فصل: تفسير الآية رقم (186):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (186):

{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: في جواب رجل سأل: هل قريب ربنا فنناجيَه، أو بعيد فنناديه؟ فنزل: {وإذا سألك عبادي عني}. فقل لهم: {إني قريب} إليهم من أرواحهم لأشباحهم، ومن وَسْواس قلوبهم لقلوبهم، عِلْماً وقدرة وإحاطة، أجيب دعوة الداعي إذا دَعَانِ، سرّاً أو جهراً، ليلاً أو نهاراً، على ما يليق بحاله في الوقت الذي نريد، لا في الوقت الذي يريد، {فليستجيبوا لي} إذا دعوتُهم للإيمان والطاعة، أَسْلُك بهم طريق المعرفة، {وليؤمنوا بي} إني قريب منهم فَيَسْتَحْيُوا مني، حياءَ مَنْ يرى أني معه حيث كان، {لعلهم يرشدون} إلى سلوك طريقتي ودوام محبتي.
قال البيضاوي: اعلم أنه، تعالى، لما أمرهم بصوم الشهر، ومراعاة العدة على القيام بوظائف التكبير والشكر، عقَّبه بهذه الآية الدالّة على أنه خبير بأحوالهم، سميع لأقوالهم مجيب لدعائهم، مجازيهم على أعمالهم، تأكيداً وحثّاً عليه. اهـ.
الإشارة: قُرْب الحقّ تعالى من عباده هو قرب المعاني من المحسوسات، أو قرب الصفات من الذات، أو الذات من الصفات، فإذا تحقق المحو والاضمحلال، وزال البَيْن، وثبت الوصال، لم يبقَ قرب ولا بعد ولا بَينٌ ولا انفصال. قال الشيخ القطبُ العارف الكبير سيدي عبد السلام بن مَشِيش رضي الله عنه لأبي الحسن رضي الله عنه: حدِّدْ بصرَ الإيمان تَجد الله في كل شيء وعند كل شيء، ومع كل شيء، وقبل كل شيء، وبعد كل شيء، وقريباً من كل شيء، ومحيطاً بكل شيء، بقرب هو وصَفْهُ، وبحيطةً هي نعتُه، وَعَدّ عن الظرفية والحدود، وعن الأماكن والجهات، وعن الصحبة، والقرب في المسافات، وعن الدَّوْر بالمخلوقات، وامْحَق الكلَّ بوصفه الأول والآخر والظاهر والباطن، «كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما كان عليه كان».
وقال بعض العارفين: الحق تعالى منزَّه عن الأيْنِ والجِهة والكَيْف والمادة والصورة. ومع ذلك لا يخلو منه أيْنٌ ولا مكان، ولا كم ولا كيف، ولا جسم، ولا جوهر ولا عرض، لأنه لِلُطْفه سَارٍ في كل شيء، ولنُوريته ظاهر في كل شيء، ولإطلاقه وإحاطته متكيّف بكل كيف، غيرُ متقيِّد بذلك، فمَنْ لم يعرف هذا ولم يُذقْه ولم يشهدْه فهو أعمى البصيرة، محرومٌ من مشاهدة الحق تعالى. اهـ.
وهذه الإشارات لا يفهمها إلا أهل الذَّوْق من أهل المعاني، فاصحب الرجال أهلَ المعاني تِذُقْ أسرارهم، وتفهم إشاراتهم. وإلا فحسبُك أن تعتقد كمال التنزيه، وبطلان التشبيه، وتَمَسَّكْ بقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شيء وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشّورى: 11]، وسلَّمْ للرجال في كل حال.
إِنْ لم تَر الهلاَلَ فسلِّمْ ** لأُناسٍ رأوْه بالأبْصَار

وإذا تحققت أن الحقّ قريب منك كفاك لسانُ الحال عن طلب المقال، وبالله التوفيق.

