فصل: تفسير الآيات (78- 82):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (78- 82):

{وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82)}
قلت: {وداود}: عطف على {نوحًا}، أو معمول لاذكر، و{إذ يحكمان}: ظرف للمضاف المقدر، أي: اذكر خبرهما، و{إذ نفشت}: ظرف للحكم. {ففهمناها}: عطف على {يحكمان}؛ فإنه في حكم الماضي.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {و} اذكر خبر {داودَ وسليمانَ إِذْ يحكمان} أي: وقت حكمهما {في الحرث} أي: في الزرع، أو في الكرم المتدلي عناقيده، والحرث يطلق عليهما، {إِذ نَفَشَتْ}: دخلت {فيه غنمُ القوم} فأفسدته ليلاً، فالنفش: الرعي بالليل، والهمَلُ بالنهار، وهما الرعي بلا راع. {وكنا لحُكمِهم} أي: لهما وللمتحاكمين إليهما، أو على أنَّ أقل الجمع اثنان، {شاهدين}، كان ذلك بعلمنا ومرأى منا، لم يغب عنا شيء منه، {ففهمناها} أي: الحكومة، أو الفتوى، {سليمانَ}، وفيه دليل على أن الصواب كان مع سليمان.
وقصتهما على ما قال ابن عباس وغيره: أن رجلين دخلا على داود عليه السلام أحدهما: صاحب حرث، والآخر صاحب غنم، فقال صاحب الزرع: إنَّ هذا نفشت غنمه ليلاً، فوقعت في حرثي، فلم تُبق منه شيئًا، فقال له داود: اذهب فإن الغنم لك، ولعله استوت قيمتاهما- أي: قيمة الغنم كانت على قدر النقصان في الحرث- فخرج الرجلان على سليمان، وهو بالباب، وكان ابن إحدى عشرة سنة، فأخبراه بما حكم به أبوه، فدخل عليه، فقال: يا نبي الله؛ لو حكمت بغير هذا لكان أرفق بالفريقين، قال: وما هو؟ قال: يأخذ صاحبُ الغنم الأرضَ ليُصلحها، حتى يعود زرعها كما كان، ويأخذ صاحب الزرع الغنمَ ينتفع بألبانها وصوفها ونسلها، فإذا كمل الزرع، رُدت الغنم إلى صاحبها، والأرض بزرعها إلى ربها، فقال داود: وُفقت يا بُني، وقضى بينهم بذلك.
والذي يظهر: أن حكمهما- عليهما السلام- كان باجتهاد، ففيه دليل على أن الأنبياء يجتهدون فيما لم ينزل فيه وحي، فإنَّ قول سليمان عليه السلام: هذا أرفق، وقوله: أرى أن تدفع... إلخ، صريح في أنه ليس بطريق الوحي، وإلا لبت القول بذلك، ولعله وجه حكم داود عليه السلام قياس ذلك على جناية العبد، فإنَّ العبد فيما جنى. وإذا قلنا: كان بوحي، يكون حكم سليمان ناسخًا لحكم داود عليه السلام.
وأما حُكْم إفساد المواشي للزرع في شرعنا: فقال مالك والشافعي: يضمن أربابُ المواشي ما أفسدت بالليل دون النهار؛ للحديث الوارد في ذلك، على تفصيل في مذهب مالك فيما أفسدت بالنهار. وقال أبو حنيفة: لا يضمن ما أفسدت بالليل ولا بالنهار؛ لقوله- عليه الصلاة والسلام-: «العَجْماءُ جُرْحُها جُبَار»، ما لم يكن معها سائق أو قائد، فيضمن عنده.
قال تعالى: {وكُلاًّ آتينا حُكمًا وعلمًا} أي: كل واحد منهما آتيناه حكمًا، أي: نبوة، وعلمًا: معرفة بمواجب الحكم، لا سليمان وحده.
وفيه دليل على أن خطأ المجتهد لا يقدح في علمه ولا يرفع عنه صفة الاجتهاد.
