فصل: تفسير الآيات (42- 48):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (42- 48):

{اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآَيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: لسيدنا موسى عليه السلام: {اذهب أنت وأخوك} أي: ليذهب معك أخوك {بآياتي}: بمعجزاتي التي أريتكَهَا، من اليد والعصا، فإنهما وإن كانتا اثنتين، لكن في كل واحدة منهما آيات، فإنَّ في انقلاب العصا حيوانًا: آية، وكونها ثعبانًا عظيمًا: آية، وسرعة حركته، مع عِظَمِ جرمه: آية، وكذلك اليد؛ فإنَّ بياضها في نفسه آية، وشعاعها آية، ثم رجوعها إلى حالَتها الأولى آية. والباء للمصاحبة، أي: اذهبا مصحوبَيْنِ بمعجزاتنا، مستمسكَيْنِ بها، {ولا تَنِيَا}: لا تفترا ولا تقصرا {في ذكري} عند تبليغ رسالتي، ولا يشغلكما معاناة التبليغ عن ذكري، بما يليق بحالكما؛ من ذكر لسان أو تفكر أو شهود، فلا تغيبا عن مشاهدتي باشتغالكما بأمري، حتى لا تكونا فاترين في عيني.
{اذهبَا إِلى فرعون إِنه طغى}: تجبر وعلا. ولم يكن هارون حاضرًا وقت هذا الوحي، وإنما جمعهما؛ تغليبًا. رُوي أنه أوحى إلى هارون وهو بمصر أن يتلقى موسى- عليهما السلام-، وقيل: سمع بإقباله فتلقاه.
{فقولا له قولاً لينًا}؛ لأنَّ تليين القول مما يكسر ثورة عناد العتاة، ويلين عريكة الطغاة. قال ابن عباس: أي: لا تعنفا في قولكما. وقيل: القول اللين: {هل لك إِلى أن تزكى...} إلخ، ويعارضه قوله بعد: {فقولا إِنا رسولا ربك} وقيل: كنِّياه، وكان له ثلاثة كنى: أبو العباس، وأبو الوليد، وأبو مرة. وقيل: عِدَاه على قبول الإيمان شبابًا لا يهرم، ومُلكًا لا ينزع منه إلا بالموت، وتبقى عليه لذة المطعمَ والمشرب والمنكح إلى الموت، وقيل: اللطافة في القول؛ فإنه رباك وأحسن تربيتك، وله عليك حق الأبوة، {لعله يتذكَّر} بما بلغتماه من ذكر، ويرغب فيما رغبتماه فيه، {أو يخشى} عقابي.
ومحل الجملة: النصب على الحال من ضمير التثنية، أي: فقولا له قولاً لينًا، رَاجِيَيْنِ تذكرته، أي: باشرا وعظه مباشرةَ من يرجو ويطمع أن يُثمر علمُه ولا يخيب سعيُه. وفائدة هذا الإبهام: الحَثُّ على المبالغة في وعظه. هذا جواب سيبويه عن الإشكال، وهو أنه تعالى عَلِمَ أنه لا يؤمن، وقال: {لعله يتذكَّر}، فصرف الرجاء إلى موسى وهارون، أي: اذهبا على رجائكما. وقال الوراق: قد تذكر حين ألجمه الغرق. وقال الزجاج: خاطبهم بما يعقلون. قلت: كونه تعالى علم أنه لا يؤمن هو من أسرار القدر الذي لا يكشف في هذه الدار، وهو من أسرار الحقيقة، وإنما بُعثت الرسل بإظهار الشرائع، فخاطبهم الحق تعالى بما يناسب التبليغ في عالم الحكمة، والله تعالى أعلم. وجدوى إرسالهما إليه، مع العلم بإحالته، إلزام الحجة وقطع المعذرة.
{قالا ربنا إِننا نخاف أن يَفْرُطَ علينا} أي: يعجل علينا بالعقوبة، ولا يصبر إلى تمام الدعوة وإظهار المعجزة. وهو من فَرطَ إذا تقدم، ومنه: الفارط، للوليد الذي مات صغيرًا.
