فصل: تفسير الآية رقم (177):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (177):

{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)}
قلت: لمّا ذكر الحقّ تعالى التوحيد وبراهينه الذي هو رأس الدين، وحذَّرَ من الشرك وفروعه، ذكر هنا بقية أركان الدين، وهي الإيمان والإسلام، ذكر في هذه الآية قواعد الإيمان وبعض قواعدِ الإسلام؛ وهي الصلاة والزكاة، ثم ذكر بعد ذلك الصيام وأحكامه، ثم ذكر الحج وأركانه، ثم ذكر الجهاد والنكاح والطلاق والعِدَّة، ثم ذكر البيوع، وما يتعلق بها من الربا، ثم الشهادات والرهَان، وبها ختم السورة.
لكن الحديث ذو شُجون، والكلام يَجُرُّ بعضُه بعضاً، فقوله: {ليس البر أن تولوا}: اسم ليس وخبرها، وكلاهما مُعَرَّفَتان، الأول بأل والثاني بالإضافة، إذا التقدير: توليةُ وجوهكم، فمن رجَّح تعريف الألف واللام. جعل {البر} اسمها، و{أن تولوا} خبرها، وبه قرأ الأكثر، ومن رجح الإضافة جعل {البر} خبرها مقدماً، والمصدر اسمها مؤخراً، وبه قرأ حمزة وحفص.
وقوله: {ولكن البر} مَنْ خَفَّفَ جعلها عاطفة الجملة، و{البر} مبتدأ، و{من آمن} خبر على حذف مضاف، أَيْ: بِرُّ من آمن؛ إذ لا يُخْبَرُ بالذات عن المعنى، أو قصد المبالغة، ومن شدَّد نصب بها، لوقوعها بين جملتين، وهي استدراكية، و{على حبه} حال من المال، و{الصابرين} نصب على المدح، ولم يعطفه بالرفع لفضل الصبر وشرفه.
يقول الحقّ جلّ جلاله: في الرد على أهل الكتاب: {ليس البر} محصوراً في شأن القبلة، {ولكن البر} الذي ينبغي أن يُعتنى بشأنه هو الإيمان بالله، وما يجب له من الكمالات، وباليوم الآخرة وما بعده، وبالملائكة وما يجب أن يعتقد في شأنهم، والكتاب المنزل من السماء كالقرآن وغيره، {والنبيين} وما يجب لهم وما يستحيل في حقهم.
فالبر هو بر من اعتقد في قلبه هذه الأشياء، وأظهر على جوارحه ما يصدق صحة اعتقادها، وذلك كالاتصاف بالسخاء والكرم، فأعطى المال على محبته له، أي: مع حبه، فقد سئل- عليه الصلاة والسلام-: «أن تَتَصَدَّقَ وأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ، تأمُلُ الْغِنَى وتَخشَى الفَقْر» و{آتى المال} على حب الله، لا جزاء ولا شكوراً، فأعطى ذلك المال ذوي قرابته المحَاويج، وقدَّمهم لقوله- عليه الصلاة والسلام-: «صَدَقَتُك على المَساكينِ صَدَقَةٌ، وعَلَى ذَوِي القُربى اثنتان؛ صَدَقَةٌ وصِلَةٌ» وأعطى {اليتامى} لإهمالهم، وأعطى {المساكين} الذين أسكنهم الفقر في بيوتهم، {وابن السبيل} وهو المسافر الغريب، كأن الطريق وَلَدْته، أو الضيف {والسائلين} ألجأتهم الحاجة إلى السؤال. وفي الحديث: «أَعْطِ السائِلَ ولو على فَرَسِه» وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: «هَدِيَّةُ اللّهِ إلى المؤمن السائلُ على بَابِه» وأعطى في فَكّ {الرقاب} من الرق أو الأسر.
