فصل: تفسير الآيات (54- 59):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (54- 59):

{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)}
قلت: {جَدَلاً}: تمييز، و{ربك}: مبتدأ و{الغفور}: خبره، و{ذو الرحمة}: خبر بعد خبر، وقيل: الخبر: {لو يؤاخذهم}، و{الغفور ذو الرحمة}: صفتان للمبتدأ، وإيراد المغفرة على جهة المبالغة دون الرحمة؛ للتنبيه على كثرة الذنوب، وأيضًا: المغفرة ترك المؤاخذة، وهي غير متناهية، والرحمة فعل، وهو متناهي، وتقديم الوصف الأول؛ لأن التخلية قبل التحلية، و(المُهْلَك)؛ بضم الميم وفتح اللام: اسم مصدر، من أهلك، فالمصدر، على هذا، مضاف للمفعول؛ لأن الفعل متعد، وقرئ بفتح الميم، من هلك، فالمصدر، على هذا، مضاف للفاعل.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ولقد صرَّفنا} أي: كررنا وأوردنا على وجوهٍ كثيرة من النظر العجيب، {في هذا القرآنِ للناس}؛ لمصلحتهم ومنفعتهم، {من كل مَثَلٍ}؛ من كل خبر يحتاجون إليه، أو: من كل مثل مضروب يعتبرون به، ومن جملته ما مر من مثل الرجلين، ومثل الحياة الدنيا. أو: من كل نوع من أنواع المعاني البديعة الداعية إلى الإيمان، التي هي، في الغرابة والحسن واستجلاب القلوب، كالمثل المضروب، ليتلقوه بالقبول، فلم يفعلوا. {وكان الإنسانُ} بحسب جِبلَّته {أكثرَ شيءٍ جدلاً} أي: أكثر الأشياء، التي يتأتى منها الجدل، جدلاً، وهو هنا شدة الخصومة بالباطل، والمعنى: أن جدله أكثر من جدل كل مجادل، وفيها ذم الجدل. وسببها: مجادلة النضر بن الحارث كما قيل، وهي عامة.
{وما منع الناسَ} أي: أهل مكة الذين حكيت أباطيلهم، من {أن يؤمنوا} بالله تعالى، ويتركوا ما هم فيه من الإشراك، {إِذْ جاءهُم الهُدَى} أي: حين جاءهم القرآن الهادي إلى الإيمان، بسبب ما فيه من فنون العلوم وأنواع الإعجاز، فيؤمنوا، {ويستغفروا ربهم} عما فرط منهم من أنواع الذنوب، التي من جملتها: مجادلتهم للحق بالباطل، {إِلا أن تأتيهم سُنَّةُ الأولين} أي: ما منعهم إلا إتيان سنة الأولين، وهو نزول العذاب المستأصل أو انتظاره، فيكون على حذف مضاف، أي: انتظار سنة الأولين، وهو الهلاك. قال ابن جزي: معناها أن المانع للناس من الإيمان والاستغفار هو القضاء عليهم بأن تأتيهم سُنَّة الأمم المتقدمة، وهي الإهلاك في الدنيا، أو يأتيهم العذاب أي: عذاب الآخرة. اهـ. قلت: والظاهر أن معنى الآية: ما منعهم من الإيمان إلا انتظار آية يرونها عيانًا، كعادة الأمم الماضية، فيهلكوا كما هي سُنَّة الله في خلقه، أو: عذاب ينزل بهم جهرًا، وهو معنى قوله: {أو يأتيهم العذابُ قُبُلاً} أي: مقابلة وعيانًا.
قال تعالى: {وما نُرسل المرسلين} إلى الأمم {إِلا مبشرين ومنذرين} أي: مبشرين للمؤمنين بالثواب، ومنذرين للكافرين بالعقاب، دون إظهار الآيات واقتراح المعجزات، {ويُجادل الذين كفروا بالباطل}؛ باقتراح الآيات؛ كالسؤال عن قصة أصحاب الكهف ونحوها. يفعلون ذلك {ليُدْحِضُوا به} أي: بالجدال {الحقَّ}، أي: يزيلونه عن مركزه ويبطلونه، من إدحاض القدم وهو إزلاقها.
