فصل: تفسير الآيات (79- 83):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (79- 83):

{أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)}
قلت: {مسخرات}: حال من {الطير}، و{سكنًا}: مصدر وُصف به، أي: شيئًا سكنًا، أو: فَعَلٌ؛ بمعنى مفعول. و{أثاثًا}: مفعول بمحذوف، أي: وجعل من أوبارها أثاثًا.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ألم يروا}، وفي قراءة: {ألم تروا}؛ بتوجيه الخطاب لعامة الناس، {إلى الطير مسخراتٍ}: مذللات للطيران بما خلق لها من الأجنحة والأسباب المواتية، {في جو السماء}؛ في الهواء المتباعد من الأرض. {ما يُمسكهنَّ} فيه {إلا اللهُ}؛ فإن ثِقلَ جسدها يقتضي سقوطها، ولا علاقة فوقها ولا دعامة تحتها تمسكها، {إنَّ في} تسخيره {ذلك} لها {لآيات}؛ لعبرًا ودلالة على قدرته تعالى؛ إذ لا فاعل سواه؛ فإنَّ إمساك الطيران في الهواء هو على خلاف طباعها، لولا أن القدرة تحملها، ففيه آيات {لقوم يؤمنون}؛ لأنهم هم المنتفعون بها.
{والله جعل لكم من بيوتكم سكنًا}: موضعًا تسكنون فيه وقت إقامتكم، كالبيوت المتخذة من الحجر والمدَر. و{مِنْ} للبيان، أي: جعل لكم سكنًا، أي: موضعًا تسكنونه، وهو بيوتكم، {وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتًا}، هي القباب المتخذة من الأدم، ويجوز أن يتناول المتخذة من الوبَر والصوف والشعر، فإنها، من حيث إنها نابتة على جلودها، كأنها من جلودها، {تستخفونها} أي: تجدونها خفيفة، يخف عليكم حملها وثقلها {يوم ظعنكم} أي: سفركم، وفيه لغتان: الفتح والسكون، {ويوم إقامتكم}: حضوركم، أو نزولكم، {و} جعل {من أصوافها} أي: الغنم، {وأوبارها} أي: الإبل، {وأشعارها} أي: المعز، {أثاثًا}: متاعًا لبيوتكم؛ كالبسُط والأكسية، {ومتاعًا} تمتعون به {إلى حينٍ}؛ إلى مدة من الزمان، فإنها، لصلابتها، تبقى مدة مديدة، أو: إلى مماتكم، أو: إلى أن تقضوا منها أوطاركم، أو: إلى أن تبلى.
{والله جعل لكم مما خلق} من الشجر والجبال والأبنية، وغيرها، {ظِلالاً} تتقون بها حر الشمس، {وجعل لكم من الجبال أكنانًا}؛ جمع: كَن، ما تكنون، أي: تستترون به من الحر والبرد، كالكهوف والغيران والبيوت المجوفة فيها، {وجعل لكم سرابيل} جمع: سربال؛ ثيابًا من الصوف والكتان والقطن وغيرها، {تقيكم الحرَّ} والبرد، وخص الحر بالذكر، اكتفاء بأحد الضدين، أو لأن وقاية الحر كانت أهم عندهم. {وسرابيل تقيكم بأسكم}: حربكم، كالطعن والضرب. وهي: الدروع، وتسمى: الجواشن، جمع جَوشن، وهو الدرع، {كذلك}؛ كإتمام هذه النعم؛ بخلق هذه الأشياء المتقدمة، {يُتم نعمتَه عليكم} في الدنيا؛ بخلق ما تحتاجون إليه، {لعلكم} يا أهل مكة {تُسْلمون} أي: تنظرون في نعمه، فتؤمنون به، أو تنقادون لحكمه. وفي قراءة: بفتح التاء، أي: تسلمون من العذاب بالإيمان، أو تنظرون فيها، فتوحدون، وتَسلمون من الشرك، أو من الجراح؛ بلبس الدروع.