{وأقام الصلاة} المفروضة، {وآتى الزكاة} المعلومة. ومن أهل البر أيضاً: {المُوفُون بعهدهم} فيما بينهم وبين الله، وفيما بينهم وبين الناس {إذا عاهدوا} الله أو عبادة، فإذا وعدوا أنجزوا، وإذا حلفوا أو نذروا أوفوا، وإذا قالوا صدقوا، وإذا ائتمنوا أدَّوْا، وأخُصُّ من أهل البر {الصابرينَ في البأساء} كالفقر والذل وإذاية الخلق، و{الضراء} كالمرض والزَّمَانة، أو {البأساء}: الأهوال، و{الضراء} في الأنفس، والصابرين {حين البأس} أي: الحرب والجهاد، {أولئك الذين صدقوا} في طلب الحق، {وأولئك هم المتقون} لكل ما يقطع عن الحق، أو يشغل عنه.
فقد اشتملت هذه الآية على كمالات الإنسان بأسرها؛ لاشتمالها على ما يَزِين البواطنَ من الاعتقادات وما يزين الظواهر من المعاملات، وما يُزَكِّي النفوس من الرذائل ويُحَلِّيها بالمحاسن والكمالات. ولذلك وُصف المتصف بها بالصدق والتقى، اللذين هما أساسُ الطريقة ومبنَى أسرار التحقيق، وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
الإشارة: ليس المطلوب من العبد أن يَتَوجَّه إلى الحق بجِهَةٍ مخصوصة، كما إذا توجه إليه بالظاهر وأهملَ الباطن، أو توجه بالباطن وأهمل الظاهر، ولكن المطلوب منه أن يُزين باطنه بأنوار الإيمان واليقين، ويزين ظاهره بسائر وظائف الدين، ويزكي نفسه من الرذائل؛ كالشح والبخل والغش والخيانة والكذب والخَوْف والجزَع، ويحليها بأنواع الفضائل؛ كالسخاء والكرم والوفاء بالعهد والأمانة، والصبر والشجاعة، والعفة والقناعة، وسائر أنواع الفضائل، فإذا تخلّى عن الرذائل وتحلّى بأضدادها من الفضائل استحق الدخول مع الأبرار، وكان من العارفين الكبار، أولئك الذين ظفروا بصدق الطلب فنالوا الغاية من كل مطلب، وأولئك هم المتقون حق التقاة، فنالُوه أعلى الدرجات، منحنا الله من ذلك الحظ الوافر بمنِّه وكرمه.

.تفسير الآيات (178- 179):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)}
قلت: {عفا} لازمٌ يتعدى بالحرف: بعَنْ إلى الجناية، وباللام إلى الجاني، فيقال: عفوت لفلان عن جنايته و{ابتاعٌ} خبر عن مضمَر، أي: فالأمر اتباع، و{حياة} مبتدأ و{في القصاص} خبره، و{لكم} خبر ثان، أو صلة له، أو حال من الضمير المستكِنْ فيه. وفيه من البلاغة والفصاحة ما لا يخفى، جعل الشيء مجيء ضده، وعرّف القصاص ونكْر الحياة ليدل على التعظيم والتعميم، أي: ولكم نوع من الحياة عظيم، وذلك لأن العلم به يَرْدَع القاتل عن القتل، فيكون سببَ حياةِ نَفْسَيْن، ولأنهم كانوا يقتلون غير القاتل، والجماعة بالواحد، فتثور الفتنة بينهم، فإذا اقتُصّ من القاتل سَلِم الباقون، ويصيرُ ذلك سبباً لحياتهم. قاله البيضاوي.
يقول الحقّ جلّ جلاله: يا أيها المؤمنون {كتب عليكم القصاص في} شأن {القتلى} في العَمْد، فاستسلِموا للقصاص، فالحُر يُقتل {بالحر}، ولا يقتل بالعبد. بل يغرم قيمته لسيده، ودليله قوله- عليه الصلاة والسلام-: «لا يُقتل مسلمٌ بكافرٍ ولا حرٌ بعبدٍ» والعبد يقتل بالعبد، إن أراد سيد المقتول قتله، فإن استحياه خُيِّر سيدُه بين إسلامه وفدائه بقيمة العبد. وكذلك إن قُتل الحر خُيّر أولياؤُه بين قتله أو استرقاقه، فإن استحيَوْه خُيِّر سيدُه بين إسلامه وفدائه بِدِيَةِ الحر العَمْد، والأنثى تُقتل بالأنثى والذكر، والذكر يقتل بالأنثى.
