فصل: تفسير الآيات (32- 37):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (32- 37):

{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35) وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ذلك} أي: الأمر ذلك، أو امتثلوا ذلك، {ومن يُعَظِّمْ شعائرَ الله} أي: الهدايا، فإنها معالم الدين وشعائره تعالى، كما يُنبئ عنه: {والبدن جعلناها لكم من شعائر الله} وتعظيمها: اعتقاد التقرب بها، وأن يختارها سِمَانًا حسانًا غالية الأثمان، رُوي «أنه صلى الله عليه وسلم أَهْدَى مِائَةَ بَدَنَةِ، فِيهَا جَمَلٌ لأَبِي جَهْلٍ، في أنْفِهِ بُرَةٌ مِنْ ذَهَب». وأن عمر رضي الله عنه- أهدى نجيبة طُلبت منه بثلاثمائة دينار-. وقيل: شعائر الله: مواضع الحج، كعرفة ومنى والمزدلفة. وتعظيمها: إجلالها وتوقيرها، والتقصد إليها. وقيل: الشعائر: أمور الدين على الإطلاق، وتعظيمها: القيام بها ومراعاة آدابها. {فإِنها} أي: فإن تعظيمها {من تقوى القلوب} أي: من أفعال ذوي تقوى القلوب، فحذفت هذه المضافات. أو فإن تعظيمها ناشئ من تقوى القلوب؛ لأنها مراكز التقوى.
{لكم فيها منافع}؛ من الركوب عند الحاجة، ولبنها عند الضرورة، {إِلى أجل مسمى}؛ إلى أن تُنحر. ومن قال: شعائر الله: مواضع الحج، فالمنافع: التجارة فيها والأجر، والأجل المسمى: الرجوع إلى مكة لطواف الإفاضة. {ثم مَحِلُّها} منتهية {إِلى البيت العتيق}، قال ابن جزي: من قال: إن الشعائر الهدايا، فمحلها موضع نحرها، وهي مِنى ومكة. وخصّ البيت بالذكر؛ لأنه أشرف الحرم، وهو المقصود بالهدي. و{ثم}، على هذا، ليست للترتيب في الزمان؛ لأن محلها قبل نحرها، وإنما هي لترتيب الجمل. ومن قال: إن الشعائر مواضع الحج، فمحلها مأخوذ من إحلال المحرم، أي: آخر ذلك كله: الطواف بالبيت، أي: طواف الإفاضة؛ إذ به يحل المحرم. اهـ. أي: محل شعائر الحج كلها تنتهي إلى الطواف بالبيت، طواف الإفاضة. ومثله في الموطأ.
{ولكلِّ أمة}؛ جماعة مؤمنة قبلكم، {جعلنا منسَكًا} أي: مُتَعبدًا وقربانًا يتقربون به إلى الله- عزّ وجلّ- والمنسك- بالفتح-: مصدر، وبالكسر: اسم موضع النُسك، أي: لكلٍّ حعلنا عبادة يتعبدون بها، أو موضع قربان، يذبحون فيه مناسكهم، {ليذكروا اسمَ الله} دون غيره، {على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} أي: عند نحرها وذبحها، {فإِلهكم إِلهٌ واحدٌ} أي: اذكروا على الذبائح اسم الله وحده؛ فإن إلهكم إله واحد، {فله أسلِمُوا} أي: فإذا كان إلهكم إلهًا واحدًا؛ فأخلصوا له التقرب، أو الذكر خاصة، واجعلوه له سالمًا، لا تشوبوه بإشراك.
{وبشر المخبتين}؛ المطمئنين بذكر الله، أو المتواضعين، أو المخلصين، فإن الإخبات من الوظائف الخاصة بهم. والخَبْتُ: المطمئن من الأرض. وعن ابن عباس رضي الله عنه: هم الذين لا يظلمون، وإذا ظلموا لم ينتصروا. وقيل: تفسيره ما بعده، وهو قوله: {الذين إِذا ذُكرَ اللهُ وجِلَتْ قلوبُهم}: خافت منه؛ هيبة؛ لإشراق أشعة جلاله عليها.
{والصابرين على ما أصابهم} من مشاق التكاليف ومصائب الزمان والنوائب، {والمقيمي الصلاة} في أوقاتها، {ومما رزقناهم يُنفقون} في وجوه الخيرات.