{فإِن تولوا}: أعرضوا، ولم يقبلوا منك، أو لم يُسلموا. {فإِنما عليك} يا محمد {البلاغُ المبين} أي: الإبلاغ البين، فلا يضرك إعْراضهم حيث بلَّغْتَهُمْ.
{يعرفون نِعْمَتَ الله} أي: يُقرون بأنها من عنده، {ثم يُنكرونها} بإشراكهم وعبادتهم غيرَ المنعِم بها، وبقولهم: إنها بشفاعة آلهتنا، أو بسبب كذا، أو بإعراضهم عن حقوقها. وقيل: نعمة الله: نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، عرفوها بالمعجزات، ثم أنكروها؛ عنادًا. {وأكثرهم الكافرون}؛ الجاحدون؛ عنادًا. وذكر الأكثر؛ إمَّا لأن بعضهم لم يعرف الحق؛ لنقصان عقله، أو لتفريطه في النظر، أو لم تقم عليه الحجة؛ لأنه لم يبلغ حد التكليف، أو كان فيهم من داخله الإسلام، ومن أسلم بعد ذلك. وإما لأنه أقام الأكثر مقام الكل، كقوله: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [النّحل: 75]. قال بعضه البيضاوي.
الإشارة: قال الورتجبي: بيَّن الحقُّ تعالى قدرته في إمساكه أطيار الأرواح في هواء الملكوت وسماء الجبروت، حتى ترفرفت بأجنحة العرفان والإيقان، على سرادق مجده وبساط كبريائه، مسخرات بأنوار جذبه، ما يمسكهن إلا الله، بكشف جماله لها، أمسكها به عن قهر سلطانه وسُبحات جلاله، حتى لا تفنى- أي: تتلاشى- في بهائه. اهـ.
والله جعل لكم من بيوتكم سكنًا- وهي العبودية-، تسكنون فيها وتأوون إليها، بعد طيران الفكرة في جو أنوار الملكوت، وميادين أسرار الجبروت. أو الحضرة تسكن فيها قلوبكم، فتصير مُعَشَّشَ أرواحكم، إليها تأوون، وفيها تسكنون. وجعل لكم منازل تنزلون فيها عند السير إلى حضرة ربكم، وهي المقامات التي يقطعها المريد، ينزل فيها ويرتحل عنها. وجعل لكم من أردية الأكوان وألوانها واختلاف أصنافها، تمتعًا بشهود أنوار مكونها فيها، إلى انطوائها وظهور أضدادها بقيام الساعة، فتظهر القدرة وتبطن الحكمة، ويظهر المعنى ويبطن الحس.
والله جعل لكم مما خلق من الأكوان ظلالاً، والظلال لا وجود لها من ذاتها، فكذلك الأكوان لا وجود لها مع الحق، وإنما هي ظلال. والظلال ليست بموجودة ولا مفقودة. وجعل لكم من جبال العقل أكنانًا، تستترون بنوره من جذب الاصطلام؛ بمواجهة أنوار الحضرة. وجعل لكم سرابيل الشرائع تقيكم حَرَّ الحقيقة، وسرابيل الحقائق تقيكم بأس سهام الأقدار، فإنَّ من عرف الله؛ حقيقة؛ هان عليه ما يُواجَهُ به من المكاره. وفي هذا المعنى أنشد بعضهم:
نِلْبِسٍ عمَامْ مِنِ الماءْ ** وِنْشِدِّهَا شَدِّ مَائِلْ

