فصل: تفسير الآيات (34- 40):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (34- 40):

{ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40)}
قلت: {وإن الله}: عطف على قوله: {إني عبد الله} فيمن كسر، وعلى حذف اللام فيمن فتح، أي: ولأن الله ربي وربكم. وقال الواحدي وأبو محمد مكي: عطف على قوله: {بالصلاة} أي: أوصاني بالصلاة وبأن الله... الخ: وقال المحلي: بالفتح، بتقدير اذكر، وبالكسر بتقدير قل. و{قول الحق}: مصدر مؤكد لقال، فيمن نصب، وخبر عن مضمر، فيمن رفع، أي: هو، أو هذا. و{إذا قضى}: بدل من {يوم الحسرة}، أو ظرف للحسرة. و{هم في غفلة وهم لا يؤمنون}: جملتان حاليتان من الضمير المستقر في الظرف في قوله: {في ضلال مبين} أي: مستقرين في الضلال وهم في تينك الحالتين.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ذلك} المنعوت بتلك النعوت الجليلة، والأوصاف الحميدة هو {عيسى ابنُ مريم}، لا ما يصفه النصارى به من وصف الألوهية، فهو تكذيب لهم على الوجه الأبلغ والمنهاج البرهاني، حيث جعله موصوفًا بأضداد ما يصفونه به. وأتى بإشارة البعيد؛ للدلالة على علو رُتبته وبُعد منزلته، وامتيازه بتلك المناقب الحميدة عن غيره، ونزوله منزلة المشاهد المحسوس.
هذا {قولُ الحق}، أو قال عيسى {قولَ الحق} الذي لا ريب فيه، وأنه عبد الله ورسوله، {الذي فيه يمترون} أي: يشكون أو يتنازعون، فيقول اليهود: ساحر كذاب، ويقول النصارى: إله، أو ابن الله. {ما كان لله أن يتخذ من ولد} أي: ما صح، أو ما استقام له أن يتخذ ولدًا، {سبحانه} وتعالى عما يقولون علوًا كبيرًا، فهو تنزيه عما بهتوه، ونطقوا به من البهتان، وكيف يصح أن يتخذ الله ولدًا، وهو يحتاج إلى أسباب ومعالجة، وأمره تعالى أسرع من لحظ العيون، {إِذا قضى أمرًا فإِنما يقول له كن فيكون}.
ثم قال لهم عيسى عليه السلام: {وإنَّ الله ربي وربكم فاعبدوه}، فهو من تمام ما نطق به في المهد، وما بينهما اعتراض، للمبادرة للرد على من غلط فيه، أي: فإني عبد، وإن الله ربي وربكم فاعبدوه وحده ولا تُشركوا معه غيره، {هذا} الذي ذكرت لكم الذي ذكرت لكم من التوحيد {صراط مستقيم} لا يضل سالكه ولا يزيغ متبعه.
قال تعالى: {فاختلف الأحزابُ من بينهم}، الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، تنبيهًا على سوء صنيعهم، بجعلهم ما يُوجب الاتفاق منشأ للاختلاف، فإن ما حكى من مقالات عيسى عليه السلام، مع كونها نصوصًا قاطعة في كونه عبده تعالى ورسوله، قد اختلفت اليهود والنصارى بالتفريط والإفراط، وفرّق النصارى، فقالت النسطورية: هو ابن الله، وقالت اليعقوبية: هو الله هبط إلى الأرض ثم صعد إلى السماء، وقالت المِلْكَانية: هو ثالث ثلاثة. {فويلٌ للذين كفروا} وهم: المختلفون فيه بأنواع الضلالات.
وأظهر الموصول في موضع الإضمار؛ إيذانًا بكفرهم جميعًا، وإشعارًا بِعِلِّيَّةِ الحكم، {من مَشْهَدِ يوم عظيم} أي: ويل لهم من شهود يوم عظيم الهول والحساب والجزاء، وهو يوم القيامة، أو: من وقت شهوده أو مكانه، أو من شهادة اليوم عليهم، وهو أن تشهد عليهم الملائكة والأنبياء- عليهم السلام- وألسنتُهم وأيديهم وأرجلهم، بالكفر والفسوق.