وتخصيصُ الآية بالمُساوي، قال مالك: (أحسنُ ما سمعتُ في هذه الآية: أنه يُراد بها الجنسُ- أي: جنس الحر- والذكر والأنثى فيه سواء. وأعيدَ ذِكْرُ الأنثى تأكيداً وتهمُّمَا بإذهاب أمر الجاهلية). اهـ. يعني أن (أل) في الحر: للجنس، تشمل الذكر والأنثى. وأعاد ذكر الأنثى اهتماماً بردِّ ما كان يفعله الجاهلية من عدم القَودَ فيها.
ثم قال الحقّ جلّ جلاله: {فمن عُفي له من} دم أخيه {شيء} ولو قَلَّ، فقد سقط القتل، فالواجب اتباعٌ للقاتل بالدية {بالمعروف} من غير تعنيف ولا تعنيت، و{أداء} من القاتل {بإحسان} من غير مطل ولا بَخس.
{ذلك}- الذي شرعْتُ لكم من أمر العفو والديّة- {تخفيف من ربكم ورحمة} بكم، وقد كُتب على اليهود القصاص وحده، وعلى النصارى مطلقاً. وخيَّركم أيها الأمة المحمدية بين أخذ الديّة والقصاص. {فمن اعتدى} بعد أخذ الديّة وقَتَل {فله عذاب أليم} في الدنيا والآخرة، في الدنيا: بأن يُقتل لا محالة؛ لقوله- عليه الصلاة والسلام-: «لا أُعَافِي أحَداً قَتَلَ بَعْدَ أَخْذِ الدِّيَة».
{ولكم} يا معشر المسلمين {في} تشريع {القصاص حياة} عظيمة في الدنيا، لانزجار القاتل إذا علَم أنه يُقتص منه، وقد كانوا يَقتُلون الجماعةَ في الواحد، فسلِموا من القتل بشروع القصاص، أو في الآخرة، فإن القاتل إذا اقتُصَّ منه في الدنيا لم يؤخذْ به في الآخرة، فاعتُبِروا {يا أولي الألباب} أي: العقول الكاملة، ما في حكمة القصاص من استبقاء الأرواح وحفظ النفوس، {لعلكم تتقون} الله في المحافظة على القصاص، والحكم به والإذعان له، أو تَكُفُّون عن القتل خوفاً من الله.
الإشارة: كما جعل الله القصاص في الجناية الحسيّة، جعل القصاصَ في الجناية المعنوية، وهي الجنايةُ على النفس بسوء الأدب مع الله، فكل من صدر منه هفوةٌ أو زَلَّة، اقْتصَ الحقّ تعالى منه في دار الدنيا، إن كانت له من الله عناية، الكبيرة بالكبيرة والصغيرة بالصغيرة: وتأمَّلْ قضية الرجل الذي كان يطوف بالكعبة، فنظر إلى امرأة، فلطَمْته كَفٍّ من الهوى، وذهبت عينه، فقال: آه، فقيل له: لطمة بنظرة، وإن زدت زدنا. اهـ. وقضية أبي تراب النخشبي: قال رضي الله عنه: ما تمنت نفسي شهوةً من الشهوات إلا مرة واحدة، تمنيت خبزاً وبيضاً وأنا في سفر، فعدلت إلى قرية، فقام واحد، وتعلّق بي، وقال: هذا رأيته مع اللصوص، فضربوني سبعين درة، ثم عرفني رجلٌ منهم، وحملني إلى منزله، وقدَّم لي خبزاً وبيضاً، فقلت في نفسي: كُلْ بعد سبعين درة.

.تفسير الآيات (180- 182):

{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)}
قلت: {إذا حضر} ظرف، العامل فيه: {كتب}، أي: توجَّهَ إيجابُ الوصية عليكم إذا حضر الموت. أو مصدر محذوف يفهم من الوصية، أي: كتب عليكم الإيصاء إذا حضر الموت، و{الوصية} نائب فاعل {كتب}، ولا يصح أن تعمل في {إذا}؛ لتقدمه عليها؛ لأن المصدر لا يعمل في ما قبله، إلا على مذهب الأخفش. اللهم إلا أن يُتوسع في الظروف، وجواب الشرطين محذوف، أي: إذا حضر الموت، إن ترك خيراً، فقد كُتبت عليه الوصية. والجنَف: الميل عن الصواب، فإن كان خطأ فهو جَنَفٌ بلا إثم، وإن كان عمداً فهو جنَف إثم.