وِنِلْبِسْ مِنِ الثَّلْجِ بُرْنُسْ ** إِذا حِمِتِ الْقَوائِلْ

وِنِشْعِلْ مِنِ الرِّيحْ قَنْدِيلْ ** وِمْنِ الضَّبْابْ فَتَائِل

والمراد بعمامة الماء: كناية عن الحقيقة؛ لأنها كالماء لحياة النفوس. وميل شدها: كناية عن قوتها، وتكبيرها؛ على الشريعة. والمراد ببرنس الثلج: برد التشريع، فإذا قويت الحقيقة، وخاف من الاحتراق، نزل إلى برد التشريع. والمراد بالريح: هبوب نسيم الواردات الإلهية، يشعل منها قنديل الفكرة- التي هي سراج القلب-، فإذا ذهبت فلا إضاءة له، وهذه حالة السائر، وأما الواصل فقد سكن النور في قلبه، فلا يحتاج إلى سراجٍ غيره تعالى. وفي ذلك يقول الشاعر:
كُلُّ بَيْتٍ أنت سَاكنُهُ ** غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلى سُرُجِ

وَجْهُكَ المَحْمُودُ حُجَّتُنَا ** يوم يأْتِي الناس بالحجج

والمراد بالضباب: وجود السِّوى، فإنه يحترق عند اشتعال الفكرة. والله تعالى أعلم. وباقي الآية ظاهر إشارته. ثم ذكر وعيد من أعرض عن هذه النعم، التي هي دلائل قدرته.

