فصل: تفسير الآيات (56- 59):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (56- 59):

{وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آَيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59)}
قلت: {موعدًا}: مصدر، مفعول أول ل {اجعل}. و{مكانًا}: مفعول بفعل محذوف، أي: تعدنا مكانًا سُوى، لا بموعد، لأنه وصف، ويجوز نصبه على إسقاط الخافض، و{يوم الزينة}: على حذف مضاف، أي: مكان يوم الزينة، و{أن يحشر}: عطف على يوم، أو الزينة.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ولقد أريناه} أي: فرعون، {آياتنا}، حين قال له: {فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ} [الشُّعَرَاء: 31-33]، وعبّر بالجمع، مع كونهما اثنتين، باعتبار ما في تضاعيفهما من الخوارق، التي كل واحدة منها آية. وقد رأى فرعونُ من هاتين الآيتين أمورًا دواهي، فإنه روى أنه عليه السلام، لما ألقى العَصا، انقلبت ثعبانًا أشعر، فاغرًا فاه، بين لَحْيَيْهِ ثمانون ذراعًا، وضع لحيه الأسفل على الأرض، والأعلى على سور القصر، ثم توجه نحو فرعون، فهرب وأحدث، وانهزم الناس مزدحمين، فمات منهم خمسة وعشرون ألفًا من قومه، فصاح فرعون: يا موسى أُنشدك الذي أرسلك إلا أخذته، فأخذه، فعاد عصًا. ورُوي أنها، لما انقلبت حية ارتفعت في السماء قدر ميل، ثم انحطت مقبلة نحو فرعون، وجعلت تقول: يا موسى مُرني بما شئت، ويقول فرعون: أنشدك... الخ. ونزع يده من جيبه، فإذا هي بيضاء بياضًا نورانيًا خارجًا عن العادة. ففي تضاعيف كُلٍّ من الآيتين آيات جمة، لكنها لما كانت غير مذكورة بالصراحة، أكدت بقوله تعالى: {كلَّها}، كأنه قيل: أريناه آياتنا بجميع مستتبعاتها وتفاصيلها، قصدًا إلى بيان أنه لم يبق له في ذلك عذر.
وقيل: أريناه آياتنا التسع، وهو بعيد؛ لأنها إنما ظهرت على يده عليه السلام بعد ما غلبت السحرة على مَهَل، في نحو من عشرين سنة، والكلام هنا قبل المعارضة، اللهم إلا أن يكون الحق تعالى أخبرنا أنه أراه الآيات التسع كلها، فأبى عن الإيمان، ثم رجع إلى إتمام القصة.
وأبعد منه: من عَدّ في الآيات ما جُعِل لإهلاكهم، لا لإرشادهم إلى الإيمان؛ من فلق البحر، وما ظهر بعد مهلكه من الآيات الظاهرة لبني إسرائيل؛ من نتق الجبل والحجر، وغير ذلك، وكذلك من عَدّ منها الآيات الظاهرة على يد الأنبياء- عليهم السلام-؛ حيث حكاها موسى عليه السلام لفرعون، بناء على أن حكايته إياها له في حكم إظهارها بين يديه؛ لاستحالة الكذب عليه، فإنَّ حكايته إياها لفرعون مما لم يجر ذكره هنا، فكل هذا بعيد من سياق النظم الكريم.
قال تعالى: {فَكَذَّبَ} فرعونُ موسى، {وأَبَى} الإيمان والطاعة، مع ما شاهد على يده من الشواهد الناطقة بصدقه. جحودًا وعنادًا؛ لعتوه واستكباره، وقيل: كذَّب بالآيات جميعًا، وأبَى أن يقبل شيئًا منها.
