فصل: تفسير الآيات (45- 46):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (45- 46):

{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)}
قلت: {كماءٍ}: خبر عن مضمر، أي: هي كماء، ويجوز أن يكون مفعولاً ثانيًا لاضْربْ، على أنه بمعنى صيِّر.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {واضربْ لهم مَثَل الحياة الدنيا} أي: واذكر لهم ما يشبهها في زهرتها ونضارتها، وسرعة انقراضها وفنائها؛ لئلا يطمئنوا إليها ويغفُلوا عن الآخرة، هي {كماءٍ أنزلناه من السماء} وهو المطر، {فاختلط به} أي: بسببه {نباتُ الأرض} بحيث التف وخالط بعضُه بعضًا؛ من كثرته وتكاثفه، ثم مرت مدة قليلة {فأصبح هشيمًا} أي: مهشومًا مكسورًا، {تذروه الرياحُ} أي: تُفرقه وتطيره، كأن لم يَغْنَ بالأمس، {وكان الله على كل شيء مقتدرًا}: قادرًا، ومن جملة الأشياء: الإفناء والإنشاء.
{المالُ والبنونَ زينةُ الحياةِ الدنيا} أي: مما تذروه رياح الأقدار، ويلحقه الفناء والبوار، ويدخل في الزينة: الجاهُ، وجميعُ ما فيه للنفس حظ؛ فإنه يفنى ويبيد، ثم ذكر ما لا يفنى فقال: {والباقياتُ الصالحاتُ}؛ وهي أعمال الخير بأسرها، أو: الصلوات الخمس، أو: «سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر»، زاد بعضهم: «ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم». قال عليه الصلاة والسلام: «هي من كنز الجنة، وصفايا الكلام، وهن الباقيات الصالحات، يأتين يوم القيامة مقدمات ومعقبات».
أو: الهمات العالية والنيات الصالحة؛ إذ بها ترفع الأعمال وتُقبل. أو: كل ما أريد به وجه الله، وسميت باقيةً: لبقاء ثوابها عند فناء كل ما تطمح إليه النفس من حظوظ الدنيا وزينتها الفانية.
قال في الإحياء: كل ما تذروه رياح الموت فهو زهرة الحياة الدنيا، كالمال والجاه مما ينقضي على القرب، وكل ما لا يقطعه الموت فهو الباقيات الصالحات، كالعلم والحرية؛ لبقائهما؛ كمالاً فيه، ووسيلة إلى القرب من الله تعالى، أما الحرية من الشهوات فتقطع عن غير الله، وتجرده عن سواه، وأما العلم الحقيقي فيفرده بالله ويجمعه عليه. اهـ.
وهي، أي: الباقيات الصالحات {خيرٌ عند ربك} أي: في الآخرة {ثوابًا} أي: عائدة تعود على صاحبها، بخلاف ما شأنه الفناء من المال والبنين؛ فإنه يفنى ويبيد. وهذا كقوله تعالى: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ} [النحل: 96]. وقوله: {عند ربك}: بيان لما يظهر فيه خيريتها، لا لأفضليتها من المال والبنين مع مشاركتها لها في الخيرية؛ إذ لا مشاركة لهما في الخيرية في الآخرة. ثم قال تعالى: {وخيرٌ أملاً} أي: ما يُؤمله الإنسان ويرجوه عند الله تعالى؛ حيث ينال صاحبها في الآخرة كل ما كان يُؤمله في الدنيا، وأما ما مرّ من المال والبنين فليس لصاحبه فيه أمل يناله. وتكرير {خير}؛ للإشعار باختلاف حيثيتي الخيرية والمبالغة فيه.