ثم بيَّن ما اختص به كل واحد منهما من المعجزات، فقال: {وسخَّرنا} أي: ذللنا {مع داود الجبالَ}، حال كونها {يُسَبِّحْنَ} أي: مسبحات؛ ينزهْنَ الله تعالى بلسان المقال، كما سبّح الحصا في كف نبينا عليه الصلاة والسلام. {و} سخرنا له {الطير}؛ كانت تسبح معه. وقدَّم الجبال على الطير؛ لأن تسخيرها وتسبيحها أغرب وأدخل في الإعجاز؛ لأنها جماد. قال الكواشي: كان داود إذا سبّح سبّح معه الجبالُ والطير، وكان يفهم تسبيح الحجر والشجر، وكان إذا فتَر من التسبيح، يُسمعه الله تعالى تسبيح الجبال والطير؛ لينشط في التسبيح ويشتاق إليه. ورُوي أنه كان إذا سار سارت الجبال معه مسبحة، قال قتادة: {يُسبحن}، أي: يصلين معه إذا صلى، وهذا غير ممتنع في قدرة الله تعالى. وفي الأثر: كان داود يمرُّ، وصِفَاح الروحاءُ تجاوبه، والطير تساعده. {وكنا فاعلين} بالأنبياء أمثال هذا وأكثر، فليس ذلك ببدع منا ولا صعب على قدرتنا.
{وعلّمناه صنعةَ لَبُوسٍ} أي: صنعة الدروع. واللبوس لغة في اللباس، والمراد: الدرع، {لكم} أي: نافع لكم، {ليُحْصِنَكُم} أي: اللبوس، أو داود. وقرئ بالتأنيث، أي: الصنعة، أو اللبوس بتأويل الدرع. وقرئ بنون العظمة، أي: الله تعالى، وهو بدل اشتمال من {لكم}. وقوله: {من بأسكم} أي: من حرب عدوكم، أو من وقع السلاح فيكم، {فهل أنتم شاكرون} الله على ذلك؟ وهو استفهام بمعنى الأمر؛ للمبالغة والتقريع.
ثم ذكر ما اختص به سليمان عليه السلام فقال: {ولسليمان الريحَ} أي: وسخرنا له الريح. وإيراد اللام هنا، دون الأولى؛ للدلالة على ما بين التسخيرين من التفاوت، فإن تسخير ما سخر لسليمان عليه السلام كان بطريق الانقياد الكلي والامتثال لأمره ونهيه، بخلاف تسخير الجبال، لم يكن بهذه المثابة، بل بطريق التبعية والاقتداء. حال كون الريح {عاصفةً} شديدة الهبوب، من حيث إنها كانت تقطع مسافة بعيدة في مدة يسيرة، وكانت رُخاء في نفسها، طيبة، وقيل: كانت رُخاء تارة، وعاصفة أخرى، على حسب ما أراد منها. أو رُخاء في ذهابه وعاصفة في رجوعه؛ لأن عادة المسافرين: الإسراع في الرجوع، أو عاصفة إذا رفعت البساط ورخاء إذا جرت به.
{تجري بأمره}؛ بمشيئة سليمان، {إِلى الأرض التي باركنا فيها} بكثرة الأنهار والأشجار والثمار، وهي الشام. وكان منزله بها، وتحمله إلى نواحيها. قال وهب: كان سليمان إذا خرج من منزله عكفت عليه الطير، وقام له الجن والإنس حتى يجلس على سريره، وكان غزّاءً؛ لا يقصر عن الغزو، فإذا أراد غزوًا أمر فضرب له بخشب، ثم يُنصب له على الخشب، ثم حَمَلَ عليه الناس والدواب وآلة الحرب، فإذا حمل معه ما يريد أمر العاصف فدخلت تحت الخشب فاحتملته، فإذا استقلت، أمر الرخاء فمرت به شهرًا في روحته وشهرًا في غدوته، إلى حيث أراد. اهـ.
{وكُنَّا بكل شيء عالمين} أي: أحاط علمنا بكل شيء، فنُجري الأشياء على ما سبق به علمنا، واقتضته حكمتنا.