.تفسير الآيات (84- 89):

{وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)}
قلت: {تبيانًا}: حال من الكتاب، وهو مصدر، قال في القاموس: والتبيان: مصدر شاذ. وفي ابن عطية: والتبيان: اسم، لا مصدر. والمصادر في مثله مفتوحة، كالترداد والتكرار. اهـ. وقال في الصحاح: لم يجيء على الكسر إلا هذا، والتِّلقاء. اهـ.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {و} اذكر {يومَ نبعثُ من كل أمة} من الأمم {شهيدًا} أي: رسولاً يشهد لها أو عليها، بالإيمان أو بالكفر، وهو يوم القيامة، {ثم لا يُؤْذَنُ للذين كفروا} في الاعتذار؛ إذ لا عذر لهم. أو: في الرجوع إلى الدنيا. وعبَّر بثم؛ لزيادة ما يحيق بهم من شدة المنع من الاعتذار، مع ما فيه من الإقناط الكلي. {ولا هم يُستعتَبون}: لا يطلب منهم العتبى، أي: الرجوع إلى ما يرضي الله. والمعنى: أنهم لا يؤذن لهم في الاعتذار عما فرطوا فيه مما يرضي الله، ولا يطلب منهم الرجوع إلى تحصيله. {وإذا رأى الذين ظلموا}: كفروا {العذاب}: جهنم {فلا يُخفف عنهم} العذابُ {ولا هم يُنظرون}؛ يُمهلون عنه إذا رأوه.
{وإذا رأى الذين أشركوا شركاءَهم}: أوثانهم التي دعوها شركاء الله، أو الشياطين الذين شاركوهم في الكفر؛ بالحمل عليه، {قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعُو من دونك} أي: نعبدهم ونطيعهم من دونك. وهو اعتراف بأنهم كانوا مخطئين في ذلك. {فأَلْقَوا إليهم القولَ} قالوا لهم: {إنكم لكاذبون} أي: أجابوا بالتكذيب في أنهم شركاء الله، أو أنهم عبدوهم حقيقة، وإنما عبدوا أهواءهم؛ كقوله: {كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ} [مريَم: 82]، وقوله: {مَا كانوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} [القَصَص: 63]، أو لأنهم، لما كانوا غير راضين بعبادتهم، فكأن عبادتهم لم تكن لهم. {وألْقَوا إلى الله يومئذ السَّلم} أي: الاستسلام، أي: استسلموا لحكمه {يومئذ}، بعد أن تكبروا عنه في الدنيا، ولا ينفع يومئذ، {وضلّ عنهم} أي: غاب وضاع وبطل {ما كانوا يفترون} من أن آلهتهم تنصرهم وتشفع لهم.
{الذين كفروا وصدُّوا} الناس {عن سبيل الله}؛ بالمنع من الإسلام، والحمل على الكفر، {زدناهم عذابًا}؛ بصدهم، {فوق العذابِ} المستحق بكفرهم. قال ابن مسعود: «عقارب، أنيابها كالنخل الطوال، تلسعهم». وعن عبيد بن عمير: عقارب كالبغال الدُّلْم- أي: السود جدًا-، والأدلم: الشديد السواد. وذلك العذاب {بما كانوا يُفسدون} أي: بكونهم مفسدين؛ بصدهم عما فيه صلاح العالم.
{و} اذكر أيضًا: {يومَ نبعثُ في كل أمةٍ شهيدًا عليهم من أنفسهم}؛ يعني: نبيهم؛ فإنَّ نبي كل أمة بعث منها. {وجئنا بك} يا محمد {شهيدًا على هؤلاء}؛ على أمتك، أو على هؤلاء الشهداء، {ونزَّلنا عليك الكتابَ}: القرآن {تبيانًا}؛ بيانًا بليغًا {لكل شيءٍ} من أمور الدين على التفصيل، أو الإجمال؛ بالإحالة على السنة أو القياس. {وهُدىً} من الضلالة، {ورحمة} بنور الهداية لجميع الخلق.
وإنما حُرم المحروم؛ لتفريطه، {وبُشرى} بالجنة، وغيرها، {للمسلمين} الموحدين خاصة. وبالله التوفيق.
الإشارة: قد بعث الله في كل دهر وعصر شهيدًا يشهد على أهله، ويكون حجة عليهم يوم القيامة، وهم صنفان: صنف يشهد على من فرط في أحكام الشريعة، وهم: العلماء الأتقياء، وصنف يشهد على من فرط في أسرار الحقيقة، وهم: الأولياء الكبراء، أعني: العارفين بالله، فمن فرط في شيء منهما قامت عليه الحجة؛ فإذا اعتذر لا ينفه، وإذا طلب الرجوع لا يجده، وإذا أحاط به عذاب الحجاب لا ينفك عنه. وكل من أحب شيئًا من دون الله، تبرأ منه يوم القيامة، وكل من أنكر الخصوصية على أولياء زمانه، وصد الناس عنه؛ تضاعف عذابه، وكثف حجابه يوم القيامة. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآية رقم (90):