الإشارة: قد تقدم، مرارًا، التحذير من الوقوف مع بهجة الدنيا وزخارفها الغرارة؛ لسرعة ذهابها وانقراضها. رَوى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا أبا هريرة تريد أن أريك الدنيا»؟ قلت: نعم، فأخذ بيدي، وانطلق، حتى وقف بي على مزبلة، رؤوس الآدميين ملقاة، وبقايا عظام نخرة، وخِرَق بالية قد تمزقت وتلوثت بنجاسات الآدميين، فقال: «يا أبا هريرة؛ هذه رؤوس الآدميين التي تراها، كانت مثل رؤوسكم، مملوءة من الحرص والاجتهاد على جمع الدنيا، وكانوا يرجون من طول الأعمار ما ترجون، وكانوا يَجِدُّون في جمع المال وعمارة الدنيا كما تَجِدُّون، فاليوم قد تعرّت عظامهم، وتلاشت أجسامهم كما ترى، وهذه الخرق كانت أثوابهم التي كانوا يتزينون بها، وقت التجمل ووقت الرعونة والتزين، فاليوم قد ألقتها الرياح في النجاسات، وهذه عظام دوابهم التي كانوا يطوفون أقطار الأرض على ظهورها، وهذه النجاسات كانت أطعمتهم اللذيذة التي كانوا يحتالون في تحصيلها، وينهبها بعضُهم من بعض، قد ألقوها عنهم بهذه الفضيحة التي لا يقربها أحد؛ من نتنها، فهذه جملة أحوال الدنيا كما تُشاهد وترى، فمن أراد أن يبكي على الدنيا فليبك، فإنها موضع البكاء» قال أبو هريرة رضي الله عنه: فبكى جماعة الحاضرين.

.تفسير الآيات (47- 49):

{وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)}
قلت: {ويوم}: معمول لمحذوف، أي: واذكر، أو عطف على قوله: {عند ربك}، أي: والباقيات الصالحات خير عند ربك ويوم القيامة، و{حشرناهم}: عطف على {نُسيّر}؛ للدلالة على تحقق الحشر المتفرع على البعث الذي ينكره المشركون، وعليه يدور أمر الجزاء، وكذا الكلام فيما عطف عليه، منفيًا وموجبًا، وقيل: هو للدلالة على أن حشرهم قبل التسيير والبروز؛ ليعاينوا تلك الأهوال، كأنه قيل: وحشرناهم قبل ذلك. و{نغادر}: نترك، يقال: غادره وأغدره: إذا تركه، ومنه: الغدير؛ لما يتركه السيل في الأرض من الماء، و{صفًّا}: حال، أي: مصْطفين.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {و} اذكر {يوم نُسيِّرُ الجبالَ} أي: حين نقلعها من أماكنها ونسيرها في الجو، على هيئتها، كما ينبئ عنه قوله تعالى: {وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب} [النمل: 88] أو: نسير أجزاءها بعد أن نجعلها هباء منثورًا، والمراد من ذكره: تحذير الغافلين مما فيه من الأهوال، وقرئ: {تُسَيَّر}؛ بالبناء للمفعول؛ جريًا على سَنَن الكبرياء، وإيذانًا بالاستغناء عن الإسناد إلى الفاعل؛ لظهور تعينه، ثم قال: {وترى الأرضَ} أي: جميع جوانبها، والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، أو لكل من يسمع، {بارزةً}: ظاهرة، ليس عليها جبل ولا غيره. بل تكون {فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً ولا أَمْتاً} [طه: 106، 107]. {وحشرناهم}: جمعناهم إلى الموقف من كل حدب، مؤمنين وكافرين، {فلم نُغادرْ} أي: لم نترك {منهم أحدًا}.
{وعُرِضُوا على ربك}، شبهت حالتهم بحال جُنْدٍ عُرِضَ على السلطان، ليأمر فيهم بما يأمر. وفي الالتفات إلى الغيبة، وبناء الفعل للمفعول، مع التعرض لعنوان الربوبية، والإضافة إلى ضميره- عليه الصلاة والسلام- من تربية المهابة، والجري على سَنَن الكبراء، وإظهار اللطف به صلى الله عليه وسلم- ما لا يخفى. قاله أبو السعود. {صَفًّا} أي: مصْطَفِّينَ غير متفرقين ولا مختلطين، كل أمة صَفٌّ، وفي الحديث الصحيح: «يَجْمَعُ اللهُ الأولين والآخرين في صَعِيدٍ واحِد، صفوفًا، يُسْمِعُهُمُ الدَّاعِيِ وَيَنْفُذُهُم البَصَرُ...» الحديث بطوله. وفي حديث آخر: «أهل الجنة، يوم القيامة، مائة وعشرون صفًا، أنتم منها ثمانون صفًا».