{ومن الشياطين}، قيل: لمَّا ذكر تسخير الريح- وهي شفافة لا تعقل- ذكر ما هو شفاف يعقل، وهم الشياطين، مع سرعة الحركة في الكل، أي: وسخرنا له من الشياطين {مَن يغوصون} في البحار، ويستخرجون {له} من نفائسه، كالدر والياقوت، {ويعملون عملاً دون ذلك} أي: غير ما ذكر؛ من بناء المدن والقصور والمحاريب والتماثيل والقدور الراسيات، وقيل: الحمام، والنورة، والطاحون، والقوارير، والصابون، مما استخرجوه له، {وكنا لهم حافظين} أن يزيغوا عن أمره، أو يُبدلوا، أو يوجد منهم فساد فيما هم مسخرون فيه، على ما هو مقتضى جبلتهم. وقال الزجاج: كان يحفظهم من أن يُفسدوا ما عملوا، وكان دأبهم أن يُفسدوا بالليل ما عملوه بالنهار. وقيل: وكَّل بهم جمعًا من الملائكة، وجمعًا من مؤمني الجن. رُوي أن المُسَخَّر له عليه السلام: كفارهم، لا مؤمنهم؛ لقوله تعالى: {ومن الشياطين}. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قوله تعالى: {ففهمناها سليمان}، قال الورتجبي: بيَّن، سبحانه، أن الفضل متعلق بفضله، لا يتعلق بالصغر والكبر والشيخوخة والاكتساب والتعلم، إنما الفهم تعريف الله أحكام ربوبيته بنور هدايته، وإبراز لطائف علومه الغيبية، فحيث يظهر ذلك فهناك مواضع الفهوم من العلوم، فهو سبحانه منَّ على سليمان بعلمه، ولم يمنّ عليه بشيء خارج عن نفسه؛ من الملك، والحدثان أفضل من العلم؛ فإنَّ العلم صفة من صفاته تعالى، فلمَّا جعله متصفًا بصفاته منَّ عليه بجلال كبريائه. اهـ. وقال في قوله: {وكُلاًّ آتينا حُكمًا وعلمًا}: حُكمًا؛ معرفة بالربوبية، وعلمًا بالعبودية. اهـ.
وقوله تعالى: {وسخرنا مع داود الجبال...} إلخ. {ولسليمان الريح...} الآية، لمّا كانا- عليهما السلام- مع المُكَوِّنِ كانت الأكوان معهما، أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكون، فإذا شهدته كانت الأكوان معك، وذكر في القوت: أن سليمان عليه السلام لبس ذات يوم قميصًا رفيعًا جديدًا، ثم ركب البساط، وحملته الريح، فبينما هو يسير إذ نظر إلى عطفه نظرةً، فأنزلته الريح، فقال: لِم أنزلتني ولم آمرك؟! فقالت: نطيعك إذا أطعت الله، ونعصيك إذا عَصَيْتَه. فاستغفر وحملته. ه بالمعنى. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (83- 84):

{وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {و} اذكر خبر {أيوبَ} عليه السلام {إِذْ نادى ربَّه}: دعاه: {إني} أي: بأني {مسَّنيَ الضرُّ} وهو بالضم: ما يصيب النفس من مرض وهزال، وبالفتح: الضرر في كل شيء، {وأنت أرحمُ الراحمين}، تلطف في السؤال؛ حيث ذكر نفسَه بما يوجب الرحمة، وذكر ربه بغاية الرحمة، ولم يصرح بالمطلوب؛ من كمال أدبه، فكأنه قال: أنت أهل أن تَرحم، وأيوب أهل أن يُرحَم، فارحمه، واكشف عنه ضره الذي مسه. عن أنس: أنه أخبر عن ضعفه حين لم يقدر على النهوض إلى الصلاة، ولم يشتك، وكيف يشكو، والله تعالى يقول: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِّعْمَ العبد} [ص: 44].