{قال أجئتنا لتُخْرِجَنا من أرضنا بسحرك يا موسى}، هذا استئناف مُبين لكيفية تكذيبه وإبائه. والمجيء إما على حقيقته، أو بمعنى الإقبال على الأمر والتصدي له، أي: أجئتنا من مكانك الذي كنتَ فيه ترعى الغنم؛ لتُخرجنا من أرضنا؟ أو: أقبلت إلينا؛ لتُخرجنا من مصر؛ بما أظهرت لنا من السحر، فإن ذلك مما لا يصدر عن عاقل؛ لكونه من باب محاولة المحال، وإنما قاله؛ تحريضًا لقومه على مقت موسى والبعد عنه، بإظهار أن مراده عليه السلام إخراج القبط من وطنهم، وحيازة أموالهم، وإهلاكهم بالكلية، حتى لا يميل أحد إليه، {والله غَالِبٌ على أَمْرِهِ} [يوسف: 21]. وسمى ما أظهره عليه السلام من المعجزة الباهرة سحرًا، ثم ادعى أنه يعارضه، حيث قال: {فَلنَأْتينك بسحرٍ مثله} أي: وإذا كان الأمر كذلك، فوالله لنأتينك بسحر مثل سحرك، {فاجعلْ بيننا وبينك موعدًا} أي: وعدًا {لا نُخلفه} أي: لا نخلف ذلك الوعد، ولا نجاوزه {نحنُ ولا أنت}، بل نجتمع فيه وقت ذلك الموعد، وإنما فوض اللعينُ أمرَ الوعد إلى موسى عليه السلام؛ للاحتراز عن نسبته إلى ضعف القلب ودخول الرعب إليه، وإظهار الجلادة، بإظهار أنه متمكن من تهيئَة أسباب المعارضة، طال الأمر أو قصر، كما أن تقديم ضميره على ضمير موسى عليه السلام، وتوسيط كلمة النفي بينهما؛ للإيذان بمسارعته إلى عدم الاختلاف.
وقوله تعالى: {مكانًا سُوىً} أي: يكون ذلك الوعد- أي: وعد الاجتماع- في مكان مستوٍ، تستوي مسافته بيننا وبينك، عدلاً، لا ظلم على أحد في الإتيان إليه، منا ومنك، وفيه لغتان: ضم السين وكسرها.
{قال} لهم موسى عليه السلام: {موعدُكُم يومُ الزينة} أي: مكان الزينة؛ لأن يوم الزينة يدل على مكان مشتهر باجتماع الناس فيه في ذلك اليوم، وهو يوم عيد لهم، في كل عام يتزينون ويجتمعون فيه، وقيل: يوم النيروز، وقيل: يوم عاشوراء، وقيل: يوم سوق لهم. {وأن يُحشر الناسُ ضحًى} أي: موعدكم يوم الزينة، وحشرُ الناس ضحى، أو يوم حشر الناس في وقت الضحى، يجتمعون نهارًا جهارًا، أراد عليه السلام أن يكون أبلغ في إظهار الحجة وإدحاض الباطل، بكونه على رؤوس الأشهاد. والله تعالى أعلم.
الإشارة: من سبق له البعد عن الرحمن، لا ينفع فيه خوارق معجزاتٍ، ولا قاطع برهان ودليل، أبعده التكبر والطغيان، ودفعُ الحق بالباطل. نعوذ بالله من موارد الخذلان.

.تفسير الآيات (60- 69):

{فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69)}
قلت: {إن هذان لساحران}: مَنْ خَفَّفَ {إن}: جعلها نافية، أو مخففة، واللام فارقة. ومَنْ ثَقَّلها وقرأها: {هذان}؛ بالألف، فقيل: على لغة بلحارث بن كعب وخثعم وكنانة، فإنهم يَلْزَمُونَ الألف؛ رفعًا ونصبًا وجرًا، ويُعرِبُونَها تقديرًا، وقيل: اسمها: ضمير الشأن، أي: إنه الأمر والشأن هاذان لهما ساحران. وقيل: {إن} بمعنى نعم، لا تعمل، وما بعدها: جملة من مبتدأ وخبر. وقالت عائشة- رضي الله عنها-: إنه خطأ من الكُتاب، مثل قوله: {والمقيمين الصلاة} [النِّساء: 162]، {والصابئون} [المائدة: 69]، في المائدة، ويرده تواتر القراءة.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {فتولَّى فرعونُ} أي: انصرف عن المجلس، ورجع إلى وطنه، {فجمعَ كيده} أي: حِيلَه وسَحرته؛ ليكيد به موسى عليه السلام، {ثم أتى} الموعد، ومعه ما جمعه من كيده وسحرته، وسيأتي عددهم.