يقال لهم- أي: للكفرة منهم: {لقد جئتمونا كما خلقناكم أولَ مرة}، وتركتم ما خولناكم وما أعطيناكم من الأموال وراء ظهوركم. أو: حفاة عراة غُرْلاً، كما في الحديث.
وهذه المخاطبة، بهذا التقريع، إنما هي للكفار المنكرين للبعث، وأما المؤمنون المُقِرون بالبعث فلا تتوجه إليهم هذه المخاطبة، ويدل عليه ما بعده من قوله: {بل زعمتم أن لن نجعل لكم موعدًا} أي: زعمتم في الدنيا أنه، أي: الأمر والشأن، لن نجعل لكم وقتًا يَتَنَجَّزُ فيه ما وعدته من البعث وما يتبعه.
وهو إضراب وانتقال من كلام، إلى كلام، كلاهما؛ للتوبيخ والتقريع.
{ووضع الكتاب} أي: كتاب كل أحد، إما في يمينه أو شماله، وهو عطف على: {عُرِضوا}، داخلٌ تحت الأمور الهائلة التي أريد بذكرها تذكير وقتها، وأورد فيه ما أورد في أمثاله من صيغة الماضي؛ لتحقق وقوعه، وإيثار الإفراد؛ للاكتفاء بالجنس، والمراد: صحائف أعمال العباد. ووضعها إما في أيدي أصحابها يمينًا وشمالاً، أو في الميزان. {فترى المجرمين} قاطبة، المنكرون للبعث وغيرهم، {مشفقين}: خائفين {مما فيه} من الجرائم والذنوب، {ويقولون}، عند وقوفهم على ما في تضاعيفه؛ نقيرًا أو قطميرًا: {يا ويلتنا} أي: ينادون بتهلكتهم التي هُلكوها من بين التهلكات، ومستدعين لها؛ ليهلكوا، ولا يرون تلك الأهوال، أي: يا ويلتنا احضري؛ فهذا أوان حضورك، يقولون: {ما لهذا الكتاب لا يُغادرُ}: لا يترك {صغيرةً ولا كبيرةً} من ذنوبنا {إلا أحصاها} أي: حواها وضبطها، وجملة {لا يغادر}: حال محققة؛ لِمَا في الاستفهام من التعجب، أو استئنافية مبنية على سؤال مقدر، كأنه قيل: ما شأنه حتى يتعجب منه؟ فقال: لا يغادر سيئة صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها، {ووجدوا ما عملوا} في الدنيا من السيئات، أو جزاء ما عملوا {حاضرًا}: مسطورًا عتيدًا، {ولا يظلم ربُّك أحدًا}، فيكتب ما لم يعمل من السيئات، أو يزيد في عقابه المستحق له. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ويوم نُسير جبال الحس، أو الوهم، عن بساط المعاني، وترى أرض العظمة بارزة ظاهرة لا تخفى على أحد، إلا على أَكْمَهَ لا يُبصر القمر في حال كماله، وحشرناهم إلى الحضرة القدسية، فلم نغادر منهم، أي: ممن ذهب عنه الحس والوهم، أحدًا، وعُرضوا على ربك؛ لشهود أنوار جماله وجلاله، صفًا، للقيام بين يديه، فيقول لهم: لقد جئتمونا من باب التجريد، كما خلقناكم أول مرة، مُطَهَّرِينَ من الدنس الحسي، غائبين عن العلائق والعوائق، وكنتم تزعمون أن هذا اللقاء لا يكون في الدنيا، وإنما موعده الجنة، ومن مات عن شهود حسه، وعن حظوظه، حصل له الشهود واللقاء قبل الموت الحسي، ووضع الكتاب في حق أهل الحجاب، فترى المجرمين من أهل الذنوب مشفقين مما فيه، ووجود العبد: ذَنْبٌ لا يقاس به ذنب، فَنَصْبُ الموازين، ومناقشةُ الحسابِ؛ إنما هو لأهل الحجاب، وأما العارفون الفانون عن أنفسهم، الباقون بربهم، لم يبق لهم ما يُحاسبون عليه؛ إذ لا يشهدون لهم فعلاً، ولا يرون لأحد قوة ولا حولا. والله تعالى أعلم.