وجدالهم: قولهم لرسلهم عليهم السلام: {مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ} [يس: 15]، {وَلَوْ شَآءَ الله لأَنزَلَ مَلاَئِكَةً} [المؤمنون: 24]، ونحوها. {واتخذوا آياتي} التي تخرّ لها صُمُّ الجبال، وهو القرآن، {وما أنذروا} أي: وإنذاري لهم، أو: الذي أنذروا به من العذاب والعقاب، {هُزُوًا}؛ مهزوءًا به، أو محل استهزاء.
{ومَن أظلمُ ممّن ذُكِّرَ بآياتِ ربه} وهو القرآن العظيم، {فأعْرَضَ عنها}؛ فلم يتدبرها ولم يؤمن بها، أي: لا أحد أظلم منه؛ لأنه أظلم من كل ظالم؛ حيث ضم إلى المجادلة التكذيب والإعراضَ، {ونَسِيَ ما قدمت يداه} من الكفر والمعاصي، ولم يتفكر في عاقبتها، {إِنا جعلنا على قلوبهم أكِنَّةً}: أغطية كثيرة تمنعهم من التدبر في الآيات، وهو تعليل لإعراضهم ونسيانهم بأنهم مطبوع على قلوبهم، فعل ذلك بهم كراهة {أن يفقهوه}، أو: منعناهم أن يقفوا على كنهه. {و} جعلنا {في آذانهم وَقْرًا} أي: ثِقلاً يمنعهم من استماعه، {وإِن تَدْعُهُمْ إِلى الهدى فلن يهتدوا إِذًا أبدًا} أي: فلن يكون منهم اهتداء الْبتةَ مدة التكليف؛ للطبع المتقدم على قلوبهم، وهذا في قوم مخصوصين سبق لهم الشقاء.
و{إذًا}: حرف جزاء وجواب، وهو، هنا، عن سؤال من النبي صلى الله عليه وسلم المدلول عليه بكمال عنايته بإسلامهم، كأنه قال صلى الله عليه وسلم: «ما لي لا أدعوهم»؟ فقال: إن تدعهم... الخ. وجمع الضمير الراجع إلى الموصول في هذه المواضع الخمسة باعتبار معناه، كما أن إفراده في المواطن الخمسة المتقدمة باعتبار اللفظ.
{وربُّك الغفور}: البليغ المغفرة {ذو الرحمة} الموصوف بها، {لو يُؤاخذهم بما كسبوا} من المعاصي، التي من جملتها: ما حكي عنهم من مجادلتهم بالباطل، وإعراضهم عن آيات ربهم، وعدم مبالاتهم بما اجترحوا من الموبقات، {لعجَّلَ لهم العذابَ} قبل يوم القيامة؛ لاستجلاب أعمالهم لذلك، والمراد: إمهال قريش، مع إفراطهم في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، {بل لهم موعدٌ} وهو يوم القيامة، أو يوم بدر، والمعطوف عليه ببل: محذوف، أي: لكنهم ليسوا بمؤاخذين، {بل لهم موعدٌ لن يجدوا من دونه موئلاً} أي: ملجأ يلتجئون إليه، أو مَنْجىً ينجون به، يقال: وأَلَ: أي: نجا، ووأل إليه: أي: التجأ إليه.
{وتلك القرى}؛ أي: قرى عاد وثمود وأضرابها، أي: وأهل تلك القرى {أهلكناهم} بالعذاب {لمَّا ظلموا} أي: وقت ظلمهم، كما فعلت قريش بما حكى عنهم، {وجعلنا لمهلكهم} أي: عَيَّنَّا لهلاكهم {موعدًا} أي: وقتًا مُعَينًا، لا محيدَ لهم عن ذلك، فلتعتبر قريش بذلك ولا تغتر. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قد صرّف الله في كتابه العزيز كل ما يحتاج إليه العباد، من علم الظاهر والباطن، لكن خوض القلوب فيما لا يعني، وكثرة مجادلتها بالباطل، صرفتها عن فهم أسرار الكتاب واستخراج غوامضه. فمن صفت مرآة قلبه أدرك ذلك منه.
