفارة خطاياه. اهـ. فتحصل أن ما ينزل بالمؤمن كُلَّهُ خير، فإذا سئل: ماذا أنزل ربكم؟ قال خيرًا.
ثم قال تعالى: {للذين أحسنوا في هذه الدنيا}؛ أي: بالرضا عني في جميع الأحوال، والاشتغال بذكري في كل حال، لهم في الدنيا {حسنةٌ}: حلاوة المعرفة، ودوام المشاهدة، {ولدارُ الآخرة خيرٌ}؛ لصفاء المشاهدة فيها، واتصالها بلا كدر؛ إذ ليس فيها من شواغل الحس ما يكدرها، بخلاف الدنيا؛ لأن أحكام البشرية لا ينفك الطبع عنها، كغلبة النوم، وتشويش المرض وغيره، بخلاف الجنة، ليس فيها شيء من الكدر، ولذلك مدحها بقوله: {ولَنِعْمَ دارُ المتقين}.
ثم قال: {كذلك يجزي الله المتقين} لكل ما يشغل عن الله؛ الذين تتوفاهم الملائكة طيبين، طاهرين، مطهرين من شوائب الحس، ودنس العيوب، طيبة نفوسُهم بحب اللقاء، قد طيبوا أشباحهم بحسن المعاملة، وقلوبهم بحسن المراقبة، وأرواحهم بتحقيق المشاهدة. تقول لهم الملائكة الكرام: سلام عليكم، ادخلوا جنة المعارف إثر موتكم، وجنة الزخارف إثر بعثكم؛ بما كنتم تعملون من تطهير أجسامكم من الزلات، وتطهير قلوبكم من الغفلات، وتطهير أرواحكم من الفترات. وبالله التوفيق.