وقيل: إنما اشتكى إليه؛ تلذذًا بالنجوى، لا تضررًا بالشكوى، والشكاية إليه غاية في القُرب، كما أن الشكاية منه غاية في البُعد، وسيأتي في الإشارة تكميله، إن شاء الله. رُوي أن أيوب عليه السلام، كان من الروم، وهو أيوب بن أمُوص ابن تارَح بن رعويل بن عيص بن إسحاق. وكانت أمه من ولد لوط عليه السلام اصطفاه الله للنبوة والرسالة، وبسط عليه الدنيا؛ فكان له ثلاثة آلاف بعير، وسبعة آلاف شاة، وخمسمائة فدان، يتبعها خمسمائة عبد، لكل عبد امرأة وولد، وكان له سبعة بنين، وسبع بنات. قاله النسفي.
زاد الثعلبي: وكانت له المشيئةُ من أرض الشام كلها، وكان له فيها من صنوف المال ما لم يكن لأحد؛ من الخيل والبقر والغنم والحُمُر وغيره، وكان برًا تقيًا رحيمًا بالمساكين، يكفل الأرامل والأيتام، ويُكرم الضيف، ويُبلغ ابن السبيل، شاكرًا لأنعم الله، لا يصيب منه إبليس ما يصيب من أهل الغنى من الغفلة والغِرَّة، وكان معه ثلاثةً قد آمنوا به: رجل من اليمن واثنان من بلده، كُهُولا. قال وهب: فسمع إبليس تَجَاوُبَ الملائكة بالصلاة عليه في السماء فحسده، فقال: إلهي، عبدك أيوب أنعمتَ عليه فشكرك، وعافيته فحمدك، ولم تجرّبه بشدّة ولا بلاء، فلو جربته بالبلاء ليكفرنّ بك وبنعمتك، فقال له تعالى: انطلق، فقد سلطتك على ماله، فجمع عفاريته وأخبرهم، فقال عفريت من الجن: أُعطيتُ من القوة ما إذا تحوّلت إعصارًا من نار أحرقتُ كل شيء آتي عليه، فقال له إبليس: دونك الإبل ورعاتها، فجاءها حتى وثبت في مراعيها، فأثار من تحت الأرض إعصارًا من نار فأحرقها وأحرق رعاءها. فلما فرغ منها تمثل إبليس براعيها، وجلس على قَعُودٍ منها، فأتاه، وقال: يا أيوب، إن ربك الذي عبدته قد أحرق إبلك ورُعَاءَها، فقال أيوب: هو ماله، أعارنيه، يفعل فيه ما يشاء، فرجع إبليس خاسئًا، حين حمد أيوبُ ربه، فقال عفريت آخر: عندي من القوة ما إذا صِحتُ لم يسمع صوتي ذو رُوح إلا خرجت روحه، قال له إبليس: ائت الغنم ورعاءَها، فأتى، فصاح، فصارت أمواتًا ورعاتها، ثم خرج إبليس متمثلاً بقهرَمَان الرعاة، فقال له كمقالته في الإبل، فأجابه أيوب بمثل ما أجابه فيها، فرجع خاسئًا، فقال عفريت آخر: عندي من القوة ما إذا تحولتُ ريحًا عاصفًا نسفتُ كل شيء أتيت عليه، قال إبليس: فأتِ الفدادين والحرث، فجاءها، فَهبَّتْ ريح عاصفة فنسفت كل شيء، حتى كأنه لم يكن ثَمَّ شيء، فخرج إبليس متمثلاً بقهْرَمَان الحرث، فقال له مثل قوله الأول، وردَّ عليه مثل رده، حتى أتى على جميع ماله، وأيوب يحمد الله تعالى.