{قال لهم موسى}، حيث اجتمعوا من طريق النصيحة: {ويلَكُم} أي: ألزمَكم اللهُ الويل، إن افتريتم على الله الكذب، {لا تفتروا على الله كذبًا} بإشراك أحد معه، كما تعتقدون في فرعون، أو بأن تحيلوا الباطل حقًا، {فَيُسْحِتَكم} أي: يستأصلكم، بسببه، {بعذابٍ} لا يُقَادَر قدره، وقرئ رباعيًا وثلاثيًا، يقال: سحت وأسحت. فالثلاثي: لغة أهل الحجاز، والرباعي: لغة بني تميم ونجد. {وقد خاب} وخسر {مَن افترى} على الله، كائنًا من كان، بأي وجه كان، فيدخل الافتراء المنهي عنه دخولاً أوليًا، أو: قد خاب فرعون المفتري على الله، فلا تكونوا مثله في الخيبة.
{فتنازعوا} أي: السحرة، حين سمعوا كلامه عليه السلام، {أمرَهُم} أي: في أمرهم الذي أريد منهم؛ من مغالبته عليه السلام، وتشاوروا وتناظروا {بينهم} في كيفية المعارضة، وتشاجروا، ورددوا القول في ذلك، {وأسَرُّوا النجوى} أي: من موسى عليه السلام؛ لئلا يقف عليه فيدافعه، ونجواهم على هذا هو قوله: {قالوا إِنْ هذان} أي: موسى وهارون، {لساحران} عظيمان {يُريدان أن يُخرجاكم من أرضكم}؛ مصر، بالاستيلاء عليها {بسحرهما} الذي أظهره قبل، {ويَذْهبا بطريقتكُمُ المثلى} أي: بمذهبكم، الذي هو أفضل المذاهب وأمثلُها، بإظهار مذهبهما وإعلاء دينهما.
قال ابن عطية: والأظهر، في الطريقة هنا، أنه السيرة والمملكة. والمُثلى: تأنيث الأمثل، أي: الفاضلة الحسنة. اهـ. وقيل: الطريقة هنا: اسم لوجوه القوم وأشرافِهم، لأنهم قدوة لغيرهم، والمعنى: يريدان أن يصرفا وجوه الناس وأشرافَهم إليهما، ويُبطلان ما أنتم عليه. وقال قتادة: (طريقتهم المثلى يومئذ: بنو إسرائيل، كانوا أكثر القوم عددًا وأموالاً، فقال فرعون: إنما يريدان أن يذهبا به لأنفسهما). ولا شك أن حمل الإخراج على إخراج بني إسرائيل من بينهم، مع بقاء قوم فرعون على حالهم آمِنين في ديارهم بعيد، مما يجب تنزيه التنزيل عن أمثاله.
وقوله تعالى: {فأجْمِعُوا كيدكم}: تصريح بالمطلوب، أي: إذا كان الأمر كما ذكر، من كونهما ساحرين يُريدان إخراجكم من بلادكم، فأجمعوا كيدكم، أي: اجعلوه مُجمعًا عليه، بحيث لا يتخلف عنه واحد منكم، وارموه عن قوس واحدة.
وقرأ أبو عمرو: {فاجْمَعُوا}، من الجمع، أي: فاجمعوا أدوات سحركم ورتبوها كما ينبغي، {ثم ائْتُوا صفًّا} أي: مصطفين، أمروا بذلك؛ لأنه أَهْيَبُ في صدور الرائين، وأَدْخَلُ في استجلاب الرهبة من المشاهدين. قيل: كانوا سبعين ألفًا، مع كل واحد منهم حبل وعصا، وأقبلوا عليه إقبالة واحدة، وقيل: كانوا اثنين وسبعين ساحرًا؛ اثنان من القبط، والباقي من بني إسرائيل، وقيل: تسعمائة؛ ثلاثمائة من الفُرس، وثلاثمائة من الروم، وثلاثمائة من الإسكندرية، وقيل: خمسة عشر ألفًا. والله تعالى أعلم. ولعل الموعد كان مكانًا متسعًا، خاطبهم موسى عليه السلام بما ذكر في قطر من أقطاره، وتنازعوا أمرهم في قطر آخر، ثم أمروا أن يأتوا وسطه على الوجه المذكور.