.تفسير الآية رقم (187):

{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)}
قلت: الرفَث: مُحَرِّك الجِماع، والفُحْش كالرفوث، وكلام النساء في الجماع، قاله في القاموس، وقال الأزهري اللغوي: الرفَث: كلمة جامعة لكل ما يريد الرجل من امرأته، وضمَّنه هنا الإفضاء، فعدَّاه بإلى.
يقول الحقّ جلّ جلاله: في نسخ ما كان في أول الإسلام من تحريم الجِماع في رمضان بعد العشاء أو النوم، ثم إن عمر رضي الله عنه باشر امرأته بعد العشاء، فندم وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتذر إليه، فقام رجال فاعترفوا بما صنعوا بعد العشاء فنزل قوله: {أحل لكم ليلةَ الصيام} قبل الفجر، الإفضاءُ {إلى نسائكم} بالجماع. وعبَّر بالرفث تقبيحاً لما ارتكبوه.
ثم علَّل التحليل بقوله: {هن لباس لكم وأنتم لباس لهن}، أي: وإنما أبحتُ لكم الجماع لقلّة صبركم عليهن، حتى تعانقوهن ويعانقنكم، فيشتمل بعضُكم على بعض، كاشتمال اللباس على صاحبه، كما قال الشاعر:
إذَا مَا الضَّجِيعَ ثَنَى عِطْفَهَا ** تَثَنَّتْ فكَانَتْ عَلَيْهِ لِبَاسَا