وقرئ بضم الياء، من أفرط إذا حَمله على العجلة، أي: نخاف أن يحمله حامل من الاستكبار والخوف على المُلك أو غيرهما، على المعاجلة والعقاب، {أو أن يطغى}؛ يزداد طغيانًا، كأن يقول في شأنك ما لا ينبغي، لكمال جرأته وقساوته، وإظهار {أن}؛ لإظهار كمال الاعتناء بالأمر، والإشعار بتحقيق الخوف من كل منهما، وهذا القول يحتمل أن يكون قاله موسى ودخل هارون بالتبع، إيذانًا بأصالة موسى عليه السلام في كل قول وفعل، وتبعية هارون عليه السلام، أو يكون هارون قال ذلك بعد تلاقيهما، فحكى الله قولهما عند نزول الآية، كما في قوله تعالى: {ياأيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات} [المؤمنون: 51]، فإن هذا الخطاب قد حكى لنا بصيغة الجمع، مع أن كلا من المخاطبين لم يخاطب إلا بطريق الانفراد؛ لاستحالة جمعهم في الوجود، فكيف باجتماعهم في الخطاب؟
{قال} تعالى لهما: {لا تخافا}، وهو استئناف بياني، كأن قائلاً قال: فماذا قال لهما ربهما عند تضرعهما إليه؟ فقيل: قال: لا تخافا ما توهمتما من الأمرين، {إِنني معكما} بحفظي ورعايتي ونصري ومعونتي، {أسمعُ وأرى} ما يجري بينكما وبينه من قول وفعل، فأفعل في كل حال ما يليق بها؛ من دفع ضر وشر، وجلب نفع وخير.
{فأتياهُ}، أمر بإتيانه، الذي هو عبارة عن الوصول إليه، بعد ما أمر بالذهاب إليه، فلا تكرار، {فقولا} له: {إِنّا لاسولا ربك} إليك، أمر بذلك من أول الأمر، ليعرف الطاغية شأنهما، ويبني جوابه على ذلك، {فأرسِلْ معنا بني إِسرائيل} أي: أطلقهم من الأسر والقهر، وأخرجهم من تحت يدك العادية. وليس المراد إرسالهم معه إلى الشام، بدليل قوله: {ولا تعذِّبْهم} بإبقائهم على ما كانوا عليه من العذاب، فإنهم كانوا تحت مملكة القبط، يستخدمونهم في الأعمال الصعبة، من الحفر ونقل الأحجار، وضرب اللبن والطين، وبناء المدائن، وغير ذلك من الأعمال الشاقة، ويقتلون ذكور أولادهم عامًا دون عام، فكانت رسالة موسى إلى فرعون بالإيمان بالله وحده، وتسريح بني إسرائيل. رُوي أنه لمّا رغبه في الإيمان بذكر ما أعد الله لأهله من الخلود في الجنة ولملك الدائم، أعجبه، فقال: حتى أستشير هامان، وكان غائبًا، فقَدِم، فأخبره، فقال هامان: قد كنتُ أرى لك عقلاً، بينما أنت رب تصيرُ مربوبًا، وبينما أنت تُعبد تصير تعبد غيرك، فغلبه على رأيه.
فقال له موسى: {قد جئناك بآيةِ من ربك}، قال فرعون: وما هي؟ فأدخل يده في جيب قميصه ثم أخرجها بيضاء، لها شعاع كشعاع الشمس، فعجب منها، ولم يُره العصا إلا بعد ذلك، يوم الزينة. قاله الثعلبي. قلت: والذي يظهر من سورة الشعراء- بل هو صريح فيها- أنه أراه العصا واليد. وإنما أفردت في اللفظ، هنا؛ لأن المراد إثبات الحجة بصحة الرسالة، لا تَعدد الآية، وكذلك قوله تعالى: {قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} [آل عِمرَان: 49]، {أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُّبِينٍ} [الشُّعَرَاء: 30]، وأما قوله تعالى: {فَأْتِ بِهَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} [الأعرَاف: 106]؛ فالظاهر أن المراد بها آية من الآيات.