يقول الحقّ جلّ جلاله: كتب الله {عليكم} أن تُوصوا للوالدين والأقربين {إذا حضر أحَدكم الموتُ إن ترك} المستحضر {خيراً} أي: مالاً: قال سيّدنا عليّ- كرّم الله وجهه-: (ألف درهم فصاعداً، فلا وصية في أقل). وقال النخعي: (خمسمائة درهم لا أقل). وقال الزُّهْرِي: (تجب فيما قلّ وكَثُر)، وعن عائشة- رضي الله عنها-: (أن رجلاً أراد أن يوصي، فسألته: كم مالُك؟ فقال: ثلاثة آلاف. فقالت: كم عِيالك؟ فقال: أربعة، فقالت: لا، إنما قال الله تعالى: {إن ترك خيراً} وإن هذا لَشيء يسير، فاتركْه لعيالك).
وتكون تلك الوصية {بالمعروف}، أي: بالعدل، فلا يُفضل الذكور، ولا يتجاوز الثلث. فقد حَقَّ الله ذلك {حقّاً} واجباً {على المتقين}، فمَن غيَّره من الأوصياء أو الشهود {بعدما سمعه} وعلمه، {فإنما إثمه على الذين يبدلونه} من الأوصياء أو الشهود، لأنه هو الذي خالف الشرع وغيَّر دون الميت، {إن الله سميع عليم} فلا يخفى عليه مَنْ بدَّل أو غيَّر، فهو حسيبُه ومُعاقبه، {فمن خاف} أي: علِم {من مُوص جنفّا} أي: ميلاً بالخطأ في الوصية، {أو إثماً} تعمداً للجنف، {فأصلح} بين المُوصَى لهم وبين الورثة، بأن أجراهم على منهاج الشرع، أو نقص للموصَى لهم، أو زاد لمصلحة رآها {فلا إثم عليه}؛ لأنه تبديل لمصلحة. والتبديل الذي فيه الإثم إنما هو تبديل الهوى، {إن الله غفور رحيم} فيغفر للمبدِّل لمصلحةٍ ويرحمه.
وهذه الآية منسوخة في وصية الوالدين: مُحْكَمة في الأقربين غير الوارثين، بقوله- عليه الصلاة والسلام- في الحيدث المشهور: «إنَّ اللّهَ أعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ. فلا وَصِيَّةَ لِوَارثٍ» فإذا كان الوالدان غيرَ وارثيْن كالكافرَيْن أو العبدَيْن فهي مُحْكَمة، والله تعالى أعلم.
الإشارة: اعلم أن المريد إذا منع نفسه من الشهوات، وحفظ قلبه من الخطَرَات، وصان سرّه من الغَفَلات- وأعظمُ الشهوات حبُّ الرئاسة والجاه، فإذا قتل نفسه ونزل بها إلى السُّفْليات حتى حَضرها الموت، وانقطع عنها الخواطر والخيالات- فإنها تفيض بالعلوم والواردات، فالواجب من طريق الجزم أن يُفيد تلك العلوم، أو يوصي مَنْ يقيدها لينتفع بها الوالدن وهما الأشياخ، والأقربن وهم الإخوان.
فإن الحكمة تَرِدُ في حال التجلّي كالجبَل، فإن لم يقيدها وأهملها، رجعت كالجمل، فإن أهملها رجعت كالكبش، فإن أهملها رجعت كالطير، ثم ترجع كالبَيْضة ثم تذهب. هكذا كان يقول شيخ شيوخنا سيدي على الجمل رضي الله عنه، وكان شيخه سيدي العربي بن عبد الله يقول له: (إنْ وَرَدَ عليكم واردٌ فقَيِّدْه وأعطني منه نسخة). وهكذا كان أشياخنا يأمروننا بتقييد الواردات، فَمنْ قَيَّدَ وارداً أو سمعه من غيره، فلا يُغيرْه بمجرد رأيه وهواه. فإن تحقق منه نقصاً أو ميلاً عن منهاج الطريقة والحقيقة، فأصلحه، فلا إثم عليه، {إن الله غفور رحيم}
ولما ذكر في الآية المتقدمة قاعدتين من قواعد الإسلام في قوله: {وأقام الصلاة وآتى الزكاة}، بعد أن ذكر قواعد الإيمان، ذكر القاعدة الثالثة، وهي الصيام.