وهذه الحالة يقلُّ فيها الصبرُ عن الوقَاع، {علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم} أي تَخُونُونها فَتُعرِّضُونها للعقاب، وتَحْرمُونها من الثواب، {فتاب عليكم} لَمّا تُبْتُم واعترفتم بما اقْتَرَفْتُم، وعفا عنكم فمحا ذنوبكم، {فالآن باشروهن}. والمباشرة: إلصاق البَشْرة بالبشرة، كنايةً عن الجماع، {وابتغوا ما كتب الله لكم} من النسل، فلا تباشروهن لمجرد قضاء الشهوة، بل اطلبوا ما قدَّر الله لكم، وأثْبتَه في اللوح المحفوظ من الولد، لأنه هو المقصود من تشريع النكاح، وخلق الشهوة، لا مجرد قضاء الوطر. وفي الحديث: «إذَا مَاتَ البعدُ انْقَطَع عَمَلُه إلا مِنْ ثلاثٍ: صَدَقَةٍ جَاريَةٍ، وعِلْمٍ بثَّه في صُدور الرجال، وولدٍ صالحٍ يَدْعُوا لَهُ».
وفي حديث طويل عن عائشة- رضي الله عنهما- في قصة الحَوْلاء- امرأة من الأنصار-، قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من امرأة حمَلَت من زوجها حين تَحْمِل، إلا لها من الأجْر مثل القائم ليلَة الصائم نهارَه، والغازي في سبيل الله، وما من امرأة يأتيها الطَلْقُ، إلا كان لها بكل طَلْقةٍ عِتْق نسمةٍ، وبكل رَضْعة عتق رقبة، فإذا فَطَمت ولَدها ناداها مُنادِ من السماء: قد كُفيتِ العملَ فيما مضى، فاستأنفي العمل فيما بقي» قالت عائشة- رضي الله عنها-: قد أُعْطِي النساءُ خيراً كثيراً، فما لكم يا معشر الرجال؟ فضحك النبيّ صلى الله عليه وسلم ثم قال: «ما من رجل مؤمن أخذ بيد امرأتِه يُرَاوِدُها، إلا كتب الله له حسنة، وإنْ عانقها فعشْر حسنات، وإن ضاجعها فعشرون حسنةٌ، وإن أتاها كان خيراً من الدنيا وما فيها، فإذا قام ليغتسل لم يمر الماء على شعره من جسده إلا مُحِيَ عنه سيئة، ويُعطى له درجة، وما يعطى بغُسْله خيراٌ من الدنيا وما فيها، وإن الله تعالى يباهي الملائكة فيقول: انظروا إلى عبدي؛ قام في ليلة قَرَّة يغتسل من الجنابة، يتيقن بأني ربه، اشهدوا أني غفرت له». اهـ. من الثعلبي.
ثم أباح الحق تعالى الأكلَ والشرب، ليلة الصيام إلى الفجر، فقال: {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود} شبَّه أول ما يبدوا من الفجر المعترِض في الأفق، بالخيط الأبيض، وما يمتد معه من غَبَشِ الليل، بالخيط الأسود.
ولم ينزل قوله تعالى: {من الفجر} إلا بعد مدة، فحمله بعض الصحابة على ظاهره، فعمد إلى خيطٍ أبيض وخيط أسود فجعلهما تحت وِسادته، فجعل يأكل وينظر إليهما، فلم يتبيَّنا، ومنهم عَديُّ بنُ حاتم، قال: فغدوتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فضحِك، وقال: «إِنك لَعَرِيضُ القَفا، إِنَّمَا ذلِكَ بَيَاضُ النَّهَارِ وسَوَادُ اللَّيْلِ»، والحديث ثابت في البخاري وغيرِه. واعترضه الزمخشري بأن فيه تأخيرَ البيان عن وقت الحاجة، وذلك لا يجوز، لما فيه من التكليف بما لا يطاق.
وأُجيب بأنه ليس فيه تأخير البيان عن وقت الحاجة، وإنما فيه تأخير البيان لوقت الحاجة، وهو جائز. وبيان ذلك أنه لمّا نزل قوله تعالى: {حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود} فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون مُرادَ الله منهما، واستمر عملهم على ذلك، فكانت الآية مُبينة في حقهم لا مُجْمَلة. وأما عَدِيّ بن حاتم فكان بَدَوِيّاً مُشتغلاً بالصيد، ولم يكن فيه حُنْكَة أهل الحاضرة، فحمل الآية على ظاهرها؛ ولذلك قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنك لَعِرَيضُ القَفا» فنزلت الآية تُبين لعدي مُرادَ الله عند الحاجة إلى البيان. مع أن السيوطي ذكر في التوشيح خلاف هذا؛ ونصه:
قال بعضهم: كأنَّ عديّاً لم يسمع هذه اللفظة من الآية؛ لأنها نزلت قبل إسلامه بمدة، وذلك أن إسلامه كان في السنة التاسعة أو العاشرة، بعد نزول الآية بمدة، قال: علَّمنِي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الصلاة والصيام، فقال: «صلّ كذا، وصم كذا، فإن غابت الشمس فَكُلْ حتى يتبين لك الخيط الأبيض من الخيط الأسود، فأخذ الخيطين...» الحديث. قال له- عليه الصلاة والسلام: «ألم أقل لك من الفجر؟» فتبين أن قوله في الحديث: «فأنزل الله مِنْ الفجر» من تصرُّف الرواة. اهـ. مختصراً، فهذا صريح في أن الآية نزلت بتمامها مبينة فلم يكن فيها تأخير، والله تعالى أعلم.
ثم بيَّن تعالى غاية الصوم، فقال: {ثم أتموا الصيام إلى الليل} فمن أفطر مع الشك في الغروب، فعليه الكفارة، بخلاف الشك في الفجر للاستصحاب. ولما كان الاعتكاف من لوازم الصوم ذكر بعض أحكامه بإثره فقال: {ولا تباشروهن} أي: النساء {وأنتم عاكفون في المساجد}، فالمباشرة للمعتكف حرام، وتُفسد الاعتكاف.
كانت المباشرة في المسجد أو خارجَه، وكان الرجل يكون معتكفاً فيخرج فيصيب زوجَه ثم يرجع، فنزلت الآية- {تلك حدود الله} قد حدها لكم، {فلا تقربوها} فضلاً عن أن تعتدوها، {كذلك} أي: مثل هذا البيان التام، {يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون} محارمه.
الإشارة: قد تقدم أن صوم الخواص، وخواص الخواص، هو الإمساك عن الفُضول، وعن كل ما يقطع عن الوصول. أو الإمساك عن شهود الأغيار، وعن كل ما يوجب الأكدار. فإن عزَمَت النفس على هذا الصوم وعقَدَت النيّة عليه، حلَّ لها أن تُباشر أَبْكارَ العلوم اللدنية الوهبية، والحقائق العرفانية، وتفضي إلى ثَيبات العلوم الرَّسْمية الكسبية. العلومُ اللدنية والوهبية شِعارُها، والعلومُ الرسمية دِثارها. العلوم اللدنية لباس باطنها، والعلوم الرسمية لباس ظاهرها.
قال أبو سليمان الداراني: إذا اعتادت النفوس على ترك الآثام جالت في الملكوت، ثم عادت إلى صاحبها بطرائف العلوم، من غير أن يُؤدّي إليها عالمٌ عِلْماً. اهـ.
قال الحقّ تعالى: {علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم} بدنس الهفوات، فمنعكم من مباشرة تلك العلوم الوهبيات، فلما عقدْتُم التوبة، وعزمتم على تركها، تاب عليكم وعفا عنكم، فالآن باشروها، وابتغوا ما كتب الله لكم، من الوصول إلى معرفته، والعكوف في حضرة قُدسه، وكلوا من ثمرات تلك العلوم، واشربوا من خمرة الحيّ القيّوم، حتى يَطْلُعَ عليكم فجرُ الكشف والبيان، وتُشرق على قلوبكم شمسُ نهار العرفان، فحينئذٍ تَضْمَحِلُّ تلك العلوم، وتمحي تلك المعالم والرسوم. ولم يبقَ إلا الاستغراق في مشاهدة الحيّ القيّوم، فلا تباشروها وأنتم عاكفون في تلك المساجد. فمشاهدةُ وجهِ الحبيب تُغنْي عن مطالعة المعالم والمشاهد. تلك حدود الله فلا تقربوها، أي: لا تقفوا مع تلك العلوم وحلاوة تلك الرسوم؛ فإنها تمنعكم من مشاهدة الحيّ القيّوم: كذلك يبن الله آياته الموضَّحة لطريق وصوله للناس، لعلهم يتقون مشاهد ما سواه. والله تعالى أعلم.
ولما أراد الحقّ أن يتكلم على الحج قدَّم الكلام على الأموال؛ لأنها سببٌ في وجوبه، والوصول إليه في الغالب.