{أسمِعْ بهم وأبصرْ} أي: ما أسمعهم وما أبصرهم، تعجب من حدة سمعهم وإبصارهم يومئذ. والمعنى: أن أسماعهم وأبصارهم {يوم يأتوننا} للحساب والجزاء جدير أن يُتعجب منها، بعد أن كانوا في الدنيا صمًا عميًا. أو: ما أسمعهم وأطوعهم لما أبصروا من الهدى، ولكن لا ينفعهم يومئذ مع ضلالهم عنه اليوم، فقد سمعوا وأبصروا، حين لم ينفعهم ذلك. قال الكلبي: لا أحد يوم القيامة أسمع منهم ولا أبصر، حين يقول الله لعيسى: {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله} [المَائدة: 116]. اهـ. ويحتمل أن يكون أمر تهديد لا تعجب، أي: أسمعهم وأبصرهم مواعيد ذلك اليوم، وما يحيق بهم فيه، فالجار والمجرور، على الأول، في موضع رفع، وعلى الثاني: نصب. {لكن الظالمون اليومَ} أي: في الدنيا، {في ضلال مبين} أي: لا يدرك غايته، حيث غفلوا عن الاستماع والنظر بالكلية. ووضع الظالمين موضع الضمير؛ للإيذان بأنهم في ذلك ظلمون لأنفسهم حيث تركوا النظر.
{وأنذرهم يوم الحسرة} يوم يتحسر الناس قاطبة، أما المسيء فعلى إساءته، وأما المحسن فعلى قلة إحسانه، {إِذ قُضيَ الأمر} أي: فرغ من يوم الحساب، وتميز الفريقان، إلى الجنة وإلى النار.
رُوِيَ أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن ذلك، فقال: «حين يجاء بالموت على صورة كبش أملح، فيُذبح، والفريقان ينظرون، فينادي؛ يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت، فيزداد أهل الجنة فرحًا إلى فرحهم، وأهل النار غمًا إلى غمهم، ثم قرأ صلى الله عليه وسلم: {وأنذرهم يوم الحسرة إِذْ قُضي الأمر وهم في غفلة}، وأشار بيده إلى الدنيا» قال مقاتل: (لولا ما قضى الله من تعميرهم فيها، وخلودهم؛ لماتوا حسرة حين رأوا ذلك). {وهم} في هذا اليوم {في غفلة} عما يراد بهم في الآخرة، {وهم لا يُؤمنون} بهذا؛ لاغترارهم ببهجة الدنيا، فلابد أن تنهد دعائمها، وتمحى بهجتها، ويفنى كل ما عليها، قال تعالى: {إِنا نحن نرث الأرضَ ومَنْ عليها} لا ينبغي لأحد غيرنا أن يكون له عليها وعليكم ملك ولا تصرف، أو: إنا نحن نتوفى الأرض ومن عليها، بالإفناء والإهلاك، توفي الوارث لإرثه، {وإِلينا يُرجعون}؛ يُردون إلى الجزاء، لا إلى غيرنا، استقلالاً أو اشتراكًا. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ينبغي للعبد المعتني بشأن نفسه أن يحصِّن عقائده بالدلائل القاطعة، والبراهين الساطعة، على وفاق أهل السُنَّة، ثم يجتهد في صحبة أهل العرفان، أهل الذوق والوجدان، حتى يُطلعوه على مقام الإحسان، مقام أهل الشهود والعيان.
فإذا فرط في هذا، لحقه الندم والحسرة، في يوم لا ينفع فيه ذلك. فكل من تخلف عن مقام الذوق والوجدان؛ فهو ظالم لنفسه باخس لها، يلحقه شيء من الخسران، ولابد أنْ تبقى فيه بقية من الضلال، حيث فرط عن اللحوق بطريق الرجال، قال تعالى: {لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين}.
{وأنذرهم يوم الحسرة} أي: يوم يرفع المقربون ويسقط المدعون. فأهل الذوق والوجدان حصل لهم اللقاء في هذه الدار، ثم استمر لهم في دار القرار. رُوي أن الشيخ أبا الحسن الشاذلي رضي الله عنه قال يومًا بين يدي أستاذه: (اللهم اغفر لي يوم لقائك). فقال له شيخه- القطب ابن مشيش- رضي الله عنهما: هو أقرب إليك من ليلك ونهارك، ولكن الظلم أوجب الضلال، وسبقُ القضاء حَكَمَ بالزوال عن درجة الأُنْس ومنازل الوصال، وللظالم يومٌ لا يرتاب فيه ولا يخاتل، والسابق قد وصل في الحال، «أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين». اهـ. كلامه رضي الله عنه.