.تفسير الآيات (183- 185):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)}
قلت: {أياماً} منصوب على الظرفية، واختُلِف في العامل فيه، والأحسنُ أنه الصيام، ولا يضره الفصل؛ لأن الظرف يُتوسع فيه ما لا يتوسع في غيره، و{معدودات} نعت له، و{عدة} مبتدأ؛ أي: فَعَليْهِ عِدَّةٌ. و{أُخر} ممنوع من الصرف للعدل عن الألف واللام والوصف. و{شهر رمضان} إما خبر عن مضمر، أو مبتدأ، والخبر: الألف واللام والوصف: و{شهر رمضان} إما خبر عن مضمر، أو مبتدأ، والخبر: {فمن شهد}، أو بدل من {الصيام}، على حذف مضاف، أي: صيام شهر رمضان.
و{رمضان} مصدر رمَض إذا احترق، وأضيف إليه الشهر، وجُعل عَلَما، ومُنع من الصرف للعلَمية والألف والنون. وسَمَّوْه بذلك إما لارتماض القلب فيه من حرَّ الجوع والعطش، أو لارتماض القلب فيه من حَرَّ الجوع والعطش، أو لارتماض الذنوب فيه، أو وافق الحرَّ حين نقلوا الشهور عن اللغة القديمة. و{الشهر} ظرف، لقوله: {شهد} أي: حضر، وقوله: {ولتكلموا...} الآية، هذه ثلاثُ عِللَ لثلاثة أحكام على سبيل الفِّ والنَّشْرِ المعكوس، أي: ولتكملوا العدة أمرتُكم بقضاء عدة أيام أخر، ولتكبروا الله عند تمام الشهر أمرتُكم بصيام الشهر كله، ولعلكم تشكرون أردتُ بكم اليسر دون العسر.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {يا أيها الذين آمنوا} فُرض عليكم {الصيام} كما فرض {على الذين من قبلكم} من الأنبياء وأَمَمِهم من لدن آدم، فلكم فيهم أسوة، فلا يشق عليكم {لعلكم تتقون} المعاصي، فإن الصوم يكسر الشهوة. ولذلك قال- عليه الصلاة والسلام-: «مَنْ اسْتَطَاعَ منْكُمُ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، ومَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَليْه بالصَّوْمِ، فَإِنَّه لَهُ وِجَاء».
وذلك الصيام إنما هو في أيام قلائل {معدودات} فلا يهولكم أمره، {فمن كان منكم مريضاً} يشق عليه الصيام، {أو على سفر} فأفطر فعليه صيام عدة ما أفطر {من أيام أُخر} بعد تمام الشهر، {وعلى الذين يطيقونه} بلا مشقة، إن أرادوا أن يفطروا {فديةُ} وهي: {طعام مساكين}: مُدٍّ لكل يوم. وفي قراءة {فديةٌ طعامُ مسكين} أي: وهي طعام مسكين لكل يوم. وقيل: نصف صاع. {فمن تطوع} بزيادة المُد، أو أطعم مسكينَينْ عن يوم، {فهو خير له} وأعظم أجراً، {وإن تصوموا} أيها المطيقون للصيام، {خير لكم إن كنتم تعلمون} ما في الصيام من الأسرار، والخير المدرار، ثم نسخ بقوله: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه}.
وذلك الصيام الذي أُمرتم به هو {شهر رمضان} المبارك {الذي أنزل فيه القرآن} أي: ابتداء نزوله فيه. أو إلى سماء الدنيا، حالة كونه {هدى للناس} أي: هادياً لهم إلى طريق الوصول، وآيات واضحات {من الهدى والفرقان} الذي يفرق بين الحق والباطل. وإن شئتَ قلتَ: فيه هدى للناس إلى مقام الإسلام، {وبينات}، أي: حججاً واضحة تهدي إلى تحقق الإيمان، وإلى تحقق الفرق بين الحق والباطل، وهو ما سوى الله، فيتحقق مقام الإحسان.