.تفسير الآية رقم (188):

{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)}
قلت: أصل الإدلاء: إرسالُ الدَّلْو في الماء ليتوصل به إلى أخذ الماء من البئر، ثم أُطلق في كل ما يتوسل به إلى شيء، يقال: أدلَى بمالِه إلى الحكام، أي: دفعه رِشْوة، ليتوصل بذلك إلى أخذ أكثر منه، وهو المراد هنا، وفي القاموس: أدلى برَحمِه: توسَّل، وبحُجَّتِه: أحضرَها، وإليه بمالهِ: دفَعه. ومنه: {وتُدْلوا بها إلى الحكام}. اهـ. و{تدلوا} معطوف على {تأكلوا}، مَنْهِي عنهما معاً.
يقوله الحقّ جلّ جلاله: {ولا تأكلوا} يا معشر المسلمين {أموالكم} أي: أموال بعضكم بعضاً، {بالباطل} أي: بغير حقّ شرعي؛ إما بغير حق أصلاً كالغضْب والسرقة والخيانة والخَدْع والتطفيف والغش وغير ذلك. أو بحق باطل كما يؤخذ في السحر والكهانة والفأل والقِمار والجاه، وهَدِية المِدْيان، وهدية القرض، والضمان، والرشوة، والربا، وغير ذلك مما نهى الشارعُ عنه. ولا يدخل في ذلك التمائم والعزائم إذا كان بالقرآن أو السنّة وغلَب الشفاء، وكذلك لا يدخل أيضاً الغَبْن، إذا كان البائعُ عالماً بالمَبِيع.
أو {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} بأن تُنفقوها في المَلاهي والزنا والشرب واللواط، وغير ذلك من المحرمات، ولا {تدلوا} أي: تتوسلوا بها، أي: بدفعها {إلى الحكام} رشوة {لتأكلوا فريقاً من أموال الناس} بأن يحكم لكم بها القاضي، تأخذونها متلبسين {بالإثم} أي: بالمعصية {وأنتم تعلمون} أنها لغيركم؛ فإنَّ حُكْمَ الحاكِم لا يُحِلُّ حراماً.
وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّما أنا بَشرٌ مثلُكُم، ولعلَّ بعضَكُمْ أن يكون الْحَنَ بحُجَّتِهِ مِنْ بَعضٍ فأقضي لهُ، فمن قَضَيتُ له بشيء من مال أخِيهِ فإنَّما لهُ قِطعةٌ من النارِ».
الإشارة: الباطلُ كلُّ ما سوى الحقّ، فكل من كان يأخذ من يد الخلق ولا يشاهد فيهم الحقّ فإنما يأخذ أموال الناس بالباطل. قال في الحِكَم: (لا تَمُدَّن يديك إلى الأخذ من الخلائق إلا أن تَرى أن المعطيَ فيهم مولاك، فإذا كنت كذلك فخُذْ ما وافقك العلم). ويحتاج العامل بهذا إلى عَسةٍ كبيرةٍ، وشُهودٍ قَوِي، حتى يَفْنَى عَنْ نظرهِ مشاهدةُ الخلق في شهود الملك الحق. وكان بعضهم يطلب مَنْ هذا وصْفُه فيعطي للفقير العطاء، ويقول: خذ، لا لك، فلا يسمع من أحد شيئاً، حتى أعطَى لبعض الفقراء، وقال: خذ، لا لك، فقال: أقبضُ لا منك. اهـ. قلت: الوصول إلى الحكام على شأن الدنيا أو للانتصار للنفس حرام في طريق الخصوص، بل يصبر حتى يحكم الله بينه وبين خصمه، وهو خير الحاكمين، فإن اضطُرَّ إلى شيء ولم يجد بُدّاً منه فليُوكِّلْ، وبالله التوفيق.