{والبُدْنَ جعلناها لكم من شعائر الله} أي: من أعلام دينه، وأضافها إلى نفسه؛ تعظيمًا لها، وهي: جمع بدنة، سميت به؛ لعظم بدنها، ويتناول الإبل والبقر والغنم. {لكم فيها خيرٌ} أي: منافع دينية ودنيوية، النفع في الدنيا، والأجر في العقبى. {فاذكروا اسم الله عليها} بأن تقولوا عند ذبحها: بسم الله، اللهم منك وإليك. حال كونها {صوافَّ} أي: قائمات، قد صففن أيديهن وأرجلهن. {فإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا}: سقطت على الأرض، وسكنت حركتها، من وجب الحائط وجبة: سقط، وهي كناية عن الموت. {فكُلُوا منها} إن شئتم {وأطعِمُوا القانعَ}: السائل، مِنْ: قنع إليه قنوعًا: إذا خضع، {والمُعْتَرَّ}؛ الذي يُعَرِّضُ ولا يسأل. وقيل: القانع: الراضي بما عنده وبما يُعطي من غير سؤال، والمعترَّ: المتعرض للسؤال. {كذلك سخرناها لكم} أي: كما أمرناكم بنحرها سخرناها لكم، أي: ذللناها لكم، مع قوتها وعظم أجرامها؛ لتتمكنوا من نحرها، {لعلكم تشكرون} أي: لكي تشكروا إنعام الله عليكم.
{لن ينال اللهَ لحومُها} المُتَصَدَّقُ بها، {ولا دماؤها} المهراقة بالنحر، أي: لن يصل إلى الله اللحم والدم، {ولكن ينالُه التقوى منكم}؛ فإنه هو الذي طلب منكم، وعليه يحصل الثواب. والمراد: لن تصلوا إلى رضا الله باللحوم ولا بالدماء، وإنما تصلون إليه بالتقوى، أي: الإخلاص لله، وقصد وجه الله، بما تذبحون وتنحرون من الهدايا. فعبَّر عن هذا المعنى بلفظ {ينال}؛ مبالغةً وتأكيدًا، كأنه قال: لن تصل لحومها ولا دماؤها إلى الله، وإنما يصل إليه التقوى منكم، وقيل: كان أهل الجاهلية يلطخون الكعبة بدماء قربانهم، فهم المسلمون أن يفعلوا مثل ذلك، فنزلت الآية.
{كذلك سخرها لكم} أي: البدن، وهو تكرير للتذكير والتعليل، لقوله: {لتكبِّروا الله على ما هداكم} أي: لتعرفوا عظمة الله، باقتداره على ما لا يقدر عليه غيره، فتوحدوه بالكبرياء؛ شكرًا على هدايته لكم. وقيل: هو التكبير عند الذبح {وبشر المحسنين}: المخلصين في كل ما يأتون ويذرون في أمور دينهم. وبالله التوفيق.
الإشارة: أعظم شعائر الله التي يجب تعظيمها أولياء الله، الدالين على الله، ثم الفقراء المتوجهون إلى الله، ثم العلماء المعلمون أحكام الله، ثم الصالحون المنتسبون إلى الله، ثم عامة المؤمنين الذين هم من جملة عباد الله. ويجب تعظيم مَنْ نصبه الله لقيام خطة من الخطط؛ لإصلاح العباد؛ كالسلاطين، ولو لم يعدلوا، والقضاة والقواد، والمقدمين لأمور العامة، فتعظيم هؤلاء كله من تقوى القلوب. ويدخل في ذلك: الأماكن المعظمة؛ كالمساجد والزوايا، وأما الفقير فَيُعَظِّمُ كل ما خلق الله حتى الكلاب، ويتأدب مع كل مخلوق.
وقوله تعالى: {لكم فيها منافع} أي: لكم في هذه التجليات، إن عظمتموها وعرفتم الله فيها، منافع، ترعَوْن من أنوارها وتشربون من خمرة أسرارها، فتزدادوا معرفة وتكميلاً، إلى أجل مسمى، وهو مقام التمكين، فحينئذ تواجهه أنوار المواجهة، فتكون الأنوار له، لا هو للأنوار، لأنه لله لا لشئ دونه،
{قُلِ الله ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام: 91]. ثم محل هذه الأنوار إلى بيت الحضرة، فحينئذ يستغني بالله عن كل ما سواه. وقوله تعالى: {ولكل أمة جعلنا منسكًا} أي: لكل عصر جعلنا تربية مخصوصة، والوصول واحد؛ ولذلك قال: {فإلهكم إله واحد}. وقال القشيري: الشرائعُ مختلفةٌ فيما كان من المعاملات، متفقة فيما كان من جملة المعارف. ثم قال: ذكّرهم الله بأنه هو الذي أمرهم ويُثيبهم، {فله أسلموا}: اسْتَسلموا لحكمِه، من غير استكراهٍ من داخل القلب ولا من اللفظ. اهـ.
