فصل: تفسير الآيات (30- 31):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (30- 31):

{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)}
قلت: جملة: {إنّا لا نضيع}: خبر إن، والعائد محذوف، أي: أحسن عملاً، أو: وقع الظاهر موقعه؛ فإن من أحسن عملاً في الحقيقة هو الذي آمن وعمل صالحًا. و{أولئك}: استئناف؛ لبيان الأجر، أو: خبر إن، وما بينهما اعتراض، أو خبر بعد خبر. و{من أساور}: ابتدائية، و{من ذهب}: بيانية، و{أساور}: جمع أسورة، أو أسوار جمع سوار، فهو جمع الجمع.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {إِن الذين آمنوا} أي: اختاروا الإيمان، من قوله: {فمن شاء فليؤمن}، وكأنه في المعنى عطف على قوله: {أعتدنا للظالمين}، أي: والذين آمنوا هيأنا لهم كذا وكذا، ولعل تغيير سبكه: للإيذان بكمال تنافي مآلَيْ الفريقين، أي: إن الذين آمنوا بالحق الذي أُوحي إليك {وعَمِلُوا} الأعمال {الصالحات}، حسبما بيَّن فيما أوحي إليك، {إِنا لا نُضِيعُ أجرَ من أحسن عملاً}، وأتقنه على ما تقتضيه الشريعة.
{أولئك}؛ المنعوتون بهذه النعوت الجليلة {لهم جناتُ عدن تجري} من تحت قصورهم {الأنهار}؛ من ماء ولبن وخمر وعسل، {يُحلَّون فيها من أساورَ من ذهب}
أي: كل واحد يُحلَّى بسوارين من ذهب. وكانت الأساور عند العرب من زينة الملوك، {ويَلْبَسُون ثيابًا خُضْرًا}، وخصت الخضرة بثيابهم؛ لأنها أحسن الألوان وأكثرها طراوة. وتلك الثياب {من سُنْدُسٍ وإِستبرقٍ}، السندس: ما رقَّ من الديباج، والإستبرق: ما غلظ منه، جمع النوعين؛ للدلالة على أن فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، {متكئين فيها على الأرائك} جمع أريكة، وهو السرير في الحجَال، أي: متكئين على الأسرة المُزينة بالستور الرفيعة، كحال العرائس المتنعمين. {نِعْمَ الثوابُ} ذلك، {وحَسُنَتْ مُرتفقًا}: متَّكأ. والآية عامة وإن نزلت في خصوص الصحابة رضي الله عنهم، وأماتنا على منهاجهم. آمين.
الإشارة: إن الذين آمنوا إيمان الخصوص، وعملوا الأعمال التي تقرب إلى حضرة القدوس؛ وهي تحملُ ما يثقل على النفوس، أولئك لهم جنات المعارف، تجري من تحت قلوبهم أنهار العلوم والمواهب، يُحلَّون فيها بمقامات اليقين، ويلبسون ثياب العز والنصر والتمكين، متكئين على سرر الهنا والسرور، قد انقضت عنهم أيام المحن والشرور، جعلنا الله فيهم بمنّه وكرمه.

.تفسير الآيات (32- 44):

{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آَتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)}
قلت: {رجلين}: بدل من {مثلاً}، وجملة {جعلنا...} بتمامها: بيان للتمثيل، أو صفة لرجلين، و{ما شاء الله}: خبر، أي: هذا ما شاء الله، أو الأمر ما شاء الله، أو مبتدأ حُذف الخبر، أي: الذي شاء الله كائن، أو شرطية، والجواب محذوف، أيْ: أيّ شيء شاء الله كان، و{هنالك}: ظرف مقدم، و{الولاية}: مبتدأ، والظرف: إشارة إلى الآخرة، وهذا أحسن.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {واضربْ لهم} أي: للفريقين؛ فريق المؤمنين والكافرين المتقدمين، {مَّثَلاً}؛ من حيث عصيان الكافر، مع تقلبه في النعيم، وطاعة المؤمن، مع مكابدته مَشَاقَّ الفقر، وما كان مآلهما، لا من حيث ما ذكر من أن للكافر في الآخرة كذا وللمؤمن كذا، أي: واضرب لهم حالي {رجُلَيْن} مقدرين أو محققين، هما أخوان من بني إسرائيل، أو شريكان: كافر، واسمه قُطروس، ومؤمن، اسمه يهوذا، اقتسما ثمانية آلاف دينار، أو ورثَاها من أبيهما، فاشترى الكافر بنصيبه ضياعًا وعقارًا، وصرف المؤمن نصيبه إلى وجوه البر.