.تفسير الآية رقم (189):

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)}
{يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هي مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ...}
قلت: الذي سأله معاذُ بن جبل وثعلبةُ بن غنمة، فقالا: يا رسول الله: ما بال الهلال يبدو رقيقاً كالخيط، ثم لا يزال يزيد حتى يستوي، ثم لا يزال ينقص حتى يرجع كالخيط؟ فقال الحقّ جلّ جلاله: {يسألونك عن الأهلة} أي: عن حكمة اختلاف الأهلة بالزياة والنقص {قل} لهم يا محمد: {هي مواقيت للناس} يُوقِّتُون بها دُيونهم، ويعرفون بها أوقات زَرْعهم، وعِدَدَ نسائهم وصيامهم، وهي أيضاً مواقيتُ للحج، يعرفون بذلك وقت دخوله وخروجه، فيعرفون الأداء من القضاء، فلو كانت على حالة واحدة لم يعرفوا ذلك. أجابهم الحق تعالى بغير ما ينتظرون؛ أشارة إلى أن السؤال عن سر الاختلاف، ليس فيه منفعة شرعية، وإنما ينبغي الاهتمام بما فيه منفعة دينية.
قال أهل الهيئة: إن نورة من نُور الشمس، وجِرْمه أَطْلَس، فكلما بعد من مُسَامته الشمس قابَله نورُها، فإذا قرب منها لميقابله من نورها إلا بعض جِرمه، فإذا دخل تحتها في الفلك كان ظَهره كله إليها، فلم يقابله شيء من نورها، فإذا خرج مِنح تحتِها قابله بقدر ذلك، والله تعالى أعلم.
الإشارة: إذا ظهر هلال السعادة في أفق الإرادة، وهبَّت ريح الهداية من ناحية سابق العناية، دخل وقت حج القلوب إلى حضرة علام الغيوب، فهلال الهداية للسائرين، وهم أرباب الأحوال أهل التلوين، يزداد نوره بزيادة اليقين، وينقص بنقصانه، على حسب ضعف حاله وقته، حتى يتحقق الوصال، ويُرزق صف الكمال. وأنشدوا:
كُلَّ يومٍ تَتَلَوَّنْ ** غيرُ هذا بِكَ أَجْمَلْ

فصاحب التلوين بين الزيادة والنقصان، إلى أن تطلع عليه شمس العرفان، فإذا طلعت شمس العرفان فليس بعدها زيادة ولا نقصان، وأنشدوا:
طَلَعَتْ شمسُ من أُحِبُّ بلَيْلٍ ** واستضاءتْ فما تَلاها غُروبُ