وتصفيتها بصحبة أهل الصفاء، وهم العارفون بالله، ولا تخلو الأرض منهم حتى يأتي أمر الله، وما منع الناس من الإيمان بهم وتصديقهم إلا انتظارهم ظهور كرامتهم، ونزول العذاب على من آذاهم، وهو جهل بطريق الولاية؛ لأنهم رحمة للعباد، أرسلهم الحق تعالى في كل زمان، يُذكِّرون الناس بالتحذير والتبشير، وبملاطفة الوعظ والتذكير، فاتخذهم الناس وما ذكروا به هزوًا ولعبًا، حيث حادوا عن تذكيرهم، ونفروا عن صحبتهم، فلا أحد أظلم ممن ذُكِّر بالله وبآياته فأعرض واستكبر ونسي ما قدمت يداه من المعاصي والأوزار، سَبَبُ ذلك: جَعْلُ الأكنة على القلوب، وسَفْحُ رَانِ المعاصي والذنوب، فلا يفقهون وعظًا ولا تذكيرًا، ولا يستمعون تحذيرًا ولا تبشيرًا، وإن تدعهم إلى الهدى والرجوع عن طريق الردى، فلن يهتدوا إذًا أبدًا؛ لِمَا سبق لهم في سابق القضاء، فلولا مغفرته العامة، ورحمته التامة، لعجل لهم العذاب، لكن له وقت معلوم، وأجل محتوم، لا محيد عنه إذا جاء، ولا ملجأ منه ولا منجا. نسأل الله العصمة بمنِّه وكرمه.

.تفسير الآية رقم (60):

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60)}
ولمَّا ذكر الحق جلّ جلاله قصة أهل الكهف، وكان وقع فيها عتاب للرسول- عليه الصلاة والسلام- حيث لم يستثن بتأخير الوحي، وبقوله: {ولا تقولن لشيء...} إلخ، ذكر هنا قصة موسى مع الخضر- عليهما السلام- وكان سَبَبُها عتابَ الحق لموسى عليه السلام؛ حيث لم يردَّ العلم إليه، حين قال له القائل: هل تعلم أحدًا أعلم منك؟ فقال: لا، فذكر الحق تعالى قصتهما؛ تسليةً لنبينا عليه الصلاة والسلام بمشاركة العتاب.
قلت: {لا أبرح}: ناقصة، وخبرها: محذوف: اعتمادًا على قرينة الحال؛ إذ كان ذلك عن التوجه إلى السفر، أي: لا أبرح أسير في سفري هذا، ويجوز أن تكون تامة، من زال يزول، أي: لا أفارق ما أنا بصدده حتى أبلغ... إلخ.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {و} اذكر {إذ قال موسى لفتاه} يوشع بن نون بن إفراثيم بن يوسف عليه السلام، وكان ابن أخته، سُمي فتاه؛ إذ كان يخدمه ويتبعه ويتعلم منه العلم. والفتى في لغة العرب: الشاب، ولمَّا كانت الخدمة أكثر ما تكون من الفتيان، قيل للخادم: فتى، ويقال للتلميذ: فتى، وإن كان شيخًا، إذا كان في خدمة شيخه، فقال موسى عليه السلام: {لا أبرحُ}: لا أزال أسير في طلب هذا الرجل، يعني: الخضر عليه السلام، {حتى أبلغَ مَجْمَعَ البحرين}، وهو ملتقى بحر فارس والروم مما يلي المشرق، وهذا مذهب الأكثر. وقال ابن جزي: مجمع البحرين: عند طنجة؛ حيث يتجمع البحر المحيط والبحر الخارج منه، وهو بحر الأندلس. قلت: وهو قول كعب بن محمد القرضي. {أو أَمْضِيَ حُقُبًا} أي: زمنًا طويلاً أتيقن معه فوات الطلب. والحقب: الدهر، أو ثمانون سنة، أو سبعون.