فقال إبليس: إلهي؛ إن أيوب يقول: إنك ما متعْتَهُ إلا بنفسه وولده، فهل تسلطني على ولده، فإنها الفتنة؟ قال الله تعالى: قد سلطتك على ولده، فجاء إبليس فقلب عليهم القصر منكسين، وانطلق إلى أيوب متمثلاً بالمُعلم الذي يُعلمهم الحكمة، وهو جريح، فقال: يا أيوب؛ لو رأيت بنيك كيف عُذبوا؟ ونُكِّسوا على رؤوسهم، وسال دماغهم من أنوفهم، فلم يزل من قوله حتى رقَّ أيوبُ وبكى، وقبض قبضة من التراب فوضعها على رأسه، فصعد إبليس مسرورًا، ثم ذهب أيوب، فلما أبصر ذلك استغفر، وصعد قرناؤه من الملائكة، بتوبته فبادروا إلى الله تعالى، وهو أعلم، فوقف إبليس خاسئًا، فقال: إلهي؛ إنما هوّن أيوب خطر المال والولد، فهل أنت مسلطي على جسده، فإني لك زعيم إن سَلَّطَّني على جسده ليكفرنّ بك، قال الله تعالى: قد سلطتك على جسده، ولكن ليس لك سلطان على لسانه وقلبه وعقله، فجاءه إبليس فوجده ساجدًا، فجاء من قِبل الأرض، فنفخ في منخره نفخة اشتعل منها جسده، فَوهِلَ، وخرج من قرنه إلى قدمه تآليل مثل آليَاتِ الغنم، ووقعت به حكة لا يملكها، فحك بأظفاره، ثم بالمسُوح الخشنة، ثم بالحجارة، حتى نغل لحمه، وتغير، ونش، وتدود، فأخرجه أهل القرية، وجعلوه على كناسة، وجعلوا له عريشًا، ورفضه الخلق كلهم، إلا {رحمةً}؛ امرأته بنت إفراثيم بن يوسف عليه السلام، فقامت عليه بما يصلحه.
روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ أيُّوبَ نبي الله لَبث به بَلاؤُه ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَة، فَرَفَضه الْقَرِيبُ والبَعِيدُ» الحديث، وقال كعب: سبع سنين، وقيل: ثلاث عشرة سنة، وما قاله- عليه الصلاة والسلام- إن ثبت، هو الصحيح. وقال الحسن: مكث أيوب مطرودًا على كناسة، في مزبلة بني إسرائيل سبع سنين وشهرًا، يختلف فيه الدود. ويمكن الجمع بين الأقوال بأن الشدة كانت سبعًا والباقي مقدمات لها.
رُوِيَ أن امرأته قالت له يومًا: لو دعوتَ الله عزّ وجلّ؟ فقال لها: كم كانت مدة الرخاء؟ قالت: ثمانين سنة. فقال: إني أستحيي من الله أن أدعوه وما بلغت مدة بلائي مدة رخائي. اهـ. ورُوي أن الدود أكل جميع جسده حتى بقي عظامًا نخرة، وهو مع ذلك لا يفتر عن ذكر الله وحمده وشكره، فصرخ إبليس صرخة، وقال: أعياني هذا العبد الذي سألتُ ربي أن يسلطني عليه، قالت له العفاريت: أرأيت آدم حين أخرجته من الجنة، ما أتيته إلا من قِبَلِ امرأته، فتمثل بها بصورة رجل طيب، وفي رواية الحسن: في هيئة ليست كهيئة بني آدم، في أحسن صورة، فقال لها: أين بعلك يا أمة الله؟ فقالت: هو ذاك، يحك قروحه، ويتردد الدود في جسده، فقال لها: أنا إله الأرض الذي صنعتُ بصاحبك ما صنعت؛ لأنه عبد إله السماء وتركني، فلو سجد لي سجدة واحدة لرددت لكما ما كان لكما.