إنَّ شَمْسَ النَّهارِ تَغْربُ باللي ** ل وشَمْسَ القُلوب لَيْسَتْ تَغيبُ

بخلاف صاحب التمكين؛ فإنه أبدا في ضياء معرفته، متكنٌ في بُرج سعادته، لا يلحق شمسَه كسوف ولا حجابٌ، ولا يستر نورَها ظلمةٌ ولا سحاب، فلو طلب الحجاب لم يُجَبْ. قال بعض العارفين: (لو كُلتُ أنْ أَرى غيره لم أستطع، فإنه لا غير معه حتى أشهده).
ثم حذَّر الحق تعالى مما اتبدعه المشركون في الحج، فقال: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}
قلت: كانت الأنصار إذا حَجُّوا أو اعتمروا، يقولون: لا يَحُول بيننا وبين السماء سَقْفٌ، حتى يدخلوا بيوتهم، فإذا رجعوا تسوَّرُوا الجُدْران، أو نَقَبُوا في ظهور بيوتهم، فجاء رجالٌ منهم فدخل من الباب، فَعُيِّر بذلك، فأنزل الحقّ جلّ جلاله: {وليس البر} أي: الطاعة، {بأن تأتوا البيوت من ظهورها} فتتسوروها، أو تنقُبوا من أعلاها، {ولكن البر من اتقى} المحارم وخالف الشهوات.
أو: ليس البر بأن تعكسوا مسائلكم بأن تسألوا عما لا نفع لكم فيه، وتتركوا مسائل العلم التي تنفعكم في العاجل والآجل. {ولكن البر من اتقى} ذلك، {وأتوا} بيوت العلم من أبوابها، فتُحسنون السؤال وتتأدبون في المقال، وتقدمون الأهم فالأهم، والأنفع فالأنفع. {واتقوا الله} فلا تُغيروا أحكامه، ولا تعترضوا على أفعاله {لعلكم تفلحون} بتوفيقه وهدايته.
الإشارة: اعلم أن البيوت التي يدخلها المريد ثلاثة: بيت الشريعة وبيت الطريقة وبيت الحقيقة، ولكل واحد أبواب فمن أتى البيت من بابه دخل. ومن أتاه من غيره طُرد.
فبيت الشريعة له ثلاثة أبواب: الباب الأول: التوبة، فإذا دخل هذا الباب، وحقَّق التوبة بأركانها وشروطها، استقبله باب الاستقامة، وهي: متابعة الرسول في أقواله وأفعاله وأحواله، فإذا دخله، وحقق الاستقامة، استقبله باب التقوى بأقسامها. فإذا حقق التقوى ظاهراً وباطناً، دخل بيت الشريعة المطهرة، وتنزه في محاسنه ومعانيه، ثم يروم دخول بيت الطريقة، وله ثلاثة أبواب:
الباب الأول: الإخلاص وهو: إفراد العمل لله نم غير حرف ولا حظ، فإذا حقق الإخلاص استقبله باب التخلية وهي التظهير من العيوب الباطنة، وهي لا تنحصر، لكن من ظفر بالشيخ أطلعه عليها، وعلَّمه أودتيها، فإذا حقق التخلية استقبله باب التحلية، وهي: الاتصاف بأنواع الفضائل كالصبر والحلم والصدق والطمأنينة والسخاء والإيثار، وغير ذلك من أنواع الكمالات. فإذا حقق الإخلاص والتخلية والتحلية فقد حقق بيت الطريقة، ثم يستقبله بيت الحقيقة.
فأول ما يقرع باب المراقبة، وهي: حفظ القلب والسر من الخواطر الردية، فإذا تطهر القلب من الخواطر الساكنة، استشرف على باب المشاهدة، وهي: محو الرسول في مشاهدة أنوار الحيّ القيّوم، أو تلطيف الأواني عند ظهور المعاني، فإذا دخل باب المشاهدة، وسكن فيها، استقبله باب المعرفة، وهي محلّ الرسوخ والتمكين، وهي الغاية والمنتهى، فبيت الحقيقة وهو مسجد الحضرة الربانية. وما بقي بعدها إلا الترقي في المقامات، وزيادة المعارف والكشوفات أبداً سرمداً، منحنا الله من ذلك حظّاً وافراً بمنّه وكرمه.