رُوِيَ: أن الكافر اشترى أرضًا بألف دينار، فقال صاحبه المؤمن: اللهم إن فلانًا اشترى أرضًا بألف، وإني أشتري منك أرضًا في الجنة بألف، فتصدق بألف دينار، ثم إن صاحبه بنى دارًا بألف دينار، فقال المؤمن: اللهم إن صاحبي بنى دارًا بألف، وإني أشتري منك دارًا في الجنة بألف، فتصدق بألف دينار، ثم إن صاحبه تزوج امرأة بألف دينار، فقال: اللهم، إن فلانًا تزوج بألف دينار، وإني أخطب منك من نساء الجنة بألف، فتصدق بألف دينار، ثم إن صاحبه اشترى خادمًا ومتاعًا بألف دينار، فقال: اللهم إن فلاناً اشترى خادماً ومتاعاً بألف، وإني أشتري منك خادماً ومتاعاً من الجنة بألف، فتصدق بألف دينار، ثم أصابته حاجة، فقال: لعل صاحبي يُناولني معروفه، فأتاه، فقال: ما فعل مالك؟ فأخبره قصته، فقال: أو إنك لمن المصدقين بهذا؟ والله لا أعطيك شيئًا، فلما تُوفيا آل أمرهما إلى ما ذكر الله في سورة الصافات بقوله: {قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ المصدقين} [الصافات: 51، 52] الآية.
وبيَّن حالهما في الدنيا بقوله: {جعلنا لأحدهما} وهو الكافر، {جنتين}: بساتين {من أعنابٍ}: من كروم متنوعة، {وحفَفناهما بنَخْلٍ} أي: جعلنا النخل محيطة بهما محفوظًا بها كرومهما، {وجعلنا بينهما}: وسطهما {زرعًا}؛ ليكون كل منهما جامعًا للأقوات والفواكه، متواصل العمارة، على الهيئة الرائقة، والوضع الأنيق. {كلتا الجنتين آتت أُكُلَها}: ثمرها وبلغ مبلغًا صالحًا للأكل، {ولم تَظْلِم منه شيئًا} أي: لم تنقص من أكلها شيئًا في كل سنة، بخلاف سائر البساتين، فإن الثمار غالبًا تكثر في عام وتقل في عام، {وفجَّرْنا خِلالهما}: فيما بين كل من الجنتين {نَهَرًا} على حدةٍ، وقرئ بالسكون.
والنهر: الماء الكثير، وكان لكل بستان نهر؛ ليدوم شربها ويدوم بهاؤها.
ولعل تأخير تفجير النهر عن ذكر إيتاء الأكل، مع أن الترتيب الخارجي العكس؛ للإيذان باستقلال كل من إيتاء الأكل وتفجير النهر في تكميل محاسن الجنتين، كما في قصة البقرة ونحوها، ولو عكس لأوهم أن المجموع خصلة واحدة بعضها مرتب على بعض.
{وكان له ثمرٌ} أي: وكان لصاحب الجنتين أنواع من المال غير الجنتين، من ثَمُرَ مالُه: إذا كثر. قال ابن عباس: الثمر: جميع المال؛ من الذهب، والفضة والحيوان، وغير ذلك. وقال مجاهد: هو الذهب والفضة خاصة. {فقال لصاحبه} المؤمن، أخيه أو شريكه، {وهو يُحاوره}: يراجعه في الكلام، من حَار إذا رجع، وذلك أنه سأله عن ماله فيما أنفقه، فقال: قدمتُه بين يدي، لأقدم عليه، فقال له: {أنا أكثرُ منك مالاً وأعزُ نفرًا}: حَشمًا وأعوانًا وأولادًا ذكورًا؛ لأنهم الذين ينفرون معه.