وسب هذا السفر: أن موسى عليه السلام لما ظهر على مصر، بعد هلاك القبط، أمره الله تعالى أن يُذّكر قومه هذه النعمة، فقام فيهم خطيبًا بخطبة بليغة، رقَّت بها القلوب، وذرفت منها العيون، فقالوا له: من أعلم الناس؟ فقال: أنا. وفي رواية: هل تعلم أحدًا أعلم منك؟ فقال: لا. فعَتَب الله عليه؛ إذ لم يَرُدَّ العلم إليه عزّ وجلّ، فأوحى الله إليه: «أعلم منك عبدٌ لي بمجمع البحرين، وهو الخضر»، وكان قبل موسى عليه السلام، وكان في مُقَدَّمَةِ ذي القرنين، فبقي إلى زمن موسى عليه السلام، وسيأتي ذكر التعريف به في محله، إن شاء الله.
وقال ابن عباس رضي الله عنه: إن موسى عليه السلام سأل ربه: أيُّ عبادك أحب إليك؟ قال: الذي يذكرني ولا ينساني، قال: فأي عبادك أقضى؟ قال: الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى، قال: فأي عبادك أعلم؟ قال: الذي يستقي علم الناس إلى علمه، عسى أن يصيب كلمةً تدله على هدى، أو ترده عن ردى، قال: يا رب إن كان في عبادك من هو أعلم مني فدلني عليه؟ قال: أعلم منك الخضر، قال: أين أطلبه؟ قال: على ساحل البحر عند الصخرة.
قال: يا رب، كيف لي به؟ قال: خُذ حُوتًا في مِكْتَلٍ، فحيثما فقدتَه فهو هناك، فأخذ حُوتًا مشويًا، فجعله في مِكْتَلٍ، فقال لفتاه: إذا فقدتَّ الحوت فأخبرني، وذهبا يمشيان إلى أن اتصلا بالخضر، على ما يأتي تمامه، إن شاء الله تعالى. وحديث الخطبة هو الذي في صحيح البخاري وغيره. والله تعالى أعلم أيُّ ذلك كان.
الإشارة: قصة سيدنا موسى مع الخضر- عليهما السلام- هي السبب في ظهور التمييز بين أهل الظاهر وأهل الباطن، فأهل الظاهر قائمون بإصلاح الظواهر، وأهل الباطن قائمون بتحقيق البواطن. أهل الظاهر مغترفون من بحر الشرائع، وأهل الباطن مغترفون من بحر الحقائق. قيل: هو المراد بمجمع البحرين، حيث اجتمع سيدنا موسى، الذي هو بحر الشرائع، والخضر عليه السلام، الذي هو بحر الحقائق، ولا يُفهم أن سيدنا موسى عليه السلام خال من بحر الحقائق، بل كان جامعًا كاملاً، وإنما أراد الحق تعالى أن يُنزله إلى كمال الشرف، بالتواضع في طلب زيادة العلم؛ تأديبًا له وتربية، حيث ادعى القوة في نسبته العلم إلى نفسه، وفي الحِكَم: (منعك أن تدعي ما ليس لك مما للمخلوقين، أَفَيُبيح لك أن تدعي وصفه وهو رب العالمين!).