وقوله تعالى: {والبدن...} الآية. قال الورتجبي: فيه إشارة إلى ذبح النفس بالمجاهدات، وزمها بالرياضات عن المخالفات، وفناء الوجود للمشاهدات، حتى لا يبقى للعارف في طريقه حظ من حظوظه، ويبقى لله مفردًا من جميع الخلائق. اهـ.
وفي قوله تعالى: {فاذكروا اسم الله عليها صواف}، إشارة إلى أن النفس لا تموت إلا بصحبة من ماتت نفسه، فلا تموت النفس مع صحبة أهل النفوس الحية أبدًا. فإذا ماتت وسقطت جنوبها، وظفرتم بها؛ فكلوا من أنوار أسرارها وعلومها؛ لأن النفس، إذا ماتت، حييت الروح، وفاضت عليها العلوم اللدنية، فكلوا منها، وأطعموا السائل والمتعرض لنفحاتكم. وقوله تعالى: {لن ينال الله لحومها...} الآية، قال الورتجبي: الإشارة فيه إلى جميع الأعمال الصالحة من العرش إلى الثرى، لا يلحق الحق بحق المراد منه، ولكن يصل إليه قلب جريح من محبته، ذُبح بسيف شوقه، مطروح على باب عشقه. قال سهل في قوله: {ولكن يناله التقوى}: هو التبري والإخلاص. اهـ.
قال القشيري: لا عِبْرةً بإظهار الأفعال، سواء كانت بدنيةً أو ماليةً صِرْفًا، أو مما يتعلق بالوجهين، ولكن العبرة بقرائنها من الإخلاص، فإذا انضَافَ إلى الجوارح إخلاص القصود، وتَجَرَّدَتْ عن ملاحظة أصحابِها الأغيار، صَلُحَتْ للقبول، وينال صاحبها القرب، بشهود الحق بنعت التفرد. ثم قال: {لتكبروا الله على ما هداكم} وأرشدكم إلى القيام بحقِّ العبودية على قضية الشرع، {وبشر المحسنين}، الإحسان، كما في الخبر: «أنْ تعبد الله كَأنك تراه» وأمارةُ صحته: سقوطُ تعب القلب عن صاحِبهِ، فلا يستثقلُ شيئًا ولا يتبرم بشيءٍ. اهـ. قلت: خواطر الاستثقال والتبرم لا تضر؛ لأنه طبع بشري، وإنما يضر ما سكن في القلب.
وقال في الإحياء: ليس المقصود من إراقة دم القربان الدم واللحم، بل ميل القلب عن حب الدنيا، وبذلُها؛ إيثارًا لوجه الله تعالى، وهذه الصفة قد حصلت عند جزم النية والهمة، وإن عاق عن العمل عائق. فلن ينال الله لحومُها ولا دماؤها، ولكن يناله التقوى منكم، والتقوى ها هنا عمل القلب، من نية القربة، وإرادة الخير، وإخلاص القصد لله، وهو المقصود، وعمل الظاهر مؤكد له، ولذلك كانت نية المؤمن أبلغ من عمله؛ فإنَّ الطاعات غذاء القلوب، والمقصود: لذة السعادة بلقاء الله تعالى، والتنعم بها، وذلك فرع محبته والأنس به، ولا يكون إلاّ بذكره، ولا يفرغ إلا بالزهد في الدنيا، وترك شواغلها والانقطاع عنها. اهـ.