{ودخل جَنَّتَهُ}: بستانه الذي تقدم وصفه، وإنما وحده؛ إما لعدم تعلق الغرض بتعدده، أو لاتصال أحدهما بالآخر، أو لأن الدخول يكون في واحدٍ واحد. فدخله {وهو ظالمٌ لنفسه}؛ ضارُّ لها بعُجْبه وكفره، {قال} حين دخوله: {ما أظنُ أن تَبِيدَ هذه} الجنة، أي: تفنى {أبدًا}؛ لطول أمده وتمادي غفلته، وإنكارًا لفناء الدنيا وقيام الساعة، ولذلك قال: {وما أظنُّ الساعة قائمةً} أي: كائنة فيما سيأتي، {ولئن رُدِدتُ إِلى ربي}؛ بالبعث عند قيامها، كما تقول، {لأجدنَّ} حينئذ {خيرًا منها}: من الجنتين {مُنقلبًا} أي: مرجعًا وعاقبة، أي: كما أعطاني هذا في الدنيا سيعطيني أفضل منه في الآخرة، ومدار هذا الطمع واليمين الفاجرة: اعتقاد أنه تعالى إنما أولاه ما أولاه في الدنيا؛ لاستحقاقه لذاتِهِ، وكرامته عليه، ولم يَدْرِ أن ذلك استدراج.
{قال له صاحبه}؛ أخوه المسلم {وهو يُحاوره أكفرتَ بالذي خلقك} أي: أصلك {من ترابٍ}، فإن خلق آدم عليه السلام من تراب متضمن لخلق أولاده منه؛ إذ لم تكن فطرته مقصورة على نفسه، بل كانت أنموذجًا منطويًا على فطرة سائر أفراد الجنس، انطواءً مجانسًا مُستتْبعًا لجريان آثارها على الكل، فكان خلْقُه عليه السلام من تراب خلقًا للكل منه، {ثم من نطفة} هي مادتك القريبة، {ثم سَوَّاك رجلاً} أي: عدلك وكملك إنسانًا ذكرًا، أو صيرك رجلاً، وفي التعبير بالموصول مع صلته: تلويح بدليل البعث الذي نطق به قوله تعالى: {ياأيها الناس إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ البعث فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ} [الحَجّ: 5].
قال البيضاوي: جعل كفره بالبعث كفرًا بالله؛ لأنه منشأ الشك في كمال قدرة الله، ولذلك رتَّب الإنكار على خلقه إياه من التراب، فإن مَنْ قدر على إبداء خلقه منه قدر أن يعيده منه. اهـ.
ثم قال أخوه المسلم: {لَكِنَّا} أصله: لكن أنا، وقُرئ به، فحُذفت الهمزة، فالتقت النونان فوقع الإدغام، {هو الله ربِّي}، {هو}: ضمير الشأن، مبتدأ، خبره: {هو الله ربي}، وتلك الجملة: خبر {أنا}، والعائد منها: الضمير، وقرئ بإثبات {أنا} في الوصل والوقف، وفي الوقف خاصة، ومدار الاستدراك قوله تعالى: {أكفرت}، كأنه قال: أنت كافر، لكني مؤمن موحد، {ولا أُشركُ بربي أحدًا}، وفيه تنبيه على أن كفره كان بالإشراك.
قاله أبو السعود.
قال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي: والذي يظهر من قوله: {ولولا إذ دخلت...} الآية، ومن قوله: {يا ليتني لم أشرك...} الآية، أنه إشراك بالله في عدم صرف المشيئة إليه، ودعوى الاستقلال بنفسه دونه، وقد قال وهب بن منبه: (قرأت في تسعين كتابًا من كتب الله أن من وَكل إلى نفسه شيئًا من المشيئة فقد كفر)، ثم شكه في البعث تكذيب بوعد الله، وهو كفر صراح. اهـ.