وهذه عادة الله تعالى مع خواصِّ أحبائه، إذا أظهروا شيئًا من القوة، أو خرجوا عن حد العبودية، ولو أنملة، أدبهم بأصغر منهم علمًا وحالاً؛ عناية بهم، وتشريفًا لهم؛ لئلا يقفوا دون ذروة الكمال، كقضية الشاذلي مع المرأة التي قالت له: تَمُنُّ على ربك بجوع ثمانين يومًا، وأنا لي تسعة أشهر ما ذقت شيئًا. وكقضية الجنيد والسَّرِي في جماعة من الصوفية، حيث تكلموا في المحبة، وفاض كل واحد على قدر اتساع بحره فيها، فقامت امرأة بالباب، عليها جُبة صوف، فردت على كل واحد ما قال، حيث أظهروا قوة علمهم، فأدبهم بامرأة.
ويؤخذ من طلب موسى الخضر- عليهما السلام- والسفر إليه: الترغيب في العلم، ولاسيما علم الباطن، فطلبه أمر مؤكد. قال الغزالي رضي الله عنه: هو فرض عين؛ إذ لا يخلو أحد من عيب إو إصرار على ذنب، إلا الأنبياء- عليهم السلام- وقد قال الشاذلي رضي الله عنه: من لم يغلغل في علمنا هذا مات مُصرًا على الكبائر وهو لا يشعر. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (61- 65):

{فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آَتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آَثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65)}
قلت: {بينهما}: ظرف مضاف إليه؛ اتساعًا، أو بمعنى الوصل، و{سَرَبًا}: مفعول ثان لاتخذ، و{إذ أوينا}: متعلق بمحذوف، أي: أخبرني ما دهاني حين أويتُ إلى الصخرة حتى لم أخبرك بأمر الحوت، فإني نسيتُ أن أذكر لك أمره. و{أن أذكره}: بدل من الهاء في {أنسانيه}؛ بدل اشتمال؛ للمبالغة، و{عجبًا}: مفعول ثان لاتخذ، وقيل: إن الكلام قد تم عند قوله: {في البحر}، ثم ابتدأ التعجب فقال: {عجبًا} أي: أَعْجَبُ عَجَبًا، وهو بعيد. قاله ابن جزي. قلت: وهذا البعيد هو الذي ارتكب الهبطي. و{قصصًا}: مصدر، أي: يقصان قصصًا.
يقول الحقّ جلّ جلاله: ثم إن موسى ويوشع- عليهما السلام- حملا حوتًا مشويًا وخُبزًا، وسارا يلتمسان الخضر، {فلما بلغا مَجْمَعَ بينهما}؛ بين البحرين، أو مجمع وصل بعضهما ببعض، وجدا صخرة هناك، وعندها عين الحياة، لا يصيب ذلك الماءُ شيئًا إلا حَيِيَ بإذن الله، وكانا وَصَلاَ إليها ليلاً، فناما، فلما أصاب السمكة رَوْحُ الماء وبردُه اضطرب في المِكْتَلِ، ودخل البحر، وقد كانا أَكَلاَ منه، وكان ذلك بعد استيقاظ يوشع، وقيل: توضأ عليه السلام من تلك العين، فانتضح الماء على الحوت، فحيى ودخل البحر، فاستيقظ موسى، وذهبا، و{نَسِيَا حوتَهما} أي: نسيا تفقد أمره وما يكون منه، أو نسي يوشع أن يعلمه، وموسى عليه السلام أن يأمر فيه بشيء، {فاتخذ} الحوت {سبيله} أي: طريقه {في البحر سَرَبًا}؛ مسلكًا كالطّاق، قيل: أمسك الله جرية الماء على الحوت فجمد، حتى صار كالطاق في الماء؛ معجزة لموسى أو الخضر- عليهما السلام-.
فلما جاوزا مجمع البحرين، الذي جُعل موعدًا للملاقاة، وسارا بقية ليلتهما ويومهما إلى الظهر، وجد موسى عليه السلام حَرَّ الجوع، ف {قال لفتاه آتنا غداءنا} أي: ما نتغدى به، وهو الحوت، كما يُنبئ عنه الجواب، {لقد لَقِينا من سفرنا هذا نصبًا}: تعبًا وإعياء. قيل: لم يَنْصَبْ موسى ولم يَجُعْ قبل ذلك، ويدل عليه الإتيان بالإشارة، وجملة {لقد لقينا}: تعليل للأمر بإيتاء الغذاء، إما باعتبار أن النَّصَب إنما يعتري بسبب الضعف الناشئ عن الجوع، وإمَّا باعتبار ما في أثناء التغذي من استراحة مَّا.