{فمن} حضر منكم في {الشهر} ولم يكن مسافراً {فليصمه} وجوباً، وكان في أول الإسلام على سبيل التخيير؛ لأنه شق عليهم حيث لم يألفُوه، فلما ألفوه واستمروا معه، حتّمه عليهم في الحضور والصحة. {ومَن كان مريضاً} يشق عليه الصيام، {أو على} جَناح {سفر} بحيث شرَع فيه قبل الفجر فأفطر فيه، فعليه {عدة من أيام أُخر} {يريد الله بكم اليسر} والتخفيف، حيث خفّف عنكم، وأباح الفطر في المرض والسفر، {ولا يريد بكم العسر} إذ لم يجعل عليكم في الدّين من حرج، وإنما أمركم بالقضاء {لتكلموا العدّة} التي أمركم بها، وهي تمام الشهر، {ولتكبروا الله على ما هداكم}، أمركم بصيامه فتكبروا عند تمامه.
ووقت التكبير عند مالك: من حين يخرج إلى المُصَلَّى، بعد الطلوع، إلى مجيء الإمام إلى الصلاة، ولفظُه المختار: (الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر ولله الحمد على ما هدانا، اللهم اجعلنا من الشاكرين)؛ لجمعه بين التهليل والتكبير والشكر امتثالاً لقوله: {ولعلكم تشكرون} على ما أوليناكم من سابغ الإنعام، وسهَّلنا عليكم في شأن الصيام.
الإشارة: كُتب عليكم الصيام عن الحظوظ والشهوات، كما كتب على مَن سلك الطريق قبلكم من العارفين الثقات، في أيام المجاهدة والرياضات، حتى تنزلوا بساحة حضرة المشاهدات، لعلكم تتقون شهود الكائنات، ويكشف لكم عن أسرار الذات، فمن كان فيما سلف من أيام عمره مريضاً بحب الهوى، أو على سفر في طلب الدنيا، فليبادِرْ إلى تلافِي ما ضاع في أيام أُخر، وعلى الأقوياء الذين يُطيقون هذا الصيام، إطعام الضعفاء من قُوت اليقين ومعرفة رب العالمين. فمَنْ تطوع خيراً بإرشاد العباد إلى ما يُقوِّي يقينهم، ويرفع فهو خير له. وأَنْ تَدُوموا أيها الأقوياء على صومكم عن شهود السَّوَى، وعن مخالطة الحس بعد التمكين، فهو خير لكم وأسلم، إن كنتم تعلمون ما في مخالطة الحس من تفريق القلب وتوهين الهمم، إذ في وقت هذا الصيام يتحقق وحي الفهم والإلهام، وتترادف الأنوار وسواطعُ العرفان. فمن شهد هذا فَلْيَدُمْ على صيامه، ومن لم يَقْدِر عليه فَلْيَبْكِ على نفسه في تضييع أيامه.
واعلم أن الصيام على ثلاث درجات: صوم العوام، وصوم الخواص، وصوم خواص الخواص.
أما صوم العوام: فهو الإمساك عن شهوتَي البطن والفَرْج، وما يقوم مقامَهما من الفجر إلى الغروب، مع إرسال الجوارح في الزلاَّت، وإهمال القلب في الغفلات. وصاحبُ هذا الصوم ليس له من صومه إلا الجوع، لقوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ لم يَدَعْ قولَ الزُور والعملَ به فليس لله حاجةٌ في أنْ يدع طعامَه وشرابَه» وأما صوم الخواص: فهو إمساك الجوارح كلَّها عن الفَضول، وهو كل ما يشغل العبد عن الوصول، وحاصلُه: حفظ الجوارح الظاهرة والباطنة عن الاشتغال بما لا يَعْنِي. وأما صوم خواص الخواص: فهو حفظ القلب عن الالتفات لغير الرب، وحفظ السر عن الوقوف مع الغير، وحاصله: الإمساك عن شهود السَّوى، وعكوفُ القلب في حضرة المولَى، وصاحب هذا صائم أبداً سرمداً. فأهل الحضرة على الدوام صائمون، وفي صلاتهم دائمون، نفعنا الله بهم وحشرنا معهم. آمين.