{ولولا إِذْ دخلتَ جنتك}: بستانك، {قلتَ ما شاء الله} أي: هلاَّ قُلتَ عند دخولها: {ما شاء الله} أي: الأمر ما شاء الله، أو ما شاء الله يكون، والمراد: تحضيضه على الاعتراف بأنها وما فيها بمشيئة الله تعالى، إن شاء أبقاها، وإن شاء أخفاها، {لا قوة إِلا بالله} أي: لا قوة لي على عمارتها وتدبير أمرها إلا بمعونة الله وإقداره.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ رَأَى شَيْئًا فأعْجَبه فَقَالَ: مَا شَاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بالله، لَمْ يضُرّهُ شَيءٌ» وقال لأبي هريرة: «أَلاَ أَدُلُك عَلى كَلِمَةٍ مِن كُنُوزِ الْجَنَّة»؟ قَال بَلَى يا رسُول الله، قال: «لاَ قوةَ إلاَّ بالله، إن قالها العبد قال اللهُ عَزّ وجلّ: أسْلم عبدي واسْتَسْلم» وقال لعبْدِ اللهِ بْنَ قَيْسٍ: «ألاَ أَدُلُّكَ عَلَى كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الجَنَِّةِ»؟ قال: بَلَى، يا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «لاَ حَوْلَ ولا قُوَّةَ إِلاَّ بالله».
ثم قال له أخوه المسلم: {إِن ترنِ أنا أقلَّ منك مالاً وولدًا} في الدنيا، وفيه تقوية لمن فسر النفر بالولد، {فعسى ربي أن يُؤتين} في الآخرة أو في الدنيا {خيرًا من جنتك} والمعنى: إن ترني أفقر منك فأنا أتوقع من صُنع الله سبحانه أن يقلب ما بي وبك من الفقر والغنى، فيرزقني جنة خيرًا من جنتك، ويسلبك؛ لكفرك نعمته، ويخرب جنتك، {ويُرسلَ عليها حُسْبانًا}: عذابًا {من السماء} يُذهبها، من بَرَدٍ أو صاعقة، وهو جمع: حُسْبَانة، وهي: المرامي من هذه الأنواع المذكورة، وتطلق أيضًا، في اللغة، على سهام تُرمى دفعة واحدة، {فتُصبح صعيدًا زَلقًا} أي: أرضًا ملساء، يزلق عليها؛ الاستئصال ما عليها من النبات والشجر والبناء، {أو يُصبح ماؤُها} أي: النهر الذي خِلالَها {غَوْرًا}: غائرًا ذاهبًا في الأرض، و{زلقًا} و{غورًا}: مصدران، عبَّر بهما عن الوصف؛ مبالغةً.
{فلن تستطيعَ له طَلَبًا} أي: لن تستطيع أبدًا للماء الغائر طلبًا، بحيث لا يبقى له أثر يطلبه به، فضلاً عن وجدانه ورده.
{وأُحِيطَ بثَمَرِه} أي: هلكت أشجاره المثمرة، وأمواله المعهودة، وأصله: من إحاطة العدو، وهو عطف على مُقدر، كأنه قيل: فوقع بعض ما وقع من المحذور، وأهلكت أمواله، رُوي أن الله تعالى أرسل عليها نارًا فأحرقتها وغار ماؤها. {فأصبح يُقلَّب كفَّيه} ظهرًا لبطن، أو يضرب يديه واحدة على أخرى، يصفق بهما، وهو كناية عن الندم، كأنه قال: فأصبح يندم {على ما أنفق فيها} أي: في عمارتها من الأموال. وجعل تخصيص الندم بها دون ما هلك الآن من الجنة؛ لأنه إنما يكون على الأفعال الاختيارية. انظر أبا السعود.