.تفسير الآيات (41- 45):

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45)}
قلت: {إذ قال}: بدل اشتمال من {إبراهيم}، وما بينهما: اعتراض، أو متعلق بكان.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {واذكر في الكتاب}؛ القرآن أو السورة، {إِبراهيم} أي: اتل على الناس نبأه وبلغه إياهم، كقوله: {واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ} [الشعراء: 69]؛ لأنهم ينتسبون إليه عليه السلام، فلعلهم باستماع قصته يقلعون عما هم عليه من الشرك والعصيان. {إِنه كان صدّيقًا}؛ ملازمًا للصدق في كل ما يأتي ويذر، أو كثير التصديق؛ لكثرة ما صدق به من غيوب الله تعالى وآياته وكتبه ورسله، فالصدِّيق مبالغة في الصدق، يقال: كل من صدق بتوحيد الله وأنبيائه وفرائضه، وعمل بما صدق به فهو صدّيق، وبذلك سُمي أبو بكر الصدّيق، وسيأتي في الإشارة تحقيقه عند الصوفية، إن شاء الله.
والجملة: استئناف مسوق لتعليل موجب الأمر؛ فإن وصفه عليه السلام بذلك من دواعي ذكره، وكان أيضًا {نبيًّا}، أي: كان جامعًا بين الصديقية والنبوة، إذ كل نبي صِدِّيق، ولا عكس. ولم يقل: نبيًا صديقًا؛ لئلا يتوهم تخصيص الصديقية بالنبوة.
{إِذْ قال لأبيه} آزر، متلطفًا في الدعوة مستميلاً له: {يا أبتِ}، التاء بدل من ياء الإضافة، أي: يا أبي، {لِمَ تعبدُ ما لا يسمع} ثناءك عليه حين تعبده، ولا جُؤَارك إليه حين تدعوه، {ولا يُبْصِرُ} خضوعك وخشوعك بين يديه، أو: لا يسمع ولا يبصر شيئًا من المسموعات والمبصرات، فيدخل في ذلك ما ذكر دخولاً أوليًا، {ولا يُغْنِي عنك شيئًا} أي: لا يقدر أن ينفعك بشيء في طلب نفع أو دفع ضرر.
انظر؛ لقد سلك عليه السلام في دعوته وموعظته أحسن منهاج وأقوم سبيل، واحتج عليه بأبدع احتجاج، بحسن أدب، وخلق جميل، لكن وقع ذلك لسائرٍ ركب متن المكابرة والعناد، وانتكب بالكلية عن محجة الصواب والرشاد، أي: فإنَّ من كان بهذه النقائص يأبى مَن له عقل التمييز من الركون إليه، فضلاً عن عبادته التي هي أقصى غاية التعظيم، فإنها لا تحِقُ إلا لمن له الاستغناء التام والإنعام العام، الخالق الرازق، المحيي المميت، المثيب المعاقب، والشيء لو كان مميزًا سميعًا بصيرًا قادرًا على النفع والضر، لكنه ممكن، لاستنكف العقل السليم عن عبادته، فما ظنك بجماد مصنوع من حجر أو شجر، ليس له من أوصاف الأحياء عين ولا أثر.
ثم دعاء إلى اتباعه؛ لأنه على المنهاج القويم، مُصدّرًا للدعوة بما مرَّ من الاستعطاف والاستمالة، حيث قال: {يا أبتِ إِني قد جاءني من العلم ما لم يأتِكَ}، لم يَسِمْ أباه بالجهل المفرط، وإن كان في أقصاه، ولا نفسه بالعلم الفائق، وإن كان في أعلاه، بل أبرز نفسه في صورة رفيق له، أعرفَ بأحوال ما سلكاه من الطريق، فاستماله برفق، حيث قال: {فاتّبِعْنِي أَهدِكَ صراطًا سوِيًّا} أي: مستقيمًا موصلاً إلى أسمى المطالب، منجيًا من الضلال المؤدي إلى مهاوي الردى والمعاطب.
ثم ثبّطه عما كان عليه من عبادة الأصنام، فقال: {يا أبتِ لا تعبدِ الشيطانَ}، فإن عبادتك للأصنام عبادة له، إذ هو الذي يُسولُها لك ويغريك عليها، ثم علل نهيه فقال: {إِن الشيطان كان للرحمن عَصِيًّا}، فهو تعليل لموجب النهي، وتأكيد له ببيان أنه مستعصٍ على ربك، الذي أنعم عليك بفنون النعم، وسينتقم منه فكيف تعبده؟.