ثم قالوا في آخر نجواهم: {وقد أفلح اليوم مَن استعلى}؛ فاز بالمطلوب مَنْ غلب، يريدون بما وعدهم فرعون من الأجر والتقريب، أو بالرئاسة والجاه والذكر الحسن في الناس. وقيل: كان نجواهم أن قالوا- حين سمعوا مقاله موسى عليه السلام-: ما هذا بقول ساحر، وقيل: كان ذلك أن قالوا: إن غلبنا موسى اتبعناه، وقيل: قالوا فيها: إن كان ساحرًا غلبناه، وإن كان من السماء فله أمر. فيكون إسرارهم حينئذ من فرعون، ويحمل قولهم: {إِن هذان لساحران...} إلخ، على أنهم اختلفوا فيما بينهم على الأقاويل المذكورة، ثم أعرضوا عن ذلك بعد التنازع والتناظر، واستقرت آراؤهم على المغالبة والمعارضة. والله تعالى أعلم بما كان.
ثم طلبوا المعارضة، فقالوا: {يا موسى إِما أن تُلقي} ما تلقيه أولاً، {وإِما أن نكون أول من ألقى} ما نلقيه. خيروه عليه السلام فيما ذكر؛ مراعاة للأدب، لما رأوا عليه من مخايل الخير، وإظهارًا للجلادة، {قال بل أَلْقُوا} أنتم أولاً، مقابلة لأدبهم بأحسن منه، فَبَتَّ القول بإلقائهم أولاً، وإظهارًا لعدم المبالاة بسحرهم، ومساعدة لما أوهموا من الميل إلى البدء، وليستفرغوا أقصى جهدهم وسعيهم، ثم يُظهر اللهُ سبحانه سلطانه، فيقذف بالحق على الباطل فيدمغه كما تعودَ من ربه.
فألقوا ما عندهم، {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِم أَنَّهَا تَسْعَى} أي: ففوجئ موسى، وتخيل سعي حبالهم وعصيهم من سحرهم، وذلك أنهم كانوا لطخوها بالزئبق، فلما ضربت عليها الشمس اضطربت واهتزت، فخيل إليه أنها تتحرك. قلت: هكذا ذكر كثير من المفسرين. والذي يظهر أن تحريكها إنما كان من تخييل السحر الذي يقلب الأعيان في مرأى العين، كما يفعله أهل الشعوذة، وهو علم معروف من علوم السحر، ويدل على ذلك ما ورد أنها انقلبت حيات تمشي على بطونها، تقصد موسى عليه السلام، فكيف يفعل الزئبق هذا؟ قال ابن جزي: استدل بعضهم بهذه الآية أن السحر تخييل لا حقيقة له. اهـ.
{فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً} أي: خوفًا، {موسى}: أي: أضمر في نفسه بعض خوف، من جهة الطبع البشري المجبول على النفرة من الحيات، والاحتراز من ضررها. وقال مقاتل: إنما خاف موسى، إذ صنع القوم مثل صنيعه، بأن يشكُّوا فيه، فلا يتبعوه، ويشك فيه من تابعه. {قلنا لا تخف} ما توهمت، {إِنك أنت الأعلى}؛ الغالب عليهم، والجملة: تعليل لنهيه عن الخوف، وتقرير لغلبته، على أبلغ وجه، كما يُعرب عنه الاستئناف، وحرف التحقيق، وتأكيد الضمير، وتعريف الخبر، ولفظ العلو.
ثم قال له: {وأَلْقِ ما في يمينك} أي: عصاك، وإنما أبهمت؛ تفخيمًا لشأنها، وإيذانًا بأنها ليست من جنس العصا المعهودة، بل خارجة عن حدود أفراد الجنس، مبهمة الكنه، مستتبعة لآثار غريبة، وأما حملُ الإبهام على التحقير، بمعنى: لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم، وألق العُوَيْد الذي في يدك، فإنه بقدرة الله تعالى يتلقفُها مع وحدته وكثرتها، وصغره وكبرها، فيأباه ظهور حالها، وما وقع منها فيما مر من تعظيم شأنها.