{وهي} أي: الجنة {خاويةً}: ساقطة {على عُرُوشها} أي: دعائمها المصنوعة للكروم، فسقطت العروش أولاً ثم سقطت الكروم عليها. وتخصيص حالها بالذكر، دون الزرع والنخل، إِمَّا لأنها العمدة وهما من متمماتها، وإِمَّا لأن ذكر هلاكها مُغْن عن ذكر هلاك الباقي؛ لأنها حيث هلكت، وهي مشتدة بعروشها فهلاك ما عداها أولى، وإِمَا لأن الإنفاق في عمارتها أكثر. {ويقولُ} أي: يقلب وهو يقول: {يا ليتني لم أشركْ بربي أحدًا}، كأنه تذكر موعظة أخيه، وعَلِمَ أنه إنما أُتِيَ من قِبَلِ شِرْكِهِ، فتمنى أنْ لم يكن مشركًا فلم يصبه ما أصابه.
{ولم تكن له فئةٌ}: جماعة {ينصرونه}: يقدرون على نصره؛ بدفع الهلاك عن أمواله، {من دون الله}، فإنه القادر على ذلك وحده، {وما كان منتصرًا} أي: وما كان في نفسه ممنوعًا بقوته من انتقامه سبحانه منه.
{هنالك}؛ في ذلك المقام، وفي تلك الحال {الولاَيةُ لله الحقّ} أي: النصرة له وحده، لا يقدر عليها أحد غيره، وقُرئ: {الحقِ}؛ بالكسر، صفة لله، وبالرفع، نعت للولاية. ويُحتمل أن يكون: {هنالك} ظرفًا لمنتصرًا، أي: وما كان ممتنعًا من انتقام الله منه في ذلك الوقت، ففيه تنبيه على أن قوله: {يا ليتني لم أشرك}: كان عن اضطرار وجزع مما دهاه، فلذلك لم ينفعه، كقوله تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا} [غافر: 85]. وحينئذ استأنف تعالى الإخبار عن كمال حفظه لأوليائه فقال: {الولايةُ لله الحق} أي: الحفظ والرعاية والنصرة إنما هي من الله لأوليائه في الدنيا والآخرة، لا يخذلهم في حال من الأحوال، بل يتولى سياستهم ونصرهم وهدايتهم، كما هو شأن من اعتز بالله، دون من اعتز بغيره، فقوله: {ولم تكن له فئة}: رد لقوله: {وأعزُّ نفرًا}؛ أي: بل النصرة لله لأوليائه، دون من تولى غيره.
والحاصل: أن من تولى الله فعاقبته النصرة، ومن تولى غيره فعاقبتُه الخذلان. والعياذ بالله. ويحتمل أن يكون قد تَم الكلام على القصة، ثم أعاد الكلام إلى ما قبل القصة، فقال: {هنالك} عند ذلك، يعني: يوم القيامة {الولايةُ لله الحق}؛ يتولون الله ويُؤمنون به، ويتبرأون مما كانوا يعبدون، {هو خيرٌ ثوابًا} أي: خير من يرجى ثوابه، {وخيرُ عُقبًا} أي: عاقبة لأوليائه.
والعُقب: العاقبة، يقال: عاقبة كذا وعُقْبَاهُ وعقبه، أي: آخره. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قد ضرب الله مثلاً لمن عكف على هواه، وقصر همته على زخارف دنياه، ولمن توجه بهمته إلى مولاه، وقدَّم دنياه لأخراه، فكان عاقبة الأول: الندم والخسران، وعاقبة الثاني: الهنا والرضوان، أوْ لمن وقف مع علمه واعتمد عليه، ولمن تبرأ من حوله وقوته في طلب الوصول إليه.
قال في لطائف المنن: لا تدخل جنة علمك وعملك، وما أعطيت من نور وفتح فتقول كما قال من خذِل، فأخبر الله عنه بقوله: {ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدًا...} الآية. ولكن ادخلها كما بيّن لك، وقل كما رَضي لك: {ولولا إِذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلاّ بالله}، وافهم هاهنا قوله صلى الله عليه وسلم: «لا حَوْلَ ولاَ قُوَّةَ إلاَّ بالله كَنْزٌ من كُنُوزِ الجنة» وفي رواية أخرى: «كنز من كنوز تحت العرش». فالترجمة: ظاهر الكنز، والمكنوز فيها: صدق التبري من الحول والقوة، والرجوع إلى حول الله وقوته.