ثم قال له: {والسلامُ على مَن اتبعَ الهُدى} أي: وسلام الله وملائكته والمؤمنين المقتضي سلامة الدارين، على من اتبع الهدى، بتصديق آيات الله تعالى الهادية إلى الحق، دون من اتبع الغي والهوى، وفيه من الترغيب، في اتباعها على ألطف وجه، ما لا يخفى. {إِنا قد أُوحي إِلينا} من جهة ربنا، {أنَّ العذابَ} الدنيوي والأخروي {على مَن كذَّب} بآيات الله {وتولى} أي: أعرض عن قبولها، وفيه من التلطف في الوعيد حيث لم يصرح بحلول العذاب به ما لا مزيد عليه. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ينبغي لأهل العلم ولأهل الوعظ والتذكير أن يتعاونوا على نشر العلم ووعظ العباد، ويتوجهوا إليهم في أقطار البلاد، فإن ذلك فرض كفاية على أهل العلم، ولا يشغلهم نشر العلم عن ذكر الله، ولا تذكير العباد عن شهود الله، كما قال الله تعالى: {ولا تنيا في ذكري} أي: ولا تغفلا عن شهودي وقت إرشاد عبادي، فإن توجهوا إلى الجبابرة والفراعنة فليلينوا لهم المقال، وليدعوهم إلى أسهل الخلال، فإن ذلك أدعى إلى الامتثال، خلافًا لمن قال هذه ملة موسوية، وأما الملة المحمدية فقال تعالى فيها: {وَقُلِ الحق مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]؛ فإنَّ بيان الحق لا ينافي أن يكون بملاطفة وإحسان، فإن خاف الواعظ من صولة المتجبر فإن الله معه، يحفظه ويرعاه، ويسمعه ويراه، فإن لم يسمع لقوله ولم يتعظ لوعظه، فقد بلغ ما عليه، وليقل بلسان الحال أو المقال: {والسلام على من اتبع الهدى}. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (49- 55):

{قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55)}
قلت: {خَلْقَه}: يحتمل أن يكون اسمًا بمعنى المخلوق، فيكون مفعولاً أولاً، و{كل شيء}: مفعولاً ثانيًا، أو يكون مصدرًا بمعنى الخلقة، فيكون مفعولاً ثانيًا، أي: أعطى كل شيء خِلقتَه وصُورته التي هو عليها.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {قال} فرعونُ في جواب موسى، لما أتاه مع أخيه وبلغا الرسالة، وقالا له ما أمرهما به ربهما، وإنما حذفه للإيجاز، وللإشعار بأنهما لما أُمرا بذلك سارعا إلى الامتثال من غير تلعثم، أو بأن ذلك من الظهور بحيث لا حاجة إلى التصريح به، فقال لهما فرعون: {فمن ربكما يا موسى}؟ لم يضف الرب إلى نفسه؛ لغاية عتوه وطغيانه، بل أضافه إليهما، وفي الشعراء: {وَمَا رَبُّ العالمين} [الشُّعَرَاء: 23]، والجمع بينهما تَعدد الدعوة، ففي كل مرة حكى لنا ما قال. وتخصيص النداء بموسى، مع توجيه الخطاب إليهما؛ لأنه الأصل في الرسالة، وهارون وزيره.
{قال} موسى عليه السلام مجيبًا له: {ربُنا الذي أعطى كُلَّ شيءٍ خلقه} أي: ربنا هو الذي أعطى كل شيء خلقه، أي: مخلوقاته؛ مما يحتاجون إليه ويرتفقون به في قوام أبدانهم ومعايشهم، أو أعطى كل شيء خِلْقته وصُورته التي يختص بها، ولم يجعل خلق الإنسان في خلق البهائم، ولا خلق البهائم في خلق الإنسان. ولكن خلق كل شيء فقدره تقديرًا. أو أعطى كل شيء فعله وتصرفه، فاليد للبطش، والرجل للمشي، واللسان للنطق، والعين للنظر، والأذن للسمع، أو أعطى كل شيء شكله من جنسه، للإنسان زوجةً، وللبعير ناقةً، وللفرس رَمْكةً، وللحمار أتَانًا. {ثم هَدى} إلى طريق الانتفاع والارتقاء، بما أعطاه وعرفه كيف يتوصل إلى بقائه وكماله، فألهمه الرضاع والأكل والشرب والجماع، وطلب الرعي وتوفي المهالك، وكيف يأتي الذكرُ الأنثى.