وقوله تعالى: {تَلْقَفْ ما صنعوا}: جواب الأمر، من لقفه، إذا ابتلعه والتقمه بسرعة، أي: تبتلع، وتلتقم بسرعة، ما صنعوا من الحبال والعصي، التي تخيل إليك، والجملة الأمرية معطوفة على النهي عن الخوف، موجبة لبيان كيفية غلبته عليه السلام وعلوه، وإدحاض الخوف عنه، فإن ابتلاع عصاه لأباطيلهم، التي منها أوجس في نفسه ما أوجس، مما يقلع مادته بالكلية. وهذا، كما ترى، صريح في أن خوفه عليه السلام لم يكن- كما قال مقاتل- من خوف شك الناس وعدم اتباعه له عليه السلام، وإلا لعلله بما يزيله من الوعد بالنصر الذي يُوجب اتباعه. فتأمله. قاله أبو السعود. وفيه نظر بأن قوله: {تلقف ما صنعوا} صريح في عدم الالتباس؛ إذ لا ينبغي التباس مع ابتلاع عصاه لعصيهم، فتأمله. {إِنما صنعوا كَيْدُ ساحرٍ} أي: إن الذي صنعوه كيد ساحر وحِيلَهُ. وقرأ أهل الكوفة: {سِحْر}؛ بكسر السين، فالإضافة للبيان، كما في علم فقه، أو: كيد ذي سحر، أو يسمى الساحر سحرًا؛ مبالغة. والجملة تعليل لقوله: {تلقف} أي: تبتلعه؛ لأنه كيد ساحر، {ولا يُفلح الساحرُ حيث أتى} أي: حيث وُجد، وأين أقبل، وهو من تمام التعليل. والله تعالى أعلم.
الإشارة: يقال للفقير، المتوجه إلى الله تعالى، من قبل الحق: إمَّا أن تُلقي الدنيا من يدك، وإمَّا أن نكون أول من ألقاها عنك، أي: إما أن تتركها اختيارًا، أو تزول عنك اضطرارًا؛ لأن عادته تعالى، مع المتوجه الصادق، أن يدفع عنه كل ما يشغله من أمور الدنيا فيقول- إن كان صادق القلب-: بل ألقها، ولا حاجة لي بها، فألقاها الحق تعالى، وأخرجها من يده، عناية به، فإذا أشغالها وعلائقها كانت تسعى في هلاكه وخراب قلبه وتضييع عمره، فأوجس في نفسه خيفة من العيلة ولحوق الفاقة، قلنا: لا تخف، حيث توجهت إلى مولاك، فإن الله يرزق بغير حساب وبلا أسباب، وأَلقِ ما في يمين قلبك من اليقين، تلقف ما صنعوا، أي: ما صنعت بِكَ خواطر السوء والشيطان، لأنه يَعدِ بالفقر ويأمر بالفحشاء، وإنما صنعوا ذلك؛ تخويفًا وتمويهًا، لا حقيقة له، كما يفعل الساحر، {ولا يفلح الساحر حيث أتى}.

.تفسير الآيات (70- 71):

{فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70) قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71)}
قلت: {في جذوع النخل}، قال المحلي: أي: عليها، وهو مذهب كوفي، وأما مذهب البصريين فيقولون: ليست {في} بمعنى على، ولكن شبه المصلوب، لتمكنه في الجذع، بالحالّ في الشيء، وهو من الاستعارة التعبيرية، و{من خلاف}: في موضع الحال، أي: مختلفات.
يقول الحقّ جلّ جلاله: فلما ألقى موسى عصاه انقلبت حية عظيمة، فابتلعت تلك الحبال والعصي، {فألقي السحرةُ سُجّدًا} لما تيقنوا أن ذلك ليس من باب السحر، وإنما هي آية من آيات الله. رُوي أن رئيسهم قال: كنا نغلب أعين الناس، وكانت الآلات تُبقى علينا، فلو كان هذا سحرًا، فأين ما ألقينا من الآلات؟ فاستدلوا بما رأوا على صحة رسالة موسى. فألقاهم ما شاهدوه على وجوههم، فتابوا وآمنوا، وأتوا بما هو غاية الخضوع، قيل: لم يرفعوا رؤوسهم حتى رأوا الجنة والنار، والثواب والعقاب. وعن عكرمة: لما خروا سُجدًا، أراهم الله تعالى، في سجودهم، منازلهم في الجنة. ولا ينافيه قولهم: {إِنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا}، لأن كون تلك المنازل منازلهم هو السبب في صدور هذا القول منهم.