.تفسير الآية رقم (38):

{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {إِن الله يُدافع} يدفع غائلة المشركين {عن الذين آمنوا}؛ فلا يقدرون أن يعوقوهم عن شيء من عبادة الله، بل ينصرهم ويؤيدهم كما قال تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ} [غَافر: 51]، وصيغة المفاعلة: إمَّا للمبالغة، أو للدلالة على تكرير الدفع، فإنها قد تجرد عن وقوع الفعل المتكرر من الجانبين، فيبقى تكرره من جانب واحد، كما في المحارسة، أي: يبالغ في دفع ضرر المشركين وشوكتهم، التي من جملتها صدهم عن سبيل الله، مبالغةَ مَن يغالَبُ فيه، أو يدفعها عنهم مرة بعد أخرى، بحسب تجرد قصد الإضرار بالمسلمين، كما في قوله: {كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله} [المَائدة: 64]. وقرأ المكي والبصري: {يدفع}.
ثم علّل ذلك الدفع بقوله: {إِن الله لا يُحب كل خَوّانٍ كفور} أي: لأنَّ الله يبغض كل خوان في أمانة الله تعالى، وهي: أوامره ونواهيه، ومن أعظمها: الإيمان بالله ورسوله. أو في جميع الأمانات، كفورٌ لنعم الله. والمعنى: إن الله يدافع عنهم؛ لأنه يبغض أعداءهم، وهم: الخونة الكفرة، الذين يخونون الله والرسول، ويخونون أماناتهم. وصيغة المبالغة فيها؛ لبيان أنهم كذلك فيهما، لا لتقييد البعض بغاية الجناية؛ فإن الخائن ممقوت مطلقًا. والله تعالى أعلم.
الإشارة: إن الله يدفع عن أوليائه، والمتوجهين إليه، كل عائق وشاغل، وغائلة كل غائل، الذين حازوا ذروة الإيمان، وقصدوا تحقيق مقام الإحسان. فمن رام صدّهم عن ذلك فهو خائن كفور، {إن الله لا يحب كل خَوّانٍ كفور}.

.تفسير الآيات (39- 41):

{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)}
قلت: {إلا أن يقولوا}، قيل: منقطع، وقال الزمخشري: في محل الجر، بدل من حق. اهـ. وهو على طريق قول الشاعر:
لاَ عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ ** بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِراعِ الكَتَائِبِ

يقول الحقّ جلّ جلاله: {أُذِنَ} أي: رُخص وشرع، أو أَذن اللهُ {للذين يُقاتَلون} أي: يُقاتلهم الكفارُ المشركون، وحذف المأذون فيه؛ لدلالة {يُقاتَلون} عليه، أي: في قتالهم، {بأنهم ظُلموا} أي: بسبب كونهم مظلومين، وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان مشركو مكة يؤذونهم أذى شديدًا، وكانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين مضروبٍ ومشجوج، فيتظلمون إليه، فيقول لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اصبروا؛ فإني لم أومر بالقتال» حتى هاجر، فنزلت هذه الآية. وهي أول آية نزلت في الجهاد، بعد ما نهى عنه في نيف وسبعين آية.
{وإِنّ الله على نصرهم لقديرٌ}. وعدٌ لهم بالنصر، وتأكيد لِما مرّ من العِدَة الكريمة بالدفع، وتصريح بأن المراد ليس مجرد تخليصهم من يد المشركين، بل بغلبتهم وإظهارهم عليهم. وتأكيده بكلمة التحقيق. واللام؛ لمزيد من تحقيق مضمونه، وزيادة توطين نفوس المؤمنين.
ثم وصف الذين أَذن لهم، أو فسرهم، أو مدحهم بقوله: {الذين أُخرجوا من ديارهم}، يعني مكة: {بغير حق}؛ بغير ما يوجب إخراجهم {إلا أن يقولوا ربنا الله} أي: بغير موجب سوى التوحيد، الذي ينبغي أن يكون موجبًا للإقرار لا للإخراج. ومثله: {هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بالله} [المَائدة: 59].
{ولولا دفعُ اللهِ الناسَ}: لولا أن يدفع الله الناس {بعضهم ببعض}؛ بتسليط المؤمنين على الكافرين في كل عصر وزمان، وإقامة الحدود وكف المظالم، {لهُدِّمت} أي لخربت؛ باستيلاء الكفرة على الملل، {صَوَامِعُ}: جمع صومَعة- بفتح الميم-، وهي: متعبد النصارى والصابئين منهم، ويسمى أيضًا الدير. وسُمي بها موضع الأذان من الإسلام: {وَبِيَعٌ}: جمع بيعة- بكسر الباء-: كنائس النصارى، {وصلوات}: كنائس اليهود، سميت بما يقع فيها، وأصلها: صلَوتا بالعبرانية، ثم عُربت، {ومساجد} للمسلمين، {يُذْكَرُ فيها اسمُ الله كثيرًا} أي: ذكرًا كثيرًا، أو وقتًا كثيرًا، صفة مادحة للمساجد، خُصت بها؛ دلالةً على فضلها وفضل أهلها. وقيل يرجع للأربع، وفيه نظر؛ فإنَّ ذكر الله تعالى في الصوامع والبيع والكنائس قد انقطع بظهور الإسلام، فَقَصْدُ بيانِه، بعد نسخ شرائعها مما لا يقتضيه المقام، ولا ترتضيه الأفهام. وقدمت الثلاثة على المساجد؛ لتقدمها وجودًا، أو لقربها من التهديم.