وقال وهب: قال لها: لو أكل طعامًا ولم يسمّ عليه لعُوفيَ من البلاء، فأخبرت أيوب، فقال: أتاك عدوُ الله ليفتنك عن دينك، ثم أقسم، إن عافه الله، ليضربنها مائة ضربة. ثم حلف لا يأكل لها طعامًا، فبقي مهملاً لا يأتي إليه أحد، وقال عند ذلك: {مسّني الضر} من طمع إبليس في سجودي له، {وأنت أرحم الراحمين}، فقيل له: {اركض برجلك} فركض، فنبعت عين ماء، فاغتسل منها، فلم يبق من دائه شيء، وسقطت الدود من جسده، وعاد شبابه وجماله. ثم ضرب برجله فنبعت عين أخرى، فشرب منها، فلم يبق في جوفه داء إلا خرج، وكانت امرأته رحمة حين حلف، تركته مدة، ثم ندمت وعادت، فوجدته في أحسن هيئة، فلم تعرفه، فقالت له: أين الرجل المبتلى الذي كان هنا؟ قال: أنا هو، شفاني الله، ثم عرفته بضحكه، فتعانقا، ثم أمره الله تعالى أن يأخذ جماعة من القضبان فيضربها ضربة واحدة ليبرّ في يمينه. اهـ.
قلت: تسليط الشيطان على بشرية الأنبياء الظاهرة: جائز وواقع. وأما الأمراض المنفرة، فإن كانت بعد التبليغ وتقرير الشرائع، فجائز عند بعضهم، وهو الصواب، جمعًا بين ما ثبت في الأخبار عن السلف وبين الدلائل العقلية في تنزيه الأنبياء- عليهم السلام-، لأن العلة هي تنفير الخلق عنهم، وبَعْد التبليغ فلا يضر، وقد ورد أن شُعيبًا عليه السلام عَمى في آخر عمره، وكذلك يعقوب، وكان بعد تبليغ الرسالة، فلم يضر.
ثم قال تعالى في حق أيوب عليه السلام: {فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضُرّ}؛ إنعامًا عليه، فلمّا قام من مرضه جعل يلتفت فلا يرى شيئًا مما كان له من الأهل، والمال، ثم أحيا الله أولاده بأعيانهم، ورزقه مثلهم، ورد عليه ماله، بأن أخلف له مثله، وذلك قوله تعالى: {وآتيناه أهلَه ومثلهم معهم} وقيل: كان ذلك بأن ولد له ضعف ما كان له. وقال عكرمة: آتيناه أهله في الآخرة، ومثلهم معهم في الدنيا، والأول هو ظاهر الآية، ردهم الله تعالى بأعيانهم؛ إظهارًا لكمال قدرته تعالى.
ثم قال: {رحمةً من عندنا}: مفعول من أجله، أي: آتينا ما ذكر لرحمتنا أيوب، {وذكرى للعابدين} أي: وتذكرة لغيره من العابدين؛ ليصبروا كما صبر، ويُثابوا كما أُثيب، أو لرحمتنا العابدين، الذين من جملتهم أيوب، وذكرنا إياهم بالإحسان، وعدم نسياننا لهم.
والله تعالى أعلم.
الإشارة: ما ينزل بالمؤمن من الأوجاع والأسقام والشدائد والنوائب، في النفس أو في الأهل، كله رحمة، عظيمة، ومنَّة جسيمة، ويقاس عليه: مفارقة الأحباب والأوطان ومشاق الأسفار والمتاعب البدنية، ويُسمى عند الصوفية: التعرفات الجلالية؛ لأن الله تعالى يتعرف إليهم بها؛ ليعرفوه عيانًا، ولذلك تجدهم يفرحون بها، وينبسطون عند ورودها؛ لما يتنسمون فيها، ويجدون بعدها، من مزيد الاقتراب وكشف الحجاب، وطي مسافة البُعد بينهم وبين رب الأرباب، فهم يؤثرونها على الأعمال الظاهرة؛ لِمَا يتحققون بها من وجود الأعمال الباطنية؛ كالصبر والزهد والرضا والتسليم، وما ينشأ عنها، عند ترقيق البشرية، من تشحيذ الفكرة والنظرة، وغير ذلك من أعمال القلوب.