ولمّا كان الخلق- الذي هو عبارة عن تركيب الأجزاء وتسوية الأجسام- مقدمًا على الهداية، التي هي عبارة عن إيداع القوى المحركة والمدركة في تلك الأجسام، عطف بثم المفيدة للتراخي. ولقد ساق عليه السلام جوابه على نمط رائق، وأسلوب لائق؛ حيث بيَّن أنه تعالى عالم قادر بالذات، خالق لجميع الكائنات، منعم عليهم بجميع النعم السابغات، هادٍ لهم إلى طرق المرْتَفقات.
{قال} فرعون: {فما بالُ القرونِ الأُولى} أي: ما حالها بعد الموت، وما فعل الله بها؟ فقال له موسى: هذا غيب لا يعلمه إلاّ الله، وهو معنى قوله: {علمها عند ربي}، أو ما حال القرون الماضية والأمم الخالية، وماذا جرى عليهم من الحوادث المفصلة؟ فأجابه عليه السلام بأن العلم بأحوالهم مفصلةً مما لا ملامسة له بمنصب الرسالة، وإنما علمها عند الله عزّ وجلّ. وكأنَّ عدو الله، لما خاف أن يُبهت، ويُفتضح، ويظهر للناس حجة موسى عليه السلام، أراد أن يصرفه عليه السلام إلى ما لا يعني، من ذكر الحكايات التي لا مسيس لها بمنصب الرسالة؛ فلذلك أعرض عنه، و{قال علمها عند ربي}، وهذا أحسن من الأول؛ لأنه لو كان سؤاله عن أحوالها بعد الموت لأمكن أن يقول له: من اتبع الهدى منهم فقد سلم وتنعم، ومن تولى فقد عُذب وتألّم، حسبما نطق به قوله تعالى: {والسلام على مَن اتبع الهدى}.
وقيل: فما بالها لم تبعث كما يزعم موسى، أو: ما بالها لم تكن على دينك، أو: ما بالها كذبت ولم يُصبها عذاب، وكلها بعيدة.
قلت: والذي يظهر أن الطاغية فَهِمَ قوله تعالى: {ثم هدى} أي: إلى الإيمان، فاعترض بقوله: فما بال القرون الأولى لم تؤمن حتى هلكت؟ فأجابه موسى عليه السلام بقوله: {علمها عند ربي}، فهو أعلم بمن ضل عن سبيله، وهو أعلم بمن اهتدى. وقوله: {في كتاب} أي: اللوح المحفوظ، فقد أثبتت فيه بتفاصيلها، ويجوز أن يكون ذلك عبارة عن تمكنه وتقريره في علم الله- عزّ وجلّ- تمكن من استحفظ الشيء، وقيده بالكتابة، كما يَلوحُ به قوله تعالى: {لا يَضِلُّ ربي} أي: لا يخطئ ابتداء، {ولا ينسى} فيتذكر. وفيه تنبيه على أن كتابته في اللوح المحفوظ ليس لحاجته إليه في العلم به ابتداء أو بقاءًا. وإظهار {ربي} في موضع الإضمار، للتلذذ بذكره، وللإشعار بعلّية الحكم؛ فإن الربوبية مما تقتضي عدم الضلال والنسيان.