{ولينصرنّ اللهُ مَن ينصره} أي: وتالله، لينصرن الله من ينصر دينه ونبيه- عليه الصلاة والسلام- وأولياءه. ومن نصرِه: إشهاره وإظهاره، وتعليمه لمن لا يعلَمه، وإعزاز حامل لوائه من العلماء والأولياء.
وقد أنجز الله وعده، حيث سلط المهاجرين والأنصارعلى صناديد العرب وأكاسرة العجم وقياصرة الروم، وأورثهم أرضهم وديارهم، {إِن الله لقوي عزيز}: غالب على ما يريد، ومن جملته: نصرهم وإعلاؤهم.
ثم وصف الذين أُخرجوا من ديارهم بقوله: {الذين إِن مكَّناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتُوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونَهوا عن المنكر} قلت: الصواب ما قاله مكي: أنه بدل مِن: مَن ينصره، في محل نصب. قيل: المراد بهم: الصحابة- رضي الله عنهم-، وقيل: الأمة كلها. وقيل الخلفاء الأربعة؛ لأنهم هم الذين مُكِّنوا في الأرض بالخلافة، وفعلوا ما وصفهم الله به. وفيه دليل صحة أمرِ الخلفاء الراشدين؛ لأن الله- عزّ وجلّ- أعطاهم التمكين، ونفاذ الأمر مع السيرة العادلة. وعن عثمان رضي الله عنه: (هذا، والله، ثناء قبل بلاء)، يعني: أن الله تعالى أثنى عليهم قبل ظهور الشر من الهرج والفتن فيهم. {ولله عاقِبةُ الأمور}؛ فإنَّ مرجعها إلى حكمه وتقديره فقط. وفيه تأكيد للوعد بإظهار أوليائه وإعلاء كلمته.
الإشارة: إذا اتصل الإنسان بشيخ التربية فقد أذن له في جهاد نفسه، إن أراد الوصول إلى حضرة ربه؛ لأنها ظالمة تحول بينه وبين سعادته الأبدية. وإن الله على نصرهم لقدير؛ لأن هِمَّةَ الشيخ تحمله وتنصره بإذن الله. وأما إن لم يتصل بشيخ التربية، فإن مجاهدته لنفسه لا تُصيب مَقاتلها؛ لدخولها تحت الرماية، فلا يُصيبها ضربه، وأما الشيخ؛ فلأنه يريه مساوئها ويعينه على قتلها.
وقوله تعالى: {الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق}؛ هم الذين أُمروا بقتل نفوسهم، فإنهم إذا خرقوا عوائد نفوسهم، وخرجوا عن عوائد الناس، رفضوهم وأنكروهم، وربما أخرجوهم من ديارهم، فقلَّ أن تجد وليًا بقي في وطنه الأول، وما نقموا منهم وأخرجوهم إلا لقصدهم مولاهم، وقولهم: ربُّنا الله دون شيء سواه، فحيث خرجوا عن عوائدهم وقصدوا مولاهم، أنكروهم وأخرجوهم من أوطانهم، ولولا دفع الناس بعضهم ببعض؛ بأن شفع خيارهم في شرارهم، لهدمت دعائم الوجود؛ لأنَّ من آذى وليًا فقد آذن بالحرب.
قال القشيري: {ولولا دفع الله الناس}، أي: يتجاوز عن الأصاغر لِقَدْرِ الأكابر؛ استبقاء لمنازل العبادة، تلك سُنَّة أجراها. ثم قال: {الذين إن مكّناهم في الأرض}، أي: لم يشتغلوا في ذلك بحظوظٍ، ولكن قاموا لأداء حقوقنا. اهـ.