والإظهار في موضع الإضمار؛ لزيادة التقرير، والاقتصارُ على ذكر عصيانه بترك السجود من بين سائر جناياته؛ لأنه ملاكها، أو لأنه نتيجة معاداته لآدم وذريته، فتذكيره به داع لأبيه إلى الاحتراز عن موالاته وطاعته. والتعرض لعنوان الرحمانية؛ لإظهار كمال شناعة عصيانه.
وقوله: {يا أبتِ إِني أخاف أن يمسّك عذابٌ من الرحمن} تحذير من سوء عاقبة ما كان عليه من عبادة الشيطان، وهو اقترانه معه في الهوان الفظيع. و{من الرحمن}: صفة لعذاب، أي: عذاب واقع من الرحمن، وإظهار {الرحمن}؛ للإشعار بأن وصف الرحمانية لا يدفع حلول العذاب، كما في قوله تعالى: {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكريم} [الانفطار: 6]، {فتكون للشيطان وليًّا} أي: فإذا قرنت معه في العذاب تكون قرينًا له في اللعن المخلد. فهذه موعظة الخليل لأبيه، وقد استعمل معه الأدب من خمسة أوجه:
الأول: ندائه: بيا أبت، ولم يقل يا آزر، أو يا أبي.
الثاني: قوله: {ما لا يسمع...} إلخ، ولم يقل: لِمَ تعبد الخشب والحجر.
الثالث: قوله: {إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك}، ولم يقل له: أنك جاهل ضال.
الرابع: قوله: {إني أخاف}، حيث عبَّر له بالخوف ولم يجزم له بالعذاب.
الخامس: في قوله: {أن يمسك}، حيث عبَّر بالمس ولم يُعبر باللحوق أو النزول. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قد جمع الحق تبارك وتعالى لخليله مقام الصدّيقة والنبوة مع الرسالة والخلة، وقدَّم الصديقية لتقدمها في الوجود في حال الترقي، فالصديقية تلي مرتبة النبوة، كما تقدم في سورة النساء. فالصدّيق عند الصوفية هو الذي يَعْظُمْ صدقه وتصديقه، فيصدِّق بوجود الحق وبمواعده، حتى يكون ذلك نصب عينيه، من غير تردد ولا تلجلج، ولا توقف على آية ولا دليل. ثم يبذل مهجته وماله في مرضاة مولاه، كما فعل الخليل، حيث قدم بدنه للنيران وطعامه للضيفان وولده للقربان. وكما فعل الصدِّيق، حيث واسى النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه في الغار، وخرج عن ماله خمس مرار. وكما فعل الغزالي حيث قدم نفسه للخِرَابِ، حين اتصل بالشيخ وخرج عن ماله وجاهه في طلب مولاه. ولذلك قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه: في حقه: إنا لنشهد له بالصدِّيقية العظمى، وناهيك بمن شهد له الشاذلي بالصدِّيقية.
ومن أوصاف الصدّيق أنه لا يتعجب من شيء من خوارق العادة، مما تبرزه القدرة الأزلية، ولا يتعاظم شيئًا ولا يستغربه، ولذلك وصف الحق تعالى مريم بالصديقية دون سارة، حيث تعجبت، وقالت: {أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ} [هُود: 72]؛ وأما مريم فإنما سألت عن وجه ذلك، هل يكون بنكاح أم لا، والله تعالى أعلم.
وفي الآية إشارة إلى حسن الملاطفة في الوعظ والتذكير، لاسيما لمن كان معظمًا كالوالدين، أو كبيرًا في نفسه. فينبغي لمن يذكره أن يأخذه بملاطفة وسياسة، فيقر له المقام الذي أقامه الله تعالى فيه، ثم يُذكره بما يناسبه في ذلك المقام، ويشوقه إلى مقام أحسن منه، وأما إن أنكر له مقامه من أول مرة، فإنه يفرّ عنه ولم يستمع إلى وعظه، كما هو مجرب. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (46- 48):

{قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48)}
قلت: هذا استئناف بياني، مبني على سؤال نشأ عن صدر الكلام، كأنه قيل: فماذا قال أبوه عندما سمع هذه النصائح الواجبة القبول؟ فقال مصرًا على عناده: أراغب... إلخ.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {قال} له أبوه في جوابه: {أراغبٌ أنتَ عن آلهتي} أي: أمعرض ومنصرف أنت عنها فوجّه الإنكار إلى نفس الرغبة، مع ضرب من التعجب، كأن الرغبة عنها مما لا يصدر عن العاقل، فضلاً عن ترغيب الغير عنها، ثم هدده فقال: {لئن لم تَنْتَهِ} عن وعظك {لأرجُمنَّكَ} بالحجارة، أي: والله لئن لم تنته عما أنت عليه من النهي عن عبادتها لأرجمنك بالحجر، وقيل باللسان، {واهجرني} أي: واتركني {مَلِيًّا} أي: زمنًا طويلاً، أو ما دام الأبد، ويسمى الليل والنهار مَلَوان، وهو عطف على محذوف، أي: احذرني واهجرني.