وفي الحكم: (إذا فتح لك وجهة من التعرف، فلا تُبالي معها إن قلَّ عملك؛ فإنه ما فتحها لك إلاَّ وهو يريد أن يتعرف إليك منها، ألم تعلم أن التعرف هو مورده عليك، والأعمال أنت مهديها إليه، وأين ما تهديه إليه مما هو مورده عليك؟). قال الشيخ ابن عباد رضي الله عنه: معرفة الله تعالى هي غاية المطالب، ونهاية الأماني والمآرب، فإذا واجه اللهُ عبده ببعض أسبابها، وفتح له باب التعرّف له منها، فذلك من النعم الجزيلة عليه، فينبغي ألا يكترث بما يفوته بسبب ذلك من أعمال البر، وما يترتب عليها من جزيل الأجر، وليعلم أنه سلك به مسلك الخاصة المقرّبين، المؤدي إلى حقائق التوحيد واليقين، من غير اكتساب من العبد ولا تَعَمُّلٍ، والأعمالُ التي من شأنها أن يتلبس بها هي باكتسابه وتعمله، وقد لا يسلم من دخول الآفات عليها، والمطالبة بوجود الإخلاص فيها، وقد لا يحصل له ما أمّله من الثواب عند مناقشة الحساب، وأين أحدهما من الآخرة.
ومثاله: ما يُصاب به الإنسان من البلايا والشدائد التي تُنَغِّصُ عليه لذات الدنيا، وتمنعه من كثير من أعمال البر، فإنَّ مرادَ العبد أن يستمر بقاؤه في الدنيا، طيَّبَ العيش ناعمَ البال، ويكون حاله في طلب سعادة الاخرة حال المترفين؛ فلا تسخو نفسه إلا بالأعمال الظاهرة، التي لا كثير مُؤْنَةٍ عليه فيها ولا مشقة، ولا تقطع عنه لذة، ولا يفوته شهوة، ومراد الله منه أن يُطهره من أخلاقه اللئيمة، ويحول بينه وبين صفاته الذميمة، ويُخرجه من أَسْرِ وجوده إلى متسع شهوده، ولا سبيل إلى الوصول إلى هذا المقام على غاية الكمال والتمام، إلا بما يُضادُ مراده، ويشوّش عليه معتادَه، وتكون حاله حينئذ المعاملة بالباطن، ولا مناسبة بينها وبين الأعمال الظاهرة، فإذا فَهِمَ هذا عَلِمَ أن اختيار الله له، ومرادَه منه، خيرٌ من اختياره لنفسه ومراده لها.
وقد رُوِيَ أن الله تعالى أوحى إلى بعض أنبيائه: «إني إذا أنزلت بعبدي بلائي، فدعاني، فماطلتُه بالإجابة، فشكاني، قلت: عبدي كيف أرحمك من شيء به أرحمك»؟ وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله تعالى: إذا ابتليت عبدي المؤمن فلم يشكني إلى عُوّاده، أنشطته من عقالي، وبدَّلته لحمًا خيرًا من لحمه، ودمًا خيرًا من دمه، ويستأنف العمل»
ثم نقل عن أبي العباس ابن العريف رضي الله عنه قال: كان رجل بالمغرب يُدعى أبا الخيَّار، وقد عمّ جسده الجذامُ، ورائحة المسك تُوجد منه على مسافة بعيدة، لقيه بعضُ الناس، فقال له: يا سيدي كأن الله تعالى لم يجد للبلاء مَحلاً من أعدائه حتى أنزله بكم، وأنتم خاصة أوليائه!! فقال لي: اسكت، لا تقل ذلك؛ لأنا لمّا أشرفنا على خزائن العطاء، لم نجد عند الله أشرف ولا أقرب من البلاء، فسألناه إِيّاه، وكيف بك لو رأيت سيّد الزهّاد، وقطبَ العباد، وإمام الأولياء والأوتاد، في غار بأرض طرطوس وجبالها، ولحمُه يتناثر، وجلده يسيل قيحًا وصديدًا، وقد أحاط به الذباب والنمل، فإذا كان الليل لم يقنع بذكر الله وشكره على ما أعطاه من الرحمة، حتى يشدّ نفسه بالحديد، ويستقبل القبلة عامَّةَ ليله حتى يطلع الفجر. اهـ.