ولمّا كان سبب العذاب ووجود الحجاب هو التكبر على رب الأرباب، ذكر وبالَهُ بإثر الحشر والحساب، أو تقول: لمَّا ذكر قصة الرجلين ذكر قُبح صنيع من افتخر بنفسه، وأنه شبيه بإبليس، وكل من افتخر واستنكف عن الانتظام في سلك فقراء المؤمنين كان داخلاً في حزبه.

.تفسير الآيات (50- 51):

{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50) مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51)}
قلت: {إلا إبليس}: استثناء منقطع، إذا قلنا: إن إبليس لم يكن من الملائكة، وإذا قلنا: إنه منهم يكون متصلاً، ويكون معنى {كان} صار، أي: إلا إبليس صار من الجن لمَّا امتنع من السجود، أو بأن الملائكة كان منهم قوم يقال لهم الجن، وهم الذين خُلقوا من النار. وجملة {كان من الجن}: استئنافية سيقت مساق التعليل، كأنه قيل: ما له لم يسجد؟ فقيل: كان أَصْلُهُ جنِّيًا.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {و} اذكر {إِذْ قلنا للملائكةِ} أي: وقت قوْلنا لهم: {اسجدوا لآدمَ} سجود تحية وتكريم، {فسجدوا} جميعًا؛ امتثالاً للأمر، {إِلا إِبليسَ} أبى واستكبر؛ لأنه {كان من الجنِّ}، وكان رئيسهم في الأرض، فلما أفسدوا أرسل الله عليهم جندًا من الملائكة، فغزوهم، فهربوا في أقطار الأرض، وأُخذ إبليس أسيرًا، فعرجوا به إلى السماء، فأسلم وتعبد في أقطار السماوات، فلما أُمرت الملائكة بالسجود امتنع ونزع لأصله، {ففسقَ} أي: خرج {عن أمر ربه} أي: عن طاعته، أو صار فاسقًا كافرًا بسبب أمر الله تعالى؛ إذ لولا ذلك لَمَا أبى، والتعرض لوصف الربوبية المنافية للفسق؛ لبيان كمال قُبح ما فعله.
قال تعالى: {أفتتخذونه وذريَّتَه} أي: أولاده، أو أتباعه، وهم الشياطين، جُعلوا ذريةً؛ مجازًا. وقال قتادة: إنهم يتوالدون كما يتوالد بنو آدم. وقيل: يُدْخِل ذنَبه في دبره فيبيض فتنفلق البيضة عن جماعة من الشياطين. والهمزة للإنكار والتعجب، والفاء للتعقيب، أي: أَعقبَ عِلْمكُم بصدور تلك القبائح منه، تتخذونه وذريته {أولياءَ}؛ أحبار {من دوني}؛ فتستبدلونهم، وتطيعونهم بدل طاعتي، والحال أنهم، أي: إبليس وذريته {لكم عدو} أي: أعداء. وأُفرد؛ تشبيهًا له بالمصدر، كالقبول والولوع، {بئس للظالمين}: الواضعين للشيء في غير محله، {بدلاً} استبدلوه من الله تعالى، وهو إبليس وذريته. وفي الالتفات إلى الغيبة، مع وضع الظاهر موضع الضمير، من الإيذان بكمال السخط، والإشارة إلى أن ما فعلوه ظلم قبيح، ما لا يخفى.
{ما أشهدتُهم} أي: ما أحضرت إبليس وذريته، أو: جميع الكفار {خلْقَ السماواتِ والأرضِ}، حيث خلقتهما قبل خلقهم، {ولا خلقَ أنفسهم}: ولا أشهدت بعضهم خلق بعض: كقوله: {وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ} [النِّساء: 29]. قاله البيضاوي.
قلت: الظاهر إبقاء الأنفس على ظاهرها، أي: ما أحضرتهم خلق أنفسهم، أي: ما كانوا حاضرين حين خلقت أنفسهم، بل هم مُحْدَثُونَ في غاية العجز والجهل، فكيف تتخذونهم أولياء من دوني؟ وفي الآية رد على المنجِّمين الذين يخوضون في أسرار غيب السماوات بالتخمين، وعلى الطبائعيين من الأطباء ومن سواهم، من كل متخوض في هذه الأشياء، وعلى الكُهَّان وكل من يتطلع على الغيب بطريق الحدس، والمصدقين لهم. انظر ابن عطية.