ولقد أجاب عليه السلام عن السؤال بجواب عبقري بديع، حيث كشف عن حقيقة الحق حجابها، مع أنه لم يخرج عما كان بصدده من بيان شؤونه تعالى، ووصف الحق تعالى بأوصاف لا يمكن عدو الله أن يتصف بشيء منها، لا حقيقة ولا مجازًا، ولو قال له: هو الخالق الرازق، وشبه ذلك، لأمكن أن يغالط ويدعي ذلك لنفسه.
ثم تخلص إليه؛ حيث قال: بطريق الحكاية عن الله عزّ وجلّ، أو من كلامه عليه السلام: {الذي جعل لكمُ الأرضَ مهادًا} أي: كالمهد تتمهدونها بالسكن والقرار، أي: جعل كل موضع منها مهدًا لكل واحد منكم. {وَسَلَكَ لكم فيها سُبُلاً} أي: طُرقًا تتوصلون بها من قطر إلى قطر، لتقضوا منها مآربكم، وتنتفعوا بمرافقها ومنافعها، ووسطها بين الجبال والأودية لتعرف أمارات سُبلها. {وأنزل من السماء ماءً} هو المطر، {فأخرجنا به}، يحتمل أن يكون من كلام الله، وما قبله من كلام موسى، أو كله من كلام الله تعالى، حكاه موسى عليه السلام، وإنما التفت إلى التكلم؛ للتنبيه على ظهور ما فيه من الدلالة على كمال القدرة والحكمة، والإيذان بأنه لا يتأتى إلا من قادر مطاع عظيم الشأن، أي: فأخرجنا بذلك الماء {أزواجًا}: أصنافًا، سميت أزواجًا؛ لازدواجها، واقتران بعضها ببعض، كائنة {من نباتٍ شتى}: متفرقة، جمع شتيت: أي: متفرق، وهو، في الأصل، مصدر، يستوي فيه الواحد والجمع، يعني: أنها مختلفة في الشكل واللون والطعم والرائحة والنفع، وبعضها صالح للناس على اختلاف صلاحها لهم، وبعضها للبهائم.
ومن تمام نعمته تعالى أن أرزاق عباده، لمَّا كان تحصيلها بعمل الأنعام، جعل عَلفَها مما يفضل عن حاجتهم، ولا يليق بكونه طعامًا لهم، وهو معنى قوله: {كُلوا وارْعَوا أنعامكم}، والجملة: حالٌ، على إرادة القول، أي: أخرجنا منها أصناف النبات، قائلين: كلوا وارعوا أنعامكم، آذنين في ذلك لكم.
{إِن في ذلك} المذكور، من شؤونه تعالى، وأفعاله وأنعامه، {لآياتٍ} جليلة واضحة الدلالة على عظيم شأنه تعالى، في ذاته وصفاته وأفعاله، وعلى صحة نبوة موسى وهارون- عليهما السلام-، {لأُولي النُّهَى} أي: العقول الصافية، جمع نُهْيَة، سمى بها العقل، لنهيه عن اتباع الباطل، وارتكاب القبيح، أي: لذوي العقول الناهية عن الأباطيل، التي من جملتها ما يدعيه الطاغية وما يقبله منه الفئة الباغية. وتخصيص كونها آيات لهم، مع أنها آية للعالمين؛ لأنهم المنتفعون بها.
{منها خلقناكم} أي: من الأرض الممهدة لكم، خلقناكم بخلق أبيكم آدم عليه السلام، وأنتم في ضمنه، إذ لم تكن فطرته مقصورة على نفسه عليه السلام، بل كانت أنموذجًا منطويًا على فطرة سائر أفراد الجنس، انطواء إجماليًا، فكان خلقه عليه السلام منها خلقًا لكل منها، وقيل: خلقت أبدانكم من النطفة المتولدة من الأغذية المتولدة من الأرض. وقال عطاء: إن المَلَك الموكل بالرحم ينطلق، فيأخذ من تراب المكان الذي يُدفن فيه العبد، فيذره على النطفة، فتخلق من التراب ومن النطفة. اهـ.