{قال} له إبراهيم عليه السلام: {سلامٌ عليك} مني، لا أصيبك بمكروه، وهو توديع ومُتاركة على طريق مقابلة السيئة بالحسنة، أي: لا أشافهك بما يؤذيك، ولكن {سأستغفر لك ربي} أي: أستدعيه أن يغفر لك. وقد وفى عليه السلام بقوله في سورة الشعراء: {واغفر لأبي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضآلين} [الشُّعَرَاء: 86]. أو: بأن يوفقك للتوبة ويهديك للإيمان. والاستغفارُ بهذا المعنى للكافر قبل تبين أنه يموت على الكفر مما لا ريب في جوازه، وإنما المحظور استدعاء المغفرة مع بيان شقائه بالوحي، وأما الاستغفار له بعد موته فالعقل لا يحيله. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب: «لا أزال أستغفر لك ما لم أنه عنك» ثم نهاه عنه كما تقدم في التوبة. فالنهي من طريق السمع، ولا اشتباه أن هذا الوعد من إبراهيم، وكذا قوله: {لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [المُمتَحنَة: 4]، وقوله: {واغفر لأبي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضآلين} [الشُّعَرَاء: 86]، إنما كان قبل انقطاع رجائه من إيمانه، بدليل قوله: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأ} [التّوبَة: 114].
وقوله تعالى: {إِنه كان بي حَفيًّا} أي: بليغًا في البر والألطاف، رحيمًا بي في أموري، قد عوَّدني الإجابة. أو عالمًا بي يستجيب لي إن دعوتُه، وفي القاموس: حَفِيَ كَرَضِيَ، حَفَاوةً. ثم قال: واحتفًا: بالَغَ في إكْرامِه وأظْهَرَ السُّرُورَ والفَرَحَ به، وأكَثَر السُؤَالَ عن أحواله، فهو حافٍ وحفي. اهـ.
{وأعتزلُكم} أي: أتباعد عنك وعن قومك، {وما تَدْعُونَ من دونِ الله} بالمهاجرة بديني، حيث لم تؤثر فيكم نصائحي، {وأدعو ربي}: أعبده وحده، أو أدعوه بطلب المغفرة لك- أي قبل النهي- أو: أدعوه بطلب الولد، كقوله: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصالحين} [الصَّافات: 100]، {عسى ألا أكون بدعاءِ ربي شقيًّا} أي: عسى ألا أشقى بعبادته، أو: لا أخيب في طلبه، كما شقيتم أنتم في عبادة آلهتكم وخبتم. ففيه تعريض بهم، وفي تصدير الكلام بعسى من إظهار التواضع وحسن الأدب، والتنبيه على أن الإجابة من طريق الفضل والكرم، لا من طريق الوجوب، وأن العبرة بالخاتمة والسعادة، وفي ذلك من الغيوب المختصة بالعليم الخبير ما لا يخفى.
الإشارة: انظر كيف رفض آزرُ مَن رغب عن آلهته، وإن كان أقرب الناس إليه، فكيف بك أيها المؤمن ألاَّ ترفض من يرغب عن إلهك ويعبد معه غيره، أو يجحد نبيه ورسوله، بل الواجب عليك أن ترفض كل ما يشغلك عنه، غيرةً منك على محبوبك، وإذا نظرت بعين الحقيقة لم تجد الغيرة إلا على الحق، إذ ليس في الوجود إلا الحق، وكل ما سواه باطل على التحقيق.
فمن اعتزل كل ما سوى الله، وأفرد وجهته إلى مولاه، لم يَشْق في مَطلبه ومسْعاه، بل يطلعه الله على أسرار ذاته، وأنوار صفاته، حتى لا يرى في الوجود إلا الواحد الأحد الفرد الصمد. وبالله التوفيق.