قال تعالى: {وما كنت مُتَّخِذَ المضلِّينِ} من الشياطين {عَضُدًا} أي: أعوانًا في شأن الخلق، أو في شأن من شؤوني، حتى تتخذوهم أولياء وتُشركوهم في عبادتي، وكان الأصل أن يقول: وما كنت متخذهم، فوقع المظهر موقع الضمير؛ ذمًا لهم، وتسجيلاًً عليهم بالإضلال، وتأكيدًا لما سبق من إنكار اتخاذهم أولياء، وفيه تهكم بهم وإيذان بكمال ركاكة عقولهم وسخافة آرائهم؛ حيث لا يفهمون هذا الأمر الجلي الذي لا يكاد يشتبه على أبلدِ الصبيان، فيحتاجون إلى التصريح به.
انظر أبا السعود.
الإشارة: في الآية تنفيرٌ من الاستكبار والترفع على عباد الله تشبهًا بإبليس، وحثٌ على التواضع والخضوع لله في خلقه وتجلياته كيفما كانت، وفيها أيضًا الحض على إفراد الوجهة والمحبة لله، والتبري من كل ما سواه مما يشغل عن الله، وفيها أيضًا: النهي عن التطلع إلى ما لم يَرِدْ به من أسرار القدر نصٌ صريح في كتاب الله ولا في سنة رسول الله من أسرار القدر، وفيها أيضًا: النهي عن الاستعانة بأعداء الله في شأن كان. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (52- 53):

{وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53)}
قلت: {موبقًا}: اسم مكان، أو مصدر، من: وَبَقَ وبوقًا، كوثب وثوبًا، ووَبِقَ وبَقًا، كفرح فرحًا.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {و} اذكر {يومَ يقولُ} الحق تعالى للكفار؛ توبيخًا وتعجيزًا لهم: {نادُوا شركائِيَ الذين زعمتم} أنهم شفعاؤكم؛ ليشفعوا لكم، والمراد بهم كل ما عُبد من دون الله، أو إبليس وذريته، {فَدَعَوْهم} أي: نادوهم للإغاثة، {فلم يستجيبوا لهم}: فلم يُغيثوهم، {وجعلنا بينهم} أي: بين الداعين والمدعوين {مَّوبقًا} أي: مهلكًا يهلكون فيه جميعًا، وهو النار، وقيل: العداوة، وهي نوع من الهلاك، لقول عمر رضي الله عنه: «لا يكن حُبك كَلَفًا، ولا بُغْضك تلفًا». وقيل: المراد بالبيْن: الوصل، أي: وجعلنا وصلهم في الدنيا هلاكًا في الآخرة، كقوله: {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعَام: 94]، وقيل: المراد بالشركاء: الملائكة، وعُزير، وعيسى- عليهم السلام-، ويراد حينئذ بالموبق: البرزخ البعيد، أي: وجعلنا بينهم وبين من عبدوهم برزخًا بعيدًا؛ لأنهم في قعر جهنم، وهم في أعلى عليين.
{ورأى المجرمون النارَ}، وضع المُظْهَرَ موضع المُضْمَرِ؛ تصريحًا بإجرامهم، وذمًا لهم، أي: ورأوا النار {فظنوا} أي: أيقنوا {أنهم مُّواقعوها}؛ مخالطوها وواقعون فيها، {ولم يجدوا عنها مَصْرِفًا} أي: انصرافًا ومعدلاً ينصرفون إليه، نسأل الله السلامة من مواقع الهلاك.
الإشارة: من اتخذ الله وليًا، بموالاة طاعته وإفراد محبته، كان الله له وليًا ونصيرًا عند احتياجه وفاقته، ومجيبًا له عند دعائه واستغاثته، ومن اتخذ وليًا غير الله خاب ظنه ومناه، فإذا استغاث به جعل بينه وبين المستغيث به موبقًا وبرزخًا بعيدًا، ومن وَالَى أولياء الله فإنما والى الله، {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} [الفَتْح: 10]. وبالله التوفيق.