{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {إنَّ الله يأمر بالعدل} أي: التوحيد، أو الإنصاف، أو فعل الفرائض، {والإحسانِ}، وهو: فعل المندوبات. وذلك في حقوق الله تعالى، وفي حق عباده، أو العدل في الأحكام، كل واحد فيما ولي فيه؛ «كلكم راع». والإحسان إلى عباد الله بَرهم وفَاجرهم. قال ابن عطية: العدل: هو فعل كل مفروض؛ من عقائد وشرائع، وسير مع الناس في أداء الأمانات، وترك الظلم، والإنصاف، وإعطاء الحق. والإحسان هو: فعل كل مندوب إليه.
وقال البيضاوي: {إن الله يأمر بالعدل}: بالتوسط في الأمور؛ اعتقادًا، كالتوحيد المتوسط بين التعطيل والتشريك، والقول بالكسب، المتوسط بين محض الجبر والقدر، وعملاً، كالتعبد بأداء الواجبات، المتوسط بين البطالة والترهب، وخُلُقًا، كالجود المتوسط بين البخل والتبذير، والإحسان: إحسان الطاعات، وهو إما بحسب الكمية، كالتطوع بالنوافل، أو بحسب الكيفية، كما قال- عليه الصلاة والسلام-: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراكرضي الله عنه» {وإيتاء ذي القربى}: وإعطاء الأقارب ما يحتاجون إليه، وهو تخصيص بعد تعميم؛ للمبالغة.
{وينهى عن الفحشاء}: عن الإفراط في متابعة القوة الشهوية، كالزنى؛ فإنه أقبح أحوال الإنسان وأشنعها، {والمنكر}: ما ينكر على متعاطيه في إيثاره القوة الغضبية، {والبغي}: الاستعلاء والاستيلاء على الناس، والتجبر عليهم، فإنها الشيطنة التي هي مقتضى القوة الوهمية، ولا يوجد من الإنسان شر إلا وهو مندرج في هذه الأقسام، صادر بتوسط إحدى هذه القوى الثلاث، ولذلك قال ابن مسعود رضي الله عنه: هي أجمع آية في القرآن للخير والشر. وصارت سبب إسلام عثمان بن مظعون، فلو لم يكن في القرآن غير هذه الآية لصدق عليه أنه تبيان لكل شيء، وهدى ورحمة للعالمين، ولعل إيرادها عقب قوله: {ونزلنا عليك الكتاب تبيانًا لكل شيء}؛ للتنبيه عليه. اهـ.
وفي القوت: هي قطب القرآن. اهـ. وعن عثمان بن مظعون: أنه قال: لَمَّا نزلت هذه الآية؛ قرأتُها على أبي طالب، فعجب، وقال: آلَ غالبٍ، اتبعوه تُفلحوا، فوالله إن الله أرسله ليأمر بمكارم الأخلاق. اهـ. قال ابن عطية: {وإيتاء ذي القربى}: لفظ يقتضي صلة الرحم، ويعم جميع إسداء الخير إلى القرابة، وتركه مبهمًا أبلغ؛ لأن كل من وصل في ذلك إلى غاية- وإن علت- يرى أنه مقصر، وهذا المعنى المأمور به في جانب ذي القربى داخل تحت العدل والإحسان، لكنه تعالى خصه بالذكر؛ اهتمامًا به وحضًا عليه. اهـ.
{يَعِظُكُم} بما ذكر من التمييز بين الأمر والنهي، والخير والشر، {لعلكم تذكَّرون}: تتعظون فتنهضون إلى ما أمرتكم به وندبتكم إليه، وتنكفوا عما نهيتكم عنه وحذرتكم منه.
الإشارة: {إن الله يأمر بالعدل}؛ بالتوسط في الأمور كلها، كالتوسط في السير والمجاهدة؛ فإن الإسراف يوقع في الملل، قال- عليه الصلاة والسلام-: «لا يكن أحدكم كالمنبت؛ لا أرضًا قطع، ولا ظهرًا أبقى» وقال صلى الله عليه وسلم أيضًا: «إنَّ اللهَ لا يملَ حتى تَملوا» والله ما رأيت أحداً أسرف في الأحوال فوصل إلى ما قصد، إلا النادر، وخير الأمور أوسطها. ويأمر بالإحسان، وهو: مقام الشهود والعيان. {وإيتاء ذي القربى}؛ قرابة الدين، وهم: الإخوان في الله، ما يستحقونه من النصح والإرشاد، {وينهى عن الفحشاء}: الركون لغير الله، {والمنكر}: التكبر على عباد الله، {والبغي}: ظلم أحد من خلق الله، من الفيل إلى الذرة.
وقال في الإحياء: بين التبذير والإقتار المذمومين وسط، وهو المحمود المأمور به، والواجب منه شيئان: واجب بالشرع، وواجب بالمروءة. والسخي هو الذي لا يمنع واجب الشرع ولا واجب المروءة، فإن منع واحدًا منهما فهو بخيل، كالذي يمنع أداء الزكاة، ويمنع أهله وعياله النفقة، أو يؤديها لا بطيب نفسه، بل بتكلف، ومشقة. وكالذي يتيمم الخبيث من ماله، ولا يعطي من أطيبه وأوسطه، فهذا كله بُخل. وأما واجب المروءة فهو: ترك المضايفة والاستقصاء في المحقرات، وذلك يختلف؛ فيستقبح من الغني ما لا يستقبح من الفقير، ويستقبح من الرجل مع أقاربه ما لا يستقبح مع الأجانب، وكذلك الجار والمماليك والضيف. اهـ.
وقال الورتجبي: إن الله تعالى دعا عباده إلى الاتّصاف بصفته، منها: العدل والإحسان والشفقة والرحمة، والقدس، والطهارة عما لا يليق به. فهو العادل والمحسن، والرحمن الرحيم، غير ظالم جائر، وهو مُنزه عن جميع العلل، فمن كُسِي أنوار هذه الصفات، بنعت الذوق والمباشرة، واستحلى تربيتها يخرج عادلاً محسنًا، رؤوفًا رحيمًا، طاهرًا مطهرًا، صادقًا مصدقًا، وليًا، حبيبًا محبوبًا، مريدًا مرادًا، مُراعَى محفوظًا، يعدل بنفسه فيدفعها عن الشك والشرك، ورؤية الغير وطلب العوض في العبودية، ويأخذ منها الإنصاف بينها وبين عباد الله، ويحسن إلى من أساء إليه، ويعبد الله بوصف الرؤية وشهود غيبه، ويراعي ذوي القرابة، في المعرفة والمحبة؛ من المريدين والصادقين، ويرحم الجهال من المسلمين، وينهى نفسه عن مباشرة فواحش الأنانية، ومباشرة الهوى والشهوة، ويدفعها عن الظلم؛ باستكباره عن العبودية، ويأمرها بإذعانها عند تراب أقدام أولياء الله؛ لتكون مطمئنة في عبودية الحق، ذاكرة لسلطان ربوبيته، وقهر جبروته وملكوته وإحاطته بكل ذرة، وفناء الخليقة في حقيقته. اهـ.