{قال} فتاه عليه السلام: {أرأيت إذ أوينا إِلى الصخرة} أي: التجأنا إليها ونِمنا عندها، {فإني نسيتُ الحوت} أي: أخبرني ما دهاني حتى لم أذكر لك أمر الحوت، فإني نسيتُ أن أذكر لك أمره، ومراده بالاستفهام تعجيب موسى عليه السلام مما اعتراه من النسيان، مع كون ما شاهده من العظائم التي لا تكاد تنسى، {وما أنسانيهُ إِلا الشيطانُ} بوسوسته الشاغلة له عن ذلك، {أن أذكره}، ونسبته للشيطان؛ هضمًا لنفسه، واستعمال الأدب في نسبة النقائص إلى الشيطان، وإن كان الكل من عند الله.
وهذه الحالة، وإن كانت غريبة لا يعهد نسيانها، لكنه قد تعَوَدَّ بمشاهدة أمثالها من الخوارق مع موسى عليه السلام، وأَلِفَهَا قبل اهتمامه بالمحافظة عليها، أو لاستغراقه وانجذاب سره إلى جناب القدس، حتى غاب عن الإخبار بها.
{قلت}: والظاهر أن نسيانه كان أمرًا إلهياً قهريًا بلا سبب، وحكمتُه ما لقي من النصب؛ لتعظُم حلاوة العلم الذي يأخذه عن الخضر عليه السلام، فإن المُساق بعد التعب ألذ من المساق بغير تعب، ولذلك: «حفت الجنة بالمكاره».
ثم قال: {واتخذ} الحوتُ {سبيلَه في البحر عَجَبًا}، فيه حذف، أي فحيى الحوت، واضطرب، ووقع في البحر، واتخذ سبيله فيه سبيلاً عجبًا، أو اتخاذًا عجبًا يُتعجب منه، وهو كون مسلكه كالطاق، {قال} موسى عليه السلام: {ذلك ما كنا نبغ} أي: ذلك الذي ذكرت من أمر الحوت هو الذي كُنا نطلبه؛ لكونه أمارة للفوز بالمرام، {فارتدَّا} أي: رجعا {على} طريقهما الذي جاءا منه، يَقُصَّان. يتبعان {آثارِهما قَصَصًا}، حتى أتيا الصخرة {فوجدا عبدًا من عبادنا}، التنكير؛ للتفخيم والإضافة؛ للتعظيم، وهو الخضر عليه السلام عند الجمهور، واسمه: بَلْيَا بن مَلْكَان يُعْصوا، والخضر لقب له؛ لأنه جلس على فروةٍ بيضاء فاهتزّت تحته خضراء، كما في حديث أبي هريرة- عنه- صلى الله عليه وسلم.
وقال مجاهد: سمي خضرًا؛ لأنه كان إذا صلى خضر ما حوله، ثم قال: وهو ابن عابر بن شالِخ بن أرفخشد بن سام بن نوح، وكان أبوه ملكًا. اهـ. وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر قصة الخضر، فقال: «كان ابن ملك من الملوك، فأراد أبوه أن يستخلفه من بعده، فأبى وهرب، ولحق بجزائر البحر، فلم يقدر عليه» قيل إنه شرب من عين الحياة؛ فمُتع بطول الحياة.