{وفيها نُعيدكم} بالإماتة وتفريق الأجزاء، والكلام على الأشباح دون الأرواح، فإنها، بعد السؤال، تصعد إلى السماء، كما يأتي عند قوله تعالى: {فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ المقربين} [الواقِعَة: 88] الآية. ولم يقل: وإليها نُعيدكم؛ إشارة إلى استقرار العبد فيها، {ومنها نُخرجكم تارةً أخرى} بتأليف أجزائكم المتفتتة، المختلطة بالتراب، على الهيئة السابقة، ورد الأرواح إليها. وكون هذا الإخراج تارة أخرى: باعتبار أن خلقهم من الأرض إخراج لهم منها، وإن لم يكن على التارة الثانية. والتارة في الأصل: اسم للتور، وهو الجريان، فالتارة واحدة منه، ثم أطلق على كل فعلة واحدة من الفعلات المتحدة، كما مر في المرة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه، مما سبق لهم في أزله، ثم هدى إلى الأسباب الموصلة إليه، فمنهم من كان حظه في الأزل قوت الأشباح، هداه إلى أسبابها، وهم أهل مقام البعد، ومنهم من كان حظه قوت القلوب، فهداه إلى أسبابها من المجاهدة في الطاعات وأنواع القربات، وهم أنواع:
فمنهم من شغلهم بتدريس العلوم وتدقيق الفهوم، وتحرير المسائل وتمهيد النوازل، وهداهم إلى أسباب ذلك، وهم حملة الشريعة، إن صحت نيتهم وثبت إخلاصهم. ومنهم من شغلهم بتوالي الطاعات وتعمير الأوقات، وهداهم إلى أسبابها، وقواهم على مشاقها، وهم العباد والزهاد.
ومنهم من شغلهم بإطعام الطعام والرفق بالأنام، وتعمير الزوايا وقبول الهدايا، وهداهم إلى أسباب عمارتها والقيام بها، وهم الصالحون. ومنهم: من كان حظه قوت الأرواح، وهم المريدون السائرون، أهل الرياضة والتصفية، والتخلية والتحلية، والتهذيب والتدريب، وهداهم إلى أسبابها، ووصلهم إلى شيخ كامل يُبينها ويسلّكها، وهم في ذلك مقامات متفاوتة، على حسب صدقهم وجدهم، ومنهم من كان حظه قوت الأسرار، وهم العارفون الكبار، السابقون المقربون، أهل الفناء والبقاء، أهل الرسوخ والتمكين، فهداهم إلى ما أمّلوا، ووصلهم إلى ما طلبوا. نفعنا الله بهم، وخرطنا في سلكهم. آمين.
وقوله: {فما بال القرون الأولى...} الآية، فيه زجر للمريد عن الاشتغال بالحكايات الماضية، لأن في ذلك شُغُلاً عن الله، إلا ما كان فيه زيادة إلى الله، فتلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم. وقوله تعالى: {الذي جعل لكم الأرض مهادًا} أي: جعل أرض النفوس مهادًا للقيام برسم العبودية، وسلك فيها سبلاً توصل إلى مشاهدة الربوبية، لمن سلكها بالرياضة والمجاهدة، وأنزل من سماء الملكوت ماء الواردات الإلهية، تحيا به الأرواح، فتخرج أصنافًا من العلوم والحكم شتى، كُلوا برعي القلوب في نِوار تجلياتها، وارعوا لقوت أشباحكم من ثمار حسياتها، إن في ذلك لآيات لأولي النُهى. {منها خلقناكم}: من أرض نفوسكم أخرجناكم، بشهود عظمة الربوبية، وفيها نُعيدكم؛ للقيام برسم العبودية، ومنها نُخرجكم؛ لتكونوا لله، لا لشيء دونه. أو منها خلقناكم، أي: أخرجناكم من شهود ظلمتها إلى نور خالقها، بالفناء عنها، وفيها نُعيدكم بالرجوع إلى الأثر في مقام البقاء، {ومنها نُخرجكم تارة أخرى}؛ بعقد الحرية في مقام البقاء، فتكونوا عبيدًا شُكَّرًا. وبالله التوفيق.