وقد تكلم الصوفية في قول أيوب عليه السلام: {مسّني الضر}؛ هل شكى ضرر جسمه، أو ضرر قلبه من جهة دينه؟ قال بعضهم: قيل: إنه أراد النهوضِ إلى الصلاة فلم يستطع، فقال: {مسّني الضر}، وقيل: إنه أكل الدود جميع جسده، حتى بقي عظامًا، فلما قصد الدودُ قلبَه ولسانَه غار على قلبه؛ لأنه موضع المعرفة والتوحيد، والنبوة والولاية، وأسرار الله تعالى، وخاف انقطاع الذكر، فقال: {مسّني الضر}، وقيل: خاف تبدد همه وتفرق قلبه، وليس في العقوبة شيء أشد من تبدد الهم، فتارة يقول: لعلي ببلائي مُعاقب، وتارة يقول: بضري مُستدرج، فلما خاف تشتيت خاطِره عليه، قال: {مسّني الضر}. اهـ.
قلت: هذا المقام لا يليق بالأنبياء، وإنما يجوز على غيرهم؛ إذ الأولياء يترقون عن هذا المقام فكيف بالأنبياء! وقال بعضهم: قال: مسني الضر من شماتة الأعداء، واقتصر عليه ابنُ جُزي، وفيه شيء؛ إذ كثير من الأولياء سقط الناس من عينهم، فلا يُبالون بخيرهم ولا شرهم، ولا مدحهم ولا ذمهم، فكيف بالأنبياء- عليهم السلام-؟!
وقال القشيري كان ذلك منه إظهارًا للعجز، لا اعتراضًا، فلا يُنافي الصبر، مع ما فيه من التنفيس عن الضعفاء من الأمة، ليكون أسوة. وقال: إن جبريل أمره بذلك، وقال له: إن الله يغضبُ إن لم يُسأل، وسيان عنده البلاء والعافية، فسَله العافية.
ويقال: إن أيوب كان مُكَاشَفًا بالحقيقة، مأخوذًا عنه، وكان لا يُحِسُّ بالبلاء، فَسَتَر عليه، فردَّه إليه، فقال: مَسني الضُّرُّ، وقيل: أَدْخَل على أيوب تلك الحالة، فاستخرج منه تلك المقالة؛ ليظهر عليه سمة العبودية. اهـ.
وقال الورتجبي: سُئل الجنيد عن قوله: {مسّني الضر}، فقال عرّفه فاقة السؤال، ليمنّ عليه بكرم النوال، وفي الحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه جاء إليه رجل فسأله عن قول أيوب {مسّني الضر} فبكى- عليه الصلاة والسلام- وقال: والذي بعثني بالحق نبيًا ما شكى فقرًا نزل من ربه، ولكن كان في بلائه سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ساعات، فلما كان في بعض الساعات وثب ليُصلي، فلم يستطع النهوض، فقال: {مسني الضر} إلخ. ثم قال:- عليه الصلاة والسلام-: أكل الدود عامة جسده حتى بقي عظامًا نخرة، فكادت الشمس تطلع من قُبله وتخرج من دُبره، وما بقي إلا قلبه ولسانه، وكان قلبه لا يخلو من ذكر الله، ولسانه لا يخلو من ثنائه على ربه، فلما أحب الله له الفرج، بعث إليه الدودتين؛ إحداهما إلى لسانه والأخرى إلى قلبه، فقال: يا رب ما بقي إلا هاتان الجارحتان، أذكرك بهما، فأقبلت هاتان الدودتان إليهما ليشغلاني عنك ويطلعان على سري، مسني الضر وأنت أرحم الراحمين. اهـ.
وفي قوله تعالى: {رحمة من عندنا وذكرى للعابدين}: تسلية لمن أصيب بشيء من هذه التعرفات الجلالية، وقد تقدم في أول الإشارة الكلام على هذا. والله تعالى أعلم.