{قالوا آمنا بربّ هارون وموسى}، قدّموا هارون؛ إما لكبر سنه، أو للمبالغة في الاحتراز عن التوهم الباطل من جهة فرعون، حيث كان ربَّى موسى عليه السلام في صغره، فلو قدّموا موسى لربما توهم اللعين وقومه، من أول الأمر، أن مرادهم فرعون، فأزاحوا تلك الخطرة من أول مرة. {قال آمنتم له} أي: لموسى، واللام؛ لتضمن الفعل معنى الانقياد والخضوع، أي: أذعنتم له {قبل أن آذن لكم} أي: من غير أن آذن لكم، {إِنه} أي: موسى {لكبيرُكُم} أي: أستاذكم وأعلمُكم في فنكم، {الذي عَلّمكُمُ السحرَ}، فتواطأتم على ما فعلتم، وهذه منه شبهة واهية؛ أين كان موسى عليه السلام، وأين كان السحرة، حتى علمهم؟ ولكن صدر منه هذا؛ خوفًا على الناس أن يتبعوا موسى عليه السلام، ويقتدوا بالسحرة، فأوهم عليهم، مع ما سبق في علم الله من ضلالتهم.
ثم اقبل على السحرة بالوعيد، فقال: {فلأقَطِّعَنّ أيديَكم} أي: فوالله لأقطعن أيديَكم {وأرجُلَكم من خلافٍ} أي: اليد اليمنى والرجل اليسرى. وتعيين تلك الحال؛ للإيذان بتحقيق هذا الأمر وإيقاعه لا محالة، فتعيين تلك الحالة المعهودة من باب السياسة، أو لأنها معهودة لمن خرج عن حكم طاعته. {ولأصلبَنَّكم في جذوع النخل} أي: عليها، وإتيان كلمة في؛ للدلالة على إبقائهم عليها زمنًا مديدًا، تشبيهًا في استمرارهم عليها باستقرار الظرف في المظروف المشتمل عليه، وقيل: هو أول من صلب. {ولتعلمنّ أيُّنا}، يريد نفسه أو موسى عليه السلام، حيث خافوا من عصاه فأسلموا، فَهِم اللعين أن إيمانهم لم يكن للمعجزة، إنما كان خوفًا، حيث رأوا عصاه ابتلعت حبالهم وعصيهم، أو يريد {أينا} أي: أنا أو رب موسى وهارون، الذي آمنتم به، {أشدُّ عذابًا وأبقى} أي: أدوم.
قالوا: لم يثبت في القرآن أن فرعون فعل بأولئك المؤمنين ما أوعدهم به، ولم يثبت في الأخبار، لكن رُوي عن ابن عباس، وغيره، أنه أنفذه. ورُوي أن امرأة فرعون كانت تسأل: من غلب؟ فيقال لها: موسى، فقالت: آمنت برب موسى وهارون، فأرسل إليها فرعون يُهددها، وقال: انظروا أعظم صخرة، فإن استقرت على قولها فألقوها عليها، فلما ألقوها رفعت بصرها إلى السماء فأريت بيتها في الجنة، فمضت على قولها، وانتزعت روحها منها، وألقيت الصخرة على جسد لا روح فيه. قاله الثعلبي. والله تعالى أعلم.
الإشارة: من سبقت له العناية، لا تضره الجِنَايَة. هؤلاء السحرة جاؤوا يحادون الله ورسوله، فأضحوا أولياء الله. رُوي أن موسى عليه السلام لما قال لهم: {ألقوا ما أنتم ملقون}، سمع هاتفًا يقول: ألقوا يا أولياء الله، فتحير موسى عليه السلام، وأوجس في نفسه خيفة، وقال: كيف أعارض أولياء الله، فلما ألقى عصاه ظهرت ولايتهم. فكم من لصوص خرج منهم الخصوص. ففي أمثال هؤلاء تقوية لرجاء أهل الجناية، إذا طلبوا من الله سِرَّ العناية، وإدراك مقام الولاية، ولذلك ابتدأ القشيري في رسالته بذكر من تقدم له جنايات من الأولياء، كالفضيل، وابن أدهم، وأضرابهم- رضي الله عن جميعهم-.