رُوِيَ أن موسى عليه السلام حين انتهى إلى الصخرة رأى الخضر عليه السلام على طنْفَسَةٍ- أي: بساط- على وجه الماء، فسلم عليه. وعنه- عليه الصلاة والسلام- أنه قال: «انتهى موسى إلى الخضر، وهو نائم مُسَجى عليه ثوب، فسلَّمَ عليه فاستوى جالسًا، وقال: عليك السلام يا نبي بني إسرائيل، فقال موسى: من أخبرك أني نبي بني إسرائيل؟ قال: الذي أدراكَ بي، وذلك عليَّ»
قال تعالى في حق الخضر: {آتيناه رحمةً من عندنا}، هي الوحي والنبوة، كما يُشعر به تنكير الرحمة، وإضافتها إلى جناب الكبرياء، وقيل: هي سر الخصوصية، وهي الولاية. {وعلَّمناه من لَّدُنَّا عِلْمًا} خاصًا، لا يكتنه كُنْهه، ولا يُقدر قدره، وهو علم الغيوب، أو أسرار الحقيقة، أو علم الذات والصفات، علمًا حقيقيًا. فالخضر عليه السلام قيل: إنه نبي؛ بدليل قوله فيما يأتي: {وما فعلته عن أمري}، وقيل: وَلِيٌّ، واخْتلف: هل مات، أو هو حي؟ وجمهور الأولياء: أنه حي، وقد لقيه كثيرٌ من الصلحاء والأولياء، حتى تواتر عنهم حياته.
والله تعالى أعلم.
الإشارة: إنما صار الحوت دليلاً لسيدنا موسى عليه السلام بعد موته وخروجه عن إلفه، ثم حيى حياة خصوصية لَمَّا أنفق عليه من عين الحياة، كذلك العارف لا يكون دالاً على الله، وإمامًا يقتدى به حتى يموت عن شهود حسه، ويخرق عوائد نفسه، ويفنى عن بشريته، ويبقى بربه، حينئذ تحيا روحه بشهود عظمة ربه، ويصير إمامًا ودليلاً موصلاً إليه، ويَظهر منه خرق العوائد، كما ظهر من الحوت، حيث أمسك عن الماء الجرية فصار كالطَّاق، وذلك اقتدار، وإلى ذلك تشير أحوال الخضر، فكان الحوت مظهرًا لحاله في تلك القصة. قاله في الحاشية بمعناه.
وقال قبل ذلك في قوله: واتخذ سبيله في البحر عَجَبًا: أي اتخذ الحوتُ، وجوِّزَ كونُ فاعلِ {اتخذ}: موسى، أي: اتخذ موسى سبيل الحوت في البحر عجبًا وخرقَ عادةٍ؛ بأن مشى على الماء في طريق الحوت، حتى وجد الخضر على كبد البحر. ثم قال: وعلى الجملة: فالقضية تشير من جهة الخضر: للاقتدار وإسقاط الأسباب، ومن جهة موسى: لإثبات الأسباب؛ حكمة، وحالة الاقتدار أشرف، وصاحب الحكمة أكمل ونفعه عام، بخلاف الآخر، فإن نفعه خاص. اهـ.
وقوله تعالى: {وعلّمناه من لدُنَّا علمًا}، العلم اللدني: هو الذي يفيض على القلب من غير اكتساب ولا تعلم، قال عليه الصلاة والسلام: «من عَمِلَ بِمَا عَلِمَ أَوْرَثَهُ اللهُ علمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ» وذلك بعد تطهير القلب من النقائص والرذائل، وتفرغه من العلائق والشواغل، فإذا كمل تطهير القلب، وانجذب إلى حضرة الرب، فاضت عليه العلوم اللدنية، والأسرار الربانية، منها ما تفهمها العقول وتدخل تحت دائرة النقول، ومنها ما لا تفهمها العقول ولا تحيط بها النقول، بل تُسلم لأربابها، من غير أن يقتدى بهم في أمرها، ومنها ما تفيض عليهم في جانب علم الغيوب؛ كمواقع القدر وحدوث الكائنات المستقبلة، ومنها ما تفيض عليهم في علوم الشرائع وأسرار الأحكام، ومنها في أسرار الحروف وخواص الأشياء، إلى غير ذلك من علوم الله تعالى. وبالله التوفيق.